عرض لكتاب الحريات العامة فى الدولة الإسلامية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
عرض لكتاب الحريات العامة فى الدولة الإسلامية


راشد-الغنوشى-مسئول-النهضة-التونسية.png


الحريات العامة في الدولة الإسلامية

المؤلف : الشيخ راشد الغنوشي

*مراجعة:الدكتور الفاتح عبد الله عبد السلام

ليس من سرف القول أن الفكر الإسلامي المعاصر يشهد دورة معرفية نشطة تسعى نحو توجيه ذلك الفكر في اتجاه مشكلات الحضارة وعمليات النهوض الحضاري للأمة الإسلامية وتهدف هذه الدورة المعرفية الى تطهير الفكر الإسلامي من كل رواسب التخلف والإنحطاط رقيا الى التجديد والإجتهاد ليعود ذلك الفكر أصيلا مستجيبا لتحديات العصر متجاوبا مع قضاياه في إطار المرجعية العليا للوحي الإلهي.

وتتجلى هذه الصحوة في الثورة المفهومية في مجالات حياتنا الفكرية ولا غرابة في ذلك إذا ما نظرنا إلى التجديد الإسلامي بوصفه ظاهرة تاريخية دورية تبرز كلما إعترى المسلمين ذبول في دوافع الإيمان وخمول في الفكر وجمود في الحركة واستفزهم التحدي الخارجي.

وقد تجاوز توسع هذه الظاهرة وامتدادها دائرة النشاط الإسلامي المنظم حتى غدت تيارا فكريا ممتدا وظاهرة اجتماعية واسعة وشعورا قويا بضرورة التحرر من سلطان قيم الفكر الوافد وأنماط الحياة الغربية وبالأوبة الى أصول الإنتماء الإسلامي والسعي لتمكين قيم الدين في واقع الحياة مما جعلها تتحول الى حركة تجديد شامل لكيان الأمة الإسلامية ولقدرتها الجماعية على الفعل الحضاري.

من الجدليات الشائكة والساخنة والمتجددة التي شغلت الفكر السياسي الإسلامي الحديث مسألة الديمقراطية والحريات العامة في العقل الغربي والعقل الإسلامي وتعد هذه الإشكالية دون مبالغة قضية القضايا في الفكر الإسلامي الحركي الحديث، وإذا كان الإسلام بوصفه نظاما شاملا ومتكاملا للحياة قد واجه في كثير من بلاد المسلمين ضغوطا شديدة الوطأة محورها ان الإسلام لا يملك القدرة على تنظبم الحياة السياسية والإجتماعية ولا ضمان فيه للحريات العامة والفردية وحقوق الأقليات وبالتالي لا يملك تصورا محددا للدولة، فإن الديمقراطية الليبرالية الغربية قد قدمت بالمقابل على أنها الضد النقيض للإسلام ليس ذلك فحسب بل كانت الديمقراطية الغربية تفرض على أنها النظام الأمثل القابل للتطبيق في مواجهة شعارات الإسلاميين التي تتهم بأنها تستثير المشاعر والعواطف فحسب ولا تصلح منهاجا لتنظيم الحياة في مختلف جوانبها!

لقد أدت هذه الإشكالية الى انقسام الأراء والإتجاهات بصورة كبيرة نتيجة التنوع الإيديولوجي والسياسي في العالم الإسلامي، وهذا التعدد قد حصل حتى في داخل التيار الواحد كالتيار الإسلامي بإتجاهاته السياسية والحركية المختلفة، فنحن نجد مثلا توجهات رافضة لفكرة الديمقراطية إلا انها توجهات لا تمثل كتلة واحدة فهي تتفاوت في تسويغها الرفض او التحفظ حيال فكرة الديمقراطية، أو في قبولها المشروط أو المقيد لها، وفي هذا الإطار نجد توجها نظريا رافضا للفكرة جملة وتفصيلا بناء على تصور معين لها يظنه ثابتا وكامنا في الفكرة الديمقراطية ذاتها، وأنها ليست من الإسلام ولا تلتقي مع قيمه ومبادئه وأن العلاقة بينهما علاقة تعارض وتناقض.

