لقاء مع الدكتور راشد الغنوشي رئيس «حركة النهضة الإسلامية» في تونس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لقاء مع المفكر الإسلامي التونسي د. راشد الغنوشي رئيس «حركة النهضة الإسلامية» في تونس
الدكتور راشد الغنوشي

هذا الحوار المطول قد نشر ضمن كتاب بعنوان الخطاب الإسلامي إلى أين لمحرره الأكاديمي السوري وحيد تاجا سجل فيه نصوص محاوراته مع 39 مفكرا عربيا ذوي اتجاهات مختلفة وقدم له الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن وتولت نشره دار الفكر في 500صفحة. شارك فيه من التونسيين أبو يعرب المرزوقي وراشد الغنوشي.

  • كيف تنظرون إلى أوضاع العالم الإسلامي اليوم؟

جدل متواصل محتدم بين فريقين من المهمومين بتشخيص أمراض الأمة: التجزئة، الفقر، احتلال فلسطين، الأمية، وسائر مظاهر التخلف: أحدهما ما يفتؤ يؤكد أن مردها إلى القوى الخارجية المتربصة بنا والمصممة على عرقلة كل سبيل لنهوضنا تأبيداً لتخلفنا وضعفنا حتى يتيسر لها استمرارها في نهب ثرواتنا وفرض هيمنتها علينا والحؤول دوننا وعودتنا إلى الساحة الدولية منافسين لها عبر امتلاكنا مجدداً لأدوات صنع مصيرنا ومنها: تجاوز حالة التشرذم التي فرضوها علينا بالحديد والنار منذ قرنين خليا حيث ترجحت كفة الموازين الدولية لصالحهم، فوضعوا أيديهم على مصائرنا من خلال سيطرتهم على طرق تجارتنا وعلى سائر مواردنا، متخذينها كلأ مباحاً لنهبهم وتيسير رفاههم، حائلين دون توظيفها لصالح نهضة أمتنا وإرساء نهضة علمية وصناعية تحسن اكتشاف ثرواتنا الطائلة وتحسن توظيفها لاستئصال الفقر والمرض والأمية من حياتنا، ولتطوير أجهزتنا الدفاعية بما يضمن قدرتنا الردعية لكل عدوان على أرضنا، وإرساء أنظمة عادلة ديمقراطية تعبر عن إرادة شعوبنا ومصالحها وتقود الأمة نحو استكمال مشروعها النهضوي بدءاً بأنظمة ديمقراطية قطرية وصولاً إلى اتحاد للأمة ديمقراطي. وكل هذه المطالب تعتبر ضمن الاستراتيجية الغربية – حتى الآن- خطوطاً حمراء، تقديراً من واضعي السياسات الغربية منذ قرنين على الأقل أن تحقق تلك المطالب مضر بمصالحهم في الهيمنة العالمية ويمثل عائقاً وعقبة كؤوداً في طريقها. ولذلك بدأ التفكير منذ أولى غزواتهم الحديثة لأمتنا على يد نابليون في غرز خنجر في القلب من أمتنا في فلسطين يقطع وحدتها الجغرافية ويستنزف مواردها، ثم جمعوا أساطيلهم لتفكيك أول مشروع نهضوي في النصف الأول من القرن التاسع عشر في مصر على يد النهضوي محمد علي، وفعلوا الأمر ذاته مع كل المحاولات التوحيدية والنهضوية التي عرفتها الأمة بعد ذلك، فقد كانت الأساطيل جاهزة للتصدي للجيش المصري في ما لو حاول التصدي لانفصال سورية على يد زمرة من الضباط المغرر بهم. كما أن الأمير فيصل وقبله مصدّق في إيران لقيا المصير نفسه عندما تجرأا على التحكم في ثروة النفط. وتعرض المفاعل العراقي النووي للتدمير. وكان الكيان الصهيوني المزروع في القلب الأداة الغربية الجاهزة وكلب الحراسة المسعور الذي يعد الحفاظ عليه وإمداده بكل مقوّمات البقاء واجباً؛ لا مجرّد البقاء فحسب؛ بل التفوق على البلاد العربية مجتمعة. وما تتعرض له إيران اليوم من ضغوط رهيبة لمنعها من تجاوز خط من الخطوط الحمراء: امتلاك ناصية التقدم الصناعي المعاصر التقنية النووية ليس إلا واحداً من شواهد كثيرة على وجود تلك الاستراتيجية الغربية الثابتة - حتى الآن - لعرقلة كل مسعى نهوض حقيقي في أمتنا إن على جبهة توحدها أو على جبهة تقدمها الصناعي أو على جبهة تحولها الديمقراطي؛ فكل باب ومجال للنهضة تقف في وجه أمتنا صوب ولوجه ترسانات من الأسلحة الرهيبة جاهزة للاستعمال، والمبررات أيضاً جاهزة ومؤسسات القانون الدولي عادة لا تتخلف في إضفاء الشرعية القانونية الدولية وحتى الأصباغ الإنسانية على مخططات العدوان والهيمنة وحتى لو تخلفت كما حصل في غزو العراق تمضي الأساطيل عارية من كل غطاء للشرعية الدولية لا تبالي.

وهذا الفريق الذي يركز على العامل الخارجي ممثلاً في التفوق الغربي والاستراتيجية الثابتة في تعويق مقومات النهوض في أمتنا:

أ‌- لا يبرئ الذات من تبعة أوضاع المهانة والضعف التي تتلظى بها الأمة ولكنه يصر على أولوية العامل الخارجي سبباً رئيساً في استمرار هذه الأوضاع وإفشال كل محاولات النهوض.

ب‌- هو ولئن شمل الغرب على وجه التغليب بحكم واحد فهو إنما يعني القوى الرئيسية فيه وبالخصوص الولايات المتحدة حيث انضافت إلى الدعائم الاستراتيجية لهذه السياسة الغربية التقليدية المعادية لنهضة العرب والمسلمين أسس عقدية منحدرة إلى مراكز القرار من كنائس إنجيلية متعصبة تصاعد نفوذها وبالخصوص في إدارة بوش المتأثر هو ذاته برؤيتهم الدينية للصراع العربي - الإسرائيلي الذي أعطي أبعاداً دينية تتعلق بأساطير تتحدث عن معارك نهايات التاريخ وعودة المسيح عبر إعادة بناء هيكل مزعوم. وهي الثغرة الأخرى التي دخلت منها مجموعات الضغط الصهيونية المتعصبة للتأثير الذي يكاد ينفرد بوضع السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط عبر عدد من المراكز القوية والمفكرين النافذين على رأسهم مسعر الحرب على العرب والمسلمين وملهم الإدارة الحالية المستشرق المشهور برنارد لويس وتلاميذه أمثال مارتن كرامر ودانيال بايبس وستيفن إمرسون وشارل بيرل وعدد من المتنفذين في وزارة البنتاغون أمثال بول وولفيتز ودوغلاس فايث الذين اختطفوا إلى حد بعيد السياسة الأمريكية وبالخصوص المتعلقة بالشرق الأوسط بالعرب والمسلمين. غير أنه بحكم رسوخ التعدد في المجتمع الأمريكي فإن وجهة النظر الأخرى يبقى لها أنصار وربما يتزايدون بقدر فشل خيار الاستئصال كاشفين عن الأخطاء الفادحة بل الكوارث التي تسببت فيها لأمريكة هذه المدرسة السبتية وعلى رأسها غزو العراق والدعم اللامشروط للتطرف الليكودي في إسرائيل وكذا الدعم الأمريكي لأنظمة حكم فاسدة دكتاتورية بدل دعم التحول الديمقراطي وهو ما شكل الأرضية المناسبة التي يتغذى منها التطرف والإرهاب حتى عد بوش أكبر نصير لابن لادن وقوة تجنيد له من خلال السياسات التي اتبعها؛ كل ذلك بحجة مقاومة الإرهاب وهو ما زاد الإرهاب انتشاراً والسياسة الأمريكية تورطاً وبالخصوص في العراق وفلسطين وأفغانستان وهو ما نشر الكراهية للأمريكان على أوسع نطاق في العالم وبالخصوص في عالم الإسلام بل عمَّق الهوة بين عالم الإسلام؛ وعالم الغرب وعرض المؤسسات الدولية لخطر الشلل..

بينما السبيل الأقوم لدى أصحاب وجهة النظر الأخرى من المفكرين والاستراتيجيين الأمريكان لمقاومة الإرهاب إنما يكون بتضييق منافذه وأسبابه من خلال التشجيع على التحول الديمقراطي في دول العرب والمسلمين حتى ولو أتى ذلك بالتيار الإسلامي الوسطي وهو التيار الرئيسي في الحركة الإسلامية. ومن هؤلاء المفكرين البرفسور جون سبوزيتو وجون فول ولويس كانتوري ومارك قيرشيتس وريتشارد بولليات ونوح فيلدمان والباحثة شيري بيرنارد.. وعلى أهمية هذه الأصوات تبقى السياسة الأمريكية مختطفة لدى الفريق بالغ العداوة والكراهية للعرب والمسلمين والمناصر لكل عدو لهم وبالخصوص الكيان الصهيوني؛ إلا أن برغماتية العقل الأمريكي ستدفعه غير بعيد إلى مراجعة هذه السياسة كلما ارتفعت تكاليف تنفيذها وتوالت خيباتها كما يحصل اليوم في العراق. وإلى أن يحدث ذلك فليس هناك غير الثبات والصبر.

أما الفريق الثاني فعلى الضد من الأول لا يهمل دور الخارج في العرقلة والتعويق ولكنه يعتبر ذلك عاملاً ثانوياً بالقياس إلى العامل الرئيسي في تخلفنا وانحطاطنا ألا وهو العامل الذاتي المتمثل أساساً في: الإرث الفكري الثقافي المتمثل في ثقافة الخنوع والاستسلام للأقدار والتهوين من شأن الفرد وحرياته وحقوقه ومسؤوليته على مصيره بما يؤول بشخصيته إلى الانحسار والذوبان ذرة في هذا الكون أو قطرة متلاشية في محيط الأمة والجماعة فيغدو راضياً بكل ما يعطى قابلاً لكل صورة مصفقاً لكل ناعق محتقراً لنفسه ضائقاً ذرعاً بمجرد ذكرها والشعور بها. أما المرأة نصف المجتمع والتي بين أحضانها يتربى النصف الآخر فوضعها أشد تعاسة في مثل هذه المجتمعات إن من جهة النظر إليها وحتى من جهة نظرها لنفسها. ولقد تأسس هذا التصور على رؤية للحياة جملةً وللنشاط فيها والبناء والازدهار والاستمتاع الجسدي وللفن والجمال على أن كل ذلك رجس من عمل الشيطان ومن عوائق السعادة في الدار الآخرة ومن مغضبات الرب. ومن شأن كل ذلك أن يثمر حالة عامة من السكون والاستسلام للطبيعة والتحرك فيها للضرورة بأقل جهد والاستسلام لما هو قائم من أوضاع اجتماعية مثل وضع التفاوت الظالم وأوضاع سياسية مثل وضع الاحتلال الخارجي أو الاحتلال الداخلي ممثلاً في الاستبداد وتأله الحكام بتقدير كل ذلك جزءاً من نظام الكون الذي أراده الله. وهكذا قاد هذا الإرث الفكري إلى الاستبداد ولك أن تقول إن هو إلا ثمرة من ثمار الاستبداد؛ فلقد ثبت أن الأمويين كانوا أول من نشر وشجع عقائد الجبر. والأصوب القول إن هناك علاقة متبادلة بين عقائد الجبر في الكلام وسيادة التقليد في الفقه وهيمنة التصوف والطريقة في التربية حيث يغدو الفناء هدف التربية، وسبيلُها أن يغدو المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله، علاقة تبادل بين تلك الثقافة بعناصرها تلك وبين نظام الاستبداد الذي حكم مراحل شاسعة من تاريخنا.

