معارك العدالة التركي.. انتصارات بالقضاء والقانون
انتقلت المعركة السياسية التي يخوضها حزب العدالة والتنمية التركي ضد القوى العلمانية والحرس الجمهوري القديم في هذا البلد المسلم العريق إلى ساحةٍ جديدةٍ، شهدت تحقيق الحزب العديد من الانتصارات والمكاسب السياسية، وهي ساحة القضاء والقانون.
فقد تفاعلت في الآونة الأخيرة حزمةٌ من التطورات السياسية ذات الطابع القانوني والقضائي في تركيا، أشارت إلى أنَّ حزب العدالة والتنمية قد ربح معركته الأخيرة مع التيار العلماني الذي يسانده الجيش، ومن بين هذه التطورات قرار المحكمة الدستورية التركية الدعوى التي أقامها المدعي العام الأول السابق في تركيا صبيح قاناد أوغلو في العام 2002 م، ضد حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء بحظر الحزب، ومنع أردوغان من العمل السياسي.
واستندت المحكمة في قرارها إلى إلغاء المادة الدستورية التي تمنح الادِّعاء العام صلاحية إقامة دعاوى ضد الأحزاب التي لا توفي بمستوجبات إخطار الادِّعاء العام، وحرمانها من المساعدة المالية التي تقدِّمها خزانة الدولة للأحزاب السياسية.
أما التطور الثاني فهو نجاح حكومة العدالة والتنمية في تمرير تعديلاتٍ قانونيةٍ تسمح للمحاكم المدنية بمحاكمة الأفراد العسكريين في زمن السلم، وتحظر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية؛ كان البرلمان التركي قد أقرَّها الشهر الماضي، وتهدف إلى الوفاء بمعايير الاتحاد الأوروبي التي تحدُّ من سلطة المحاكم العسكرية على المدنيين، وذلك على الرغم من تحذيرات المؤسسة العسكرية من أن إقرار القانون من شأنه أن يزيد التوتر مع الحكومة.
وكانت آخر مرحلة في إقرار هذه التعديلات؛ هو توقيع الرئيس التركي عبد الله جول عليها، بعد إقرار البرلمان والحكومة لها، وقال جول في بيانٍ له عن هذا الأمر: إن هذه التعديلات تتفق مع مطالب الاتحاد الأوروبي بقصر اختصاص المحاكم العسكرية على الشئون العسكرية دون غيرها.
وأضاف البيان: "في تطبيق هذه الإصلاحات؛ من المفيد إجراء تعديلات قانونية لتبديد الشكوك التي يرجَّح أن تنشأ فيما يتعلق بالانضباط والضمانات القانونية من وجهة نظر الخدمة العسكرية".
وتُضاف هذه التطورات إلى نجاحٍ آخر قانونيٍّ وقضائيٍّ ذي طابعٍ سياسيٍّ للعدالة والتنمية في قضية تنظيم الأرجينيكون الذي يضم قادةً وضباطًا كبارًا في الجيش التركي، تمَّ القبض عليهم بتهمٍ تتعلق بمحاولة الانقلاب على الحكومة الدستورية التركية التي يقودها العدالة في الوقت الراهن، بل واتهام هؤلاء القادة بالارتباط بجهاز المخابرات الصهيوني المعروف باسم "الموساد".
دلالات مهمة
ولئن كانت هناك دلالة مهمة لهذا الأمر؛ فهو يشير إلى استسلام الخصوم السياسيين للعدالة والتنمية في البلاد أمام الحزب وسياساته، بعدما ألزمتهم سياسات الثنائي رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والرئيس عبد الله جول على التخلي عن أداة الانقلابات السياسية، وانتهاج المسارات القانونية والدستورية- رغمًا عنهم- كمساراتٍ وحيدةٍ مسموحٍ بها في العملية السياسية في تركيا، وهو ما يرغب فيه العدالة والتنمية بكلِّ تأكيد.
مع دلالةٍ أخرى؛ وهي أن سياسات الحزب أجبرت خصومه السياسيين على العمل بقواعده هو، وليس بقواعد اللعبة السياسية التي وضعها منذ أكثر من 85 عامًا كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية العلمانية التركية، وهو ما يعتبر اعترافًا بهزيمتهم، وعجزهم عن الإتيان بأية وسيلة أو مناورات أخرى.
وهو ما يمكن القول بأنه أحد أهم الانقلابات التي شهدتها السياسة التركية في العقود الأخيرة، وإثباتًا لمبدأ جديد في الحياة السياسية في العالم الإسلامي؛ وهو أنَّ الانقلابات ليست عسكريةً فحسب، أو عن طريق الأداة المُسلحة، بل قد تكون ذات أُطُرٍ وأدواتٍ قانونية ودستورية سلمية، عن طريق سلطةٍ أخرى، وهي السلطة القضائية.
