72 شهرا مع عبد الناصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
72 شهرا مع عبد الناصر

بقلم: فتحي رضوان

تقديم

حينما نشرت هذه الفصول التى أقدمها فى مجلة الفجر التى كان الاستاذ حلمي سلام يرأس تحريرها فى الدوحة عاصمة قطر فاجأنى اقبال الناس عليها واهتمامهم بها ولم أخطىء فى تبين السر فى هذا الاقبال والاهتمام فقد كان العرب بعامة والمصريون بخاصة فى شوق شديد الى معرفة كل شىء عن ثورة 1952؛

وعن الرجال الذين قاموا بها وعن حقائق شخصياتهم وخصائص أخلاقهم والظروف التى أحاطت بهذه الثورة وصلاتها بالقوى العالمية فقد كان ما نشر عن كل هذه الجوانب قليلا بالنسبة لضخامة الدور الذى لعبته هذه الثورة فى حياة الوطن العربى واتجاهاته والمستقبل الذى ينتظره والعقبات والصعاب التى تتعقب كل خطواته وتترصد كل حركاته .

الثورة العربية الأولى

ولم يكن فى هذا ما يدعو الى العجب .

فثورة 23 يوليو 1952 كانت الثورة العربية الأولى التى استهدفت التغيير فى الاقليم الذى قامت فيه تغييرا يتناول الأسس وقد نجحت فى أمرين جد خطيرين:

أولهما : قيام الثورة ذاته
الثانى : فى ثباتها واستقرارها .

أما أنها الثورة الأولى فهذه هى الحقيقة التى يؤيدها التاريخ ولا ينكرها فمنذ اندلاع الثورة العرابية فى 9 سبتمبر سنة 1881 التى بدأت بحصار الجيش المصري بقيادة أحمد عرابى لقصر عابدين مقر الخديوى توفيق لم تقم فى الوطن العربى ثورة انفجرت ثم استقرت ثم غيرت الأمور فى الاقليم العربى الذى اندلعت فيه تغييرا اختفت له المعالم الرئيسية فى هذا الوطن .

لقد سبقت ثورة الشيشكلى فى سوريا التى اسندت زعامتها الرسمية لحسنى الزعيم ثورة 23 يوليو ولكنها لم تلبث حتى سقطت وعادت الأمور فى سوريا سيرتها الأولى ومضت الأمور فى الوطن العربى على نفس الوتيرة التى كانت تجرى عليها حتى جاءت ثورة سنة 1952؛

فكااان انفجارها فى ذاته حدثا يجب على المصريين والعرب اجمعين أن يزهوا به ويفخروا ذلك لأن أكبر ما كان يوصم به المجتمع العربى هو أن العرب يركبهم حكامهم بالهوان ويستبدون بأمورهم أقبح استبداد فينهبون أموالهم ويبددون مصالحهم ولا ينطق بحرف ولا يكف عن الشكوى بينه وبين نفسه؛

يلتفت يمينا ويسارا خائفا من أن يسمعه سامع ولا يعرف أن الحرية لا ينالها الآملون فيها والعاشقون لها الا بعد تضحية وبذل وأن الهامسين اذا اجتمع بعضهم لبعض وتظلموا وساروا صفوفهم أصبحوا قوة لا تقاوم وأن الشعب الأعزل الذى يضرب ويسام الخسف ما اجتمع مرة والا وكتب له الفوز وتحققت له الحرية .

ولذلك كان قيام ثورة 23 يوليو واستمرارها فى مصر ردا لاعتبار المصريين والعرب وتعزية لهم على انهزام ثورة عرابى أمام النظام الملكى المؤيد بالاستعمار الغربى .

ولم يكن انتصار ثورة يوليو مجرد قيامها وتسليم جميع القوى المناهضة للثورة بها والتعامل معها على أساس أنها صاحبة الكلمة فى مصر الى حد أن الملك حزم متاعه وجمع أهله وأتباعه ورحل عن مصر فى الساعة التى حددت له لم يتأخر دقيقة ونفذ جميع ما أمر به بل انه راح يرجو ممثلى الثورة أن يأذنوا له باصطحاب السنيور " بوللى " تابعه الايطالى الأمين؛

بحجة أنه لم يباشر من أمور السياسة شيئا وأنه مجرد خادم وقد تسابقت الدول كبيرها وصغيرها شرقها وغربها الى الاعتراف بالثورة وقد كان كل هذا تكريما لمصر وتطهيرا لشرفها من عيوب الضعف وآفات العجز وقد مضت بعد ذلك الشهور تلو الشهور والسنون تلو السنون والثورة باقية وقد غيرت من أمور مصر اكبر أنظمتها ومن سماتها ومظاهر أقدم خصائصها .

فقد أزالت النظام الملكى وأنزلت الملكية الزراعية من عرشها العالى وطاردت النفوذ الأجنبى فى كل مجالاته فمصرت وأممت التجارة والصناعة التى استأثر بها الأجانب وجعلت التعليم بجميع درجاته مجانيا فاقبل أبناء الطبقات الفقيرة من فلاحين وعمال على التعليم الجامعى وأصبح عشرات الألوف منهم قضاة وأساتذة جامعة وسفراء وأطباء ومحامين وتغيرت البنية الاجتماعية فقد اصبحت القمة فى المجتمع من أبناء الطوائف التى حرمت طويلا من التعليم ومن التقدم .

هذا فى الداخل أما فى الخارج فقد كان أثر الثورة المصرية عميقا وواسع النطاق حيث وجدت جميع حركات التحرر من الاستعمار على طول الوطن العربى وعرضه التأييد والدعم المادى والمعنوى من تلك الثورة وحكومتها فسقطت مراكز الاستعمار فى الجزائر وليبيا وعدن والعراق واليمن وساد تيار التحرر والاستقلال لهذا الوطن بعد نحو قرن من العبودية والتبعية؛

فزالت القواعد الأجنبية فى السويس وفى الحبانية فى العراق وفى هويلس والعضم فى ليبيا وفي عدن واصبحت الوحدة العربية حقيقة بعد أم كانت مجرد حلم ولم يؤد سقوط الجمهورية العربية المتحدة وانفصال سوريا عن مصر الى انحسار المد العربى بل ربما أدى هذا السقوط الى تأجج الرغبة فى اقامة تلك الحدود على أسس سليمة قوية ردا على المؤامرات والدسائس التى أفضت الى سقوط أول دولة من دول الوحدة .

وقد قادت مصر الثورة حركة عالمية جديدة مع زعماء الهند ويوغسلافيا وهى حركة عدم الانحياز التى أقلقت الاستعمار العالمى وعلى رأسه الولايات المتحدة وقد ارتفع مد هذه الحركة واشتد تأثيرها .

ثورة أم انقلاب

ازاء هذه التطورات البعيدة المدى التى غيرت وجه المجتمع العربى والتى أدخلت فيه العشرات من أسس الحكم وأساليب التفكير وبناء المجتمع وعلاقات مصر بالعرب وعلاقات العرب بعضهم ببعض وعلاقاتهم بالعالم على أوسع نطاق ازاء هذه التطورات كان يجب أن ينحسم النزاع حول ما اذا كان ما وقع فى 23 يوليو سنة 1952 ثورة أم انقلابا .

فالثورة هى تغيير اجتماعى يختفى فيه بأسس تفكيره واتجاهاته وطموح أهله وهمومهم ويأتى بمجتمع جديد آخر باسس واتجاهات وطموح وهموم لم يعهدها أهل المجتمع المختفى .

وكان حسب حركة 23 يوليو أنها أزالت الملكية فقط لتكون ثورة فالملكية المصرية هى أقدم الملكيات نشأت من ذ أكثر من خمسة آلاف سنة ولم تنقطع قط فالملكيات الأوربية كلها حديثة لم ينقض على ميلادها أكثر من ستمائة أو سبعمائة سنة فى حين أن الملكيات اليونانية والرومانية والهندية والصينية انتهت منذ قرون .

أما الملكية المصرية فقديمة قدم التاريخ الانسانى وقد اقترنت فى بدايتها بالمعبود الخالق اذ اندمجت شخصية الملك بشخصية الاله فاصبح الاله هو الملك وأصبح الملك هو الاله ثم حدث الانفصال بين الاثنين فأصبح الملك ظل الله ثم أصبح ابنه ثم اصبح صوته ولذلك كانت الملكية المصرية راسخة رسوخ العقيدة الدينية؛

ولذلك أيضا كان سقوط الملك فى مصر و وبالتالى سقوط الملكية حدثا هائلا فى تاريخ مصر وحدها بل فى تاريخ الانسانية كلها وقد تم هذا السقوط على يد ثوار 23 يوليو 1952 وقد تم بسهولة ويسر عجيبين؛

فالملك لم يقاوم اذ قامت الثورة فى فجر 23 يوليو وخرج الملك من مصر مع زوجته وأبنه وبناته وخدمه ومجوهراته وثيابه فى الساعة السادسة من مساء يوم 26 يوليو أى بعد أقل من ثلاثة ايام كاملة .

وكان هذا أعظم استفتاء على تمثيل الثورة لآمال الشعب المصرى . فقد خرج الملك بعد هذه الأيام الثلاثة دون أن يرفع مصرى واحد يده بقصد الاعتراض فضلا عن المقاومة حتى حرس الملك الذى تمرغ فى نعمه وحظى بشديد عطفه لم يسفك من أجله دمعة ولم يطلق فى الهواء قذيفة ووقف الكل يشاهدون أسدال الستار على حكمه وملكه وعهده لا يخالط مشاعرهم الا الأسف الانسانى على رجل بدأ حكمه محفوفا باعجاب الشعب وحبه

واستمر لسنوات قليلة معقد الأمال ولم يكن مطلوبا منه للمحافظة على هذه المكانة الا أقل القليل كان لا يطلب منه أكثر من ألا يبدو لشعبه فى مواقف لا تليق بالملك وألا ينقل عنه ما يعيبه فى حياته الخاصة وأن يطبق الحديث الشريف "اذا بليتم فاستتروا"

ولكنه للسف الشديد جرى على تقاليد العائلة المالكة ولا سيما فى المراحل الأخيرة من حياته هذه التقاليد التى تقضى بأن يبدأ الملك صغير السن جميل الطلعة قريبا من قلب الشعب لوطنيته ولعدائه لخصوم البلاد ثم يتقدم فى السن فيترهل جسمه ويتضخم ويزدا طمعه فى مال الشعب ثم يحيط نفسه ببطانة سوء ما يلبث سوء سلوكها وخروجها على تقاليد البلاد الخلقية والدينية أن يجعل الألسن تتناقلها ثم ينحاز الملك شيئا فشيئا حتى يصبح عميلهم الأول وخادمهم الأكبر فينفذ أوامرهم ويطبق سياستهم ويتنأى عن الشعب ويتنكر له حتى يصبح ندا للشيطان .

بدأ كذلك محمد توفيق الذى كان يجتمع مع الوطنيين وهو ولى العهد ويضيق بسياية أبيه فى الاسراف ثم تولى الحكم فأدار ظهره لأصدقائه القدامى وأمر بالقبض عليهم وخضع للانجليز واحتمى بهم فلم ضرب الاسطول البريطانى ميناء الأسكندرية لجأ الى هذا الاسطول وتنكر للثورة العرابية وامر بمحاكمة زعمائها وكرههم فبقى فى قصره وحيدا لا صديق له من الوطنيين ولا نصير حتى توفى؛

وجاء بعده الخديوى عباس حلمي سنة 1892 فصادق مصطفي كامل الذى كان فى مثل سنه تماما فكلاهما ولد سنة 1874 وأصبح يقابل الوطنيين سرا فى مسجد القبة ويتآمر معهم ضد الاحتلال البريطانى ويتصدى له وما وسعه التصدى ويضيق بالوزراء الذين يلوذون بالاحتلال البريطانى ويصادقون ممثله السير ايفلنج بارنج الذى أصبح فيما بعد اللورد كرومر ملك وادى النيل غير المتوج؛

وتهدد عرش الخديو عباس حلمي أكثر من مرة ولكنه كان يتماسك ويتجلد ويتمسك بالصبر ثم مال الى مسالمة الاحتلال الانجليزى شيئا فشيئا ولا سيما بعد أن انعقد بين بريطانيا وفرنسا ما عرف بالاتفاق الودى سنة 1904 فقد كان الخديو عظيم الأمل فى المعونة الفرنسية وكان يحسب أن الحركة الوطنية المصرية بزعامة مصطفى كامل؛

ودعم فرنسا قادرة على تحقيق الجلاء عن مصر فلما اتفقت فرنسا مع بريطانيا على ألا تقيم فرنسا العقبات والعراقيل أمام الاحتلال البريطانى على أن تفعل انجلترا الشىء ذاته بالنسبة للاحتلال الفرنسى للمغرب أحس الخديوى عباس أنه اصبح وحيدا وأن مصر لم تعد قادرة على مقاومة الإنجليز و فنفض يده من الحركة الوطنية المصرية وتنكر لها؛

وقطع صلته بمصطفى كامل الذى أرسل اليه 1906 خطابا مدويا أعلن فيه الزعيم الشاب أنه قرر أن يبعد عن الخديوى حتى لا يحرج مركزه مع الاحتلال الاجنبى .. وواصل الخديوى تدهوره حتى بات عدوا للحركة الوطنية يعمل ضدها ويتقرب لأعداء البلاد حتى عزل فى بداية الحرب العالمية الأولى فى 18 ديسمبر سنة 1914 .

وقد تم الأمر ذاته مع فاروق ولى العهد بعد وفاة أبيه فى مايو سنة 1937 ولم يكن قد اكتمل له سن الرشد فحكم مصر مجلس للوصاية يرأسه الأمير محمد على باشا شقيق الخديوى عباس حلمي المعزول ولكن رئيس الديوان الملكى علي ماهر باشا لم يلبث أن استصدر من شيخ الأزهر فتوى بأن الملك يحسب عمره بالتقويم الهجرى فيكون قد بلغ سن الرشد؛

وتولى الملك والناس شديدة الاعجاب بشبابه ووسامته وكان موكبه وهو يذهب كل جمعة الى الصلاة فى المساجد الفقيرة فى الاحياء الشعبية محفوفا بآلاف أفراد الشعب الذين يتجمعون حول سيارته تعبيرا عن الحب والوفاء؛

ولكنه فعل كل ما فى وسعه ليحقق ما سبقه اليه اسلافه الذين تولوا الملك فى مثل شبابه والذين بدأوا حياتهم ملوكا مشمولين بالرعاية والحب حتى بلغ الذروة حينما أحاط الإنجليز فى 4 فبراير سنة 1942 مقره بدباباتهم واقتحموا عليه مكتبه فى قصر عابدين بقيادة الجنرال ستودن ومعه السفير البريطانى اللورد كيليرن وفرضوا عليه رئيس وزراة بذاته؛

ولكنه بدأ يغير موقفه بعد هذا الحادث فبعد عن الشعب واصبح صديقا للانجليز فمنحوه رتبة الجنرال الفخرية فى جيشهم وأصبح يخلص لهم الود وينفذ ما يطلبون وكلما اقترب منهم تورط فى مسلك شخصى غاية فى السوء حتى قض آخر رمضان له فى مصر على شاطىء جزيرة كابرى فى جنوب ايطاليا ونشرت له صحف العالم صورا وهو فى هذا المصيف تسىء الى سمعته وتطلق ألسنة الناس فيه حتى عزلته الثورة فى مساء يوم 26 من يوليو سنة 1952 كما سبق القول .

وربما يكون الكلام عن الملك والملكية قد طال ولكن ذلك واجبا فالثورة قامت أول ما قامت ضد الملك وكان مطلبها الأول أن ينزل آخر أعضاء أسرة محمد على عن عرشه وأن ينحى كل الذين أحاطوا بهذا الملك من الساسة الذين زينوا له مسلكه وحببوه فى أسلوب الحكم الذى اتبعه وربما لو رزقت مصر فى تلك الأيام ملكا أقل سوءا وأدنى الى الفضيلة والعمل الصالح لما وجدت الثورة طريقها ممهدا ولما التف الناس حولها التفوا بالفعل.

مقالات الملك فاروق

ولم يكد فاروق يضع قدمه فى أوربا , حتى تلقفته أجهزة الاتصال بالجماهير أى الصحف والاذاعات المسموعة والمرئية لتتخذ منه بوقا ضد الثورة .

فقد كان المعسكر الاستعمارى متمثلا فى بريطانيا التى كانت جيوشها فى مصر عند قيام الثورة وعزل الملك وكانت بريطانيا نختلفة أشد الاختلاف مع الولايات المتحدة فى امور عديدة أهمها مصير الملك فاروق ثم مصير الملكية .

فبريطانيا كانت تعتد بخبرتها الطويلة فى حكم مصر والمنطقة العربية أى فى مصر والسودان وفلسطين والعراق وجنوب اليمن وقبرص و بل بخبرتها الاستعمارية فى الشرق البعيد والقريب أى الهند وبورما حتى هونج كونج؛

ولذلك كانت تدل بهذه الخبرة على الولايات المتحدة وترى هذه الأخيرة من المحدثين الذين لا يعرفون كيف يدارالشرقيون ومن هنا عارض الانجليز فى خلع النظام الملكى قائما فى مصر حتى يوليو سنة 1953 ففى هذا التاريخ رجحت كفة السياسة الامريكية وتقرر اسقاط الملكية واعلان الجمهورية .

ولقد انتهز فاروق هذا الخلاف فى المعسكر الاستعمارى فشن حملة على الثورة ولكنه لم يجد نقطة ضعف فى البناء الذى تولى الحكم بعد عزله الا شخص كاتب هذه السطور .

ففى أول الثورة توارى مجلس قيادة الثورة فلم يتول من الضباط الشبان أو زعيمهم اللواء محمد نجيب شيئا من مناصب الدولة لم يعين منهم أحد فى مناصب الوزراء ولم يتول رئيسهم لا الوزارة ولا غيرها وكان هؤلاء الشبان مجهولين لم يسمع عنهم شيئا قبل ثورتهم التى وضعتهم على رأس الحكم فى أشد نقط الشرق العربى حساسية ونفاسة؛

ولذلك لم يحاول فاروق الهجوم على محمد نجيب ولا على أعضاء مجلس الثورة الشبان وكنت السياسى المدنى الوحيد وكان فاروق يعلم شيئا عن حياتى السياسية أثناء وجوده على العرش وكان السفراء الانجليز والأمريكان يحبون أن ينظروا الى بوصفى شيوعيا

وقد أثبتت المراسلات المتبادلة بين هؤلاء السفراء ووزرات الخارجية فى لندن وفى واشنطن أنهم كانوا لا يدخرون وسعا فى اثبات لونى الشيوعى المزعوم وقد أعانهم على ذلك أننى أخترت عضوا فى مجلس السلام العالمى الذى انعقد فى وارسو قبا قيام الثورة مباشرة ولم يغيروا فى موقف الاستعمار أننى اخترت لهذه العضوية بدون الرجوع الىأو أخذ رأيى أومجرد اخطارى هذا فضلا عن أننى لم أحضر جلسة واحدة من جلسات هذا المؤتمر .