وهناك توجه آخر يرى أن المسلمين ليسوا بحاجة الى الديمقراطية لأنهم يملكون فكرة بديلة هي الشورى، بل يذهب بعضهم الى القول بأن مفهوم الشورى أرقى وأنضج وأكثر شمولا من مفهوم الديمقراطية اذ مصدرها واصلها الوحي الإلهي الذي جاء بمنهج متكامل لحياة الإنسان، في حين أن الديمقراطية مفهوما ومنهجا وقيما مجرد نتاج للتجربة الحضارية الغربية.

وهناك توجه ثالث يرفض فكرة الديمقراطية لإنتمائها بصلة القرابة الفلسفية مع فكرة العلمانية، والعلمانية مرفوضة لتناقضها مع فكرة سيادة الشريعة وحاكميتها ولاستبعادها الدين من تنظيم الشؤون الإجتماعية.

وهناك تيار رابع يسوغ رفضه للديمقراطية بسبب بعض الإشكالات المرتبطة بجملة من آلياته، مثل الحزبية والدعاية الإنتخابية والمعارضة الشكلية والأغلبية والأقلية و ومبدأ النيابة عن الشعب، وهي أمور يرى أنها تفتقر الى المحتوي الموضوعي، ومن ثم فإن هذا التيار يرفض الممارسات الشكلية والمظهرية لبعض النظم السياسية باسم الديمقراطية وهي نظم تغلف عناصر الإستبداد الكامن فيها بغشاء من الديمقراطية وبأشكال برلمانية ودستورية زائفة.

وهناك أخيرا تيار يبني رفضه لفكرة الديمقراطية على اعتبارات خلقية مثل كون مفهوم الحرية الملازم لفكرة الديمقراطية في الثقافة الغربية ينطوي على نزوع إباحي وعدم انظباط خلقي مما يتنافى مع مبادئ الشريعة الإسلامية وفلسفتها الخلقية

وتلتقي كل هذه المواقف الرافضة للديمقراطية في أن الاخذ بها يعني استبدال التشريع الالهي الذي ورد به الوحي، بتشريع وضعي محدود بإطار خبرة حضارية معينة.

والملاحظة الجديرة بالتسجيل هنا ان التيارات الرافضة رفضا باتا للديمقراطية باسم الإسلام تمثل مجموعات صغيرة أبرزها السلفيون، ولعل سبب موقفهم هذا أنهم لم يمارسوا العمل السياسي إلا مؤخرا، وهم كذلك حرفيون في منهجهم الفكري لأنهم آثروا الإنكفاء على القديم ولم يواكبوا حركة التطور الفكري والإجتماعي التي شهدتها مجتمعات المسلمين.

وفي مقابل التيارات الفكرية الرافضة لفكرة الديمقراطية هنالك تيار إسلامي عريض حاول مفكروه ومنظروه تأصيل فكرة الديمقراطية والتأسيس النظري لها في السياق الفكري الإسلامي، ويحمد لرموز هذا التيار ومنظريه أنهم بطرحهم هذا يتجاوزون عقلية المقابلة والمناظرة بين الإسلام والديمقراطية التي تستغرقها سطوح القضايا وشكلياتها، ليبلوروا فكرا سياسيا يستوعب جوهر فكرة الديمقراطية ويبرز ابعادها الإسلامية أو إن شئنا قلنا يبرزون كيف أن الإسلام يحتوي على مكون ديمقراطي أصيل.