ويدفع هذا الفريق حجج الفريق الآخر بلفت الأنظار إلى أمم أخرى تعرضت للاحتلال ولمكايد السياسات الغربية ولكن ذلك لم يحل بينها وبين التوفق إلى بناء نهضتها ومغالبة كيد أعدائها مثل دول في أمريكة الجنوبية وأخرى في آسية مثل اليابان والصين، بل إن بعضها تعرضت لحرب مدمرة ساحقة ثم من تحت الركام والأشلاء نهضت كالعملاق حتى نافست في التقدم أعداء الأمس، فلماذا يظل العرب وحدهم يلوكون قصة التفسير التآمري للتاريخ يتهربون به من مواجهة الأسباب الحقيقية لتخلفهم واستمرار تموقعهم في ذيل الأمم. بينما الحقيقة واضحة كالشمس أنه في صميم ثقافتهم وفكرهم ومعتقداتهم وأنظمتهم الجبرية يكمن داؤهم الذي لا دواء له من غير الوعي به ومواجهته بما يستحق من معالجات جذرية لنظامهم الفكري والقيمي، وهو ما حاول رجال الإصلاح الكبار فعله بدءاً بمقاومة عقائد الجبر المترسخة في جذور العقل العربي بالتأكيد على حرية الإنسان ومسؤوليته على أفعاله. كما دعوا في مجال الفقه إلى فتح باب الاجتهاد وممارسته والتمييز الواضح بين النص المنزل قطعيِّ الدلالة وهو الملزم للمؤمن وبين ما تأثل في تاريخنا من اجتهادات مهما عظمت مكانة أصحابها لا تعدو بالنسبة لنا كونها حقلاً للتجربة يستفاد منه فيما يناسب عصرنا وحاجاتنا. كما دعوا في مجال السياسة إلى مناهضة أنظمة الاستبداد والجبر التي حكمت تاريخنا وانتهت إلى إطفاء شعلة النهضة في أمتنا، وذلك بالدعوة إلى إحياء قيمة الشورى وضبطها بآليات النظام الديمقراطي بتقديره أقوم سبيل معاصر لتجسيد ذلك المبدأ العظيم واستئصال آفة الاستبداد وانفراد الفرد بالتقرير في مصير الجماعة بينما تؤكد الشورى على وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{42/38:6-8} الشورى: 42/38فلا يجوز بحال أن يستقل به فرد مهما بلغ علماً وحكمة. بل الاستبداد شر كله ولا يأتي بخير وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ{11/97:7-10} [هود: 11/97] دلالة كل ذلك واضحة أننا المسؤولون عما حل بنا من تخلف وانحطاط وغلبة الأمم علينا. داؤنا كامن في أحشائنا، من صنع أيدينا» قلتم أنى هذا ؟قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ{3/165:11-15} [آل ‌عمران: 3/165بل حتى حكامنا المستبدون ليسوا إلا الانعكاس المباشر لثقافة مجتمعنا وضحالة قيمة الحرية والكرامة لدى المواطن عندنا بما يسهل على كل طاغية تحشيد الناس حوله والتهليل له لدرجة تسليطهم على كل مصلح وتشويه صورته لديهم وتهميشه. وفي ظل هذه النمط من الثقافة تغدو مسألة مصادرة الحريات واضطهاد الأحرار وتزييف الانتخابات مسألة لا تثير غضب الجماهير بل تجد تأييداً غير قليل من قطاعات واسعة من النخبة. ولك أن تقارن بين ردود أفعال نخب وجماهير غربية على تزييف محدود جداً للانتخابات في بلادها حيث تندلع المسيرات العارمة ملتفة حول نخب معارضة موحدة لا يصرفها قر ولا حر ولا تهديد عن مواصلة وتصعيد تحركاتها فلا تعود إلى بيوتها وأعمالها حتى يسقط الدكتاتور أو تعاد الانتخابات، قارن بين ما حدث في يوغسلافية وجورجية وأوكرانية وبين ما حدث ويحدث في عدد من الدول العربية، حيث التزييف السافر لإرادة الجماهير فلا يتعدى الاعتراض إصدار بيانات الشجب المحتشم. أليس ذلك عائداً إلى الفرق بين قيمة الحرية في المنظومتين الغربية والإسلامية؟ وهل يرجى تحول في أوضاعنا قبل أن نعي بهذه الحقيقة الوعي الكامل فنقدم على إحداث الجراحات الضرورية في جسمنا الثقافي تأسيساً جديداً في ثقافتنا لقيمة الإنسان وحقوقه المقدسة في الحرية والكرامة ولقيم الاختلاف والتعددية والإنسانية وسلطة الأمة أساساً لشرعية الحكم.؟؟

غير أنه رغم ما تتوفر عليه هذه الأطروحة من حقائق ومن منهجية إصلاحية، ترفض صرف طاقات الجماهير تهوّم بحثاً عن مشجب تعلق عليه مشاكلها، بل تردّها إلى ذاتها تبحث فيها عن أسباب فشلها وانحطاطها وغلبة الأمم عليها من مثل التأكيد على قيمة الحرية وما أصابها من إعطاب بل دمار جراء طغيان عقائد الجبر عليها وأنظمة الجور ومناهج الجمود الفقهي والتربوي، مما انصبت عليه جهود المصلحين المسلمين المعاصرين بالنقد والإصلاح، بما جعل هذه الأطروحة تبدو على قدر غير قليل من التماسك والواقعية والفاعلية.. فلا أحد يملك القدرة على نفي ما بين سلوك الإنسان فرداً وجماعةً بما يؤمن به ويعتقد من فكر وقيم وأن السبيل الأقوم لتغيير مسالكه يمر حتماً بتغيير منهجه الفكري والعقدي والقيمي؟ من ذا الذي يملك القدرة على إنكار ما بين السلوك المتطرف الذي يبلغ حد استباحة النفس والآخرين؟

رغم ذلك فالأطروحة لا تخلو من جانب جدلي شكلي ومن مبالغات غير قليلة قد تصل إلى حد جلد الذات وتبرئة العدو وانتهاء بالأمة إلى حال من تعميق الشك في قدراتها واليأس من إصلاح ذاتها. وأخطر من ذلك قفزها فوق حقائق الواقع والعلم، إذ تقع فيما يشبه خطيئة القياس مع وجود الفارق فيما تستظهر به من أمثلة لدول حققت نهوضها رغم تعرضها للاحتلال وللمكائد الاستعمارية مثل الصين واليابان وألمانية ودول في أمريكة اللاتينية. الفارق واضح بين الموقف الغربي من دول وأمم لا تمثل للغرب منافساً حضارياً وإنما هي مجرد منافس سياسي أو اقتصادي يمكن ضبطه، وبين أمة إسلامية تعد تاريخياً المنافس الأساسي للحضارة الغربية. ولكم أن تقارنوا بين رد فعل كل من أمة اليابان والأمة الألمانية على الاحتلال الغربي، إذ قبلتا بشروط المتغلب فاندمجتا بالكامل في إطار منظومته الحضارية والاقتصادية والعسكرية، فلم تكد تنطلق منهما رصاصة واحدة مقاومة للهيمنة الغربية، فقد قبلتا السير بكل انضباط على السكة التي رسمها لهما المحتل، قارن بين ذلك وبين ردود أفعال أمتنا على الاحتلال الغربي وآخرها احتلال العراق، حيث لم تنته الحرب بسقوط الدولة بل هي قد بدأت، إذ بسقوط الدولة تحررت الأمة من نقطة ضعفها الأساسية: الدولة المستبدة المغتربة، لتتولى أمرها بنفسها من دون وصاية، مفجّرة مقاومة أذهلت المحتلين والمتعاونين معهم، رغم الشذوذات المنكرة، بينما كانوا موعودين باستقبالات وردية وكان العراق موعوداً بأن يجعل منه الاحتلال الأمريكي أنموذجاً للتقدم في الشرق الأوسط يكرر الأنموذج الياباني والألماني لو أنه ودع خطيئة المكارم جانباً كما نصح الزبرقان:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

ولكن شطراً كبيراً من شعب الرافدين صمم على رفض ما عرض عليه مما تتمتع به مجتمعات النمل؛ وأبى إلا أن يرحل يبتغي مكارم الحرية والعزة والاستقلال على غرار ما فعلت شعوب إسلامية وحرة أخرى، ولذلك هو يتعرض اليوم للسحق على يد أشرس آلة عسكرية عرفها تاريخ البشرية من أجل أن يفرض عليه القبول بشروط المتغلب كما قبلت بها أمم أخرى. وهو ما يفسر لنا أيضاً ازدواجية الموقف الغربي من تقديم كل صنوف الحماية والدعم لانتفاضات معينة كالسلافيين والجورجيين والأوكرانيين من أجل الديمقراطية وصمتهم على دبابات يلتسن وهي تدك البرلمان، ومباركتهم لما تقوم به أنظمة حليفة لهم في بعض الدول العربية من تزييف سافر لإرادة الشعب. السبب واضح في ازدواجية الموقف الغربي. الديمقراطية في أوربة الشرقية سبيل لنقل أمم من صف العدو إلى الانضواء تحت لواء الحلف الأطلسي والسوق الرأسمالي ولذلك تستحق الدعم؛ بينما الديمقراطية في دول أخرى قد تطيح بأصدقاء وتأتي بفريق أقل ما يقال فيه إنه غير مضمون، وهو ما يفسر ازدواجية الموقف الغربي تجاه طلبات الانضواء في الاتحاد الأوربي فقد قبلت دون عناء دولاً خرجت لتوها من المعسكر الشيوعي بينما ظل الطلب التركي تحت الأخذ والرد رغم ما بذل الأتراك من جهود محمومة لخلع ملابسهم الشرقية الإسلامية طمعاً في القبول بهم غربيين ولكن دون جدوى.. ومنذ مائتي سنة باءت بالفشل الذريع محاولة مماثلة من قبل محمد علي في السير سيرة الغربيين من أجل الحصول بركات التقدم العلمي والقبول به في النادي الغربي. وانظروا ما فعلت القيادة المصرية منذ السادات من مساع محمومة من أجل القبول بمصر شريكاً لإسرائيل في تمثيل المصالح الأمريكية في المنطقة أملاً في الفوز بمستحقات الحراسة ولكن دون تحقيق نجاح يذكر، لأنها لم تنسلخ من جلدها بالكامل. بينما ينعم الكيان الدخيل بدعم وحماية غير محدودين.

