خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه


رسائل الامام لأبية.jpg

بقلم / الأستاذ جمال البنا

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله.

ثمة أسباب عديدة دعتنى لإصدار هذا الكتاب..

منها أن هذه الخطابات تكشف عن جانب مجهول فى حياة الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله, ولم يطرق من قبل عندما كان فى مستهل الشباب, والنفسى تموج بالعواطف, وتجيش بالتطلعات نحو المستقبل.

وتكشف هذه الخطابات أن الإمام الشهيد رحمه الله رضى الله عما ارتضاه الله له, وعاش فى سلام بين عمل يحبه , وحب يعمل له, هذا الحب الذى جعله يتألق ككل موفق فى حبه هو " الدعوة" التى غرست بذرتها فى طفولته, وظلت تنمو بين جنبيه, وتتكامل – كما يتكامل فى بطن أمه جنين جاء من حب جارف.

ومن هنا اتسمت الخطابات بثقة, وأمل واستبشار وحمد لله على توفيقه. ومن هذه الأسباب أن هذه الخطابات التى لم يتصور مرسلها بالطبع أنها ستنشر يوما ما تكشف عن طبيعة سوية, صريحة تخلو من أى إثارة لتحايل أو تكلف, كما أنها تكشف عن بر عميق بالوالدين ما أجدر الشباب اليوم أن يتعلمه.

فالإمام البنا رحمه الله كان يقتسم مرتبه ما بينه وبين والده, وكان يرى أن هذا هو الواجب الطبيعى وكان يضيق لأن الضرورات لم يسمح له بالمزيد, وابرز من هذا البر الأدب الرفيع فى الخطاب, فهو يخاطب الوالد – دائما وأبدا- " سيدى الوالد" أو " سيدى الوالد الجليل" والوالدة " سيدتى الوالدة" وكان هذا دأبه فى مستهل شبابه أيام الإسماعيلية حتى أيامه الأخيرة , كما يتضح ذلك من آخر خطاباته التى أوردناها, ولم يتعلم الإمام البنا رحمه الله " الإيتيكيت" فى مدرسة فرنسية أو يطلع عليه فى الآداب العالمية والأوربية, ولكنه تأدب بأدب من أدبه الله تعالى فأحسن تأديبه: الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فعرف حق الأدب, وحق الأم وأدب الحطاب: وأن كل ما يمكن أن يقدمه من تضحية, ما يلزمه من أدب قليل فى حق الوالدين.

وإذا كان ثمة إضافة فهى إن هذا الأدب نحو الوالدين كان جزءا من الأدب العام الذى اتصف به الإمام الشهيد, فقد كان رحمه مهذبا غاية التهذيب, يرحب بكل من يأتيه, ويصغى إليه ويحتفل به ويقوم له, ويخاطبه بأحب الألقاب, يسأل عن حاله وأبنائه وأسرته ويرد على كل خطاب يصله.

وكان يحتفى بأقل الإخوان شأنا من فلاحين أو عمال أو طلبة فى مقتبل العمر, ومن قد تزدريهم الأعين لفجاجة منظرهم أو رثاثة ثيابهم, بل كان يلمس فيهم – أكثر من غيرهم – دفء العاطفة وصدق العلاقة وخلوص النية وكان يستشعر هذا بقلبه, كما يتعلمه من تأديب القرآن الكريم للدعاة نحو الجماهير والعامة والمستضعفين.

وتكشف هذه الخطابات عن جانب تربوى فى الإمام البنا رحمه الله, وكيف عنى بتعليم وتربية أشقائه الذين استقدمهم إلى الإسماعيلية ليطلبوا العلم فى المدرسة التى كان هو مدرسا بها وبوجه خاص الشقيق عبد الباسط رحمه الله, وكاتب هذه السطور, وكيف كان يشرف على تحفيظهما قصار السور والأحاديث.

ومقارنة الخطابات التى أرسلها الإمام الشهيد فى الأيام الأولى للإسماعيلية بل وقبلها ( 26 – 27) بآخر خطاباته المرسلة لوالده ( سنة 1947) ودراسة خطه, توضح وحدة الخط والأسلوب والصياغة.

ويكاد المتأمل فيها أن يقطع بأن كاتبها لم يتوقف, ولم يتردد ولم يضطر إلى شطب أو تعديل.

ويلحظ أن السطور تتوالى مموجة على الصفحة والحروف مجدولة فى الكلمات كضفيرة ذهبية مسترسلة أو كموجات متلاحقة على سطح نهر هادىء مما يعطى القارىء إحساسا بأن السطور تنبض بالحياة, وأنها بلورة لشخصية صاحبها, أو بصمة الخطية وانتظام سطورها ينم عن شخصية منتظمة سوية, مستقرة تتجاوب الإرادة فيها مع الذهن وهذه اللفتة تكشف عن ظاهرة هامة فى حياة وعمل الإمام الشهيد رحمه الله هى " الإستمرارية" فالإمام البنا هدى من شبابه إلى رسالته , بل هو أعد لها من طفولته, بحيث انه عندما بدأ العمل بالفعل سنة 1928, كان يواصل بداية أعد لها سلفا, وتابعها دون أن يضطر إلى انحراف أو تقطع أو مخالفة, فالخط متصل حتى عام 1949 عندما لقى الله .

وهذه إحدى النعم التى أنعم الله بها على الإمام الشهيد . وإحدى علامات توفيقه ورضاه.. إذ بدأ فى سن مبكرة قلما تتضح فيها الخطوط النهائية لدعوة الدعاة.


ولم يضطر – كما اضطر إلى ذلك كثير من الدعاة – إلى تعديل وتغيير. وإذا كانت دعوة الإخوان المسلمين قد تطورت من الصورة التربوية الصوفية التى كانت عليها أيام الإسماعيلية إلى الصورة السياسية الحياتية, فإن هذا التطور تم فى الأطر الإسلامية, وكان هذا التطور دليلا علة قوة وحدة الاتجاه لأنه لم يمس " الثوابت" والخطوط الأساسية فيه.

وتثبت إحدى الأوراق التى عثرنا عليها. وأثبتناها فى هذا الكتاب, أن الإخوان قد هوا إلى اسم " هيئة الإخوان المسلمين" من الثلاثينات عندما كانت نبتة صغيرة.

وتكشف هذه الخطابات عن بعض جوانب المجتمع المصرى فى الثلاثينات تجهلها بل لعلها لا تتصورها – أغلبية الشباب اليوم ولا يعدم القارىء بعض اللفتات عن تطور الإخوان.

وهناك بعد, سبب آخر هام كان من أقوى أسباب إصدار هذا الكتاب. هو تعريف الجمهور الإسلامى بوالد الإمام الشهيد سيدنا ووالدنا الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا رحمه صاحب الفتح الربانى وقصة كفاحه العجيبة فى تصنيف مسند الإمام أحمد بن حنبل وشرحه ثم طبعه وإصداره.

التى شغلته قرابة أربعين عاما. هذا الرجل العظيم الذى نفض يديه من عرض الدنيا. وعكف فى وحدة المتبتلين على عمله العلمى الكبير – لا يشغله شىء عن القراءة والكتابة , التحبير والتدبيج, التحقيق والتدقيق وتقصى المراجع من هنا وهناك.. حتى الهند ومطابعها وكتبها. وهو دليل نهار قابع فى مكتبه فى أحد أزقة القاهرة, لا يزور , ولا يزار إلا فى المناسبات ولا يقرأ الجرائد أو يسمع الراديو أو يشغل نفسه بهذا العالم الذى يضطرم بالشهوات والمطامع.

إن من حق هذا الرجل أن يرفع ذكره – وأن يكرم اسمه كما أن حق المسلمين أن يعرفوا حياته, ويلموا بكفاحه, ليس فحسب إحياء لذكراه أو تمجيدا لعمله ,لكن أيضا ليكون لهم فيه أسوة حسنة وليعلموا أن لا شىء يمكن أن يقف أمام الهمة العالية والعزيمة الصادقة.

رحمهما الله: الأب والابن, ونضر ثراهما, وأجزل مثوبتهما وعوضهما فى الآخرة وألحقنا بهم فى الصالحين. " والسابقون السابقون, أولئك المقربون فى جنات النعيم ثلة من الأولين, قليل من الآخرين"

وقل الحمد لله , وسلام على عباده الذين اصطفى"

رمضان 1410 – مارس 1990

جمال البنا

الفصل الأول : ترجمة حياة وعمل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا

صاحب (الفتح الربانى) ووالد الإمام الشهيد حسن البنا _ رحمهما الله


النشأة والصبا

ولد الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا فى قرية شمشيرة مركز فوة محافظة الغربية, وهى قرية صغيرة لا تختلف عن قرى الدلتا ولا تتميز عنها باستثناء وقوعها على ضفة النيل مباشرة – وإن المركز الذى تتبعه " فوة" له تاريخ عريق.

وكان الشيخ رحمه الله يقول انه ولد سنة 1300 هجرية, ويبدو أنه تاريخ سهل على الشيخ حفظه, وهناك ما يؤيد هذه الرواية, فإن الشيخ كان قد استخرج بطاقة من بطاقات إثبات الشخصية حدد فيها سنة ميلاده بأنها سنة 1882 وهى توافق سنة 1300هـ .

وكانت أسرة الشيخ تمتلك عدة فدادين من الأرض تقوم بزراعتها ويعمل فيها أخوه الأكبر " محمد" وكان محمد فلاحا ماهرا يحسن زراعة أرضه, بل يستصلح بعض الأراضى البور التى كانت شائعة وقتئذ.

ومن المحتمل أن أحد أسلاف الأسرة كان يعمل بصناعة البناء ومن هنا لحق بالأسرة لقب البنا. وهى نقطة لم نحققها

وكان الابن الأكبر فى الأسرة ( محمد) هو الشخصية البارزة فهو الذى يتولى زراعة الأرض أو استصلاحها. وقد أراد أن يساعده أخوه ( أحمد) فى عمله الزراعى.

ولكن أمه كانت قد رأت فى منامها وهى حامل به أنها ستلد طفلا وعليها أن تسميع أحمد وتحفظه القرآن. فأصرت على أن يذهب إلى الكتاب وأيده أبوه – وكان رجلا صالحا – هذا الاتجاه وذهب به فى سن الرابعة إلى الكتاب.

وقبل شيخ الكتاب أو كما يطلقون عليه فى قرى مصر ( سيدنا) الطفل رغم أن سنه كان اقل ممن يذهب إلى الكتاب عادة, ويذكر الشقيق الأستاذ عبد الرحمن أن اسمه كان الشيخ محمد أبو رفاعى " وكان كفيفا تقيا يفيض وجهه إشراقا وبشرا" فحفظ القرآن على يديه وتلهم أحكام التجويد.

ونمت بسرعة مدراك الصبى, ومع تقدمه فى الدراسة كانت فكرة العمل الذى يمكن أن يحترفه دون أن ينقطع عن العلم والمذاكرة أو جهدا – وفكر أن يجعل من هوايته صناعة, وكانت تلك الهواية هى تصليح الساعات – وهى هواية صناعة, وكانت تلك الهواية هى تصليح الساعات – وهى هواية غريبة فى هذه القرية الصغيرة, وكان قد ذهب فى إحدى المرات إلى " مطوبس " ليصلح ساعة عند صانع كان يحضر مطوبس يوم السوق – يوم الخميس.

تطورت إلى صداقة أدت به لأن يذهب إلى رشيد ليتلقى أصول الصنعة على صانع محترف فى دكانه. ولكن مهارة الصانع لم ترضه, وفى إحدى المرات كان يصلى بالمسجد والتقى بعد الصلاة بإمام المسجد الشيخ أحمد الجازم وكان رجلا ذا مروءة.

فأخبره بقصته وانه يريد أن يجمع بين العلم والعمل, وأنه لم يجد طلبته لدى صانع رشيد, فطيب الشيخ خاطره وأرشده إلى محل كبير للساعات فى الإسكندرية يملكه الحاج محمد سلطان وأعطاه توصيه له, كما عرفه أن الإسكندرية جامع الشيخ إبراهيم باشا, وهو فى الإسكندرية كالأزهر فى القاهرة, وبهذا يمكنه مواصلة علومه واستكمال حرفته.

وعاد الفتى إلى شمشيره. وقد عقد العزم على السفر إلى الإسكندرية وعارض ذلك أخوه الأكبر, ولكن أباه قبل وتحمست أمه, وكانت أسرة علم ودين وكان أبوها صالحا تقيا, وأخوها فقيها يحفظ القرآن ويظفر بتقدير واحترام أهل قريته" سنديون" وهيأت له أمه " الزوادة" التى تكفيه حتى ينظم أموره.. وهكذا ذهب الفتى إلى الإسكندرية فقابل الحاج محمد سلطان وأبلغه تحيات الشيخ الجارم وتوصيته, فأكرمه وأفسح له مجال أحكام اصنعه. ثم ذهب إلى جامع الشيخ إبراهيم باشا وانتظم بين طلابه حتى أتم الدراسة به.

وبعد بضع سنوات عاد الفتى إلى شمشيرة شيخا شابا, وخطب الجمعة فى مسجد شمشيرة وقرت به عين أمه وأخذ يمارس تصليح الساعات فى شمشيرة ومطوبس وذكر له أحد إخوانه اسم " المحمودية" وأنها أولى اهتمامه, فزارها وسر بها وقرر أن يركز العمل فيها...

وكان عليه أن يتم أمرين: الأول أن يؤدى امتحان القرعة ليخلص من شبح التجنيد وفيما بعد كتب الشيخ فى أحد دفاتره " فى أول ديسمبر سنة 1902 موافق شعبان سنة 1320هـأديت امتحان القرعة العسكرية فى القرآن.

وكان سنة 19 سنة. ونجحت نجاحا باهرا" والأمر الثانى أن يتزوج. وهذا أيضا ما تم فى يوم الأحد 89 صفر سنة 1322 الموافق 25 أبريل سنة 1904.

وكانت " عروسه" الشيخ فتاة فى الخامسة عشر من عمرها هى الابنة الصغرى لإبراهيم صقر تاجر مواشى القرية, ويمكن أن يعد أكثر ثراء – شيئا ما – من أسرة الشيخ .

وكان فتاته على جانب من الجمال. بيضاء البشرة – متناسبة الملامح و" التقاطيع" دقيقة الأطراف : اليدين والقدمين. أسنانها مفلجة, وحواجبها مفروقة وقد تصور بعض أتراب هذه الريفية الجميلة الصغيرة التى لم تكدح – كالفلاحات – فى الحقل وكانت تحمل اسما " رومانتيكيا" وأعدا " أم السعد" أنها تستحق عريسا أفضل من " المجاور" الذى لم يكن يفخر بطول أو عرض, مال أو أرض . ولكن الله تعالى كان يدخر لها ما يفضل هذا. وما يجعل لها من اسمعا نصيبا, وليحفظ ذكرها فى الحافظين..

وكانت أم السعد على صغرها, ذكية مدبرة, واعية, كما كانت على جانب كبير من العناد, فإذا انتهت إلى قرار, فمن الصعب تتنازل عنه, وهى صفة ورثها,كما ورث ملامح الوجه, ابنها البكر – الإمام الشهيد – ولكن العناد عنده تحول إلى صورة سوية أصبح معها " قوة إرادة". وعندما تزوجها الشيخ جعلها تصلى, ومع كل فرض فرضا أهملت فى أدائه لمدة سنة أو أكثر – أى منذ أن بلغت الحلم.

سنوات المحمودية

وفى السنة التالية – 1903 – انتقل الشيخ بأهله إلى المحمودية التى, أخذت اسمها من اسم السلطان محمود سلطان تركيا عندما شق محمد على ترعة تبدأ منها, وأطلق عليها المحمودية وهى الترعة التى تزود الإسكندرية بالماء العذب من النيل وأقيم بجوارها مشروع كبير لمياه الصرف – كان الأهلون يسمونه – المشروع.. وإن حمل اسم محطة طلمبات العطف القريبة من المحمودية, والتى يحدث تبادل فى الأسماء ما بينهما, ولهذا لم تكن المحمودية قرية, مغمورة كانت " بندرا" نشطا وهى تواجه شمشيرة على الضفة الثانية للنيل. ولا يكون على من يريد أن يذهب إليها من شمشيرة إلا ركوب " المعدية" والنيل هناك واسع, عريض, كأنه البحر.. لأنه على مقربة من المصب فى رشيد..

وفى هذه الأيام لم تكن المركزية الحضرية قد وصلت إلى الدرجة التى وصلت إليها أيامنا ( 1990) وكان للبنادر شأن وحياة اجتماعية نشطة نشأت من ملازمة الطبقة الوسطى من صغار الملاك أو التجار لها. كما لم تكن الخصائص التى تميز المدينة وتجعلها قوة جذب بالدرجة التى أصبحت بها الآن.

وقد تحدث العقاد عن قنا فى شبابه باعتبارها مركزا للآداب يلى القاهرة, وكانت الفرق المسرحية والغنائية تحيى بعض حفلاتها فى العطف أو المحمودية. كما نجد أسم عبد الحميد العتال رئيس نقابة العطف من القيادات البارزة فى الحركة العمالية فى العشرينات.

كانت السنوات الأولى فى المحمودية رضية سخية. كان الشيخ " عريسا" شابا. وكانت المحمودية نافذة إذا قيست بشمشيرة.

وكان هو وعروسه فى ريعان الشباب, فوطن نفسه على الإستقرار بها واشترى بيتا صغيرا آوى إليه هو وزوجته, كما اشترى " دكانا" على النيل مباشرة لتصليح و بيع الساعات, ثم توسع مع ظهور " الجراموفون" والصورة الأولى للإسطوانات وكانت وقتئذ أشبه فى تجارته, ولم يكن هذا مستنكرا لأن معظم ما كانت تنطبق به هذه الإسطوانات كان تواشيح ومدائح. وكان معظم الملحنين من المشايخ.

على أن هذه اللفتة تكشف عن ناحية خافية فى شخصية الشيخ هى وجود الحاسة الفنية . وكانت هذه الحاسة مغروسة فى الشيخ ومعظم أبنائه وقد كان الشقيقان عبد الرحمن وعبد الباسط شاعرين مع ميل خاص للموسيقى وكان لدى الأول حيناما" ربابة" وهى الصورة الساذجى للكمان.

كما لدى الثانى " عودا" وألف الأستاذ عبد الرحمن مسرحيات إسلامية يمكن أن تجعله رائدا للمسرح الإسلامى, كما ألف الأستاذ عبد الباسط بعض الأغانى وكان الشقيق محمد.

وهو طالب فى الأزهر, يتغنى بين زملائه ببعض أغانى عبد الوهاب الأولى, وضمت مكتبة الشيخ مجموعات من مجلة " اللطائف المصورة" كما كان يجمع الروايات المسلسلة التى كانت تنشرها الأهرام أسفل إحدى صفحاتها وكانت هذه الروايات من تأليف شارلس جارفس, وآخرين, وكانت غرامية أو بولسية. وقد قطع الشيخ القصاصات التى كنت تنشر فيها يوما من يوم وجلدها, بل أغرب من هذا كان لديه مجموعة كاملة من مجلة " الأمل" التى كانت تصدرها منيرة ثابت, وهى أول سيدة أصدرت صحفا.

وكانت مجموعات اللطائف المصورة والأمل هما أول ما وقع عليه بصرى فى مكتب الوالد عندما كان يصحبنى إليه.. وأنا فى الخامسة أو السادسة, وكان تصفح صفحاتها والنظر فى صورها هوايتى, وفى فترة لاحقة كانت هى أول مطالعاتي, ولا أزال أذكر بعض الروايات المسلسلة التى كانت تنشرها هذه الصحف, وق كانت وفدية متعصبة إذ كانت تلك أيام سعد زغلول, فكان فى اللطائف لمصورة رواية بعنوان " زغاليل مصر" وأخرى بوليسية" الشبح" وكانت الأمل تنشر رواية مسلسلة بعنوان " قمر بنى إسرائيل" عن تاريخ مصر فترة ظهور موسى.

وبالطبع فإن الشيخ رحمه الله قرأ هذا كله فى شبابه وكان له أثر فى تخليص أسلوبه عندما كتب شرح المسند" بلوغ الأمانى" من الركاكة والتكلف التى كانت سمة كتابات الفقهاء وقتئذ وجعله أسلوبا سهلا سائغا, وهذا ما نجده أيضا فى أسلوب الإمام الشهيد رحمه الله فإنه من السهل الممتنع.

ولم يكن تصليح الساعات أو بيع الإسطوانات ليمنع الشيخ مواصلة هوايته العظمى – الإطلاع المذاكرة وتحصيل العلوم الإسلامية وكان من حسن حظه أن التقى وقتئذ بالشيخ محمد زهران.

والشيخ محمد زهران كالشيخ البنا نفسه, أحد الأمثلة البارزة على علو الهمة. وقو الإرادة فقد كان كفيفا, ولكن ذلك لم يقعده بجانب نشاطه العلمى والعملى اليومى.

من أن يصدر مجلة باسم " الإسعاد" كانت تصدر على غرار مجلة المنار الشهرية. وكان يقوم بإدارتها وتحرير معظم مادتها.

ونشأت علاقة وثيقة بين الشاب القادم من شمشيرة, وبين عالم المحمودية وفقيهها, بدأت أولا بتلميذة ثم انتهت إلى صداقة حميمة وأخوة كريمة.

فكان الوالد رحمه الله يقرأ للشيخ زهران ويكتب ما يمليه عليه, ويدور بينهما خلال ذلك حوار مثمر وحديث مفيد.

وبعد فترة قصيرة أصدر الشيخ الوالد أول مطبوعاته وهو " شرح وظيفة سيدى أحمد زروق والمسمى بالفوائد اللطيفة, فى شرح ألفاظ الوظيفة تأليف العالم العلامة.

العارف بربه سيدى أحمد السجاعى رضى الله عنهما" وطبع " على نفقته ملتزمة الفقير إليه تعالى أحمد عبد الرحمن الساعاتى" فى مطبعة النجاح لصاحبها إبراهيم خليل بدمنهور.

وكان دور الشيخ هو تحقيق النص المنسوخ – وليس المطبوع – وكانت النسخة المخطوطة فيها شىء من التحريف فعرضها - كما قال " على أستاذى الهمام وشيخى الفاضل المقدام – العالم المحقق والبحاثة المدقق. محيى السنة ومعديها – ومميت البدعة ومبيدها, خادم السنة والقرآن الأستاذ الشيخ محمد زهران فساعدنى على تصحيحه.." ووقع الشيخ على المقدمة" أحمد عبد الرحمن الساعاتى. طالب علم ومقيم بالعطف".

والشىء الذى لفت نظرنا, وقد عملنا فى صناعة الطباعة ردحا من الدهر أن هذا الكتاب الذى طبع سنة 1330 ( أى 1913) فى إحدى مطابع دمنهور كان متقنا للغاية .

فليس هناك " كبسة" كما يقولون للحروف, أو تباين فى توزيع الحبر ما بين الصفحات أو عدم التطابق ما بين " الجداول " التى كانت تطوق كل صفحى. وهذا أمر قلما يتوفر إلآ للمطابع الكبيرة.

وصدر شرح الوظيفة فى 100 صفحة 14× 21 سم وكان ثمنه خمسة وعشرين مليما خالصا أجر البريد...

ولك يكن شرح الوظيفة إلا " بروفة" صغيرة ومتواضعة للعمل الذى سيأخذ الشيخ نفسه به بعد ذلك.

وجاء الأبناء

بمرور الزمن داء الأبناء, متواترين... كل عامين تقريبا ابن أو بنت وكان الأبن البكر هو الإمام الشهيدرحمه الله. وتلاه البقية وكان الشيخ يكتب فى دفاتره تواريخ الولادة ابنا... وكانت بنص ماكتبه:

1- فى 25 شعبان (1324) ولد نجلى حسن يوم الأحد ضحى موافق 14 أكتوبر (1906)؟.

2-فى 2 رمضان (1326) ولد نجلى عبد الرحمن موافق 28 سبتمبر 1908 يوم الأحد.

3- فى 3 فبراير (1911) ولدت فاطمة (1) بنتى يوافق شهر صفر( 1329) .

4- فى 2 ربيع الأول (1331) يوافق 10 فبراير 1913 ولد محمد ابنى.

5- فى 16 أغسطس 1915 يوافق 16 شوال 1334 ولد عبد الباسط نجلى .

6- فى 14 ربيع الثانى 1337 يوافق يناير سنة 1919 ولدت لنا بنت سميناها زينب.

7-فى الأربعاء 2 ربيع الثانى 1338 موافق 24 ديسمبر سنة 1919 توفيت زينب بنتى.

8- ولد لنا أحمد جمال الدين يوم 5 ربيع الثانى 1339 موافق 15 ديسمبر سنة 1920.

9- فى يوم السبت 22 رجب 1341 موافق 10 مارس سنة 1923 ولدت لنا ينت اسميناها فوزية.

دراسات ميسرة على ما سيلى بينما كان الاثنان الوسيطان فى المدارس

والكتاتيب يلتقيان علومهما الأولية. وكان الشيخ وقد بلغ الأربعين فى قمة الرجولة, وقد اتسع عمله, كما أضيف أعمال أخرى.


الشيخ البنا إماما ومأذونا بالمحمودية

كان الشيخ قد عقد – منذ أن انتقل إلى المحمودية – صداقات عديدة مع رجالاتها وفضلائها وتجارها أمثال " على بك العشرى عمدتها إذ ذاك والشيخ أحد ربيع ومحمد بك القماعى من كبار التجار والأعيان, والشيخ عبد الرحمن موافى من أعيان التجار ومن المتفقهين فى الدين.

وكان الشيخ عبد الرحمن مغرما بتفسير القرآن فهو يلتقى بالشيخ احمد فيتناقشان فى التفسير ومسائل العلم, ويشترك معهما من عساه أن يكون موجودا, وأعانهما على ذلك أن الشيخ أحمد كان قد أقتنى مكتبة نفيسة جمعت كثيرا من الكتب القيمة التى يحتاج إليها العلماء والباحثون من مختلف العلوم والفنون, وتوثقت العلاقة بينهما واشتدت فصارا لا يفترقان, وتصادق كذلك مع الشيخ محمد زهران من رجال العلم وفقهائه, وفى يوم استصحب الشيخ عبد الرحمن معه رجلا وقورا من كبار الموظفين المتقاعدين ومن ذوى الأملاك أسمه أحمد أفندى الصفتى له نظارة على مسجد فطلب إليه أن يكون إمامه وخطيبه, فرفض الشيخ أحمد هذا العرض إذ أن للمسجد إمامه , وما ينبغى – وليس من خلق الرجال – أن يزاحمه ما دام يؤدى واجبه كاملا, ولكن الرجل ألح حرصا على إفادة الناس من علمه فقبل, غير أنه اشترط أن يعمل متطوعا له وللعلم, وأن يبقى الإمام حيث هو بمرتبه, وأن يستشار أيضا, فيتحقق بذلك الغرضان واتفقا على ذلك ورحب إمام المسجد بالفكرة, وسر لها.

وفى سنة 1332 ألح عليه عمدة البلدة وأهلها وأولوا الرأى فيها أن يكون مأذونا ثانيا للمحمودية فما وسعه إلا القبول.

وكانت وظيفة المأذون تقف ما بين الترشيح والتعيين. إذ كان يجب القيام بإجراءات . إذا كان يجب القيام بإجراءات عديدة من قبل أعيان البلد ووجهائها لترشيح من يرون.

وكان يجب أن يتقدم بعضهم بضمان المرشح لمدة معينة ويصدق على هذه الضمانة العمدة وأعيان الناحية ويعتمدها المعاون أو مأمور القسم.

وفيما يلى صورة للضمانة التى وجدت بين أوراق الشيخ " نقلا عن منشور الداخلية":

أنا الموقع أدناه فلان القاطن بجهة كذا أقر وأعترف بأنى قد ضمنت للحكومة المصرية فلان بوظيفة مأذون بناحية كذا فى مبلغ 50 جنيه ضمان غروم وإلزام بوجه التضامن والتكافل عن المدة من أبريل سنة 1921 لغاية مارس سنة 1924 فى تعاطيه أشغال وظيفته المذكورة أو ما يماثلها بأى مصلحة من مصالح الحكومة ولو كان بطريق النقل أو الانتداب وذلك فى قبض أموال الحكومة بسائر أنواعها واستلام وحفظ الودائع والأشياء والأوراق ذات القيمة وغير ذلك بما يعهد به إليه سواء " انكان" مقيدا بالدفاتر او غير مقيدا وأقر أيضا بأنى مسئول عن أى إهمال أو عمل يتسبب نمنه ويترتب عليه خسائر أو ضرر على الحكومة بدون إبداء أى هذر أو الإحالة على مضمونى بوجه ما كما وأنى أعترف بهذه الضمانة صادرة منى برضاى واختيارى بدون إجبار ولا إكراه وضمانا لذلك قد أمنت الأطيان الآتى بيانها تفصيلا وأعطيت هذه الضمانة منى وهى نافذة على وأقر أن هذه الأطيان هى ملكى وهى خالية من الرهن ومن الإيقاف وكافة الحقوق العينية وأتعهد أن لا أتصرف فى شىء منها سواء " أنكانت" بعقود مسجلة أو غير مسجلة إلا بعد انتهاء مدة الضمان وثبوت خلو طرف مضمونى فى أثنائها.

قيمة الأطيان /

مقدار الأطيان المؤمنة / ش.ق.ف

الأحواض / س.ق.ف

النواحى التى بها الأطيان /

يكتب عند الأطيان " انكانت" غير مشتركة بالميراث أو غيره فيوقع عليها الشريك أو الورثة. أقرار العمدة والمشايخ والصراف

نحن عمدة ومشايخ وصراف ناحية كذا " نقروا: إقرارا صريحا بأن الضامن كفؤ بالضمانة وأن الأطيان الموضحة للضمان ملكا له بطريق الميراث الشرعة, أو خلافه ولا منازع له ولا شريك وهى ليست أطيان جزائر وخالية من كافة الموانع التى تحول دون تأمينها وليس موقعا عليها أى حق من الحقوق العينية وأن توقيع الضامن هو المتعامل به فى بهذه الأطيان من التصرفات.

عمدة الناحية /

شيخ الناحية /

صراف الناحية /

قد اطلعت على إقرار العمدة والمشايخ والصراف الموقعين أ‘لاه وتأكدت من صحة توقيعاتهم وأنها بذاتها المستعملة فى الشغال الرسمية فتعتمد تحت مسئوليتهم.

المعاون أو مأمور المركز

واتخذت هذه الإجراءات كلها وقدمت وفى 27 شعبان سنة 1322 الموافق 21 يوليو سنة 1913 جاء خطاب قاضى محكمة رشيد الشرعية

" إلى الشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتى مأذون ناحية كفر مليط بمركز رشيد.

بناء على انتخابك مأذونا لناحية كفر مليط بمركز رشيد . وبناء على أوامر نظاره الحقانية الصادرة فى شهر يوليو سنة 13 بشأن تعيين المأذون وبعد اختيارك قد عيناك مأذونا للجهة المذكورة. فيقتضى أن تباشر الأعمال التى تطلبها الحكومة بكل همه ونشاط"

قاضى محكمة رشيد

21 يوليو سنة 13

كما أرسل إلى الشيخ فى التاريخ نفسه خطابا آخر.

" يقضى قانون الانتخاب الجديد بتشكيل لجان فى المدن والقرى لتحرير جداول كشوف الانتخاب. وقد قررت الداخلية فى منشور الذى ستصدره للمديريات بوجوب البدء حالا بتشكيل تلك اللجان. ولما كان مأذون كل مدينة أو قرية معينا بنص القانون عضوا فى لجنتها فيجب عليكم متى دعيتم أن تباشروا مأموريتكم هذه فى لجنة الانتخاب وأن تتفرعوا للعمل فيها وتواظبوا على الوجود مع بقية الأعضاء فى جميع أوقات العمل, لو دعت الحالة لاستمراره حتى يتم إنشاء الجدول والكشوف المذكورة فى الميقات المحدد لذلك فى القانون وهو خمسة عشر يوما من تاريخ صدوره, وحاذروا من التأخير مهما كان عندكم من الأعذار. تحريرا فى يوم الاثنين 21 يوليو سنة 13 – 27 شعبان سنة 1332".

وكتب الشيخ فى دفتره العتيق " فى 27 شعبان 1332 موافق 21 يوليو سنة 1913 عينت مأذونا شرعيا بالمحمودية" والحقيقة أن مأذون البلدة كان بحكم الأمر الواقع والمناخ العام شيخ البلدة, وإمام مسجدها, ومفتيها , ومستودع أسرار أبنائها وهى صفات قلما توفرت للمأذونين فى المدينة.