وحتى وقت قريب كان الإستقراء السريع لمدى حضور فكرة الديمقراطية بوصفها نظرية ومنهجا في الأعمال الفكرية الإسلامية منذ حركة الإصلاح الإسلامي في النصف الثاني من القرن الماضي، يكشف لنا أن الديمقراطية وإن كان لها حضور في العمل الفكري الإسلامي إلا أنه حضور محدود وعرضي، ويكشف هذا الإستقراء عن اشكالية منهجية في الفكر الإسلامي من حيث معالجة القضايا الفكرية المعاصرة وجوهر هذه الاشكالية المنهجية أن الفكر الإسلامي كان أقرب الى الدفاع عن الذات ومحاولة ابراز عناصر التشابه والتماثل بين المبادئ الإسلامية والمبادئ التي تقوم عليها الحضارة الغربية دون ارتقاء منهجيته الى المستوى الذي يؤهلها لبلورة وصياغة فكر اسلامي يعالج الاشكاليات النظرية والعملية التي تواجه مجتمعات المسلمين بصورة علمية أصيلة بعيدا عن الإعتذارية أو ردود الفعل. كما يمكن ان نلاحظ أن مسألة الديمقراطية تطرح منذ بداية عهد التسعينات من هذا القرن بوتيرة متصاعدة ومكثفة في الخطاب الإسلامي وبصور متباينة وثرية من حيث الفهم والتحليل، والامر الذي يكشف عن تحول في الرؤية السياسية وتغير في النظرية الفكرية السياسية عند المفكرين الإسلاميين المحدثين،

وبعبارة أخرى إن الديمقراطية أخضعت للتشريح من قبل المفكرين الاسلاميين بهدف معرفة مكوناتها وأبعادها آفاق تكييفها وإمكانياته، وقد كان من نتائج ذلك التسليم والقبول بمشروعية بعض تلك المكونات وليس كلها مبدأ تداول السلطة بشكل سلمي، ومبدأ التعددية الحزبية والتعايش السلمي بين الجماعات على اختلاف طروحاتها واجتهاداتها، وحقوق الإنسان ورعايتها والفصل بين السلطات وما شابه ذلك مما يتعلق يإدارة الحياة والفعل السياسي، وهذا امر بالغ الدلالة إذ إنه يكشف عن تحول منهجي ومعرفي في الوقت نفسه يشهده الفكر الإسلامي المعاصر الذي كانت تغلب عليه الإطلاقية واللاتاريخية.

في هذا السياق من تطور الفكر الاسلامي الحديث تأتي دراسة الشيخ راشد الغنوشي التي خصصها لبحث قضية الحرية، وإخضاعها للمناقشة الفكرية والعلمية، ويلاحظ هذا أن انحياز الكاتب للموقف الإسلامي المؤيد للحرية ضد الإستبداد وللإنطلاق ضد الجمود كان انحيازا حاسما لا يداخله أي تردد، والكتاب في كلياته يطرح عددا من الأسئلة الفكرية المحورية : هل هناك مفهوم لحقوق الإنسان في الإسلام ؟

هل هناك أساس لمفهوم الدولة في الإسلام وإن وجد فما العلاقة بينه وبين مفاهيم الدولة في الثقافة الغربية الحديثة؟ ما الأبعاد السياسية والإقتصادية والتربوية للشورى؟ وما ضمانات الحرية في الدولة الإسلامية ضد الجور؟ تلك هي جملة القضايا المحورية التي عرض لها الكتاب، ولنعرض الآن بشيئ من التفصيل لأهم مقولات المؤلف.

أفرد الأستاذ الغنوشي المبحث الأول من الكتاب لدراسة حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام، فهو يرى أن الحرية في الإسلام قيمة أساسية أصيلة، إنها ليست مجرد إباحة، بل هي واجب وكدح متواصل لتجاوز الضرورة عبر مجاهدة النفس لحملها على معالي الأمور، ومجاهدة قوى الشر والجهالة لاعلاء كلمة الحق والعدل.

ويذهب المؤلف الى أن حقوق الإنسان في الإسلام تنطلق من مبدأ عقدي أساسي، مفاده أن الإنسان يحمل في ذاته تكريما الهيا أزليا، وأنه بناء على ذلك مستخلف من الله في الكون، الأمر الذي يخوله حقوقا لا سلطان لأحد عليها.