وكل ذلك يجعل تجاهل العائق الخارجي لكل مشاريع نهوض أمتنا أو التخفيف والتهوين من شأنه ممثلاً في ميزان القوة الدولي المائل ضد أمتنا ضرباً من التنكب عن حقائق العلم والواقع وأسلوباً في جلد الذات وتبرئة العدو. جلد الذات الذي نهايته اليأس من أنفسنا بدوام اتهامها وترسيخ مشاعر القصور الذاتي وأننا وقد فشلنا في تحقيق أهدافنا الكبرى فلسنا نصلح لشيء ولن يصلح حالنا دون الانضواء تحت ألوية الآخر والسير سيرته فيما يحب ويكره من أجل أن نكون له أنداداً كما نصح طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة بمصر. غير أنه إذا كانت الأمة بسبب العوائق الخارجية واستمرار العوائق الداخلية لم تحقق أهدافها في الوحدة والنهوض وتحرير فلسطين فلا يعني أن جهود قرنين من النهضة والإصلاح ذهبت سدى، كلا؛ فلقد أمكن لجهود الإصلاح أن تعيد قطاعاً واسعاً من المسلمين إلى ساحة الفعل التاريخي بعد أن همشه الانحطاط. وكان من ثمار ذلك إعادة الربط بين الدين والحياة واستيعابه لثمار الحداثة دون أن يضحي بشيء من تعاليمه وقيمه، خلافاً للمنتظمات الدينية والثقافية الأخرى التي اخترقتها الحداثة واحتوتها. وكان من نتائج ذلك اندلاع حركات على امتداد عالم الإسلام لمقاومة الاحتلال حتى اضطرت دول الاحتلال إلى الانسحاب مدحورة وما بقيت غير بقاع محدودة من عالم الإسلام تحت الاحتلال لا تفتأ ضربات الجهاد تلاحقه وتدخل عليه الرعب وتوقع فيه أشد الخسائر رغم تفوقه المادي. وهاهي صحوة عارمة تخترق عالم الإسلام وحيثما وجد مسلمون؛ مناضلة من أجل إصلاح أنظمة حكم تابعة فاسدة تمثل الخارج أكثر مما تمثل شعوبها صحة تبغي استرجاع دولة اغتربت وتحرير إرادة شعبية قهرت. الثابت اليوم أن الإسلام قد أمكن له أن يهمش في كل أقطاره مذاهب العلمانية وألجأها إلى الاحتماء بعنف الدولة والظهير الخارجي للبقاء. الثابت أن الأجيال الجديدة في عالم الإسلام أحسن إسلاماً من سالفاتها منذ قرون بما لا يرتاب معه دارس جاد أن جيل المستقبل في عالم الإسلام على كل المستويات بما في ذلك مستوى الحكم، إسلامي بإذن الله.. ومن مؤشرات ذلك حمل الإسلام لأنبل الرايات مثل راية الجهاد لتحرير فلسطين والعراق وحمل راية الحرية والديمقراطية والدفاع عن المستضعفين ومقاومة الفساد والتبشير باستعادة وحدة الأمة المغدورة، وذلك عبر تعميق وتوسيع مشروع الإصلاح فلا يقف عند المستوى الفكري العقدي والتربوي وتعبئة الأمة ضد الاحتلال الخارجي وهي منطلقاته الأساسية بل هو قد عمل فيها تعميقاً وتوسيعاً وامتد بها إلى كل المستويات الاجتماعية وكل مؤسسات المجتمع المدني وعلى امتداد العالم.

خذ على سبيل المثال ما أنجزه على مستوى الطبقة الوسطى عبر نقاباتها: الأطباء والمهندسون والمحامون والصحفيون.. إلخ، من اختراقات هائلة فضلاً عن فئة الشباب والنساء، فضلاً عن إنجازاته المتفوقة في خدمة المجتمع عبر الانتشار الواسع في مؤسسات المجتمع الأهلي مثل الجمعيات الخيرية والمدارس والنوادي الرياضية. ولولا كوابح الدكتاتورية وحواجزها وما تلقاه من دعم خارجي غير محدود، لفاضت سيوله على السهل والوعر. الثابت أيضاً أن الإسلام لأول مرة في التاريخ يغدو بالجغرافية عالمياً فهو أسرع الديانات انتشاراً ولأول مرة يصبح تناول الإسلام في الصحافة الغربية جزءاً من صفحاتها الداخلية ولن يمضي زمن بعيد حتى تنمو مشاركته على كل صعيد. ولن يمضي زمن بعيد حتى يقتنع الغرب بدءاً بالأمم الأكثر برغماتية مثل الأمريكان والإنكليز أنه لا سبيل لضمان المصالح الغربية في عالم الإسلام دون قبول بشراكة إسلامية مع الإسلام وأمته وتخلٍّ عن فكرة المركزية الغربية أو أمركة العالم أي القبول بدل ذلك بتعددية حضارية، وذلك من خلال التعامل مع التيار الوسطي في الحركة الإسلامية اقتناعاً وقبولاً بدور للإسلام في تحديد السياسات الدولية بعد قرن أو يزيد من التهميش. وهل يعد كل ذلك فشلاً؟

    • قد يكون إذا لم نأخذ بعين الاعتبار ميزان القوة الدولي المستمر ميلانه منذ قرنين لصالح القوى الغربية، ولكنه يتحول تدريجاً لصالح الإسلام وأهله وفي اتجاه عالم متعدد على أنقاض المركزية الغربية. إن النصر أي تحقيق الأهداف قابل للتجزئة فيمكن تحقيقه بالنقاط أي التقدم التدريجي صوبه وليس فقط بالضربة الحاسمة.. فهل ما ذكر من نقاط قليل حتى لا يبقى في قاموس خطابنا غير الحديث عن الفشل اللهم إلا في اعتبار بعضهم أن مقياس النجاح هو مدى تحقق القطيعة بين الدين والحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية للأمة على غرار ما يعتقد أنه سبب نهوض الغرب، إذا كان الأمر كذلك فحقيق عليهم إدمان الصراخ صبحاً وعشياً بفشل الأمة. أو أن يعدَّ مقياس نجاح المشروع الإسلامي في الحصول على الدولة أو النجاح في إدارتها.مع أن هذا الهدف ليس أعز مطالب الحركة الإسلامية زمن اختلال موازين القوة لصالح خصوم الإسلام، وهو ما يفسر جزئياً على الأقل تعثر تجارب الحكم الإسلامي (إيران) أو فشلها الذريع (السودان) والحقيقة أن جوهر المشروع ليس سياسياً هو الدولة وإنما هو فكري اجتماعي تربوي متجه أساساً إلى الفرد وإلى المجتمع وإلى الناس كافة وعلى أساس ما ينجزه في هذه الصعيد يقاس نجاحه أو فشله، وهو ما يجعل الحرية والعدالة على رأس مطالبه بحسبانهما قيمة أساسية في الإسلام ومدخلاً لا بديل عنه لكل إصلاح. وما أحسب أنها قليلة على هذا الصعيد منجزات المشروع الإسلامي وذلك رغم استمرار العوائق الخارجية أساساً وعلى رأسها دولة الاستبداد نقطة الضعف الأولى في بنية الأمة اليوم، وما تستظهر به على الأمة من قوى خارجية، على رأسها اليوم الكيان الصهيوني وحماته الغربيون وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، ثم العوائق الداخلية عائق التجزئة، وعوائق فكر التغريب وفكر الانحطاط ومن هذا الأخير قلة رسوخ فكر الحرية والتعددية في موروثنا بما يجعل التوصل صعباً إلى الإجماع الضروري لكل اجتماع وكل تغيير وكذا إدارة الحوار والتعامل مع الاختلاف سلمياً بحثاً عن المشترك. وما حصل بين الجماعات الأفغانية الجهادية المنتصرة من تقاتل استكمل تدمير البلاد وأسلمها لأشد عناصر الإسلام تخلفاً (طالبان) الذين انتهوا بحماقاتهم إلى توجيه الدعوة إلى الأمريكان إلى احتلال البلد بديلاً عن الاتحاد السوفياتي. وليس بعيداً من ذلك ما انتهى إليه أهل المشروع الإسلامي في السودان من تنازع ذهب بريحهم ودفعهم إلى التسابق على الاستظهار على بعضهم بعضاً بالتمرد وبالخارج، كل ذلك ثمرة لهزال بضاعتنا في ثقافة الحرية والتعددية وفن إدارة الاختلاف سلمياً وهو ما نجح فيه الغرب بعد عصور من الفتن والتقاتل فطفق يتقدم بثبات صوب الإجماع متجاوزاً صارفاً الأنظار عن مواطن الاختلاف يهملها مرة ويدعها لعامل الزمن يعالجها مرةً أخرى؛ بينما يحرن قومنا عند كل نقطة اختلاف فتتضخم عندهم حتى تعشي أبصارهم عن ساحات الوفاق الفسيحة. لا بد من تأكيد الشورى أساساً لكل نهوض وضبطها بآليات الديمقراطية الحديثة والعمل فيها تطويراً عبر الممارسة.
  • وكيف نفهم الصحوة الإسلامية ضمن هذه الرؤية؟

مع ما قلته فالثابت أن الأمة تتقدم وتقوى رغم أن الدولة فيها تزداد ضعفاً وخواء من الشرعية وتعويلاً أكثر على العنف مصدراً للشرعية معززاً بالظهير الخارجي. الإسلام واقع اليوم رغم استمرار نقاط الضعف الداخلي والعوائق الخارجية على سلم تاريخي صاعد بينما مذاهب العلمنة في حالة ذبول وشيخوخة. رغم أنها في سدة الحكم على الصعيد العالمي بينما الإسلام في المعارضة، ولكنه المعارضة الرئيسية، وستعمل سنة التداول عملها. قال تعالى: وَتِلْكَ الأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ{3/140:9-13} وهو تداول لا يعني الإلغاء ولكنه استيعاب لما هناك من كسب وتشكيله في صيغ حضارية جديدة تتكفل بحل مشكلات مستعصية وضخ دماء جديدة في جسم الحضارة العالمية. " لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (*) بِنَصْرِ اللَّهِ "{30/4:4+، 30/5:1-2}.

من جهة العقيدة يؤمن المسلمون بأن رسالة النبي عليه السلام تعبر عن كلمة الله سبحانه الأخيرة إلى البشرية، وأن الله سبحانه تعهد بحفظ هذا الدين، تعهده بحفظ نظام الكون الذي يستمر ما استمر هذا الدين ويزدهر ما ازدهر، فإذا انصرف الناس عنه كان ذلك من أهم أمارات الساعة وانخرام نظام الكون، لأن الله سبحانه إنما خلق الكون ليكون تجلياً لأسمائه الحسنى لقدرته وجلاله وجماله لعدله ورحمته ومراداته كما جاءت بها شرائعه وعهد بها إلى خلفائه قياماً بها وحراسة لها، فإذا أعرض الناس عنها ظِهْرِيّاً واستسلم الحراس وانتهت المقاومة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وساد الشر دون منازع، فقد انتفت الحكمة من خلق هذا النظام الكوني العجيب واستمراره، فآذنت شمسه بالمغيب.وإذن نحن مطمئنون على مستقبل الإسلام ما دام هناك ليل ونهار وشمس وقمر وتزاوج وإنجاب:" إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ"{15/9:1-7}، "وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ"{37/173:1-4}.

ذلك في مجال الاعتقاد، في عالم الغيب. أما في مجال عالم الشهادة عالم الأسباب فعلى ما يوجد في طريق الإسلام المعاصر ودعاته من أشواك وطغاةٍ ومكايد وحملات استئصال تشيب لهولها الولدان، تضربه على قوس واحدة، تشدها وترمي بها دول ملأت أساطيلها البحار والأجواء والبراري وخرت أمامها صريعة إمبراطوريات عظمى: الفاشية والنازية واليابانية والشيوعية. ومع أن أمة الإسلام تعيش حالة يتم وتمزق بسبب انهيار آخر دولة تحدثت باسمها، فتفرق بعدها الشمل بل أنكى من ذلك تم اختراق دوله ومجتمعاته من قبل أعدائه فاجتمع عليه كيد الخارج مع كيد طائفة من أبنائه نخباً وحكاماً تولى العديد منها التنكر لمبادئ الإسلام بأثر ما تعرض له من غزو ثقافي وتخريب عقدي أو تزلفاً للأجنبي المتغلب، فطفق يخطط لتجفيف ينابيعه واستهداف دعاته بالاستئصال فامتلأت بهم السجون والمنافي وفرض عليهم الحصار وكمُّ الأفواه والتمييز الصريح ضدهم حتى نطق أكثر من دستور لـ«دولة إسلامية» بحظر قيام حزب على أساس الإسلام، وبمفهوم المخالفة أن كل فكرة أخرى يمكن أن ينهض على أساسها حزب لخدمتها إلا هذا اليتيم؛ رغم أنه هو المالك الأصلي للدار فيحرم حتى من غرفة فيه ومن الحركة داخله.