بيد أن المأذونية , وتصليح وبيع الساعات لم يكفيا لمد حاجة الشيخ بعد قدوم الأبناء وزيادة الأعباء . وزين له البعض أن يفتتح محل بقالة وشجعه على ذلك بتيسير بعض ما يلزم. ولكن التجربة كانت فاشلة وخسر الشيخ معظم ما أنفقه. فهذا العمل يتطلب التفرغ كما لا يكون فيه مناص من قبول البيع بالأجل, والإلحاف فى الطلب.

ولم يكن لدى الشيخ استعداد للتفرغ, أو الإلحاف فى طلب تشديد المدينين, أما الأبناء فبدلا من أن يساعدوا , فقد عاثوا فسادا لعدم خبرتهم, وأغلق المحل وكان المحل وكان المستفيد الأكبر منه هو الشقيق الأستاذ محمد رحمه الله الذى كان يحمل إلى الدكان فى طفولته الأولى ليأكل من الحلاوة الطحينية التى يحبها ما يشاء! وقنع الشيخ من الغنيمة بالإياب. وعندما فكر مرة أخرى فى عمل إضافى اختار عملا لا يعطله ويمكنه القيام فى ساعات فراغه – وتجليد الكتب – وكانت الوالدة رحمها الله تساعده فيه. وكان يمارسه فى البيت. وظلت بعض بقايا " عدة" هذه الحرفة مختزنة فى البيت القديم لسنوات عديدة.

وقد تعمدنا الإشارة إلى هذا الجانب من جوانب حياة الشيخ لأنه يمثل قضية هامة فى حياة طالب العلم, فهو اما أن يقبل الطريق" المؤسساتى" المقرر , فيلتحق بكلية أزهرية, ليتعين بعد ذلك فى إحدى الوظائف التى تربطه بالنظم المقررة وتخضعه لضروراتها بحيث لا يستطيع الاستقلال عنها أو التحرر منها, فإذا أراد الاحتفاظ باستقلاليته.

فلابد أن يمارس عملا حرا كأن يكون محاميا أو طبيبا ويغلب أن تستحوذ عليه المهنة, فلا تدع له وقتا أو اهتماما, أو تجعل اهتمامه العلمى على هامش عمله المهنى. فليس فى هذه كلها ما كان يحقق للشيخ غايته. وكان لابد أن يسلك ما سلكه بالفعل, وإن لم تسغه العقول" البرجوازية" التقليدية وكان الشيخ أهدى سبيلا , وأخذ بما كان يأخذ به أئمة السلف من الاحتراف بحرفة ما تحقق له الكفاف من العيش, ولكنها تتيح له الحرية والوقت, وهما جوهر وأداة رسالته..

كانت أقامة الشيخ فى المحمودية رضية, وقد تكيف معها واطمئن إليها وكون عددا من الصداقات الوثيقة التى ظلت قائمة حتى مات أصحابها. وحفظ هؤلاء الأصدقاء الود للشيخ.

وحفظ الشيخ ودهم. وعندما انتقل الشيخ إلى القاهرة اتصلت الخطابات بينهم, وبوجه خاص الشيخ أحمد الطباخ الذى كان بمثابة وكيله فى المحمودية.

والشيخ محمود دويدة و عوض الباسوسى وغيرهم.وقد احتفظ الشيخ بهذه الخطابات. ولفت انتباهنا أن الشيخ كتب على" ظرف" أحدهما ( وكان يحتفظ بالخطابات داخل ظروفها) " تذكار – رحم الله صاحبه" وصاحبه هو عوض الباسوسى. وجاء فيه:

أستاذى الفاضل :

أفكر ليل ونهار فيما صنع الدهر معنا, ففرق بين جسمانينا ولم يفرق بين روحينا, وانتهى من التفكير حزينا منقبض الصدر لعدم التمكن من أشفاء الغليل برؤية الحبيب الأنور. أمنيتي فى الحياة أن أراكم وأعاشركم كما كنا فى غابر الزمن المنير, فنعم هو من زمن وأنت لى فيه السادة بأسرها وخضعت لى فيه هامة البهجة والسرور فاللهم رضاء بحسمك العدل وخضوعا وتصديقا لقولك الحق" وتلك الأيام ندوالها بين الناس "

فلا أجد مسليا إلا قولك الحكيم, وقول رسولك العظيم وقول الشاعر الحكيم:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما

يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

وعوض الباسوسى الذى أرسل هذا الخطاب بقال بحكم المهنة. ولكنه بفضل مصاحبته للشيخ, وإلمامه بالثقافة الإسلامية, واستطاع أن يدبج هذا الخطاب ليبث فيه لواعج شوقه ونفثات قلبه..

ولم تقتصر صداقات الشيخ على أهل المحمودية, أنها امتدت إلى النواحى المجاورة حتى الإسكندرية و القاهرة. وقد كان بعض هؤلاء من كبار الكتاب الإسلاميين. مثل الأستاذمحمد فريد وجدى, الذى يعز وجود مثيله فى خلقه النبيل وعلمه الغزير وثقافته الشاملة وانكبابه على التأليف. ويبدو أنه وكل الشيخ فى إحدى عملياته المالية. ووجدنا بين أوراق الشيخ خطابا بخطه( أى خط الأستاذ فريد وجدى رحمه الله) يرد فيه على وشاية أحد الأشخاص بالشيخ جاء فيه:

حضرة الأستاذ المبجل :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فقد حظيت بكتابكم الكريم وأعجبت برفائكم وذكركم لهذا المبلغ التافه طول هذه المدة وأنى ما ذكرتها قط, وما عولت على مطالبتكم بها فهى جنب فضلكم لا تعد شيئا. فثقوا يا حضرة الأستاذ أنى تجاوزت عن هذا المبلغ عن طيب قلب ولا أحب أن تزعجوا أنفسكم بالفكر فيه. وقديما حصل مثل ذلك بين أهل الفضل, فهم إخوان حيث كانوا وأنى وجدوا..

سنرسل لكم أجزاء من مطبوعاتنا هدية لكم

وتفضلوا بقبول احترامى

محمد فريد وجدى


معركة "الفتح"

أشرنا إشارة عابرة إلى العلاقة التى نشأت ما بين الشيخ الوالد والشيخ محمد زهران, ومع مرور الأيام توثقت هذه العلاقة . وفى الوقت نفسه كان الشيخ قد كطون مكتبته الخاصة, واطلع على كثير من المراجع فى التفسير والحديث وكان أبرزها مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى الذى كان مطبوعا فى يتى مجلدات كبيرة.

وقف الشيخ إمام المسند, كما يقف المستكشف أمام قارة عذراء مترامية الأطراف. ووصف هو نفسه تلك اللحظات, وعندما اطلع فيها على المسند سنة أربعين وثلاثمائة وألف. وهى نهاية الحلقة الرابعة من عمره وكيف أنه وجده" برحا خضما يزخر بالعلم ويموج بالفوائد بيد أنه لا فرضة( ) له ولا سبيل إلى اصطياد فرائده واقتناص شوارده فخطر بالخاطر وناجتنى نفسى أن أرتب هذا الكتاب.

وأعقل شوارد أحاديثه بالكتب والأبواب, وأقيد كل حديث منه بما يليق به من باب وكتاب. وأقرنه بقرينه وأنيسه, وأجلس كل جليس مع جليسه, فاستصغرت نفسى هنالك, واتسعجزتها عن ذلك, ولم يزل الباعث يقوى والهمة تنازعنى والرغبة تتوافر وأنا أعللها بما في ذلك من التعرض للملام, والانتصاب للقدح والأمن من ذلك جمعية مع الترك, ويأبى الله إلا أن يتم نوره, فتحققت بمعونة الله تعالى العزيمة وصدقت النية وخلصت بتوفيقه الطوية في العمل." وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" فأخترت له وضعا يزيد بيانه حسبما أدى أليه اجتهادى وانتهى إليه عرفانى هذا بعد أن أخذت فيه رأى أولى المعارف والنهى.

وأرباب الفضل والحجى وذوى البصائر الثاقبة ونصيحة وعرضت عليه الوضع الذى عرض لى واستأنست به في هذا الصنع الذى رسخ عندى فكل أشار بما قوى العزيمة. وحقق إخراج ما في النية إلى الفعل في هذه الدرة اليتيمة: فاستخرت الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه ويتقبله ويعين على نجزه بصدق النية فيه, ويسهله وهو المجازى على مودعات السرائر وخفيات الضمائر, هذا مع كثرة العوائق الدنيوية, وازدحام العوارض الضرورية, وضيق الوقت عن فراغ البال, لمثل هذا المهم والغرض الشريف النادر المثال.

وأنا أسأل كل من وقف عليه ورأى فيه خلالا أو لمح فيع زللا أن يصلحه حائرا به جزيل الأجر وجميل الشكر. فإن المهذب قليل والكامل عزيز عديم, وأنا معترف بالقصور والتقصير مقر بالتخلف الكبير..."الخ..

وأ‘تقد ا، الشيخ رحمه الله – رغم كل ما ذكره – لم يعرض كافة أبعاد هذه المهمة, مهمة ترتيب المسند, لأن انغماسه في الفكرة حال دون أى يرى هذه الأبعاد طبقا لما يقال من ان العين لا ترى نفسها ولعلنا , ونحن خارج الحلبة, وبعد انتهاء المعركة – أقدر على تقييم الوضع . فهنا – في المحمودية – وهى بندر يتبع مركزا , والمركز يتبع مديرية , والمديرية بعيدة عن القاهرة حيث الفقهاء والأئمة. والشيوخ والسلطة. رجل محدود الموارد, مغمور الذكر, ليس له إيراد خاص ومما هو يعيش على ما يسره الله له من رزق يوما فيوما, وعليه إعالة أسرة كبيرة. أن رجلا في هذه الأوضاع لهو آخر واحد يمكن أن يتصدى لعمل يستغرق عشرات السنين, ويتطلب التفرغ والتركيز, وقد عجز عن أن يقوم به أئمة الأمة منذ أن وضع الأمام أحمد مسنده في القرن الثالث الهجرى حتى القرن الثالث عشر, أى طوال عشرة قرون كاملة. وقد حاول الإمام ابن كثير هذه المهمة دون توفيق, وقال كلمة تصور " فدائية" من يتصدى لها " ما رأيت هذا الرجل القادم من شمشيرة والذى يشتغل بتصليح الساعات لهذا العمل الذى عجز عنه ابن كثير ولم يتصدى له احد من الأئمة؟؟

ولكى تكون الصورة كاملة, نقول أن الشيخ لابد وأن ساروه مصير ما سيقوم به, وما سيأخذ منه عشر سنوات أو أكثر, وماذا سيفعل به؟ إن المؤلف انما يؤلف ليطبع وينشر ما يؤلفه, وإلا فلا قيمة لما أضاع فيه عمره. فكيف يمكن أن يطبع وينشر مثل هذا العمل...؟ أى مطبعة – أو بمعنى أصح أى دار نشر – تقبل كتابا لا تكون له قيمة تجارية مجزوم بها إلا بعد طبع كل أجزائه, وقد تكون عشرين جزءا وأين هى هذه الدار, وكم سيأخذ هذا العمل أيضا من السنوات... ومن المال ... ومن عمر الشيخ.

وكان كل هذه المثبطات لم تكن كافية, فقد قرر الشيخ أن يضيف إلى الترتيب والتصنيف, وهى المهمة الأصلية, والتى عجز عنها الأئمة, شرحا مسهبا لكل حديث. واستخلاص الأحكام الخ.. مما سيرد بيانه, فتضاعف العمل حجما وازداد صعوبة وفنية. خاصة عملية التخريج المعقدة أو استخلاص الأحكام, وما تجعله يعرض فقها جديدا هو " فقه السنة" أى الأحكام المستخلصة من الحديث, وليس من المذاهب. وهو ما تبعه بعد ذلك بصورة مختصرة, الشيخ سيد سابق في كتبه " فقد السنة".

هذه الأبعاد تصور لنا المهمة التى تصدر لها الشيخ وملابساتها وكانت كلها مثبطة, كلها تجعل هذا الرجل آخر يتصور أن يقوم بها, ومع هذا فما قيمة هذه المثبطات كلها أمام الهمة والإرادة والعزيمة؟... ما قيمتها أم توفيق الله واصطفائه عبادا لا يتصور الناس أنهم الأمثل " قالوا يا شعيب لا نفقه كثيرا مما تقول , وإنا لنراك فينا ضعيفا, ولولا رهطك لرجمناك!!" " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"" أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه, ولم يؤت سعة من المال".وانه ليطيب للنفس أن تقرأ ما كتبه الشيخ عن عمله في المسند, وما لابسه أو تعرض له خلال ذلك.

" أعلم رعاك الله أنى ابتدأت العمل في ترتيب المسند سنة أربعين وثلاثمائه وألف من الهجرة فقرأته للمرة الأولى حتى انتهى تسويده في يوم الإثنين التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وثلاثمائه وألف وكنت في أثناء عملى في المسودة أجمل الأبواب في الكتب أعنى لا أكثر من ذكر الأبواب لأن غرضى كان إذ ذاك حصر الأحاديث في كتبها ككتاب الوضوء مثلا أجعل كل حديث يتعلق بالوضوء في هذا الكتاب مع ذكر أبواب قليلة عازما على تفصيلها في التبيض, فما انتهت المسودة وشرعت في التبيض وجدت صعوبة شديدة في تفصيل الأبواب وتراجمها لأنى أريد وضعها بحكمة, وازدادت الصعوبة حينما تذكرت أن في المسند زوائد لعبد الله بن الإمام احمد غفلت عن تمييزها من أحاديث المسند أثناء العمل في المسودة وهى لا تظهر إلا من السند فكل حديث يقال في أول سنده حدثنا عبد الله حدثنى أبى فهو من المسند, وكل حيث يقال في أول سنده حدثنا عبد الله حدثنا فلان( بغير لفظ أبى) فهو من زوائد عبد الله وكل حديث يقال في أوله حدثنا فلان غير عبد الله وأبيه فهو من زوائد القطيعة فهذه قاعدة عظيمة ينبغى أن تعرفها. فبقيت بين عامين, أما أن أسير في العمل مع ترك تمييز الزوائد والتساهل في وضع الأبواب. او أترك العمل فيه خوفا من التساهل ففضلت الترك وتركت العمل مدة وجيزة لا تزيد عن شهر واكتفيت بالمسودة وقلت تنفعنى في المراجعة, وفى يوم سألنى بعض العلماء عن حديث في المسند لم يهتد إلى مكانه فيه فراجعت المسودة واستخرجته بسرعة مدهشة فسر بذلك الرجل سرورا عظيما وبعد ذهابه اعترانى أسف شديد لعدم إتمام هذا العمل الذى تعبت فيه تسع سنين وكان بيدى الجزء الأخير من المسودة فتصفحته حتى آتيت على آخره كل ذلك وأنا غارق في بحار الأسف والغم الشديد وبينما أنا كذلك إذ وقع نظرى على آخر حديث في المسودة في باب رؤية الله عزوجل يوم القيامة فقرأته بإمعان وتأمل وإذا نصه " عن صهيب بن سنان رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة, نودوا يا أهل الجنة أن لكم موعدا عند الله لم تروه فقالوا وما هو, ألم تبيض وجوهنا وتزحزحنا عن النار وتدخلنا الجنة, قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم اله شيئا أحب إليهم منه"

وفى رواية من النظر إليه" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" وما كدت أفزع من قراءته حتى اعترتني غشية تصحبها لذة أعقبها فرح وسرور لم أر مثله فيما مضى من عمرى أتدرى لم ذلك؟ لأن هذا الحديث وقع خاتمة كتابى بطريق الصدفة وبإرادة الله عزوجل لا بإرادتى, وجاء هذا الحديث نفسه في الجزء الرابع من المسند وقد بقى من الكتاب أكثر من ثلثه أعنى مجلدين فأكثر وكنت أتوقع وجود أحاديث في رؤية الله تعالى في المجلدين الباقيين أضعها بعد هذا الحديث في الباب نفسه ولكن لم أجد بعده حديثا في الرؤية مطلقا فبقى هذا الحديث آخر الكتاب بإرادة الله تعالى واختياره وقد أراد الله جل شأنه أن يختم كتابى بهذا الحديث الصحيح الذى رواه أيضا مسلم والترمذى والنسائى بل بآية قرآنية يؤخذ أعظم تبشير وأحسن فال, هذا سبب سرورى واغتباطي واستئنافى العمل بكل نشاط واجتهاد لا يعرف الملل فابتدأت قراءة المسند للمرة الثانية لأجل وضع الرموز على زوائد عبد الله وتمييزها عن المسند وفى هذه المرة الهمنى الله تعالى وضع رموز أيضا على زوائد القطيعى وما وجده عبد الله بخط أبيه إلى آخر ما أشرت إليه في المقصد السادس حتى انتهى الكتاب ( ثم قرءته للمرة الثالثة في التبيض) وفى هذه المرة أحكمت وضع الأبواب وترتيب الأحاديث برؤية وإتقان. وكانت كلما اعتراني ملل أنظر إلى حديث الرؤية فأنشط للعمل, وما زالت كذلك حتى انتهيت من تبيضه في نهاية عام 1351 هجرية وإذ ذاك الهمنى الله تعالى عمل التعليق وذكر السند إلى آخر ما أشرت إليه في مقدمة التعليق وهذا يستلزم قراءته فتكون المرة الرابعة وسأقرؤه إن شاء الله تعالى للمرة الخامسة عند تصحيحه أثناء الطبع والله الموفق".

وعن كيفية ترتيب الكتاب وتقسيمه إلى سبعة أقسام قال الشيخ:

" اعلم أرشدنى الله وإياك إلى ما فيه الخير والصلاح إن الله تبارك وتعالى اختار لهذا الكتاب تقسيما عجيبا ما كان يخطر لى على بال , وكنت قسمته قبل ذلك مرات متعددة لم تطمئن نفسى لواحدة منها فسألت الله تعالى أن يختار لى ما فيه الخير فألهمنى جل شأنه هذا التقسيم العجيب الذى لا أعلم أحدا سبقنى إليه ( وذاك فضل الله يؤتيه من يشاء ) فانشرح له صدرى واطمأن له قلبى. وذلك أنى جعلته سبعة أقسام ولست اقصد بهذا التقسيم تساوى الأقسام في عدد الأحاديث, أو مقدار الكراريس كلا , بل باعتبار الفنون وإن كل بعضها أطول من بعض فكل قسم منها يصلح أن يكون مؤلفا مستقلا مقدما الأهم فالمهم مبتدئا بقسم التوحيد وأصول الدين لأنه أول ما يجب على المكلف معرفته ثم الفقه ثم التفسير ثم الترغيب , ثم الترهيب, ثم التاريخ, ثم القيامة ,أحوال الآخرة. مراعيا في وضع كل قسم عقب الآخر حكمة عظيمة يدركها المتأمل, وكل قسم من هذه الأقسام السبعة يشتمل على جملة كتب , وكل كتاب يندرج تحته جملة أبواب. وبعض البواب يدخل فيها جملة فصول, وفى أكثر تراجم البواب ما يدل على مغزى أحاديث الباب تسهيلا للمراجع, وتقريبا للمراجع, وما وضعت كتابا أو بابا أو فصلا عقب الآخر إلا لحكمة تظهر للمتبصر".

ولم يتعد الشيخ الواقع فيما قال, فالحق أن الكتابة بتقسيمه وتبويبه وشرحه, واستخلاصه للأحكام جاء نسيجا وحده وجمع ما بين الحديث والفقه بأسلوب سلس بعيد عن التعقيد. كان " فتحنا ربانيا" كما سماه.

ومنذ أن أمسك الشيخ بقلمه ليضع أول سطر في " الفتح" لم يدعه إلا في الأيام الثلاثة الأخيرة في حياته, عندما اشتد عليه المرض, وحتى في هذه لأيام نفسها فإنه عندما نقل إلى بيت الشقيق الأستاذ عبد الرحمن ليكون تحت العناية الطبية أخذ معه بعض المراجع اللازمة لإتمام شرح بقية الجزء الثانى والعشرين الذى كان قد طبع نصفه بالفعل.

وخلال هذه المدة الطويلة تعرض الشيخ لضغوط عديدة, واضطر بعد كتابة شرح الجزء 17, 16, 15 إلى استبعاد هذا الشرح الذى كان مطولا .

وكتبه من جديد, مختصرا. وعثرنا بين أوراقه على أربعة "كراريس" كبيرة كتب الشيخ على الأولى منها" هذه الكراريس الضخمة.

هى من كتاب الفتح الربانى مع تعليق وجيز عليه بدون ذكر الأسانيد إلا في مواضع يسيرة كما يرى بالتتبع. وهذا كان مقصدى الأول, ولكن شرح الله صدرى لذكر سند الأحاديث جميعها في الشرح. مع اتساع الشرح أيضا كما ترى في الفتح الربانى مع شرحه بلوغ الأمانى المطبوع. لذلك عدلت عن القصد الأول, وتركت هذه الكراريس والله الموفق".

وكمثال على أهمية تصنيف المسند, وقيمة عمل الشيخ فيه نورد هذا المثال: دارت مساجلة على صفحات العدد الثانى من المجلد الحادى والثلاين من المنار في باب المراسلة والمناظرة بين السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار والشيخ أحمد محمد شاكر حول حديث عن عبد الله بن مسعود في الإعلان عن المنفقين وهل هو في المسند أم لا. وذهب صاحب المنار نقلا عن ط فتح البيان" إلى أن الحديث موجود في المسند بينما نفى الشيخ شاكر أن يكون موجودا في أحاديث عبد الله بن مسعود في المسند. وطرفا المساجلة كما هو معروف من أعلام الإسلام, فالسيد رشيد رضا رحمه الله هو" وراية" الشيخ محمد عبده وصاحب المنار, والتفسير والمؤلفات العديدة والشيخ شاكر أحد الذين عنوا بتحقيق مسند الإمام أحمد بن حنبل وخدمته خدمة دقيقة, فمن ذا يستطيع أن يتصدى للحكم بينهما.؟ كتب الشيخ البنا رحمه الله في 17 صفر 1350 إلى السيد رشيد رضا بالفصل في الموضوع. فالحديث في المسند فعلا, ولكنه ليس من أحاديث عبد الله بن مسعود, ولكن من أحاديث " أبى مسعود" وقدم نصه والصفحة التى جاء بها الحديث في النسخة القديمة للمسند المطبوع بالمطبعة الميمنة سنة 1313.

وجاء في خطاب الشيخ..

" وعلى هذا فيكون ما نقلتموه عن فتح البيان من عزو الحديث إلى المسند صحيحا والصواب إلى جانبكم من هذه الناحية وإن وقع تحريف في نقل الرواية من أن أبى مسعود إلى ابن مسعود, ويكون ما نقله الشيخ أحمد شاكر من عدم وجود الحديث في مسند ابن مسعود صحيحا أيضا والصواب إلى جانبه من هذه الناحية, وأن وجد الحديث في مسند أحمد من رواية أبى مسعود الأنصارى".

وإلى جانب هذا التحقيق الذى دق على الشيخين الكبيرين وفصل فيه الشيخ البنا, فإن ما يثير الانتباه اللباقة في مناقشة هذه القضية بحيث أن الشيخ رحمه الله جعل كل واحد منهما مصيبا, ولم يخطىء أحدا منهما. وهذه اللباقة هى مما عرف عن الشيخ رحمه الله. ومما ورثه عنه الإمام الشهيد. كما عثرنا بين أوراق الشيخ على بطاقة" كارت" من الشيخ يوسف الدجوى وهو من هيئة كبار العلماء وصاحب مؤلفات عديدة ومن الشخصيات الإسلامية البارزة أرسله إلى الشيخ يقول فيه.

فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ البنا..

سلاما واحتراما, أرجوا إرسال الكراس الذى عندكم لنأخذ منه بعض الموضوعات, وإن شئتم رددناه إليكم هو أو غيره. وإن كنتم قد نشرتم منه شيئا. فأرسلوا لنا لمجلة ولكم خالص الشكر وعظيم الاحترام".

يوسف الدجوى


والكارت غير مؤرخ. وقد كانت شهرة الشيخ الدجوى ونشاطه في العشرينات والثلاثينات , فيحتمل أن يكون قد أرسله قبل قيام الشيخ الوالد بالطبع.

بل وجدنا أيضا خطابا من الشيخ محمد زهران, وهو الشيخ الأول للوالد – كما ذكرنا يقول فيه:

حضرة الأخ في الله الأستاذ الورع الهمام خادم السنة الشيخ أحمد البنا:

السلام عليكم وعلى حضرة الأستاذ المجاهد نجلكم سوائر الأنجال الكرام ورحمة الله.

أما بعد فإنى في شوق إليكم جميعا ولى شغف بأن أزور القاهرة للقائكم وأغراض أخرى ولكنى منذ عام عرانى ضعف قد يمنعنى من ذلك بل ومن مطلق السفر ولى حاجة ملحة أنزلها بفيحاء مكارمكم وعالى همتكم إلا وهى مساعدتى على تعرف درجة حيث جابر رضى الله عنه في أولية النور المحمدى, فإنى لم أجد بعد طول السير من ذكره من المحدثين غير عبد الرزاق إذا لم يوجد في كتابه وليس ممن يخلون كتبهم من الضعيف أو الموضوع ولم أره في كلام متقدمى العلماء الذين لهم قدم في الحديث إنما شاع في كلام المتأخرين وانما يذكر الحفاظ حديث ( كنت أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا) وحديث ( كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد) هذا إلى أن في حديث جابر إشكالات عدة حاولت بنفسى وبواسطة كثير سألتهم دفعها فلم تندفع حتى لجىء بعض من سألت من العلماء إلى دعوى أن الحديث من المتشابه الذى استأثر تعالى بعلمه. لهذا أرانى مضطرا أن الحديث سنده كى أراجعهم في كتب الجرح والتعديل وما عندى منها سوى الميزان للذهبى وخلاصة تهذيب الكمال. وفى مكنتكم أن تراجعوا سنده في غيرهما أى تتعرفوا حال رجال سنده إن لم يوجد ذلك في أحدهما وذلك بعد أن تعرفوا سنده بمراجعة كتاب عبد الرزاق في دار الكتب ولو بواسطة من تختارونه لذلك.

وحاجة أخرى هامة أيضا ذلك أن السيوطى قال في حديث ( ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلتها إلا وقى فتنة القبر ) أنه حسنه الترمذى وعبارته في شرح الصدور بشرح أحوال الموتى والقبور في آخر صفحة 58 ( أخرجه أحمد والترمذى وحسنه والن أبى الدنيا والبيهقى عن ابن عمر) وساق الحديث.

ولكنى رأيت المنذرى في الترغيب والترهيب نقل عن الترمذى أنه قال فيه ( غريب ليس اسناده بالمتصل) فراجعت الترمذى فتبينت صحة هذا النقل لفظا ومعنى فدهشت ثم جوزت أن يكون التحسين من ابن أبى الدنيا بناء على زيادة .

الواو في في النسخ أو الطبع فحبذا لو روجعت من ( شرح الصدور) نسخة أو أكثر غير مطبوعة بالمطبعة الميمنة على أنكم لابد أن تكونوا بينتم درجة هذا الحديث لالتزامكم بيان درج أحاديث المسند. والقصد أنما هو معرفة حقيقة درجة الحديثين فهل أنتم ملبوا طلبتى هذه ومحققوا أملى فيكم لابد أنكم فاعلون إن شاء الله فقد كرستم حياتكم لخدمة السنة فلكم الهناءة والبشرى بتلكم المنحة العظمى والعناية الكبرى.

هذا ولابن حجر المكى في فتاويه الفقهية أواخر باب الجنائز ج2 كلام يفيد التوقف في ثبوت حديث موت الجمعة وهو ما أميل إليه لمعنى لا يخفى عليكم إذا تأملتم ولكن لابد من تحكيم الحفاظ.

والسلام عليكم ورحمة الله..

20 ربيع الثانى سنة 1358

محمد زهران

بمحمودية البحيرة

فهذه الخطابات والتساؤلات توضح كيف أن الشيخ رحمه الله عندما قام بهذا العمل العظيم في تصنيف المسند, أصبح المرجع الذى يعود إليه العلماء فيما يشكل عليهم من معضلات الحديث..

على أن تصنيف وترتيب المسند على أهميته ليس هو أعظم أعمال الشيخ. لأن التصنيف قد يخلو من الإبداع وأن تلب مهارات فائقة وحنكة ودقة, ولكن العمل الذى يمثل عبقرية الشيخ وتتجلى فيه إضافته المبدعة هو شرحه وجهده في استخلاص الأحكام وأسلوبه السهل البعيد عن التكلف والتعقيد, ونحن نؤمن أن هذا العمل لم ينل حقه من التقدير.

ومع أن الموت حاول دون ان يرى الشيخ " الفتح" فإنه قد تذوق الفرحة الكبرى و فرحة إتمام التبويب والتصنيف, وهذا هو المهم , أما الشرح, فقد كان يكتبه في ساعات فراغه قبل الطبع أو عند الطبع بالفعل" ملزمة ملزمة" ولذلك لم يحرمه الله تعالى أن يشهد نجاح نهاية مسيرته الطويلة وقد كللت بالتوفيق. وعمله الضخم وقدتم. وفى مساء يوم الجمعة العاشر من شوال سنة 1352 كتب الشيخ الصفحة الأخيرة من ترتيبه:

" يقول أفقر العباد وأحوجهم إلى عفو ربه يوم التناد أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الشهير بالساعاتى إلى هنا انتهى الكتاب الموسوم بالفتح الربانى لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى غفر الله لى وله وكان الفراغ من تبيضه في مساء يوم الجمعة المبارك العاشر من شهر شوال سنة اثنين وخمسين ثلثمائه وألف من هجرة سيد المرسلين عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم وذلك بمدينة مصر القاهرة جعلها الله بالنصر ظافرة والله أسأل أن ينفع به المسلمين, وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم وذخيرة لى يوم الدين واغفر اللهم لى ولمن دعا لى بالرحمة والغفران " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" كتبه بيده الفانية مؤلف الكتاب أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الشهير بالساعاتى".

يدوم خطى زمانا في الورى وأنا

تحت التراب ويبقى وجه بارينا

فأعجب لرسم بقى قد مات راسمه

وهذه عادة البارى جرت فينا

فرحمة الله تهدى نحو كاتبه

يا ناظر فيه قل بالله أمينا

وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداهم إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا".

عود على بدأ : في قبضة المدينة

عندما كبر الأبناء خاصة الأولين – حسن وعبد الرحمن . بدأت فكرة النزوح إلى القاهرة تراود الشيخ, وعندما سافر الإمام الشهيد إلى القاهرة لأداء امتحان دار العلوم والانتظام فيها, وتعرض لاعتداء أحد زملائه عليه .

لم يعد مجال للتردد وأصرت الوالدة رحمها الله أما الإنتقال إلى القاهرة, أو عودة ابنها إلى المحمودية. وكان الشيخ الوالد رحمه الله قد فجع بوفاة والديه سنة 1924 فانقطع بذلك أكبر خيط كان يربطه بالبلد, فلم ير مناصا من الانتقال إلى القاهرة رغم أنه كان قد وطد مكانته في المحمودية واستقرت أموره بها وعقد صداقات وثيقة عديدة وكان الانتقال إلى القاهرة يقوض هذا كله.

وهكذا حمل الشيخ قبيلته الصغيرة, التى كانت تكاملت, إلى القاهرة...

استقرت الأسرة أولا في شقى بشارع ممتاز بالسيدة زينب .. , ولكن لم يطل المقام بها, إذا انتقلت إلى شقة أخرى, ومن هذه " الأخرى " إلى شقة ثالثة.. وهلم جرا. الأمر الذى قد يدهش هذا الجيل..ز فعندما قدم الشيخ إلى القاهرة كانت يافطات " شقة للإيجار" تتدلى من بلكونات بيوت القاهرة, وكان المالك يبذل كل جهده ليظفر بمستأجر... ويقدم له كل التسهيلات والإغراءات...

وفى أحد دفاتر الشيخ وجدنا هذا التسجيل لحركة تنقلات الأسرة :

• أجرنا البيت في مصر شارع ممتاز بالسيدة زينب, والدكان في 22 محرم 1343 – 17 أغسطس سنة 1924.

• انتقلت العائلة من العطف في يوم الثلاثاء 3 صفر 1343 موافق 2 سبتمبر سنة 24.