وبالمقارنة والمقابلة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الإعلانات الغربية لحقوق الإنسان يوضح المؤلف أن مجال اللقاء بينهما جد رحب، و أن الإختلافات يسيرة، وتشكل الإستثناء لا القاعدة، وأن الإختلاف لا يكمن في المضامين الجوهرية وإنما في الأسس الفلسفية والدوافع والغايات والمقاصد. ففي رأيه يؤخذ على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثلا استناده الى أسس فلسفية غامضة مثل القانون الطبيعي، وهو مفهوم مبهم وغير محدد، الأمر الذي يحرم تلك الحقوق من العمق الروحي والخلقي ومن البواعث القوية للإلتزام بها ورعايتها، وفي مقابل ذلك نجدها في الإسلام جزء لا يتجزأ من الشريعة ومقاصدها، بل ومن البناء العقدي الإسلامي كله، مما يكسبها صفة الواجب وقوة الإلزام والدوام والمبدئية.

وقد عالج المؤلف موضوع الإطار العام لحقوق الإنسان في خمسة مباحث فرعية : أفرد أولها لحرية الإعتقاد، مركزا على ما يمكن ان يرد على هذا الحق من قيود، فناقش موضوع الردة وأزال التناقض الذي يمكن أن يتوهم بينه وبين مبدأ الحرية، ثم عرض للآثار المترتبة على حرية الإعتقاد مثل حرية التعبير والمناقشة وممارسة الشعائر والحرية الفكرية وأبان كيف أن الإسلام أحاطها بسياج سميك من الضمانات والحماية، ثم تناول حرية الذات أو ما سماه حق التكريم الإلهي أي سلامة الشخصية الإنسانية وحمايتها حيث تعرض بالتمحيص والغربلة لموضوع العنف والتعذيب وأساليب الاكراه وانتهى الى الحكم بأنها محظورة حظرا مطلقا.

ثم عرج على موضوع الحقوق الإقتصادية فأثبت حق التملك على أساس العمل، وحق العامل في التمتع بثمار عمله والنظر الى الملكية بصفتها وظيفة اجتماعية يمارسها الفرد تحت رقابة ضميره الديني وسلطة المجتمع في إطار مصلحة الجماعة، فإذا أساء الفرد التصرف تدخل المجتمع صاحب الحق نيابة عن المالك الأصلي الله سبحانه وتعالى، أما مسألة الحقوق الإجتماعية فقد أكد الباحث أن العمل واجب ديني، وأن في مال الإغنياء حقا معلوما لمن لايملك، وانتهى الى أنه لا حرمة لمال طالما في المجتمع محتاج معدم.

ثم تعرض لجملة من الحقوق الإجتماعية الأساسية التي رعاها الإسلام مثل حق التعليم الإلزامي، والحق في الرعاية الصحية، والحق في السكن والكساء وإقامة الأسرة.

والواقع أن مفهوم العدالة الإجتماعية أحد ابرز المفاهيم التي اثارها الفكر الإجتماعي السياسي الإسلامي المعاصر، وكان سيد قطب رائد توجيه الفكر الإسلامي الى هذا الموضوع، ولعل ذلك يرجع الى عاملين الأول : يتمثل في تفاقم احوال الفقر وسوء توزيع الثروة في المجتمعات الإسلامية، والثاني الضغط السياسي الذي مارسته الحركات الإجتماعية السياسية الجماعية والشيوعية في مطالع الخمسينات من هذا القرن، غير ان كتاب سيد قطب لم يقدم الا وصفا عاما للمفهوم، ومبادئ عامة تحكمه، وقد تابع هذه الافكار مفكرون اسلاميون آخرون كان في مقدمتهم الداعية الإسلامي السوري الدكتور مصطفى السباعي، الذي ضمن أفكاره كتابا لا يخرج في جملته عن كتاب سيد قطب نشره في عام 1959 م بعنوان " اشتراكية الإسلام"