ومع كل ذلك الكيد والاستهداف - وربما على نحو ما بسببه - فالثابت بالوقائع المشهودة أن الإسلام في هذه الأزمنة من التغلب الغربي لم يحقق بقاءه وحسب - بل هو يتقدم بثبات وسرعة تحت القصف إن على مستوى الكمِّ أو على مستوى الكيف. جغرافية الإسلام اتسعت وتتسع أكثر من أي فترة تاريخية سابقة: فهو من جهة استردّ بلاداً واسعة تمتد ملايين الأميال يعيش عليها عشرات الملايين كان الإلحاد قد اقتطعها واقتطعهم من دار الإسلام، هم اليوم قد عادوا وهم منشغلون بنفض الغبار عن مساجدهم واسترجاع أوقافهم ومدارسهم وربط أسبابهم بدار الإسلام رغم الكيد الغربي الذي مد يد العون سخية للحرس الشيوعي القديم حتى ولو أرسى جمهوريات ملكية يورِّثها لأبنائه بينما الغرب لا يفتأ خارج المنطقة الإسلامية من الجمهوريات الشيوعية السابقة يمارس كل أسباب الضغط والدفع للإطاحة ببقايا الشيوعية في تلك الجمهوريات..من بولونية إلى أوكرانية.

وعلى الصعيد الجغرافي أيضاً فان للإسلام المعاصر عوالمَه الجديدة الممتدة في كل أرجاء المعمورة من الأمريكتين إلى أوربة وعبر كل القارات. وهو بصدد التفاعل مع عوالمه الجديدة أخذاً وعطاءً باذلاً إسهامه في تنميتها وازدهارها وخيرها، لا يعكر صفوه ويعرقل سيره غير فكر وأعمال التطرف والإرهاب الصادرة عن بعض أهل تلك البلاد المتعصبين أو عن بعض أبناء الإسلام الجاهلين. ولكن الإسلام ماض في تأصيل جذوره في عوالمه الجديدة وتطوير ثقافة إسلامية تتناغم مع خصوصيات تلك البلاد كما طور من قبل ثقافات إسلامية عربية وفارسية وهندية ومالاوية..

أما على صعيد الكيف فقد أمكن للمسلمين أن يكسبوا في إيمانهم خيراً بعد قرنين من الإصلاح عوداً إلى الجذور متجاوزين سجون الانحطاط محررين – إلى حد معقول متزايد دينهم، من أسرها وآصارها، مميزين بينها وبين أصول الدين، بما حوّلها إلى مجرد تراث وحقل تجارب يستفاد منه دون أن يرتقي إلى منزلة السلطة المرجعية التي تحل محل النصوص الأصلية - كما كان عليه الأمر لعصور مديدة حكماً عليها والعياذ بالله، وهي عملية بدأت منذ قرنين على الأقل ومستمرة وفي سياقها تحرر العقل المسلم من كثير من الأوهام وعاد يمارس الاجتهاد فيتحرر من كثير من الخرافات والأوهام ويستعيد دوره في إجراء الحوار والتفاعل بين الوحي ومشكلات الواقع بحثاً لها عن حلول جديدة مستفيداً من تراثنا ومقتبساً من كسب الحضارة المعاصرة فيما يتساوق مع مقاصد الإسلام، وهكذا تمت في الإسلام عملية مهمة جدا لم تتم في دين آخر- كما أسلفنا- أعني تم له استيعاب الحداثة الغربية المعاصرة على شروطه وليس على شروطها فاستخدمها لضخّ دماء جديدة في عقول وحياة أهله دون بذل المقابل الذي طلبه الغربيون والمتغربون ولا يزالون وهو الإقدام على إجراء جراحات في بنية الإسلام حتى يتلاءم والحداثة العلمانية وهو ما تحمست له نخب وحكام أمثال بورقيبة وشاه ايران وطه حسين ومن سار على دربهم المهلك.

ومن ثمار هذه العملية التاريخية المهمة جداً التي أنجزها الإصلاح الإسلامي أعني احتواء الإسلام للحداثة بشروطه ولمصلحته، هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي تعمر الأمة من أقصاها إلى أقصاها وبالخصوص قطاعات التعليم حيث يهيمن القطاع الطلابي الإسلامي على كل الكليات في بلاد الإسلام وحيث يوجد مسلمون يتمتعون بنَفَسٍ من الحرية، وانعكس ذلك في النقابات المهنية للمهندسين والأطباء والمحامين والصيادلة وأساتذة الجامعات والصحفيين وحتى للجمعيات النَّسوية.

ومن آثار هذه العملية التاريخية المهمة التنامي المتواصل لمعالم الحياة الإسلامية، فكانت كلمة التوحيد التي تم تحرير أقدار مما تتوافر عليه من طاقات خلاقة مثل خلية أولى تحمل مشروعاً متكاملاً لبنية عضوية متقدمة جداً لا تني تفصح عنها بالتدريج، فكان من ثمار ذلك ثورة التحرير التي عمّت عالم الإسلام :جهاداً تصدى للجيوش الغازية حتى لاذت بالفرار، ولا يزال يطارد ما تبقى حتى تولي الأدبار تجرر أذيال الخزي في أثر أسلافها.

ومن ثماره تلك العملية التاريخية المهمة وهي تحريك آلة الاجتهاد المعطلة منذ عصور،اجتهاد أصّل لمكانة العلم في دين الإسلام وللتربية الحديثة وللنشاط الاقتصادي بعدِّهِ جزءاً من عبادة المسلم وللفنون الجميلة ولحقوق الإنسان وللحرية والديمقراطية ولدور المرأة شقيقة للرجل. وبذلك توالى بروز معالم الحياة الإسلامية في هذا العصر في مجالات كثيرة منها المجال الاقتصادي ففرض مفهوم الاقتصاد الإسلامي شخصيته المتميزة مقابل الاقتصاد التقليدي الرأسمالي فامتدت سلسلة واسعة من البنوك والشركات الإسلامية التي تلتزم بضوابط الشريعة وبلغ نجاحها حد أن غدت كبريات البنوك الغربية مثل سيتي بانك وباركليز تفتح لها فروعاً تتعامل بالشريعة الإسلامية وكان أحدثها البنك الإسلامي البريطاني خطوة كبرى، وانعقدت له المؤتمرات العلمية والندوات الدراسية بل قد فتحت جامعات غربية مثل لافبارة في إنكلترة كلية لدراسة الاقتصاد الإسلامي، بعدِّه ركناً في نظام الحياة الإسلامية، والدولةِ في الإسلام التي لا تزال الدراسات والتجارب في مجالها من أجل بلورتها تُجرى إن على الصعيد النظري أو على الصعيد التطبيقي.. ومن ذلك دراسات وتجارب في مجال السياسات الإسلامية في شكل برامج لأحزاب إسلامية أو نقابات أو جمعيات خيرية أو مدارس إسلامية أو بحوث وفقه مقارن بين النظريات الإسلامية في الشورى مثلاً والديمقراطية وفي مجال حقوق الإنسان.. ومن ذلك ظهور معالم أخرى للحياة الإسلامية في مجال الأدب والفنون مثل الرابطة العالمية للأدب الإسلامي ومن مثل تطوير الزي الإسلامي للمرأة الذي هو صورة معاصرة تجسم قيم الإسلام في الحشمة متفاعلة مع ما اقتضته الحياة المعاصرة من مشاركة واسعة للمرأة في المجال العام.

ولقد أمكن للأحزاب الإسلامية أن تحقق أقداراً غير قليلة من النجاح إن على صعيد تعبئة أوسع القطاعات الجماهيرية وراء قضايا الأمة الكبرى في العدل والحرية ومناصرة ضحايا العدوان الدولي على شعوب إسلامية والوقوف إلى جانب المقاومة فيها مثل قضية فلسطين والبوسنة والشيشان وكشمير والعراق؛ أو في مجال التصدي لأنظمة القهر والاستبداد مناصَرة لحقوق الإنسان والتعاون في ذلك مع سائر القوى الوطنية والتحررية في العالم من مثل الحركة العالمية لمناهضة للعولمة. وبرهنت الأحزاب الإسلامية ونوابها في البرلمانات على مدى ما تتوافر عليه هذه الجماعات من مستوى عال من المبدئية والواقعية في الآن ذاته. وحتى عندما حكمت هذه الأحزاب وأزيحت عن الحكم مثل حزب الرفاه لم تستنفر الجماهير إلى الجهاد المسلح مسفهة ما اتهمت به من توظيف للديمقراطية مجرد توظيف لتزيحها جانباً بمجرد الوصول للسلطة، وسرعان ما عادت إلى الساحة عبر صناديق الاقتراع أقوى مما كانت بعد أن تعلمت من تجربتها وتشكلت في هيئات جديدة حاملة لبرامج واقعية متطورة، محمولة إلى الحكم على أجنحة آمال شعوبها في العزة والرفاه وطهارة الأيدي المتوضئة، ينطبق ذلك أيضاً على الأحزاب الإسلامية المشاركة في السلطة التشريعية وهو حال أغلبها من أندونيسية إلى الباكستان وبنغلاداش إلى المغرب مروراً بمصر واليمن والجزائر.. وكذا على الأحزاب المشاركة في الحكومات أيضاً وهي غير قليلة من أندونيسية إلى بنغلاداش والجزائر. عموماً يمكن القول إنَّ تجربتها قد أسهمت في تطويرها ذاتياً فجعلتها أكثر فقهاً بالواقع المحلي والدولي كما أسهمت في خدمة الإسلام وترسيخ التجربة الديمقراطية، وفوّتت على أعداء الإسلام فرصة دفعها إلى الصدام مع الحكومات مما تضررت منه التجربة الديمقراطية كثيراً، ولكن هذه المشاركات تبقى في عمومها جزئية وتظل الصورة العامة لوضع الإسلام بالقياس إلى معركته مع العلمانية ومقاومته للهيمنة الدولية: أنه في المعارضة المعترف بها أحياناً والمضطهدة إلى درجة السحق أحياناً أخرى.

  • وكيف ترى ممارسة الإسلاميين على صعيد الحكم ؟

عندما نأتي إلى ممارسة الإسلاميين على صعيد الحكم مستقلين به فتبرز أمامنا تجارب ثلاث: التجربة الأفغانية إن في عهد المجاهدين أو في عهد طالبان ورغم ظروفها الخاصة فهي في العموم شهادة ليست بحال لأصحابها ولا للإسلام وإنما شهادة مضادة وخصم من الحركة الإسلامية المعاصرة وليست بحال إضافة. والأسباب ليست بالغة الخفاء وتتمثل أساساً إضافة إلى المعوقات الخارجية في:

أ- طبيعة الساحة التي تحرك فيها الإسلام هنا وهي ساحة تتسم بالتمزق القبلي والطائفي والتخلف الاجتماعي والثقافي، ولم تكن التشكيلات الحزبية التي حكمت في المحصلة غير نتاج لطبيعة التخلف السائدة:فالمجاهدون انحاز كل منهم للعرق والقبيلة. حكمت يار للباشتون وشاه مسعود رحمه الله للطاجيك فكانت حرباً قبلية تغذيها القوى الدولية والإقليمية. الباكستان وراء حكمت يار والهند وروسية وراء شاه مسعود والشعب الأفغاني الضحية، فكانت إسلامية الفريقين غاية في القشرية. واستخدم الإسلام استخداماً توظيفياً، وأثبتا عجزاً فاضحاً في مستوى التدين وكذا في مستوى السياسة الحديثة إذ قد راهن كل منهما على الانفراد بالأمر جملة في مجتمع متعدد. لقد شهدا على عقم موروثنا في السياسة الإسلامية: العجز عن إدارة التعدد سلمياً والرهان على السيف سبيلاً لإلغاء التعدد.. وكان من عدل الله أن يسلط عليهما قوة تزيحهما معاً: جماعة طاليبان التي كانت عقائديتها أعمق منهما وكذا تفاعلها مع تراث البلد الديني فهم طلبة علوم دينية أي هم القيادة الدينية الشرعية في البلد ولذلك سهل عليهم اجتياح كل من وقف في وجههم، إلا أن مشروعهم كان غاية في البساطة إلى حد السذاجة بينما هم يتعاملون مع عالم معقد ومجتمع متعدد ومن وراء كل فريق مصالح إقليمية ودولية لم يلق لها طلبة العلم الديني الطيبون بالاً فكان مشروعهم: جمع البلد كله فوق نقطة واحدة هم يقفون عليها هي الإسلام كما صاغته العصور الخوالي ومن خلال رؤية مذهبية ضيقة ليس وراءها في معتقدهم إلا الضلال والكفر، وهو نهج شاذ عن سنة الله في خلقه: التعدد وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (*) إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ{11/118:1+، 11/119:1-6}. وهكذا سرعان ما تَصَرَّمَ الأمر فكثر أعداؤهم في الداخل والخارج بسبب ضيق أُفقهم وتصورهم لإسلام مستل من بطون أسفار كتبت في القرون الخوالي أحسنوا الظن في كفايتها لتنظيم دولة حديثة ولإدارة مجتمع معقد والتعامل مع تحديات عالم متربص ومتشابك. ومن ضيق أفقهم أن مشروعهم الإسلامي لا يكاد يتضمن شيئاً غير قائمة من المحظورات الخمر والميسر وحلق الذقون وشغل المرأة وتعليمها، حتى إذا أنجزوا ذلك لم يجدوا غير الفراغ فشنوا حرباً على الأحجار المنحوتة منذ القرون الخوالي في الجبال ومرت من عندها أجيال من المسلمين لم يفكر أحدهم في محاربتها. ومن بساطتهم وضيق أفقهم فتحهم البلاد لجماعات المجاهدين الذين لفظهم النظام الدولي بعد أن قضى وطره منهم وعقدوا معهم العهد، فلما طولبوا بتسليمهم لمعاقبتهم على ما اقترفوا تمسكوا بما قطعوا على أنفسهم من عهد فكانت نهايتهم، وكان حالهم شبيهاً بقوم مكثوا مئات السنين في كهفهم ثم غادروه وتمكنوا من دخولهم المدينة وفرضوا عليها حكمهم بحسب ما استقر في ثقافة القرون الغابرة. إن السنن غلابة ومنها سنة التطور وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً{71/14:1-3}.