• انتقلنا من بيت ممتاز في آخر يوم من شهر أكتوبر سنة 1924 ( 3 ربيع ثان سنة 43).

• انتقلنا إلى بيت عطفة مندور بشارع سلامة آخر يوم من شهر نوفمبر سنة 24 موافق 4 جمادى الأولى سنة 1343.

• انتقلنا من بيت أحمد أفندى رجب بقسم السيدة إلى بيت درب صبيح بقسم الخليفة في أول شهر مارس 1925 موافق 7 شعبان 1343.

• انتقلنا من بيت درب صبيح إلى حارة العسل في أول شهر مايو سنة 1925 موافق 8 شوال 1343.

• انتقلنا من طالون إلى حارة العبيد في أول أغسطس سنة 1952 موافق 11 محرم.

• ومنها إلى عطفة عطايا في 4 منه سنة 1926.

الملخص أننا مكثنا في شارع ممتاز سبتمبر وأكتوبر, وفى شارع سلامة نوفمبر فقط, وفى بيت أحمد أفندى رجب ديسمبر ويناير وفبراير وفى درب صبيح مارس وأبريل وفى حارة العسل مايو ويونيو وفى طالون يوليه فقط.

• وفى حارة العبيد من أول أغسطس سنة 1925 لغاية 3منه 1926.

• ومكثنا في دكان زين العابدين من 17 أغسطس سنة 24 موافق 16 محرم 43 إلى 15 يناير سنة 25 موافق 16 جمادى الثانية 43.

وانتقلنا إلى السيوفية في ذلك التاريخ ومكثنا فيه إلى آخر جمادى الثانية سنة 44 موافق 14 يناير سنة 1926.

وفى الصفحة التالية:

• انتقلنا من بيت الحاج سيد الكائن بعطفة عطايا في أول فبراير سنة 1928 إلى منزل مسعود بحارة الروم ومكثنا به ستة شهور لغاية يوليو 1928.

• انتقلنا إلى منزل عباس أفندى عبد المعطى بحارة السنان شهر أغسطس فقط.

• ثم أجرنا منزل أحمد أفندى وهبة جميعه بحارة عبد الملك بك في اول سبتمبر سنة 1928 والله أعلم بالمستقبل ومكثنا فيه خمس سنوات وبضعة شهور.

• خرجنا من منزل احمد وهبة في آخر يناير سنة 34 وانتقلنا إلى منزل حسن بك لطيف بحارة المعمار 6 بعطفه عبد الله بك في أول فبراير سنة 1934 والله أعلم بما يكون.

• خرجنا من منزل حسن بك لطيف في آخر يونيو 34 وانتقلنا إلى منزل أحمد أفندى أيوب في أول يوليه سنة 1934 والله أعلم بما سيكون.

• انتقلت من دكان حسن... في آخر شهر أبريل سنة 35 وانتقلت إلى دكان ومدورة وقف حافظ بك السيد في أول مايو سنة 35 والله أعلم بما سيكون".

ونستأنف حركة التنقلات من واقع دفتر الشيخ ( كتاب التوفيقات الإلهامية):

• في 14 من رمضان 1355 موافق 30 أكتوبر 36 تركنا منزل أيوب وانتقلنا إلى منزل جنينة ناميش بالسيدة زينب.

• في يوم الخميس 25 رجب 1365 موافق 30 سبتمبر 37 انتقلنا من منزل جنينة ناميش إلى منزل عبد العزيز بك شارع محمد على.

• في يوم 12ذى القعدة. و15 يناير سنة 28 انتقلنا بالمطبعة إلى منزل ورثة محمد عثمان نمرة 5.

• وقد يكون مما تطلع ملل هذا السرد " المنزلى" أن يعلم القارىء أن بعض هذه المنازل كانت يوما ما هى مركز الإخوان عندما انتقلت إلى القاهرة إذ كان المقر الأول لها هو منزل الأسرة بحارة عبد الله بك خلال المدة من سنة 28 يناير 34 ثم منزل حارة المعمار.

وكانت الأسرة تؤجر المنزل " من بابه" وهو عادة من ثلاثة طوابق فالطابق الأرضى ( ثلاث غرف وحوش) يعد مركزا للإخوان بينما يستخدم الطابقان الآخران سكنا للأسرة . ولأسرة الإمام الشهيد رحمه الله.

• كما كانت مكتب إدارة مجلة الإخوان المسلمين هو مكتب الشيخ الذى ذكر أخير ( منزل ورثة محمد عثمان نمرة 5 بحارة الرسام).

وتدل هذه التنقلات المتواليه على أن الأسرة القادمة من العطف لم تستطيع للتو أن تتعرف على المدينة, أو تتكيف مع مناخها ومجتمع " الحارة " والشارع" وتطلب الأمر مدة طويلة قبل أن تألف الأسرة المدينة وتستقر لمدة سنوات وليس شهورا, في أحد بيوتها...

وللمرة الأولى يشعر الشيخ أنه أصبح في قبضة المدينة الصماء ومجتمعها الذى يختلف عن مجتمع المحمودية القديم المألوف حيث كان الأطفال ينمون كما ينمو النبات في الحقل ويرتعون في مروجها و" نجيلها" وعلى شطها, وحيث الإقتصاد طبيعيا, منزليا يكفى نفسه بنفسه, فضلا عن أصدقائه وأحبائه الذين عقد معهم وشائح المحبة طوال عشرين عاما..

وكانت الأزمة المالية لا تقل عن الوحشة النفسية, فقد كبر الأبناء ودخلوا السن الحرجة التى يتعين فيها ان يدخلوا المدارس, وما يعنيه هذا من بدل وقمصان وأحذية وطرابيش الخ..

وكان من رحمه الله بالشيخ أنه في هذه الفترة عندما بدأت الضائقة الاقتصادية تطبق عليه أن عين ابنه الأكبر – الإمام الشهيد رحمه الله مدرسا بالإسماعيلية بمرتب خمسة عشر جنيها استطاع أن يمده بمبلغ أربعة أو خمسة جنيهات منها, فضلا عن أنه استقدم إليه بعض أشقائه لمدد طويلة.. وبهذا خلف العب شيئا ما.

كانت مشكلة الشيخ أنه لم يكن مستعدا لتخصيص وقت كبير لكسب المال, لأن هذا سيكون على حساب مشروعه العظيم" الفتح الربانى" ولو تيسر له هذا المال لأنفقه على الطبع الذى كان يبتلع أى مبلغ.

وعندما انتقل إلى القاهرة, فإنه خسر مأذونية كفر مليط ولكنه انتهز فرصة خلو مأذونية بعض نواحى السيدة زينب لانتقال مأذونها الشيخ عبد الفتاح البانونى إلى جزيرة بدران, فكتب إلى قاضى محكمة مصر الابتدائية طالبا تعيينه مأذونا في هذه الناحية وأرفق بطلبه محضر انتاب موقع عليه من أصحاب الشأن, وبيان بمدارس أبنائه وأنها كلها في منطقة السيدة. وأجيب الشيخ إلى طلبه, وأحضر الشيخ أهالى منطقة " زين العابدين" بالسيدة بذلك.

ولم تعرف الأسرة الإستقرار إلا عندما انتقلت من السيدة إلى الدرب الأحمر الذى سيكون " حى الأسرة" وحى الإخوان أيضا لفترة ما كما انتقل الشيخ بمكتبه ومأذونيته إلى حارة الروم... وانتقل منها إلى حارة الرسام, وهى قريبة منها. وظل بحارة الرسام في المنزل 5 أولا ثم المنزل 9 ثانيا حتى توفاه الله. وقدر للأسرة أن تنتقل من أحشاء الدرب الأحمر إلى حى الحلمية عندما استأجرت بيتا في شارع عبد الرحمن بك ( قريبا من المركز العام للإخوان بميدان الحلمية) ومن الغريب أنها انتقلت من هذا المنزل إلى شقة في حى شعبى هو _ اليكنية) – عودة من الحلمية ( الخليفة) إلى الدرب الأحمر.

وهو انتقال إلى أسوأ بكل المعايير وأنقذ الله الأسرة من هذه الشقة عندما استأجر الإمام لشهيد رحمه الله الدور الأول بمنزل كبير على ناصيتى شارع الهامى وتيمور بالحلمية الجديدة وكان له باب على شارع الهامى وآخر على شارع تيمور. وقد خصص الإمام الشهيد رحمه الله غرفتين تطلان على شارع تيمور لمجلة الشهاب. وأسرة تحريرها وإدارتها وكانت تتكون من الأستاذ سعيد رمضان سكرتير التحرير وكاتب هذه السطور مدير إدارتها والسيد وهبى الفيشاوى للمعاونة. وكان يأتى رحمه الله إليها بعد الاجتماعات. في موهن من الليل. قد يكون الواحدة صباحا ليكتب أبوابه فيها.. بينما احتفظت الاسرة بأربع حجرات كبيرة وصالة يدخل إليها من باب الهامى. وقد خسرت الاسرة هذه الشقة بعد حل الإخوان نتيجة لاعتقالنا جميعا ومضايقة السلطات للوالدة وسيدات الأسرة. وعادت الأسرة إلى شقة " اليكنية " لفترة ما.

وهذا العرض لتنقلات الأسرة يوضح أن القاهرة بالنسبة إليها كانت مثلثا أطرافه الخليفة والسيدة والدرب الأحمر – ولم تخرج أبدا عن إطار هذا المثلث..

خلال هذه الفترة الطويلة من سنة 1924 عندما جاءت الأسرة من المحمودية حتى سنة 1958 عندما توفى الشيخ, كان الشغل الشاغل له أمرين : الأول طبع " الفتح الربانى" الذى كان قد أتمه وهذا ما سنتحدث عنه في فقرة تالية مستقلة, والثانى القيام بشئون أسرته, وأعباء الأولاد. وكانت أسوأ الفترات هى السنوات العشر التى تلت الانتقال 24 -34 تقريبا. ففى هذه السنوات. لم تكن الأمور قد استقرت, وكانت عملية كتابة الفتح تستغرق معظم وقت الشيخ, وتقلل نسبيا من ممارسته لحرفته في تصليح الساعات.كما ان الحرفة كانت تتطلب " مواصفات" معينة لم تعد تتوفر في الشيخ كحدة البصر.. والتمشى مع التطور الذى بلغته الحرفة الخ... فضلا عن كساد سوقها, انتهى الأمر بأن تخلص منها. وقد يدل على ذلك أن الصفة التى التصقت بالشيخ في ايامه الأولى ( المحمودية ثم السنوات العشر الأولى في القاهرة ) كانت هى " الساعاتى" ولم يبرز اسم البنا إلا في الفترة اللاحقة. ومن البداية كانت للشيخ الصفتان : البنا والساعاتى. وقد اختار الصفة الأولى لنجله الأكبر ( حسن ) والصفة الثانية لنجله الثانى ( عبد الرحمن) . وأبرز هو نفسه صفة الساعاتى حتى بداية الأربعينات عندما هجر هذه الحرفة وأبرز صفة " البنا" خاصة وأن هذه الصفة – التى أصفاها على ابنه الإمام الشهيد, أخذت تشتهر. وتكسب ذيوعا.

وقد وجدنا بين أوراق الشيخ خطابا أرسله إلى مجلس محلى بندر المحمودية يدل على الضائقة الاقتصادية التى كان يعانيها وجاء في الخطاب بعد الديبجة " بما أنى أمتلك منزلا ببندر المحمودية مؤجرا لحضرة مصطفى أفندى محمود الجيار تاجر أخشاب بالنبدر المذكور باعتبار ايجار الشهر 50 خمسين قرشا صاغا. وأنى أستحق عند المذكور لنا حتى مارس سنة 1933 مبلغ 5 83 قرش ونصف صاغا, وإن المجلس يستحق عندى الآن مبلغ 720 مليم 1جنيه مقسطة على 500 مليما, فقد وكلت للمجلس تحصيل القسط المطلوب منى كل شهر من المتأجر المذكور حتى ينتهى المطلوب منى, لأنى لا أمتلك شيئا بالمرة من القسط غير هذا المنزل وكسبى الشهرى لا يفى حاجاتى الضرورية خصوصا هذه الأيام التى شلت فيها حركة الكسب بالمرة وإن مهنتى أصبحت الآن غير ضرورية عند الناس فرجائى من عزتكم قبول هذا الالتماس.. الخ.

31/3/33

أحمد عبد الرحمن الساعاتى

ولم يكن الشيخ – فيما يبدو – وحيدا في الضائقة إذ يبدو أنها أخذت بخناق عامة الناس والألم يعجز تاجر الأخشاب المستأجر المنزل عن تسديد إيجاره بانتظام... وقد كانت تلك هى الفترة التى انعكست الأزمة العالمية على مصر.

وهناك مؤشر آخر يدل على الضائقة الاقتصادية التى كان الشيخ يعانيها, ذلك هو أننا لا نجد في دفتر الشيخ أو أوراقه أية إشارة إلى دفعة الزكاة قبل عام 1941 عندما تظهر للمرة الأولى جملة ستتكرر دائما كل عام " دفعنا الزكاة والحمد لله على هذا التوفيق"

وقد كانت هذه الجملة هى آخر ما سطره الشيخ في دفتره عام 1957, بينما احتفظ بين دفتره بأوراق دون فيها مفردات الزكاة التى كان يدفعها خلال عام 1958 عندما توفى . قبل أن يتمها," ويرحلها" إلى دفتره. وهذا الحرص على أداء الزكاة بصورة منهجية له دلالته, وهو يتفق مع دقة الشيخ وحسن فهمه للإسلام.

وجاء العون الأكبر في فترة الشدة هذه من الإمام الشهيد رحمه الله, على ما أشرنا.

وقد كان المرتب الذى يتقاضاه ( خمسة عشر جنيها) يثير الدهشة بمقاييس أيامه وبمقاييس أيامنا, فقد كان مرتب معلم الالزامى ثلاث جنيهات أو اقل, وفى فترة لاحقة – بداية الأربعينات منح خريجوا الجامعة " الدرجة السادسة" و أصبحوا يتقاضون ما بين 12,6 جنيها. واعتبر صدقى باشا ممثل أصحاب الأعمال أن الأعمال الحرة" راحت عليها" بعد أن منح خريجوا الجامعة " الدرجة السادسة المحترمة" كما قال وقتئذ. فإن يعطى خريج دار العلوم خمسة عشر جنيها في عام 1927 أمر يثير الدهشة فعلا. ولمعرفة قيمة هذا المبلغ هذا الوقت تقول أن الرغيف كان بربع قرش صاغ أو كما نقول عشرين تعريفة. وأن أقة السكر, كانت بسبعة وعشرين مليما, وكان الأطفال يذهبون إلى البقال لشراء بتعريفة سركر وشاى, ( أى بنصف قرش) فيفتح البقال درجا كبيرا ويملأ منه قرطاسا, ثم درجا آخر فيه شاى ليملأ قرطاسا أصغر حجما.وكان هذا السكر والشاى يكفيان عدة مرات , وكان من المألوف فى الأحياء الشعبية أن يطلق الجزار العجل الذى سيذبحه, ويسير به أحد أتباعه وهو يصيح (من دا بكره) فيرد " كورس " الأطفال الذين يسيرون وراءه " بقرشين" أى أن رطل اللحم من هذا العجل بقرشين. وكانت البيضة بمليم وربما اقل. وفى أيام الحلمية ( 45-48) افتتح أحد الناس محلا لبيع السندوتش ووضع يافطة كبيرة ( قف هنا لتأكل سندوتش 3 مليم" ولم تكن الحلمية وقتئذ حيا شعبيا. فالمليم كان له قيمة, وكان هناك " النكلة أى المليمين, والعشرين تعريفة أو عشرين خردة أى مليمين ونصف وكانت مضلعة ثم التعريفة, أو مليمات " ثمن الصحيفة هذه الأسعار إلى أسعار سنة 1990, لكانت القيمة الشرائية لخمسة عشر جنيها سنة 27 تماثل ما بين ألف وألف وخمسمائة جنيه.

وهكذا استطاع الإمام الشهيد رحمه الله أن يمد والده بما بين ثلاثة وخمسة جنيهات شهريا و فضلا عن مصروف للشقيق عبد الرحمن كما أخذ معه بعض أشقائه الإسماعيلية لفترات طويلة. وفى سنة 1945 باع الشيخ دكان المحمودية وما حوله من أرض وكان على النيل مباشرة. ومن المحتمل أن تكون وراء ذلك الرغبة في مواصلة طبع الفتح أو لمقابلة تكلفة رحلة الحج الوحيدة التى قام بها الشيخ هذا العام . بهذه الطريقة تمكن الشيخ رحمه الله من اجتياز هذه الأزمة بدرجة من التقشف وهذا التقشف الذى كان إلى حد ما – ضرورة أصبح خطة مقررة حتى عندما انتفت ضروراته المادية , لأنه يتفق مع التوجيهات الإسلامية والسنة النبوية, كما كان يتفق مع السياسة التى أتخذها الشيخ في البعد عن السؤال وعدم التحايل في طلب الرزق أو جعل الكسب المادى هو هدف الحياة, فهذه كلها كانت بعيدة – حقا وصدقا – عن فكر الشيخ , وعن فكر الإمام الشهيد رحمه الله أيضا فعاش متقشفا وهو ما نأخذ به أنفسنا, خاصة بعد أن اخترنا " العمال " جمهورا نتوجه إليه بدعوتنا.

معركة طبع الفتح

كانت عملية طبع ونشر الفتح الربانى وشرحه بلوغ الأمانى معركة فاقت في شدتها معركة التصنيف والتحرير ففى هذه الحالة الأخيرة – حالة الكتابة – كان المطلوب هو أن يقسو الشيخ على نفسه ليحقق أفضل ما يمكن أن يصل إليه في هذا المجال. وقد أخذ الشيخ نفسه بذلك وووفق فيه والحمد لله .. أما في حالة الطبع فلم تكن المسئولية مقصورة عليه. لأنها كانت تتعلق بأموال ومطابع , ودور نشر وقراء ولم تكن هذه لتتعلق بكتاب من جزء واحد – يطبعه ويخلص منه. ولكنه كان أمر كتاب من عشرين جزء كما تصور ( و24 كما صدر بالفعل) وكان يجب على من يشترى الجزء الأول أن يواصل شراء بقية الأجزاء على امتداد عشرين عاما, حتى لا يخل ذلك بعدد أجزاء النسخ الكاملة. أو أن ينتظر حتى تصدر أجزءاه كلها وأنى يمكن التوصل إلى شىء كهذا.

كانت المهمة ضخمة, ولم يكن يتصور أن يقوم بها فرد واحد دع عنك أن هذا الفرد لا يملك مالا او جاها. وليس له اتصالات أة علاقات بدور النشر أو المكتبات التى كان يرفض التعامل معها ويسرى فيه نوعا من استنزاف المؤلف. إذا عندما يأخذ الموزع 30% ( على الأقل) من تمن الكتاب , و40% في كتير من الحالات فماذا يبقى للورق والطبع والتأليف؟.. ا، مثل هذه النسب توقف المؤلف على شفا الإفلاس, وتحول دون أن يواصل الطبع... فضلا عما في ذلك كله من تعليق الآمر نفسه على غيره, وما قد يضطر إليه من رجاء.. وانتظار الخ..

لهذا قرر الشيخ أن يعتمد على نفسه في الطبع, كما اعتمد عليها في التأليف وهذا من أكبر علامات علو همته وصدق عزيمته.

اشترى الشيخ كمية من حروف الطباعة المشكلة ( أى بالشكل من فتحة وضمة الخ..) تكفى لطبع ملزمتين( أى 16 صفحة من القطع الذى ظهر به الكتاب) واستأجر لها مكانا بجواره واستخدم عاملا ماهرا أمينا يقوم بجمع الملزمة فيصححها الشيخ ثم ثم ترسل لتطبع في مطبعة قريبة , بعد أن يشترى الشيخ بنفسه الورق اللازم لها.

كان الشروع في طبع الجزء الأول, كما كتب الشيخ في دفتره سنة 1358 – 1934. وفى سنة 1359 – 1940 كتب الشيخ ( انتهينا من طبع الجزء الثالث عشر من الفتح الربانى في ربيع الأول) أى أن الشيخ رحمه الله طبع خلال ست سنوات هذه الأجزاء الثلاثة عشر أى بواقع جزئين كل سنة واقعة تثير الدهشة خاصة مع الضائقة المالية التى كان الشيخ يعانيها, ولابد أن هناك عوامل أخرى مواتيه مكنت الشيخ من أن يمضى قدما لعل منها أنه وإن ظل معتكفا ف مكتبه, معتزلا الناس, بعيدا عن الدوائر " المشيخية" في الآزهر والأوقاف الخ.. فإن صيت ابنه البكر بدأ ينتشر, وأخذت دعوة الإخوان المسلمين تزحف على الريف والحضر. وعندما أصدر الإخوان المسلمون أول مجلة لهم باسم " مجلة الإخوان المسلمين" جعلوا المسلمون أول مجلة لهم باسم " مجلة الإخوان المسلمين" جعلوا الشيخ مديرا لإدارتها, ومشرفا على طباعتها, وقد وجدنا في مكتب الشيخ عشرات الظروف الحكومية معنون عليها" مجلة الإخوان المسلمين بالقاهرة" وقد أثار عجبنا كيف سلكت هذه الظروف طريقها إلى حارة الرسام دون أى إشارة على الظرف.. هل يعود ذلك إلى أن الخدمة البريدية كانت تؤدى بإخلاص وتفان, أو لآن القاهرة لم تكن قد توسعت هذا التوسع العشوائى, أو لأن شهرة الإخوان المسلمين سمحت بهذا .. وكانت هذه الظروف الحكومية ذات الحجم واللون الواحد تحمل داخلها " الإعلانات القضائية"

التى كانت من أهم موارد الصحف وقتئذ – وكانت الجهات المختصة توزعها على الصحف ولا ريب أن ظهور الإخوان وانتشارهم جعل للشيخ جمهورا لم يسع اليه وما كان يمكن أن يصل إليه بطرقه الخاصة.

ويماثل ذلك أن رزقه الله تعالى تأييد اثنين من رجالات " الحجاز" أعجبا بعمل الشيخ إعجابا عظيما, ولأهمية دورهما وتقديرا لهما سنفردهما بالفقرة التالية.

الصاحبان

كان هذان الرجلان هما السيد محمد نصيف. والشيخ عبد الظاهر أبو السمح رحمهما الله.

1- كا ن السيد محمد نصيف رحمه الله هو " عين أعيان جدة"

كما كنا نطلق عليه, وكان الملك عبد العزيز ينزل في بيته عندما يزور جده. وكانت هواية السيد نصيف هى تقصى الكتب وجمعها والتعرف على أصحابها وتشجيعهم, وكان لحظات سعادته هى التى يكتشف كتابا. فيشترى عددا من النسخ منه, ويرسلها هدية لإخوانه وكان طبيعيا أن يعنى هذا الرجل – وقلبه معلق بالكتب – بالفتح الربانى. وأن يجند نفسه لخدمته. فالفتح الربانى عمل ضخم وهو يتفق مع المذهب المقرر للسعودية – المذهب الحنبلى.

ويبدو أن الاتصالات ما بينه وبين الشيخ بدأت بعد ظهور الجزء الأول من الفتح مباشرة. ويحتمل أن تكون قد دارت بعض المراسلات قبل الخطاب الأول الذى عثرنا عليه في أوراق الشيخ وهو بطاقة معايدة صغيرة مطبوعة أضاف عليها بخطه " أقدم مع هذا الكتاب ورد لكم من الرياض من أفضل أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب "الدعوى" الإصلاحية بنجد رحمه الله تعالى آمين الأستاذ الشيخ محمد بن عبد اللطيف, ولذلك اغتنمت شرف الكتابة اليكم وأنى والحمد لله قد اقتنيت مؤلفكم الحديث واشتريت لى ولأصدقائى خمس نسخ وأول من أحضره للحجاز العبد لله" وليس على المعايدة تاريخ ولكن تاريخ خطاب الشيخ محمد بن عبد الطيف 1354.

وطبيعى أن يكون " أول من أحضره للحجاز" وهو السيد محمد نصيف رحمه الله. فمن أولى بذلك منه. أما الخطاب المرفق المرسل من الشيخ محمد بن عبد اللطيف فكان خطابا تقليديا طويلا بخط جميل أشبه باللوحة وقال فيها الشيخ بع ديباجه طويلة "... وبعد فأنا أشرفنا على ترتيبكم لمسند الإمام أحمد فوجدناه وافيا بالمقصود, فحمدنا الله على ما وهبك من هذا المقام الشريف وخدمتك للسنة النبوية وإحياء الملة الحنفية ,وهذه منة جسيمة ونعمة هيأها الله على يديك لأنك لم تسبق إلى هذا الصنيع . فعلمنا أن في الزوايا خبايا, وأن لأهل العلم بقايا يذبون عنها زيغ الزائغين وانتحال المبطلين. فالذى أوصيك يا أخى تقوى الله تعالى وإخلاص النية والقصد وإمعان النظر في كتب الشيخين الفاضلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية فإن من تبصر فيهما وكرر النظر فيهما. فلابد أن نفرق ما كان عليه الرعيل الأول, فإن الله جعل كتبهما في آخر هذا الزمان فرقانا بين الحق والباطل, وميزان صدق وعدل بالنظر فيهما تنزاح عن القلب شبهات المبطلين وخيالات الضالين وتسفر لمن وفقه الله عن الحق المبين, وترقى به إلى منازل الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين هذا ما نحب لك وندعوك إليه مع أننا نشكرك على صنيعك هذا وبلغ سلامنا من لدنك من الإخوان الذين هم من أهل السنة وأتباع السلف الصالح, وكل من عندنا من المشايخ يشكركم على هذا الصنيع ويدعو لكم بالتوفيق ودمتم سالمين.

وقد وجدنا بمكتب الشيخ الوالد رحمه الله عددا كبيرا من رسائل الشيخ نصيف سنشير إلى بعضها ففى 17 رمضان سنة 1355 أرسل خطابا فيه حوالة على بنك مصر بملبغ خمسة جنيهات ( وكان وقتئذ مبلغا كبيرا) ليقيدها الشيخ من قيمة " مصنفكم الجليل الفتح الربانى ( حسب البيان الموضح أدناه) ويعلم الله أنى أحببتكم على الغيب لآثاركم النافعة وأى أثر أكبر من خدمة السنة النبوية وإرشاد الأمة الإسلامية بمجلة الإخوان المسلمين وما بها من نصائح غاليه في هدوء وسكون بمجلة الإخوان المسلمين بالباطل فجزاكم الله خيرا أمين,

وجعل الله طريقتكم في الإرشاد وخدمة الإسلام على الدوام موافقة لما يحبه ويرضاه أمين ولا ينبغى أن أنسى تقديم جزيل السلام للأستاذ الكبير والعالم الشهير الشيخ طنطاوى ودمتم سالمين".

والشيخ طنطاوى هذا هو الشيخ طنطاوى الجوهرى الذى عهد إليه الإخوان برأسه تحرير مجلتهم تقديرا منهم لعلمه وهو صاحب تفسير يدعى " تفسير الجواهر" وكتابات إسلامية عديدة وهو أحد " الجنرالات" المجهولين الذين ظلمهم الفكر الإسلامي الحديث حقه".

ويتلو ذلك قائمة بأسماء المشتركين وهم السادة محمد نصيف عبد الملك بليلا. محمد بن عبد الله. عبد الرحمن الشامى. محمد هبد اللطيف : إبراهيم الضبع. عبد الوهاب الدهلوى.

وفى شوال من العام نفسه أرسل السيد محمد نصيف ثلاثة خطابات أحدهما في التاسع منه. والثانى في السادس عشر والثالث في أخره وفى خطابات أحدهما في التاسع منه. والثانى في السادس عشر والثالث في آخره وفى خطاب 9 يقول بعد الإرشادات المعهودة إلى المشتركين القدامى والجدد يقول" وسلموا على الأستاذ الشيخ حسن البنا حفظكم الله ورعاكم وقد اطلعت على رسائل الإخوان المسلمين المسماه" نحو النور" وسررت بها كثيرا ولم تغادر صغيرة ولا كبيرة من النصائح الغالية للراعى وللرعية إلا أتت بها بصورة مقولة مقبولة مراعية ظروف الأحوال وحال الناس والله اسأل أن يكلل أعمالكم بالنجاح ويوفق رجال الدولة الإسلامية للعمل بما في الرسالة. وبغير الشرع الحنيف لا نجاح للمسلمين وأن زين الشياطين لهم أعمالهم الحاضرة ورأوا قيام بعض الحكومات بغير الدين فالعاقبة على المخالفين وخيمة وأن طال الوقت ولا يغرنك تقلب الكافرين في البلاد متاع قليل والعاقبة للمتقين والله تعالى يرعاكم وأهدى جزيل سلامى لحضرات الأفاضل أعضاء الجمعية خصوصا المرشد العام حسن البنا حفظهم الله أمين ودمتم سالمين".

وفى خطاب 16 شوال قال " وق كتبت إلى الشيخ أبى السمح بمكة أسأله عن سبب السكون عن طلب جلالة الملك المعظم وقد أرسلت نسخو من الفتح الربانى إلى صنعاء لأحد أصهار الإمام يحيى لأن الزمان قد استدار فصار بعض علماء الزيدية يقرؤون كتب الحديث لأهل السنة البخارى ومسلم يقولون أن عوامهم إذا حضروا دروس الفقه لا يحبونها لأنهم لا يفهموها وإذا حضروا دروس الحديث يفهمونها ولله الحمد والمنة فطرة سليمة وإيمان يمانى".

وفى الخطاب المرسل آخر شوال طلب إرسال الكتب مع الحجاج ليخفف على المشتركين أجرة البريد ويستطرد" وقد جاءنى الجواب من الشيخ أبى السمح يقول أن المالية استكثرت ألف جنيه وأنه استحى ان يخبركم وأنه يؤمل عند رجوع الملك المعظم للحج فيعيد عليه الكرة مرة أخرى وأنا قد اخترت الأستاذ الشيخ محمد بن عبد اللطيف ليسعى في الشراء ولو الخمسة أجزاء التى ظهرت وبعدها يخلق الله مالا يعلمون. ويحقق المالية شراء الخمسة وكلما صدر جزء يشترونه ويسبب نقص موارد الحكومة وكثرة مصاريفها صارت تصعب الصرف في أمور تجهلها لأن رجال المالية لا يهتمون بأمر الكتب".

وفى 17 المحرم 1356 كتب إلى الشيخ يخبره أن الأمير سيف الإسلام الحسين بن الملك يحيى اطلع على الكتاب في مكتبه فأعجب به ودفع قيمة اشتراكه في نسخة وأرسل مع خطابه حوالى ثلاثة جنيهات مصرية وطلب إرسال النسخة سريعا بعد تجليدها إلى صنعاء والأمل بعد وصول الأجزاء تكثر الرغبة في صنعاء فيطلب بكثرة الهمة الهمة يا أستاذ!!

وفى 9 القعدة هـ اقترح على الشيخ أن يكتب لفضيلة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ليرغب جلالة الملك في الإشتراك في خمسمائة نسخة " لأن جلالته أحق الناس بإشاعته وطبعه ولقلة طلب الناس لهذا العلم النافع ستضطرون في المستقبل لعدم إتمام طبعه ولا يسوغ ذلك في زمن أثار السلف الصالح ومن أحق الفخار بنشر هذه الكتاب غير جلالة الملك فمن مثله في الملوك طبع كتب التفسير لابن كثير والتاريخ له والمغنى والشرح الكبير في الفقه التى عم نفعها الناس وغيرها من ألوف الكتب التى توزع مجانا على أهل العلم" ويوصى الشيخ بكتابة خطابه بخط جميل مختصر وأن ينوه باشتراك جلالته بواسطة الشيخ السمح وأنها قليلة ولا يمكن نشر الكتاب كله إلا بمساعدة جلالته بالاشتراك في خمسمائة نسخة ومسألة الأقساط أنا أهونها على وزير المالية في كل شهر خمسين جنيها.

وليس لدينا ما يثبت أن الشيخ رحمه الله قد كتب إلى الشيخ محمد بن عبد الطيف آل الشيخ ولكن هذا محتما خاصة وإن الشيخ محمد بن عبد اللطيف قرظ الكتاب تقريظا حسنا, ويستبعد أن الشيخ لم يرد تحيته بمثلها – على الأقل – إن لم يكن بأحسن منها .