أما المبحث الرئيسي الثاني لكتاب " الحريات العامة " فقد خصصه المؤلف لقضية الحريات السياسية، مقارنا بين المبادئ الأساسية للديمقراطية الغربية ونظام الحكم الإسلامي أو ما نعته " بالديمقراطية الإسلامية " وفي معالجته لمفهوم الدولة في الفكر الديمقراطي الغربي حاول المؤلف إبراز ما في هذا المفهوم من تناقض وغموض وأخطار كامنة بسبب الأساس الفلسفي المادي والأساس السياسي القومي الذي يسنده، والذي كان من نتائجه الحروب القومية والإقتصادية، وانتشار الفقر والأوبئة الفتاكة، وتدهور أحوال البيئة ،وتطور أسلحة الدمار الشامل على حساب الخدمات الإنسانية، وتنمية الموارد وحماية البيئة، وقد أبان الكاتب أن النظام الديمقراطي الغربي يبقى في تجلياته وتطبيقاته بعيدا عن مثاله، لأنه ولإن تساوت في اطاره أصوات المواطنين نظريا، الا ان انقسام المجتمع الى طبقة أصحاب الاحتكارات الكبرى للمال ووسائل الإعلام، ومأجورين وعاطلين عن العمل يمثلون الأغلبية كل ذلك طبع الديمقراطية الغربية بميسم الزيف والتناقض.

ويبقى الخلل الرئيسي في هذا النظام كامنا في مضامينه الفلسفية المادية، أي في علمانيته بما في ذلك تجليها الأكبر المتمثل في استبعاد الوحي والدين من تنظيم شؤون المجتمع، وتأليه الإنسان بالتنكر للمطلق الحقيقي الله سبحانه وتعالى، وخالق الكون ومدبره.

ومن خلال دراسته للمبادئ الأساسية للحكم الإسلامي أو الديمقراطية الإسلامية انتهى المؤلف الى ان مفهوم الدولة أصيل في مبادئ الإسلام وفكره السياسي، وأن السلطة حاجة طبيعية وضرورة اجتماعية، ومقتضى ديني لإقامة الدين، وأن السلطان المتجسد فيها مخول من الله للجماعة، ولأن الجماعة لا يمكن – عمليا – أن تدير السلطة مباشرة تحتم إيكال هذه السلطة بمقتضى عقد أو بيعة لمن يقوم بها وفق القانون أو النص الذي أساسه الكتاب والسنة من جهة والشورى ورقابة الشعب في مستوى التشريع والتنفيذ من جهة أخرى. وقد تعرض المؤلف بالتفصيل لما أشترط من شروط لأعضاء الهيئة الشورية ووظيفتهم، وأظهر الإختلاف الجوهري بين مجلس الشورى والمؤسسة البرلمانية الغربية، غيران الهدف من الشورى ليس مجرد معرفة اتجاه الأغلبية،

وانما الإجماع او ما يقرب منه، والى جانب الشورى في بعدها التشريعي تحدث المؤلف عن ابعاد أخرى للشورى، مثل الشورى السياسية، والشورى أو الحرية في الميدان الاقتصادي، والشورى الثقافية والتربوية، حيث ذهب الى أن هذه الأبعاد لا تختلف في جوانب عديدة منها وفي كثير من عناصرها عن النموذج الليبرالي الغربي، الا أن الأسس مختلفة، وكذلك الظوابط الأخلاقية والغايات.

هذا وقد خصص المؤلف المبحث الرئيس الثالث والأخير لدراسة ضمانات عدم الجور في الدولة الإسلامية، وهذه القضية من القضايا الرئيسية التي اهتم بها الفكر السياسي الإسلامي منذ زمن غير يسير، فرفاعة رافع الطهطاوي يرى " ان الحرية عند الغربيين هي عين ما يسمى في الفكر الإسلامي بالعدل والإنصاف " ويربط صراحة بين الحرية والعدل من ناحية وعمارة البلدان وكثرة المعارف وتراكم الغنى وراحة القلوب أي تفشي الأمن من ناحية أخرى، مذكرا في ذلك بمقولة ابن خلدون من أن العدل أساس العمران،