أما التجربة الثانية فهي التجربة السودانية وفشلها الذريع أمر واقع، وهل يتوقع ممن فشل في إدارة الحوار في صلب جماعته توصلا معهم إلى وفاق يصدق فيه، أن ينجح في التوافق مع جماعات طالما أعلن عليها الجهاد ولم يدخر وسعاً في التعبئة ضدها وتضليلها وتخوينها والحلف جهاراً نهاراً أمام الملأ إنه لن يعيد تلك الأحزاب الطائفية؟ هل يتوقع ممن أسس مشروعه على استبعاد الآخرين والانفراد بالسلطة ونظّر لذلك ورتب عليه أمره أن يتراجع عن ذلك ويتحول إلى ديمقراطي يحترم حقوق الآخر ويفي بما يعاهد عليه؟

إن الفشل في هذه التجربة خلافاً لسابقتها مثير للغرابة وحتى للاستهجان رغم أن المشروع الإسلامي يتحرك هنا أيضاً في بيئة ممزقة في وطن لم يستكمل مقومات وجوده بعد بما جعل بنيان الدولة هشاً والالتفافاف حولها هينةً فليست هي محور الاجتماع وإنما القبيلة والطائفة واللون، ورغم أن شدة المكايد الدولية والإقليمية وتشابك المصالح وتصادمها، رغم ذلك فالثابت أن المشروع الإسلامي ولئن كانت له بعض إنجازات مثل توفقه في استغلال ثروة البترول رغم التعويق الأمريكي، ومثل توسيع دائرة التعليم وتعريبه، ومثل وقف زحف التمرد بل دحره في مواقع كثيرة، بما صنع توازناً معه أقنعه بضرورة التفاوض والرضى باقتسام البلد وإطفاء حريق لم يعد مقبولاً استمراره بجوار حقول للنفط واعدة تتعلق بها مصالح دولية ضغطت على الجميع لإطفاء الحريق والقبول بقسمة السلطة، بينما كان كل من التمرد وجماعة الإنقاذ طامعاً في الانفراد بالأمر كله. إلا أن النجاح المنجز في الاتفاق مع التمرد لاقتسام السلطة والثروة معه على أهميته لا يعني في المحصلة شيئاً حسماً للداء من أساسه ما استمر فشله في اقتسام السلطة مع بقية المكونات الرئيسية للبلد عبر الحوار والتفاوض توصلاً للإجماع الوطني. إن البلد اليوم أشد انقساماً من اليوم الذي استولى فيه الإنقاذ وكأن الجسم الوطني يتفجر من جميع أقطاره عنفاً وتمرداً على السلطة المركزية وقد استقر في ذهن جميع الفئات أن السلطة لا تفاوض إلا من يحمل السلاح حتى إن زعيم أكبر حزب بالبلد السيد الصادق المهدي هدد بحمل السلاح إذا لم يلق من الحكم ما يستحق، وهو ما يبدو أنه أغرى أيضاً جماعة المؤتمر الشعبي رفاق الدرب وقد أقصوا ولوحقوا بالطرد من الإدارات وتجريدهم من كل مركز قوة هم فيه من قبل إخوانهم متهمين بأنهم وراء فصائل من التمرد في دارفور، وقد يلامون إن هم فعلوا ذلك ولكنَّ للصاحب مقالاً.

هل تبرر الظروف الداخلية والخارجية الصعبة التي عمل فيه المشروع السوداني فشله؟ صعب أن يُلتمس لهذا الفريق من الإسلاميين ما يُلتمس لجماعة طالبان من الأعذار؟ لأن هذا الفريق لم يخرج لإدارة الدولة الحديثة من بطون التاريخ ومدارس التقليد الفقهي بل هو فريق حديث متخرج من جامعات حديثة مقدَّرة، مستوعب للعصر، تأسس على تصور إسلامي إصلاحي وليس تقليدياً.

ب- هو فريق تقلب في شؤون الإدارة والحكم وزراء وبرلمانيين ومدراء لشركات وبنوك، فكيف سولت لهم أنفسهم بعد أن نجحوا في الانقلاب على الآخرين بليل أن ينفردوا بحكم السودان وإلى الأبد مراهنين كأي جماعة من جماعات الحداثة العلمانية (وهم الإسلاميون) على الاستيلاء على الدولة والانفراد بها واستخدام مؤسساتها الحديثة في تفكيك بنية المجتمع بحسبانها متخلفة طائفية أنتجت كيانات سياسية طائفية تقليدية، فلتحل، وليخضع الشعب لمبضع الجراح الحداثي الإسلامي يفككه سبيلاً لإعادة تركيب هويته بحسب الأنموذج الذي نريد، وذلك عبر بسط التعليم على أوسع نطاق لا بتقدير العلم قيمة في ذاته أو سبيلاً للنمو وإنما أداة سياسية لتقويض بنية الكيانات التقليدية المنافسة رهاناً على صنع هوية جديدة للشعب. ذلك هو الرهان الأساسي لمؤسس المشروع الدكتور حسن الترابي الذي طالما شكا وردد تلاميذه شكواه من تغلغل الطائفية في بنية المجتمع السوداني مما جعل أحزاباً متخلفة في رأيهم مثل الاتحادي والأمة تعتصم بقواعد لها شعبية واسعة، فشلت حداثة الشيوعيين كحداثة الحركة الإسلامية في تقويضها اللهم إلا ما انتزعته منها عبر التعليم، فلتمتد الجامعات في كل أرجاء البلاد، وليستولي أبناء الحركة الإسلامية على كل مراكز القوة والنفوذ الأمني والعسكري والتعليمي والإعلامي والاقتصادي بخلفية تفكيك تلك البنية الاجتماعية المتخلفة سبيلاً لإعادة تشكيلها. إنه رهان كل صنوف الحداثات القومية والوطنية والشيوعية نفسه، رهان على الدولة محركاً للتغيير بخلفية احتقار وعي الشعب كما هو في الواقع ودمغه بالتخلف بالماضوية بالرجعية بالطائفية بما يسوِّغ إخضاعه للجراحات الضرورية، غير أن حسن الترابي ليس هو فقط رجل دولة حديثة تحتل الدولة مركز فكره مثل سائر الحداثيين ويسهل عليه تسويغ ما تقرره الدولة من جراحات على الجسم الاجتماعي المتخلف بما يقيم شبها بينه وبين ناصر وسوكارنو وبورقيبة وصدام والقذافي..إنه أيضاً حقوقي ومناضل من أجل الحرية ومن أجل المبادرات الفردية وسلطة مؤسسات المجتمع المدني والشورى والديمقراطية، وهو كلما اصطدم مشروعه الحداثي للدولة بعدّها محركاً أساسياً للتغيير بصعوبات حقيقية هنا أو هناك تذكر الجانب الآخر من شخصيته مدافعاً عن الحرية والشورى ومبادرات الفرد والمجتمع فيهم بالنهوض من كبوته ليصلح ما أثمر تدبيره ومشورته من مفاسد وإخلال ولكن يكون الوقت قد فات، فالدولة الحديثة ليست لعبة يستخدمها هذا أو ذاك ثم يلقي بها جانباً إنها كفيلة بصناعة رجالها المرتبطين بها مصيرياً والمستعدين لأن يفعلوا كل شيء من أجل استمرار سطوتها واستمرار المصالح الخاصة للرجال الذين ظنوا أنهم يوظفونها فوظفتهم. ولقد أحسن الترابي التعبير عن هذه الحقيقة في قناة الجزيرة إذ قال: «لقد أرسلنا رجالنا إلى الدولة لتوظيفها، فلما اختلفنا معها انحازوا إليها وتركونا».

لقد أدرك الترابي المأزق الذي قاد إليه مشروعه والمتمثل في تحويل مشروع إسلامي يبشر بالحرية والشورى ويقود حركة التجديد في الحركة الإسلامية المعاصرة في اتجاه التأصيل لسلطة الشورى والمؤسسة وسلطة المجتمع المدني، تحوّل ذلك المشروع إلى حكم سلطوي قامع وتحولتْ طائفة كبيرة من رجاله إلى رجال دولة في حكم مستبد يزاحم كثيرٌ منهم لنفسه ولأسرته على المشاريع التجارية والشركات والمناصب والمصالح ويبذلون ما وسعهم للاستئثار بالمناصب والمصالح لأنفسهم وعوائلهم وأبناء قبائلهم. لقد عزم على العود بمشروعه التجديدي إلى أصله وربما الوصول إلى غلق القوسين اللذين فتحهما الانقلاب والقبول بمشاركة الآخرين ضمن احترام آليات الحكم الديمقراطي المتعارفة فسن لذلك دستوراً لدولة تعددية تحترم فصل السلطات بل توزع فيها السلطات على نطاق واسع على الولايات فتكون لها برلماناتها المنتخبة وتنتخب حكامها وبدأ التداول حول هذا الدستور إلا أن القائمين على الدولة من تلاميذه أدركوا أن المشروع يتجه إلى سلبهم سلطاتهم المطلقة فرجوه إرجاء المشروع إلا أنه مضى إلى البرلمان الذي يرأسه مستهيناً بما غرست يداه فوجد أبواب البرلمان موصدة وأبواب السجن مفتحة تحتضنه. ذلك هو المشروع الإسلامي في السودان؛ هو امتداد لعجز أصيل في تاريخنا السياسي العجز عن إدارة الاختلاف سلمياً والمسارعة إلى سيف الحجاج، أو أدوات الدولة العنفية والاقصائية لإقصاء الآخر، ولم تشذ تجارب الحكم في بلاد العرب- خصوصاً - على اختلاف إيدولوجياتها من ليبرالية واشتراكية وإسلامية عن هذا النهج بما يؤكد استمرار فعل التاريخ فينا جميعاً بالمسارعة إلى نقل الاختلاف من مستواه السياسي- وكل منازعاتنا الكبرى كانت خلفياتها سياسية تنازعاً على السلطة- إلى ضرب من ضروب تكفير الآخر: فإذا كانت الثقافة الدينية هي السائدة فالمخالف ضال أو مبتدع أو كافر أو خارجي أو صاحب فتنة. وإذا كانت الثقافة السائدة ثقافة وطنية فهو خائن للوطن، وإذا سادت الثقافة التقدمية فهو رجعي عميل للإمبريالية.. وكل ذلك ضروب من التكفير تهرباً من مواجهة الحقيقة هي أن اختلافنا حول السلطة ولكن ليس بأدوات سياسية سلمية تعترف بالتعدد وبحقوق في الوطن متساوية وفي حق المشاركة في السلطة.