والدوائر الاستعمارية فى انجلترا والولايات المتحدة وكل غرب أوربا جد حساسة لكل من تعاون مع الاتحاد السوفيتى قبل ثورة سنة 1952 لشدة خوفهم من زحف التيار الشيوعى المستمر فأحسنوا استغلال هذه الملابسات التى اتصلت بى بلا عمل ولا سعى ولا نشاط من جانبى فى تعليقاتهم عقب اختيارى وزيرا فى الوزارة التى شكلت فى 7 سبتمبر سنة 1952 بعد قيام الثورة بشهرين واعلنوا بأعلى الصوت وفى كل مكان أن فى صفوف زعماء الثورة شيوعيا هو فتحي رضوان؛

وتلقف الملك فاروق هذه الدعوى واتفق مع صحفى بريطانى شهير من المحافظين يدعى دارد برايس على أن يكتب سلسلة من أربع حلقات ضد الثورة حشاها بحملة ضدى وسيرى القارىء تفصيل هذه الحملة فى الفصول التى يتكون منها هذا الكتاب .

ولكنى اكتفيت بالاشارة اليها لتوضيح موقف الملك فاروق من الثورة وكيف أن سوء سمعته فى العالم أعان الثورة على تشديد قبضتها على البلاد وتثبيت قدمها فى الحكم .

الثورة ثورة

يبدو أننى فتحت قوسا كبيرا طال فيه استطرادى فى موضع هل ما حدث فى 23 يوليو كان ثورة أن انقلابا؟وأحسب أنه بعد هذا الذى سقته فى هذاالموضوع لم يعد ثمة شك فى أن ما جرى فى ذلك اليوم كان ثورة بكل ما فى هذه الكلمة من معنى لأن الانقلاب هو عمل مادى بحت يتغيربه شخص الحاكم؛

فيذهب حاكم ويأتى حاكم غيره دون أن يتغير شىء فى نظام الحكم أوفى أسسه فانقلابات أمريكا الوسطى التى يقوم بها ضابط كبير أو صغير ضد الحاكم القائم أو الجنتا الحاكمة اى الجماعة العسكرية الحاكمة , لا تسمى ثورات لأن التغيير المترتب علىالانقلاب يكاد يكون معدوما ويبقى كل شىء فى البلاد التى شهدت الانقلاب كما هو .

أما ما حدث فى مصر بعد 23 يوليو فيعد تغييرا شاملا لم يدع شيئا الا غيره ولم يغير الهياكل الخارجية والمظاهر فقط ولم يغير الاسماء فقط بل غير الجوهر تماما .

والذين لا يوافقون على التغيير الذى تم من حقهم أن ينقدوه بل من حقهم أن يرفضوه ويستنكروه ومن حقهم أن يثبتوا أن مصر كانت أحسن حالا قبل الثورة فكل هذا لا ينفى أن ما حدث هو ثورة اذ لا يكفى أن يقع فى بلد ما ثورة حتى ينصلح حالها وينقلب الفساد خيرا والجوع شبعا والاضطرابات نظاما فقد تفشل الثورة فى تحقيق أهدافها ولكنها تبقى ثورة كذلك قد يبقى الانقلاب ويستمر ويحقق أهدافه ولكنه لا ينقلب بذلك الى ثورة .

تماما كما لو رزق انسانا بنتا وكان يتنمى أن يكون له ابن ذكر ومع فان هذا الولد ولد عليلا كثير الأمراض ولم ينجح لا فى تعليمه ولا ولا فى حياته العملية ولكنه يبقى ذكرا وقد يرزق الرجل نفسه ببنت صحيحة البدن ذكية تنجح فى المدرسة وبعد المدرسة ولكنها مع ذلك تبقى بنتا فالثورة والانقلاب جنسان مختلفان فى الطبيعة بغض النظر عن النجاح والفشل .

محمد نجيب

وقد كان من أبرز سمات ثورة 23 يوليو أنها كانت مجموعة من الشباب لم يبلغ أى منهم الأربعين من عمره ولكن كان على رأسهم رجل مكتمل الرجولة فى رتبة اللواء وهى أعلى رتب الجيش حتى سنة 1955 فلم يتجاوزها طوال زمن الاحتلال والزمن الملكى أحد سوى ضابط واحد قضى أكثر عمره فى وظائف الشرطة هو الفريق محمد حيدر مدير مصلحة السجون ويارو الملك .

وقد محمد نجيب منذ اللحظة الأولى للثورة علامة استفهام كبيرة وقد بقى هكذا حتى توفاه الله سنة 1984 وقد تجاوز الثمانين من عمره , وقرب من التسعين .

كان محمد نجيب ضابطا حسن السمعة شجاعا , امتاز دون أكثر زملائه برفضه الخضوع والاذعان لا للملك فاروق ولا الحاشية العسكرية والمدنية وكانت له مواقف مذكورة من ضابط الملك الفريق محمد حيدر الذى سبقت الاشارة اليه .

وقد شارك محمد نجيب فى حرب سنة 1948 ضد اليهود فى فلسطين فابلى بلاء حسنا وأصيب ثلاث مرات أحداها كانت فى الصدر فوق القلب ولذلك كادت تكون اصابة قاتلة .وكان فوق ذلك موظفا عف اليد لم يطمع قط فى المال العام ولم يأخذ منه مليما واحدا .

ولذلك وقع اختيار الضباط الشبان عليه منذ اللحظة الأولى فكان اختيارا موفقا فقد أثبتت الأيام بعد ذلك أنه كان يتمتع الى جانب شجاعته الفائقة ونزاهته الكاملة بجاذبية لا تقاوم ولذلك ما كاد يقع نظر الشعب عليه وهو يلوح بقبعته العسكرية حتى تعلق به ووقع فى حبه فأصبح يجرى فى أعقاب مواكبه وهو منجذب اليه مشدود الى شخصيته يود أن سلميه أو يقبله أو يعانقه لو استطاع وقد امتحن محمد نجيب امتحانا عسيرا ذلك أنه ورث الزعامة الشعبية عن زعيم أحبه المصريون غاية الحب وتغنوا باسمه فى المظاهرات والاحتفالات ذلك هو مصطفى النحاس باشا .

وقد كان الظن أن الزعيم الجديد سيبقى بعيدا عن قلب الشعب وفاء من الشعب لزعيمه القديم ولكن الذى حدث أن الزعيم الجديد أنسى الشعب حبيبه القديم بلا أدنى جهد فمحمد نجيب لم يبذل جهدا ليغزو قلب الأمة وليحتل فى هذا القلب مكان البطل الأول المحبوب فمن اللحظة الأولى تعلم الناس كيف يرددون اسمه وكيف يشترون صوره وكيف يرفعون هذه الصور فى المظاهرات والمواكب وكيف يلصقونها فى الدور والأماكن العامة .

وقد كانت له خاصية تميز بها وتفوق على سلفه تلك هى حب الأطفال الشديد له فما من اجتماع عام الا جاءت اليه الأمهات ومعهن اطفالهن حتى تحلق الأطفال حول محمد نجيب يتعلقون به ويتسلقون أكتافه ويقبلونه وهو يحملهم فوق ذراعيه مثنى وثلاث ورباع ويقبلهم ويعودون الى امهاتهم وهم يتسابقون فى منظر جميل كأنهم الحمائم البيض؛

وجاء حب الأمهات بعد حب الأطفال فقد كن يقتربن من الزعيم الجديد ويقدمن له الأوتوجرافات ليوقع لهن باسمه فلا يمل ولا يتعب ويوقع المئات فى هذه الدفاتر وهو راض ومبتسم يوزع دعاباته التى تضحك وتزيد من حب الناس له وتعلقهم به .

وقد كانت لهذا الزعيم الجديد خاصية جديدة هى أن الاشاعة صنعت له نسبا فقد قيل أن أمه سودانية أونوبية وأعان على رواج هذه الاشاعة أن طريقته فى نطق اللفظ العربى شبيهة بالنطق السودانى أو النوبى ولعل مر ذلك أن والده وخاله وربما عمه أيضا قد كانوا ضباطا فى الجيش المصري بالسودان وأنهم ماتوا ودفنوا هناك؛

فتطبع بطبعهم وحاكاهم من حيث لا يدرى بنطقهم ولذلك أحبه أهل النوبة والسودانيون حبا شديدا وصدق بعضهم أن أمه سودانية مع أنه كما قلت مصرى ولد فى قرية النجارية مركز كفر الزيات من أعمال محافظة الغربية ولكن محمد نجيب وان كان مصريا قد أتاحت له نشأته فى السودان وتعلمه فى مدارسه فرصة التعرف على عدد كبير من رجالات السودان فى مقدمتهم عبد الرحمن المهدى باشا كما كان الفريق ابراهيم عبود زعيم الثورة السودانية التى أزال حكومتها جعفر النميرى سنة 1969 كان زميله فى المدرسة الحربية وفى فرقة الملاكمة بها .

وقد ثار جدل حول ما اذا كان محمد نجيب قد شارك فى تأليف جماعة الضباط الأحرار قبل الثورة أم أنه كان فى بيته فى الوقت الذى كانت فيه الثورة تبدأ أولى وقائعها بالنزول من معسكر الهايكستب لتحاصر مقرالقيادة العامة فى كوبرى القبة أم أنه كان مشاركا بالاعداد والتنظيم والتوجه لهذه الأحداث الأولى .

والثابت فى هذا الصدد أن الضباط الأحرار تعرفوا على محمد نجيب احبوه ومنحوه ثقتهم قبل قيام الثورة عرفوه عن طريق الصاغ عبد الحكيم عامر الذى كان أركان حرب اللواء الذى كان الأميرالاى محمد نجيب يقوده وقد أبلغ عبد الحكيم عامر زميله وصديقه جمال عبد الناصر باسم محمد نجيب وحدثه عن مزاياه وكل منهما فى خنادق القتال فى فلسطين؛

فلما انتهت الحرب وعاد الضباط الى بيوتهم عرف بقية الضباط الأحرار محمد نجيب واعتبروه واحدا منهم دون أن يشركوه فى اجتماعاتهم أو يسمعوا رأيه فى مداولاتهم وهو بلا شك كان فى بيته المتواضع جدا الذى لا يبعد كثيرا عن مقر القبادة العامة للجيش فى كوبرى القبة عندما كانت أولى عجلات الطابور الميكانيكى الذى خرج من الهاكستب وعلى رأسه بطل يوم 23 يوليو سنة 1952 المقدم يوسف منصور صديق الذى يذكرنى دائما ببطل الثورة العرابية الأميرالاى محمد عبيد الذى ينتسب الى نفس المركز الذى ولد فى ارضه محمد نجيب مركز كفر الزيات .

ولكن لم يبق محمد نجيب فى بيته اتقاء للمسئولية ولا خوفا منها انما هكذا طلب منه وحينما أخبروه بأن الضباط الشبان وصلوا مقر القيادة العامة وأنهم يطلبونه ليتولى القيادة لم تكن الثورة قد نجحت ولم تكن المخاطر قد انتهت با ان هذا هو بدء المخاطر والمتاعب فلو قررت حكومة فاروق المقاومة وأمرت قواتها بحاصرة هذاالمقر لاعتبر محمد نجيب قائد فتنة عسكرية ولضرب بالرصاص ولو مضت على الثورة أيام أو أسابيع فقبول محمد نجيب تزعم الثورة فى هذه الليلة وذهابه الى مقر القيادة كان مجازفة تدل على شجاعته وايمانه بالثورة .

وبانضمامه الى هؤلاء الشباب وضع رأسه على كفه وجازف بحياته وعمره ومنذ هذه اللحظة أصبح قائد الحركة او اكبر المسئولين عن أعمالها وقد حاولت وزارة نجيب الهلالي آخر الوزارات المدنية قبل الثورة أن تدخل مع محمد نجيب فى محادثات أو مفاوضات ولكن كان ذلك محاولة متأخرة جدا فالثورة بدأت عجلاتها تسير وكان أعضاء هذه الجماعة الشابة قد انتووا عزل الملك ولم يدر بخلد أحد منهم ولا من الذين انضموا اليهم فى الساعات المبكرة مدى الأخطار التى يمكن أن تترصد خطاه فى أى لحظة تنتكس فيها الثورة وما أكثر انتكاسات الثورات .

جيلان يتصارعان

لم يكن ممكنا أن يبقى محمد نجيب على رأس قيادة الثورة فقد كان الفارق فى السن غير قليل شباب فى حدود الثلاثين مع رجل أو شيخ فى حدود الخمسين ولم يكن من مواهب محمد نجيب أن يحاول استمالة الشبان نحوه أو أن يوقع بينهم ليقسمهم ويبقى على رأسهم أو على رأس الأغلبية وكا أحساسهم بأنهم تفضلوا عليه باسناد الزعامة اليه؛

صحيح أنهم فى البداية كانوا فرحين بحب الشعب له وتعلق الجماهير به لأن ذلك الحب كان شهادة لهم بحسن الاختيار وكانوا يرون فى مظاهر التأييد الجارفة للزعيم الذى اختاروه دليلا على نجاح ثورتهم واستقراراها وعلى ان المنافسة بين الثورة وخصومها قد حسمت لصالح الثورة بهذه الشعبية الضخمة التى ظفر بها محمد نجيب؛

وقد سمعت أكثر من عضو من الضباط الأحرار يعبرعن حبه لنجيب بل ذهب بعضهم الى القول بانه يحبه أكثر من أبيه ولكن هذا التضامن بين عنصرى القيادة وحسن العلاقة بين هذين العنصرين لم يلبث حتى هزته الأحداث هزا شديدا فقد نجح عدد من الضباط الشبان فى مختلف الأسلحة فى التعبير عن سخطهم لاستئثار أعضاء مجلس القيادة بالسلطة دون أن يبدو عليهم أنهم سيعيدون الحرية النيابية ولو بعد حين .

وفى هذا الوقت نفسه أحس محمد نجيب أنه يبعد عن السلطة الحقيقية وقد سمعته ذات يوم فى أحد اجتماعات الصلح التى لم تكن تسفر عن شىء يقرأ تعليقا لاحدى الجرائد الانجليزية لعلها جريدة التايمز تقول فيه ان محمد نجيب أخذ فى الذبول؛

وقال اللفظ الذى استعملته الجريدة ولكن كل محاولة صلح كانت غير مجدية لأن أسباب الخلاف بين العنصرين لا سبيل الى تجاهلها ولا الى معالجتها فمحمد نجيب مال فى مارس سنة 1954 الى خصوم الثورة فخشى الشبان أن يعاود محاولته فى وقت لاحق .

وكان ممثلوا النظام القديم قد تبينوا اتجاهات الثوار الشبان على وجه قاطع فأدركوا أن ليس لهم ولا لنظامهم القديم بقاء مع هؤلاء الشبان فزادوا من انحيازهم لمحمد نجيب والنظر اليه بوصفه رمز الحرية النيابية وتعدد الاحزاب فوسعوا الخلاف بينه وبين جيل الشبان؛

فكان لابد أن يختفى ولم يكن عنده كما سبق القول من وسائل المناورة ما يؤخرهذه النتيجة فضلا عن بساطته وصراحته وعدم وجود أنصار له فى الجيش يسندونه أو يخفون أعداءه أما حب الشعب له وتعلق الجماهير بشخصيته فلم يكن قوة يعتد بها لأنها قوة غير منظمة من جهة وغير مستعدة للنضال والقتال وكان اسلوبه يعين على خسارة المعركة لا كسبها؛

فقد كان دائم التنقل بين محدات الجيش وأماكن تجمع الجماهيردوا أن يستقر فى مكتبه ليتابع تطورات الأمور ويحسن الاتصال بذوى المكانة أو التأثير والاستماع اليهم ووضع خطة عمل من أى نوع .

لذلك كان مصيره قد تقرر وكان عليه أن يتحمل آلام السقوط الرهيب الذى طال وقد زاد من هول هذا العذاب أن محمد نجيب لم يقبل التسليم بهذه النتيجة القاسية ولم يفقد الأمل فى امكان تغييرها حتى وافاه الأجل المحتوم فمضى معترفا من التاريخ بفضله وبمزاياه الثلاث شجاعته ونزاهته وجاذبيته .

مع أعضاء قيادة الثورة وجها لوجه

حينما دعيت لأقابل أعضاء مجلس قيادة الثورة مجتمعين فى ظهر يوم أحد بعد أن قابلت عبد الحكيم عامر وجمال سالم منفردين جلست فى حجرة انتظار بمجلس القيادة فى كوبرى القبة وأنا أتأمل فى تطور الأحداث وسرعة تتابعها وفى أنى لا أعرف من هؤلاء الشبان أحدا غير أنور السادات الذى تردد على مكتبى أكثر من مرة؛

وكان فى احدى هذه المرات هاربا من وجه البوليس والذى رأيته بعد ذلك فى قفص الاتهام والذى لا أنسى قفزته من هذا القفص بعد أن فرغت من مرافعتى فى قضية أمين عثمان باشا التى اتهم فيها أنور السادات بالتحريض على قتل هذا الوزير الوفدى؛

وفيما أنا ادير هذه الذكريات فى رأسى اذ بشاب يرتدى ملابس طيار يقف أمامى ويحيينى بحرارة ذكر لى اسمه وذكرنى بأنه حضر اجتماعا من اجتماعات حزبنا الحزب الوطني القديم وأننا ذهبنا سويا بعد الاجتماع الى دار جريدة الأخبار استمعت لكل هذا ولو اكن أدرى أنه أحد أعضاء مجلس القيادة حتى دخلت الى الحجرة التى اجتمع فيها أعضاء هذا المجلس ففوجئت بهذا الشاب جالسا مع زملائه أعضاء المجلس انه عبد اللطيف البغدادي

وفوجئت بعضو ثالث كان زميلى فى المدرسة الثانوية ببني سويف هو يوسف منصور صديق وبذلك يكون من أعرفهم من صناع الثورة ثلاثة هم أنور السادات وعبد اللطيف بغدادى ثم يوسف صديق .