وهناك عدد كبير من الخطابات عام 1356 لمتابعة تطور اشتراك الملك من ناحية, ولأن السيد نصيف كان يواصل الدعوة للكتاب وللاشتراك فيه, ويفيد الشيخ أولا بأول بالمشتركين الجدد, وإرسال قيمة اشتراكهم . وفى 11 من ذى القعدة 1356 كتب بعد المقدمات المعهودة " وتجد أصحابنا يتألمون من أجرة البريد غاية الألم, وهى أجرة باهظة غير معقولة" وعبر عن أمله في رؤية الشيخ وقال له إن أحد زواره قال إن لحية الشيخ على السنة!" وإن كانت لحيتى أقل من قبضة, ولكن لحية الشيخ أبى السمح وصهره محمد حمزة زيادة عن قبضة, والأخ الهندى عبد العزيز أكثر من قبضتين وثلاث قبضات تملأ صدره وسلموا, لى على الشيخ حسن وقد رأيت صورته بطربوش ولحية بارك الله فيه, وفينا جميعا آمين ودمتم سالمين".

وكان من عادة السيد محمد نصيف رحمه الله أن يضمن بعض خطاباته شيئا من المداعبة من ذلك ما جاء في خطاب في 29 رمضان سنة 1357 عن إغراء الأخوة النجديين للشيخ أبى السمح على الزواج " مع أن عنده عشرة أبناء كان الله في عونه!".

وفى 7 من ربيع الأول سنة 13 58هـ كتب السيد محمد نصيف إلى الشيخ خطابا مطولا يقول له فيه انه لما بلغه أن جلالة الملك ابن سعود اشترى كتبا منها كتاب ( نصب الراية) ووجد فيها مقدمة الكوثرى في الطعن على علماء الجرح والتعديل وأئمة المذاهب الأخرى تسييرا لمذهب أبى حنيفى وكذبه على شيخ الإسلام ابن تيمية وتجهيلا له ولغيره من العلماء وللشيخ محمد بن عبد الوهاب مصلح نجد وأنه بين ذلك لجلالة الملك وأن توزع هذه الكتب لا يجوز وأن أحق كتاب فيه فخر الدنيا والآخرة هو الفتح الربانى لو أمر جلالة الملك لخمسمائة جنيه دفعى واحدة لحضرتكم قيمة نسخ من الكتاب المذكور فيصدر الكتاب في أقرب وقت وتوزع النسخ على علماء الجهات الذين يزورون جلالة الملك وقت الحج يكون في ذلك فخر الدنيا والآخرى ومن أحق بهذا الفخر مكن جلالته..ز فجاء الجواب كالآتى:

" أما كتاب الفتح الربانى في ترتيب مسند الإمام أحمد فنحن ممنونين من طبعه واشتراكنا بألف نسخة منه يكون معلوم".

والمل أم جلالته يأمر المالية بإرسال مبلغ الخمسمائة جنيه مصرى مقدما وهى ليست بكثير خصوصا وأن معدن الذهب في حره بنى سليم ناجح والبترول ناجح ستكون بعد عشر سنوات وارادات حكومة نحو عشرة ملايين جنيه ذهبا والحمد لله رب العالمين ودمتم سالمين".

ولكن هذا ( النطق الملكى ) لم يتحقق تماما وإما تشترك الحكومة في ألف نسخة ولكن في مائة. وظلت الخطابات متصلة ما بين السيد محمد نصيف, والشيخ وفى كل منها يفيد السيد بزيادة مشترك أو يطلب إرسال أجزاء معينة منها يفيد السيد بزيادة مشترك, أو يطلب إرسال أجزاء معنية أو تجليدها, أو تتضمن حوالات بقيمة الاشتراكات وفى أحد هذه الخطابات يقول انه اقتنع الشيخ يوسف زينل ونجله الشيخ إبراهيم فاشتريا " نسخة كاملة بواسطة وكيلهم في القاهرة" وأل زينل من كبار ثراة السعودية وقتئذ ويبدو أن السيد نصيف أقنعهم بما هو أكثر من شراء " نسخة كاملة" لأننا وجدنا بين أوراق الشيخ صورة لخطاب شكر للشيخ يوسف زينل. وكانت القاعدة التى وضعها الشيخ لمن يريد المساعدة وتشجيع الطبع هى شراء عدد من النسخ بقيمة مساعدته. وكان خطابات السيد محمد نصيف رحمه الله تنبض بالعاطفة للشيخ, والإمام السعيد كذلك وفى كثير منها طلب لرسائل المأثورات أو " نحو النور" أو مجلدات من مجلة الإخوان والخطاب الأخير فيما وجدنا بتاريخ 8 المحرم 1373, وهو خطاب مؤثر يبدو أن السيد كتبه في حالة نفسية سيئة لأنه مضطرب الكتابة شيئا ما, وفيه يقول :" البال مشغول بعد وفاة أكبر أبنائى حسين رحمه الله, توفى بمصر وحضرت وفاته بمصر. وكانت إقامتى بمصر للتداوى أحد عشر يوما, وهو كان بصحة وعافية. فبعد وفاته رجعت إلى جدة وعى أحد ابنيه محمود, كان في مدرسة الهندسة والحربية المصرية. وصل في أول شهر رجب 1372 مع البعثة العسكرية السعودية وفقهم الله لخدمة الإسلام, وقد سرت الحكومة السعودية بذلك وفقها لما يحبه ويرضاه وجعل الخير على يديها, وسلموا لى على الأنجال والأصدقاء من هنا يسلمون عليك.

وعاد حفيدى محمود إلى السعودية بعد أن يلى أمه وأخته وقد قال لى طبيب العيون يكون رجوعى إلى مصر بعد عام واحد حتى يجمد الماء في العين لإجراء العملية.

وختمه " وربنا يحسن الختام ويتوفانا على الإيمان آمين".

رحم الله السيد نصيف, وأثابه عن جهوده الطيبة في خدمة السنة والثقافة الإسلامية خير الثواب.

ب- وأما الصاحب الثانى فهو فضيلة الشيخ عبد الظاهر أبو السمح وهو عالم سلفى من أصل مصرى استوطن مكة وتولى إمامة الحرم الملكى وأسس بها دار الحديث وحظى بمنزله مكينة من الملك عبد العزيز وعلماء السعودية والخطاب الأول الذى عثرنا عليه في مكتبة الشبخ يعود إلى 9 ربيع الآخر سنة 1354 هـ وفيه يقول " فقد أخبرنى صديقى الفاضل محمد أفندى مصطفى الفقيه أنكم تفضلتم بإعدائنا نسخة من كتاب الفتح الربانى فلم يسعنى إزاء ذلك التفضل إلا شكركم والدعاء لكم وأنى منذ رأيت إعلان عن الكتاب وأنا أثنى عليكم وأنوه بعملكم هذا المبرور بين الناس وقد اشترك بعضهم وأملى أن يكثر المشتركون في الحجاز إن شار الله وليس تنويهى بالكتاب ومرتبه وخادمه إلا تنويه بالسنة نفسها ونشرها وقد كتبت كلمة أرسلتها لمحمد أفندى في هذا العدد لينشرها فما أدرى هل قام بذلك أم لا.

هذا وأنكم يا أخى قد رفعتم رأس مصر بهذا العمل الجليل وأقمتم الدليل على أن في الكنانة من يخدم السنة ويعمل على إحيائها فلم يبق الأهل الهند استئثار بهذا الأمر بعد أن ضربتم لهم هذا المثل أعانكم الله وأجزل ثوابكم وأدام توفيقكم وجعلنى وإياكم ممن يحيون السنة ويميتون البدعة والمشتركون عندنا أكثر من 12 مشتركا وإن كانوا يتأخرون أحيانا عن الدفع فنقوم عن بعضهم ولا عجب فإن أكثر محبى السنة إن لم أقل كلهم ليسوا بأهل ثراء وغنى إنما هم من الفقراء.

وأنى أكرر الشكر لفضيلنكم وأسأل أن يجزيكم عن محبكم في الله خيرا وأن يجعل هذا الكتاب رابطة ود في الله وأخاء له تعالى لا تنفصم عراها على مر الليالى والأيام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وعلى هامش كتب:

" وأبشر الأخ بأن الكتاب سيروج جدا بحول الله وقوته,وسأجتهد لدى جلالة الملك ليأخذ منه كمية, وحبذا لو ساعدنى الأخ على هذه المنية بتجليد الجزئين الولين تجليدا حسنا وكتب عليه الاسم وأرسلت إليه هدية وأنا سأكتب إلى جلالته اليوم كتابا وقد ركز الشيخ أبى السمح جهده لخدمة الكتاب في حمل الملك عبد العزيز على الإشتراك في أكبر عدد ممكن وبين يدينا عدد من الخطابات تلقى ضوءا على هذه العملية وتكشف خلالها عن بعض الظروف المالية التى كانت تمر بالمملكة وقتئذ والتى كانت تقضى عليها بأشد الأساليب تقشفا " ولكن المستقبل سيكون أفضل " كما جاء في أحد الخطابات " لأن البترول قد بدأ يظهر وكذلك الذهب في أجياد".

وفى 23 ذى الحجة 1354 كتب إلى الشيخ .." ثم إن نجلكم الكريم حسن أفندى قد لقينا وزارنا بدار الحديث وقد سررت بلقائه جدا وحمدت الله أن جعله من الدعاة إلى الفضيلة وقد تسلمنا هديتكم بيد الشكر والثناء عن نفسى وعن دار الحديث جزاكم الله خيرا وبارك فيكم وأخلف عليكم.

وقد زرنا جلالة الملك ليلة أمس وذكرنا كتاب الفتح وقد ترجمتكم له ترجمة سر بها وشوقته إلى الاشتراك في مئات من الكتاب وقد أمرنى أن أكلم حضرتكم في ذلك فهو كان يريد 200 نسخة فقط فراجعته ليأخذ 500 فوافق وأمر أن أكتب لكم في ذلك. أفيدونا لعلنا نحصل لكم على شىء من ثمنها يساعدكم على إتمام الطبع".

وهناك خطاب آخر دون تاريخ بهذا المعنى وفيه يقول " والمقصود أننى كنت قابلت جلالة الملك وتذاكرنا في الفتح وما إليه, وكان قد وصله منكم هدية منه فسألنى عن فضيلتكم, وعن الكتاب نفسه فأبديت لجلالته ما بيسركم فرغب في الاشتراك بمائتى نسخة فقلت له قليل يا مولانا حتى أبلغناها إلى خمسمائة ثم طلب منى الاتفاق معكم على اقل ثمن لها من الأبيض والأصفر... الخ.

ولكن يبدو أن الإجراءات البيروقراطية ومشاغل جلالة الملك أرجأت التنفيذ وفى 21 صفر سنة 1356 كتب الشيخ أبو السمح .

" وإنى لخجلان ويعجز القلم عن وصف ذلك الخجل الذى عرانى من أجل تأخير اشتراك جلالة الملك في الفتح غذ بعد ان جاء كتابكم الكريم عرضته على جلالة الملك وبعد أن رد لى الجواب بأنه أمر وزير المالية بما يلزم وكتب لى وزير المالية بعمل الحساب للعدد المطلوب فلما وجده فوق الألف جنيه استمهلنى أياما وما أدرى إلا بالجواب يقول إن جلالة الملك أمر بوقف المسألة الآن حتى يتم الطبع فعرفت أن الملك قد روجع في المسألة الآن حتى يتم الطبع فعرفت أن الملك قد روجع في المسألة ليقفها فوقفت ولكنة عدت فراجعته وقلت لو أن تشتركوا في مائة نسخة... الخ.

وفى 17 ربيع 1356 كتب.

مولاى. لم آل جهدا في الكتابة لجلالة الملك حتى قبل الاشتراك في مائة نسخة كما ترون في كتابة الرسمى لى فأرسلوها مجلدة بالقماش تجليدا ظريفا من الجلد 2 قرشا صاغا مثلا واجعلوا منها نحو ثلاثين نسخة جلد أفرنجى لا يزيد عن 4 قروش صاغ أو 3 مثلا....الخ. وطلب في نهاية الخطاب ان يعيد الشيخ البنا خطاب جلالة الملك الأمر الذى فعله الشيخ بعد أن أشر على الخطاب " وكان مع هذا خطاب رسمى من جلالة الملك".

ومن الواضح أن طلب الشيخ أبى السمح إلى الشيخ البنا إعادة خطاب جلالة الملك ليمكنه المحاسبة والاحتجاج به إذا طرأ ما يتطلب ذلك كان المتلى للمسألة كلها.

وفى 4 رمضان سنة 1356 كتب.

"... ثم معاملة في الإستلام والتلسيم بينى وبين الحكومة كما أريتك في كتاب الملك وفى كتاب آخر منه يقول أمرنا المالية باستلام الكتب منك وتسليمك الثمن وكذلك كان,وصار لى الحق أن أزيد ما أعرفه من جيبى من المصاريف وما أنفقه على العمال طبعا أنا وحظى أن أعطتنى الحكومة فلله الحمد وإن لم تعطه احتسبه في خدمة السنة وقد تكلفنا في تفريق الصندوق الكبير الذى أرسلتموه إلى 6 صناديق ليمكن حمله على الجمال.. الخ. وإن خادمى ليذهب كل ليلة في رمضان إلى المالية بالسند فيعطى مرة 8 جنيه ومرة لا يعطونه وناس يصبرون بالشهور على مالهم عندنا ولولا ما للفقير عندهم وأنها مسألة تتعلق بالملك نفسه ما حصلنا على المبلغ بعد ستة فالحمد لله على أنى إلى ساعة كتابه هذا لم أوف وأثرتك بالذى حضر والرجا قبول عذرى فإن التأخير والله لم يكن بيدى رغم أنفى وإلى الله المشتكى".

وبعد هذا التاريخ بيومين فحسب ( أى في 6 رمضان) أرسل إلى الشيخ خطابا جاء فيه بعد الديباجة.ط فإلى الآن لم تصل الكتب من جده وهذا الذى كنت أعمل له ألف حساب فإن الحجاج أخذوا يفدون بكثرة وإذا كثروا وقعت أزمة في الجمال فتغلوا البضائع لذلك وتعطل في الجمرك إلى أن نجد الجمال لحملها وقد أرسلت لمحمد أفندى نصيف منذ جاءنى كتاب المرسل من السويس أى منذ 14 يوما وقد كان صندوقا ضمن بضاعة لتاجر في جده اسمه أحمد باعشن فذهب الأفندى إلى الجمرك ونقل الصندوق إلى منزله ولكنه لم يجد الجمال لنقله.. وقد قسمه إلى ستة صناديق ليمكن حملها. ونسأل الله أن يسلمها من المطر والسيول حتى تصل ونسلمها لوزارة المالية ونسلتم الثمن ثم نرسل لكم ما بقى إن شاء الله. لا يكن عندكم فكرة, الملازم وإنما أرسلت هذا لاطمئنكم وأهنئكم بشهر رمضان".

وهناك عدد من الخطابات كلها تدور حول تسليم وتسلم النسخ والمتعب التى لاقاها مع المالية, وأنهم لا يدفعون إلا بعد استلامهم الكتب. وهناك خطابان يحثان الشيخ على اختصار الشرح سنشير " علم من الأفندى نصيف أن جلالة الملك سلمه الله سيشترك في ألف نسخة من الفتح, ولكن لم يصلنى ذلك من ديوان جلالته رسميا لأنه مسافر إلى الإحياء لأعمال ثم يعود, وسأتصل بجلالته عندما يعود إلى الرياض إن شاء الله وأتحقق الأمر بنفسى.

وفى 2 جمادى الأولى سنة 1958 أرسل الشيخ أبو السمح للوالد يقول بد الديباجة ".. هذا وبلغوا سلامي وعتبى لنجلكم الكريم حسن أفندى وذلك أنه نشر في النذير لولدنا عبد اللطيف مقالا عنوانه " من صعلوك إلى ملك" باسمه الصريح, ولابد أن تقرءوه, إن لم تكونوا قد قرأتموه, وفى المثل العامى المشهور" إذا كان المتكلم مجنونا كان السامع عاقلا" فكان حقا على الأخ حسن أفندى وهو السياسى المحنك والفقيه الدينى أن يلاحظ صلتنا وصلتكم بجلالة الملك العربى المسلم ويحافظ عليها, فلا يترك مجالا لسفيه كهذا يكتب ما كتب مما أساءنا به وأساء الملك وأولاده الأمراء.

ومن جهة الدين فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يكون بهذه الصفة فالأمل أن يكتب الأستاذ كلمة يمحو بها ما تقدم معتذرا وفى الحقيقة أن الملك عبد العزيز لا نجد مثله ينصر السنة وينشر كتبها ويعظم شعائر الله, وهذه سيرته ماثلة لكل من أراد الحقيقة أما من أراد الباطل والصيد في الماء العكر. فهذا مخذول وختاما سلاما.

والخطاب الأخير الذى عثرنا عليه في أوراق الشيخ بتاريخ 14 رمضان سنة 1358 وقد كتبه الشيخ أبو السمح في مجلي حضره السيد نصيف, ولهذا وقع الاثنان عليه وجاء فيه, وبعد... فإنى لم آل جهدا في تفريج كربتك وإجابة طلبتك وإرسال ما بقى لك حتى ييسر الله لى وحولت لك المبلغ وقدره 6,5 جنيها على بنك مصر. ومع هذا الحوالة بالمبلغ المذكور فتفضل بتسلمها.

رحم الله الشيخ عبد الظاهر أبو السمح ونصر ثراه.واستقراء االخطابات التى كتبها " الصاحبان" يوضح لنا كيف إن إحساسهما العميق بالواجب دفعهما للقيام بهذه الجولات والمحاولات التى وصلت إلى درجة الإلحاح والمتابعة مع الملك نفسه, ثم مع البيروقراطية التى تنتهى إليها الأمور. كما يكشف عن أن الظروف الاقتصادية القاسية التى كانت تمر بها لمملكة وقتئذ والتى جعلت ألف جنيه مبلغا يعسر على وزارة المالية تيسيره ويتراجع الملك نفسه, لم تحل دون أن تقوم الدولة بدور ما. ونعتقد أن هذه المشاعر لو وجدت اليوم بين ثراة السعودية وأهل العلم والفضل – ولدى المسئولين في الدولة لكان حظ الثقافة الإسلامية أفضل بكثير مما هو الآن أن عهد جمال لم يكن أسوأ – في ناحية ما – من عهد البترول أن الحجاز قد نال شهادة عراقته عندما وضع إبراهيم واسماعيل القواعد من البيت ثم ولد الولادة التاريخية الحية عندما جعل الإسلام هذا البيت بمثابة وأمنا وقبلة, وعندما ثوى جسد الرسول في بقعة منه تنسكب فيها دموع الخشوع وترتفع أكف الضراعة وتتعالى مشاعر الحب والولاء من مسلمى العالم أجمع بما يجعلها روضة من رياض الجنة على الأرض, فأصول هذه البلاد تعود إلى الله والرسول وليس إلى البترول , عليه لعنة الله.

وكان الشيخ البنا رحمه الله عظيم التقدير لما يقوم به الشيخ عبد الظاهر أبو السمح من جهد بحكم صفته كمدير لدار الحديث وإمام للحرم المكى وبحكم اتصالاته بالملك عبد العزيز خاصة بعد أن أصبح الكتاب يدرس في دار الحديث ويقرأ القارىء في الصفحة الأخيرة مع الجزء الثانى من " الفتح الربانى".

" وإنا لنتقدم بأجزل الشكر وعاطر الثناء إلى فضيلة العلامة الأجل مدير دار الحديث بمكة المكرمة زادها الله تشريفا على معاضدته أحيانا واجتهاده في نشر الكتاب وتعميم النفع به حتى صار مقررا على طلبه هذه الدار المباركة تتوالى علينا طلبات الإشتراك فيه من الأرض المقدسة كما أن فضيلته اطرى الكتاب وقدمه لمحبى السنة اجمل تقديم في الصحف السيارة مما كان له أجمل الأثر في نفسنا وحسبنا أن يجد الكتاب من فضلاء المحدثين هذا التقدير ويلقى منهم العناية والكتاب الآن يدرس في الحرمين الشريفين مما يجعلنا نتفاءل بقبوله ونستبشر فيه برضوان الله ورسوله إن شاء الله".

والحقيقة أن الشيخ في اعترافه بهذا التجاوب وشكره له كان يجرى على أدب الإسلام في رد التحية بأحسن منها ومن هنا فقد تكررت كلمات شكره على الصفحات الأخيرة لأجزاء المسند سواء كانت " لعين أعيان جده" السيد محمد نصيف أو تجارها الكرام أو دار الحديث أو غيرها.

مخاوف ومحاذير

مع هذه المعونات, لم يكن الأمر سهلا,وقد اصطدم كفاح الصاحبين بالبيروقراطية وعدم الاكتراث, وتمخضت الألف نسخة إلى مائة ترسل بعناء , وتحصل قميتها على أقساط.وعندما قامت الحرب العالمية الثانية ( 3945) اشتعلت أسعار الورق وخفض الشيخ من حجم الجزء الحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر ثم اضطر للتوقف هنيهة.

وأهم هذا كل المطلعين على عمله , المقدرين لدوره. وكتب إليه الشيخ أبو السمح من مكة في 3 من ذى القعدة 1357 خطابا جاء فيها" ونرجو أن تحضروا في الشرح حتى يمكن إتمام الكتاب, لأن الأعمار كما لا يخفى غير مضمونه وإذا أطلتم الشرح احتجتم على مال كثير وعمر طويل, والمال يمكن أن يدرك, ولكن من يضمن طول العمر,وهذا المرحوم السيد رشيد رضا ترك تفسيره ناقصا, وكم من قائل له اختصر , وقائل له اقتصر, فلم يسمع إلا آخر حياته ولم يدرك ما أمل فلا المطول أكمل ولا المختصر أتم, وترك كليهما ناقصا فلم المسألة ولا تجعل لغيرك فيها بدا, واشرح ما لابد منه وحسبك تخريج الحديث وشرح غريبه. والإشارة إلى ما اختلف فيها العلماء والدلالة على مواضع البحث فيه فمن اكتفى بما بينته فيها ومن لم رجع إلى بسط الموضوع في محله والدال على الخير كفاعله".

وكانت هذه القضية قد شغلت ذهنه قبل ذلك وكتب إلى الشيخ في 22 شوال سنة 1356هـ " ويرى بعض الإخوان انكم توسعتم في الشرح حتى خاف أن يطول الكتاب وأشفق أن تعجز النفقة عن إتمامه ويرى آخرون أن تقليل الملازم عما كانت أولا تخل بنظام التجليد ووزن كل جلج ويقولون أن رفع القيمة لكل جزء ليبقى على ما كان من عدد ملازمه خير من نقص الملازم والنتيجة على كل حال واحدة أما فكل ما ترونه حسنا فهو عندى حسن إن شاء الله".

ولم يكن الشيخ أبو السمح وحده هو المشغول بهذه القضية فالحق إن عدم توفر المال كان تهديدا دائما وقد توقف الشيخ شيئا ما قبل صدور الجزء الخامس فكتب أحد العلماء الغيوريين على السنة هو الشيخ محمود شويل من علماء المدينة المنورة في 12 المحرم سنة 56 " ولقد تأخر طبع الجزء الخامس حتى وضع كل محب للسنة يده على قلبه بما آلمه منه ذلك التأخير الذى ظن أن من ورائه تأخير هذا الأثر الذى جلى للأمة سنة نبيها صلى الله عليه وسلم وجمع لها شتيت هذا المسند الذى أضاع فيها صديق هذه الأمة الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى عمره الثمين".

وتعجب الشيخ كيف لا يفكر أحد أبناء الأمة الإسلامية في مد يد المساعدة والمعونة لطبع هذا ( المجهر) الإسلامي الذى عم نوره الأفاق كلها بصدور أجزائه الأربعة الأول " أنى لاستمطر أكف أهل الصدق والوفاء كسعادة الكريم الجواد مغازى باشا الذى حج هذا العام وزار الروضة المطهرة فأغدق على جيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيضا من سماء كرمه جعلهم يهتفون بذكره واستمطر أكف سعادة البدراوى باشا وسيد باشا خشبة وجلال بك محمود القيسى أعضاء مجلس النواب والشيوخ, وقد رأينا كرمهم الحاتمى أثناء حجهم هذا العام بمكة والمدينة ما جعل الألسنة تلهج بذكرهن الثناء عليه.." وبالطبع فإن أحدا من هؤلاء السادة لم يعلم بهذا النداء ولو علم لما فعل شيئا فهناك فرق بين الكرم عند الحج.. وبين المساعدة على إخراج سفر علمى ثمين. ويبدو أن الشيخ شويل رحمه الله - ولعله مصرى الجنسية – لم يتقدم إلى أحد من السعودية لتصوره أن المصريين أقدر على المساعدة وقتئذ.

وجدير بالذكر أن علماء السعودية لم يكونوا وحدهم الذين شغلوا بهذا الأمر فقد كتب أحد علماء مصر المشهورين وهو الشيخ أبو العيون إلى الشيخ خطابا في 4/10/ 40) يقول بعد الديباجة.

سيدى – طالما فكرت في الكتبة اليكم في الشأن الذى أحرر لكم فيه هذه الرسالة حتى وفقنى الله من فضله اليوم فكان فرصة سعيدة لنهنئكم بحلول شهر رمضان المبارك أطال الله حياتكم النافعة إلى أمثاله.

أما المر الذى غلب الخجل من التدخل فيه الرغبة في نشر فضلكم وعموم النفع بكم وتمام عملكم بالخير فهو الإشارة على حضرتكم بانتهاز فرصة الورق وارتفاع أسعاره الذى يفوق السير في الطبع بالسرعة العادية زيادة على ما عرقل سبل تصريف الكتاب في أقطار الإسلام من عوائق الحرب وانتهاز تلك الفرصة يكون إن شاء الله ببذل وقتكم النفيس في تدوين شرحكم القيم لأحاديث الكتاب المبارك أنى أتمنى لو تفضلتم بتوفيق الله فسبقتم بالشرح والتدوين ولم تنتظروا شرح الأحاديث مع طبعها أو قبيل طبعها فحبذا لو حثثتم نفسكم في ذلك الشرح العظيم جهد المستطاع سرعة وإن كنتم في الطبع وجدتم التأليف أمامكم معدا فتكونون بذلك قد ادخرتم للإسلام والله المسئول بكرمه وجوده أن يمد حيتكم المباركة حتى تروا الكتاب كله مطبوعا مع شرحكم البديع طبعا يقر عينكم وعيون الناس .... الخ. وكتب عبد العزيز محمد باشا , وهو وزير سابق للأوقاف في 10 ذو القعدة 1366 ( 25 سبتمبر 1947).

حضرة الأستاذ الجليل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا:

جلت أثاره, وعظمت مناقبه وكثرت مآثره, بعد التحية الطيبة والسلام العاطر هل لى أن أسألكم عما تم طبعه من كتبكم الجليل المعنون بالفتح الربانى بعد الجزء الثالث عشر وثمن كل جزء فإنى حريص على اقتناء باقى أجزائه وأرجوا منكم الحرص على إتمامه قبل مفارقتكم هذه الدار بعد عمر طويل إن شاء الله, فإن عملكم هذا عمل مفيد لم يسبقوا إليه فيما أ‘لم, إن كان علمى صحيحا وسيجزيكم الله عنه أجزل المثوبة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وجاءه من أحد أفراد الأسرة " مخيون" في " أبو حمص" وهى أسرة عريقة كان شبابها يرون في الشيخ رحمه الله ابا روحيا.

حضرة المحترم والدنا المبجل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا بارك الله لنا في حياته ورضى عنه وأرضاه. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته. وبعد. فلم تردوا على بطاقتنا وقد كررنا لكم الزيارة فلم نحظ برؤيتكم إذ لم نجدكم بالمكتب فرجائى أن تخبرونى بما تم في المسند والفتح وهل استمررتم في الطبع ام لازلتم متوفقين وندعو الله أن ييسر عليكم والإستمرار في الطبع وعلى كل حال لا تحرمونا من بركات دعائكم ومراسلاتكم حتى لا تنقطع عنا أخباركم الطيبة إن شاء الله.

وختاما أكرر سلامى ودعائى أن يمنحكم الله القوة والعافية وطول العمر وحسن العمل آمين.

الخميس 14 من المحرم سنة 1367

27 من نوفمبر سنة 1947

أبو بكر مخيون

بعزبة مخيون بأبى حمص - بحيرة

وأخيرا تلقى الشيخ هذا الخطاب من شخص انتهت به الأيام لأن يقوم بأول حركة مسلحة للتخلص من نظام كان يراه فاسدا ودفع حياته ثمنا لذلك. تولاه الله بعفوه ورحمته :

حضرة أخينا الشيخ الجليل أحمد عبد الرحمن البنا المحترم :

أحييكم بتحية الإسلام الصافية النقية فالسلام عليكم ورحمه الله وبركاته ونحمد الله العلى القدير الذى جمعنا على محبته وربط بين قلوبنا على طاعته فمحبة الله وطاعته هما ملاك الأمر وميزان المؤمنين . ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ولقد أحببتك يا شخينا والله يعلم منذ زمن بعيد ولقد كنت حريصا منذ مدة على اقتناء كل ما وفقك الله لطبعه ولقد كنت دائما أطالع ما تكتبونه بمجلتى الشهاب والمسلمون.

ونحمد الله العلى الكبير على أن وصلتنا النسخ الثلاثة من مسانيد الأئمة أحمد بن حنبل والشافعى والطيالسى رضى الله عنهم وقد أخبرنا الأستاذ قاسم صاحب مكتبه المثنى الذى جلب لنا هذه الكتب له جلب ثلاث نسخ أخرى من كل كتاب ولقد حرضت مع أخوى اللين اشترنا النسختين الباقيتين كثيرا من الإخوان على اقتناء هذه الكتب وكثيرا ما كنا نجابه بأن مسند الإمام أحمد غير كامل وحين تمامه فإنهم سينشرونه فنحثكم راجين لكم التوفيق أن تسرعوا في طبع ما تبقى من هذا الديوان الكبير الذى جمع الذى بين دفتيه كثيرا من السنن وبذلك تكونون قد رفعتم للسنة منارا عاليا إن شاء الله. وفى الختام نرجوكم غاية الرجا أن ترسلو لنا رسالة حال الإنتهاء من طبع أى جزء من الأجزاء الباقية وبذلك تكونوا قد أسد يتم لنا فضلا نشهد لكم به عند الله يوم العرض الأكبر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

28 رجب 1377هـ

أخوكم المحب

صالح عبد الله سرية

بغداد – الكرخ – سوق الجديد

مدرسة التربية الإسلامية

السنوات الأخيرة

كان من المحتمل أن تكون السنوات الأخيرة من حياة الشيخ سنوات هدوء ورضا واستقرار. فقد تخلص من أعباء الأبناء بعد أن كبروا وتوظفوا وتزوجوا, واستراح من الساعات وتصليحها بعد وقت طويل واجتاز أزمة الحرب العالمية التى أوقفته حينا عن النشر, فواصل إصدار أجزائه جزءا جزءا, واكتسب الكتاب مع الزمن دائرة محدودة من الإنتشار, ولكنها كانت تكفى مع اقتصاد الشيخ وضبطه لعملية الطبع – للإستمرار – حتى يحقق أمل حياته في أن يرى الجزء الأخير مطبوعا, لولا أن تطورت الأمور تطورا مأساويا وأصابته – وهو بعيد عنها – في الصميم. فالعداوة التى احتدمت بين الإخوان ووزارة السعديين وصلت إلى قمها في حل الإخوان المسلمين في ديسمبر من عام 1948, وإعتقال الألوف من أعضائها كان منهم أربعة من أبنائه الخمسة. وإغلاق شعبها ومصادرة أموالها, أخذت تتطور من سىء إلى أسوأ, حتى انبعث أشقاها ليغتال ابنه البكر في ظلام الليل.

ولو كان الشيخ يكتب مذكرات لأخذنا فكرة عن اللوعة التى اجتحته, والحسرة التى تملكته عندما اضطرته الليالى السود لأن يحمل بيديه جثمان ابنه العزيز الذى كان ملأ حياته ونور بصره وأن يودعه قبره, وحيدا لا تحضره عشرات الألوف التى كانت تشق بهتافها عنان السماء " الله أكبر ولله الحمد" ولكن تحاصره أسنة حربا البوليس, لا يعلم إلا الله وحدهما انتاب الشيخ هذا اليوم وما تلاه من أيام, وما كان يفكر فيع خلال الليالى الطويلة التى أعقبت هذا الحدث. وكم سكب من دمع مدرار, وما هى الهموم والآلام والأحزان التى كانت تعصف به وحيدا في مكتبه.. وبأى عين كان ينظر إلى المستقبل القاتم المدلهم. بعد أن قتل ابنه البكر واعتقل بقية أبنائه – واضطروا إلى ترك الشقة الرحبة الواسعة. وما فرضه الحكم العسكرى من إرهاب دخل الحوارى والأزقة والقرى النائبة و" مشط" البيوت بيتا بيتا وأصاب كل من له علاقة بالإخوان.

