الإمام الشهيد حسن البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإمام الشهيد حسن البنا
المرشد الأول ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين (1325-1370هـ = 1906-1949م)

2003-20-04

توطئة

طيف من النور لاح في الأفق ألمَّ بهذه الدنيا إلمام الغريب الطارئ، أو الضيف العابر، ثم تركها ومضى، هذه هي قصة حسن البنا.

ماذا يأخذ الطيف النورانى من الدنيا ؟ وماذا يترك منها؟

لا يأخذ شيئاً منها، ويترك كل شيء، يترك للضمائر نورها، والنفوس قدسها وطهرها.

وهكذا كان حسن البنا، لم يأخذ لنفسه شيئًا، وقد ترك للناس كل شيء.

حقيقة داعية

وصفه أحد محبيه بقوله:

سمعت عنه كثيرًا، ورأيت له في قلوب محبيه صورًا لامعة رائعة، فتراءى لعقلي عملاق هُدى ورأي وحكمة، وتخيلته أمام عيني عملاقًا في جسمه أيضًا، جبارًا في قسماته، وسماته.

ولما رأيته بين صحبه، أول ما رأيته، ما ظننت أنه هو، ثم قدمت إليه فتلقاني في بشاشة، لا تكلف فيها، ورحب بي، منساقًا مع فطرة رحبة.

لم أجد له في مشاهدتي، صورته في مخيلتي... كان أقرب إلى القصر منه إلى الطول، وأدنى إلى الوداعة منه إلى الجبروت، في صراحته إباء، وفي جرأته إغضاء.

زرته في بيته، فوجدته زاهدًا بسيطًا، وأكلت على مائدته، فوجدته فقيرًا كريمًا، وصحبته في أسفار، فلم أر أكثر منه أنسًا وإيناسًا في مواطن الراحة، ولا أكثر منه فناء في العمل وقت العمل.

شاهديه يتكلم بين أفراد، فلم أجد صوته يتطاول على الأصوات، ولاح لي أميل إلى الإصغاء منه إلى إبداء الآراء، فإذا دخل الحديث طور المراء، صمت في إعراض، أو أقبل فىابتسام، وهو بين الإشفاق والشفقة ؛ حتى إذا انتهى الأمر إلى زبدته، كانت كلمته هي الفاصلة.

وأصغيت إليه، وهو يخاطب ملأه فخيل إلىَّ أنه يحاول أن يسكت لسانه، وينطق قلبه بل وكل جوارحه، وإذ ذاك كان يمعن النظر فيمن أمامه وكأنه يحدق في أفق بعيد فينبعث من عيونه شبه نور وهَّاج، يتصل شعاعًا تجلب، فقلب.

وسمعته يخاطب الجماهير، فوجدته الطبيب الخبير، يعالج في ثنايا حديثه شئونًا من صميم حياة المستمعين ؛ حتى ليظن أحدهم أنه كوشف بخويصه مشكلته، وأخذ يصفه له الرواد. فإذا آنس أن القوم قد ركنوا إليه، اشتد عليهم في موعظته وجلجل بصيحات الحق، تتخلل حديثه الدفاق، المرصع بآي القرآن، فيضعون أنفسهم منه - دون اختيار - موضع الرعية من الراعي.

وهكذا يبلغ منهم لدعوته ما يريد، وينتهي غير مملول، محبوبًا ومرهوبًا.

حياته من المولد حتى الإسماعيلية (1906 - 1927)

ولد الإمام الشهيد حسن البنا في المحمودية عام 1906م وقضى بها سنوات عمره الأولى ومنذ صباه المبكر نمت معه الرغبة في الإصلاح على نهج الإسلام، فكانت ثورة على كل مظاهر الفسق والتحلل، وقعت بالصبي الصغير، وهو إذ ذاك تلميذ في المدرسة الإعدادية إلى أن يثور عند رؤيته لتمثال خشبي عار على صورة تتنافى مع الآداب، معلق على سارية إحدى السفن الشراعية على شاطئ ترعة المحمودية، فيندفع الصبي الصغير بفطرته السليمة، إلى ضابط النقطة ؛ ليبلغه ما رآه معلقًا عليه باستنكار فيستجيب الضابط لتلك الغيرة المؤمنة، ويقوم من فوره إلى حين يهدد صاحب السفينة، ويأمره بإنزال التمثال في الحال، وكان له ما أراد.

وتبلورت شعلة الإيمان المقدسة في نفسه على مر الأيام، فاستطاع أن يترجمها إلى عباراته القوية فيما بعد، حيث يقول "والفرق بيننا، وبين قومنا أن الإيمان عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم، لا يريدون أن ينزلوا على حكمه، ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب، مشتعل، قوي، يقظ في نفوس الإخوان المسلمين"

ويبدو أن مقومات الزعامة والقيادة كانت متوفرة لديه، ففي مدرسة الرشاد الإعدادية كان متميزًا بين زملائه، مرشحًا لمناصب القيادة بينهم، حتى أنه عندما تألفت "جمعية الأخلاق الأدبية" وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية.

غير أن تلك الجمعية المدرسية لم ترض فضول هذا الناشئ، وزملائه المتحمسين، فألفوا جمعية أخرى خارج نطاق مدرستهم، سموها "جمعية منع المحرمات" وكان نشاطها مستمدًا من اسمها، عاملاً على تحقيقه بكل الوسائل، وطريقتهم في ذلك هي إرسال الخطابات لكل من تصل إلى الجمعية أخبارهم بأنهم يرتكبون الآثام، أو لا يحسنون أداء العبادات.

ثم تطورت الفكرة في رأسه بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور، فألف "الجمعية الحصافية الخيرية" التي زاولت عملها في حقلين مهمين هما :

الأول : نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات الفاشية.

الثاني : مقاومة الإرساليات التبشيرية التي اتخذت من مصر موطنًا، تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب، وتعليم التطريز، وإيواء الطلبة.