أما التجربة الثالثة للحكم الإسلامي المعاصر فهي التجربة التركية إن في عهد البرفسور نجم الدين أربكان مؤسس الحركة أو في عهد تلميذه أردوجان. ويمكن تناول هذه التجربة من خلال النقاط التالية لإلقاء أضواء عليها:

أ- ما مبرر عدِّ هذه التجربة إسلاميةً رغم أنها لم تحمل مثل كثير من أخواتها مشروع تطبيق الشريعة الإسلامية؟ إن إسلامية مشروع للحكم لا يتحدد بحجم ما يطبقه أو يدعو إلى تطبيقه من البرنامج الإسلامي، ذلك أن الإسلام ولئن كان منهج حياة شاملاً من حيث المبدأ فهو عند التطبيق يخضع لقانون الممكنلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها{2/286:1-6}. وفي الحديث: ((ما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم)) وإنما تتحدد إسلامية مشروع بما يعلم عن حَمَلَتِهِ مما يحملون من معتقدات وما يتربون عليه من قيم وأخلاق والتزامات وما ينسبون أنفسهم إليه من مذاهب وأيديولوجيات. والأمر- إذا نحن نأينا بأنفسنا عن الجدل العقيم- واقتربنا من العرف السياسي في كل بلد فقرأنا عناوينه البارزة دون تكلف فهو كفيل بأن يدلنا بوضوح وبكل يسر على تصنيف واضح متعارف عليه بين عامة الناس وخاصتهم؛ تصنيفٍ للأحزاب الرئيسية ونوعية الأيدلوجية القائمة عليها. وإذا أطلق اسم الحركة الإسلامية في مصر فسينصرف أولاً إلى الإخوان المسلمينوإذا أطلق في اليمن سينصرف إلى الإصلاح؛ وإذا أطلق في تونس فينصرف إلى النهضة؛ وإذا أطلق في تركية سينصرف إلى هذا التيار الذي ظل يتبلور منذ أربعين سنة على يد أربكان وتلاميذه ومن أشهرهم أردوجان؛ فهذه مدرسة متميزة في التيار الإسلامي عرفت من بين المنتظم الإسلامي التركي بمرجعيتها الإسلامية وهي تصرح بذلك ضمن السقوف التي تتحرك تحتها ومنها السقف العلماني فهي لا يسعها أن تتحدث عن الإسلام أكثر من كونه ثقافة وتراثاً. فهل تسلب عن أهلها الصفة الإسلامية مع ما عرفوا به وأوساطهم الأسرية من حرص على الالتزام بأخلاقيات الدين وشعائره وإيمانهم بمشروعه الشامل، ولم يعرف عن واحد منهم طرحه لنظرية في الإسلام تنكر جزءاً من شريعته وتنقل ممارستها الإسلامية المحدودة بسقف العلمانية إلى تنظير ينكر الشريعة بل يتخذها هزؤا، من ادعى ذلك فليأتنا بنص واحد صادر بيقين عن رمز من رموز هذا التيار. هل لأنهم لما حكموا فلم يطبقوا كل المشروع الإسلامي تسلب عنهم الصفة الإسلامية؛ ومن ذا الذي يقدر أصلاً على تطبيق الإسلام كله في زمن هذا الاستضعاف وهل كلفنا الرحمن الرحيم بما يرهقنا ويتجاوز ما نطيق؟ كلا. هل تسلب الصفة الإسلامية عن الزعيم البوسني عزت بوغوفيتش رحمه الله لأنه حكم فلم يطبق الشريعة؟.

ب- هل يعامل الطيب اردوجان وحزب العدالة بالتقدير نفسه الذي يعامل به أستاذه أربكان من حيث إنهما زعيمان إسلاميان؟ لا مسوغ للخوض في الخلافات التي لا تمس بجوهر المشروع الإسلامي والتي أفضت إلى انفصال غالبية الحزب عن المؤسس. إن انشقاقاً بهذا الحجم لا يمكن إلا أن تكون له مبررات موضوعية. ورغم أن قيمة الوحدة راسخة في قيم الإسلام وفي هوى كل مسلم إلا أن الاختلاف بين البشر سنة ثابتة وعلينا معشر المسلمين أن نروّض أنفسنا ترويضاً على النظر إلى الاختلاف على أنه سنة ثابتة وليس شذوذاً عن الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، وأنه إذا كانت الوحدة مطلوبة وهي الوجه الآخر للتوحيد فهي ليست تلك الوحدة البسيطة الصماء التي لا عوج فيها ولا أمتا؛ فذلك مما تفرد به المولى سبحانه أنه الواحد الأحد أي واحد من كل وجه بينما الوحدة التي انتدبنا إليها الشارع ولا بد أن نسعى إليها هي وحدة نسبية أي وحدة فيما نتفق عليه مع بقاء أوجه للاختلاف يعذر بعضنا بعضاً فيها ونتراحم فيها.

وطالما نقلنا موروثنا الفقير في ثقافة الاختلاف وإدارته سلمياً من الوحدة الصماء إلى التهاتر والقطيعة والاستنفار للتحارب كلما اختلفنا. ولو أننا تركنا اليوم جانباً ما يرمي رفقاء الدرب الإسلامي في تركية بالأمس بعضهم بعضاً وبالخصوص جماعة الأستاذ أربكان تلاميذَهم، وتفحصنا ملياً فروق السياسات التي سلكها الأستاذ بالأمس عندما حكم وقارناها بالتي ينتهجها التلميذ اليوم لوجدناهما في المحصلة يتحركان تحت السقوف نفسها: كلاهما التزم بثوابت السياسة التركية في الاقتصاد والعلاقات الدولية والإقليمية مثل العلاقة مع الحلف الأطلسي ومتابعة السير نحو أوربة والعلاقة مع الكيان الصهيوني، مع أنه يسجل للتلميذ نجاح أكبر في محاصرة العسكر بأوربة سواء تحقق مسعاها بالقبول بها أم استمرت المماطلة فقد تحسنت أوضاع حقوق الإنسان بما لا سابق له في أي عهد من عهود الجمهورية؛ وكفت أيدي العسكر إلى حد بعيد؛ وناور اردوجان مناورات ذكية نجَّت تركية من التورط في المستنقع العراقي ولأول مرة تبدي تركية عينا حمراء لإسرائيل فتسحب سفيرها احتجاجاً على فظائع الصهاينة في غزة، كما تحقق نمو معتبر في العلاقات التركية - العربية وبالخصوص مع سورية حتى طالبت تركية بالعضوية الشرفية في الجامعة العربية. أما الأداء الاقتصادي لهذا الفريق فهو محل إكبار. نحن إذن أمام مشروع إسلامي واحد يتحرك بذكاء ضمن المتاح لتحقيق أهداف الإسلام تدرجاً... ألم تتنزل شرائعه منجّمة؟

تقديرنا أن تجربة التطبيق الإسلامي في تركية في مستوى الدولة رغم سقطتها في الارتفاع بمستوى العلاقة مع الصهاينة بدل النزول بها إن لم يمكن قطعها مما لا يغتفر لهذا الفريق أن يأتي سياسة متحللاً من المبادئ في غير ضرورة قاهرة. ومع ذلك قد تعد التجربة التركية هي الأرشدَ بين التجارب الإسلامية الثلاث التي عرضناها باختصار.

وربما يعود السبب الرئيسي إلى أنها تحركت ضمن إطار منضبطِ مجال المغامرة والطموحاتُ فيه محدودة بما حد من الرغائب الثورية المجنحة والأخيلة الجامحة التي قد تغري المتربع على عرش السلطة في لحظات انفعال أن الشعب الذي بين يديه بل العالم من حوله صلصال يمكن لجهاز الدولة العتيد أن يعيد تشكيله كما يشاء؛ كما فعلت كل الثوريات التي مرت بالمنطقة ومنها الثورية السودانية الإسلامية؛ لكنها تكتشف وغالباً بعد الأوان أن هويات الشعوب تتأبى على جهاز الدولة مهما عتا أن يفككها؛ بل هي ترد الفعل فتزداد انغلاقا، هو قابل للتغيير ولكن ببطء شديد والعالم من باب أولى ولكن خُلق الإنسان من عجل وإن العالم من حولنا قابل للتغيير.

لم نعرض لتجربة تطبيق إسلامي أعقد هي التجربة الإسلامية في إيران فهي ذات خصوصية تحتاج إلى فسحة أكبر. غير أن من دروس هذه التجارب المستفادة أن التدرج في التطبيق الإسلامي بعد غربة طويلة أجدى وأن تمركز الجهد على إصلاح الإنسان ومؤسسات المجتمع أولى من التمركز حول الدولة وعدِّها أعزَّ مطالب الحركة الإسلامية، فأعز مطالب الإسلام وبالخصوص ضمن الظروف الدولية القائمة هو مطلب الحرية قيمةً إسلامية كبرى وبوابةً رئيسة لكل إصلاح. وخير من الانفراد بالحكم ولو كان ذلك مقدوراً عليه انتخابياً فالمشاركة فيه – إذا كان ولا بد منه- خير من تحمل مسؤوليته باستقلال. والله أعلم

  • ما هي بتقديرك الأسباب التي جعلت العالم الإسلامي يصل إلى هذا الوضع؟.

عوامل كثيرة خارجية وداخلية تراكمت تأثيراتها السلبية على أمة الإسلام أودت بها إلى هذا الحال من الضعف والتمزق صراعاً محتدماً لا هوادة فيه بين دولها وبين طوائفها وبين مذاهبها وبين نخبها القديمة والحديثة وبين شعوبها وحكامها..كل ذلك وهي تواجه حملات غربية متلاحقة منذ أزيد من قرنين بل منذ بدأ الهجوم المعاكس في معركة بواتيي.، لكنها بأثر عقيدتها لم تستسلم قط لميزان القوة الذي اختل لصالح الخارج بل ظلت تقاوم حتى في غياب كل من الوحدة السياسية الجامعة والإجماع الفكري والثقافي. ورغم أن النمو المعرفي والتطور التقني لدى أهل الضفة الأخرى ظل البون بينه وبين نظيره لدى المسلمين يتسع لصالح الطرف المقابل منذ القرن السادس عشر؛ فقد كان العامل الرئيسي في اختلال ميزان القوة هو العامل الخارجي ممثلاً في التفوق العسكري الذي أعانت عليه ظروف بيئية مثل التوافر على الثروات الغابية (الأخشاب الصلبة) المساعدة على تطور صناعة السفن العملاقة القادرة على عبور المحيطات وما أفضى إليه ذلك من كشوفات جغرافية لعوالم جديدة فاضت منها عليهم ثروات طائلة كان لها إسهامها المقَدّرُ في فرض الكساد على اقتصاديات عالم الإسلام، مقابل إحداث حركة تجارية وصناعية في الغرب مهدت لدخوله عصراً جديداً، عصرَ الثورة الصناعية والمجتمع الرأسمالي بأثر التراكم الهائل للثروات المنتهبة من العوالم الجديدة ومن شعوبها التي تعرضت للإبادة.