لكن الشيخ كان رجلا مؤمنا, كان إماما في علمه وفقه وفهمه للإسلام وقيم أذن يفيد هذه المعرفة أن لم يكن في مثل هذه الحوادث الجسام وفى مواجهة الآلام, كان الشيخ يعلم أن البلاء قسمه المؤمنين, وأن الشهادة تاج المجاهدين فحال ذلك دون أن يتهاوى وتماسك, وأخفى ما يحتمل بين جنبيه من لوعات وسجل في دفتره العتيق " في يوم السبت 14 منه ( أى ربيه الثانى سنة 1368) موافق 12 فبراير سنة 1949 في الساعة التاسعة مساء اغتيل المرحوم حسن ابنى – فهدم بفقده ركن من الإسلام – رحمه الله رحمة واسعة ".

وأرسل البنا في المعتقل خطابا يواسينا ويوصينا بالصبر والاحتساب, ويذكرنا أن البلاء هو حظ الأنبياء فالأولياء فالأمثل فالأمثل, وقد أخذ الأخ عبد البديع صقر – رحمه الله – يقرأ الخطاب على المعتقلين بالطور , وكان عجبه لا ينتهى من أسلوب الخطاب ودقة كتابته وعدم وجود شطب أو خلل فيه.

وأصاب مقتل الإمام البنا الأسرة بضربة لم تفق منها. صحيح أن الإمام الشهيد رحمه الله لم يكن يؤثر أشقاؤه ولكنه كان للأسرة ذخرها, وفخرها وأملها. وكانت تربطه بكل فرد من أفراد الأسرة وشيجة تضرب في أعمق أعماق النفس, وصلة وثيقة من الطفولة حتى الرجولة فضلا عن الصورة الدراماتيكية والملابسات الإرهابية التى وقع بها هذا الخطب الجلل.

من أجل ذلك فإن الشيخ الوالد لم يعد أبدا ما كان عليه قبله, حتى وإن كان قد استأنف العمل كما سنرى, أما الوالدة رحمها الله فقد كان مصابها يجل عن الوصف وأذكر أنها قبل الحادث كانت تسير بجانبى في شارع الحلمية ودقات حذائها تضرب الأرض بقوة, أما بعده فقد ظلت لمدة طويلة لا تستطيع أن تجلس إلا على عجلة مطاطية منفوخة بالهواء بعد أن أصبحت جلدا على عظم وقد ألفت – حتى بعد خروجنا من المعتقل بعد الحاديث وعندما كانت لا تجد وسيلة خاصة للركوب, كانت تنتظر لأكثر من ساعة ظهور أول ترام يذهب إلى الإمام الشافعى, وفشلت كل محاولاتها أثنائها عن ذلك او إقناعها بالانتظار حتى تشرق الشمس أما الشقيقة فوزية فقد كان مصابها مضاعفا إذ أصيب زوجها

وقتل أخوها فأصبحت مثل جليلة في القديم وتمزقت ما بين العناية بزوجها في مستشفى قصر العينى ومواسها أمها. وكان هذا كله لم يكن كافيا, فقد تطرقت إلى الأسرة إشاعة أن الشقيق عبد الباسط فقد بصره اثر علمه بالحادث وكتب البنا الوالد والشقيقة يطلبان خطابا منه بيده ليتأكدا من عدم صحة هذه الشائعة وكان الشقيق عبد الباسط رحمه الله هو أشدنا تأثرا, وكنت الذى يواسيه لأسابيع بعد الحادث وهو يضرب في مجاهل " الطور" ويسير على غير هدى.

لا أعاد الله هذه الأيام السود... أن مجرد تذكرها, يجعل الجلد يقشعر والعين تدمع.

كان لابد للحياة أن تسير فتلك سنة الله التى لا نجد لها تبديلا’ فاستأنف الشيخ عمله, وفى النفس ما فيها, ولعل العمل الآن أصبح سلوته الوحيدة التى يدفن فيها آلامه... وينسى بها أحزانه فواصل أسلوب حياته وعمله.

وكان الشيخ قد استقر بسلاملك مستقل في حوش المنزل رقم 9 بحارة الرسام وهى حارة ضيقة في أحشاء القاهرة " الغورية" وعلى ناصيتها مسجد الفكهانى. وكان البيت كالبيوت القديمة رحبا واسعا وكان له حوش أو فناء متسع, وفى مواجهته سلاملك مستقل يرتفع بصف درجات عن مستوى أرض الحوش . وهذا هو الذى اتخذه الشيخ مكتبا ونخزنا للنسخ المطبوعة من " الفتح" ولم يكن حسن الإضاءة أو جيد التهوية, ولكن هذه أمور لم تكن لتشغل الشيخ.

ومن الصباح الباكر حتى منتصف الليل تقريبا كان الشيخ يأوى إلى مكتبه فيجلس القرفصاء – كالكاتب المصرى القديم – على مقعد عريض – مو مربع خشبى , ليس له مسند أو ذراعين, طرحت عليه حشية ( شلتة) وكان أمامه مكتبه وهو " تزجه" صغيرة احتفظ بها من أيام تصليح الساعات وجعلها مكتبا وهى " تزجة" لابد وأن تثير الخجل في نفوس الذين يحرصون على المكاتب الفخمة ذات المحابر والوراقات.. وينفقون عليها مئات الجنيهات, فعلى هذه " التزجة" المتواضعة كتبت أعظم موسوعة اسلامية تضم الحديث والفقه.

وكانت الكتب تحيط بالشيخ من كل جانب وكان فيها الكثير من مطبوعات الهند, التى كانت من أوائل القرن العشرين قد نشرت العديد من أمهات كتب الحديث بفضل عناية حاكم ولاية حيدر إباد الدكن وكذلك ملك بهوبال, وهما من أبرز ملوك الإمارات الإسلامية في الهند وقتئذ.

وكانت مكتبة الشيخ عامرة بالمجلدات والمراجع عن الحديث والتفسير والفقه وبقية العلوم الإسلامية وقد وجدت بين أوراقه ورقة كتب عليها بخطه هذين البيتين:

الا يا مستعير الكتب عنى

فإن أعارتى للكتب عار

فمحبوبى من الدنيا الكتاب

وهل أبصرت محبوبا يعار؟

وظل الشيخ من عام 38 إلى عام 49 يضىء مكتبه بمصباح بترولى, ولكن هذا المصباح كان " نجفة" وإلى حد ما تحفة.

فقد كان " لمبة" كبيرة مستديرة لها زجاجتها الطويلة وكانت اللمبة وسط قاعدة نحاسية مستديرة تربطها سلاسل منقوشة بثقل مستدير كان يسمح بأن يرفع اللمبة إلى أعلا أو يخفضها إلى أسفل, وعلى ضوء هذا المصباح, وظل الشيخ عشر سنوات يعمل في الفتح, على أنه كان أسعد حظا من ابن كثير الذى ظل يعمل في المسند" والسراج ينونص" حتى كف بصره , فإن الشيخ رحمه الله أدخل الكهرباء في المكتب عام 1949.

ولم يكن الشيخ ليبرح مربضه هذا إلا لأداء الصلاة في جامع الفكهانى على ناصية الحارة او في مكتبه إذا أحس بتعب. وكان بالمكتب أريكة " كنبة" صغيرة يتمدد عليها في بعض الحالات وقت القيلولة, وكان يؤتى له بطعامه من شقته الخاصة بالمنزل نفسه بالدور الثانى.

فإذا انتصف الليل أو كاد أغلق الشيخ مكتبه وآوى إلى مضجعه في الدور الأعلى وبهذه الطريقة خلص الشيخ من صعوبات " المواصلات" وما تستفيده من جهد ومال ووقت.

وكانت الحالة المالية للشيخ مستقرة, لأنه أخذ نفسه بالاقتصاد وكان شعاره هو الحديث النبوى" ما عال من اقتصد" وقد ابتعد عن كل صور التوسع أو المشروعات التى تجمد ماله القليل أو تبعده عن متناول يده, أ, تشغل فكره به, وكان يؤمن بالكتابة ويقيد كل معاملاته المالية ويقول إن الله تعالى عوده أن لا يخذله, وأن ييسر له ثمن ورق كل جزء من أجزاء الفتح. وكان ذلك مع مصاريف الطبع هى المشغلة المالية للشيخ , أما الأكل واللبس وتكلفة الحياة اليومية, فلم تكن تمثل شيئا مذكورا. وقد كان مما يثير عجبنا أن يوجد لدى الشيخ دائما مبلغ من المال الحاضر في أى وقت وكنا ملتجأ إليه عندما تمس بنا حاجة فنقترض منه, وعندما توفى إلى رحمه الله, كان دفتره يضم صفحة لكل ابن من أبنائه بها حسابه وكانت كلها مدينة له. وكان قد أدخر قبل أن يموت بفترة قرابة مائتى جنيه في صندوق بريد( بدون فوائد طبعا) وقد توكأ على ذات يوم ليصرفها من مكتب بريد الأزهر. ليعطيها للشقيق عبد الباسط عندما ألمت به أزمة خانقة, وقبل أن يموت أشار إلى مكان مبلغ من المال ليصرف منه على تجهيزه. وكان في هذا كالوالدة رحمها الله, فكل منهما ترك ما ينفق على تكفينه وتجهيزه وجنازته.

وكما قلنا في المقدمة. فإن الشيخ لم يكن يزور أو يزار إلا في المناسبات. ولم يكن يقرأ الجرائد, أو يستمع إلى الراديو. وغنى عن القول أنه لم يذهب في حياته إلى سينما أو مسرح, كما لم يخرج طوال الثلاثين عاما الأخيرة منحياته في نزهة أو لرؤية متحف او حديقة.. الخ.

ولعله رأى الأهرام أول قدومه, وقد أمضى حياته القاهرية كلها في مثلت السيدة – الخليفة – الدرب الأحمر.

وكان الشيخ يدخن نوعا من السجاير الرخيصة. وفى بعض الحالات كان يقسم السيجارة قسمين. كما كان يتناول عددا من فناجين القهوة.وكان في متناول يده وابوار سبرتو وعدة القهوة, وقد قيض اله له من كان يعينه في هذا" الأسطى" أحمد الذى تطوع بخدمة الشيخ. فكان يحضر" الخبز" ويغسل فناجين القهوة الخ... رحمه الله, فقد توفى بعد وفاة الشيخ . ونعتقد أن تدخين السجاير وشرب القهوة إنما كانا اقل ما يمكن أن يفعله الشيخ لدفع الملل الذى كان ولابد يستبد به, عندما تتوالى الساعات, ساعة بعد أخرى , وهو مكب على عمله, ويتكرر هذا يوما بعد يوم. في مكتب لا تدخله الشمس, ولا يظفر بتهوية و وقد قلنا ان الشيخ رحمه الله لم يكن مجردا من الحاسة الفنية أيامه الأولى , وكان مكتبه في المحمودية على شاطىء النيل, يطل على منظر من أجمل المناظر تحفه الخضرة ويغسله الهواء وتجففه الشمس,و لعله في إحدى ندوات الشباب أمل أن يكون له " كارتة" يجرها حصان مطهم, ويقطع بها طرقات المحمودية... وكانت تلك هى أعظم وسيلة للاستمتاع وقتئذ, ولكنه أطرح كل هذا وأثر أن يتبتل للعلم في هذا المكتب المقبض الذى لم يكن ليطيق البقاء فيها ساعات وليس أياما أحد غيره... فلا أقل من أن يدخن بعض السجاير... أو يشرب بعض القهوة ولولا إيمانه برسالته, وما كان يلمع وسط ظلمات التنكر والإغفال . من علامات التقدير... لما استطاع الشيخ أن يواصل عمله في هذه الأوضاع.. وقد عثر بين أوراقه على خطاب من أحد شيوخ مكة يطلب منه الإجازة وترجمة حياته الحافلة" فأرسل الشيخ خطابا جاء فيه.

الأخ الصالح سليمان بن عبد الرحمن الصنيع حفظه الله ونفع به أمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد فقد تسلمت خطابكم من فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد الرازق حمزة وامتثالا لأركم وحسن ظنكم بى كتبت الإجازة بخطى وسلمتها لحضرته وتصلكم إن شاء الله تعالى وأنتم متمتعون بالصحة والعافية.

عمم الله النفع بكم وبارك فيكم. أما ترجمتى" الحافلة" فلا يكون في حياتى ولا من صنع يدى" ( ) 5 شعبان 1365 ؟ 4 يوليو 46.

وهذا الخطاب يصور أدب الشيخ وتواضعه الحقيقى, وفى الوقت نفسه فإنه يكشف عن أنه كان يعلم حق العلم قدر نفسه وقدر العمل العظيم الذى يقوم به ولكنه كان يتقرب إلى الله بهذا فلا يجد فيه مبررا لزهو أو فخر أو استعلاء وقد قرأنا على غلاف لأحد الأصول بخطه هذا التنبيه" لاسطى المطبعة" " الرجا عدم تكسير الورق كثيرا والمحافظة على نظافته بقدر الإمكان, ولا يصح أن يكتب عليه بالإنجليزى كأنه لعبة. لأن هذه الأصول ستجلد ويحتفظ بها جيدا لأنها خطا المؤلف(".

وكان الشيخ يستخدم في كتابته ( الريشة) والمحبرة وأنواعا مختلفة من " السن" ولكنه عند ظهور أقلام الحبر استخدم أنواع منها. وكانت أصابعه الطويلة الرشيقة تمضى هونا على الورق فتكتب بخط دقيق, ولكنه واضح, وكان يكتب المتن بخط كبير نسبيا وكان يرقمه ويشكله بحيث أن نصف الصفحة كان يستوعب أربعين سطرا لا يتخللها شطب واحد, ويمكن قراءته على دقته كما كان في مثير من الحالات يملأ هوامش الصفحة أيضا.

وكان الشيخ البنا أقرب إلى الطول منه إلى القصر, وإلى النحافة منه إلى البدانة وإلى البياض منه إلى السمرة... وكانت يداه طويلتين وأصابعه رشيقة. نأتىء الوجنتين, مقرون الحاجبين واسع الشدقين أشم الأنف, ,كان يلبس الجبة والقفطان ويضع العمامة على عادة الشيوخ فى مصر... ,كانت صحى الشيخ بصفى عامة حسنة. ولا أذكر أنه زار طبيبا أو أن طبيبا زاره قبل مرضه الأخير. وقد أجرى عملية فتق في مستشفى الدمرداش في 4 يونيو سنة 34 أجراها له طبيب انجليزى ماهر. وبعد عشرين سنة ( أى سنة 1954) كتب الشيخ في دفتره " أصيب بفتق في الجهة اليمنى والحمد لله على كل حال" وألف أن يلبس حزاما خاصا كما أنه في السنة السابقة ( 1953 – 1373) خلع أسنان الفك الأعلى وركب طاقما. ولكنه باستثناء ذلك لم يكن يشكو شيئا. وكان من عجيب أمر الشيخ أنه لم يزر طبيب عيون وأنه كان يختار نظارته حسبما اتفق ثم لا يخلص منها إلا إذا أصابها عطب ليختار أخرى بالطريقة نفسها.

وإذا قدرنا الحياة الروتينية والحبسة في المكتب المقبض ليل نهار, والواحدة الكئيبة التى كان يعيش فيها والسجاير والقهوة وعدم عنايته عناية خاصة بالغذاء, وما تعرض له من شدائد ومحن في الثلاثينات ثم النكبة المدلهمة باغتيال ابنه المأمول وما سحبته من آلام وهموم على قيد حياته وإن هذا الحدث قد أصاب أسرته كلها بضربة قاضية أخرت تقدمها... تقول إذا قدرنا هذا كله لأدركنا أن الشيخ رحمه اله كان يدافع كل هذه القوى الهدامة الميئسة لكى يحقق أمله العظيم في اتمام " الفتح" كان الفتح هو الذى يمسكه على قيد الحياة ويعيطه القوة التى استطاع أن يغالب بها عوامل كان يمكن أن تجعل غيره يتهاوى قبل الوقت الذى اسلم فيه الشيوخ الروح.

وحتى الأيام الأخيرة من عمر الشيخ لم ييأس أو يتوقف عن العمل وكان قد وصل إلى منتصف الجزء 22 وهو عن تاريخ ,لما أحس بهجوم المرض, حاول أن يعرفنى بأسرار عمله, وقال إن الجزء 22 عن التاريخ. وإن شرحه لن يحتاج إلى فنية وأستاذية كبيرة, ونصحنى بالرجوع إلى البداية والنهاية لابن كير لأن تاريخه يعتمد على الحديث , كما يتضمن التخريج, وهو محك الخبرة والأستاذية.

ويحدثنا الشقيق الأستاذ عبد الرحمن البنا عن الأيام الثلاثة الأخيرة للشيخ عندما رأى أن ينقله من مكتبه إلى منزله ليكون تحت الرعاية" وبكرت صبيحة الاثنين 6 جمادى الأولى 1378 هـ بعربة ركبها ومعه الأصول الباقية من الفتح الربانى بخط يده وبعض مراجع الحديث التى كان يعمل فيها في الجزء الثانى والعشرين ثم جلس في حجرة النوم وأشار بان نصف المراجع في الشباك القريب بالحجرة ومعها الأصول وجعل يشير إليها ويتحدث عما أنجزه حتى الآن.

وطيلة يوم الاثنين وهو يحدثنا حديث الواثق المؤمن وعرض لنشأته وصباه وبلدته وكان أصح ما يكون صحة وأتم عافية حتى نسبت ما دخل نفسى من شعور يوم الأحد مساء وقلت لقد من الله على الشيخ بالعافية وظننته سيمكث معنا طويلا يمنعنا بهذا الحديث وبهذا العلم ولكن قدر الله كان سابقا وأمره نافذا. وفى يوم الثلاثاء انشغل بربه وانصرف عنا وكان يطلب الوضوء وينظر في ساعته إذا حضر وقت الصلاة فيؤديها حيث استطاع.

وقبل يوم ظهر يوم الأربعاء من جمادى الأولى سنة 1387 هـ (19 نوفمبر سنة 1958) لقى ربه راضيا مرضيا عن شاء الله عن سبع وسبعين سنة وبضعة شهور".أهـ.

يا صاحب " الفتح" كم في " الفتح من باب

يكسبك فخرا على الأجيال والسلف

ولم يكن ذاك كافيكم, فجدت لنا

بمرشد الدعوة السمحاء في الخلف

الله أكرمكم, والله ألهمكم

أنعم بكم , وبمن أودعت في النطف

ابنكم جمال

ونعلم أن الإمام الشهيد رحمه الله قد خلف ( يوميات) غير منشورة لعل بعضها لا يزال باقيا لدى نجله الأستاذ أحمد سيف الإسلام وإن كانت الأحداث التى أعقبت حل الإخوان في ديسمبر 1948 وما أملاه ا{هاب من تصرفات رآها أصحابها مما لا مناص عنه قد ذهبت بكثير من أوراق الإمام. وقد قدر لنا أن نطلع – بالصدفة – على بعض يومياته فوجدنا أنها كلها تدور حول رحلاته وما كان يلاقى فيها, إذ لم يكن من دأب الإمام الشهيد أن يكتب عن الخصوصيات, كما قد يرى البعض أنه لا يجمل بأحد أن يسعى للتعرف على الجوانب الخاصة في حياة الآخرين, وأنه قد يكون نوعا من الفضول المذموم.

ولكن هناك وجهة نظر أخرى ترى أن الإسلام يفترض في قادته التأدب بآدابه وأن كل تصرف يقومون به فيما بينهم وبين أنفسهم أو ما بينهم وخاصة أهلهم يمكن أن يهدى الناس إلى التصرف السليم في هذا المجال. وإن هذا التصور إسلامى عريق وكان في أصل معرفتنا عن الكثير من الشئون الخاصة للرسول صلى الله عليه وسلم فنحن نعلم أنه كان يحب عائشة ويعلن حبه لها, ونعلم ماذا كانت تقول له في ساعة الرضا وماذا تقول في ساعة الغضب, ونعلم أن الرسول كان يفسح لها فرصة رؤية الحبشة يلعبون حتى تمل هى,ونعلم أنه كان يثنى ركبته لتصعد صفية عليها لتركب ناقتها, بل نعلم ما هو أخص من هذا ونعلم أن زوجاته كن يرين من واجبهن إعلان ذلك وأن المتحدثين حملوا عنهن ذلك ورووه لبقية الأجيال لإفادة المسلمين بع وليكون لهم في رسول الله أسوة حسنة.

فإذا كنا نتناول بعض وانب الحياة الخاصة للإمام الشهيد فذلك بفكرة قادة جمهور بها ولجعلهم يتفهمون قائدهم ويتعرفون على العوامل الخاصة التى أراد الله لها أن تكون معينة له في دعوته.

ولعل أول ما يلفت الإنتباه أن الإمام الشهيد رحمه الله أمضى طفولة سعيدة بفضل حب أبويه له وجمال وسعة البيئة التى أمضى فيها هذه الطفولة , كان الإمام الشهيد هو الابن البكر لأبويه. والابن البكر عادة يولد والأبوان في مقتبل العمر وزهرة الشباب ويكون ثمرة لولى التجارب الجنسية وما تصطحب به من انفعال وعرامة وحب وما أن يولد حتى يصبح هو ثمرة هذه العاطفة والتجربة ويستأثر وحده بكل عواطف ومشاعر الأمومة والأبوة دون أن ينافسه فيها ابن آخر ويتمتع بكل ما فيها من حب وإعزاز وبوجه خاص من الأم التى تمنحه كل صدرها طيلة عامين كاملين يتحقق له فيهما الإشباع العاطفى فلا يحس عندما يكبر بنقص أو وجوع وتنعكس محبة الأبوين على نفسية الطفل وتغرس فيها بذرة الرضا والثقة والاعتزاز والإقدام قدر ما تنفى التعقيد أو الإحباط وقد تحدث فرويد عن هذه الظاهرة في الابن البكر ونجد في الإمام الشهيد مصداقا لها إذ نجده بين أترابه الأطفال في ألعابهم في محل القائد أو الرئيس ونجد واله يعتمد عليك في كثير من المهام التى يقوم بها بنشاط وكفاية ودون أى تذمر , كما ستوضح ذلك المجموعة الأولى من خطاباته. وكان من الأبيات المحببة إليه والتى تصور نفسيته بيت طرفه بن العبد:

إذا القوم قالوا من فتى خلت أننى

عنيت فلم أكسل, ولم أتبلد

ومن هذه النقطة – نقطة تنشأ وتتوالى مجموعة من الملابسات كلها تتسم بالتوفيق والإتساق والسير في الإتجاه الذى أراده الله له وكان من مظاهر هذا أن تأخذ مشاعر الأب والأم نحوه صورة التكامل وليس التعارض كما سيحدث في كثير من الأسر عندما يكون للأب رأى في مستقبل ابنه يختلف عن رأى الأم , ففى حالة الإمام الشهيد نرى دور الأم يكمل دور الأب.

فقد أراد الوالد رحمه لبكره أن ينشأ نشأة إسلامية حقيقية وأصر أولا على أن يحفظ القرآن واستكمل له الكثير من جوانب لثقافة الإسلامية في هذه السن المبكرة ثم عهد به إلى الشيخ محمد زهران الذى كان شيخه الأول وهو – كما قلنا – كفيف وهذه الحقيقة نفعت الابن كما نفعت أباه من قبل عندما تتلمذ في كتاب شيخه كفيف ثم لما تتلمذ على يدى الشيخ زهران الكفيف أيضا.

وقد كانت أول نبذة في كتاب ( مذكرات الدعوة والداعية)

هى عن ( مدرسة الرشاد الدينية) التى كان يعلم فيها الشيخ زهران أطفال المحمودية وطيف أنه تعلم منه وأن لم يدرك ذلك وقتئذ " زائر التجاوب الروحى والمشاركة العاطفية بين التلميذ والأستاذ " فهل هناك درس أنفع وأعمق من هذا الدرس لمن سيكون مدرسا؟ سواء للتلاميذ أو للجماهير.

وفى مدرسة الرشاد تعرف الطفل على عالم الكتب واطلع على ( المكتبة) التى كانت أكبر من مكتبة أبيه ولعلها أكبر مكتبة في البلد ولم يكن هذا ليدخل في إطار الدراسة العادية للأطفال ولكن الله تعالى أراده للإمام ورتب أسبابه تلك.

وفى مرحلة الدراسة اللحقة نرى دور الأم يكمل دور الأب فقد تمسكت الوالدة رحمها الله بضرورة أن يستكمل ابنها تعليمه حتى أعلى مستوى وعندما ضاقت موارد الأسرة باعت ( كرادالها) الذهبى وفى مرحلة لاحقة – ولاستكمال التعليم أيضا باعت سواريها وكانت مضفرة ثقيلة من الذهب ( البندقى) كما يقولون أى أنها من الذهب الخالص عيار 24.

بهذه العاطفة القوية كانت الوالدة تحيط ابنها البكر, وقد حدثتنى يوما كيف كانت تطوقه بقوة وهو طفل رضيع عندما اضطرت لأن تعبر جسر ( حلق الجمل) وكيف كان خوفها الأكبر عليه لا عليها.

وكانت الوالدة رحمها الله تتصف بالعناد وقوة الشخصية وقد ورث الإمام الشهيد كثيرا من صفاتها الخلقية من الحابين المفروقين والعيون والأنف ولم يشاركه في هذه الوراثة من إخوته سوى الشقيق عبد الباسط رحمه الله... أما بقية أخوته فقد ورثوا وجوههم عن أبيهم وكان مقرون الحاجبين عالى الجبهة نأتىء الوجنتين تختلف قضية أنفه ومأرنه عن أنف الوالدة, وكان الإمام الشهيد أقرب إلى القصر منه إلى الطول وكانت تلك منصفات الوالدة أما الوالد فقد كان أقرب إلى الطول منه إلى القصر.

وكان من عناصر الطفولة السعيدة للإمام الشهيد انه ولد في ( المحمودية) حيث النيل أجمل وأوسع ما يكون وحيث الحقول و " النجيل" والأراضى البور المتسعة الفسيحة التى سمحت لع باللعب والجرى وممارسة وسائل من اللهو الجماعى لا تتسع لها شوارع المدينة أو أزقتها فاستراحت عينا الطفل على النيل وعلى السماء فلم يصب بقصر النظر رغم مطالعاته وأعان الهواء النقى والشمس الساطعة على تكون صحته حسنة وأن لا تهاجمه أمراض كانت وقتئذ منترة وفاشية. كما نمت الألعاب الجماعية التى كان يمارسها الروح الاجتماعية له وأبعدت عنه الصفة الإنطوائية التى تعلق بالأطفال الذين لا تسمح لهم ظروفهم بالانطلاق وممارسة الألعاب الجماعية بطريقة طبيعية غير متكلفة.

وعندما يجاوز الإمام الشهيد مرحلة الطفولة ويبدأ الصبا فإن ملابسات الوفيق تتابعه وكأنها ملاك حارس تقود خطوة في المسار المطلوب دون انحراف... وهكذا يدخل الإمام الشهيد مدرسة المعلمين الأولية وتحقق له هذه الخطوة عنصرين كانا لازمين: الأولى التجربة الصوفية... والثانية أنها فتحت الباب أمام دخول دار العلوم.

فقد كان يمكن أن تكون مدرسة المعلمين بدمنهور كأى مدرسة أخرى دون المحوطات المعينة التى أحاطت بها فتفقد إضافتها ولكنها في حالتنا كانت مقر ضريح الشيخ السيد حسنين الحصافى شيخ الطريقة الأول والتقى فيها بشيخنا السيد عبد الوهاب الحصافى وتلقى عنه الطريقة, واستفاد من الأساليب التربويه الصوفية وأدب الطريقة ما اثر فيه وما استفاد منه وقد خاض الإمام الشهيد رحمه الله التجربة الصوفية حتى أعماقها من تهجد وصيام وصمت وعزلة وزيارة للأولياء .... الخ وكما أنهم في التحليل النفسى يفترضون فيمن الآخرين فقد كان لابد أن يعانى الإمام الشهيد هذه التجربة حتى يلم بها تماما ويضفيها إلى معارفه.

ومع أن الإمام الشهيد – رحمه الله – تأثر تأثرا عميقا بالتجربة الصوفية إلا أن الصوفية لم تتملكه أو تستحوذ عليه تماما لأمرين:

الأمر الأول: إن توجيه والده ودراسته على يدى الشيخ زهران كانت سلفية فأوجد هذا نوعا من التوازن حال دون أن ينزلق في متاهات التصوف أو أن يلتزم بشارتها كطريق ومن هنا رأيناه صوفيا صغيرا في الرابعة عشر من عمره يرخى عذبة بين كتفيه ويضع نعلين في قدميه وقد كانت هذه رموز السلفية حينا ما وعندما أسس الإمام الشهيد النواة الأولى للإخوان المسلمين كان ازدواج المعنى الصوفى بالحفاظ السلفى من عناصر التجديد والكمال التى لم تكن معروفة وقتئذ فقد كانت هناك هيئات صوفية دون أن تكون سلفية كمختلف الطرق الصوفية, أو سلفية دون أن تكون صوفية كالجمعية الشرعية والهيئات الوهابية. وكانت الإخوان سلفية الأطر صوفية العاطفة.

ولا يمكن الإدعاء بأن الثقافة الإسلامية التى حصل عليها الإمام الشهيد في طفولته لم تكن تسمح له بهذا التأصيل, لن هذه الثقافة مكنته من أن يعلم الصلاة بين السوارى مكروهة, وهى قضية نسيها شيخه, وشيخ أبيه – الشيخ محمد زهران وأخذ يتقصاها عندما وصله تنبيه جمعية الأطفال التى كونها الإمام الشهيد مع أتراب له " انظر مذكرات الدعوة والداعية" وقد انتشرت بفعل ضحالة المستويات الثقافية, وأميه المجتمع اليوم - قالة تستبعد أن يستوعب الأطفال مثل هذه الثقافة, والحقيقة أن الأطفال يكونون أكثر استعداد من الرجال – لتلقى المعلومات واستيعابها. وما اكتسبه الإمام الشهيد رحمه الله فترة الطفولة كان له أثر بعيد, ليس فحسب على فترة التصوف , بل وما بعدها أيضا.

والأمر الثانى: إن شدة انغماسه في الشعائر العبادية والمجاهدات الصوفية لم يكن – بالكامل – صادرا عن إيمان بأن هذه الصورة المغرقة هى الصورة العادية أو الطبيعية في السلوك ومن ثم يفترض أن تستمر وتمارس أبدا. إن جزءا من شدة الإنهماك والإنغماس يعود إلى فورة المراهقة التى زودت صاحبها بطاقة إضافية كان لابد من امتصاص بهذه الأساليب والمجاهدات بحيث لم تعد تزعجه أو تلح عليه حتى اجتاز مرحلتها الحرجة, ولعل الإمام الشهيد رحمه الله طبق هذا الدرس على شباب الإخوان عندما كان يعهد إليهم بممارسات ومجاهدات وأعمال تستنزف الطاقة الإضافية التى تزودهم بها الغريزة في هذه السن حتى ينتهى بهم إلى الزواج وبذلك يخلصون من التعرض للأزمات العاطفية أو النزوات الجنسية.

وحدث وقتئذ حادث دل على أن الإمام الشهيد رحمه الله مسوق قدره, فبعد أن أتم الدراسة تبدى خيال دار العلوم وعزمت مجموعة من زملائه على التقديم إليها وفى الوقت نفسه عينه المجلس المحلى للبحيرة مدرسا في" خربت". وكان كل شىء يوحى بقبول هذا التعيين فو يتيح له أن يكون معلما ويحقق له الإستقلال, وقد يمكنه من إعانة الأسرة ويبقيه قريبا من المحمودية وما حولها كما كانت تتملكه وقتئذ مشاعر الزهد في المناصب والعزوف عن الشهادات,

وأن الحرص عليها شبهه افقبال على الدنيا والتمسك بمظاهر الجاه والثراء وهى حالة نفسية تتفق مع المشاعر والأحاسيس الصوفية التى انغمس فيها وقتئذ وبوجه خاص بعد قراءة الأحياء للغزالى والتأثر به, وكاد الإمام الشهيد رحمه الله أن يستسلم لمشاعره تلك فلم يستذكر ما يؤهله لتقدم للقسم العالى بدار العلوم لولا أن وضع الله في طريقه رجلا كان التقدير متبادلا بينهما واستطاع بلباقة أن يحمله على التقدم.