ولكن حين اكتمل المجلس ورأيت نفسى بينهم ورأيتهم جالسين مستعدين لسماع كلامى أحسست بسعادة عميقة فأنا مع الشبان الذين صنعوا الثورة شبان صغار لا يكفون عن مداعبة بعضهم بعضا فتفيض وجوههم بشرا وتعلو هذ الوجوه اشراقة الشباب والفرح بالنجاح والثقة بالنفس ولقد ذكرونى بالشباب الذى كان يؤلف اجتماعت الحزب الوطني الجديد واجتماعات مصر الفتاة من قبل لقد سمعونا سنوات كادت تكمل العشرين عاما من سنة 1933 حتى سنة 1952

وما كنا نظنه كلاما يذهب فى الهواء ثبت أنه أثمر فهؤلاء الشبان صدقوه وقرروا أن يحولوه الى واقع وحقيقة وفعلا تم ذلك لهم وحينما وصلوا الى السلطة وواتت لهم الأمور وأصبحوا سادة أنفسهم طلبوا منا أن نواصل الكلام معهم ويومها شعرت بأن الاجتماع يجب أن يسجل فهو صفحة من صفحات التاريخ الحديث انتهى العهد القديم انتهى عهد الخديوى والملك وعهد البكوات والباشوات وعهد الكبار والفلاح المغلوب على أمره الذى يجد كسرة الخبز بشق النفس والعامل الذى لا يسمع له رأى فى شأن من شؤونه هو أو شؤون وطنه .

حضر أعضاء مجلس قيادة الثورة جميعا الا اثنين : محمد نجيب لأنه لم يكن يسمح له بحضور اجتماعات مجلس القيادة وجمال سالم الذى كان يعتبر نفسه أكبر من أن يحضر اجتماعا سيتكلم فيه مدنى ومع ذلك فقد تحسنت فيما بعد علاقتى به وأصبحنا نجتمع سويا كثيرا ونتكلم طويلا ونضحك من أعماق القلوب .

وفى هذا الاجتماع حدث شىء يجب أن يسجل لآنه أصبح ذا دلالة فى قابل الأيام فقد داعب اكثر الحاضرين ولا سيما كمال الدين حسين وصلاح سالم زميلهم أنور السادات مداعبات ثقيلة وعجبت من ان أنور السادات قد احتملها فى حضورى فلم يبد عليه غضب ولا احتجاج ولم يتوقفوا عن هذا المسلك غير المفهوم حتى شغلهم الكلام الذى تبادلناه .

اسمان سقطا

فى تاريخ سنة 1952 اثنان أحدهما يذكر أحيانا ولكن دون أن يظفر صاحبه بما يستحق من الاجلال والتقديم وقد حاولت أن أرد اليع بعض حقه ولكنى اعتبر نفسى أنى لم أنجح تماما فيما قصدته .

أما الثانى فهو انسان غريب حقا عرف بين الذين احتكوا بالثورة وعانوا منها أو احتكوا بها ولم يخاصموها ولم تخاصمهم ومع ذلك لا يقف أمامه المؤرخون ولا يحكمون ضده ولا يحكمون لصالحه كما فعلوا مع أشباهه الذين كانوا من أصحاب الأدوار التى تتم فى الخفاء ولا يقع عليها النور ولا أقول الأدوار الثانوية لأن دوره كان خطيرا الى أبعد الحدود .

أما ألاول فهو المقدم يوسف منصور صديق الذى لولا خطأ وقع فيه فى صبيحة يوم 23 يوليو بالذات لوئدت الثورة فى مهدها ولتعرض كل زعمائها أو على الأقل أكثرهم للموت .

وأما الثانى فهو حمزة البسيوني الذى وصل الى رتبة اللواء والذى اسند اليه منصب مدير السجون الحربية والذى نسب اليه من الأعمال أو قل من الجرائم ما يرفضه الشيطان ذاته ومع ذلك لم يظفر من الشهرة وذيوع الاسم مثلما ظفر زميله صلاح نصر مدير المخابرات .

وقد أبت الصدفة الا أن تجعلنى قريبا من الاثنين عرفتهما قبل الثورة كثيرا ورأيتهما فى الحياة العادية ورأيتهما بعد الثورة وسمعتهما يتكلمان ورايتهما يعترفان ومع ذلك بقيت علاقتى بكليهما من الظاهر فلم أدخل فى حياتهما بالقدر الذى يجعلنى صديقا وقد تأملت فى كليهما وودت أن أرسم لكليهما صورة حتى يبقى ما أكتبه مرجعا لمن يريد أن يكتب عن هذه الثورة الكبيرة فيها تجرد واستقصاء .

أما يوسف منصور صديق فبطل بكل ما تعنيه الكلمة انضم الى الضباط الأحرار وآمن برسالتهم وشاءت الظروف أن ينفرد وحده بدور حاسم فى الثورة تعرض فيه للموت أو الخطر الجسيم وهو يقوم به والثورة بعد لم تستقبل نور الحياة ولم يصدر القدر حكمه فى شأنها تبقى أم تطوى صفحتها وتنكس رايتها .

ومع أنه قد أدى دوره واحتمل عبئه واجتاز بالثورة مرحلة الخطر فان بقاءه بين زملاؤه الذين لم يبذلوا بذله ولم يجاهدوا جهاده بل كان بعضهم أبعد ما يكون من الخطر يتلهى فى مكان للتسرية وازحاء الفراغ أو فى خارج القاهرة كلها بعيدا بمئات أو ربما بآلاف من الكيلو مترات ينتظر الأنباء بقلق ولكنه مع ذلك آمن على حياته .

كان على يوسف منصور صديق أن يقود طابورا ميكانيكيا من معسكر للجيش فى الصحراء أثناء الحرب العالمية الثانية التى استمرت من سبتمبر سنة 1939 حتى مايو سنة 1945 وكانت ساعة الصفر المتفق عليها هى الساعة الواحدة من صباح يوم 23 يوليو ولكن لأمر ما تصور المقدم يوسف منصور أن الساعة الثانية عشرة هى الساعة الموعودة؛

فحرك قواته فى اتجاه ضاحية هليوبوليس مصر الجديدة حيث يوجد مقر الجيش الملكى فى كوبرى القبة وكان سر الثورة قد كشف بملابسة بسيطة ولكنها أدت الى هذا الذى كان يمكن أن يقضى على الثورة تماما فقد اجتمع فى عائلة واحدة ضابطان أحداهما مع الثورة والثانى ضدها؛

أما الضابط الذى انضم الى الثورة فقد كتم السر ولم يذعه الا انه قبيل ساعة الصفر ليرتدى ثيابه الرسمية وترك داره فتساءلت أمه عن سبب تركه الدار فى هذه الساعة المتأخرة من الليل ولم تكن تلك عادته فسألته الى أين هو ذاهب فقال لها لمهمة طارئة فسكتت ولكن لم يلبث حتى جاء ابنها الأكبر فى ملابسه المدنية ليرى امه وأخاه فلم يجد الاخ الضابط فسأل عنه فأجابته امه بما سمعت من ابنها؛

فشرد ذهن أخيه وعرف فى الحال أن هذه المهمة الطارئة التى تعلل بها شقيقه لا يمكن أن تكون الا عملا ثوريا مخالفا للتعليمات لأن خروج ضابط من داره فى الليل المتأخر وبملابسه الرسمية لا يمكن أن يكون لعمل رسمى والا لعرف فهو ضابط مثل أخيه والحالة فى الجيش وفى البلد عادية وهادئة فأسرع الضابط الى رؤسائه؛

ولأن الوقت كان صيفا فكلم القادة فى الأسكندرية فقد اتصل بمقر القائد العام وفى الحال اتصل القائد العام بأعوانه فى القاهرة وفى الأسكندرية وأمرهم أن يجتمعوا فى مقر القيادة وأن يتصلوا بمعاونيهم ليذهبوا الى مكاتبهم فى المعسكرات المختلفة ويراقبوا الاحوال ويتخذوا الاجراءات التى يستدعيها الموقف ولو تأخر الطابور الميكانيكى الذى كلف يوسف صديق بقيادته حتى ساعة الصفر أى الساعة الواحدة لسبق المعسكر الى المواقع الرسمية التى تمكن من قطع الطريق على الثوار؛

ولكن رحمه الله وقوع يوسف صديق فى خطأ جعله يعجل بالذهاب الى مقر القيادة العامة حيث اجتمع كل القادة الرسميين ولم يكن الوقت قد اتسع لهم بعد ليصدروا الأوامر ويستدعوا رؤساء الفرق والوحدات وهناك فوجىء القادة بالطابور الميكانيكى يحاصرهم وعلى رأس هذا الطابور بطلنا يوسف صديق .

وكا اجتماع هؤلاء القادة خدمة جليلة للثوار فقد سقطوا فى قبضة الثورة دفعة واحدة ولو لم يحدث هذا لكان على الثوار أن يطوفوا ببيوت أو مكاتب هؤلاء الضباط الكبار واحدا واحدا وهذا يكلفهم جهدا وربما يعرضهم للخطر اذ كان من المحتمل أن الدولة تكون قد تنبهت لقيام الثورة؛

واتخذت ما يلزم لمواجهتها ولذلك كان العمل الذى قام به يوسف صديق عظيما ولكن هذا العمل لم يقف عند هذا الحد فقد هاجم يوسف مقر القيادة فقاوم جندى على الباب واقتحم يوسف المدخل وسقط الجندى قتيلا وجرح على ما أذكر آخر وصعد يوسف الى الدور الأول؛

حيث كان القادة مجتمعين فألقى القبض عليهم وأودعهم بعد ذلك فى اماكن تابعة للقوات المسلحة تحت حراسة كافية وبذلك سقطت الودولة الملكية بعد هذا الهجوم المظفر حيث آلت الأسلحة الى القيادة الثورية وبهذا حرمت هذه الدولة من حماية الجيش .

ولكن يوسف صديق كان يساريا شديد الانحياز لليسار لذلك لم يكن ممكنا أن يتفق مع عبد الناصر وأخوانه ولما وقعت حوادث مارس سنة 1954 كان يوسف مع الداعين الى اعادة الديمقراطية وقد كتب مقالا نشر فى جريدة الجمهورية دعا فيه الى تأليف وزارة محايدة برياسة المستشار وحيد فكرى رأفت واشتد الخلاف بين يوسف وباقى الضباط الأحرار؛

مما استدعى اعتقاله فى أسوان وتم اسناد وظيفة له فى سويسرا على سبيل الابعاد ولما استقر الأمر لعبد الناصر اطلق سراح يوسف وبقى بعيدا عن الحياة العامة حتى توفاه الله منذ نحو ثلاثة أعوام هذا هو صاحب الاسم الاول .

أما صاحب الاسم الثانى فهو حمزة البسيوني الذى عرفته شابا صغيرا عندما كان طالبا فى جامعة القاهرة قبل أن يتحول الى الكلية الحربية منتسبا الى مصر الفتاة وزميلا ملازما لاثنين لا يفترق عنهما هما عبد العزيز الشوربجي نقيب المحامين فيما بعد وعبد الوهاب حسني الذى لعب دورا ظاهرا فى حركات الشباب فى الفترة السابقة على توقيع معاهدة سنة 1936 وما بعدها والذى كان نموذجا للشاب الفياض بالحيوية والقادر على مزج الدعابة بالجد والعنف باللطف .

ولما بدأت أحاديث وقصص التعذيب تتصاعد وتتكاثر أخذ اسم حمزة البسيوني يتردد على سمعى فكنت اسمعه دون أن أتوقف أمامه ولو للحظة أذ لم يخطر على بالى قد أن حمزة البسيوني الذى يذكر اسمه مقرونا بقصص التعذيب يمكن أن يكون حمزة البسيوني الذى أعرفه جيدا وأن الامر لا يعدو أن يكون تشابها فى الاسماء .

فقد كان حمزة البسيوني الذى أعرفه انسانا جميل الطلعة يبلغ من البساطة والطيبة حد السذاجة وكان يشارك فى مظاهرات الجامعة ويتصدى للبوليس بشجاعة وفى مرة رأيته فى حديقة الجامعة حافى القدمين يحمل فى يده خرطوم الماء الضخم ويصوبه الى رجال الشرطة وهم يفرون أمامه وهو سعيد بهذه المطاردة كأنه طفل صغير .

ثم حدث ظرف جعل حمزة البسيوني الذى أصبح ضابطا فى الجيش يتردد على مكتبى اذ اتهم بقتل زميل له خطأ فى شقة كان يستأجرها مع اثنين من زملائه الشبان العزاب فقد أقام الشبان الثلاثة وآخرون من زملائهم حفلةفى احدى المناسبات؛

وأخذ حمزة يطارد زملاءه بمسدس كان يظنه فارغا وانطلقت منه رصاصة وأصابت أحد الضباط الذى توفى فى الحال وأقام اهل المجنى عليه دعوى ضد حمزة البسيوني فطلب منى أن احضر عنه فيها فلبيت طلبه وطال أمد هذه القضية لسنوات؛

فكان يتردد على مكتبى وفى كل مرة ازداد ايمانا بأنه مثال البساطة والسذاجة وأحيانا كان يزورنى والده الذى كان من رجال القضاء الشرعى وكان يطيب لى التحدث معه فقد كان وجهه يفيض سماحة ولطفا فضلا عن جماله وحسن قسماته وانصرف ذهنى عن موضوع حمزة البسيوني الذى اسمع عنه أمورا تكاد لا تصدق حتى كنت ذات يوم فى محطة مصر لأستقبل القطار الى الأسكندرية؛

وكنت وقتها وزيرا للمواصلات فاذا بضابط ضخم فى رتبة اللواء يعترض طريقى ويحيينى تحية عسكرية بحماسة شديدة فرددت التحية دون أن التفت كثيرا الى وجهه لاعتقادى أنه أحد الضباط عرفنى فحيانى الا ان هذا الضابط مد يده مصافحا ووجه الى الكلام سائلا عن صحتى فنبهنى صوته الى شخصه فنظرت اليه فاذا هو حمزة البسيوني الذى اعرفه وقد تغيرت ملامحه فقد امتلأ جسمه وترهل وأصبح شاربه كثا غليظا ودب الشيب فى شعر رأسه؛

فسألته أين أنت الآن يا حمزة فبدت عليه الدهشة أو قل الارتباك الذى لم ألحظه وقال باقتضاب فى الجيش يا افندم فتبادلت معه جملا مما يقوله الناس فى هذه المناسبات ومضيت لألحق بالقطار ولما أخذت مكانى فى عربة القطار تقدم أحد الاشخاص ممن يعرفوننى ولفت نظرى الى ان حمزة البسيوني استمر واقف على رصيف المحطة فاندهشت لحرصه الشديد على مجاملتى مع أن صلتى به كانت انقطعت لسنوات عدة وحييته بايماءة براسى وانشغلت الصفح الجرائد فى حين كان اسمه يتردد على السنة عدد من ركاب القطار نحيت الجرائد جانبا ورحت أتأمل فى غرائب الحياة...

فهذا الضابط الذى يعتمد فى قسوته وشدته على تعذيب الناس وايلامهم واخافتهم هو نفسه هذا الشاب الذى كان من أشد الشبان كرها لاستبداد الحكومات وظلمها وأشجعهم فى مقاومة جنودها وهو بعد هذا الانسان الساذج الذى لا تتصور أنه يمكن أن يضمر فى نفسه شرا أو يلحق بانسان أذى وتساءلت ايكون ما يذاع عنه اختلافا وتلفيقا لا أصل له أم يكون مبالغة من الناس وتهويلا أم يكون صدقا خالصا وأن حمزة البسيوني هو شخصان متناقضان كل التناقض أحدهم ملاك وثانيهما شيطان .

فالعلم الحديث يقول الآن ان هناك من الظواهر النفسية ظاهرة الازدواج الشخصيى ثم نسيت كل شىء عن هذا الموضوع وبعد شهود كنت أتمشى فى شارع السباق بمصر الجديدة التماسا للترويح وبعض الرياضة واذا بى وجها لوجه مع حمزة البسيوني وقد بدا عليه مزيد من آثار تقدم السن فأقبل على محييا ولم أزد عن رد التحية ومضيت فى حال سبيلى وكان بوده أن أدعوه الى السير معى أسأله عن حقيقة ما نسب اليه ولكنى لم أفعل ..

ومضت سنون حتى علمت أنه توفى الى رحمة الله فى حادث سيارة فاجع فأفلتت منى فرصة استجلاء هذه الظاهرة الفذة .

الفصل الأول:غبار التطهير وقذائف بين نجيب وجمال سالم

بعد قيام ثورة 1952 وبعد تاليف أولى وزارات الثورة فى السابع من سبتمبر من تلك السنة حدث أمر لم يقع من قبل فى بلد غير مصر ولعله لم يقع بعد ذلك فى مكان آخر فقد كانت شكوى مصر منذ مطلع عهد الاحتلال البريطانى الذى بدأ فى الرابع عشر من سبتمبر سنة 1882 من الأداة الحكومية ومن كثرة الموظفين وتضخم مرتباتهم على مر الأيام وقلة كفايتهم وانتشار الرشوة فى صفوف بعضهم وتعقد القوانين وكثرة تغييرها ومئات بل وآلاف من أسباب الشكوى لم تنقطع؛

على تعدد الحلول وتنوع الأطباء ومن هنا كان أول ما فكرت فيع الثورة بعد الاصلاح الزراعى هو اصلاح الأداة الحكومية وكان فى رأى بعض وزراء الثورة أن الخطوة الأولى لهذا الاصلاح هى طرد الموظف الفاسد والمحظوظ والعاجز .