وقد تبعه في ذلك خير الدين التونسي الذي لا يختلف عنه كثيرا، حيث حاول أن يقيس على المثال الأروبي القائم على الأخذ بالتنظيمات الدنيوية، التي رأى انه يكمن فيها تحديدا سر التمدن الغربي وحسن السياسة عند الأروبيين، مما ترتب عليه توسيع دائرة العلوم والمعرفة وتطوير مصادر الثروة من التجارة والزراعة والصناعة، بل ان المصلح خير الدين التونسي يختزل كل المسألة في القول ان التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية هي اساس ما أحرزه الأروبيون من قوة وثراء ونماء ورفاهية، وتابع ابن ابي الضياف المؤرخ التونسي لعهد البايات الحملة على الجور والظلم، وأعاد الى الأذهان كلمة ابن خلدون الخالدة "ان الظلم مؤذن بفساد العمران" ويعد المفكر السوري عبد الرحمان الكواكبي، من ثلة المفكرين المناهضين للإستبداد والحكم والمطلق، حيث يركز اهتمامه على تشريح جثة الإستبداد وبيان علاقة هذا الداء بتقهقر الامة واعاقة حركتها الحضارية، وربما كان للكواكبي فضل تنبيهنا الى ان القرآن الكريم نفسه مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد واحياء قيم العدل والإنصاف.

لقد طور الشيخ الغنوشي افكار هؤلاء المفكرين وزاد عليها،فهو يرى ان الدولة في النظام الماركسي الشيوعي ما هي الا اداة لقمع الخصوم، وتحقيق اهداف القلة، واشباع حاجاتها، أما في الديمقراطية الغربية وعلى الرغم مما تتوفر عليه من أجهزة الرقابة، فان قيام الدولة على الفلسفة المادية جعل لقيم الربح والكبرياء القومي السلطان الأعلى على مؤسساتها، وأعطى ذوي النفوذ المادي سلطانا عظيما على عقول الناس وحياتهم ومصائرهم، أما الدولة الإسلامية فإن هدفها الأسمى في رأي الغنوشي إتاحة مناخات الحرية والعدالة والتطهر والترقي الروحي والمادي أمام أوسع قطاع من المواطنين.

ثم يطرح المؤلف مجموعة من الضمانات تحول دون انحراف الدولة الإسلامية وترديها في الجور، خاصة وقد حدث ذلك تاريخيا، ومن الظوابط الأساسية التي يقترحها المؤلف النظر

أولا :

الى أن المشروعية العليا في الدولة إنما هي لله سبحانه وتعالى من خلال شريعته، وأن الأمة هي المستخلفة عن الله وليس فردا أو مؤسسة أو جماعة بعينها، الأمر الذي يضع قيودا على سلطان الدولة التشريعي والتنفيذي.

ثانيا:

اعتبار عقد النيابة وكالة خاص، الأمر الذي يجعل النائب او عضو مجلس الشورى تحت مجهر رقابة الناخبين بشكل دائم.

ثالثا:

اشتراط عدم احتجاب الحكام في ابراج عاجية عن الشعب، مع منع جمعهم بين سلطتي المال والحكم.

رابعا:

اقامة نظام اقتصادي يضمن عدم تركيز الثروة، ويسهل توزيعها وتكثير عدد المالكين.

خامسا:

إقامة نظام اجتماعي يؤكد قيمة العمل، ويعترف بالتملك وحق الفقير في مال الغني.

سادسا:

إقامة نظام تربوي يشيع المعرفة وييسر وسائلها ويرفع سلطان الدولة عن عقول الناس وارواحهم.

سابعا:

اقامة نظام تعدد الأحزاب بظوابط معينة، وضمان عدم اشتغال الأحزاب بالصراعات الهامشية على حساب المصلحة العليا العامة.

ثامنا وأخيرا : إقامة نظام اداري للحكم المحلي، يسحب معظم صلاحية الحكومة المركزية ليضعها في يد الشورى الشعبية.

والى جانب الظوابط أو الضمانات السابقة الذكر، يشير المؤلف الى مبدأ فصل السلطات بوصفه ضمانا من ضمانات عدم الجور، مؤكدا على استقلالية القضاء، ونفاذ أحكامه، ومضيفا أن الموقف الإسلامي يحتمل الفصل والتعاون أو الإندماج في شأن العلاقة بين سلطة التشريع والتنفيذ، بيد أننا نجده يرجح الفصل غير المغلظ او المرن بين السلطات الثلاث.