إن القوة العسكرية في البنية الغربية هي الرافعة الأساسية والقوة المحركة للعلم والتقنية والاختراع وهي كاسحة الثلوج من طريق الرأسمال الزاحف بحثاً عن الأسواق والمواد الأولوية وبالخصوص الطاقة. وذلك رغم ما يعطى عادة من أهمية مبالغ فيها لدور التنوير الفكري في صناعة النهضة الغربية، بما حرر من عقول من إسار الخرافة والدين الكنسي؛ وبما أشاع من قيم تحررية وما طور من أنظمة ديمقراطية وما صاغ وأقر من حقوق للإنسان كالمساواة بين الناس والمساواة بين الجنسين، مما يندرج تحت مسمى التحديث والنهضة والإصلاح.على أهمية تلك الأفكار والقيم والنظم إلا أنها لم تأتِ ثمرة لتأملات فلسفية أو تلبية ليقظة ضمير أخلاقي إنساني مضّه الإحساس بالظلم وترسخ فيه وهيمنت عليه قيم العدالة بقدر ما جاءت لتلبي مطالب التفوق العسكري والتوسع الرأسمالي، جاءت بعدّها تسوياتٍ لصراعات محتدمة ما أمكن حسمها داخلياً لصالح طرف واحد من الأطراف المتصارعة فكان لا بد من ترتيبات وتسويات سلمية، حملت مسمى النظام الديمقراطي،من أجل إزاحة العوائق من طريق انطلاق رأس المال.

ولا تبعد من ذلك كثيراً قصة حرية المرأة والاعتراف بحقوقها لم يكن المنطلق بحال إنسانياً بقدر ما كان مقتضى من مقتضيات التوسع الرأسمالي وتوفير يد عاملة رخيصة وبالخصوص خلال الحروب التي أخلت المصانع والإدارات من كثير من الرجال ممّن كان لابد من تعويضهم بالنساء، فكان لا بد من تحقير قيم العائلة ودور المرأة أُمّا وربة بيت، مقابل إيلاءِ قيمة عمل المرأة خارج البيت، وتركيز الأضواء حول جانب الأنوثة والإغراء من شخصيتها وتحويلها في المحصلة سلعة في السوق الرأسمالي الذي سلّع كل شيء،وتلك هي العلمانية الشاملة الترجمة القيمية والفلسفية والمجتمعية للمؤسسة الرأسمالية العملاقة ولآلتها العسكرية الفتاكة التي أمكن لها أن تعمل في الأمم والحضارات والديانات إبادة إن أمكن أو تفكيكاً واحتواء، وقطعت في ذلك أشواطاً بعيدة تغريباً للعالم أو أمركة له، إلا أن الإسلام أبدى ولا يزال استعصاء يتفاقم؛ إنهم يقولون؛ في وجه الحداثة والحقيقة أن استعصاءه ليس في وجه الحداثة بما هي علوم وتقنيات ومعارف ثابتة فقد أمكن لحركاته الإصلاحية منذ قرنين أن تحتوي كل ذلك ضمن قيم الإسلام وبشروطه ولخدمته، وإنما استعصاؤه هو أساساً في وجه آلته العسكرية الفتاكة وما يتقدمها من أضواء تعشي الأبصار لتسويغها والتمهيد لها: فلسفات وقيم مادية تحوسل الإنسان بتعبير «المسيري» أي تحوله إلى مجرد وسيلة أي مادة استعمالية.

إن قوة الإسلام الروحية المتعاظمة تمثل اليوم بعد إزاحة العقبة الشيوعية عنصراً أساسياً في استعادة شيء من التوازن الدولي المختل والحؤول والدولة العظمى أن تعلن نفسها إلها لا يُسأل عما يفعل ولا رادَّ لقضائه، وذلك رغم ما يطفو على السطح من أشكال عشوائية لمقاومة تُعزى للإسلام رغم تجافيها عن قيمه وغلبة الرد الغضبي الغريزي عليها؛ المصطبغِ بصبغة وقيم ومنطق القوة التي ينازلها منطق الغاية تبرر الوسيلة مما لا يقره الإسلام بل يسيء إلى الإسلام.

غير أن الثابت أنه مقابل تنامي وتسارع العود إلى الإسلام واكتشافه والالتزام به وانسياحه في العالم، هناك تراجع للحلم الغربي في الرهان على سعادة دنيوية يصنعها عقل أرضي مستغن ومنقطع عن السماء،أعلن في صلف عن موت الإله، بما يعني طموحاً إلى الحلول في المنزلة نفسها إلا أن ما حدث ليس غير سيادة نسبية القيم وتعويمها وماديتها فما يبقى من قيمة لغير المال والربح والقوة واللذة وسلطة الدولة خادماً للرأسمال في المستوى المحلي وفي العلاقات الدولية. وكل ذلك ثمرة لنهج في الإصلاح أطاح بأسس القيم والمعايير المستمدة من الدين.

بينما أحد وجوه الصراع في عالم الإسلام تدور باحتدام حول الإسلام ذاته: هل يتم الإصلاح في نطاقه وبمقاييسه تأسيساً على قواعد الاجتهاد كما هي مقررة في أصول الفقه، وهو نهج الإسلاميين على اختلافاتهم؟ أم يجب أن ينطلق متحرراً من كل توجيه إلهي، حتى ولو أدى ذلك إلى إصلاح الإسلام ذاته وإخضاعه لسلسلة من العمليات الجراحية تحت مسمى الاجتهاد والإصلاح والتطوير والتحديث، وذلك على خلفية الأنموذج الغربي الذي يجب أن يستلهم بل أن يحاكى في حلوه ومره؟ إن ذلك لا يعني بحال أن مهمة الإصلاحيين الإسلاميين قد استنفدت أغراضها فلا يزال قطاع واسع من المسلمين حتى من خاصتهم مشدوداً إلى مدارس تراثية معيقة لكل تقدم وإصلاح سواء أكانت تُعزى إلى تشدد سلفي يستبيح دماء المخالفين مسلمين وغير مسلمين، أم كانت تنتمي إلى مذاهب أغنوصية غارقة في الخرافة ضاربة في التيه؟

إن غياب المرجعية الإسلامية بأثر حركة التحديث التي فككت المؤسسات العلمائية وما كان يدعم استقلالها من وقف، وذلك لصالح المركزية المطلقة للدولة الحديثة، خلَّف وراءه قدراً من الفوضى في جمهرة المسلمين ونوعاً من اليتم، وهو ما فاقم حالة الضعف والفوضى واقتضى البحث عن بدائل تمثلت في الحركات الإسلامية والجمعيات الخيرية التي لا تزال تصارع من أجل البقاء سلطةَ الدولة المركزية المتغولة المدعومة بقوى الهيمنة الدولية، وذلك رغم بدايات مبشرة بتباين المصالح بين الطرف الدولي وحاميه المحلي.

في ظل هذه الأوضاع ما هي أولويات المفكر الإسلامي، ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟..

  • في خضم التغيرات الكاسحة ما هي الثوابت؟

الحركة وما في معناها - من ألفاظ استخدمها القرآن الكريم - مثل التغير والتطور والتحول والتبدل والتداول والتقلب والانقلاب والتدافع، سنة من سنن الله في الأكوان والمجتمعات تقوم بوظيفة حفظهما من الفساد مثلما يحفظ المد والجزر البحار والمياه عامة من التعفن وانقلاب وظيفتها من عامل إصلاح ونفع عميم إلى عامل هلاك وفساد ذميم. ولقد قدم القرآن صورة عن كون وعن تاريخ بشر في حالة حركة لا تهدأ.. أمم تدركها فضائل بأثر من نبوة أو حكمة فتصعد على ركح التاريخ وتسود بما غلب عليها من عدل ونشاط ثم لا تلبث أن يتخللها الفساد والظلم فإذا لم تدركها مقاومة ناجعة فاستفحلا حتى غلبا عليها سلط الله عليها من يدفعها عنوة فيزيحها عن مقام الإمامة والغلبة لتحل أمة أخرى محلها قد تهيأت بالفضائل وخصائص القوة لتتبوأ موقع الزعامة وهكذا دواليك.. وهذه سحائب لواقح بالخير تسوقها الرياح فتنزل مدراراً على أرض عطشى جدباء فتهتز وتربو نباتاً طرياً لا يلبث أن يزهو ويزهر ويؤتي ثماره ثم يصفرّ فتراه حطاماً تذروه الرياح، وتلك نطفة يحركها تجاذب بين جنسين فيكون لها لقاء خصيب لتمضي إثره في مسار معلوم إلى مستقر لها في قرار مكين في رحم أنثى، فتنخرط في خطة مرسومة لتتحول علقة ثم مضغة فعظاماً تكسى لحماً، ثم تنفخ فيها الروح، حتى إذا استكملت نماءها تحركت صوب عالم الناس محاطة وهي الواهنة بفيوض من عواطف الحب والشفقة ترعاها السنين الطوال حتى تبلغ أشدها، وتنهض بدورها، ثم من بعد قوة يدب فيها الضعف ولا يزال بها حتى يأذن الخلاق بانتقالها إلى الحياة البرزخية في انتظار يوم الحساب.

وعبادات الإسلام ذاتها جمعت بين التأمل الفكري والاستغراق الروحي وبين حركة الجسد في المكان: فركن الصلاة الأول النية بمعنى تجريد القصد لله..

وجوهرها الدعاء والتضرع للخلاق ولي النعم، وما تبقّى فحركة، من تلاوة وركوع وسجود وقيام وجلوس وتشهد وسلام كلها حركات للجسم مع الحرص على دوام الشهود في الحضرة العلية.. وهكذا الأمر في بقية فروض الديانة؛ فقد جمعت بين العبادة المادية والعبادة الروحية ويتجلى ذلك أوضح ما يتجلى في الحج حيث تبلغ الحركة حد الهرولة، وحيث يفرض على المؤمن ولو مرة واحدة في العمر أن يتمرد على السكون والقرار في المكان والإخلاد إليه، فيخرج وجوباً من بلده ومألوفاته قاطعاً البراري والبحار أو الأجواء ليطوف (ليتحرك) حول البيت العتيق ويسعى بين الصفا والمروة ويظل متنقلاً من مكان إلى آخر طوال الحج حتى عودته إلى بلاده بما يجعل السير في الأرض والسياحة فيها فريضة من فرائض الإسلام لها مقاصد دينية من مثل التوبة والإنابة عوداً بالفطرة وبالدين إلى أصلهما، كما له غايات إنسانية مثل التعارف وهو مقصد من مقاصد الخلق وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا{49/13:8-11} الممتحنة. وله مقاصد معرفية علمية: التأمل في ملكوت الله والتعرف على أحوال الأمم الحاضرة والغابرة. وله مقاصد تجارية. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ{2/198:1-8}، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ{67/15:7-12}، وله مقاصد خلقية دينية: الاتعاظ والاعتبار بأحوال الأمم البائدة وما حل بها من سخط الله بسبب الكفر والظلم. ولكل ذلك تكررت في القرآن الدعوة الملحاحة إلى السير في الأرض قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ{30/42:1-4}، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ{40/82:1-4}. وتيسيراً لهذا المقصد يسّر الشارع الحكيم على المستجيبين لندائه إلى السفر والتمرد على السجن في المكان طلباً لتجارة أو سياحة أو لعلم ودعوة، فسنّ لهم تخفيف العبادات بالتشطير والجمع كالصلوات أو بإرجائها جملة مثل الصوم..

ولقد أثمرت هذه الدعوة في أجيال الأمة الأولى ثماراً عظيماً فكان من أبناء الصحراء من جيل الصحابة من سار في الأرض مجاهداً داعياً حتى دفن تحت جدار القسطنطينية ومنهم من سار فاتحاً أو تاجراً حتى أدركته المنية تحت جدار الصين، ولا تكاد تخلو دار للإسلام اليوم من ضريح لصحابي أو صحابية حتى جزر البحر وصلها ابن الصحراء أو بنت الصحراء مثل الصحابية أم حرام دفينة جزيرة قبرص. فكانت الفتوحات ثمرة من ثمار هذه الدعوة إلى الحركة والسير في الأرض تمرداً على سجن المكان والإخلاد إلى الأرض. وكان من ذلك الرحالون العظام الذين كانوا الإرهاص لحركة الاكتشافات التي تابعها الرواد الأوربيون كشفاً لمجاهيل المعمورة والتي أفضت إلى كشف الأمريكتين وأسترالية ونيوزيلندة ومجاهل إفريقية. والشواهد كثيرة على أن المسلمين كانوا الرواد الأول ومؤذني الفجر الأول للحضارة المعاصرة التي بدأت بالاكتشافات الجغرافية التي مكنت الغربيين نهاية من الاستيلاء على ثروات قارات بكر راكموها فانطلقت منها الثورة الصناعية والاقتصاد الرأسمالي.