ولكن .. كيف نضع أيدينا على هؤلاء وحدهم ودون غيرهم فلا نظلم معهم الأكفاء .. والمتشددين والمكروهين لأنهم حنبليون لا يستجيبون لدواعى المجاملة ولا يغمضون العين عن القليل من الفساد الذى يعتبره البعض كالزيت الذى لابد منه لتليين تروس الألة؟

أخيرا .. اهتدى المشرعون الى طريقة قانونية ديمقراطية لاجراء ما سمى بالتطهير وخلاصة هذه الطريقة أن ينتخب كبار الموظفين واحدا منهم يثقون به وينتخب ضغارهم واحدا يثقون به ثم يرأس الاثنين قاض من المحاكم بدرجة متوسطة فلا هو من المبتدئين ولا هو من الكبار الشمغولين باعباء القضاء الكبرى؛

ولما كان عيب الديمقراطية الأصيل هو أن وسيلتها هى الانتخاب وأن الناخبين بشر تجوز عليهم الأكاذيب وينطلى الافتراء ويتأثرون بالهدية وبالرشوة وبالكلام المعسول كما أنهم يخافون القوى حاكما كان أو صاحب مال أو جاه؛

فالانتخابات لا تهتدى الى الرجل الصالح لأنه فى أغلب الأمر رجل متوسط الحال صادق لا يكذب حتى لا ينسب لنفسه الافضال والمواهب لا يوزع الوعود يمينا ويسارا بلا حساب فيفتح الطريق لأصحاب الأصوات العالية ولذوى الوجوه الصفيقة ولمن عنده مال ولمن وراءه جاه فاذا المجلس النيابى صورة من هذا الفساد ومرآة له .. ولكن الانتخابات مع ذلك كله هى الوسيلى التى لم يستطع المصلحون وأساطين التشريع أن ينصحوا بسواها .. ومن هنا قالت الثورة انتخبوا خياركم .. ليطردوا شراركم .

فماذا حدث ؟

فى أول عهدى بالوزراة كان مكتبى كوزير للدولة يقع فى مبنى مجلس الوزراء .. وجاء أحد رؤساء اللجان المتخبين لتطهير المجلس مجلس الوزراء من الفاسد والمرتشى فرأيت أغرب وأعجب شخصية من المستخدمين والموظفين فى مصر ولما كان هذا الرجل نموذجا لغيره وشديد الاتصال بالاحداث فانى استأذن القارىء الكريم فى ان اطيل الحديث عنه قليلا ولكن .. لأن الرجل مات من جهة .. ولأنه من جهة أخرى لم يكن شخصية سياسية فسأدخل على الاحداث بعض التغيير الذى لا يمس جوهرها حتى لا أكشف عن شخصية انسان أصبح فى رحاب الله .

جاء سكرتيرى الخاص يوما ليعلن: أن الاستاذ ولنقل عبد السميع يريد مقابلتى وسألت:من يكون الاستاذ عبد السميع هذا؟ فقال السكرتير:انه موظف كبير وأنه رئيس لاحدى لجان التطهير فسألت سكرتيرى : وما الذى يريده منة ؟ فأجاب انه يقول ان الموضوع شخصى بحت وان كان له جانب عام خطير الى ابعد الحدود وقد رفض رفضا باتا ان يضيف الى هذه الاجابة المثيرة حرفا واحدا .

وتحرك فضولى فأصبحت شديد اللهفة على مقابلته ومعرفة الموضوع الشخصى جدا وذى الاتصال بشأن عام وهام.ودخل الى مكتبى رجل منتصف العمر يبدو عليه شىء من الاضطراب يسبع على نفسه مظهرا من التأدب المبالغ فيه فحييته ودعوته الى الجلوس ..

فاعتذر عن قبول الدعوة فلما تشددت .. قبلها وجلس على طرف المقعد وقبل ان يتكلم سألته عن وظيفته مؤهلاته والعمل الذى يباشره فى مجلس الوزراء وعن رأيه فى العمل قبل الثورة وما يستحسنه من أسلوب هذا العمل وما يستهجنه ..

ولم أظفر منه بشىء ذى قيمة ولكنى فوجئت به يقطع حديثه ويقف وخيل الى انه يود أن ينصرف لأنه تذكر شيئا قد نسيه على ان يعود ولكننى وجدته يقف ويستمر فى الكلام واقفا فلم أفهم هذا التصرف وسألته لماذا وقفت هل تود الانصراف الآن لتستكمل الحديث بعد حين فاذا به يقول ابدا .. أبدا ..

لم اصدق أن وقتك سيسمح باستقبالى وسط المشاغل والمواعيد والمقابلات التى استطعت بسبب وجودى فى ديوان الرياسة أن أكون فكرة عن ضخامة عبئها فقلت له متعجبا وفيم وقوفك اذن ؟ قال لأنى هكذا أكثر ارتياحا فقلت له تعنى انك تحسن الكلام واقفا منك وانت جالس .. أكنت مدرسا قبل أن تأتى الى هنا؟

فصاح صيحة قصيرة وخافتة معلنا اعجابه الشديد بذكائى وقال انه بالفعل مدرسا ولكنه لا يقف بسبب الاعتياد ولكن لسبب آخر فقلت له وماذا يكون ؟ وكم كانت دهشتى حينما سمعت هذا المدير الكبير يقول لأنى أخشى أن تفسد معاليك أخلاقى وخيل الى أن بعقل الرجل مسا ولكنى رأيته على حالة من التنبه والهدوء وقبل أن أسأله كيف تفسد أخلاقه اذا جلس وكيف تنصلح اخلاقه اذا وقف ؟

قال يا معالى الباشا ان الرؤساء جميعا لا يطيقون أن يخاطبهم مرءوسوهم جالسون .. ولم أر وزيرا يخاطب حتى وكلاء الوزارة الا وهو جالس وهو وقوف بين أيديه لا يبدأون بالكلام الا اذا وجه اليهم الخطاب وقد ربيت على هذه المبادىء وأصبح الحرص عليها والتمسك بها ديدنى ورأيى فاذا اعتدت الجلوس أمام الوزير فانى أخشى أن استمرىء هذه العادة فافعل هذا مع غير معاليك فأفقد عطفه الى الابد .. فلا تضيع على مستقبلى ودعنى اتكلم واقفا وعبثا حاولت اجلاس هذا المدير الفذ .

ولكن .. لقد كانت فى جعبته مفاجأة أكبر فقد قال يا معالى الباشا أرجو الا تغضب منى اذا علمت أننى جئت أتطفل على مائدة علمك وأن التمس منك فتوى قانونية وأنا أعلم أن هذا اجتراء منى وسوء خلق ولكنى مضطر الى هذا اضطرارا فهدأت من روعه وان كنت لم أتأثر قليلا ولا كثيرا بهذه الألفاظ التى كان يمكن أن تمس شغاف قلبى فى ظرف آخر فقلت له تفضل .. ماذا تريد ؟

فقال انى جئت أشكو اليك حظى العاثر الذى لا علاج له فأنا أخ شقيق لشرفى بك وتنبهت فى هذه اللحظة للشبه بين لقب هذا المدير ولقب فلان بك الذى اشار اليه فقلت له وأى حظ عثر فى أن تكون شقيقه ؟ قال لابد أنك عرفت أنه وجد فى شقته منتحرا فقلت له أعرف رحمه الله وماذا فى هذا قال انه انتحر لأنه وجد أن له صلة ببعض النشاط المخالف للقانون؛

ولذلك فانى أود أن أتخذ اجراء اتبرأ به منه ولقد أمرت بعض أفراد الأسرة لينقلوا جثته من مدافننا ويلقوا بها ولو فى مقابر الصدقة وفهمت المعنى الذى قصد اليه المدير وهممت بأن أطرده من مكتبى ولكنه اندفع يقول ارجو الا تقسوا على وان تفهمنى معاليك جيدا فلقد نشأت على اسس من الاخلاق تعد الخروج على القانون أشبه بالكفر فماذا أفعل ليعلم الناس جميعا ان شرفى ليس أخى واننى أبرأ الى الله منه ومن علاقتى به .

لقد خيل الى هذا المدير المسكين أنه سيناله بعض الشر أو الشر كله لكونه شقيق شرفى بك وقد غلبنى الاشمئزاز من هذا التشوه الذى أصاب نفسا انسانية فأخرجه عن طبيعة البشر فأحنيت رأسى خجلا ولم أستطع أنأرفع وجهى حتى لا تقع عيناى هلى وجهه وبعد فترة صمت قلت له وأنا انتزع الالفاظ انتزاعا مثا هذا الكلام يضرك أبلغ الضرر وسأعتبر نفسى أنى لم أسمع منك شيئا واذا أعدت منه حرفا واحدا على مسمعى فى اى وقت آخر أكتفى بطردك من وظيفتك بل سوف أطاردك أينما كنت .

وحسبت هذا التهديد سيفرغه وسيجعله يكف هم هذا الغثيان المقزز ولكنه اندفع نحوى يقول افعل بى ما تشاء ولكن انقذنى أولا من هذه الصلة التى لايد لى فيها ولا ذنب .

وكلما زدت أنا امتعاضا وكلما بدا على الاحتجاج زاد هو تضرعا وتوسلا ولم يوضع حد لهذا الموقف الشاذ الا بأن أخرجته بيدى من المكتب اخراجا وهو يواصل تمثيله دون أن يفقد من تماسكه ومن ثقته بنفسه واصراره على تمثيله المفضوح قليلا أو كثيرا .

لم يكن هذا سوى نموذج لموظف كبير حاز ثقة زملائه ونجح فى ان يكون على راس لجنة تطهير ولست أزعم أن أحدا من رؤساء اللجان كان مثل سوئه بل الذى أجزم به أن الأغلب الأعم من هؤلاء الرؤساء كانوا من افاضل الموظفين وخيرتهم ولكن .. يمكن دائما للسيئين فى انتخابات عامة ان ينفذوا الى اماكن ذات قيمة ولكن ماذا تفعل حكومة تريد أن تلتزم العدل وأن تنزل على مقتضياته ؟ انها ان عينت رؤساء وأعضاء اللجان .. قيل انها لجان مرفوضة .. وموحى اليها وان هى تركت الامر للانتخابات كانت النتيجة ما رأينا .. فأين طريق الخلاص ؟

ليس ذلك سوى مدخل الى صدى عملية التطهير فى مجلس الوزراء الذى كان يرأسه عبد الناصر وأول هذه الأصداء حكاية معروفة سبق أن ذكرتها فى مواضع أخرى ولكنها لابد أن تعاد هنا بتفاصيلها فقد كان النظام يقضى بأن يعرض كل وزير النتائج التى توصلت اليها لجان التطهير المشكلة فى وزراته مشفوعة برأيه ثم تقرر بعد ذلك أن تعرض النتائج على لجنة وزارية تشكل من ثلاثة وزراء قبل عرضها على مجلس الوزراء ..

وحدث أن عرض وزير التربية والتعليم المرحوم الاستاذ إسماعيل القباني ما قررته اللجنة المشكلة فى دار الكتب من وجوب احالة الاستاذ توفيق الحكيم الى المعاش باعتبار أنه موظف غير منتج وأفاض المرحوم القبانى فى بيان أن الاستاذ الحكيم لا يكاد يحرك ورقة من مكانها فى دار الكتب على الرغم من خطر هذه الدار ومن عظم الامال التى تعقدها الوزارة على هذا الجهاز التثقيفى وهى امال تتزايد لما تعتزم الوزارة من توسيع الدار وتزويدها بالاجهزة والانظمة الحديثة فضلا عن المراجع العلمية باللغات المختلفة .

وخيل الى الوزير أنه القى بيانا مقنعا ومؤثرا .. فاذا به يفاجأ بعبد الناصر يقول فى عبارة موجزة انه من سوء التقدير أن اخرج فى عملية تطهير أحد كبار كتابنا الذين ترجمت كتاباتهم الى اللغات الاجنبية .. ماذا يقول عنا الناس فى الخارج ؟

ولم يعلق الاستاذ القبانى على هذا الكلام بحرف واحد حتى خيل الىالمجتمع انه وافق على الاعتراض وأن المسألة مرت بسلام .. ولكنه ما لبث أن انسحب بعد قليل ومضى الى بيته وأدرك عبد الناصر أنه أهانه بقوله سوء تقدير .. وهو تعبير لم يقصده بحرفه وذهب الى بيت الوزير ومعه الرئيس محمد نجيب واسترضياه ورضى .

ولكن الذى ادهشنى حقيقة أن توفيق الحكيم لم يجد بين الوزراء جميعا نصيرا واحدا ينضم الى الرئيس عبد الناصر ويدفع عنه تهمة العجز الادارى أو يقيه من الفصل فى حملة التطهير الى الحد الذى خيل الى معه أنه لوسأل سائل الوزراء كما يجرى الأمر فى برامج الاذاعة هل قرأ أحدهم شيئا للحكيم؟ لما استطاع أى منهم أن يذكر له كتابا واحدا .. وقد كانت هذه النتيجة تدعو بلا شك الى الاسف الشديد .

ولقد ساهمت فى تعقيد الموقف بعد أن كانت هذه الأزمة قد انفرجت فقد تحدث الى الصديق الاستاذ حلمي سلام عن شبهات وشكوك الناس فى نتائج حملة التطهير فذكرت له خطوات التطهير .. من قرار تصدره لجنة منتخبة يرأسها قاض ثم لجنة وزارية ثلاثية ثم قرار من مجلس الوزراء وضربت له بأزمة إسماعيل القباني واصطدام الرئيس جمال به مثلا...

على ان قرارات الفصل لا تصدر اعتباطا ورأى الاستاذ حلمى أن من واجبه أن ينشر هذا المثل تهدئة للراى العام وتنويرا له وكان اذ ذاك يرأس تحرير مجلة التحرير .. وأدركت عندما وقع نظرى على الخبر منشورا فى المجلة أن المرحوم الاستاذ القبانى سيؤلمه هذا النشر وقد يقوم فى ذهنه أن الرئيس عبد الناصر هو الذى أوعز للاستاذ حلمي سلام بنشر الخبر لاعتراضه على قرار الاستاذ القبانى فور سماعه له؛

ورأيت أن من واجبى أن أبادر بزيارة الاستاذ القبانى فى بيته وأن أؤكد له أننى وحدى المسئول عن نشر هذا الخبر وفعلا وجدته كما قدرت متألما ومنتويا الاستقالة لكننى ما زلت به حتى وثق من صدق كلامى وأدرك أن استقالته لم تعد ذات موضوع فالاحتجاج على أنا لا يكون بالاستقالة .

وعرض عبد الناصر لما نشر وقال لا يد لى فيه ولا أعرف كيف تسرب الخبر لمجلة التحرير وأن الاخ القبانى لابد أن يكون غاضبا وله حق فى غضبه فتوليت شرح الأمر كله وانهيت الى الرئيس جمال والى المجلس كله أننى أنا المسئول عن كل ما جرى وأننى أصلحت ما وقع منى وأن الزميل القبانى سيحضر المجلس فى الجلسة القادمة؛

وقد أخبرنى المرحوم صلاح سالم أننى لما أعلنت أننى أنا المسئول عن نشر الخبر قال لجاره فى المجلس ان هذه شجاعة من فتحي رضوان يحمد عليها .. فاستنكرت أن يكون اعلان الحقيقة فى مسألة تفصيلية كهذه شجاعة تستحق التنويه فقال لقد أصبحنا تفتقد هذا القدر الضئيل من الشجاعة .

ولكن التطهير كان قادرا على أن يلد أزمات صغيرة كهذه ألأزمة من ذلك أن احدى اللجان الثلاثية الوزارية التى كانت برياستى وافقت على فصل عدد من كبار الموظفين كان أحدهم ابن خالة أحد الوزراء المدنيين .. وكان اخر صهرا لأحد الوزراء العسكريين وقد قال الوزيران المدنى والعسكرى بعد موافقة مجلس الوزراء على قرار اللجنة الثلاثية ان اللجنة الثلاثية لم توص بفصل أقربائهما وطلبا اعادة الأمر على مجلس الوزراء ووافق الرئيس جمال على اعادة النظر فى القرارين ما دامت هناك شبهة فى عدم موافقة اللجنة الثلاثية على القرارين ولكن ما كاد الموضوع يعاد عرضه ..

حتى تبين عبد الناصر أن أحد الموظفين هو ابن خالة وزير مدنى وأن الثانى هو صهر لوزير عسكرى وعضو بمجلس قيادة الثورة وعندئذ صاح قائلا اذن المسألة هى هذه سيقول الناس اننا لم نعد النظر فى قرار واحد من قرارات التطهير ونعيد النظر فى قرارين اثنين لمجرد أنهما يتعلقان بأقرباء الوزراء .. لا .. لا.. ان هذا سينزع الثقة بقراراتنا كلها ليكن فى هذين القرارين من الظلم ما فيهما ولكن المصلحة العامة أولى بأن تراعى .

وسكت الوزير المدنى وزميله العسكرى على هذا القول على مضض .. فقد كانت حجة عبد الناصر من القوة بحيث لا ترد .ولكن الوزير العسكرى وجد سبيلا لعرض الموضوع مرة أخرى وبطريقة يمكن أن نصفها بلغة هذه الأيام بأنها أكثر درامية .

فقد حدث بعد صدور قرار مجلس الوزراء بالموافقة على فصل صهر عضو مجلس قيادة الثورة أن خاطبنى بوصفى الوزير المسئول عن الجهة الادارية التى كان يعمل فيها صهر عضو مجلس القيادة عدد من أكبر الشخصيات استشفاعا له وثناء عليه ..

كان منهم صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس لجنة الدستور فى ذلك الوقت وكان منهم قانونى مصر الأكبر استاذى المرحوم الدكتور عبد الرازق السنهوري ولكن الدكتور السنهورى اضاف الى حسن شهادته فى الموظف المفصول شيئا اندهشت لصدوره من رئيس مجلس الدولة

فقد قال لى هل لديك مانع من أن يأخذ القبانى فلان معه فى وزارة التربية والتعليم اندهشت لصدور هذا القول عن رئيس مجلس الدولة لأن تعيين موظف مفصول فى التطهير بعد قرار فصله بأيام قليلة يجعل قرارات التطهير كلها هزلا لا معنى له ويدعو الى ثورة المفصولين فى هذا التطهير فأجبته احتراما لمقامه عندى الامر لم يكن اضطهادا شخصيا لفلان حتى أمانع فى أن يناله خير على يد سواى ..

ولكن .. هل يمكن تعيين موظف مفصول فى التطهير عقب فصله بأيام فأجاب ممكن فسكت ولم يعقب وأنا مندهش كما قلت غاية الدهشة من صدور هذا الكلام عن الدكتور السنهورى ذاته .