ومرة أخرى فإن دار العلوم وحدها هى التى كان يمكن أن تخرج الداعية الإسلامي المطلوب لأن الدراسة الأزهرية لها طريقة متعسفة تقليدية محدودة ودار العلوم هى الوحيدة التى تجعل دراسها متمكنا في اللغة العربية وآدابه والعلوم الإسلامية إلى جانب حظ غير قليل من علوم التاريخ والاجتماع....الخ.

وهناك وقائع أخرى تؤكد ما ذهبنا إليه من أن عناية الله كانت تهيىء المسار للإمام الشهيد فهذا القسم العالى لدار العلوم كان سيلغى العام التالى ولو لم ينتهز الإمام الشهيد هذه الفرصة لاستحال عليه دخول دار العلوم, وصاحب الإمام الشهيد توفيق غير مألوف في الكشف الطبى والإمتحان التحريرى, وأخيرا فإنه عندما دخلها كان يجب ان ينجح بتفوق حتى يضمن التعيين لأن الوزارة لم تعين الناجحين إلا خمسة أو ستة فعندما جاء ترتيبه الأول بين الناجحين فإنه ضمن التعيين وقطع على ( الوسطات) التى كان يمكن أن تؤخر توظيف الثالث أو الرابع .ز الخ فتحقق التعيين وجاء هذا التعيين في الإسماعيلية التى لم يطلبها أو يستشعر نحوها عاطفة خاصة من حب أو كره لأنها كانت هى المهد الأمثل لظهور دعوة الإخوان.

ويحدث أن تحكم الظروف على الناس بأن يحترفوا مهنا لا يحبونها لأنها لا تتفق مع قابليتم وملكاتهم وفيشقون بهذا وتتشتت جهودهم ما بين هواية وحرفة, ولكن الإمام الشهيد رحمه اله أراد أن يكون معلما ومعلم ( صبيان) على وجه التحديد وتلك مهنة لم تكن الطلبة ( بضم الطاء وسكون اللام) التقليدية لطموحين من الفتيان يجدون في ( المحاماة) أو ( الطب) أو ( لهندسة) الطريق الموصل للمناصب العليا والثروة والشهرة وكانت مهنة التدريس بالذات مهنة متعبة وصور مثل عربى جريرتها على شخصية المدرس. ولكن الإمام الشهيد وأن تعليم الصغار تأهيل التعليم الكبار وهذا واضح تماما من موضوع الإنشاء الشهير الذى كتبه قبيل تخرجه ردا على سؤال ( اشرح أعظم أمالك بعد إتمام دراستك وبين الوسائل التى تعدها لتحقيقها) وبلور فيه الإمام الشهيد رسالته العامة والخاصة فحققت له دار العلوم ما أراد فأصبح معلما وحقق له التعليم أيضا ما أراد وقدم إليه خبرات ثمينة ساعدته في ( تعليم الكبار) واكتساب الجماهير منها الأسلوب التربوى الذى أخذته الدعوة ومنها القدرة الفائقة على تذكر الوجوه وحفظ السماء وهى ملكة يمكن أن تكون من الملكات الشخصية له ولكن لابد أن ممارسة التعليم في الفصول قد نمتها وعمقتها.

وبالإضافة إلى هذا الدور العام للإسماعيلية فإنها كانت هى التى قدمت للإمام الشهيد الزوجة الملائمة تماما لظروفه ودعوته وهى واقعة وإن كانت خاصة ولكن لها انعكاساتها على شخص الداعية وبالتالى على الدعوة.

وكانت الزوجة التى وقع عليها اختيار الوالدة رحمها الله ( وهى بالمناسبة الوحيدة التى اختارتها الوالدة أما زوجات بقية أبنائها فلم يكن لها دور في ترشيحهن) شابه مديدة لقامة بيضاء البشرة ذات طبيعة طيبة وفطرة مستقيمة وعلى جانب كبير من الخفر والحياء وكانت تعلم أنها تتزوج داعية تتحكم فيه ظروف الدعوة ولا تدع له – أو لها – حرية أو خيارا ... فكيفت نفسها طبقا لذلك وحققت لزوجها الإستقرار العاطفى الذى مكنه من أن ينطلق لدعوته محصنا من فتنة النساء – وما أكثر ما اعترضت طريق الدعاة – دون أن تهاجمه نوازع الشهوات أو تعكر صفوة مشاغبات الزوجات. ولربما قيل أن الإمام الشهيد رحمه الله كان يمكن أن يجد زوجة أكثر جمالا ومالا وثقافة في غير الإسماعيلية أو حتى في الإسماعيلية نفسها ( كانت بالفعل موجودة) ولكن ما بعد ميزة بالنسبة لآحاد الناس قد لا يكون كذلك للقادة والدعاة فلو كانت الزوجة ملكة جمال لكان لهذا أثره في استحوازها على زوجها وهو أمر لا تتسع له الدعوة التى لا ينتطح فيها عذران , لو كانت أكثر مالا لساندت الدعوة الدعوة وقد كانت أسرة زوجة الإمام ميسورة الحال وساندته في بعض المناسبات, ولكن من الخير دائما للدعوات أن تعتمد على نفسها وأن تتحمل فاقتها وأن تعتمد على جيوب أعضائها وليس على المهونات كائنة ما كانت, أما الثقافة فما كان الفهم التقليدى في الدوائر الإسلامية لدور المرأة ليسمح بنشاط يمكن أن تقوم به في مجال الدعوة ولو دفعتها ثقافتها الرفيعة لأن تقوم بدور بارز في الدعوة لفتحت ثغرة يمكن أن تؤتى منها الدعوة. كانت الإشتراطات المثلى في زوجة الداعية الإسلامي هى ما افترضه الرسول " إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته" وهذا ما تحقق في الزوجة التى قدمتها الإسماعيلية للإمام الشهيد.

ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا ن عنصر التوفيق , ذلك النجم الهادى والملاك الحارس للإمام الشهيد في مسيرته كان وراء كل أحداث حياته منذ الميلاد ولم يتخل عنه حتى النهاية المأساوية التى لم تكن نهاية حياته قد ما كانت قمة كفاحه وذروة رسالته. إن ( الشهادة) هى أسمى ما يمكن أن يطمح إليه المؤمن, وقد حفظ لنا تاريخ بعض الأئمة ما قالوه لأبنائهم عندما جاءهم رسول السلطات ليبطش بهم( ماذا بقاء أبيك) في هذه الحياة بعد أن بلغ كذا من العمر) أو ( إن أباك أهون من أن يقتل في سبيل الله) وكانت الصيغة التى صور فيها الإمام الشهيد أسمى أمانى الإخوان ( الموت في سبيل الله أسمى أمانينا)

وقد حقق الله تعالى له أسمى الأمانى فأصبح " الإمام الشهيد" وكللت دعوته بأكليل الشهادة وأصبحت دعوة قدستها دماؤه بعد أن عمقتها جهوده وانطبق عليه وعليها الاثر ( حياتى خير لكم ومماتى خير لى).

الفصل الثانى : عرض وتحليل لخطابات الإمام البنا إلى أبيه

كان الشيخ الوالد رحمه الله يحتفظ بخطابات ابنه بصورة حسنة ومنتظمة وبهيئة تصونها. وكان عادة يحفظ كل خطاب في ظرفه وقد كتب على الظرف وصل يوم كذا. ولكنها تعرضت عندما عبثت الأيدى بأوراق الشيخ لصور من التلف فنالت الرطوبة منها وأكلت الأرضة أطراف بعضها بينما بهتت خطوطها بعضها الآخر وظلت البقية لحسن الحظ – في حالة حسنة.

وقد قسمنا هذه الخطابات هنا إلى ثلاث مجموعات حسب تاريخ ورودها فالمجموعة الأولى سنطلق عليها مجموعة ( العطف) لأنها أرسلت من العطف عامى 26 و 27 والمجموعة الثانية مجموعة ( الإسماعيلية) وهى تغطى الثلاثينات والمجموعة الأخيرة وهى في الأربعينات وهى لا تدخل بدقة فى رسائل حسن البنا ( الشاب) ولكننا أوردناها بالإضافة إلى أهميتها الذاتية لإثبات عنصر كان هو محور ترجمتنا لحياة الإمام الشهيد وهو ( الإستمرارية) فنحن عند مقارنة آخر خطاب بأول خطاب وبينهما قرابة عشرين عاما لا نجد فرقا في الخط أو طريقة الكتابة أو أسلوب الخطاب.

وفد وجدنا بين أوراق الشيخ بعض وثائق أخرى تتعلق بالإمام الشهيد أثبتناها مثل استقالته من خدمة وزارة المعارف ونقله من مدرسة إلى أخرى...الخ.


المجموعة الأولى: مجموعة العطف

جاءت هذه الرسائل وعددها ثمانية من العطف وأولها بتاريخ 3 يناير 26 وآخرها في 6 أغسطس 27 ويبدو أن الإمام الشهيد أمضى هذه الفترة أو معظمها في المنطقة وأنه خلالها زار كل النواحى المجاورة التى بها الأقرباء مثل ( مرقص) بلد خالتنا مريم رحمها الله ومثل شمشيرة حيث الأهل وسنديون وهى بلد أخوال الوالدة آل سيد أحمد وديروط وغيرها.

وكان الوالد رحمه الله يخص ابنه البكر بقضاء العديد من المصالح وتسوية بعض المشكلات بالبلد بعد أن مضى على انتقاله إلى القاهرة قرابة عامين وقد ظل الوالد رحمه اله يكلف الإمام الشهيد بمثل هذه المهام حتى مرحلة متأخرة عن مجموعة العطف – وقد عثرنا بين أوراق الوالد على صورة خطاب إلى ابنه مؤرخ 2 جمادى 1352 ( أى 23 أغسطس 1933) بعدد من التكليفات ليقضيها " وأنت بالمحمودية لأهميتها ولفرصة وجودك بها" وهى لا تختلف كثيرا عما كان يقوم بها عامى 26و27 لأنها تتعلق بعوايد البيت وكان عليه – كما كلفه الشيخ الوالد " أن تقابل أولى الشأن في مسألة العوايد بالبلد وتفهمهم أن قانون تحصيل العوائد في المراكز والمديريات والعواصم هو باعتبار المائة عشرة من الإيجار فتكون عوائد منزلنا ستين قرشا والغفر باعتبار المائة عشرين من العوائد عليها تكون اثنا عشر قرشا تضاف على العوائد فيكون مجموع الخفر والعوائد 72 قرشا مع أنهم يحصلون على 113 قرشا فهذا ظلم فادح ومخالف للقانون نرجع إلى الدكان إيجاره عشرون قرشا فتكون عوائده 24 يضاف الخفر أربعة قروش وثمانية مليمات باعتبار المائة عشرين من العوايد فيكون مجموع عوائد وخفر الدكان 28 قرشا وثمان مليمات فلماذا يحصلون 42 قرشا الخ....".

وجاء بهذا الخطاب " أرسلت اليوم بأصول ترجمة زيد بن ثابت إلى محب الدين أفندى".

نقول فيه أن هذه التكليفات التى كلف بها الإمام الشهيد عام 33 تقارب إلى حد التكليفات التى كان عليه أن يقوم بها عامى 26و27.

وفى أولى الخطابات التى أرسلها من العطف يقول:

سيدى الوالد الجليل:

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته(وبعد) وصلت العطف بسلامة الله بعد أن صليت الجمعة بدمنهور وتغديت مع الشيخ شريف بمنزلهم.

وكل جميع أهل العطف يهدونكم أزكى السلام وقد تقابلنا جم غفير منهم بقوله ( أهلا حسن أفندى) فأفهمتهم الحقيقة وانتهت والله بفضح كلاب دار العلوم اللى طلعوا الصيت ده.

ربما سافرت غدا( الأحد) إلى شميشيرة للمهمة أما اليوم فإنى منتظر خالتى بالمحمودية. السمن لم يجهز بعد مع أن مليجى مخبر بالأمر من يومها ولا أدرى ماذا ترون وسأشترى سمن شرف غدا إن شاء الله ودمتم). 30 يناير سنة1926

وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى تغيير الزى بدار العلوم من الجبة والعمامة إلى الطربوش والبدلة وكان الإمام الشهيد رحمه الله هو زميل له آخر اثنين خلعا زيهما القديم بعد أن أقنعهما ناظر المدرسة وهو الأستاذ محمد بك السيد بأن عليهما أن يكونا كبقية زملائهم حتى يظهروا أمام الطلبة بمظهر المنقسمين وقد أشار الإمام الشهيد إلى هذه الواقعة في فقرة من كتاب مذكرات الدعوة والداعية تحت عنوان ( تغيير الزى) وختم الفقرة " ورغم أن كلمته الطيبة ( أى الناظر) لم تكن تحمل معنى الإلزام إلا أن قوة تأثيره واحترامنا لرأيه جعلنا نعده بذلك وننفذ وعدنا فنرتدى البدلة والطربوش بدلا من الجبة والعمامة وذلك قبيل أن نتخرج بقليل".

وكما اشرنا أنفا فإن مقارنة هذا الخطاب الذى كتب في إحدى القرى بقلم ( كوبيا) وفى 30 يناير 26 بأخر خطاباته بعد عشرين عاما يوضح وحدة الخط والطريقة والأسلوب.

أما بقية الخطابات فكلها عن شئون عائلية خالصة مثل مقابلة خالاته في شمشيرة ومرقص وأبناء خال أمه في سنديون وعملية شراء السمن ( الاقة بريال) واستخلاص الديون لإعطائها لدائنين وقد كان المدينون مستأجرى البيت والدكاكين ولم يدفع مستأجر البيت ما عليه إلا بعد رفع قضية أما ( باشا) فلم يستطع الإمام الشهيد أن يحصل منه " إلا على مليم" لأنه على عكس ما يوحى به اسمه " في أزمة شديدة ككل الفلاحين وأنهم يستلفون الجنيه ب120 لتخليص أجر أنفار نقاوة الرز" ويغلب أن يكون باشا أحد مستـاجرى أرض الوالدة لأنهم يزرعون الأرز في شمشيرة.

وفى مقابل هذا فنحن نقرأ " بردة خبلتنى على فلوسها" وما من تعبير كهذا يصور حاجة هذه المسكينة بدرة التى كانت - رغم تلك المأساة لها أطماعها لأنها" أخبرتنا أنها تريد شراء أرض وعمل كشك وحماتها متعاركة معها وهكذا وسأفديكم بما يتم " واقتران البأساء بالأمل هو من ظواهر الريف المصرى وهى التى تمسك الفلاح وتبقى عليه وإلا لمات قهرا وبأسا.

وفى أحد هذه الخطابات نقرأ " عدت إلى سنديون وقابلت الشيخ سيد أحمد وقضيت أول ليلة ولم أتمكن من النوم إلا بعد الفجر تقريبا لتقاطر الناس ثم أردت الاستئذان صباحا فلم أتمكن وهكذا مكثت في دوشة بسنديون يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء ولم أـمكن من السفر إلا بعد جهد" فالبأساء والأزمة لم تمنع سنديون من أن تحتفى بأحد أفراد أسرتها النابهة وأن تحتجزه ثلاثة أيام كاملة.

وفى خطاب بتاريخ 6 أكتوبر سنة 1926 يخطر الوالد بأن " السنوسى" مستأجر البيت دفع ما عليه " جنيهان" وأنه دفع منها 160 قرشا لعوايد. وأن النقود الموجودة معه هى 110 والمطلوب " 170 للصعيدى و60 على الأقل للسفر, 20 عادم, وفوق ذلك فعم عبده مشدد في الخمسين فرشا بتوعه, وسأدبر الموضوع بحول الله وإرشاده.

أسفت للشيخ بشر والله تعالى يسهل له ما فيه الخير, أما سيدى الشيخ عبد الرحمن أحمد فتذكرت الآن أن لى به سابقة معرفة بمنزل فريد بك وجدى وهو أخو الشيخ شاكر, وليس شقيقه, وكنت أعرفه باسم الشيخ عبد الرحمن شاكر والحمد لله الذى ربط النفوس".

والفقرة الأخيرة من هذا الخطاب تدل على أن الإمام الشهيد كان قد تعرف بالأستاذ فريد وجدى رحمه الله, وأنه كان يزروه وتعرف عنده ببعض آل شاكر, قبل أن يتخرج من دار العلوم.

وفى الخطاب الأخير".. وأما السمن وحضورى ففى الغالب سيكون حوالى 15 أغسطس وقد عزمت على عدم المعالجة هذه المرة لعدم وجود النقود فإنى الأن متحير أشد الحيرة في نقود حضورى وثمن السمن فكيف أتمكن من الإتيان يغرها ويفعل الله ما يشاء وأنى في العطف قد يمضى على الأسبوع أو الأكثر وليس في جيبى مليما وقد أبلغت مصروفات مشوار سنديون وشمشيرة الكل أربعة قروش صاغ كانت هى كل ما معى". وفى الخطاب أكثر من إشارة إلى موضوع تعيين الخريجين وتأكيد من الجميع أنه سيعين بحكم كونه الأول سواء بلغ من سيعين خمسة أو سبعة أو عشرة ويعقب هو على ذلك ( هذه كلها بشر متوالية والأمر لله الواحد القهار).

إلى الشيخ شرف ( لابد انه صاحب السمن) والشيخ على علام أفندى وهكذا الدنيا عناء وشغل يتلوه ما يكاد المرء يفرغ من واحد منها حتى يقع في الآخر ونسأل الله سبحانه أن يأخذ بأيدينا إلى الطريق البر والرشاد أنه الملجأ والمعين ونعم المولى ونعم المصير)....

ويبدو أن هذا الخطاب هو الأخير في مجموعة العطف لأنه بتاريخ 6 أغسطس 1927 وقد أعقبه تعيينه في الإسماعيلية وسفره إليها والحقيقة أنه تضمن إشارة هامة ( تسلمت مع خطابكم يوم 6 أغسطس خطابا من مجلس مديرية البحيرة يدعونى إلى الكشف الطبى يوم الخميس 11 أغسطس وداخل المظروف استمارة خلو طرفى من الخدمة وثانية تثبت الجنسية وحسن السير والسلوك يراد ملأها وإمضاء العمدة والمشايخ والمأمور عليها ويظهر أن المجلس ما صدق أنه استلم الطلب وأنا الآن متحير أأذهب للكشف الطبى وأملأ الاستمارتين أم أواخر الكشف؟ يدفعنى إلى الأول أنى أريد تتميم الإجراءات الرسمية بالمجلس هنا قبل حضورى إلى مصر حتى لا يستدعى الأمر عودتى ثانية على فرض أن الوزارة امتنعت ويمنعنى عن إنقاذه خوفى من غدر المجلس إذا تمت الإجراءات إذ ربما أرسل إلى الوزارة ( ... مساحة أكلتها الأرضة..) فتتركنى وفى الغالب سأوخر هذه الإجراءات الآن) ويبدو أن هذا هو ما فعله وأنه عندما عاد إلى القاهرة وجد أمر الوزارة بتعيينه ومن ثم سافر إلى الإسماعيلية.

وتعرض الخطابات صورة للريف المصرى في إحدى فترات بأسائه وهمومه, وما تثيره الفاقة والحاجة من الحاف ومماطلة وحيرة ما بين المطلوب والموجود, وقيمة النقود وندرتها, وأن لكل قرش أهمية. ثمة خطاب وجندناه بين أوراق الشيخ من موظف بالمجلس القروى مرسل إلى الشيخ أحمد الطباخ الذى كان وكيل الشيخ في المحمودية يقول " مطلوب من الشيخ أحمد الساعاتى مبلغ عشرون مليما كمالة رسوم رخصة التنظيم, فإذا سمحت بالسداد أرجو تسليمه لدافعه لإمكان استخراج الرخصة".


المجموعة الثانية: الإسماعيلية

تمثل مجموعة الإسماعيلية الجزء الأكبر من خطابات الإمام الشهيد إلى أبيه... وهذا طبيعى لأنها تمثل المرة الأولى لاغترابه عن القاهرة كموظف في بلد جديد تماما عليه وعلى أبيه, ونفترض أن مراسلات عديدة جرت من اليوم التالى لوصول الإمام الشهيد إلى الإسماعيلية وأن هذه المراسلات استمرت معظم أقامته بالإسماعيلية لأن العلاقة ما بين الشهيد ووالده كانت وثيقة عاطفيا وعائلينا خاصة بعد بدء الإمام الشهيد في القيام بدور في تحمل الأعباء العائلية فضلا عن بدايات الدعوة وما أثارته من رغبة في إعلام والده بتطورها.

ولكننا لم نجد في أوراق الشيخ ما يغطى المدة من تعيينه في سبتمبر سنة 1927 حتى أول خطاب عثرنا عليه في 7 مارس سنة 1928 وهى خسارة فادحة لأنه كان من الممكن ان تطلعنا على ( بدايات البداية) في الدعوة...

أيام الإسماعيلية :

كانت أيام الإسماعيلية حقبة حافلة بالأمل والنشاط والحماسة فى كل الخطابات باستثناء الخطاب الثالث منها نلمس نبرة الأمل والاستبشار والثقة في المستقبل ونجد في كل خطاب تقريبا الإشارة إلى أن صحته على أفضل ما يرام وأنه يعمل بهمة وأنه ينام مطمئنا نوعا عميقا وكل شىء ينبىء بالإقبال الذى وقف الإمام الشهيد على بابه... وبدأ منه أولى خطواته.

وقد نال الإمام الشهيد احترام وتقدير كل أهل الإسماعيلية تقريبا لأنه كان نمطا جديدا عليهمو فلم يكن شيخا كمألوف الشيوخ ولم يكن موظفا مدنيا كبقية الموظفين, ولعلهم تنسموا فيه إرهاصات القائد فاقبلوا عليهم.

كما ظفر بتقدير " مجتمع المدرسة" بدءا من الناظر فالمدرسين لانضباطه وكفايته كمعلم وإحكامه لمادته وسعة اطلاعه وثقافته مما جعلته مدرسا ناجحا نموذجيا, وإن كانت اهتماماته الاسلامية قد أثارت الهواجس في نفس الناظر. كما سنعلم.

ولم يقتصر تقدير أهل الإسماعيلية على شخصه بل أنه امتد إلى كل أفراد الأسرة الذين استقدمهم الإمام الشهيد بدءا من الوالد حتى ( جمال) اصغر أفراد الأسرة والذى سيستقدمه الإمام الشهيد ليكون تلميذا بالسنة الأولى في المدرسة التى يدرس فيها.

وقد وجدنا بين أوراق الشيخ صورة خطاب, أرسله من الإسماعيلية إلى الشقيق محمد بالقاهرة بتاريخ 5/4/ 1929 جاء فيه....

( ولدى العزيز محمد, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى أخيك عبد الرحمن السلام وباقى الأسرة وبعد فقد أبرقت لكم اليوم بحضوره باكر السبت الساعة 4 مساء وذلك لما ضاق صدرى من كثرة عزومات أهالى الإسماعيلية وانى حاضر إن شاء الله في الميعاد المذكور وعسى أن تكونوا متمتعين بكامل الصحة والهناء والسرور وأنا ما تأخرت هذا التأخير إلا قهرا منى وحفظا لمركز حسن مع الناس ولولا ذلك لكانت تحصل خصومة شديدة بين الناس بسببى والحمد لله أرضينا البعض المهم عبد الباسط وحسن بغاية الصحة التامة والسرور...).

وهذا الخطاب يصور مدى تقدير أهالى الإسماعيلية للإمام الشهيد ووالده.

وفى خطاب بدون تاريخ من الإمام الشهيد للوالد يقول" ومن الغريب أن أهل البلد عرفوا جمال وعبد الباسط وكلهم يحبونهما ويكرمونهما ويحترمونهما كل احترام سارا أو جلسا".

وفى خطاب آخر ..." جمال الدين من المدرسة والمدرسون مسرورون به جدا فاطمئنوا من هذه الناحية". ولما كان قد مضى أكثر من ستين عاما على هذه الأيام ولم أكن من ذوى الذاكرة القويةو فلست أذكر إلا القليل عن أيام الإسماعيلية التى أمضيت فيها قرابة عام وأذكر أن الشقة كانت صحية تغمرها الشمس والهواء والنور كما أذكر صورة باهتة جدا للجمعية التعاونية التى كانت رائدة للسوبر ماركت مما لم يكن لنا عهد ولم تكن موجودة في معظم أحياء القاهرة وقتئذ وأذكر أن الإمام الشهيد رحمه الله كان يعد لنا غفطارا أبرز مكوناته( سندوتش من ربع رغيف بالمربة) ولا أذكر أننى أكلت في الإسماعيلية ( فول مدمس) فلم يكن منتشرا في الإسماعيلية وقتئذ...

وأذكر أيضا صورة باهتة للمدرسة وكانت لها شرفات فسيحة صفراء اللون تقوم على قوائم خشبية وحجرات الدرس بلوحاتها المصورة المعلقة على الجدران وكان بصرى يسرح بعيدا عن حجرة الدرس في القضاء الممتد والشمس والصحراء والأشجار...

ومن أبرز ما يعلق الذهن عن أيام الإسماعيلية كثرة الزيارات المسائية والضيوف الذين كانوا يتقاطرون على الشقة, ولا يزال حتى الآن – على ذاكراتى الضعيفة – يرن في أذنى صوت الإمام الشهيد – ف إحدى الأمسيات وقد أخذ الكرى بمعاقد أجفانى – وهو يستقبل زائريه " مرحبا مرحبا مرحبا".

وكثيرا ما كان هؤلاء الضيوف يتناولون عشاءهم بالشقة ويأتون على ما كانت تمتلأ به رفوف المطبخ من جبن ومربة وعسل وشاى وسكر وخبز, فإذا أصبح الصباح لم نجد شيئا. وكان هذا يثير ثائرة الوالدة رحمها الله عندما كانت في الإسماعيلية.

وتكاد خطابات الإسماعيلية كلها تدور حول أمرين رئيسيين أولهما أخبار عن الدعوة في الإسماعيلية وتطورها. وعلى نقيض ما قد يتصور البعض فإن المرحلة الأولى للدعوة في الإسماعيلية تعرضت لكثير من المؤامرات والمقاومات وتطلعات المنافسين مما شغل جزء كبيرا في ( مذكرات الدعوة والداعية) وتضمنت بعض الخطابات إشارات إليها ... والأمر الثانى العائلية وهذه كانت تنقسم إلى قسمين..

الأول أخبار عنايته بأفراد الأسرة الذين استقدمتهم وكانوا أشقاءه محمد عبد الباسط وفاطمة وجمال والثانى بيانات عن توزيع المرتب وردا على مطالبات الوالد رحمه الله وهى تصور القدر الكبير لمشاركته في مساعدة والده على القيام بشئون الأسرة في تلك الفترة التى كانت امتداد لفترة البأساء التى أحاطت بالمجتمع المصرى أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات وتعرضت لها الأسرة المهاجرة من مهدها بالعطف إلى المدينة القاسية

والخطاب الأول بين أيدينا من الإسماعيلية بتاريخ 7 مارس سنة 1928 :

وجاء فيه بعد الديباجة" مع هذا حوالة بمبلغ جنيهين قيمة المطلوب لام مصطفى فقد كنت أريد أن أبعث بجنيه بدلة عبد الباسط لولا أنه لم يبقى معى مصروفات السفر فقد دفعت جنيهين من الأربعة المدخرة للتوفير قيمة اشتراك مع الإخوان في مصروفات المنزل عن مارس وقد كنت أريد جعله مؤخرا لولا أن نقودهم فرغت فدفعت نصيبى مثلهم مقدما وهذان الجنيهان الباقيان وقى معى مصروف سفرى فقط.

وتقبلوا تحيتى وشوقى وسأطلعكم على مصروفات فبراير ومارس تفصيلا عند حضورى والسلام".

من هذا الخطاب نعلم إن الإمام الشهيد كان يرى لوالده حقا في التعرف على إنفاقه لمرتبه يكن ليرى في هذا غضاضة أو ضيرا...

وفى 29 سبتمبر كتب يقول – بعد الديباجة :

( اليوم أول العام الدراسى الجديد وأنا استقبله بنشاط وسرور وجودة صحة . عبد الباسط تم قيده هنا وطبعا سوف لا تقبله ( المحمدية) ونريد أن يدرك العم من أوله وخاطبنى الناظر في هذا فبمجرد وصول هذا إليكم يتجهز بأدواته وكتبه وملابسه وبعض الحاجيات التى لابد له منها ويحضر وحده بقطار الساعة 6 وسأنتظره على المحطة, أنا فاطمة فأرى أن يكون حضورها مع عبد الرحمن حتى يتريض عقب الامتحان بمنتزهات الإسماعيلية أما بدلة عبد الباسط فسأشتريها له من هنا وكذلك ما يحتاجه واقطعوا له نصف تذكرة وأن بدا لكم أخر فيدونى به وتقبلوا فائق تحياتى وإجلالى)

ويتلو هذا الخطاب خطاب آخر مؤرخ في 5 أكتوبر 1928 وهو الخطاب الوحيد من خطابات الإسماعيلية بل كل الخطابات التى بين أيدينا الذى يتسم بكأبة وانقباض على نقيض المألوف في خطاباته التى تزخر بالأمل والاستبشار ويبدو أن من بين أسباب ذلك عدم نجاح الشقيق عبد الرحمن في أحد الامتحانات وهو أمر لم يكن مألوفا وقتئذ في الأسرة ولكن لاشك في أن هناك أسباب أعم لأن الخطاب يبدأ... ( سيدى الوالد الجليل سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فيخيل إلى أن االعالم كله أصبح اليوم بؤسا وشقاء وإننا على ما بنا خير من كثير بين يدى الآن خطابات لأصدقاء إبراهيم البنهاوى ويرسلونها إليه تفيض بمر الشكوى والعذر وتنضح بحميم الحاجة والفاقة فحمدا لك اللهم حمدا), ويقترح بعد ذلك أن يحضر الشقيق عبد الرحمن إلى الإسماعيلية ليقضى فيها أسبوعا يرتاح فيها من عناء المرض والامتحان ثم يعود إلى مدرسته " ولى معه كلام إذا حضر – سيدى الوالد – أرسلت إليكم خطابات وطلبت إليكم فيه الرد مستعجلا وإلى الآن لم يحضر منكم شىء ولعل تأثركم بقلة المرسل جعلكم تضنون بالرد وأرجوا أن لا يكون ذلك حقا فإنه مما يأخذ من نفسى كثيرا أما إن كان هناك شىء آخر يمنع فلعله زال وتوافونى بما أردت)....

لا أدرى موقفكم إزاء إرسال الأولاد, في إرسالهم مصلحة في فإنهم سيوفرون كثيرا من النفقات الذاهبة هباء منثورا وسينظمون أوقاتى ويرحوننى من عناء كبير ومصلحة لهم فى تدريبهم وتهذيبهم وتربيتهم تربية أراها راقية جيدة تحجزهم عن أولاد الشوارع وعطلة السبل وأذن يكون إرسالهم من صالح الطرفين فلعلكم تقدرون ذلك وتتصرفوا في إحضارهم في أقرب وقت ممكن ولو بدرجة وصول هذا إليكم)...

وهذه الفقرات توضح كيف كان الإمام الشهيد رحمه الله يرى نفسه مسئولا عن أشقائه من أكبرهم لأصغرهم وفى الوقت نفسه فإنه مثال الابن الحريص على طاعة والده وأن يظفر برضائه دائما.

ويختم الختام بفقرة تعبر عن نبرة الأسىء في مقدمته..ز" تعب كلها الحياة يا سيدى الوالد فعلينا أن نتمسك بعروة الصبر ونمت إلى رضا عن الله, وبالله بسبب قوى " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت, ويسلموا تسليما".

تلك أزمات أظنها سوف لا تتجاوز هذا الشهر والله الميسر والمعين"...

وفى 19/12/28أرسل خطابا يقول فيه ...

سيدى الوالد الجليل :

سلام عليكم ورحمته وبركاته وبعد فقد ورد خطابكم وطاعة لكم فقد عزمت السيدة الوالدة على الحضور إليكم غدا الخميس بالقطار الذى يصل الساعة 4 بعد الظهر فليكن ذلك معلوما لمقابلتها.