بعد انتهائه من الدراسة في مدرسة المعلمين في دمنهور، انتقل إلى القاهرة، وانتسب إلى مدرسة دار العلوم العليا، واشترك في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وكانت الجمعية الوحيدة الموجودة بالقاهرة في ذلك الوقت، وكان يواظب على سماع محاضراتها، كما كان يتتبع المواعظ الدينية التي كان يلقيها في المساجد حينذاك نخبة من العلماء العاملين.

بيد أن ما رآه في القاهرة من مظاهر التحلل والفساد والبعد عن الأخلاق الإسلامية، جعلته يفكر في أن المساجد وحدها لا تكفي في إيصال التعاليم الإسلامية إلى الناس، وهنا تبدو عقلية البنا المبتكرة ؛ لأن الجمهور الذي لا يرتاد المساجد، أشد حاجة إلى الموعظة، وقد اقترح على جماعة من زملائه بدار العلوم وبعض أصدقائه الأزهريين أن يخرجوا للدعوة في المقاهي والمجتمعات العامة !! فعجبوا لفكرته، واستنكروها أول الأمر !! وانتهى الجدل بينهم أن تكون التجربة هي الحد الفاصل بين المضي فيها أو الإقلاع، وأظهرت التجربة نجاحًا عظيمًا لفكرته، شجعهم على الاستمرار فيها، وتخصصت منه شعبة تتولى نشر الدعوة الإسلامية في الريف والمدن أثناء الإجازة الصيفية، وأفادوا من هذه التجربة كسب الثقة النفسية، وحسن الأحدوثة في الأوساط الشعبية.

ثم اجتاحت مصر موجة من الإلحاد والإباحية، على إثر الانقلاب الكمالي في تركيا - إن صح هذا التعبير - وإلغاء الخلافة الإسلامية.

وكان لهذه الموجة الإلحادية رد فعل قوي، في الأوساط الإسلامية عامة، وفي نفس الأستاذ البنا خاصة، فكان يتحدث عن شعوره لكل المتصلين به من الزملاء، ولكل من يعرفه ويمكنه الاتصال بهم من الشيوخ والعلماء.

وكان ممن اتصل بهم المرحوم "السيد محمد رشيد رضا" والمرحومان "الشيخ الدجوي" والأستاذ الأكبر "محمد الخضر حسين" شيخ الأزهر السابق، والأستاذ الكبير "محب الدين الخطيب".

وقد تحدث معهم في ضرورة مواجهة الموقف بعمل إيجابي، فأثمرت هذه الجهود صدور مجلة "الفتح".

ويبدو أن فكرة الإخوان قد تبلورت في رأسه أول ما تبلورت وهو طالب بدار العلوم، فقد كتب موضوعًا إنشائيًا كان عنوانه : "ما هي آمالك في الحياة بعد أن تتخرج" فقال فيه : إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية - أمل خاص، وأمل عام.

فالخاص : هو إسعاد أسرتي وقرابتي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

والعام : هو أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء، وأقضي ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة.

وقد يعجب الكثير أن تكون هذه آمال طالب في مقتبل حياته !! حيث الغرائز مستعرة لا تطلب سوى الإرضاء!! والنزوات مشتعلة لا تطلب إلا الإطفاء، والشباب فوار ينشد المتعة من أي طريق.

والمتتبع بعد ذلك لتاريخ الأستاذ حسن البنا يجد أنه لم يخرج عن البرنامج الذي رسمه لنفسه، وهو طالب، في هذا الموضوع الإنشائي بالذات، فقد رسم في أمله العام الغاية التي يسعى لتحقيقها، وهي تعليم الناس هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، والوسيلة وهي : الخطابة والمحاورة، والتأليف، والكتابة، والتجول، والسياحة.

الإسماعيلية وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين (1927-1933)

البنا يصلى بالناس

حصل الأستاذ البنا على دبلوم دار العلوم العليا سنة 1927، وكان أول دفعته، وعُين معلمًا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية.

ولما استقر به المقام بالإسماعيلية أثر في نفسه ما رآه من الاستعمار العسكري المتمثل في المعسكرات الإنجليزية بالقناة، والاستعمار الاقتصادي المتمثل في شركة قناة السويس، ثم ساءه أن يعرف أن المسلمين في البلد منقسمين بسب خلافات دينية، نتيجة تعصب كل فريق لرأي خاص، فاعتزل جمهور المسجد، وعاد إلى جمهور المقاهي مرة أخري، واختار لذلك ثلاث مقاهٍ كبيرة، ورتب لكل منها درسًا في الأسبوع، وأخذ يزاول التدريس ويتحرى الموضوع الذي يتحدث فيه ؛ حتى لا يتعرض للنواحي الخلافية، ويضرب لهم مثلاً لتسامح علماء المسلمين في الصدر الأول رغم اختلافهم في الآراء.

وقد عمل الوعظ عمله في نفوس المتلقين، فأخذوا يفيقون ويفكرون، ثم تدرجوا من ذلك إلى سؤاله عما يجب عليهم تجاه دينهم وأمتهم، فأجابهم إجابات غير قاطعة جذبًا لانتباههم، واسترعاء لقلوبهم، وانتظارًا للفرصة السانحة، وتهيئة للنفوس الجامحة.

وفي ذي القعدة سنة 1347هـ، مارس سنة 1928م زار الأستاذ البنا أولئك الإخوة الستة : حافظ عبد الحميد، وأحمد الحصري، وفؤاد إبراهيم، وعبد الرحمن حسب الله، وإسماعيل عز، وزكي المغربي، وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كان يلقيها، وجلسوا يتحدثون إليه، وفي صوتهم قوة، وفي عيونهم بريق، وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم، وقالوا : ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام، وخير المسلمين؟! ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا، وهذه الدراهم القليلة، من قوت أبنائنا، وكل الذي نريده أن نقول لك ما نملك ؛ لنبرأ من التبعة بين يدي الله، وتكون أنت المسئول بين يديه عنا، وعما يجب أن نعمل.