ولقد كان من بين الرواد العرب الرحالان الإدريسي وابن بطوطة وابن فضالة الذي دون رحلته إلى بلاد الشمال الأوربي فكانت وقائع رحلته العجيبة كما دونها أهم الوثائق المؤرخة لتك العصور وأنماط حياة أهلها (القرن العاشر). وكان من ثمار الدعوة للحركة والسير في الأرض توسع حركة التجارة وصناعة السفن وخوض لجج البحر وتطوير الخرائط الجغرافية وأدوات ضبط المكان والاتجاه. وبأثر ذلك، ظلت لقرون طويلة حتى القرن الثامن عشر أساطيل المسلمين مسيطرة على خطوط التجارة العالمية براً وبحراً ومنها التجارة في البحر المتوسط مثلاً، وأمكن للتجار المسلمين أن يمتدوا إلى سواحل إفريقية وإلى شرق آسية حتى جزر جاوة وسومطرة واستوطنوا تلك البلاد وتزاوجوا ونشروا دينهم ولغتهم وحضارتهم، فكان أثر التجارة في نشر الإسلام رابياً أثر الجيوش؛ بل إن ما فتحته التجارة للإسلام من بلاد استقر فيها ولم يتزحزح عنها؛ أمّا ما فتحته الجيوش فإنه ما أصابها الضعف حتى تراجع الإسلام معها (الأندلس)، وكل ذلك يجعل الحركة في الأكوان والأنفس والتاريخ أساس الحضارة وجوهرها الأساسي مقابل السكون والخمول والانحباس في المكان وفي الفكر أي التقليد وعبادة الأسلاف أو موروثاتهم وتأليه الحكام بتجريم نقدهم بديلاً عما فرضه الإسلام من مراقبتهم وأمرهم ونهيهم وفرض تغيير منكراتهم عليهم لإصلاحهم، وصرفهم من الخدمة إذا هم استكبروا وعتوا بتقدير ذلك ليس حقاً على المسلم بل واجب؛ فالأمة هي المستخلفة وصاحبة السلطة نيابة عن الله وما الحاكم إلا أجير عندها يعمل لها بعقد وشروط إذا تنكب عنها وجبت إعادته إلى جادة الحق أو إنهاء خدمته. ومما أثنى به النبي عليه السلام على الروم أنهم أكثر الناس رفضاً لظلم الملوك (حديث مسلم). فالانحباس في المكان مظهراً وسبباً تخلفٌ مقابل السير في الأرض مظهرَ وسببَ تحضر.

ومن التخلف الإعجاب المفرط بالذات إلى حد رفض كل خير ونافع نقتبسه من غيرنا وإن يكن عدواً. كل ذلك من معاني التخلف والانحطاط مقابل التحضر بعدِّه فضاء مفتوحاً من العدل والحرية والبحث الناصب عن أي حكمة واقتناصها وتبادلها فتجتذب إليه العقول الكبيرة والكفاءات المتميزة.

إن الخمول والانحباس في المكان دوارن حول الذات ودروشة وسعي لاهث نحو فناء الذات بدل تأكيدها، جموداً في الفكر وجبراً في العقيدة وتقليداً في الفقه وزخارف لفظية في الأدب وأغنوصاً وطرقاً في التربية واستبداداً في السياسة..تلك معادلة للانحطاط قد استحكمت خيوط ظلماتها، وهو ما آلت إليه أمة الإسلام منذ أزيد من خمسة قرون غلب عليها الخمول وتباطؤ الحركة بينما العالم يضج بها من حولنا، وذلك بعد عصور زاهرة بالإبداع الحضاري مفعمة بالحركة في المكان والحرية في الفكر.. تلك هي صورة المشهد العام للتخلف والانحطاط. أما الأسباب باختصار فمتعددة منها: فساد المناخ الفكري بما انصب في المورد الإسلامي الدفاق بالحركة وحرية الإرادة والمبادرة والتوازن بين مختلف أبعاد الشخصية الإسلامية المادية والروحية والاجتماعية والإنسانية «إن لبدنك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه» من موارد انصبت في مجراه من روافد ثقافات تقدس السكون واحتقار الجسد والعمل اليدوي.. ثقافاتٍ يتحرك فيها الفكر إذا تحرك حركة ذاتية من خلال أنسجة قياسية مجردة عن المكان والزمان، بعيداً عن التفاعل مع الواقع الجزئي المتحرك.. أنموذج حضاري آخر يشيد بالغوص في عوالم الروح ويجعل حركة الفكر ضمن عوالم وأقيسة مجردة عن الواقع المشخص في تصادم بيِّن مع منطق القرآن التجريبي الذي يوجه العقل إلى الملاحظة الدائمة والتأمل في جزئيات الواقع المشخص لاكتشاف سننه والاعتبار به وتسخيره.. ثقافة أخرى تجعل الطريق إلى الله وعبادته والتقرب إليه سبيلُه الإعراضُ عن تيار الحياة المتدفق ونقل المريد إلى عوالم خيالية حتى يغفل عن ذاته ويصبح قابلاً كل صورة، فلا يبقى فرق بين خير وشر وجمال وقبح وعابد ومعبود وموسى وفرعون فالكل واحد، كما عبرت عنه فلسفة القطب الأكبر ابن عربي الذي يتحول في زمن الحرب على الإسلام هذا أهم ملهمي أساطين العلمانية.

ولقد تدعم هذا التوجه حتى غدا ثقافة عامة للمسلمين بدواعي رد الفعل على الإغراق في عوالم اللذة والمجون والترف الفاجر التي انطبعت بها حياة الملوك الظلمة وحواشيهم وملئهم من أهل المال وأهل الفن والإدارة متأثرين بنماذج الحكم الإمبراطوري الفارسي الهالك الذي ورثوا عنه وهم الحديثو عهد بالبداوة أساليبَ إدارته وأنماطَ حياة ملوكه، وحسبوا أنهم يحتوونها فاحتوتهم وأعاد كتّابها صياغة الإسلام بما يضفي الشرعية على حكمهم الإطلاقي وانفصالهم عن الرعية واستئثارهم بالحكم والثروة دونها، فبحثت الجماهير المقهورة عن فضاءات دافئة للتطهر والهروب فكان الاغنوص بعوالمه الروحية المهوّمة. كما كان هذا الانسحاب من التدافع وصراع الحياة صوب التهويم على غير هدى في عوالم الروح ضرباً من رد الفعل أيضاً ضد المدرسة العقلية بزعامة المعتزلة التي بدافع الذب عن الدين باستخدام «منطق» الخصوم حولت الدين إلى مماحكات جدلية كلامية نالت بها الحظوة في النهاية لدى أصحاب السلطان تضرب خصومها بسوطهم وتغريهم بالتسلط على معتقدات الناس لتفرض مجادلاتها ديناً ملزماً لهم، وبذلك قدمت مثلاً سيئاً جداً للمذهب العقلي عبأ الجماهير ضده وهيأ ظروف الانقلاب عليه، بما مثل دعماً آخر لدفع الجماهير إلى كهوف الأغنوص والخرافة.

ولقد مثل انهيار بغداد تحت سنابك التتر انتصاراً ساحقاً للاغنوص على كل ما هو حركة وعقل إذ قدم نفسه ملاذاً لجماهير حائرة يمضّها الأسى حتى ليكاد يمزقها ويدفعها إلى الانتحار، فكانت عوالم الاغنوص جاهزة بفكرها و«حضراتها» لتقدم السلم الذي يعرج به المسلم من هذا العالم الشقي إلى أجواء البهجة الروحية بمثل ما يفعل المخدر. وإذن فالاستبداد الداخلي ومواريث هابطة لحضارات بائدة أسهما إلى حد بعيد إما في إخماد الحركة في مجتمعات الإسلام أو الانحراف بها عن موجهات الإسلام وهو ما جعل المجتمعات الإسلامية عصوراً مديدة أراضيَ منخفضة ومهبطاً لمختلف الغزاة حتى إذا دبت الحركة فيها عبر إصلاح عقدي أعاد التقدير لإرادة المسلم الحرة ولعقله وفعله في التاريخ ولآليات الاجتهاد والجهاد أي للحركة بدأت رحلة الإسلام مجدداً للقاء مع التاريخ وليفعل فيه تأسيساً لدورة حضارية إسلامية جديدة. ولا تزال حركة الإصلاح الإسلامي تعمل جاهدة على تحرير المزيد من الطاقات المعطلة في الإسلام وتراثه، شانة حرباً على أكثر من جبهة: جبهة الانحطاط وجبهة التغريب وجبهة الاستبداد.. والمعركة متواصلة في الإسلام بين قوى شد إلى الوراء وقوى دفع إلى الأمام، بين الحركة والسكون، وبين قوى الاستضعاف وقوى الاستكبار وبين تجديد أصيل يتمسك بثوابت الإسلام مع القبول بـ«اقتباس» كل ما ثبت صحة ونفعاً من حضارة العصر وتجربته وبين تيارات تزعم أنها تجدد من داخل الإسلام ولكنها لا تنطلق عند التحقيق من داخله ولا تتحرك على أرضيته بل تنطلق من خارجه لتفرض عليه منطقاً غير منطقه ومناهج غير مناهجه بمثل ما يفعل قوم ينتسبون إلى الإسلام ويتحدثون باسمه بل يدّعون فيه علماً يفوق مالكاً والشافعيَّ وجعفر الصادقَ بينما لا يعرف لهم موقع في مسجد ولا شهد لهم مؤمن بتقوى مثل محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبد المجيد ومحمد الشرفيين وأمثالهم ممن جمعهم ناد للفكر والتجديد والاجتهاد تولت دوائر أمريكية تمويله؛ وأحياناً ينشطون تحت مسمى الليبراليين العرب وهم في محصلة عملهم يبغون إفراغ الإسلام من شريعته التي جاءت لتنظم حياة الناس وسحب الدين جملة من العام إلى الخاص حيث يكون لكلٍّ إسلام يفصِّله على مقاسه.. بكلمة أخرى يبغون علمنة الإسلام وتمسيحه بزعم القيام فيه بحركة إصلاحية على غرار ما فعل بالمسيحية حتى أقصيت من المجال العام، وحتى في المجال الخاص انتهى فتح باب الاجتهاد دون تقيد بضوابط الاجتهاد ومنها لا اجتهاد مع النص فانتهى الأمر إلى أن الإعلام يتحدث هذه الأيام عن قساوسة شذاذ وعن قس يعقد قرانه على آخر على أساس أن المسيحية حب، وهذا نوع من أنواعه؟ وعن ثالث لا يؤمن باللهّ ولم لا؟ ما تم الانفكاك من صرامة منطق اللغة وبقية أصول الاجتهاد؟مع أن الجدير بالتذكير أن الإصلاح الديني في أوربة جاء ليعيد المسيحية إلى نصوصها الأصلية مستهدفاً المؤسسة الكنسية التي احتوت الدين وتماهت معه فكان الإصلاح ثورة تحرير للعقول من هذا الأسر بينما ليس في الإسلام كنيسة ولا رجال دين يحتكرون النطقَ باسمه.غير أن حركة التجديد الإسلامي عبر كل العصور كانت مهمتها: العود بالدين إلى أصله وتحريره مما علاه من غبار التاريخ وانتحالات المبطلين والمبتدعين وتسريح قنوات التفاعل بينه وبين ما استجد من معارف يتم احتواؤها ومن مشكلات يبحث لها عن حلول. عبر إحياء وتفعيل آليات الاجتهاد.

للمزيد عن الإخوان في تونس

روابط داخلية

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

.

مقالات متعلقة

.

تابع مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

أهم أعلام الإخوان في تونس

وصلات فيديو

.

تابع وصلات فيديو