وانعقد بعد ذلك بقليل ما يسمى ب المؤتمر المشترك وهو مجلس كان يضم الوزراء وأعضاء مجلس القيادة وفى نهاية احدى جلساته وكانت برياسة اللواء محمد نجيب أمر رئيس الجلسة باخراج جميع الموظفين الاداريين والكتابيين من قاعة الاجتماع وكان يقوم بأعمال السكرتارية الدكتور إبراهيم حلمي عبد الرحمن الذى عين سنة 1975 وزيرا للتخطيط؛

فخرج مع الخارجين ثم قال الرئيس نجيب كلاما لم أنتبه لأنى كنت مشغولا بورقة فى يدى ولم يدر بخلدى قط أن هذا الكلام يخصنى وأنه يتضمن اتهامى بتهمة جد خطيرة ولما استمر فى كلامه وأنا مشغول بما كنت أقرؤه نبهنى أحد زملائى بأن الكلام يخصنى فالتفت الى الرئيس نجيب فاذا به يقول ان عضو مجلس قيادة الثورة الذى فصل صهره يتهمنى بأنى أذعت أسرار مجلس الوزراء .

والحق أننى وجمت لأننى أعلم يقينا أننى لم أقابل أحدا قط وسمحت لنفسى بالتحدث معه عن أى شىء يجرى بحثه فى مجلس الوزراء حتى ولو كان اتفه الشئون فسألت والدهشة تغمرنى تماما أسرار ؟ .. أى أسرار ؟ أريد أن أعرف السر الذى أذعته .. ولمن أذعته ؟

وبدا ارتباك على الرئيس نجيب لأنه لم يكن محيطا تماما بنص التهمة فأعطى الكلمة لعضو مجلس القيادة الذى قال الدكتور السنهورى اتصل بك فى شأن اعادة تعيين صهرى الذى فصلوه ظلما فى وزارة المعارف وأنك وافقت فقلت وهل هذا اذاعة لأسرار مجلس الوزراء ؟ ان قرار الفصل بلغ حسب القانون للموظف من الجهة التى يعمل بها فلم يعد سرا أما البحث فى اعادة تعيين صهرك فى وزارة أخرى فأمر لم يعرض على مجلس الوزراء ولا يمكن لحديث جرى بين رئيس مجلس الدولة وأحد الوزراء أن يكون من أسرار الدولة .

فقال عضو مجلس القيادة وكيف وافقت على اعادة تعيين صهرى فقلت له وهل موافقتى على اعادة التعيين من أسرار الدولة ؟ وهل أنا أملك الموافقة أو المعارضة فى شأن موظف فصل نهائيا من الدولة ويراد تعيينه فى وزارة لا تتبعنى ولا اشراف لى عليها ولست رئيس مجلس الوزراء فاذا بعضو مجلس القيادة يقول موافقتك على التعيين القت فى روع صهرى أننى وراء فصله وأن هذا أفسد علاقتى بأولاد عمومتى .

وهنا لم أستطع أن أضبط نفسى فصحت وهلة أنا مسئول عن علاقتك بأقاربك وهل أنا سعيت لهذا الافساد؟ وحاول بعض الوزراء تهدئتى ولكنى فى الحقيقة شعرت بمرارة فى حلقى وخيل الى أن بقائى فى الوزارة لم يعد محتملا فلما انفض المجلس أسرعت الى قطعة ورق فكتبت عليها استقالتى ودفعت بها الى الرئيس محمد نجيب فأخذها دون أن يقرأها اذ لم يحسب أننى استقلت هكذا بسرعة .

وفى صباح اليوم التالى مررت على بيت عبد الناصر وتركت له صورة من الاستقالة .. فاتصل بى عبد الناصر وسألنى ما الحكاية ؟ فرويتها له فقال لقد حاولت أن أفهم المسألة من خالد محيي الدين والظاهر أنه لم يكن متتبعا لما جرى فلم أفهم منه شيئا ..

وطلب منى عبد الناصر بالحاح أن اسحب الاستقالة وقال لى أنه هو واخوانه تحدثوا الى زميلهم عضو مجلس القيادة ولاموه على موقفه منى وطلبوا منه أن يمر على فى المنزل ليعتذر لى عما وقع منه فى حقى .

وفى أصيل ذلك اليوم كان وزير القصر قد دعانا لمشاهدة معروضات القصور الملكية المصادرة فى قصر القبة .. وهناك تقابلت مع عضو مجلس القيادة الذى كان طرفا فى هذه الازمة فتبادلنا التحيات ولم أنتظر منه بعد ذلك زيارة ولا اعتذار فقد كان يكفينى أن يتبين الجميع أننى لم أخطىء . ومع ذلك .. بقى فى جعبة التطهير طرائف ..

وفى أوائل سنة 1953 كانت فرنسا تتحرش بباى تونس أى سلطانها أو ملكها الذى مال الى المواطني وأخذ صفهم .. وبدت فى الأفق نذر تدل على ان فرنسا تنوى عزله وكان مجلس الجامعة العربية على وشك الانعقاد فى القاهرة وكنت فى ذلك الوقت وزيرا للخارجية بالنيابة .. بعد التعديل الوزراى الذى خرج فيه السفير العظيم أحمد فراج طايع من وزارة الخارجية ..

فاستقبلت سفراء الدولة العربية فى القاهرة توطئة لعقد مجلس الجامعة فاذا بسفير اليمن وهو السيد علي المؤيد يقول الى متى ستبقى دول الجامعة وحدها فى مواجهة دول الاستعمار لماذا لا ندعو سفراء الدول الأسيوية والأفريقية لينضموا الينا ويقفوا معنا فى وجه فرنسا التى تهدد باى تونس بالعزل وشعب تونس بالقمع .

وراقتنى الفكرة فدعوت سفراء الدول الآسيوية والافريقية جميعا للانضمام الى سفراء الدول العربية فبدا عددنا كبيرا ثم تدفقت الافكار من كل جانب وكان من بين هذه الافكار تهديد فرنسا بعدم تموين طائراتها العسكرية المسافرة الى الهند الصينية ولم تكن فرنسا وقتها هزمت هزيمتها الحاسمة فى ديان بيان فو ..

ولم تكن فرنسا لتجد مطارا تمون طائراتها بالوقود من فرنسا حتى فيتنام الا مطار اللد فى إسرائيل وفيما عدا ذلك فجميع المطارات واقعة فى بلاد الكتلة الاسيوية والافريقية وقد قررت هذه أن تمتنع عن تموين طائرات فرنسا بما يلزمها من الوقود والزيت .

ولما كان بين فرنسا دول الكتلة الأسيوية من يعرف الانجليزية وحدها ولا يعرف الفرنسية ومنهم من يعرف الفرنسية ولا يعرف الانجليزية ولم تكن الترجمة الفورية قد عرفت فقد اضطررنا فى وزارة الخارجية المصرية الى الاستعانة ببعض السفراء الذين يجيدون اللغتين للقيام بأعمال الترجمة .. ووقع الاختيار على الاستاذ حسين رشدي أحد رجال السلك السياسى المصرى ليقوم بأعمال الترجمة الى اللغة الانجليزية .

وفيما كان سفراء الدول الاسيوية والافريقية والعربية مجتمعين فى وزارة الخارجية وصل الى مقر الاجتماع الرئيس محمد نجيب وشهد جانبا منه وكان الاستاذ حسين رشدي يقوم بالترجمة الى الانجليزية فغاظ الرئيس نجيب الاستاذ رشدى فيما يتولى ترجمته بالتعليق عليه وغاظه أكثر أنه لم يكن سريعا بالقدر الكافى وذات يوم عرض اسم الاستاذ حسين رشدي ضمن الاسماء المطلوب احالة اصحابها الى المعاش؛

ولكن الاستاذ رشدى كان صديقا للمرحوم جمال سالم وكان جمال سالم يحسن الظن بكفايته وخصوصا بقدرته الفائقة على التكلم باللغة الانجليزية ووقف كل منهما على طرفى نقيض محمد نجيب يهاجم رشدى وجمال سالم يثنى عليه هذا يطلب فصله وذاك يصمم على ابقائه ثم ترقيته بعد ذلك وحار المجلس بين الاثنين فلم يكن ثمة مخرج من هذا الجذب والشد الا بتأجيل القرار الى جلسة تالية .

وفى الجلسة التالية تكرر المشهد ووقع بين جمال سالم ونجيب عراك بالالفاظ تطايرت فيه النعوت والأوصاف .. كأنها قذائف بندقية وانتهت المعركة لصالح جمال سالم .. وبقى حسين رشدي فى مكانه حتى وصل الى منصب السفير فى يوغسلافيا ونسى الناس ما جرى فى مجلس الوزراء .. ونسوا التطهير ومضت الحياة على عادتها تصابح الناس .. وتماسيهم .. بكل جديد .

ولكن هذا الاجتماع الذى أثار كل هذا الخلاف الحاد كان مع ذلك نعمة وبركة فانه كان نواة الكتلة الاسيوية الافريقية التى كانت قبل هذا الاجتماع مجرد تجمع لا تنظمه ضوابط يلتئم لمجرد تنسيق مواقف أعضاء الكتلة ازاء المسائل المعروضة فى الأمم المتحدة فما لبث بعد هذا الاجتماع حتى اصبحت كتلة متماسكة لها دورها الواضح وخطتها المعروفة وقد أفضت هذه الكتلة نفسها الى ميلاد عالم دول عدم الانحياز الذى أفضى بدوره الى العالم الثالث .

الفصل الثانى:عندما هبت العاصفة على مجلس الثورة

كانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة فى ليلة من ليالى شهر فبراير سنة 1954 حينما دق جرس التليفون معلنا أننى مطلوب لمجلس قيادة الثورة الكائن بالجزيرة وهو مبنى مطل على النيل كان الملك فاروق قد أعده ليكون مقرا لادارة اليخوت الملكية النيلية وكتمت عن أهل بيتى فحوى هذه المكالمة غير العادية حتى لا أثير مخاوفهم وان كانوا قد الفوا هذه المفاجآت ولم تصبح لديهم بالأمر الذى يخيف ..

لا فى عهد الوزراة او ما قبلها ولكننى لا أكتم القارىء أننى فى تلك اللحظة التى تلقيت فيها هذه المكالمة حرت تماما فى سر هذه الدعوة وملت الى التشاؤم وقد لاحظت أننى رحت أرتدى ثيابى فى همة كشأنى فى اللحظات التى تبدو فيها نذر لا تطمئننى ولم يبد على أثر من انزعاج أو قلق؛

فلقد كان التحدى يبعث فى شجاعة لا أتمتع بها فى الظروف العادية والظاهر أن الذى وجه الينا هذه الدعوة الغريبة والمفاجئة حسب حساب السيارات التى تقلنا فقد وجدت سيارة تنتظرنى على الباب لعلها سيارة وزير العدل المرحوم المستشار أحمد حسني الذى كان بيته لا يبعد عن بيتى الا امتارا .

ومضت بنا السيارة تشق طريقها فى شوارع القاهرة المتألقة بمصابيحها وقد خلت من المارة أو أوشكت ونحن زميلى وأنا لا نجد عند أنفسنا ميلا الى حديث كأننا فى مأتم فقد تبادلنا أول ما التقينا السؤال الطبيعى ماذا تظن وراء هذه الدعوة؟

ثم ضربنا أخماسا لأسداس فلما لم نهتد الى ما يمكن الاطمئنان اليه كففنا عن الكلام حتى وصلت السيارة الى غايتها ورأيت الوزراء ينزلون من سياراتهم صامتين واجمين ..وقد بدا كل منهم فى معطفه الثقيل وخطواته البطيئة والتساؤل يبهظه كأنهم نقط سوداء تتحرك فى الظلام كأنها حبات تذروها الرياح الى غير غاية ..

وكانت هناك رياح حقيقية طبيعية اذ كان قيام المبنى على شاطىء النيل داعيا الى هبوب هواء بارد يلفح الوجوه فتطابقت الطبيعة مع السياسة .

دهشة مضاعفة

وسلالم هذا المبنى ليست بالواسعة وليست بالمستقيمة .. فهى تدور فى ارباع ودوائر تشبه سلالم اليخوت .. ووجهنا الحراس الى حجرة وجدناها أشبه ما تكون بالحجرة الخالية لولا أننا أحسسنا بحركة فى جانب منها تكشف عن شخص طويل رشيق وقف ليحيينا فعرفنا للتو أن مضيفنا هو جمال سالم؛

فكان ذلك سببا فى مضاعفة الدهشة ففى مثل هذه الظروف الخطيرة التى تدعو الوزراء لترك بيوتهم أو قل مخادعهم فى هذه الساعة المتأخرة من الليل البارد يجب أن يكون مجلس قيادة الثورة كله مجتمعا فان لم يفسر ذلك لسبب أو لاخر فلابد أن يكون جمال عبد الناصر موجودا فى الموقع الذى يتقاطر عليه الوزراء فما الذى خرق القاعدة؟ وأين هو عبد الناصر فى هذه اللحظة؟ هلى أصابه مكروه؟ وماذا عسى أن يكون هذا المكروه ؟ هل عزل ؟ أم قتل أم شرع فى اصابته ؟

ولقد كانت الايام السابقة على هذه الليلة حافلة بدواعى التوجس والتوقع وكان كل شىء فيها ممكنا ولم يطل انتظارنا فقد تكلم جمال سالم .. وعلى غير عادته تكلم بصوت هادىء لا انفعال فيه وفى جمل قصيرة خالية مما اعتاد جمال سالم أن يحلى به أحاديثه من عبارات وتشبيهات تكشف عن قدرته فى الحديث وتلوينه وقال اننى دعوتكم لأطلعكم على أننا قررنا للاسف الشديد تنحية نجيب ..

فانه لم يعد ممكنا احتماله ولا أمل فى معالجته ولعلكم تذكرون جميعا أننا أبرزناه وقدمناه على انفسنا حتى لم يعد أحد فى مصر يعرف من قادة الثورة سواه .. وقد تلقى لهذا السبب من الشعب تأييدا وحبا لا نهاية له ولكن الرجل صدق أنه أهل لهذا الحب والتأييد وأنه هو الذى اكتسبه بجهده وعمله وقد تركناه يسعد نفسه بهذا الاعتقاد تعويضا له عن كونه من غير أعضاء مجلس القيادة؛

ولكن .. لقد التف حوله عدد ممن ينتمون الى ئات معادية للثورة أو أصحاب الميول الانتهازية فأحبوا أن يستغلوا هذا الاعتقاد عنده وأن يؤكدوا له أنه قادر على الاستقلال عنا والاستئثار بالثورة وقد احتملنا هذا التطور السىء طويلا وحاولنا وخصوصا عبد الناصر لأنى لا طاقة لى على هذه المحاولات .. محاولات التلطف والمجاملة والمداراة حاولنا أن نبصره بسوء عاقبة هذا التطور فازداد اقتناعا بقوته وضعفنا؛

وهنا تحركت الأحزاب القديمة وما خلفها وخيل اليهم ان الفرصة قد اتيحت لهم ليطيحوا بالثورة فازدادوا تقربا اليه ومدحا فيه وازداد هو بعدا عنا وكرها لنا .. وقد يتهموننى بالتسرع والانفعال وأطالوا صبرهم حتى دخل نجيب فى دور خطير للغاية .. وهو دور النفاق .. يشترك معنا فى اصدار قرار ما بعد المناقشة ثم يخرج ويعلن أنه ضد هذا القرار وانه مغلوب على امره ..

وأنه وحده مع الحرية ومع الحياة النيابية وضد اتخاذ اى اجراء ضد الأحزاب وزعماء الاحزاب مع انه فى احوال كثيرة يكون اشد منا تنديدا بهذه الاحزاب وزعمائها وبالماضى وعيوبه .. ولأن ألامر عنده كله لا يتجاوز شخصه فهو حائر لا يدرى أيكون مع الاجراءات الثورية التى تبهره وتعجبه باعتبار انها اجراءات يدل الاقدام عليها على الشجاعة وعلى الرغبة فى التجديد الكامل .. أم يكون مع الاحزاب وما تنادى به من وجوب عودتنا الى الثكنات واعادة الاحزاب الى مكانها القديم وتصفية الثورة ؟

شىء مؤسف

ثم سكت جمال سالم وقد بدا عل وجهه من علائم الألم ما تأثر به الحضور ثم ختم كلامه بتلويحة خفيفة من يده وكأنه يقول لم يكن لدينا مع هذا الموقف حيلة .

وساد المكان وجوم شديد وسمع فى الخارج صوت يشتد واهتزت الاشجار التى وصلت بأطرافها العليا الى نوافذ الحجرة التى كنا نجلس فيها ولم يتكلم احد .. ولما لم يصدر تعليق منا جميعا وقف جمال سالم بقامته الممشوقة ومد يده المليئة بالحيوية فصافحنا ونحن لا ندرى أكان يعزينا أم كان يتلقى منا العزاء ..

وفى هذه اللحظة سمعت صوت أحد الزملاء يقول على كل حال هذا شىء مؤسف فأجاب جمال سالم على الفور بلا شك .

وهبطنا درجات السلم الملتوى وقد ازداد احساسنا بالبرد وأخذ كل من مكانه فى السيارة دون أن يجد عنده النشاط او الاستعداد ليقول حرفا واحدا وعندما افترقنا وبدلا من أن يقول كل منا التحية التقليدية تصبح على خير قال ربنا يستر ..

وذهبت الى فراشى وقد اصبحت رأسى مسرحا لحركة عنيفة من الخواطر والتأملات حتى مطلع الصباح فنمت ساعة أو بعض ساعة ثم قمت مليئا بالنشاط العصبى منتظرا يوما حافلا ..

ولكن عندما طله النهار خيل الى انى رأيت هلى ضوئه حقائق جديدة عجبت كيف غابت عنى وعنا جميعا فقد ادركت بعد هذا التأمل فى الليل الهادىء بعيدا عن جلبة المناقشة وضجيج الحياة اليومية وتدافعها ان ما حدث فى الليلة الماضية وما هو موشك على الوقوع على اثر تلك الليلة والقرار الذى اتخذ فيها كان طبيعيا؛

وان غير الطبيعى هو الا يقع ما وقع كل ما فى الامر اننا لم نكن ندرى طبيعة العلاقة بين نجيب وبين اعضاء مجلس قيادة الثورة ولكن تعرف هذه الحقائق على حقيقتها ثم بعد أن نحيط بمقدار الجاذبية التى ظهر ان الرئيس محمد نجيب كان يتمتع بها عند افراد الشعب يصبح ذلك الشقاق الذى وقع هو التطور المنطقى للاحداث ولم تكن ثمة قوة تستطيع ان تمنعه .