كان لهذا القول المُخلص أثره البالغ في نفس الأستاذ البنا، ولم يستطع أن يتنصل من هذه التبعة، وقال في تأثر عميق : "شكر الله لكم، وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح، يرضي الله، وينفع الناس، وعلينا العمل، وعلى الله النجاح، فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جندًا، وفيها حياة الوطن، عزة الأمة".

وكانت بيعة، وكان قسمًا أن نحيا إخوانًا نعمل للإسلام، ونجاهد في سبيله.

وقال قائلهم ! بم نسمى أنفسنا؟ وهل نكون جمعية، أو ناديًا، أو طريقة، أو نقابة ؛ حتى نأخذ الشكل الرسمي؟ فرد الأستاذ البنا قائلاً: لا هذا، ولا ذاك دعونا من الشكليات، ومن الرسميات، وليكن أول اجتماعنا وأساسه : الفكرة والمعنويات والعمليات. ونحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن "الإخوان المسلمون".

وجاءت بغتة... وذهبت مثلاً... وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة، على هذه الصورة، وبهذه التسمية.

وهكذا غرست البذرة الأولى لفكرة الإخوان المسلمين في أرض طيبة من هذه القلوب الستة، آمنوا بها، عاهدوا الله على الجهاد في سبيله، فكانت تلك الثمار المباركة لوفائهم وإخلاصهم، من نجاح للدعوة، ومرشدها، مصداقًا لقول الله تعالى : (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(الفتح: من الآية10)

ولبث الأستاذ البنا يعمل لدعوته صامتًا، فكسبت دعوته - كل يوم - مزيدًا من الأنصار والجنود، بفضل إخلاصه العميق، وفهمه الدقيق للفكرة، وأهدافها.

ولاقت دعوته نجاحًا، فأغراه على مواصلة الكفاح، ودفعه الإيمان بالفكرة والحماسة لها إلى الفناء في سبيل نشرها، وإلى توسيع نطاق البيئة التي يعمل فيها، فلم يترك قرية، ولا بلدة، ولا كَفرًا إلا زاره، واجتمع بالناس فيها، في مساجدهم، وفي بيوتهم ؟! وكانت أسفاره في عطلته الأسبوعية، وفي عطلته السنوية في الصيف، ففي الأولى يزور البلاد القريبة، وفي الثانية يزور البلاد البعيدة.

وهكذا استمر الأستاذ البنا في نشر دعوته، في كل مكان يصل إليه في أسفاره البعيدة، أو القريبة.

وقد أثمرت أسفاره بعد سنتين شعبة في كل من "أبوصوير" و "بورسعيد" و "البلاح"، وبعد ثلاث سنوات شعبة أخرى في السويس، وبعد أربع سنوات نحوًا من عشرة فروع، معهداً بالإسماعيلية ؛ لتربية البنات، وإعدادهم ليكُنَّ أخوات مسلمات.

القاهرة وبناء الدعوة (1933-1949)

وبعد نحو خمس سنوات من تأسيس الدعوة بالإسماعيلية، نُقل الأستاذ البنا سنة 1933 إلى القاهرة، ودخلت الدعوة بنقله مرحلة جديدة، وإن ظلت سائرة على النهج السابق من كتمان وإسرار، ونزول إلى المساجد ووعظ بها، وتجميع الأنصار وتأسيس للفروع، بحذر وصمت، وذكر الأستاذ البنا في إحدى مقالاته المنشورة سنة 1934 ـ أي بعد مضي نحو عام واحد من إقامته بالقاهرة ـ أن فكرة الإخوان قد انتشرت فيما يزيد على خمسين بلدًا من بلدان القطر المصري، وقامت في كل بلد من هذه البلدان تقريبًا بمشروع نافع، أو بمؤسسة مفيدة، ففي الإسماعيلية أسست مسجد الإخوان، وناديهم، ومعهد حراء لتعليم البنين، ومدرسة أمهات المؤمنين لتعليم البنات، وفي شبراخيت أسست مسجدًا، وناديًا ومعهداً للبنين، وداراً للصناعة يتعلم فيها طلبة المعهد الذين لا يستطيعون إتمام التعليم، وفي المحمودية - البحيرة - قامت بمثل ذلك فأنشأت منسجًا للنسيج والسجاد، إلى جوار معهد تحفيظ القرآن الكريم، وفي المنزلة - دقهلية - أقامت معهدًا لتحفيظ القرآن، وقُل مثل ذلك أو بعضه في كل شعبة من شعب الإخوان المنتشرة من إدفو إلى الإسكندرية.

وكان منهاج الأستاذ البنا أن يزور المركز العام في الصباح الباكر، ويترك فيه مذكرات فيها توجيهات وأعمال تتطلب إنجازًا، ثم يقصد مدرسته، فإن كان مسافراً، يتوجه من المدرسة إلى المحطة، وإن لم يكن يعرج على المركز العام ثانية، يقابل ويوجه ويصرف ما يجد من عمل، وفي المساء يزور المركز مرة ثانية مقابلاً الوفد والزائرين، أو مجتمعًا في لجان أو محاضرًا، ولم يمنعه من ذلك متابعة أسفاره إلى الريف، في أثناء العطلة الدراسية.

وفي هذه المدة اقتحم الإخوان الميدان السياسي، فبدأ الأستاذ بإلقائه أحاديث دينية واجتماعية بالإذاعة والأندية، وفي إرسال رسائل إلى رؤساء الوزارات المصرية المتعاقبة، من عهد محمد محمود حتى قيام الحرب العظمى الثانية، وكان محور الرسائل : الدعوة إلى الإصلاح الداخلي على أساس النظام الإسلامي، غير أن الإخوان لم يسترعوا نظر الحكومات، لأن نشاطهم السياسي كان مغلفًا بالطابع الديني فلم يبال به الرسميون.