ولمعرفة تأثيرات السياسات التي تبنَّاها العدالة والتنمية على السياسة التركية؛ يمكن المقارنة ما بين هذه التطورات وما بين تطوراتٍ مثيلةٍ وقعت في تركيا في العقود الأربعة الماضية، فالجيش التركي الذي يلجأ للقضاء ويلتزم بالقانون الآن ضد حكومة إسلامية، لم يكن يتصرف على هذا النحو في الماضي بتاتًا.
فالجيش إبان حكم الحزب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، والذي كان آخر رموزه رئيس الوزراء السابق الراحل بولند أجاويد؛ ألزم القضاء التركي أكثر من مرةٍ بالحكم بمنع قادة ورموز إسلاميين من العمل السياسي، وعلى رأسهم نجم الدين أربكان زعيم حزب السعادة الإسلامي، وحظر القضاء التركي أكثر من مرةٍ أحزاب أربكان منذ تجربتيه بحزبي النظام الوطني والسلامة الوطني، اللذين أسسهما أربكان في مطلع السبعينيات الماضية.
كما أنَّ الجيش انقلب على حكومات إسلامية أو علمانية تعاطفت مع الإسلاميين أكثر من ثلاث مراتٍ؛ الأولى في العام 1960 م، عندما وقع انقلابٌ عسكريٌّ أطاح بالحزب الديمقراطي من سدة الحكم في البلاد، بعد تقارير عن سماحه للإسلاميين بخوض غمار العمل السياسي من خلال مؤسساتٍ وأحزاب معترف بها، والثانية في العام 1971م، عندما قاد ممدوح طغماتش انقلابًا عسكريًّا ناجحًا، بعد وضوح تعاظم قوة المعارضة الشيوعية والإسلامية في تركيا، وأجبر الجيش رئيس الوزراء سليمان ديميرل على الاستقالة، بعد موجةٍ من العنف السياسي عمَّت البلاد، كان الجيش قد افتعلها لتبرير انقلابه.
ثم برز التيار الإسلامي في تركيا في السبعينيات، ولذلك وفي العام 1980م قاد الجنرال كنعان إيفيرين انقلابًا عسكريًّا؛ أطاح بالحكومة المدنية التي كانت قائمةً في ذلك الحين، وفرض الأحكام العرفية، ولم يترك الحكم لحكومةٍ مدنيةٍ بزعامة تورجوت أوزال إلا بعد تعديلاتٍ دستوريةٍ تبرِّر له التدخل في حال "رأى" أي تهديدٍ للنظام العلماني الذي أوجده أتاتورك في تركيا.
وهو ما استغلَّه الجيش جيدًا في الإطاحة بأربكان من الحكومة الثنائية التي شكَّلها مع حزب تانسو تشللر في أواخر التسعينيات الماضية.
سياسات!!
رئيس المحكمة الدستورية التركية أثناء نظر قضية العدالة والتنمية
الآن الوضع انقلب تمامًا، وباتت المؤسسات والأحزاب العلمانية تلعب بقواعد أخرى غير معتادة عليها، ويعود ذلك الوضع إلى العديد من الأسباب:
أولها: أنَّ الأجواء الدولية لم تعد مهيأةً لقبول انقلاباتٍ عسكريةٍ على حكوماتٍ منتخبةٍ ديمقراطيًّا في الوقت الحالي، بخلاف ظروف الحرب الباردة في الماضي، التي كانت تفرض الحفاظ على الحدِّ الأدنى من وجود حكوماتٍ مواليةٍ للغرب أو الشرق أيًّا كان شكلها، كما كان التهديد بالتحول في المواقف والولاءات ما بين الشرق الشيوعي والغرب الليبرالي الرأسمالي يفرض بعض المهادنة مع قادة انقلاب هنا أو هناك.
العامل أو السبب الثاني لهذا الوضع المستجد في تركيا: هو نجاح سياسات حزب العدالة والتنمية؛ ما بين تدعيم شعبيته في الداخل، عبر سلسلةٍ من السياسات الاجتماعية والاقتصادية القوية، بالإضافة إلى إحداثه شكلاً من أشكال التغيير التدريجي المحسوب في الأجواء العامة في تركيا، ساعده في ذلك هوية المجتمع الأصلي وجذوره الإسلامية.
بالإضافة إلى ذلك فإنَّ اختراق أردوغان وحكومات العدالة والتنمية المتعاقبة في ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي؛ جعل الجيش شديد الحذر في التورط في أيِّ فعلٍ يضرُّ بمحاولات تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو هدفٌ أجمع عليه الأتراك، بإسلاميِّيهم وعلمانيِّيهم.
كما أنَّ المصالح التركية في الإقليم وما حوله سوف تكون مهددةً حالة وقوع أي انقلابٍ عسكريٍّ على حكومة العدالة المنتخبة في عالم جديد يُصاغ الآن بمفاهيم جديدة!!.
المصدر
- مقال:معارك العدالة التركي.. انتصارات بالقضاء والقانونإخوان أون لاين