أما الرحلة فقد أنتجت نتاجا حسنا بالنسبة لصلتى مع الناظر وقد كانت مصادفات نتج عنها تقدير الرجل فمن ذلك أنه بعد الغذاء قام خطيبان من مدرسة بورسعيد يحييانى وكان الناظر تجاهى ولم يكن أحدنا محضرا شيئا فنظر إلى برأسه كالمستفهم فنظرت إليه مطمئنا وقمت بعدها فارتجلت كلمة كان لها وقع جميل جدا في نفوس الجميع. ومن الطرائف أن أحد المحامين الأهليين كان حاضرا ونسيت عنه الخطبة فقمت وعلى صدرى فوطة الطعان فقال ذلك المحامى ( نزل الفوطة أولا) فضحك القوم ولكننى رددت عليه توأ بقولى ( لعلها مقصودة أن أقول ومعى شاهد إثبات على كرم الزملاء وأفضالهم فلا يتوجه إلى دفع الأستاذ) فكانت هذه أظرف من الأولى وكذلك طلب إلى أن أتكلم في الثورة الفرنساوية بمناسبة رواية سينمائية فشرحتها بإيضاح وبسط ادهشا الإخوان المتخصصين في التاريخ وكان الناظر في كل ذلك يتيه سرورا وقدرته هو ومدحته غيابيا فبلغه ذلك فسر كثيرا وبالله التوفيق...".

ويكشف الخطاب عن سرعة البديهة التى اتصف بها الإمام الشهيد رحمه الله كما يكشف عن سعة اطلاعه وتنوع ثقافته التى يتم عنها بتعبيرات المحامين والت مكنته من أن يتحدث( بإيضاح وسط أدهشا الإخوان المتخصصين) عن الثورة الفرنسية عندما فوجىء بهذا الطلب ويمكننا أن نضيف من ملاحظاتنا الخاصة إن الإمام الشهيد رحمه الله كان بالفعل قد وسع إطار ثقافته الاجتماعية والسياسية وقد كانت فترة ( دار العلوم) هى فترة الثقافة المدينة في حياة الإمام الشهيد بعد أن أحكم أسياسيان الثقافة الإسلامية في فترة الطفولة الصبا ولا يعنى أبدا ولكن معناه أنه لم يقتصر عليها بل أضاف عليها هذه الثقافات الجديدة.

وهناك خطاب قد تهرأ وتمزقت أطرافه وأوصاله وزحفت عليه الرطوبة بدون تاريخ ولكن يبدو أنه أرسل بعد الخطاب السابق لأن فيه إشارة زيادة مدرسى بور سعيد ردا على الزيارة السابقة وسنحاول استخلاص ما يمكن استخلاصه مما أفسده الدهر.

بسم الله الرحمن الرحيم

سيدى الوالد الجليل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أكتب إليكم والساعة الثانية عشر مساء وقد حضر إلى منذ الساعة الرابعة فضيلة القاضى ومكث معى مدة بالمنزل, ثم أجبرنى على الخروج معه لزيارة بعض الأهالى وكنت مدعوا إلى حفل زفاف فذهبت إليه وألقيت هناك كلمة طريفة في التهنئة والشكر وأغراض الزواج.

يوم 26 أى ليلة 27 اقترح الناظر جمع التلاميذ وأن ألقى عليهم جميعا بحضور المدرسين بشكل محاضرة قصة المعراج ففعلت وشرب المدرسون جميعا قرفة احتفالا بتلك الليلة وفى صبيحتها دعانا الناظر إلى تناول الحلوى بصالة المدرسة احتفاء باليوم وكنت طبعا خطيب القوم.

يوم الجمعة الماضى حضر عندنا مدرسو بو سعيد وتلاميذهم فأكرمناهم وتوالت كلمات الترحيب بهن فبعد شعر رقيق ونثر مستظرف عرضت عليهم ( قصيدة تمثيلية) في الترحيب تكلمت فيها عن لسان الناظر والسكرتير ومدرسى العربى ومدرسى الانجليزى ومدرسى الحساب ومدرسى الألعاب وتلامذة المدرسة فكان لذلك وقعا جميلا.

أروى لكم هذا لتعلموا أنه كان له في نفس الناظر أثر حميد فقد أصبح له عقيدة خاصة وأظهرنى الله على ميوله الخبيثة ونصرنى على كبرا يائه بحوله وقوته وله الحول والطول.

الشيخ القاضى يؤيدنى جدا في مواقفى الدينية بالبلد, ويعلن في كل مجمع أنى أنما أتكلم بلسانه هو أولا وأنه أول من... على كلامى, ومصادفة عرضت أمامه قصة العيد فسر كثيرا, وأقسم له سيكون في الصف الأول في الجبل وتغالى حتى قال أنها من الشعائر التى يحارب تاركها, وسخف وجهل المعارضين, وأشبعهم لوما وتعنيفا , وذلك من توفيق الله.

حالتنا جيدة والحمد لله وأنا مسرور مغتبط... وتقبلوا تحياتنا جميعا.

ملاحظة:

من أخبار العطف أن الحاج سيد الخياط توفى يوم السبت الماضى على أثر شلل في المخ أصابه في عصر صلاة الجمعة وإن الشيخ عبد الرحيم البحيرى توفى وأن كامل العتال نجل الشيخ عبد الله توفى على اثر عملية بالحلق في إسكندرية وقد جاء هذا كله في بريد واحد... نسأل الله أن يقينا شر الغفلة, وخطر البغتة".

هذا الخطاب نموذجى في تصويره لأسلوب الإمام الشهيد في استمالة القلوب واكتساب الأعداء, ويكشف عن مدى دبلوماسية وحكمته وإيثاره وذلك كله في الحقيقة تطبيق للآية: ( ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوى كأنه ولى حميم), ولهذا فقد كان مخلصا عندما نسب فضل ذلك إلى الله تعالى:" ونصرنى على كبريائه بحوله وقوته وله الحول والطول" وكان يتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم وبأدب القرآن وكان يجد في نفسه ما يتفق مع هذا لأنه كان مهذبا حييا بالإضافة إلى الذكاء والفراسة ولهذا كان مسلكه هذا بعيدا عن مسلك الدهاء السياسى الذى يكون هو المسلك في غيبة هذه القيم والأدب والتهذيب التى فطر عليها الإمام الشهيد..

وقد تضمنت مذكرات الدعوة والداعية إشارة إلى قضية صلاة العيد في الصحراء, وكيف جوبهت الفكرة بمقاومة قوية عندما عرضت أل مرة.

وهناك خطاب بدون تاريخ يبدو أنه أرسل هذه الفترة يذكر فيه أن سبب تأخره في إرسال النقود هو " حيرتى في تقسيمها وهذه أربعة جنيهات حتى استدين لكم اثنين آخرين إن شاء الله تعالى.

سافرت يوم الخميس إلى دمنهور لا بمناسبة المولد الحصافى رجاء مقابلى الإخوان, ,أخذت لمنزل أحمد أفندى كيلتين فول سودانى بمبلغ 18 قرشا, فقضيت ليلة الخميس ويون الجمعة وعدت مساء الجمعة إلى الإسماعيلية وقد كلفتنى هذه الرحلة 80 قشا, عوضها الله بثلاث أقق من السمن.

أما العفش فأفوض أمرى إلى الله إنى لمحتاج إليه اشد الحاجة, أما الكنبات فضرورية والطقم لا ينفع بالرغم من عدم تيسره ل الآن ولا في المستقبل ولا أدرى ما اصنع, وتقولون نرسل البساط والسرير, وما رأيت لا هذا ولا ذاك لا المسموح به ولا المحجوز عليه والله ولى الصابرين".

يعقب هذا خطاب بدون تاريخ أيضا بوصول المتاع وتسلمه وهو " المرتبتين واللحاف والمخدتين وفرش الكنبة كامل وثلاثة طرود كتب وشكرا لكم وإن كنتم قد أخرتم البساط".

ويتلوا ذلك حديث عن مقاس الطربوش وطلب ساعة ومنبه .... الخ.

وفى النهاية" هذا وتوافونى بيوم حضوركم بل بساعة حضوركم حتى انتظركم على المحطة".

" اليوم أرسلت لكم طردا به بالطو محمد وبالطو فوزية وصديرى جمال..

الأنجال جميعها بخير وعافية ويهدونكم عاطر تحياتهم وقد اشتريت لفاطمة ( زمزمة) جميلة ولجمال صديرى جميل ولعبد الباسط مثله جمال يسلم عليكم كثيرا".

وهذا الخطاب يدل على أن الإمام الشهيد استقدم فى هذه الفترة ثلاثة من أشقائه...

وثمة خطاب آخر بدون تاريخ ولكن يبدو أنه فى هذه الفترة أيضا وجاء فيه بعد الديباجة: _ ورد خطابكم والحمد لله على صحكتم واطمئنانكم, أما جمال فهو مسرور كل السرور وقد أدخلته مدرسة أولية فهو يتعلم بها ويحبه أساتذتها ويكرمونه جدا, أما فاطمة فأنا أوصيها كلما سنحت الفرصة الوصايا التهذيبية, وسأشرع معها فى القراءة والكتابة بحول الله وقوته. وعبد الباسط, كذلك اهتم بتهذيبه جدا, وبالجملة فأمل بعون الله أن أوفق إلى رشادهم خير إرشاد إلى ما ينفعهم فى المعاش والمعاد, ولهم درسان فى الأسبوع بعد العشاء ويحفظون فيه الحديث وكم يكون سروركم عظيما إذا سمعتم جمال الدين وهو يقرأ الأحاديث التى حفظها بتجويد وإتقان. , فمثلا:" يا معاذ أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك ولتبك على خطيتك", وحديث :" صل من قطعك وأحسن إلى من أساء إليك وقل الحق ولو على نفسك"... الخ... وكذلك الجميع...

وأنا الآن لا أسهر فى الخارج قطيعا سأجعل ليلتين فى الأسبوع أرس فيهما بعد العشاء فى مسجدين الساعة 8,30على الأكثر ثم أ‘ود إلى المنزل.

ولنا جدول منظم يشمل الرياضة والمذاكرة والسمر والطعام فاطمئنوا من هذه الوجهة كل الإطمئنان, ومن الغريب أن أهل البلد عرفوا جمال وعبد الباسط وهو يحبونهما ويكرمونهما ويحترمونهما كل الإحترام متى سارا أو جلسا.

وزارنا بعض الإخوان المدرسين والموظفين فكان لتلك الزيارات أثر فى نفس عبد الباسط جعله يتعلم كيف يتأدب ويقابل الناس وهكذا. وقد فصلت لكل منهما جلابيتين من اليابانى, وحتمت عليهما النظافة وعدم السير بالحفاء ودوام الصلاة والنظام والغسل ونحو ذلك فأصبحا يسران الناظرين, واسأل الله التوفيق والإعانة.

والذى أرجوه أن تؤدبوا محمد وفوزية كما أؤدب أنا عبد الباسط وجمال.

سيدى الوالد...

الآن عرفت أن الأولاد إذا شعروا بالنظام فى المنزل نظموا كل أعمالهم, ولذلك أرجو أن تنظمة المنزل نظاما حسنا , فمثلا تجعلون الصالة لسفرة الآكل وحجرة للجلوس والمذاكرة وحجرة لنومكم وحجرة لنوم محمد وعبد الرحمن, وتضبطوا مواعيد الطعام والنوم بقدر الإمكان".

هذه الفقرات الخاصة بالدور التهذيبى والتربوى توضح تبنه وعناية الإمام الشهيد بها, وثمة إضافة تعيين على فهمها ففى تلك المرحلى كانت الأسرة قد انتقلت من الريف إلى القاهرة ولم يمض عليها سوى أربع سنوات ولم تتوصل بعد إلى أن تكيف نفسها مع أسلوب الحياة فى المدينة خاصة فيما يتعلق بالأكل واللبس فلم يكن أسلوب المائدة هو السائد دائما, كم أنها عندما توجد فليس شرطا أن يوجد عليها الشوك أ والملاعق والسكاكين. فمعظم العائلات من الأصول الريفية كانت تأكل على ( طبلية) وهى مائدة أرضية لا تستخدم الشوك أو الشكاكين ولكن الملاعق فحسب وتنوب الأيدى فيما تتطلبه العملية مما لا تقوم به المعلقة وفيما نرى فإن الدافع الأول لهذا الأسلوب هو بالطبع البساطة وعدم استطاعة معظم عائلات الطبقة المتوسطة الصغيرة أو الريفية شراء مائدة وكراسى الخ.. وهذه البساطة التى وضعها الإسلام فى اعتباره وأخذ بها خ\حتى لا يشق على الناس ( وهى ملحوظة فى المسجد أيضا الذى يمكن أن يكون قطعة أرض فضاء) وقد أصبحت عند البعض بتأثير الفهم الساذج للإسلام أسلوبا حتى عندما تنتفى العوامل المادية وهذا ما لاحظناه فى زياراتنا لكثير من الدول الاسلامية ور سيما الأسيوية من استبعاد المائدة والشوكة والسكينة بفكرة أن الأسلوب الاسلامى للأكل إنما يكون باستخدام الأيدى والجلوس على الأرض الخ...

فإذا وضعنا فى تقديرنا أن ما جاء بخطاب الإمام الشهيد لأبيه إنما حدث منذ ستين عاما وأن فى القاهرة الآن حوالى ثمانين ألف عربة " فول " يقدم الكثير منها وجبات فى أطباق ألمونيوم صغيرة يأكل أصحابها منها دون شوك وأنه توجد فى كل الأحياء الشعبية فى القاهرة مطاعم هامشية لعمال الورش أو المحال التجارية تقدم هذه الأطباق دون شوك بالطبع لكان مفهوما البطأ فى التكيف الذى عانته الأسرة.

وفى هذا الجانب من الجوانب المعيشية كان مجتمع الإسماعيلية أكثر تقدما من المجتمع الريفى التقليدى, أو حتى البورجوازى الصغير فى المدن, لوجود جالية أوربية كبيرة بها , ولتعرف المصريين على عادات وأساليب الحياة الأوربية ومن ثم فإنا لا اذكر أننا فى الإسماعيلية كما نجلس على طبلية أو نأكل بالأيدى وعلى كل حال فإن هذا الحكم لا يصدر على سبيل اليقين لأن مرور هذا الوقت الطويل ومعاصرة الواقعة لفترة الطفوله تجعل الحكم على سبيل الظن لا على سبيل اليقين وقد يؤكد هذا أن الإمام الشهيد فى الإسماعيلية لم يكن يلتزم تماما بالتقشف الذى ألزم نفسه به فى الفترات التالية بتأثير احتكاكه المباشر بالريف المصرى كداعية ففى الإسماعيلية كنا نأكل المربة وليس الفول ولكن فى القاهرة اتخذ الإمام الشهيد من الفول طعاما ملازما وكان يهرسه بالشوكة...

وهذا ما ينطبق أيضا على الزى. ففى الإسماعيلية كان الإمام الشهيد يعنى بأناقته, فلبس البدلة كاملة ويضع المنديل الحرير فى الجيب الأعلى للسترة, كما كانوا يفعلون وقتئذ, واذكر انه كان يضع دائما بجانب سريره زجاجة صغيرة من الكولونيا اسمها " جينيس فليرى" ( رائحة الشباب) ولكنه بعد أن خاض غمار الدعوة فى أعماق الريف وشارك الفلاحين شظفهم تخفف من هذا المظاهر وأصبح يكتفى – فى كثير من الحالات – بجلابية بيضاء ويضع فوقها عباءة, ولم تعد تظهر الكولونيا بعد...

وبعد أن انتهى الإمام الشهيد من خطابه السابق عاد واستدرك فى بقية الصفحة ( أظنكم تتذكرون كلامى مع محب الدين افندى بشأن موضوع لحجار وقد ظل الأمر ساكنا إلى الأسبوع الماضى حيث أرسل إلى محب الدين افندى يخبرنى بأن الشيخ حافظ وهبة بمصر والأمر فى دور العمل وسكن الأمر بعد ذلك إلى اليوم بعد كتابة هذا حيث جاءنى خطاب من جمعية الشبان المسلمين بإمضاء محمود فضلى أفندى السكريتر يخبرنى أن عبد الحميد بك سعيد يرجونى تقديم طلب إلى المعارف برغبتى بمكة على شريطة حفظ حقى بوزارة المعارف المصرية فى العلاوات والمدة والوظيفة الخ...و وسارد عليه بأن هذا الطلب ليس قانونيا بل المعقول أن تخاطب حكومة الحجاز وزارة المعارف المصرية بأنها تريدينى موظفا عندها فتخاطبنى وزارة المعارف لأخذ رأيى فابدى لها ما ا{يد وتتم الموافقة بهذا الشكل..

فهل يروقكم ذهابى إلى الحجاز مع حفظ حقى بمصر بمعنى أن أكون موظفا بوزارة المعارف المصرية منتدبا للعمل بالحكومة الحجازية أم ماذا ترون؟

سوف لا أكتب شيئا من الطلبات الآن حتى يوافينى ردكم ورد فضلى أفندى والله يختار لنا الخير حيث كان اعملوا الاستخارة الشرعية وتقبلوا خالص إجلالى وتحياتى.

حسن

فليكم فى العلم أن وجودى بالحجاز لا فرق بينه وبين مصر فى البعد لأن سأحضر إن شاء الله تعالى أجازة كل عام تقريبا اكتبوا لى برأيكم أنتم الخاص ولا تعلموا أحدا من المنزل بهذا الأمر حتى نرى ما يتم به".

وفى 24 ديسمبر سنة 1928 أرسل الإمام الشهيد خطابا يقول فيه..(... أما بخصوص مسألة الحجاز فقد ردت وزارة المعارف اليوم على الطلب بالرفض وعلى ذلك فقد عدلت عنها وما كنت مشتغلا بها ذلك الاشتغال الذى فهمتموه كما لم يقع رفضها فى تنفسى موقعا غير عادى أبدا ولم أجد له غضاضة أو أثرا والأمر بيد الله وله الحمد والمنة وقد هزمت بحول الله وقدرته على أداء فريض الحج هذا العام معتقدا أنه غذا صدق العزم وضح السبيل وقد يبدوا لكم هذا العزم فكرة خيالية لعدم توفر النقود ولكن وقتها يأتى الله بالفرج إن شاء الله.

وأما بخصوص أنه ليس معى.... لا يؤثر فى نفسى لأنى لا أحتاج إلى شئ حتى أجده ميسرا أمامى وماذا... غير ذلك.

يهمنى أن تكونوا مسرورين متمتعين بالصحة والهناء وتقبلوا عظيم الشوق والإجلال وعطر التحية لكم جميعا. ومن هنا جميعا عبد الباسط وفاطمة يسلمان عليكم ودمتم.

وهناك خطاب بدون تاريخ يعتذر فيها عن عدم زيارة الأسرة بالقاهرة فى العيد, يقول فيها بعد الديباجة:

" فقد كان بودى إجابة مطلبكم بخصوص الحضور فى العدي لولا أن هناك عذرا شديدا يمنع ذلك أقوله لكم والأمر بعد ذلك كما ترون.

الامتحان عقب الإجازة مباشرة, والإجازة طويلة, اثنى عشر يوما. ويعنى ذلك أن التلاميذ سيحضرون وقد نسوا ما درس لهم خصوصا التمرن على الامتحان – فلذلك رأيت أنا وبعض المدرسين البقاء وتكليف التلاميذ الحضور كل يوم وقتا قصير نمرنهم فيه على الامتحان لتحسن النتيجة ولا سيما السنة الأولى التى أدرس بها.

تلك هى الموانع أدلى بها إليكم والأمر لكم, وتذكروا قرب الأجازة وافهموا سيدتى الوالدة هذه السباب حتى يطمئن بالها والسلام عليكم".

بهذه الروح كان المدرسون يمارسون مهمتهم المقدسة وضحون فى سبيلها بإجازاتهم.

وثمة خطاب طويل, مؤثر, بدون تاريخ, توحى وقائعه إنه كتب أواخر سنة 28, أو أوائل سنة 29. وضمته الإمام الشهيد مفردات إنفاقه لمدة ثلاثة شهور وذيله بعبارة " يحفظ هذا الخطاب كاثر" وقد وجدناه فى ظرف مستقل كتب عليه الوالد بخطه" به خطاب أثرى للمرحوم أوصى بحفظه" وكلمة ( المرحوم) تدل على أن الشيخ فى هذا الظرف الخاص, وكتب عليه عبارته تلك بعد الاستشهاد أى أن الشيخ رحمه الله كان يقلب فى تلك الليالى الطويلة التى كان يقضيها ساهرا وحيدا, خطابات ابنه وعندما وجد تاشيرته فى ذيل الخطاب أفرده بأن وضعه فى طرف خاص وكتب عليه جملته تلك.

فى هذا الخطاب يقول الإمام الشهيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

" الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؟

سيدى الوالد الجليل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد

فقد وصلنى خطابكم الأول وما منعنى من الرد عليه إلا كثرة الأعمال فقط, ثم جاءنى اليوم الخطاب الثانى فكان لابد من الرد عليه أيا كان فإليكم البيان بما أنتم تودون أن يرتاح ضميركم من جهتى كأنى قلق لضميركم وألم لراحتكم والأمر للهو على كل حال الذى يهمنى راحتكم مهما كلفنى ذلك سأفصل لكم فى هذا الخطاب حساب يهمنى راحتكم مهما كلفنى ذلك سأفصل لكم فى هذا الخطاب حساب ثلاثة أشهر مضت هى نوفمبر وسبتمبر وأكتوبر أى منذ فارقتكم لتعلموا أن ليس فى تصرفى شيئا من الإسراف ولا الخفاء ولا الاستبداد برأيى وإنما أنا مسوق بقوة الظروف التى لا تغلب وإذا كانت ظروفى هكذا فما ذنبى أنا.

شهر سبتمبر – جئت الإسماعيلية يوم 8 منه فصرفت فى باقية ثلاثة جنيها تماما مع أنى وحدى ولست أغشكم أو أكتب فى هذا غذ لا داعى لأحدهما – أما كيف صرفتها فهى فى غير تبذير ولا إسراف بل كنت فى ذلك كصلاح أفندى وإبراهيم ومن كنت معهما.

كان معى من هذا المبلغ كله ثمانين قرشا منها أجرة القطار ومن أين الباقى سلفة طبعا من إبراهيم البنهاوى 150 قرشا ومن الشيخ على 1ز5 ومن شربينى أفندى 456 هذا عدا سفر الأولاد الذى حاسبت عليه إبراهيم وعدا أجرة المنزل عن يوليه وأغسطس وسبتمبر ومن أين يدفع هذا طبعا يدفع مرتب سبتمبر. شهر أكتوبر وتوزيع مرتب سبتمبر – أو بعبارة أدق إلا قليلا.

200 لإبراهيم أفندى من أصل الحساب الذى بلغ خمسة جنيهات.

45 لشربينى أفندى

55 للشيخ حسن من 105 بقيت له بعد أخر دفعة

20 الفراشين

700 حوالة أرسلت إليكم

1 للشرنوبى من ثمن الكتب

50 للحلاق والمكوجى 25, 25

25 كليمين

100 أجرة المنزل عن نصف سبتمبر الأخير وبعض تكاليف

57 للشيخ على من أصل حسابه البالغ 107

15 الشركة ( استجرار)

10 مكارم الأخلاق عن شهرين

50 لمسجد العرايشية

30 لمبة10

30 مفرش السرير

70 شيك لمحجوب أجرة الكتب المجلدة عنده

200 مصروفات جمال الدين

50 شرابات ومناديل وبعض لوازم نقدا

90 من تكاليف الكنبات الثلاثة

50 للترزى

15 أجرة بوستة لإرسال نقود وخطابات

30 لسفر دمنهور فقط

30 لسفركم

هذا عدا أشياء دفعت فى أغراض كهذه ولوازم لم أتذكرها الآن وأغفلت كتابتها – وعدا مصروف الشهر من مأكل ومشرب ونور الخ بل هى النقود التى دفعت أول الشهر بمجرد تسلم 350 المرتب ورد عليها ثلاثة جنيهات ونصف على الأقل للأكل

والشرب فالنتيجة ثلاثة وعشرون جنيها ننزل منها مرتب الشهر وهو 15 جنيها فالباقى ثمانية جنيهات فمن أين هذه اليكم البيان وأرجوا ألا يزعجكم ذلك فإن كان يؤلمكم أنى سافرت دمنهور فوالله ا خسرت فيها إلا ثلاثين قرشا فقط كانت فى جيبى وأخذت بها التذكرة من الاسماعيلية ودفع عامل التذاكر تعريفة بقى من 30,30 ثمن التذكرة وعدت على حساب غيرى وإن كان يؤلمكم الخمسين قرشا التى دفعت فى المسجد فقدروا الظرف الذى تورطت فيها لدفعها وقدروا أجرها وإن كان يؤلمكم ثمن الكتب فهذه أموال نافعة باقية على أنه موسم وانتهى ولكن من اين أتيت بالباقى أتيت به من الشيخ حامد الذى اقترضت منه سبعة جنيهات وأقرضت من مال الجمعية جنيها آخر وهى تمام المنصرف.

وإلى هنا ننتهى من حساب مصروف شهر أكتوبر واليكم بيان مصروف شهر نوفمبر

3 حوالة لمصر لكم

1الترزى وبذلك ينتهى حسابه

1,50 المدنى ويبقى له جنيه غير ثمن المعجم أن كان اشتراه كما أخبرنى.

2 أجرة المنزل

1 الشيخ حسين بقية الحساب القديم50 وأشياء جدت فى أكتوبر 50

15 الشركة

50 جمعية الشبان عن ثلاثة أشهر والمكارم

20 فراشين

20 الحلاق

10 جمعيتا بالإسماعيلية

1 الناموسية

1 إبراهيم أفندى البنهاوى من حسابه ويكون الباقى له بعد ذلك جنيه فقط.

_______________

11,65

والباقى من المرتب وهو ثلاثة جنيهات و35 قرشا أعطيتها لفاطمة على سبيل المصروف.

ولكن الشيخ حامد طلب جزءا من نقوده بل نفوده كلها فماذا أصنع له أخذت جنيه الناموسية وجنيه واحد من المصروف وجنيه من إبراهيم افتدى البنهاوى وجنيه من عاكف أفندى وتسلم أربعة جنيهات من سبعة وتبقى له ثلاثة.

وبذلك بقى لنا مصروف 2,35 فقط وهذا لا يكفى فلابد من الاعتماد على أن يكون الخبز لآخر الشهر ولوازم البقالة من الشركة لآخر الشهر وهذا ما كان.

ذلك يا سيدى حساب ثلاثة أشهر اتقد ماليكم أدق من الشعرة فإن كان لا يروقكم فما ذنبى أنا فلتسألوا الله أن يحور هذه الظروف وتتميما للأمر والبيان سأوافيكم بملخص ما على من الديون الآن لتكونوا على بصيرة من كل الأمر.

جنيه

3 للشيخ حامد

1 لعاكف

1 للناموسية

1 للمدنى

2 لإبراهيم افندى

1 للشرنوبى

لعبد الحكيم أفندى

عدا ديون فاطمة ووالدتى ودينكم.

إذا كنتم بعد هذا لا تزالون مصرين على اقتراحكم وتريدون لا تفكروا فى تصرفاتى هذه المعقدة المتشابكة وتريحوا أنفسكم من عنائها فأنا أتقبله بكل سرور على أن يعدل تعديلا يسيرا إذا وافقكم وأما إذا أبيتم هذا التعديل فلا أعارضكم ولكنى أرى من الرحمة والعدل أن يكون ذلك هو أن تتركوا جمال الدين و عبد الباسط بمصروفاتهما المدرسى والملبس والمأكل وكل لوازمها وفاطمة كذلك ثم تأخذ والدتى نصف جنيه مصروف وفاطمة نصف جنيه مصروف وأنتم جنيه مساعدة هلى جنيه عبد الرحمن وأرسل لكم الجنيهين شهريا مع الدين القديم 220 قرشا غير دين الناموسية الذى أدفعه كذلك فتتسلموا الجنيه الذى يخصكم وتأخذ والدتى الجنيه الذى يخصها هى وفاطمة. إذا قبلتم هذا كنت شاكرا ممتنا مع أنى أطمئنكم من الآن على تصرفاتى وماليتى التى ستكون على خير ما تحبون.

أما عبد الرحمن أفندى فى باس حقا وهل قلت لكم مرة أن به باسا والله أسأل له التوفيق فى كل خطوة من خطوات حياته وأن يجعل الخير رائده واليمن قائده.

أما حالتنا المنزلية فنحن سعداء مسرورن هانئون وادعون ليس وراء ما نحن فيه شىء من السعادة يشعر جميعنا بذلك وقد صنعت للكتب دولابا جميلا جدا تكلف جنيها لا يزال دينا فضعوه مع الديون وصنعنا كذلك ترابيزة مطبخ تكلفت ثلاثين قرشا دين أيضا فضعوها إلى الدولاب حتى تكون الاحصائية وافية وفاطمة مسرورة جدا وعندها أم قرنى كالخادم الأمين وكذلك زوجة الأسطى عبد النبى ووالدته وكل نساء العرايشية الطيبات والحاجة تزورها وهى فى أمن ودعة وأما غضب والدتى فحكمتكم كفيلة بإزالته وترضيتها وإذا كانت غضبت و هى لم تعلم بكل هذه التفاصيل فكيف إذا علمتها وسمعت اسم عاكف وحامد الجمعية مساهمين فى لجنة القروض أظنها تفعل مالا يعقل وتحكم الرأى على غضب الشديد فابذلوا الجهد فى تسكين ثورتها وإرضاء خاطرها وإقناعها وتفهيمها ما فى هذه الخطابات.

والذى ألاحظه الآن أن وجود فاطمة سيخفض من المصروفات كثيرا وأنه بعد هذا الشهر ستنفرج الأزمة وتنحل العقدة.

وإذا لم يرق فى نظركم كل هذا فالله نعم الكفيل يكفل لى إقناعكم وترضيتكم وقد أصبحت أشعر من نفسى بخلق غريب هو التسليم لله تبارك وتعالى يحكم ما يريد.

اكتبوا إلى بما تريدون وسلموا الكتب التى عندكم للمدنى لجليدها وإذا مر بكم إبراهيم أفندى البنهاوى فأرسلوا معه كتاب طبقات ربات الخدور ورحلة ابن بطوطة.

كنا نفكر فى أنكم تسلون لنا خادما من عندكم فما ترون وتفضلوا بقبول تحية عطرة مخلصة.

وهناك خطاب بدون تاريخ يحتمل أن يكون سابقا لهذا الخطاب لأن فيه إشارة إلى توقع حضور الوالد للإسماعيلية الذى حدث فى مارس سنة 1929.

فى هذا الخطاب يقول الإمام الشهيد – بعد الديباجة:

( ... وبعد فقد وصل خطابكم وأما بخصوص حضوركم فأرى أن يكون بمجرد وصول هذا إليكم فإننا فى حال عسر شديد بخصوص نظام المعيشة نتحير فى كل شىء وقد علمت حسابى بخصوص الشيخ حامد فأحضرت المنزل مفروشا والرفيق الصالح وهو مدرس عندنا وسينزل من أول يوم فى منزله ولكنه لا يعلم بذلك حتى الآن فاطمئنوا من هذه الوجهة كل الاطمئنان وحضوركم يكون بكل سرعة لشدة الحاجة إلى ذلك ولو رأيتم أن يكون معكم سليمان لاحتياجنا إليه وتبحثون لكم عن غيره فعلتم وإلا بحثنا عن ولد أو بنت صغيرة هنا.

وأما بخصوص النقود فما دمتم رأيتم ذلك فلا بأس وإن كان المدنى

أرسل غلى خطابا يبدى فيه اشد العذر لإرسال النقود وكأنه لم يصله منا إلا خمسين قرشا ثم أنكم تقولون أنى لم أجعل لكم نصيبا فى المبلغ مع أنى أخبرتكم أنى دفعت مصروفات جمال الدين لتأخذوها من عبد الرحمن أفندى فكان لكم منه النصيب المفروض.

جمال الدين مسرور من المدرسة والمدرسون مسرور نبه جدا فاطمئنوا من هذه الناحية وغيرها جدا.

وتمر فترة خطابات لحضور الوالد نفسه للإسماعيلية.. وفى 15 جمادى الأولى 1349هـ( 9 أكتوبر 1930م) أرسل الإمام الشهيد إلى أبيه خطابا يقول فيه بعد الديباجة:

" فقد ورد خطابكم الكريم وإن اليوم الذى أستطيع فيه إرضاءكم هو اسعد أيامى حقا وعقيدتى أننى ما خلقت إلا لأرضيكم وليس لى من الحق فى كل ما يقدره الله لى بعض ما لكم ذلك ما أعتقده وأقوله بإخلاص ويقين.

والذى أريده فقط أن تغتبطوا بذلك وتعلموه وأن تخفف سيدتى الوالدة من ألمها لعدم التوفير فإن هذه ضرورة لابد منها ستنفرج عما قليل.