وفي سنة 1355هـ - 1936م، أرسل الأستاذ البنا خطابًا إلى الملك السابق فاروق، والرئيس السابق مصطفى النحاس رئيس الحكومة حينذاك - وإلى حضرات ملوك ورؤساء الدول العربية، وحكام بلدان العالم الإسلامي المختلفة، وكثير من زعمائها الدينيين والسياسيين، رسالة عنوانها (نحو النور) يدعوهم فيها إلى طريق الإسلام، وأصوله، وقواعده وحضارته، ومدنيته، نابذين طريق الغرب ومظاهر حياته ونظمها، ثم يبين فيه خصائص كل من الطريقين، ويوضح بأن الإسلام كفيل بإمداد الناهضة بما تحتاج إليه في الجندية، الصحة، والنظام، والاقتصاد، وينتهي بالدعوة إلى أن يكونوا أول من يتقدم باسم رسول الله r بقارورة الدواء، ومن طب القرآن واستنقاذ العالم المريض، ثم يضع منهاجًا للإصلاح الشامل في مختلف مظاهر الحياة، محتويًا على خمسين بندًا، وكان أخطر ما في هذه الرسالة هو توجيه قوى الأمة السياسية وجهة واحدة وصفًا واحدًا.

ودخلت الدعوة من سنة 1936 حتى سنة 1945 طورًا جديدًا من حيث علاقتها بالسياسة وبداية الازدهار من حيث النشاط وتحقيق البرامج الواسعة، وتضاعف نشاط الإخوان، وانضم إليهم عنصرًا جديدًا من شباب جامعتي القاهرة والأزهر ومختلف الطوائف العمالية والمهنية، من عمال وتجار وصناع، وأصحاب أعمال ومهندسين، وأطباء ومدرسين ومحامين، وأصبح بها ممثلون لسائر طوائف المجتمع المصري، وضربوا في النشاط الاقتصادي بسهم وافر، وأقبلوا على النشاط الرياضي والكشفي، وانتظمت أعمالهم في الفروع التي ملئت القطر، وأصبحوا قوة يحسب لها كل حساب، وتوالى على حكم مصر في هذه الفترة من رؤساء الوزارات المصرية : على ماهر، وحسن صبري، وحسين سري، ومصطفى النحاس، وأحمد ماهر، والنقراشي، وإسماعيل صدقي، والنقراشي ثانية، وفي وزارات الأولين على ماهر، وحسن صبري دأبوا على الموعظة والنصيحة في كتبهم وخطبهم الخاصة والمفتوحة، شأنهم مع جميع الحكومات السابقة، وفي عهد على ماهر خاصة، أعلنوا تأييدهم لقراره تجنيب مصر ويلات الحرب فحسب، دون أن يقابلوه أو يتقدموا إليه بطلب معين.

وبدأت المحنة الأولى للإخوان على يد حسين سري، بضغط من السفارة والقيادة الإنجليزية فصادرت حكومته مجلتي التعارف والشعاع الأسبوعيتين، ومجلة المنار الشهرية، ومنعت طبع أي رسالة من رسائلهم، أو إعادة طبعها، وأغلقت مطبعتهم وحرمت على الجرائد أن تذكر شيئًا عنهم، كما منعت اجتماعاتهم، ثم عمدت إلى تشريد رؤساء الجماعة، فنقلت الأستاذ البنا من القاهرة إلى قنا، ونقلت الوكيل إلى دمياط، ثم أعادتهما بضغط من الحملة البرلمانية، ولكنها عادت إلى ماهر أعنف من ذلك وأشد، فاعتقلت الأستاذ البنا مرة ثانية، كما اعتقلت السكرتير العام ثم أفرجت عنهما لاتقاء ما أحدثه هذا الإجراء من حرج في صدور الإخوان.

ثم جاءت وزارة النحاس، ورغب الأستاذ البنا أن يرشح نفسه نائبًا في البرلمان عن دائرة الإسماعيلية، مهد الدعوة ليمثل الإخوان، وينطق بلسانهم، ولكن النحاس رجاه أن يعدل عن الترشيح فعدل، وبدأ النحاس بمهادنتهم، فسمح لهم بالاجتماعات، وأعاد إليهم المجلة والمطبعة، ثم تكرر ضغط السفارة الإنجليزية مرة أخرى، فعادت المحنة في صورة أشد من الأولى إذ أغلق النحاس جميع الشعب ماعدا المركز العام، وضيق عليهم في اجتماعتهم ومطبوعاتهم، وسائر نواحي نشاطهم، وقابلوا شدة الحكومة الأناة والصبر، فعدلت الحكومة النحاسية عن شدتها، واستمر الموقف بينهما يتقلب، تارة تدع الحكومة لهم الحرية فيعملون، وطورًا تراهقهم بالتضيق فيصبرون، ولكنهم ظلوا على عادتهم في تقديم النصح كتابة ومشافهة، إلى أن أُقيلت الوزارة سنة 1944.

وجاءت بعد وزارة النحاس أحمد ماهر، فأخذتهم بالشدة، حالت دون نجاح من رشح نفسه للنيابة عنهم، بناء على قرار مؤتمر الإخوان العام سنة 1941: بأن يرشح الأكفاء على أساس خدمة المنهج الإسلامي.

وحين أعلن أحمد ماهر الحرب على ألمانيا وإيطاليا، عارضه الإخوان، وكتبوا إليه بالعدول عن ذلك، ثم اغتال العيسوي أحمد ماهر لهذا السبب، وتولى النقراشي الحكم وبدأ باعتقال الأستاذ المرشد العام، والسكرتير العام، وبعض الإخوان ولعل السبب الرئيس في ذلك الاعتقال، أن العيسوي ذكر في معرض التحقيق معه، أنه يطلب أخذ رأي زعماء البلد في إعلان الحرب، وذكر اسم الأستاذ البنا في معرض أسماء الزعماء الذين يجب أخذ رأيهم، ولكن النيابة أفرجت عنهم بعد ذلك، وبادر الأستاذ البنا إلى زيارة النقراشي معزياً في ماهر، راجيًا أن يطلق له حرية العمل. بيد أن النقراشي لم يستجب إلى الرجاء، وفرض عليهم أثقل القيود في نشاطهم، واجتماعاتهم، ومراقبة دورهم، كان يسمح لهم بعقد اجتماعات عامة، أو مؤتمرات عامة، تحت ضغط الظروف، ولكن سرعان ما يعود إلى سياسة العنف والإرهاق.