بطل شعبى ..

ان المسئول الاول عن هذه الازمة الخطيرة التى استمرت من اوائل سنة 1954 هو ان محمد نجيب بدا بطلا شعبيا كاملا من اليوم الاول الذى ظهر فيه للناس لم يحتج الى زمن لتتكامل شخصيته كزعيم ولا شك ان نصيبا كبيرا من هذا السحر يرجع الى نجاح الثورة السريع وطرد الملك بلا تعثر ولا تردد واخلاء القوات الاجنبية اى السكون والصمت واذاعات الملك لارادة الثورة وخروجه من مصر كل هذه الاحداث اثارت فى المصريين الاحساس بالكرامة فهؤلاء حفنة من ابناء مصر استطاعوا ان يدبروا لبلدهم فاحسنوا التدبير فطردوا اخر ملك من عائلة غير مصرية فتحت حياتها بصفحات مليئة بالعار؛

وكان القول الشائع ان المصريين لا يحسنون عملا خصوصا حينما يقع هذا العمل تحديا للاجانب ولا سيما اذا كان هذا الاجنبى بريطانيا او امريكيا فهذه الثورة جاءت شهادة للمصريين بانهم يحسنون كتمان ما يجب كتمانه ويحسنون التنظيم والتنفيذ ويليقون بالمهام الكبرى وكان محمد نجيب هو رأس هذه الجماعة فما احراه واجدره بالحب والتكريم وبالاعجاب والاعزاز .

ولكن محمد نجيب كان له نصيب غير المنكور فى خلق هذه الشخصية التى تمتع بها وظهر على مسرح الاحداث وهو يرتدى طيلسانها فهو وجه يتمتع بكل جمال الرجولة فضلا عن لطف اخاذ وسحر خلاب وبساطة تلقائية لا تكلف فيها ولا تصنع مع سرعة فى الحركة وكثرة فى التنقل وتآلف للناس لم تشهد الزعامات المصرية له نظيرا .

وهذا كله جعل لمحمد نجيب شخصية مستقلة عن مجلس قيادة الثورة حتى فى احلك الظروف التى كثرت فيها ولا تصنع مع سرعة فى الحركة فى التنقل وتآلف للناس لم تشهد الزعامات المصرية له نظيرا .

وهذا كله جعل لمحمد نجيب شخصية مستقلة عن مجلس قيادة الثورة حتى فى احلك الظروف التى كثرت فيها الشكوى من الاحوال فى مصر ولا سيما الاقتصادية من هذه الاحوال بقى محمد نجيب محبوبا كأنه لا يد له فيما يجرى .

ولكن هذه الجاذبية هى نفسها التى جنت عليع ىخر الامر فقد افسدت العلاقة بينه وبين اعضاء مجلس قيادة الثورة الشبان وكادت تودى بالثورة كلها وهى لا تزال فى سنتيها الاوليين فقد جعلته قوة لابد ان يحسب لها حساب اى حساب ولكن هذه القوة كانت تعوزها الاداة التى تجعل هذه القوة حقيقة لا مظهرا فقد كانت السلطة فى يد جمال عبد الناصر واخوانه الشبان ومن هنا تمتع نجيب بمظهر قوى ..

وتمتع جمال بالقوة فعلا وحينما بدأ الصراع بينهما رجحت كفة نجيب فى الجولة الاولى ذلك لان الناس كانت معه بقلوبها ولكن التأييد القلبى قصير العمر ما لم يسنده التنظيم الفعال ولم يكن خلف نجيب تنظيم على اية صورة .

وبعض الذين تمتعوا فى التاريخ بتأييد قطاعات كبيرة من اهل بلادهم اخفوا هذا التأييد أو قللوا من مظاهره حتى يتيسر لهم جميع القوة اللازمة للوصول الى السلطة فلقد روى كمال اتاتورك انه امر ان يصحب ولى عهد سلطان تركيا فى رحلة الى الخارج فلما قابل ولى العهد فى ديوانه الخاص بالقطار المسافر من استانبول الى اوروبا رآه رجلا مغمض العينين يلقف انفاسه بصعوبة ولا يكاد يحرك اصبعا؛

فلما تحرك القطار وترك الحدود التركية عاد كمال اتاتورك الى ديوان ولى العهد فرأى رجلا ممشوق القامة عريض المنكبين مفتول العضلات ينظر من النافذة الي الحقول التى كان يخترقها فخيل الى اتاتورك انه اخطأ الديوان الفهم بتركه لولا ان الرجل الذى كان واقفا فيه استوقفه ثم تبين انه ولى العهد الذى كان منذ لحظات شيخا هرما ويتمارض ويتظاهر بالضعف أمام جواسيس ابيه السلطان حتى لا يقضى عليه بالسم او بوسيلة اخرى من وسائل القتل الخفية فلما احس انه بعد عن رقابة ابيه انتفض رجلا مليئا بالقوة وبالحيوية .

ولو كان لمحمد نجيب حظ اكثر من الدهاء السياسى لقلل من مظاهر وصور التفاف الشعب حوله ولحاول ان يتحاشى اسباب التصادم مع زملائه الشبان حتى يصل الطرفان الى مرحلة التوافق التى كانت فى حاجة الى صبر وجهد ووقت .

واشهد للحقيقة والامانة التاريخية انى سمعت عبد الناصر فى منزله بمنشية البكرى قبل ان يهدم هذا المنزل ويبنى على انقاضه البيت الذى عاش فيه عبد الناصر بعد ذلك سمعته يتحدث بسرور وارتياح عظيمين عن شدة تعلق الناس بمحمد نجيب وكانت قد راجت فى تلك الايام اغنية شعبية تقارن بين طهارة محمد نجيب ورائحة خبث الملك فاروق؛

فاخذ عبد الناصر يردد الفاظ الاغنية وهو يضحك ويعلق على ذلك واشباهه من مظاهر التفاف الشعب حول محمد نجيب بقوله لاحظ ان نجيب استطاع ان ينسى الناس النحاس وانا اعرف مدى افتتانهم ولا تنس ان النحاس بنى مكانته عند المصريين على مدى ثلاثين عاما ونجيب لم يمض على ميلاد شهرته الا اقل من سنتين .

كما أشهد أننى سمعت أكثر من اعضاء مجلس القيادة يقولون بأنهم يحبونه أكثر ما يحبون آباءهم ولقد كان شيئا ممتعا أن ترى نجيب عائدا من الخارج الى احدى جلسات المؤتمر المشترك الذى يضم الوزراء وأعضاء مجلس القيادة فقد كان أعضاء هذا المؤتمر من الضباط يستقبلونه بالحفاوة والترحاب ويضحكون من قلوبهم لتعليقاته ولكن كل هذا انتهى وحل محله الشط المتبادل من الجانبين وسوء الظن والتوجس؛

ولقد سمعت عبد الناصر يشكو من ثلاثة التصقوا بمحمد نجيب وتخنوا ودنه أى زادوا ثقته بنفسه واعتداده بها سليمان حافظ الذى كان وزيرا للداخلية ونائبا لرئيس مجلس الوزراء ومحمود الديب وهو لواء فى الشرطة يمت الى الرئيس محمد نجيب بصلة قرابة أو صداقة وانطون عساف وهو صحفى مصرى من أصل لبنانى؛

وسليمان حافظ برىء مما نسب اليه فقد كان يعمل طوال الوق على اسا س أن الرئيس محمد نجيب من جهة وجمال عبد الناصر من جهة أخرى جماعة واحدة تختلف فيما بينها فى التفصيلات ولكن تتحد فى الاهداف وأنى لنا أن نعرف أن العسكريين كانوا جهتين وكل الدلائل تؤكد انهم كقبضة اليد ؟ ..

ولقد عجبت اذ سمعت أن اطون عساف قد أصبح شخصية سياسية ذات خطر فقد زاملته فى معتقل الزيتون خلال الحرب العالمية الثانية ضمن مجموعة من اللبنانيين المتمصرين ذوى الميول النازية ولم نكن نأخذه ولا نأخذ كلامه مأخذ الجد فى تلك الفترة؛

ويروى الرئيس نجيب كيف وقع اعتقاله فى كتابه كلمتى للتاريخ فيقول ان اليوزباشى النقيب كمال رفعت ومعه اليوزباشى داوود عويس طرقا باب داره بعد منتصف الليل وأدخلاه فى سيارة مضت به وبهما الى مبنى سلاح المدفعية بألماظة حيث ترك الى ظهر اليوم التالى ثم جاءت سيارة جيب وبها اليوزباشى حسن التهامي ومعه خمسة من الضباط ودارت به السيارة فى الصحراء دورة ثم عاد الى منزله .

وفى مساء اليوم التالى 27 من فبراير سنة 1954 اصدر مجلس قيادة الثورة بيانا جاء فيه انه حفاظا على وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة الرئيس اللواء محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته على ذلك .

وفى ذات يوم .. كنت أتحدث مع عبد الناصر عن بعض احداث الماضى فقال لقد اقترح اعضاء مجلس قيادة الثورة فى 26 من فبراير سنة 1954 اعتقال نجيب لكننى عارضت ذلك بشدة وقلت لهم ان نجيب يمثل للناس الان معانى احسن مما نمثل نحن لهم فهو رمز عودة الحياة النيابية واطلاق سراح المعتقلين وترك الحكم للمدنيين واستئناف الاحزاب القديمة نشاطها أما نحن ..

فاننا نمثل القيود والحكم العسكرى فلابد من فترة تهدأ فيها العاصفة ويظهر للناس أننا نمثل قيما جديدة أعلى وأسمى من قيم العهد الذى جئنا نزيله ولكنهم لم يأخذوا برايى فكان ما كان ولما رأيت وجوب اعتقال نجيب فى نوفمبر سنة 1954 لأنه فقد كل ركائزه ولأن وجوده فى قصر عابدين داع الى البلبلة لكثرة ما يردده لزواره ولا سيما من السودانيين من شكاوى وانتقادات فهو ازعاج لا مبرر له وان كان لا يزيد على ان يكون ازعاجا؛

وقد كان باقى اعضاء مجلس قيادة الثورة أو أكثرهم يعتبرون ان اخراج نجيب من رياسة الجمهورية واعتقاله سيجدد الاهتمام به وقد يدفع بعض الساخطين هنا وهناك الى الاقدام على عمل محدد ولكنه طائش ويكلفنا بعض الجهد بغير داع .. وتغلبت نظريتى وتم عزله بأقل الجهد من جهة وبلا أى أثر يذكر من جهة أخرى .

لواء .. من اللواء ؟

ولقد اصبح الضباط الشبان منذ وقع الشقاق بينهم وبين الرئيس نجيب شديدى الحساسية لكل ما يتصل بنجيب ولم يعودوا يطيقون سماع حتى مجرد اسمه وقد حدث ونحن نناقش فى أحد اجتماعات المؤتمر المشترك الذى يضم الوزراء العسكريين والمدنيين أن قلت عبارة لا أذكرها الان بالضبط ولكننى اذكر أننى استخدمت كلمة لواء وانا أقول ان كل حركة تحتاج الى وعاء يضم أفكارها ويحتوى على رجالها ولابد لها من لواء يرمز لها ويشير اليها فانتبه عبد الناصر قائلا لواء ؟ من اللواء ؟ ..

فقلت له: لا أعنى لواء فى الجيش انما اعنى علما راية رمزا فقال وقد استراح آه مفهوم ..

ثم حدث أن اجتمع نفس المؤتمر المشترك فى مقر مجلس الامة ولم يكن من المنتظر حضور نجيب اليه لان عبد الناصر كان لا يزال يشغل منصب رئيس الوزراء الذى تولاه فى فترة الخلاف مع نجيب واستقالته من منصب رئيس الجمهورية فقال عبد الناصر بينما الوجوم والتجهم يعلوان وجهه هل نقتله لكم ونستريح ؟ ولم يكد يتم هذه العبارة حتى دخل نجيب وأعلن أنه قد سامح كل الذين اعتدوا عليه وانه غفر لجميع الاعمال التى وقعت فى حقه .

ثم انعقد مجلس الوزراء فى مقره المعتاد بشارع مجلس الامة برئاسة محمد نجيب وكان قد اتفق على اعداد بيان يتلوه صلاح سالم من الاذاعة اعتذارا عما صدر فى حق نجيب خلال فترة الخلاف وكان صلاح قد اطلق لسانه فى محمد نجيب بعبارات شديدة الاقذاع فصعدت الى مكتبى بنفس المبنى وكان يعلو قاعة المجلس وقضيت فترة اكتب فيها كلاما أحاول ألا أمس أحدا ولا أجرح أحدا ولا أنكأ جرحا؛

وبعد طول الجهد كتبت بضعة أسطر قرأتها على عجل فلم أفهم منها وانا أكتبها شيئا ذا معنى فلما استبطأونى هبطت بالورقة وتلوتها على المجتمعين ولفرط دهشتى وجدت الجميع معجبين بها راضين عنها وقد هنأنى بعضهم وشكرنى كل من صلاح سالم ونجيب عليها .

ولقد استمعت الى تلك الكلمة وهى تذاع فلم أزدد فهما لها ولكنها حققت غرضها وفى السياسة ليس مطلوبا دائما أن نقول اشياء تفهم بل يقصد فى بعض الاحيان ان تقال اشياء تسد الخلنة .

وقد أقام عبد الحكيم عامر بعد ذلك حفلة كبرى بنادى الضباط بالزمالك ابتهاجا بالوفاق المرجو وكان أكثر المشتركين فى الحفلة يشعرون فى اعماقهم بأن الحفلة يظللها شعور بالكآبة والاحساس بالزيف .

ثم اقام احد الوزراء المدنيين حفلة اخرى وفيها حدثنا الدكتور عبد الرازق السنهوري انه وضع مشروع قانون لحسم ما قد يجد من منازعات واختلافات بين الرئيس نجيب من جهة والضباط الشبان وعلى رأسهم عبد الناصر من جهة أخرى وقد كان تكوين هذه اللجنة من ستة أعضاء واثنين يقترحهما رئيس الجمهورية أى نجيب اثنين يقترحهما مجلس القيادة وواحد تختاره الجمعية العمومية لمحكمة النقض وواحد تختاره الجمعية العمومية لمجلس الدولة؛

فقلت لاستاذى واستاذ القانونيين الدكتور السنهورى ان القانون لا يحترم فى دنيا السياسة كما لا يحترم فى دنيا الحرب والاتفاق الذى تقترحه أشبه بلجنة تحكيم تقترح بين الارض والزلازل أو بينها وبين العواصف أو كمن يدخل فى حلبة صراع بين رجلين بين اسنان كل منهما سكين قاطع يود أن يبتر به رأس خصمه .. وصاحب القانون يتلو عليهما من نصوص قانونه ما طاب له ولا أحد يلتفت اليه وقد تصيبه من سكين احدهما ضربة تقضى عليه . فاحمر وجه استاذى وسكت وطوى الورقة .

وفى هذه الفترة العصيبة وصل المرحوم الملك سعود وكنت قد سافرت الى مكة لمصاحبته على راس بعثة الشرف فى اولى زيارات ملك سعودى لحكومة الثورة وكان الملك عبد العزيز آل سعود قد توفى منذ بضعة أشهر وقد شاءت الظروف أن يكون له دور فى ازمة الحكم فى مصر وفى ابان الازمة قضت الظروف أن يسافر الملك الى الإسكندرية

وكان البرنامج الموضوع لهذه الرحلة أن يكون رئيس الجمهورية فى صحبته فى حين أن القواعد المرعية تقضى بأن رئيس الدولة يستقبل الضيف ويودعه ويدع صحبته فى باقى التنقلات لرئيس الوفد المرافق الا التنقلات ذات الدلالة السياسية كحضور جلسة للبرلمان أو حضور مناورة عسكرية؛

ولذلك فلم يكن ثمة ما يدعو الرئيس نجيب لمصاحبة الملك والبلد يغلى والاحداث تتزاحم ولكنه سافر فى قطار الصباح وكانت الصحف قد نشرت حديثا معزوا الى الرئيس نجيب مع مصطفى النحاس باشا أظهرت فيه الرئيس فى ثوب المتلطف للنحاس والمتبرىء من أعمال الثورة ..

وان ميوله مع الأحزاب القديمة .. وقد بدا على الرئيس نجيب انشغال البال بأثر هذا الحديث فى نفوس الناس وخشى أن يتهم بأنه ضد قرارات الثورة لاصلاح اسس السياسة فى مصر وتطهيرها من الفساد وقد سألنى أيعلن فى خطبة أنه لا يود عودة الأحزاب القديمة والفاسدة بل عودة احزاب جديدة صالحة ؟ فقلت صادقا لا تقلق على الامر كلية فالاحداث وصلت الى درجة لم تعد التصريحات المضادة تلعب فيها شأنا ذا قيمة لقد انتقل الصراع من ميدان الرأى العام الى ثكنات الجيش .

ولما وصلنا الى الأسكندرية واتجه كوكبنا الى ابى قير على الكورنيش استأذن نجيب من الملك تركه عند ناد الضباط على البحر ودعيت على عجل لأن أجلس الى يسار الملك ولما عدنا فى المساء لم يكن الرئيس معنا فقد عاد وحده بطائرة وتناولنا العشاء فى هليوبوليس بالاس بدعوة من تاجر سعودى لعل اسمه البطبيشى ولقد ادهشنى ان الملك بعد يوم شاق كثير التنقلات ملىء بالمفاجآت كان صافى المزاح يروى بعض الطرائف ويضحك عليها .

وبعد منتصف الليل فى نحو الساعة الواحدة صباحا ذهبنا الى قصر الطاهرة فاستأذنت من الملك فى ان استريح قليلا .. واخذت مقعدا وجلست فى شرفة مطلة على حديقة القصر التى بدت فيها اشجارها الطويلة الانيقة وكأنها اشباح تبعث فى قلوبنا الخوف والفزع فقد ترامت الينا اخبار بوادر صراع عسكرى قد يغرق البلد كلها فى بحر من الدماء وفجأة لمحت الرئيس نجيب يقطع البهو فى الدور الاول مسرعا بخطى لست أدرى لماذ بعثت فى نفسى شعورا بالقلق فقد خيل الىانها فى تعاقبها وسرعتها كأنها تروى نبأ كل ما يجرى وما سيجرى .