والله أننى لأقضى ساعات طوال فى ألم لتألم والدتى وفى تفكير كيف أرضيها وكيف أسعدها وكيف أجعلها هانئة مغتبطة فهل يوفقنى الله إلى هذه الأمنية.

خطر لى أن أزوركم كل شهر مرة لا لشىء إلا لأراكم وأشرف بتقبيل يديكم ويدى والدتى وأحظى بدعوة صالحة من دعواتكم لى وعسى أن يكون هذا مرضيا لوالدتى بعض الرضا.

وسأبدأ بتنفيذ ذلك ربما غدا إن شاء الله ( الأربعاء) فقد أحضر مساءا وأقضى معكم ليلة الخميس والجمعة والسبت بحوله تعالى وقوته وتفضلوا بقبول فائق احترامى وتحياتى"..

وما من خطاب كهذا يصور الإيمان بفضل الوالدين,والعمل للوفاء به. وليس هناك مبالغة إذا قلنا أنه مثال لما جيب أن يكون عليه إحساس الأبن نحو والديه وعلاقته بهما. وفى 12 رمضان 1349 كتب الإمام الشهيد إلى والده :

سيدى الوالد الجليل :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " وبعد" فلعلكم وأفراد الأسرة المحبوبين جميعا ممتعين بكامل الصحة والهناءة وقد ورد خطابكم الكريم فأما الخيمى فحقا ما قال ويبقى له 140 قرشا وسأبعث لكم بالنقود والمطلوب كله بالبريد أو صحبة عبد النبى أفندى لأنه ربما يسافر إلى مصر فى خلال الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.

سيكون افتتاح المسجد إن شاء الله تعالى فى حفل عظيم يوم الخميس القادم السابع عشر من رمضان وحبذا لو كان الوقت يسمح بتشريفكم.

محمد مسرور محبب إلى الإخوان وهم محببون إليه ولعل عبد الباسط تم فى شأنه شىء فقد علمت أن لجنة المجانية انعقدت يوم الأربعاء الماضى ولا ندرى ما تم.

الحال عنا على أكمل ما تحبون هناءة وراحة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حسن


شددوا على الخيمى فى انجاز الأعلام يوم 15 رمضان لضرورتها فى حفل 17 رمضان وتقبلوا تحيتى.

وفى 22 شوال 1349 هـ ( مارس 1931م) كتب:

سيدى الوالد المحبوب

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فلعلكم جميعا بخير ما أحب لكم هناءة وغبطة.

عندى بشريان أقدمهما لكم مشفوعين بحمد الله وشكره

الأولى أنا تسلمنا بقية المبلغ وهو 300 جنيه من الشركة.

الثانية أن سعادة مراقب التعليم الابتدائى ( على بك الكيلانى)

زار الإسماعيلية , وزار فى الليلة التاليى المسجد ومدرسة التهذيب ومعه المأمور والمعاون ووكيل النيابة والمدرسون فدهش لما رآه من نظام الجمعية والمسجد والمدرسة ووقع دفتر الزيارة ثم انتقل هو والمدعون إلى ( بوفيه) شاى وتناول الشاى فى حفل عظيم وخطب الإخوان خطبا وقصائد فى الترحيب به فزاده كل ذلك وقام محييا الجمعية والإخوان... الخ..".

وقد أشار الإمام الشهيد – رحمه الله – إلى هذه الواقعة فى كتاب " مذكرات الدعوة والداعية" وقد أصبح الأستاذ على الكيلانى بعد ذلك من الإخوان, وكسبته الدعوة بعد أن كان قد أرسل للتحقيق فى اتهامها, كما كسبت بعد ذلك قضاه أريد منهم الحكم عليها...

وفى 23 المحرم 1350هـ - 1 يونيو 1931م كتب إلى الوالد:

فقد وصل خطابكم وسررنا لجمال الدين وتهنئهه, أما عبد الباسط فنتيجته سارة كذلك فإن الراسب فى علم كالنجاح فطمئنوه على نجاحه وراقبوه فى هذه الأيام حتى ينتهى الأثر من نفسه.

قابلنا الشيخ العرفى وأوصلناه من الإسماعيلية إلى القنطرة فالسكة الحديدية الفلسطينية.

حالتنا هنا هادئة وسنحضر إن شاء الله يوم الاثنين القادم بقطار الظهر الذى يقوم من الإسماعيلية الساعة العاشرة ويصل 12,30 عندكم"

وفى 10 يوليو سنة 1932 أرسل خطابا بالبريد المستعجل يخطر الوالد بأن " أحد الإخوان المخلصين وهو عثمان الجضى سيصل إلى القاهرة وسينزل عندكم فأرجو أن تقابلوه على المحطة بنفسكم أو من ترون أنه يؤدى المهمة إذا كان عبد الرحمن افندى يسمح وعلامة هذا الشخص أنه يحمل وسام الجمعية" وقد أكد الإمام الشهيد هذه الوصية ( لما لهذا الشخص من المآثر والإخلاص فى الخدمة) وأرسل مع الأخ عثمان خطابا آخر.

وقد كان الأخ عثمان الجضى من الرعيل الأول فى الإسماعيلية وممن اشتهروا بالأقدام والجرأة.

والخطاب يصور تقدير الإمام الشهيد – رحمه اله – لإخوانه وللعاملين فى الدعوة وكيف أنه يطلب من والده أن تقابل أحد هؤلاء الأعضاء ويوصيه مشددا بإكرامه.

وفى 30 يوليو سنة 1932 كتب الإمام الشهيد إلى والده من المحمودية خطابا طويلا جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم"

الحمد لله رب العالمين وعلى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المحمودية فى 30/7/1932

سيدى الوالد الجليل

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته "وبعد" فأكتب الآن إليكم بعد فترة طويلة من الكتابة اكتفيت فيها بأقلام الآخرين محمد وعبد الباسط السيالة.

أنا الآن بالمحمودية وقد حضرت إليها منذ ثلاثة أيام وفى عزمى زيارة شبراخيت إن شاء الله ثم العودة إلى الإسماعيلية وقد أوصيت الشيخ محمدا بالتصرف فى المرتب حسب المقرر.

1-المحمودية على ما تعلمون من حالها وقد زرت الأصدقاء بها وكلهم بخير والحمد لله وكانت لى خطبة الجمعة بالمسجد الصغير بالنيابة عن الشيخ زهران أمس وقد شكى إلى الشيخ محمود دويده بسبب صعوبة تحصيل الإيجار من جهة وبسبب إشراف الدكاكين على الانهيار من جهة أخرى وقد كاد المهندس يقرر الإزالة والهدم وقد رأيتها بنفسى ورأيى أن الهدم صار واجبا ويعمل بهذا الخشب سور حول الأرض إذا صلح لذلك فماذا ترون فى هذا.

2-الإسماعيلية تركتها بخير وقد تم بينى وبين المخالفين الملاعين صلح تهدئه فقط يجعلنا نتحاجز ولا تصل وقد رأيت أن ذلك خيرا للطرفين مع الاحتراس اللازم ومن طيه إعلان بملخص هذا الصلح.

3-أنا مهتم بموضوع النقل كثيرا ولا تزيدنى حركات الإسماعيلية إلا رغبة فيه وقد كتبت لكثيرين ووعدونى المساعدة وقد رأيت الليلة فقط أنى نقلت إلى مدرسة الجيزة الابتدائية فهل هذا حق أم أضغاث أحلام ذلك ما ستفسره الأيام.

4-ثم كتبت اليكم بشىء ما بخصوص " حسن أحمد موسى" ويحسن هنا أن اذكر لكم على سبيل العلم شيئا عنه فلعلكم فى شوق إليه, بعد حضورى علمت ان السبب فى تأخرهم نقاش ومناقشة بينهم وبين الحاج حسن البيك فى موضوعات تجارية وهم فى كل الأدوار منتصرون فصرفهم هذا التنافس عن تتميم الأمر ولكن الرجل وابنه أبوا قبول المبلغ المودع بتاتا فصارحهم بأني لا يمكنى الموافقة على هذا الأمر إذا نقلت فكان جوابهم ليكن هذا المبلغ مودعا بخزينة الجمعية حتى يظهر أمر النقل وقد كان ولا يزال المبلغ مودعا باسمهم إلى الآن والشاب يرجونى دائما ألا أكون سببا فى انهيار آماله وأنا مسروران ولا أدخر وسعا فى راحتهما ولعلهما يكتبان اليكم بذلك وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

حسن

وهناك خطاب من الأقصر يمكن أن يعد ختام هذه المجموعة من خطابات الإسماعيلية, لأن الإمام الشهيد نقل بعدها إلى قنا.

وفى هذا الخطاب ( 17 رجب 1358) سبتمبر39 يقول – بعد الديباجة المعهودة:

ورد كتابكم الكريم والله أسأل لكم المعونة وجميل المساعدة ولست أجهل ما يحيط بكم قواكم الله وبخاصة فى هذه الأوقات العصيبة.

وفى آخر هذا كلمة لجمال الدين ليعمل بها إن شاء الله.

الرحلة ببركة دعواتك موفقة وصحتى والحمد لله جيدة للغاية وكل ما يحيط بى هنا مربح وأجد فى دعواكم المباركة خير معين على عمل شاق حقيقة ولكنه يسير على من يسره الله عليه فلا تحرمونى صالح هذه الدعوات والسلام عليكم والتحية للجميع ورحمه الله وبركاته ولعل فاطمة مستريحة وبخير وصحتها جيدة.

ولدكم حسن


عزيزى جمال الدين :

خذ من المرتب ثلاثة جنيهات فوق التقسيم الذى ذكرته لك وهى استحقاقك هذا إذا لم تكن أرسلت النقود فإذا كنت قد أرسلتها فخذ هذا المبلغ المتجمع عندك للمطبعة أو من كمبيالة على خطاب وسلمه 150 قرش وصبره حتى أحضر وسلام عليك.

والكلمة الصغيرة أدنى الخطاب الموجهة لكاتب هذه السطور كانت لمناسبة إشرافى على إدارة مطبعة الإخوان التى كانت وقتئذ تشغل جناحا من دار الإخوان القديمة بالحلمية ( 13 ميدان الحلمية) وكان الإمام الشهيد يدفع لى ثلاثة جنيهات شهرية كانت أشبه بمصروف جيب, لأن وضعى العائلى ظل كما كان. أما كمبيالة على خطاب فتلك تشير إلى أننا كنا قد اشترينا آلة طباعه صغيرة من أحد تجارها بشارع دسوقى هو على خطاب, وكانت نعظم المعاملات هذه الفترة تدور بالكمبيالات, وهى إحدى صور التسهيل والإغراء التى تعد جزءا من بنية وروح النظام التجارى وقتئذ وكان على خطاب رجلا طيبا متجاوبا. كما قد ينم عن ذلك الإشارة إليه فى الخطاب.


المجموعة الثالثة: قناالقاهرة

مقل الإمام الشهيد – رحمه الله – إلى القاهرة 1932 وبالطبع لم تدر مراسلات ما بينه ووالده ما دام هو بالقاهرة, واحتل الإخوان الدور الأرضى بمنزل الأسرة بحارة نافع. وبعد فترة قررت وزارة المعارف ( كما كان اسمها) نقل الإمام الشهيد إلى قنا, ولم يشر الإمام البنا فى مذكراته إلى هذا النقل أو مبرراته, ولكننا نجد وقتئذ وزيرا لوزارة المعارف – إذ جاءا فى صفحة 208 من كتابة " مذكرات فى السياسة المصرية, الجزء الثانى.

" كان الانجليز يومئذ شديدى الحساسية, وبخاصة إزاء ما يبديه بعض ذوى الرأى من المصريين من ميولهم المحورية, وإزاء بعض العناصر ذات النشاط بين سواد الشعب. وكانت جماعة الإخوان المسلمين قد تألفت قبل ذلك بأعوام قليلة على أنها جماعة دينية تدعو للتخلق بالأخلاق الاسلامية وللأخذ بقواعد التشريع الإسلامى فى النظام المصرى . وكان الشيخ حسن البنا هو الذى دعا لتأليف هذه الجماعة فكان مرشدها العام. وكان الشيخ حسن معلما للغة العربية فى رئيس الوزارة, حسن سرى ( باشا), وأن هذا الرجل يعمل فى أوساط جماعته لحساب ايطاليا ورغبت إليه فى العمل على الحد من نشاطه ورأى سرى ( باشا) أن نقل الرجل من القاهرة إلى بلد ناء بالصعيد يكفل هذا الغرض فحدثنى فى الأمر وطلب إلى نقله إلى قنا. ولم أجد باسا بإجابة طلبه, فنقل مدرس فى مدرسة ابتدائية ليس أمرا إذا بال, غذ يقع مثله خلال العام الدراسى فى كل سنة ولا يترتب عليه أى اثر.

لكن نقل الشيخ حسن البنا أدى إلى ما لم يؤد إليه نقل مدرس غيره. فقد جاءنى غير واحد من النواب الدستوريين يخاطبنى فى إعادته إلى القاهرة ويرجونى فى ذلك بإلحاح. ولما لم أقبل هذا الرجاء ذهب هؤلاء النواب إلى رئيس الحزب, عبد العزيز فهمى ( باشا) وطلبوا إليه أن يخاطبنى فى الأمر.

وخاطبنى الرجل فذكرت له أن حسين سرى 0باشا) هو الذى طلب نقل الشيخ حسن البنا بحجة أن له نشاط سيسيا وأن النشاط السياسى محرم على رجال التعليم كما أنه محرم على غيرهم من الموظفين, وأننى لا مانع عندى من إعادة الرجل إلى مدرسة المحمدية كما كان إذا أبدى سرى ( باشا) عدم اعتراضه على إعادته. وخاطب عبد العزيز (باشا) سرى (باشا) فى الأمر وذكر له إلحاح طائفة من النواب الدستوريين ذوى المكانة. ووعد سرى ( باشا) بإعادة النظر فى الموضوع. ثم أبدى لى أنه لا يرى مانعا من إعادة الرجل إلى القاهرة فأعدته.

تر أأحسن سرى ( باشا) فى تراجعه هذا أم أساء ؟ لعله خشى أن يزداد ضغط النواب جسامه, وبخاصة حين رأى سؤالا يقدم إلى البرلمان فى هذا الشأن, فأراد اتقاء ما قد يجر إليه ذلك من نتائج لكن الذى لا شبهة فيه أن تراجعه أشعر الشيخ حسن بأن له من القوة ما يسمح له بمضاعفة نشاطه من غير أن يخشى مغبة ذلك النشاط وأن هذا الشعور كلن له أثره فى تطور جماعة الإخوان المسلمين من بعد".

وكما رغب الانجليز فى الحد من نشاط الشيخ حسن البنا رغبوا كذلك كذلك إلى سرى ( باشا) أن يعمل على الحد من نشاط على ماهر (باش) ... الخ...".

من هذا يتضح أن السلطات البريطانية كانت وراء هذا النقل بنص تعبير هيكل" وقد أبلغت السلطات البريطانية رئيس الوزراء... الخ...ط وقد ألف الكتاب والسياسيون أن يسفهوا ما يقوله الإخوان عن تدخل للسلطات البريطانية أو على الأقل يستبعدون مثل هذا التدخل. واعترف هيكل دليل دامغ على خطئهم.

ونفذ الإمام الشهيد النقل دون تردد, لأنه كان طوال حياته الوظيفية مثالا للموظف الملتزم, ولعله من ناحية أخرى كان يرى أن فرصة لتدعيم التنظيم الإخوانى فى هذه الناحية القاصية, وهكذا انتقل إلى قنا يوم السبت 22 فبراير سنة 1941( من واقع دفتر والشيخ الوالد – رحمه الله).

وفى 29 المحرم سنة 1369 الموافق 27 فبراير سنة 1941 أى بعد خمسة ايام من سفره كتب إلى الوالد. بعد الديباجة:

" نزلنا قنا ولابد أن الأخ عبد الرحمن أفندى أخبركم بما رأى: الحالة طيبة من كل نواحيها ولولا بعد قنا ولولا مشاغلنا بالقاهرة لولا ما يحيط بهذا النقل من ملابسات لفضلت البقاء فى قنا فعلا العمل مربح والمدرسة لا باس بها والناظر والموظفون مهذبون والإخوان هنا بخير والحمد لله على كل حال.

قابلت مراقب المنطقة أمس وتحدث إلى طويلا وتكلم معى حول خطتى العامة فى قنا وما ستكون عليه وقد طمأنته ولا أدرى هل كان هذا مجرد تفاهم أو أن عنده تعليمات من المعارف بتوصيتى. على كل حال فى عزمى أن أكون هادئا كل الهدوء هذا الشهر الذى اتفق عليه والله المستعان ولعلكم جميعا بكل بخير...

يحسن أن يكون عنوانى الشيخ محمد عبد الظاهر صاحب مكتبة الإخوان المسلمين ومنه إلى ولا تحرمونى صالح دعواتكم والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته

ولدكم حسن البنا

كان عبد الله أفندى الصولى قد حضر إلى القاهرة ليأخذ الأولاد إلى الإسماعيلية وقد كتب إلى بذلك من الإسماعيلية فأرجوا التكرم بمقابلته وإفهامه أن الأوفق إبقاء كل شىء على ما هو عليه حتى نرى ما يكون والله المستعان.

وبعد بضعة ايام فى 4 صفر سنة 1336 – 2 مارس 1941 أرسل خطابه الثانى:

سيدى الوالد الجليل حفظه الله

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

ورد خطابكم الكريم فسررت به وجزاكم الله أفضل الجزاء ونفعنى برضائكم ودعواتكم وتولانا جميعا برعايته أنه نعم المولى ونعم النصير.

العمل بالمدرسة مريح لا يتعب والحمد لله وأنا مستريح فى منزلى باللوكاندة وقد استأجرنا مكانا للإخوان ولكنه لا يصلح للإقامة فسأظل حيث أنا حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا حضر إلى قنا الشيخ الشعشاعى وبالدار وأراحنى وجوده من كثير من المقابلات والشئون.

لم أتسلم مرتبى إلى الآن ولا أدرى متى يكون هذا التسلم ولا ما ستصنع الوزارة بالنسبة للشهر الماضى وهل ستحسب الأيام التى تأخرتها خصما أو إجازة ؟ المدرسة هنا فلاى انتظار إفادة الوزارة ومعى من النقود ما يكفينى فترة وأستطيع أن أتصرف على كل حال وقد كتبت لعبد الباسط أفندى قبل أول الشهر ولعبد الرحمن أفندى أول من أمس بالنسبة لكم ولا أدرى ما موقفهما وأريد أن أطمئن على ناحيتكم وماذا صنعتم؟ المنزل عندى لا يحتاج إلى شىء الآن فيما أعتقد وقد كتبت للشيخ توفيق أن يدفع الإيجار لصاحبه وأحاسبه فيه فى انتظار إفادتكم عن شئونكم ... الخ.

وفى 16 من ربيع الآخر سنة 1360 ( 14 مايو سنة 1943)كتب :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه

قنا 16 من ربيع الآخر 1360 هـ

سيدى فضيلة الوالد الجليل أعزه الله وأنالنى حسن رضاه وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته

ورد كتابكم الكريم واسأل الله تبارك وتعالى أن يتولاكم بجميل المعونة والكلاءة وصبر جميل وسينتهى كل شىء إلى اليسر إن شاء الله وما نحن فيها نعمة كبرى ولله الفضل والمنة.

سررت كثيرا لشفاء فاطمة ولقد أقلقنى أمرها إقلاقا شديدا وطمأننى أحمد أفندى تليفونيا مرة وكتب إلى عبد الحكيم مرة حتى اطمأنت والحمد لله على الشفاء.

الحر هنا شديد حقا بدرجة يقول عنها الناس أنهم لم يشهدوا مثلها فى قنا من قبل ولكنى مع هذا مستريح كل الراحة والحمد لله ولا أدرى سر هذا إلا أنه فضل اللهى فلله الحمد والمنة صحتى جيدة وأنام بالليل والنهار مستريحا وأؤدى عملى فى هدوء وذلك من فضل الله وألاحظ دهشة الإخوان من&&&& والتى للعمل فى حرهم أنفسهم وهم قناويون يكسلون فيه.

الجمعية تسير بخطى موفقه وكانت عندنا بالأمس حفلة كبيرة دعونا إليه كل الطائفة القبطية وعلى رأسها المطران واقبلوا جميعا لم يتخلف منهم أحد وكانت صفعة قوية لمنافقى المسلمين الذين يتزلقون إلى هؤلاء بالفتنة ولقد كنت صريحا جدا فى لباقة فى بسط فكرة الإخوان بصورة حاز إعجاب الجميع والحمد لله وكل شىء على ما يرام

وسلام عليكم

ولدكم حسن البنا

والخطاب – ككل أو معظم – خطابات الإمام الشهيد – رحمه الله – تنطق بالرضا وحمد الله على توفيقه له وتمكينه من القيام بمسئولياته القيادية بصورة أثارت الدهشة. وقد نكون اقل اندهاشا لأننا عرفنا بعض العوامل التى جعلها الله تعالى أسبابا لتوفيقه. لعل أبرزها إعداده المبكر والمستمر وقد كان الإمام البنا وقتئذ فى " عز الرجولة" إذ كان سنه 35 سنة وكانت صحته على أفضل ما يكون رجل فى هذه السن. لأنه كان معتدلا فى طعامه وشرابه لا يدخن ولا يخضع لعادة تسىء إلى الصحة. وكان جلدا على العمل, يؤمن أن العمل هو " اكسير " الصحة, وهو" الوصفة" التى يصفها لكل من يشكو. وكانت رياضته هى " المشى" ولم يفكر – حتى استشهد فى اقتناء سيارة خاصة وأهم من هذا كله ما كان يحسه من رضوان الله عليه وتأييده له.

واللفتة التى فى آخر الخطاب عن دعوته " للطائفة القبطية" وأنه كان صريحا جدا فى لباقة " تمثل المسلك الأمثل: الصراحة مع اللباقة – فى هذه القضية التى أصبحت حساسة وشائكة. وفيما نرى فإن عدم الأخذ بمثل هذا المسلك كان هو السبب فى تفاقم المشكلة ومع أن هذا التفاقم لم يصل إلى درجة الأزمة فى عهد السادات, فإن بدوره كانت كامنة فى " منافقى المسلمين الذين يتزلقون إلى هؤلاء بالفتنة" لأن هذه الزلفى – التى هى فى حقيقتها نفاقا ومجاملة – أوجدت لدى بعض الأقباط رؤية " سرابية" وغير سليمة للحقيقة وعزفت على أوتار الأطماع والطموح وما تهوى الأنفس... والأغرب أن الذين أرادوا العلاج سلكوا مسلك" الزلفى" اتقاء للحاشية حرصا على العدل, بصورة وصلت بهم إلى الظلم وكانوا كالذين قال عنهم قاسم أمين:" عرفت قضاه حكموا بالظلم ليشتهروا بالعدل!!" فزادت درجة التفاقم حتى وصلت إلى ذروتها أيام السادات عنوان وصلةلأنها فى حقيقة الحال غرست " الازدواجية" وليس الوحدة وقد عالجنا هذه النقطة ببعض الاسهاب فى كتابنا " الإسلام هو الحل".

هذا هو الخطاب الأخير الذى وجدناه بين أوراق الشيخ من قنا لأن نقل الشيخ لم يطل, فالجهود التى بذلها بعض الأصدقاء مع المسئولين – على ما جاء فى كتاب الأستاذ محمد حسين هيكل – أدت إلى عودته . بصورة عادلة قد يصورها أنها لم تمهله لقبض مرتب يونيو . كما جاء فى خطاب مدرسة قنا الابتدائية للبنين.

حضرة المحترم الأستاذ حسن أحمد عبد الرحمن البنا أفندى :

بعد التحية , نخطر حضرتكم بأن الوزارة قررت نقلكم إلى مدرسة عباس الابتدائية بكتابها رقم 1175 المؤرخ 26/6/ 1941 على أن يكون إخلاء طرفكم فى 1/ 7/ 41 وتاريخ مباشرتكم العمل بمدرسة عباس 2/7/ 1941.

فالمدرسة تخطركم بذلك, وترجو إرسال توكيل بمرتب حضرتكم لمن ترونه عن شهر يونيه لصرفه من المدرسة بقنا.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

ناظر المدرسة

وبعودة الإمام الشهيد إلى القاهرة , لم تعد هناك حاجة لمراسلات ولكننا عثرنا على بطاقتين من الإمام الشهيد – رحمه الله – إلى والده , الأولى بتاريخ 3/6/42 وجاء فيها:

سيدى الوالد الجليل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شرفتم الدار ,وعزيز على أن يتأخر هذا الخطاب إلى هذا التاريخ فقد ظرفته من أول يوم ثم أردت إرساله مع أحمد ثم فضلت أن أحضر به فشغلت عن ذلك شغله كثيرة أنستنى نفسى فمعذرة وأنا لهذا شديد الأسف وأرجو أن تكونوا بكل خير وسأتحين فرصة قريبة لزيارتكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. القاهرة فى 3/6/1942

ولدكمحسن البنا

والخطاب يتسم بأدب الإمام الشهيد – رحمه الله – ويبدو أن الشيخ قد زار " الدار " – وهو عمل قلما به – ولعله لم يزر الدار إلا بعد أن أعيدت, فى الأيام الأولى لانقلاب 23 يوليو, وعزل الملك, وأم الشيخ الوالد المصلين وقتئذ...

والخطاب الأخير فى 12/ 8/ 1947 وجاء فيه:

سيدى فضيلة الوالد.

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته جرى ذكر الفتح الربانى أمام الأمير عبد الكريم فاشتاق الحصول على نسخة منه وظهر أن الرجل فاضل له إلمام بعلوم الحديث والفقه والدين وقد اعتزم زيارتكم وأكد فى معرفة العنوان ولكن يحسن أن تزوره انتم أولا باعتباره ضيفا ويحسن كذلك إهداؤه نسخة من الفتح باسمكم وأجلدها على حسابى فما رأيكم فى هذا الاقتراح وماذا تم فى نسختى أنا والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.

حسن البنا

ولا نعلم هل قام الشيخ الوالد - رحمه الله – بالزيارة المقترحة للأمير عبد الكريم ,من المحتمل أنه لم يقم بها لأن الشيخ لم يترك مكتبه أو يتصل بشخصيات عامة إلا بعد استشهاد ابنه, وفى سبيل قضيته. كما يمكن أيضا أن يكون قد زاره, فلم يكن هناك ما يمنع الشيخ من ناحية المبدأ, أو من شخص الأمير عبد الكريم الذى كان يظفر بتقدير الجميع وتربطه علاقة وثيقة بالإخوان.

هذا هو الخطاب الخطاب الأخير , وقد عثرنا بين أوراق الشيخ على صورة الخطاب استقالة الإمام الشهيد من خدمة وزارة المعارف العمومية, ورد الوزارة, ومن الخير إيرادهما هنا ليكونا مسك الختام فجاء فى خطاب الاستقالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب المعالى وزير المعارف العمومية

" وبعد" فنظرا لرغبتى فى التفرع لخدمة الدعوة التى عاهدت الله على أن أحيا لها وأموت فى سبيلها وهى " دعوة الإخوان المسلمين" أرجو أن تتفضلوا معاليكم فتقلبوا استقالتى من عملى الرسمى بالوزارة ابتداء من أكتوبر سنة 1946.

وبما أنه قد مضى على خدمة الوزارة تسع عشرة سنة فأرجو إجازتى بالانقطاع عن العمل ابتداء من أول مايو سنة 1946 واعتبار ما بقى من هذا الشهر من أيام الدراسة وهى لا تتجاوز أسبوعين مع الأجازة الصيفية أجازة اعتيادية.

كما أرجوا إذا وافقتم معاليكم باتخاذ اللازم لصرف مكافأتى عن مدة خدمتى التى بدأت من يوم 20 سبتمبر سنة 1927 إلى تاريخ هذه الاستقالة إذا كانت القوانين واللوائح المالية تجيز ذلك. وتفضلوا معاليكم بقبول فائق الاحترام والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,,,,

تحريرا فى 21 جمادى الثانى سنة 1365 هـ

الموافق 23 أبريل سنة 1946

لحضرة الأستاذ المحترم ناظر المدرسة الجمعية الخيرية الاسلامية

بالقاهرة لاتخاذ اللازم,,,

وهذه الاستقالة فى هذا الوقت حرمت الإمام الشهيد من أن ينال معاشا وأن يقتصر الأمر على " مكافأة نهاية الخدمة".

وردت الوزارة ردا رقيقا – على غير عادتها – مع الموظفين فى مثل هذه المناسبة , وإن كان هذا هو ما يفترض أن يكون بالنسبة لمثل الأستاذ البنا:

حضرة المحترم حسن احمد عبد الرحمن أفندى

بناء على طلبكم قررت الوزارة رفع اسمكم من عداد موظفيها ابتداء من أول أكتوبر سنة 1946. وإنى أنتهز هذه الفرصة لأعرب لكم عن عظيم الشكر لما قمتم به من الخدمات القيمة أثناء مدة خدمتكم بالمعارف.

واقبلوا فائق الاحترام

وكيل المعارف

يبلغ مع جزيل التقدير وأطيب التمنيات جزاء وفاقا لحسن ماضيه.

ناظر المدرسة

يبلغ لحضرته مع عاطر ثناء المدرسة

وكيل المدرسة

27/6/1946

ألبوم صور الرسائل والوثائق

إضغط علي الصورة لتظهر بحجمها الكامل


الإمام حسن البنا عند تخرجه من دار العلوم 1927
الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا والد الإمام الشهيد
تذكرة إثبات شخصية الوالد رحمه الله استخرجت عام 1924 وثبت بها الميلاد 1881
والدة الإمام حسن البنا التى كان يخاطبها بسيدتي الوالدة
خطاب أبو بكر مخيون
خطاب السيد محمد نصيف-رحمه الله
خطاب السيد محمد نصيف-رحمه الله 2
خطاب السيد محمد نصيف-رحمه الله 3
خطاب السيد محمد نصيف-رحمه الله 4
خطاب السيد محمد نصيف-رحمه الله 5
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة 2
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة 3
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة 4
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة 5
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة 6
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة 7
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة 8
خطابات الشيخ محمد عبدالظاهر أبو السمح .. مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة 9
بطاقة من السيد محمد نصيف مرفق بها خطاب الشيخ محمد عبداللطيف إلي الشيخ الوالد
خطابات العطف 1
خطابات العطف 2
خطابات العطف 3
خطابات العطف 4
خطابات العطف 5
خطابات العطف 6
خطابات العطف 7
خطابات العطف 8
خطابات العطف 9
خطابات العطف 10
خطابات العطف 11
خطابات العطف 12
خطابات العطف 13
خطابات العطف 14
خطابات العطف 15
خطابات العطف 16
خطابات العطف 17
خطاب الشيخ أبو العيون إلي الشيخ الوالد رحمه الله
خطاب الشيخ محمد عباللطيف
خطابان من قاضي محكمة رشيد للشيخ الوالد بمناسبة تعيينه مأذونا بالمحمودية
خطاب صالح عبدالله سرية
خطاب عبدالعزيز محمد باشا وزير الأوقاف
خطاب من الكاتب الإسلامي الكبير محمد فريد وجدي إلي الوالد رحمه الله
خطاب من الوالد رحمه الله إلي الشقيق محمد يبلغه عودته من الإسماعيلية ويصور حفاوة الناس به
خطاب وزارة المعارف شكرا لجهود الإمام البنا في التعليم
خطاب مرسل إلي جريدة الإخوان المسلمين وقد وجدت عشرات من هذه الظروف بمكتب الشيخ الوالد
يرأس أحد الخطابات وهو يدل علي إتخاذ مسكن الأسرة مركزا لجريدة الإخوان المسلمين
صورة نادرة للإمام الشهيد في ثلاثينات عمره
عنوان ظرف خطاب الشيخ محمد عبداللطيف إلي الشيخ رحمه الله
أخر خطابات الإمام الشهيد إلي ابيه رحمهما الله
الحديث الأخير وختام الكتاب بخط المؤلف رحمه الله




للمزيد

ملفات متعلقة للإمام البنا

كتب هامة متعلقة بالإمام البنا

كلمات خالدة للإمام حسن البنا

متعلقات أخرى للإمام البنا

مقالات متعلقة عن الإمام حسن البنا

تابع مقالات متعلقة

مقالات متعلقة بالإمام البنا

تابع المقالات المتعلقة

.

وصلات فيديو للامام حسن البنا

.