وأخيرا:

يتناول المؤلف ما حدث من جور في تاريخ الدولة الإسلامية، على الرغم من أن الإسلام قرن بين الإستبداد والظلم، وبين التوحيد والعدل، وفي هذا السياق يفصل الغنوشي او يميز بين النظرية ( الشريعة) والتاريخ الإسلامي، من حيث انه يمثل الجاني التطبيقي الذي هو فعل المكلفين، فما حدث من جور ليس في رأيه من مسؤولية الإسلام، وإنما هو مسؤولية المسلمين الذين تجلت في سلوكهم – الى حد كبير – الروح التي كانت سائدة في عهدهم ذلك، على الرغم من أن التاريخ الإسلامي قد عرف بنفس القدر ازدهارا للتعدد الثقافي والحضاري والتسامح الديني والفكري وعرف – بدرجات متفاوتة – ظاهرة التعدد السياسي بما يتجاوز عصره بكثير.

لقد اراد الباحث أن يؤكد - عبر فصول كتابه كلها – أن الإسلام إنما جاء لمصلحة البشرية، وأنه يستوعب كل انجازاتها الخيرة، مثل التقدم العلمي، والتنظيم الديمقراطي للشؤون السياسية، وضمان حقوق الأفراد والشعوب والأقليات والنساء، على أساس العدل والمساواة، وأن إقامة دولته الشورية الديمقراطية – دولة الأمة – لا تمثل حاجة للمسلمين فحسب، وإنما حاجة للبشرية قاطبة.

وهذا الكتاب جدير بالقراءة للمسلمين خاصتهم وعامتهم ولغير المسلمين، لأنه يطرح بعض القضايا والإشكاليات الحساسة التي لم يعالجها الفكر الإسلامي الحديث بكيفية حاسمة، على الرغم مما بذل من عطاء فكري واجتهاد ثقافي على طول التاريخ الإسلامي الحديث، كل ذلك قد انجز بمنهجية منظمة وتحليل عميق.

ويحمد للمؤلف أنه يقدم استنتاجاته وخلاصاته دون أحكام قطعية او نظرة آحادية الجانب، تلغي فعل العوامل التاريخية والإجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها، مما يعكس استشعارا وتقديرا للمسؤولية العلمية، والأمر ذاته يظهر ايضا في التوثيق العلمي والفكري والتاريخي لما اورده من آراء وما تبناه من طروحات، متمثلا في العدد الكبير من المراجع العربية والأجنبية التي استفاد منها المؤلف في كتابه، أما لغة الكتابة فقد جاءت سهلة يسيرة جزلة الألفاظ ومتينة السبك وجيدة الصياغة وهي – على كل حال – طابع كتابات الشيخ الغنوشي الأخرى.

كلمة أخيرة لابد منها وهي ان جدارة هذا الكتاب لا تنبع فقط من أهمية موضوعه ولا من خطورة المسائل التي تناولها في الشأن السياسي الاسلامي المعاصر، وإنما أيضا من كونه الحصيلة التي خرج بها مؤلفه من تأمل طويل تم معظمه وهو أسير المعتقل، وينهض هذا الكتاب دليلا على ان مؤلفات المفكرين الحركيين الخالدة جلها قد كتبت في ظروف دخول المحن والخروج منها، وهي دليل إضافي على ان المحنة تخفي في ثناياها منحة، مما يعزز مقولة قدوة المجاهدين الصابرين من العلماء شيخ الاسلام ابن تيمية " إن نفيي سياحة، وسجني خلوة، وقتلي شهادة" كما أشار الى ذلك مقدم الكتاب الدكتور محمد سليم العوا، صاحب المؤلفات السياسية والقانونية المعروفة.

دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة نورثويسترن في الولايات المتحدة الأمريكية*

المصدر

للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي

مؤلفات وكتابات الشيخ راشد الغنوشي

.

أقرأ-أيضًا.png

مفات متعلقة

مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

ألبوم صور الشيخ

وصلات فيديو

تابع وصلات فيديو

.

أقرأ-أيضًا.png
ملف الإخوان في تونس

.