وجاء عبد الناصر وعلمت فيما بعد ان عبد الحكيم عامر كان معه ولكننى لم ألحظ دخوله مع جمال ثم جاء السنهورى فشعرت بعدم ارتياح لمشاركته المباشرة والصريحة فى شئون السياسة .. الأمر الذى قد لا يتفق تماما مع مركزه على رأس أعلى محاكم الدولة الادارية . وانفض الاجتماع على مصالحة جديدة .

ومضيت الى بيتى وقلبى مثقل بالهم وفى الصباح ودعنا الملك فى المطار وكان كل من معى فى الوفد المرافق لى والمصاحب للملك يلح على فى أن نصحب الملك فى العودة ولكن اهل الفتوى فى دنيا التشريعات قالوا ان الملك ليس عائدا لوطنه .. بل الى الكويت ومن هنا فلا يجوز للوفد المصرى أن يرافقه لأنه بعلمع هذا انما يفرض ضيافته على دولة لم تستضيفه وربما لا تود أن تستضيفه .

وسلمت على الملك مودعا وتوجهت الى مكتبى لكنى قبل أن اصل اليه علمت أن الرئيس نجيب اغمى عليه وسمعت تعليقا على اغماء الرئيس باعتباره احدى حيل الرئيس لاستدرار العطف عليه واجتمعنا فى نفس اليوم أو فى اليوم التالى لست أذكر جيدا فى بيت موظف متوسط وقد سبق أن سمعت تعليقا من عبد الناصر على بيت نجيب المتواضع؛

وكان عبد الناصر يعتبر هذا الاسراف فى التواضع مبالغة لا معنى لها وقد أحسست من هذا التعليق أنه يعتبر هذا التقشف لونا من التبهرج أو التظاهر فقلت له الحق أننا فى اشد الحاجة الى هذا التبهرج لو سلمنا جدلا أنه كذلك فهز عبد الناصر كتفه ولم يعقب ..

وفيما نحن نتناول الغداء .. وصلت أنباء ذلك الاضراب المحكم الذى اعلنه عمال النقل والذى شل كل حركة فى البلد واتعب الناس وعطل مصالحهم فصدرت من السيد وزير العدل المرحوم أحمد حسني عبارة وجهها الى المرحوم جمال سالم قائلا الناس تعبت من الاضراب .. ويحسن أن ترفعوه فصرخ جمال سالم وما لنا نحن والاضراب .. الاضراب اضراب العمال .. كل شىء ينسب الينا ويلصق فينا ؟

ثم جاءت أنباء زحف مظاهرة الى دار مجلس الدولة وأن المتظاهرين أحاطوا بالدار ويمنعون من فيها من الخروج وعلى رأسهم رئيس المجلس عبد الرازق السنهوري فاقترحت أن يذهب فى الحال عضو من اعضاء مجلس القيادة يكون معروفا للجماهير ليفض المظاهرة بسلام واقترحت أن يندب صلاح سالم لهذه المهمة التى قبلها بارتياح؛

وقد سمعنا بعد أن غادر صلاح سالم المنزل أن المظاهرة يقودها ضابط مخابرات يدعى حسين عرفة وأن السبب فى هذه المظاهرة وفى اتجاه المتظاهرين الى مجلس الدولة هو نبأ نشر فى جريدة الأخبار بأن الجمعية العمومية لمجلس الدولة انعقدت للنظر فى الشئون العامة وتسربت الى الناس اشاعة أن المجلس سيصدر قرارات تؤيد عودة الحياة النيابية ورجوع الضباط الى ثكناتهم .

ولقد كذب كثيرون ممن كتبوا عن هذه الواقعة فيما بعد هذه الاشاعة وقالوا ان مصدر هذه الاشاعة هو مجلس قيادة الثورة ليتخذ منها ذريعة لضرب السنهورى والاعتداء على مجلس الدولة كصورة من صور التأديب للقضاء والقضاة والمؤسسات التى قد تقف فى وجه الثورة .

وقد أورد الرئيس نجيب فى كتابه كلمتى للتاريخ أن مجلس الدولة انعقد فعلا واصدر قرارا بتأييد الحياة الديمقراطية والحياة النيابية وقرارات 5 و 25 مارس وقال بالحرف الواحد وقد اعتدى المتظاهرون على الدكتور عبد الرازق السنهوري وعلى باقى الاعضاء بالضرب الشديد ومزقوا القرار الذى اتخذ .. وبهذا الحادث مضى عهد حافل من عهود الثورة .

الفصل الثالث:قذائف ولطائف فى مجلس الثورة

فى السابع من سبتمبر 1952 .. بعد أن لقينى سليمان حافظ على مقربة من مبنى ادارة فضايا الحكومة وبعد أن علمت منه أن تشكيل وزارة جديدة سيتم ظهر هذا اليوم وأننى مدعو للاشتراك فيها وأنه اعتذر عن أن يرأسها بعد أن رشحته فى الخامس من سبتمبر 1952 لهذه الرياسة للضباط الشبان الذين قاموا بالثورة وبعد ان قبلوا هذا الترشيح وفاتحوه فاعتذر عن قبوله ورشح بدلا منه الدكتور عبد الرازق السنهوري صديقه .. وزميله منذ كانا تلميذين فى مدرسة رأس التين الثانوية؛

ثم انتهى السنهورى فى صباح يوم 7 سبتمبر فى سنة 1952 بأن تقر أن يتولى اللواء محمد نجيب رئاسة الوزراة فذهبت الى مبنى قيادة الثورة فى كوبرى القبة بعد أن انتهت عملية الترشيح والاعتذار والقبول وانتقلت الوزراة الجديدة الى سراى عابدين لتجرى مراسم التشكيل من اعداد الوثائق واداء اليمين؛

وقد تم ذلم فى المساء المتأخر فذهبنا الى سراى عابدين فى عربتى الصغيرة الهيلمان وأنا منهمك القوى شاعر بالتعب .. وبالسأم .. وبشىء من الضيق وقد كنت مندهشا غاية الاندهاش من هذه الحالة التى شملتنى وكان من الطبيعى أن أكون سعيدا مبتهجا .. سواء نظرت الى الامر من جانب شخصى أو من جانب عام .

فمن الجانب الشخصى .. ها أنا أدعى الى الاشتراك فى الوزراة .. والوصول الى منصب الوزراة فى مصر وفى العالم كله فى القديم والحديث هو مرتبة من مراتب النجاح للشخص وهى خطوة نحو تحقيق اهداف هذا الشخص العامة اذا كان صاحب مبادىء واهدافه الذاتية اذا كان طامعا فى الجاه مؤملا فى ان يجنى من وراء منصب الوزارة المال والنفوذ لنفسه ولذويه ولأنصاره ولمن يحب .

على ان الوزراة التى دعيت للاشتراك فيها هى أولى الوزارت التى يمكن أن تحول الثورة التى قامت فى مصر قبل اقل من شهرين من تأليفها من آمال وأحلام الى حقائق وواقع فهى ليست مجرد وزارة وانما هى نقلة فى تاريخ بلدى لن تلبث أن تكون نقلة فى تاريخ العرب؛

وربما خطوة فى تاريخ الانسانية كلها باعتبار أن العالم مترابط وأن ما يحدث فى جانب منه .. لا يلبث أن يترك آثاره وصداه فى جوانب الدنيا الاخرى مهما نأت عنه هذا كله .. فى ملاحظة أنى لم أكن مجرد سياسى يدعى للاشتراك فى وزارة ذات مهام شاقة بل ان الظروف اكرمتنى وجعلت لى دورا فى تأليف هذه الوزراة وفى اختيار اشخاصها وفى توجيه الامور المتعلقة بها والمتفرعة عنها .

  • فلماذا اذن هذا الشعور بالانقباض وخيبة الامل والملل ؟
ولعل مساومات الصباح جعلت نظرتى للامور متسمة بالتشاؤم فها نحن أولاء فى اعقاب ثورة ضخمة ولكنا مع ذلك حينما نتكلم فى تأليف وزارة تبدو المطامع الشخصية والحزبية .. حينما ندعو الناس للوزارة لا نجد مظهرا للمبادىء وحينما نتهيأ لتشكيل حكومة وطنيى نرانا مضطرين الى جمع عدد من الناس من هنا وهناك .. دون أن تربطهم علاقة من رأى ولا صلة من جهاد سابق بل دون أن يجلس بعضهم الى بعض ولو لمدة نصف ساعة يتساءلون ماذا سيفعلون ثم يجيبون على هذا السؤال ولو بكلمتين .
ان بعض الوزراء فى هذه الوزراة لم يكن يعرف اسماء بقية أعضائها بل لعله لم يسمع بها من قبل وبعضهم لو قيل له قبل دخوله الوزارة بنصف ساعة أنه سيشغل بالسياسة لاستلقى على قفاه من الضحك ومنهم من لو قيل له أنه سيشترك مع بعض الذين زاملهم فى الوزراة فى رحلة راحة واستجمام لرفض أن يسير معهم فى طريق وقد كان من الوزراء من دخل هذه الوزارة لأن صديقا ذا نفوذ رشحه لها .. كل هذه المعانى جالت فى خاطرى .. ربما بوضوح أقل ولكنها لابد وأن تكون قد عبرت الى وجدانى فألقت فيه غير قليل من القتامة .
دخلنا سراى عابدين بملابسنا العادية وكنت على وجه خاص لم أغير ثيابى منذ الصباح ولم استرح ولو بضعة دقائق وتناولت طعاما خفيفا عند الظهيرة ولم أحصل على نصيب من النوم بعد الظهر كعادتى يعيننى على مواصلة النشاط حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل كما حدث؛
ومن هنا فاننى حينما دعيت الى حلف اليمين تصورت أن لو الملك المعزول فاروق استطاع أن يخترق الحجب وأن يرانا ويرانى أنا بصفى خاصة فى سترة بيضاء تثنى قماشها وترهل لطول ما جلست وسرت بها نحو عشرة ساعة كاملة .. دون انقطاع لفجع اذ اصبح القصر الملكى المقدس يستقبل وزراء فى ثياب كثيابى وهو الذى لم ير سوى وزراء فى ملابس الردنجوت والنساء فى أجمل ثياب السهرة بل لعل خدم القصر فى هذه اللحظة كانوا أكثر اناقة منا وأحق منا بالوزراة .. اذا قيس الامر بالثياب وبالمظهر .
انتشر زملائى فى قاعات القصر يتجاذبون اطراف الحديث .. وتركونى اكتب خطاب تأليف الوزارة الى مجلس الوصاية الذى كان مكونا من احد الامراء سمو الامير محمد عبد المنعم ومن احد كبار الساسة فى العهد السابق للثورة الدكتور محمد بهي الدين بركات باشا الاستاذ الاسبق بكلية الحقوق ثم رئيس مجلس النواب فرئيس ديوان المحاسبة وواحد من اغنى أغنياء مصر؛
واخر ضابط سابق بالجيش ولم يبلغ فى سلم رتبه أكثر من رتبة العقيد القائم مقام وهو السيد محمد رشاد مهنا وقد كان هناك الى جانب خطاب تأليف الوزارة المعبر عن سياستها وثائق أخرى تعد وتجهز صبرت على اعدادها؛
ثم أدينا اليمين وتلقينا التهانى وانصرفت الى بيتى وقد اوشك النهار على الطلوع بينما رأسى يكاد ينفجر من التعب الجسمانى والجوع والتوتر العصبى وعدم الرضا .. وعبثا حاولت النوم فى تلك الليلة حتى كاد الفجر أن يشرق فغفوت على اريكة ساعة أو بعض ساعة استقبلت بعدها يوما .. بل أياما مشحونة بالحركة وبالكلام وبالاحاديث والمقابلات وبالرجاءات وبالانتقادات .. الخ .

واخيرا .. انعقد مجلس الوزراء برئاسة اللواء محمد نجيب .. وقد كانت جلسات مجلس الوزراء فى اول الامر هادئة .. ليس فيها ما يستحق أن يذكر فلا مناقشات حادة ولا خلافات عنيفى وقد أضفى عليها الرئيس محمد نجيب غير قليل من طيبته وانسانيته ولطفه ولا زلت اذكره وغليونه اما فى فمه وأما بين يديه يحشوه بالدخان وهو يتكلم ثم ينصرف بعد قليل من بداية الجلسة وعصاه وعدد كبير من الكتب والصحف والمجلات تحت ابطه وقد كان من حظى أن أجلس على الطرف الآخر من طاولة الاجتماعات فى المجلس اذ أبى زميل لى كان يعمل فى سراى عابدين قبل الثورة ..

واستمر فيع بعدها أبى الا أن يضعنى فى ذيل الوزارة فقبلت دون مراجعة لان التقدم والتأخر البروتوكول لم يشغلنى ولو للحظة وكان نصيبى أن أحدد للسادة الوزراء الراغبين فى الكلام دورهم فى الكلام ولما كنت قائما بأعمال الاعلام لأن الاذاعة اسندت الى فقد كان من واجبى أن الخص ما يجرى فى المجلس من مداولات وأن اذيع ما انتهى اليه من قرارات .

وعلى الرغم من هدوء جلسات مجلس الوزراء الا انها كانت طويلة طولا لم يعهده مجلس وزراء لا فى مصر ولا فى غيرها فقد كانت تبدأ الساعة العاشرة صباحا أو الحادية عشرة وتستمر حتى ما بعد منتصف الليل وقد عبرت احدى الصور الكاريكاتورية عن هذه الظاهرة الجديدة فصورت أحد الوزراء صاعدا درجات سلم منزله وفى يده حذاؤه حتى لا يوقظ زوجته فتعرف فى أية ساعة متأخرة عاد الى بيته كأنه فى سهرة محرمة .

وقد ترتب على هذ الجلسات الطويلة أن عددا من الوزراء كان يستغرق فى النوم أثناءها وكان المرحوم إسماعيل القباني وزير المعارف (التربية والتعليم) لا ينام فقط .. وانما يسمع له شخير عال .. وهذا لا يغض فى أنه كان عالما فاضلا ومواطنا شجاعا .. يدافع عن رأيه وكرامته بلا هوادة ..

وقد كان الرئيس يحتاج فى بعض الأحيان الى ايقاظ الوزراء من نومهم ليأخذ آراءهم فى المسائل المعروضة .. ولهذا أصبح من فكاهات المجلس المتداولة عبارة قلتها مرة وهى الموافق من حضراتكم يصحى بدلا من الموافق يرفع يده لم يكن السهر مقصورا على جلسات مجلس الوزراء وانما شمل لجانه الفرعية؛

وفى احدى اللجان وكانت برئاسة المرحوم جمال سالم سهرنا حتى الصباح تماما لمناقشة قانون المرور ولكن مندوبى الصحف الذين ناموا على مقاعد مبنى مجلس الوزراء كانوا يظنون أن هذه اللجنة تبحث مسألة من أخطر مسائل الدولة فلما خرجنا لنستقبل السيارات الى منازلنا كان منظر هؤلاء الصحفيين اشبه بصرعى ميدان قتال ..

فمنهم من انكفأ على مجهه على منضد الى جواره ومنهم من تمدد على ظهره ومنهم من افترش أرض المجلس وراح فى نوم عميق وهادىء ولما وصلت الى ميدان العتبة الخضراء العريق وقد طار النوم من عينى من فرط الاجهاد العصبى رأيت فى السماء نورا ساطعا يكتب بحروف فى لون بين الأزرق والأخضر كلمة يارب فخيل الى أننى أحلم أو أن سهر الليل أتعب أعصابى فجعلنى اتخيل مالا وجود له فهتفت مخاطبا سائق السيارة يا حاج عبد العزيز ألا ترى ؟

فقال الرجل بهدوء خير قلت ألا ترى أن السماء قد أضاءت بلفظ الجلالة انها ظاهرة لها دلالتها فضحك الرجل وكان قد اعتاد أن يمر من هذا الميدان كثيرا فى مثل هذه الساعة فى طريقه الى بيته فقال هذا اعلان بنور الكهرباء عن محل رجل يهودى اسمه ديارب فضحكت من نفسى طويلا .

وفى هذه الليلة الطويلة .. كان يتخلل مناقشاتنا بعض الدعابات وتبادل الفكاهات وقد قال لى المرحوم جمال سالم فى مرة من هذه المرات التى كنا نضحك فيها ان ما يقوله أحد الاعضاء فى التعليق على مادة من مواد القانون الذى كنا نناقشه يذكره بقصة البربرى فلما سألته وما هى هذه القصة ؟وقال سأوريها لك بعد أن انتهى من مناقشة هذه المادة .

وطالت المناقشة حتى استنفدت ساعة وبعض ساعة فلما فرغنا منها استنجزت جمال سالم وعده وطالبته بأن يحكى لى قصة البربرى التى وعدنى بها فقال متسائلا أى بربرى ؟ ما هم البرابرة كثيروكان هذا الرد كفيلا بأن ننفجر فى الضحك وان نكف عن العمل بعد ذلك اذ ثبت من سؤالى .. ومن جوابه أننا لم نعد صالحين للاستمرار فى العمل .

وقد كانت هذه السهرات سببا فى اشاعة ان وزراء الثورة متقشفون .. وذلك لملابسة غير مقصودة فقد حان موعد الغداء يوما فاقترح أحد الوزراء أن نطلب بعض الطعمية والجبنى والخيار وساندوتشات الفول المدمس من قبيل التغيير من جهة وتيسيرا على موظفى مجلس الوزراء الذين كلفناهم باحضار الطعام من جهة أخرى؛

فالتقشف لم يكن مقصودا ولا هو مر بخاطر أحد فلما سئم الوزراء من الطعام الواحد وطلبوا أنواع اللحوم المشوية كانت تعليقات الناس ان الوزراء الذين بدأو بالطعمية والفول المدمس خداعا للجماهير واستجلابا لحسن ظنها كشفوا عن حقيقتهم وأكلوا الفاخر من اللحوم والفاكهة والفطائر .