وانتهت الحرب سنة 1945 ودخلت الجماعة بعد ذلك في دور المحنة الكبري، لأنها تزعمت قيادة الحركة الشعبية، وألهبت المشاعر الوطنية للمطالبة بحقوق البلاد التي وعد الإنجليز - أثناء الحرب - بتحقيقها، فور انتهاء الحرب وإعلان الهدنة، واجتمعت الجمعية العمومية للإخوان لتحقيقها في 8 سبتمبر سنة 1945، شوال سنة 1364، وأدخلت بعض تعديلات على النظام الأساسي حتى أضحى شاملاً لجميع غايتها ووسائلها بصورة واضحة، وأقاموا شركات اقتصادية متنوعة، درّت عليهم الأرباح، ومكنت لهم في أوساط العمال، وأصدروا جريدة يومية، صدر العدد الأول منها في 5 مايو 1946 الموافق 3 جمادى الثاني سنة 1365، وأضحى بذلك صوتهم مسموعًا في مصر والبلاد العربية وأنشأوا الكتائب، وأقاموا أماكن للتدريب على الأعمال العسكرية، وأوثقوا العهود بصورة بيعة لرئيس الشعبة فالمرشد العام شخصيًا وقرروا السمع والطاعة في المنشط والمكره، مقرونًا بالقسم، ووضعوا المرشد العام موضع الثقة التامة، وجعلوا له المنصب مدى حياته، ليس له أن يتخلى عنه، أو يُعفى منه، إلا بقرار من الهيئة التأسيسية.

وبلغ أعضاء الجماعة العاملين في مصر وحدها نصف مليون، والأعضاء المنتسبين والمؤازرين أضعاف هذا العدد، أما عدد شعبهم في مصر وحدها فبلغ ألفي شعبة، وفي السودان، حوالي خمسين شعبة، عدا شعبهم في معظم البلدان العربية، والبلاد الإسلامية، والأصدقاء في جميع البلاد وفي أوروبا وأمريكا، ولهذا لقيت الجماعة مقاومة في غاية العنف من قبل الحكومات التي وليت الحكم بعد الحرب الكبرى الثانية.

وزار الأستاذ البنا النقراشي ثانية، وأهاب به أنه يسرع بالعمل في سبيل الحقوق القومية، واستكمال استقلال وادي النيل ووحدته، وإلا فليدع الأمة إلى الجهاد، ويتقدمها في سبيله، وقدم النقراشي مذكرة إلي الحكومة البريطانية وجاءهم الرد عليها، ولم يرض الإخوان عن هذه المساجلة القليلة، وقاموا بمظاهرة مع الطلاب أدت إلى معركة مع البوليس في حادثة كوبري عباس الشهيرة، فاستقالت الوزارة.

وانصرف الإخوان منذ إعلان الهدنة إلى إثارة الشعب، وإيقاظ وعيه بالمؤتمرات العامة تارة، وزيارة القرى والريف تارة أخرى، وبالرسائل والأحاديث والنشرات تارة ثالثة، وتولوا زمام المعارضة الداعية إلى الجهاد، وتركزت جهودهم في هذه الناحية طمعًا في أن تنال البلاد استقلالها التام، وجاءت حكومة إسماعيل صدقي واشتدت المظاهرات!

ودعا البنا جميع الهيئات ؛ لتأليف لجنة قومية، توحد القوى، وتنظم الصفوف، ولكنه لم يجد مؤازرة من الأحزاب، وعندئذ رأى أن يجنح إلى النصح يقدمه إلى صدقي، على أساس قطع المفاوضات والالتجاء إلى الجهاد السافر 0 واستمر نشاطهم السياسي في هذا النهج، وأخذوا يحاسبون الحكومة حسابًا عسيرًا، ويتهمونها بممالأة الأجانب على حساب الوطن، والتساهل بتأليف الشركات التي تلبس أثواباً مصرية مستعارة، وبعجزها عن علاج مشكلة العمال العاطلين، وبترددها في قطع المفاوضات، وإعلان الجهاد، واشتدت حملة جريدتهم على المفاوضات، وعلى حكومة صدقي، وعلى الإنجليز بوجه خاص وشن عليهم صدقي حملة، فاعتقل عدداً منهم، وصادر جريدتهم، ثم قبض على الوكيل العام، وقابله الإخوان بحملة مثلها، ووقعت انفجارات في القاهرة والإسكندرية، اتهمتهم الحكومة بها فحوصرت دورهم وفُتشت، قاد صدقي حملة واسعة النطاق من النقل والتشريد، تناولت أخلص الموظفين من الإخوان في شتى المصالح والوزارات.

واستقال صدقي، وتألفت وزارة النقراشي في 10 ديسمبر 1946 وفي يوم تأليفها نشر البنا مقالاً دعا فيه الحكومة الجديدة إلى اختصار الطريق، واحترام إرادة الأمة، وإنهاء المفاوضات، وسلوك سبيل الجهاد، ثم تابع نشر مقالاته في الجريدة مسفهًا منهاج الحكومة، مشيرًا إلى أنها حاربت الإخوان، وأغلقت مدارسهم، وسجنت أحرارهم ولاحقتهم بالتضييق والإرهاق.

وكانت هذه البداية حرب داخلية بين النقراشي والإخوان، زادتها قضية فلسطين، التي ساهم فيها الإخوان مساهمة فعالة.

وكانت بالتالي محك قوتهم ونفوذهم من جهة، ومصدر عزة لهم في مصر والعالم العربى من جهة أخرى، واشترك الإخوان في المعركة تحت إشراف الجامعة العربية، وكان لهم هذا الاشتراك المسلح فرصة للتمرُّن على القتال، كما كشف عن مدى استعدادهم الحربي ومدى نفوذهم.

وخشيت حكومة النقراشي سلطتهم، فاغتنمت فرصة وقوع حوادث عنف في داخل القطر، واتهمتهم بأن لهم ضلعًا فيها، وأنهم ينوون إحداث انقلاب، فأصدرت أمرًا عسكريًا رقم 63 مؤرخًا في 8 ديسمبر 1948 "بحل جماعة الإخوان وشُعبها أينما وجدت، وبغلق الأماكن المخصصة لنشاطها، وبضبط جميع الأوراق والوثائق والمجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال وكافة الأشياء المملوكة للجمعية".

وتبع هذا الأمر صدور أوامر عسكرية أخرى، بتصفية شركاتهم، والعمل على استخلاص أموال الجمعية لتخصيصها في الوجوه العامة التي يقررها وزير الشئون الاجتماعية، وحاول البنا أن يسد هذه الثغرة، ويسوي الموقف، ولكنه لم يجد من النقراشي وحكومته أدنى استعداد، حتى قضى مقتل النقراشي في 2 ديسمبر 1948 على هذه المحاولات، إذ اتهم الإخوان بقتله مما زاد الموقف حرجًا بينهم وبين الحكومة.

وقد تنبأ الأستاذ البنا بحصول كل هذه المحن وطالما كان يتحدث عنها وكأنه يراها، ويبين أن هذه هي سبيل أصحاب الدعوات، ويضرب الأمثال بما حدث للمجاهدين والنبيين من قبل، وكأنه وثق منها حتى أصبحت عقيدة راسخة في رأسه، فسجلها للإخوان في إحدى رسائله يقول :(أحب أن أعرفكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها، ويدركون مراميها وأهدافها، ستلقى منهم خصومة شديدة، وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين، ولا زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تطلبه من كفاح وجهاد، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين من العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجوهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة، والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجمع حول دعوتكم غبار الشبهات، وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، معتدين بأموالهم ونفوذهم وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين المحسنين.

ولكأن الرجل الملهم كان ينظر بعين الغيب، فقد تحقق بعد الحل كل ما كتبه في هذه الرسالة التي كتبها للإخوان قبل نشوب الحرب العظمى الثانية وقبل أن تحل تلك المحنة بسنوات، وإن كان قد عكف على تكرار هذه المعاني قبل المحنة مباشرة، حتى يعد الإخوان لاستقبالها فلا يصدموا بحقيقتها المروعة، ووسائلها التي أعادت إلى الأذهان صور محاكم التفتيش الأسبانية.

وقد صدقت جميع نبوءاته حتى في رجال الدين أنفسهم، فقد تطوع منهم من ألقى حديثًا في الإذاعة يؤيد به ما ذهبت إليه الحكومة من نفي للإخوان، مستدلاً بالآية الكريمة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)(المائدة: من الآية33) .

وعُلقت هذه الآية الكريمة في معتقل الطور وسائر المعتقلات ليقرأها الإخوان بأمر إدارة تلك المعتقلات، وواضح أن في ذلك ما فيه من معاني التحدي، والاستفزاز للشعور، والإيلام النفسي للإخوان باتهامهم بأنهم يحاربون الله ورسوله، مع أن هتافهم، الله غايتنا، والرسول زعيمنا.

فلسطين والإمام البنا

قد أولى الأستاذ البنا قضية فلسطين اهتمامًا خاصًا، واعتبرها : "قضية العالم الإسلامي بأسره"، وكان يؤكد دومًا على أن : "الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة، هي لغة الثورة والقوة والدم".

وأدرك حقيقة التحالف الغربي الصهيوني ضد الأمة الإسلامية، ودعا إلى رفض قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الأمم المتحدة سنة 1947 م، ووجه نداءً إلى المسلمين كافة، وإلى الإخوان خاصة، لأداء فريضة الجهاد على أرض فلسطين، حتى يمكن الاحتفاظ بها عربية مسلمة، وقال : "إن الإخوان المسلمين سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلامياً عربيَّاً، حتى يرث الله الأرض ومن عليها".

واتخذت الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين قرارًا في 6 مايو سنة 1948 م ينص على إعلان الجهاد المقدس ضد اليهودية المعتدية، وأرسل البنا كتائب المجاهدين من الإخوان إلى فلسطين في حرب 1948م.

ودعا مكتب الإرشاد العام الأمة إلى القنوت من أجل فلسطين، واقترح أن يقنت المسلمون في الركعة الأخيرة من كل صلاة بعد الركوع قنوتًا، يدعون فيه بنصرة أهل فلسطين، وخذلان أعدائهم ومناوئيهم.

ولتكن صيغة هذا القنوت على هذا النحو مثلاً :"اللهم غياث المستغيثين، وظهير اللاجئين، ونصير المستضعفين انصر إخوننا أهل فلسطين، اللهم فرج كربتهم، أيد قضيتهم، واخذل أعداءهم، واشدد الوطأة على من ناوأهم، واجعل عليهم سنين كسني يوسف، وارفع مقتك وغضبك عنا يارب العالمين".

وسيأخذ المكتب نفسه ومن تبعه بهذا الهدى، حتى تنكشف الغمة، وتعود السكينة، والله حسبنا، ونعم الوكيل.

استشهاد الإمام حسن البنا

أعلن النقراشي (رئيس وزراء مصر) في مساء الأربعاء : 8 / 12 / 1948م قراره بحل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها.

وفى اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات، ولما همّ الأستاذ حسن البنا أن يركب سيارة وُضع فيها بعض المعتقلين اعترضه رجال الشرطة قائلين : لدينا أمر بعدم القبض على الشيخ البنا.

ولكن البنا أصرّ على الركوب في سيارة المعتقلين، فعادت السلطات وأطلقت سراحه، فصرح عندئذ بقوله : أنتم تقتلونني بعدم القبض علىّ.

وقال أمام مجلس الدولة : إن قرار حلّ الإخوان صدر عن اجتماع عُقد في ثكنات الاستعمار.

وأخذ يتردد على جمعيّة الشبان المسلمين، وحدثَّهم مرّة قائلاً لهم : لقد جاءني سيدنا عمر في الرؤيا يُنبَّئني بأعلى صوته : سَتُقْتلُ يا حسن. ثم قُمتُ وتهجدت إلى الفجر.

ثم صادَرت الحكومةُ سيارة الإمام الخاصّة، واعتقلت سائقه، وسحبت سلاحه المُرخص به، وقبضت على شقيقيه اللذين كانا يرافقانه في تحركاته. وقد كتب إلى المسئولين يطلب إعادة سلاحه إليه، ويُطالب بحارس مسلح يدفع هو راتبه، وإذا لم يستجيبوا فإنه يُحَمّلهم مسؤولية أيّ عدوان عليه لكن الأمور كانت مرتّبة فتتابعت الحوادث سريعًا، حيث كان الأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية يُدبر أمر اغتيال حسن البنا، واستخدم في ذلك عصابة من الأمن المصريّ "ووضع تحت تصرفهم سيارته الرسمية رقم 9979.

وتفصيل ذلك في مفكرة النيابة العمومية المصرية سنة 1952م.

في الساعة الثامنة من مساء السبت : 12 / 2 / 1949 م كان الأستاذ البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين يرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودقّ جرس الهاتف داخل الجمعية، فعاد رئيسها ليجيب الهاتف، فسمع إطلاق الرصاص، فخرج ليرى صديقه الأستاذ البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، ويأخذ رقمها.

لم تكن الإصابة خطرة، بل بقي الإمام البنا بعدها متماسك القوى ؛ كامل الوعي، وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة، ثم نقل إلى مستشفى قصر العيني فخلع ملابسه بنفسه.

وقد شهد بذلك محمد الليثي الذي كان في غرفة العمليات حين وصول حسن البنا، كما شهد أن الطبيب أجاب البكباشي محمد وصفي، أحد زبانية فاروق، حين سأله عن المصاب : إن إصابته ليست خطرة.

فهذا كله يرجح بأن الإمام البنا لم يُقتَل برصاص المغتالين، بل بأحد أمرين:الأول: أنه تُرك ينزف حتى أُجهز عليه، ومُنع الطبيب من إسعافه.

الثاني: أن محمد وصفي ارتكب جريمة القتل داخل غرفة العمليات. فقد أثبتت أقوال الشهود في التحقيقات أن محمد وصفي فرض نفسه في غرفة العمليات بوصفه ممثلاً لوكيل الحاكمدار أحمد طلعت، وأخرج كل من كان في الغرفة، ولم يبق بجانبه إلا الطبيب المغلوب على أمره.

وقد ورد على لسان الأمين الخاص للقصر الملكي: إن الملك أرسل محمد وصفي للإجهاز على حسن البنا إن كان لا يزالُ حيَّا!

لفظ البنا - رحمه الله - أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، أي بعد أربع ساعات ونصف من بدء محاولة الاغتيال، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ساعتين أخريين. وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة، ولكن ثورة والد الشهيد جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلى البيت، مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً، وألا يقام عزاء!.

واعتقلت السلطة كل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن فخرجت الجنازة تحملها النساء، إذ لم يكن هناك رجل غير والده الذي رفض أن يحملها، وقال لرجال الجيش والشرطة : أنتم قتلتموه فاحملوا حثته على أعين الناس!

ومن الغرائب، والغرائب كثيرة أن يكون حماة الأمن هم أنفسهم قطاع الطرق، وجناة، وقتلة...

وقد فرح أعداء الإسلام داخل مصر، وخارجها عندما علموا بنبأ قتله.

رحم الله الإمام البنا رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفرلنا وله اللهم آمين.

شهادة رجالات عصره

قال الشهيد سيد قطب رحمه الله، تحت عنوان : حسن البنا وعبقرية البناء:

"في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة قدرًا وحكمة مدبرة في كتاب مسطور ـ حسن البنا ـ إنها مصادفة أن يكون هذا لقبه. ولكن من يقول : إنها مصادفة ؟!

والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء وإحسان البناء بل عبقرية البناء ؟!.. وإن استشهاده عملية جديدة من عمليات البناء، وعملية تعميق للأساس وتقوية للجدران.

وما كان ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان كما ألهبتها قطراتُ الدم الزكي المهراق.. إنّ كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا مُتنا في سبيلها دَبَّت فيها الروح، وكتبت لها الحياة. وعندما سلًّط الطغاة الحديد والنار على بناء حسن البنا والعاملين فيه , استطال عليهم الهدم، لأن الحديد والنار لا يمكن أن يهدما فكرة في يوم من الأيام".

وقال السيّد أبو الحسن الندوي رحمه الله:

"إن كلّ من عرف حسن البنا عن كثب لا عن كتب، وعاش متصلاً به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود وفاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وجهادها وقوتها الفذّة.

فقد اجتمعت فيه صفات ومواهب تعاونت في تكوين قيادة دينية اجتماعية لم يعرف العالم العربي والإسلامي وما وراءه قيادة دينية أو سياسة أقوى وأعظم تأثيرًا، أو أكثر إنتاجًا منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد حركة أوسع نظامًا، وأعظم نشاطًا، وأكبر نفوذًا منها.

وقد تجلت عبقرية حسن البنا من ناحيتين:الأولى: شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها، وانقاطعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله. وذلك هو الشرط الأساس والسمة الرئيسة للدعاة والقادة الذين يُجري الله على أيديهم الخير الكثير.الثانية: تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج. فقد كان منشئ جيل ومربي شعب وصاحب مدرسة علمية فكرية خُلقية. وقد أثَّر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين، في أذواقهم ومناهج تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم..

وقال الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى:

كان حسن البنا لله بكليته وروحه وجسده، بقلبه وقالبه، بتصرفاته وتقلبه. كان لله فكان الله له، واجتباه فجعله من سادات الشهداء الأبرار.

ونقل الشيخ سعيد حوى رحمه الله عن الشيخ الحامد أنه كان يعتبر البنا مُجَدَّد القرون السبعة الماضية.

وينقل الشيخ الحامد عن شيخ وعالم مصري قوله : إن الإلحاد امتد إلى مصر وغزا كثيرًا من أوساطها، ولم يستطع الأزهر الشريف ولا الجمعيات الدينية ردَّ سيله الجارف، حتى جاء حسن البنا ودرأ خطره وأنجى من شره.

وقال عبد الحكيم عابدين - رحمه الله - أمين سر الإخوان في عهد البنا:

أقام الداعية المؤمن مدرسته الفاضلة في توجيه الفكر الإسلامي على عشر دعائم:

دوام استهداف الوحدة، وهي الحرص على رابطة القلوب واجتماع الكلمة.

كلّ من قال : "لا إله إلا الله" يلتقي معك في ظل التوحيد.

اتهام النفس، وإحسان الظن بالمخالف.

أدب الإنكار والاختصام، فإذا أنكر على إنسان أو خاصم، التزم الخلق الرفيع في ذلك.

ذم الجدال والمكابرة.

جواز تعدد الصواب.

التعاون في المتفق عليه، وتبادل العذر في المختلف فيه.

استحضار خطر العدو المشترك الذي لا يميز بين مسلم وآخر.

فتح آفاق العمل والإنتاج، فعلى كلّ أخ - فوق أعماله الخاصّة - أن يقرأ كل يوم وِرْدًا من القرآن، ويحاسب نفسه قبل النوم.

الرثاء للضال المنحرف، لا الشماتة فيه ولا التشهير به.

وقال الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي رحمه الله:

"ويح مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم وليّ من أولياء الله !! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غُرَّتِهم، حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله؟".

كان من لا يعرف حسن البنا تشده إليه طريقته المهذبة الرقيقة في التعامل مع الناس... كتب عنه عدد كبير من المفكرين العلمانيين، فشهدوا بحسن أخلاقه وأدبه وتواضعه رغم اختلافهم معه في الأفكار والتصورات، ولكنهم أنصفوا الرجل. يقول: إحسان عبد القدوس في روزاليوسف 12 سبتمبر / 1945 ـ ولا يخفى على أحد طبيعة هذه المجلة واتجاه أصحابها ـ:

"لو زرت حسن البنا لاستقبلك بابتسامة واسعة، وآية من آيات القرآن الكريم، يعقبها بيتان من الشعر، يختمها بضحكة كلها بشر وحياة. والرجل ليس فيه شيء غير عادي، ولو قابلته في الطريق لما استرعى نظرك، اللهم إلا بنحافة جسمه ولحيته السوداء التي تتلاءم كثيراً مع زيه الإفرنجي وطربوشه الأحمر الغامق.." ثم تحدث عن لباقته وقدرته على الإقناع، ورزانة أسلوبه.

ويقول الأديب الكبير أحمد حسن الزيات:

"وجدت فيه ما لم أجد في قبيله، أو أهل جيله : من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق، لا يزعزعه غرور العلم ولا شرود الفكر، وفقه في الدين صافٍ صفاء المُزن، لا يكدره ضلال العقل، ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق الوحي لا تحبسها عقدة اللسان، ولا ظلمة الحس، إلى حديث يتصل بالقلوب، ومحاضرة تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلى أن تحبه، وشخصية تحملك على أن تذعن !!".

ثم قال الزيات "والفطرة التي فطر عليها حسن البنا والحقبة التي ظهر فيها حسن البنا تشهدان بأنه المصلح الذي اصطنعه الله لهذا الفساد الذي صنعه الناس".

يقول الشيخ محمد الغزالي في قمة خلافه مع الإخوان وبعد أن تخلى عنهم:

"شهدت رجلاً كان يهاجم الأستاذ البنا - رحمه الله - في الهيئة التأسيسية مهاجمة عنيفة، ويخاطبه بما لا يليق من الألفاظ. فلما ثار عليه الإخوان غضب الإمام الشهيد وثار في وجه الغاضبين، حتى لقد أخرج بعضهم، ثم أقبل مبتسمًا على هذا المهاجم المتجني، وقال له: قل ما شئت وانقدني كما ترى، فلن تُقاطَع بعد ذلك، ولعلي أجد في قولك ما أصلح به خطأ أو أقوم به معوجًا.

مؤلفات الإمام الشهيد "حسن البنا"

لقد اهتم الإمام البنا بتأليف وبناء الرجال قبل تأليف الكتب، ومع ذلك فقد ألف مجموعة الرسائل التي تعتبر مرجعًا أصيلاً لفكر جماعة الإخوان المسلمين، وله مجموعة من الكتب هي:

"مذكرات الدعوة والداعية"، لكنها لا تغطي كل مراحل حياته وتتوقف عند سنة 1942م.

وكتاب عن المرأة بعنوان "المرأة المسلمة".

وكتاب "تحديد النسل".

و"مباحث في علوم الحديث".

وكتاب " السلام في الإسلام ".

وآخر ما نُشر له كتاب بعنوان : "قضيتنا".

وله خلاف ذلك عدد كبير من المقالات، والبحوث القصيرة، وجميعها منشورة في صحف ومجلات الإخوان المسلمين التي كانت تصدر في الثلاثينيات والأربعينيات، بالإضافة إلى مجلة الفتح الإسلامية التي نشر بها أول مقالة له بعنوان "الدعوة إلى الله".

المراجع

حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية للأستاذ/ عباس السيسي.

مذكرات الدعوة والداعية للإمام الشهيد حسن البنا.

مجلة اليقظة فبراير 2002م.

مجلة الدعوة فبراير 1955م.

مجموعة الرسائل للإمام الشهيد "حسن البنا".

اقرأ أيضًا:

- في ذكرى استشهاد البنا

- ما كتب عن الإمام الشهيد حسن البنا

المصدر