ولم يخل الحال فى مجلس الوزراء من مصادمات صغيرة منحت الجلسات مذاقا حامي من ذلك أن المرحوم الدكتور عباس عمار عاتب زميله إسماعيل القباني لأنه لم يرق أحد أقاربه الاقربين وكان من كبار موظفى وزراة المعارف الى وظيفة وكيل وزارة؛

وكان الظن ان المرحوم القبانى سيرد على هذا العتاب الهادىء بأحد الاعذار التقليدية التى يرد بها الناس عادة فى مثل هذه المواقف ولكن الوزراء فوجئوا بالاستاذ القبانى يرد على زميله قائلا اننى لم ارق قريبك لأنه منافق ووجم الدكتور عباس رحمه الله واستمر القبانى بهدوء:

ان الناس تظن أننى محسوب على الدكتور طه حسين وان له افضالا على وهذا غير صحيح ثم قال القبانى ولما كنت أعرف أن قريبك مدين فعلا للدكتور طه حسين ولأنه يعلم أن بينى وبين الدكتور طه خلافا فى الرأى فقد ظن أن تبرأه من الولاء لطه حسين سيكسبه عطفى فدعانى هذا الموقف الى الاشمئزاز وقلت له لماذا تقول لى هذا أنا أعلم أن للدكتور طه أفضالا عليك ولا داعى لانكارها فان هذا لن يقربك الى ولن ترقى فى عهدى؛

وقد كان هذا القول تجديدا فى مناقشة الوزراء وفعلا لم ينل هذا الموظف الكبير خيرا فى عهد القبانى وان كان قد عوض عن ذلك فى العهود التالية حتى وصل الى منصب الوزير .

ومن هذه المواقف الحادة أن منصبا كبيرا ذا خطر خلا من شاغله ودار البحث فى مجلس الوزراء حول الاشخاص الذين يصلحون لشغله فرشح لذلك اثنان كانا بطريق الصدفة المحضة من الاصهار الاقربين الى احد الوزراء بل كان أحدهما والد زوجته مباشرة بينما كان الثانى ابن عمها فاذا بهذا الوزير يعترض على الترشيح ولا يكتفى بالاعتراض

وانما يسوق لاعتراضه اسبابا فوالد زوجته فى رأيه لا يصلح لأنه دساس وقالها بالصعيدية مقلبجى بالجيم المعطشة أما الثانى فلا يصلح لأنه ساقط المروءة وقد بلغ من سقوط مروءته أنه تحاشى زيارة عمه لما علم أنه محل سخط احدى الوزارات الحزبية قبل الثورة بل كان يتحاشى أن يتبادل معه التحية فى الطريق .

والغريب أن هذا الكلام كله نقل الى الرجلين فجاء احدهما يسألنى عن صحة ما دار فى المجلس بشأنه فقلت له ألا تعرف يا سيدى أن افشاء مداولات المجلس جريمة ؟ فقال سأرفع دعوى تعويض على الوزير الذى سبنى وسآتى بك الى المحكمة لتشهد لأنى أعلم أنك لا تكذب فقلت له ان القانون يحمينى من أداء اليمين ومن الافضاء بما دار فى جلسات مجلس الوزراء فقال وهو مرور وتقولون ثورة ؟

لقد كان قلبى معه وكنت شديد الاعجاب به عظيم الرغبة فى أن يشغل ذلك المنصب الذى كان يليق به ولكن الوزراء تأثروا غاية التأثر بشهادة زميلهم من ذوى قرباه وعدوا ذلك دليلا على اننا فعلا نعيش عهدا ثوريا .. اذ قال احدهم ونحن منصرفون .. وكأنه يعرف الحقيقة لا يليق أن تنقل الخصومات العائلية وأحقادها الى مجلس الوزراء .

وحدث ذات ليلة أن دار الحديث فى مجلس الوزراء فى شأن شغل منصب شيخ الأزهر فرشح أحدهم فضيلة الشيخ الخضر حسين لشغل هذا المنصب وكان الشيخ الخضر رجلا فاضلا وعالما واسع العلم ترك أثارا أدبية وفقهية ودروسا فى الاخلاق الاسلامية ترفعه الى مصاف الائمة الصالحين والدعاة المرشدين ولكن الرجل كان يعانى منذ صباه شللا يظهره أكبر من سنه ويبدى عجزه عن الحركة والكلام ولكن ذلك المظهر لم يكن يمث الواقع فى كثير أو قليل فقد كان الرجل حاضر الذهن شجاعا قادرا على ان يقرأ ويكتب ويدرس .

وقد رأى مجلس الوزراء أن يوفد ثلاثة من الوزراء الى بيت الشيخ الخضر ليروا ما اذا كان فى حالة صحية تسمح له بتولى هذا المنصب الجليل وكنت واحدا من هؤلاء الثلاثة وقد خرجنا من مبنى مجلس الوزراء سيرا على الاقدام الى منزله فضيلة الشيخ الخضر عليه رحمةالله وتعقب الصحفيون خطانا ونشروا لنا صورة كتبوا تحتها ثلاثة من الوزراء يخرجون من المجلس بحثا عن شيخ للازهر .

والشيخ خضر تونسى الاصل وقد حكمت عليه محاكم الاحتلال الفرنسى فى تونس بالموت فلجأ الى بعض البلاد العربية ثم القى عصا التسيار بمصر وباشر فيها نشاطا تربويا وتثقيفيا وارشاديا عظم النفع فكثر مريدوه وكانت له آثار قلمية على اقل ما يكون التأليف الاسلامى فكرا وحسن اسلوب وبساطة عبارة وصدق لهجة؛

ولم أعرف من شيوخ الأزهر الذين علمت معهم أثناء اشرافى على شئون الأزهر بوصفى وزيرا للدولة أو بعد تلك الفترة رجلا يحمل استقالته فى جيبه وكأنه المؤمن الذى لا ينتقل من مكان الى مكان الا وقد حمل كفنه معه كما رأيت الشيخ الخضر ولم يسمح الرجل لنفسه أن يساير الحكومة ولا أن يردد كلامها ولا أن يخاصم خصومها ولكن مظهره جنى عليه فحرم البلاد منه ومن علمه وفضله .

وقد كان مرد أكثر ما يقع من حدة فى المناقشة داخل مجلس الوزراء الىاسلوب المرحومين الاخوين جمال سالم وصلاح سالم الحاد والصارخ وقد وهب الله كليهما قدرة خاصة على البيان والمناقشة والجدل والسخرية مما يقوله مناظروهم ان لم يعجبهم وقد كان صلاح سالم ان طال عمره واتسعن له الفرصة مهيأ لأن يكون خطيبا متقنا لفنون القول أما المرحوم جمال سالم فكان محدثا بارعا يلتقط بسرعة المعلومات التى تلقى اليه فى مختلف الامور .

وقد حدث أن وقع بينى وبين المرحوم جمال سالم أكثر من تصادم فى مجلس الوزراء ولعل مما ساعد على وقوع هذه المصادمات أننى ورثت الاخوين سالم فى وزارتى المواصلات والارشاد القومى وقد كانت مصادفة عجيبة فقد وليت وزارة المواصلات من جمال سالم رحمه الله ثم عاد هو فتولاها بعدى وكذلك جاء المرحوم صلاح سالم بعدى فى وزارة الارشاد ثم عاد فتوليتها بعده .

ولما دب الخلاف بين الرئيس محمد نجيب والضباط الشبان وعلى رأسهم المرحوم جمال عبد الناصر استحال مجلس الوزراء الى حلبة صراخ عنيفة وكان الصراخ يتسرب من قاعة الاجتماعات الى الخارج فيسمعه الصحفيون وموظفو المجلس من ذلك الصراخ أن الرئيس نجيب ابدى يوما رأيا معينا من الامور فاعترض عليه جمال سالم فحسمها الرئيس نجيب وقال هذا امر متفق عليه بينى وبين جمال عبد الناصر فانتفض جمال سالم وصاح صارخا فى وجهه هى عزبة أبوكم أنتم الاثنين ؟

طيب ما دمتم متفقين ما تسيبونا نروح بيوتنا .. هاالله .. هالله باس اتفقنا .. أنتم فاهيم ان احنا دلادليل .. وتصاعد هياج جمال سالم .. واحتمى الرئيس نجيب بغليونه .. وبصمته .. ينفث الدخان من أولهما ويقينه الثانى من كلمة أواشارة تزيد الهياج اتقادا .

وذات يوم .. زار الرئيس نجيب وحدة من وحدات الجيش وتحدث هناك عن ضيقه باجراءات الكبت التى تعانى منها البلاد وقال انه يؤمن بوجوب اطلاق الحريات وبلغ أمر ذلك لحديث زملاءه الضباط فلما وصل الرئيس نجيب الى قاعة مجلس الوزراء وقبل أن نجلس وقف جمال سالم وصاح فى وجهه أهلا وسهلا بميرابو .. ازيك ياسى ميرابو .. حرية .. حرية ايه اللى أنت عايزها ؟

وأسرع صلاح سالم فانضم الى اخيه فى الهجوم على نجيب ولم يتوقف صياح الاخوين الا بعد وقت غير قليل .وكان الدكتور محمود فوزي فى جميع هذه الجلسات الصاخبةوالهادئة معها صامتا لا يتكلم ولا يبدى رأيه فى شىء ولا يحدث حتى زملاءه الجالسين الى جانبيه وفى ذات ليلة نظر جمال سالم الى الدكتور فوزى وهو غارق فى صمته سابح فى أفكاره وقال له يا بختك يا دكتور فوزى بأعصابك ولا انت هنا ما تدنيش شوية من اعصابك دى وتاخذ نص عمرى .

وكان للرئيس جمال رحمه الله عبارات تقليدية يكررها فى المجلس ويضحك عليها كما كانت له تقاليد يحافظ عليها .. وأول هذه التقاليد أن يأتى متأخرا عن موعد افتتاح الجلسة ساعة ونصف ساعة أو ساعة على الاقل وذات يوم وكان عبد الناصر قد اعلن أن هناك اجتماعا فى اليوم التالى فى الساعة السادسة سالمة كمال الدين حسين ستة يا ريس يعنى ستة .. والا سبعة؟فضحك عبد الناصر وقال لا يا كمال ستة يعنى ثمانية وضحك بطريقته الخاصة .

وكان من عباراته التقليدية أن يسأل المرحوم الاستاذ أحمد حسني وزير العدل كلما عرض على المجلس قانون واين الخطاب المسجل المصحوب بعلم الوصول؟ فقد لاحظ رحمه الله أن كل قوانين وزراة العدل فيها نص فى مادة من مواد هذه القوانين يلزم المواطنين بارسال اخطار بخطاب مسجل مصحوب بعلم وصول فاذا خلا قانون من هذه النص داعب جمال وزير العدل قائلا جرى ايه فى الدنيا هذا قانون بلا علم وصو ل هل يستقيم؟

وكان يطلق على الموظف الصغير الذى يملك أن يعطل أى أمر صادر من سلطة أعلى بوسائله البيروقراطية اسم عبد السميع افندى وكان جميع ضباط الثورة قد حفظوا هذا الاسم وجرى على السنتهم فأصبح عبد السميع افندى نظير المصرى افندى فى الصور الكاريكاتورية فى صحف مصر ولكنه رمز على الموظف المصرى الصغير البارع فى التعطيل والارجاء والتسويف .

وكان رحمه الله يروى أحيانا بعض فكاهات غير مضحكة ثم يكون هو أول من يضحك عليها من ذلك ما قاله من أن مؤتمرا عقد للنظر فى النحل ودراسته فقدم من الإنجليز بحث فى طبائع النحل وقدم الفرنسيون بحث فى الحياة الجنسية للنحل وقد الألمان بحثا فى تحليل عسل النحل ومركباته أما المصريون فقد صاحوا النحل ياهوه .

وقد عاتبته يوما على هذه الفكاهات التى يروجها ضد المصريين خصومهم .. مع أن المصريين القدماء كتبوا عن النحل وعسله وفوائده منذ الاف السنين فقال يا سلام على الحزب الوطني مش مخلى الناس تضحك وحيخليهم يقولوا بحق النحل ياهوه .

وعندما كنا نناقش دستور 1956 داعيته مرتين مداعبة استدعاها الحديث فرفض رفضا باتا أن يضحك على كليهما لأن الأولى فيهما تمسه ولأنه لم ينتبه الى موضع الفكاهة فى الثانية .. فضايقة ذلك .

وقد كانت مناسبة المداعبة الأولى نصا واردا فى دستور 1956 يقول ان وفاة رئيس الجمهورية تثبت بأغلبية اصوات مجلس الامة فعارضت فى النص على اساس ان الوفاة واقعة مادية لا تثبت بأصوات النواب وانما الذى يثبت هو اعلان خلو منصب الرئيس فقد يكون الرئيس مخطوفا أو ماسورا وطال الجدال فى هذ النقطة بينى وبينه فقلت له على كل حال أنا موافق لأنه اذا لم يصوت النواب عند وفاة رئيس الجمهورية فمتى يصوتون فزم الرئيس شفتيه مستاء وقال طيب يا سى فتحى .

وفى المناسبة الثانية فى جلسة اخرى احضر الرئيس معه الدستور الصينى واثنى عليه فقلت له ولكنه سهل الكسر فغابت عنه النكتة وقال سهل الكسر لماذا ؟ فقلت له لأنه صينى فعقد ما بين حاجبيه وفكر قليلا فلما ادرك النكتة اشاح بوجهه وابى أن يضحك .

الفصل الرابع:عبد الناصر وقناة السويس

فى السادس والعشرين من يوليو 1956 وفى ميدان المنشية بالأسكندرية أعلن جمال عبد الناصر فى اجتماع شعبى ضخم امتلأ به الميدان الفسيح المترامى بألوف المصريين ومئات الاجانب أنه أمم قناة السويس؛

وكان هذا الاعلان زلزالا حقيقيا فى عالم السياسة الكبرى الذى يديره ويشرف عليه ويستأثر باصدار القرارات فيه ونقضها جماعة تحيط بها هالات الرصانة والاهمية والعظمة من امثال تشرشل وايدن و ايزنهاور فلقد كانت قناة السويس منذ ولدت لعبة الكبار جدا..

كانت لعبة بريطانيا وفرنسا وروسيا وبروسيا والنمسا وتركيا فما الذى حدث حتى يجرؤ شاب لم يكمل الاربعين من عمره ورئيس دولة لم يخرج آخر جندى من جنود الاحتلال البريطانى من ارضها الا منذ أقل من شهرين وبالضبط يوم 18 يونيه 1956 ما الذى حدث حقا حتى يجرؤ هذا الشاب على ان يطأ بقدمه هذا الحرم المقدس ويقول انه ينتزع من ايدى اكبر القوات فى الدنيا هذا المرفق الحيوى الذى ولد وسط الازمات وعاش مصدرا للازمات الدولية وتضخم واغتنى وعظم أثره أيضا بالازمات الدولية؟

وصل النبأ الى رئيس وزراء بريطانيا مستر ايدن بينما كان يحتفى بعجوز السياسة العربية البريطانية نورى السعيد فكاد فنجان القهوة يسقط من يده وانفض الحفل فى وجوم وذهب كل من المضيف والضيوف الى حال سبيله فى هم شديد كأنهم قد فقدوا جميعا الاباء والابناء والاخوة والاخوات والثروة والجاه .

وبعد أن ذهب الروع عن ساسة أوربا خيل اليهم أن انتزاع القناة من أيديهم وبقرار لم يسمعوا بمثله من قبل ومن شاب لم يطل عهده بالمسرح الدولى سيكون لعبة من أمتع لعب السياسة التى باشروها فى تاريخ حياتهم الطويل قالوا بعضهم لبعض ان هذا الشاب يعيب وقد آن الاوان للتخلص منه واراحة العالم من عبثه الذى لن ينتهى حاولوا أن يستعيدوا قناة السويس بكل طريقة متاحة له بالتهديد وبالوعيد فلم ينجحوا .. بالمؤتمرات الدولية .. ففشلوا بالمظاهرات البحرية فلم ينضم اليهم فى تدبيراتهم أحد وعلى ذلك لم يبق أمامهم الا الحرب .

ولم يحل وقار بريطانيا وفرنسا وكونهما دولتين شابت راساهما فى تدبير أمور السياسة .. دون أن تعلنا الحرب على مصر ويأمرهما ويأمرا إسرائيل فى الوقت نفسه بأن تبتعد جيوش كل منهما عشرة كيلو مترات عن قناة السويس؛

والعجيب أن جمال عبد الناصر لم يفزع من كل هذا ولم يصدق أن بريطانيا وفرنسا يمكن أن تشتركا معا فى حرب ضده وان الخطر الوحيد الذى يعتبر احتماله قويا هو ان تشن إسرائيل الحرب على مصر وكان يعتقد أن مصر كفء لها ولا خوف من حرب معها ولم يقل جمال عبد الناصر هذا الكلام بلسانه .. بل قاله بفعله ..

كان مجلس جامعة الدول العربية منعقدا فى القاهرة وأزمة قناة السويس فى بدايتها وأقام جمال عبد الناصر حفلة عشاء لوفود الدول العربية فى هذا الاجتماع .. واختار استراحة الهرم التى كان الملك السابق فاروق قد أقامها لنفسه على مقربة من الاهرام وابى الهول وبعد العشاء جلس الاعضاء يطلون من ربوة الاهرام العالمية على القاهرة وأنوار شوارعها ومسارحها تتلألأ وتنتظم عقودا باهرة وهبت نسائم الصحراء الرقيقة الباردة؛

فأحالت الجلسة حلقة سمر لطيفة ولكنها لم تطل اذ كان أعضاء الوفود حريصين على أن يستمتعوا بليالى القاهرة لحسابهم وعلى مزاجهم وبقى عبد الناصر مع عدد من وزرائه يسمر ويضحك ويداعب وكان معاونوه يترددون عليه ويسهمون فى اذنه بأشياء فيستمع حيدا للحظات ويعقد حاجبيه كعادته ثوانى ثم يعود الى مرحه؛

وأخيرا لاحظ أن الوزراء يودون أن ينصرفوا فقال يبدوا أن الجلسة طالت علينا اتفضلوا فسيذهب كل منكم الى بيته أما أنا فسأذهب وحدى الى مجلس قيادة الثورة فى الجزيرو فعائلتى فى الأسكندرية وبيتى يملؤه النقاشون والمبيضون .

وذهب كل منا الى داره وهو لا يدرى أن عبد الناصر قد تلقى هذه الليلة بالذات أخطر الأنباء .. وأكثرها ازعاجا ..

الاسطول البريطانى .. يتقدم

من ذلك .. نبأ الاسطول البريطانى الى ميناء الأسكندرية على شكل مروحة وكان معاونو عبد الناصر يبدون دهشة ممزوجة باحتجاج على انه يتلقى هذه الانباء بأعصاب باردة وبمزاج حسن وأنه لا يود أن يفض هذه الجلسة غير المهمة ليتلقى تفاصيل هذه الأنباء ويدرسها ويمحصها ويصدر فيها قرارا لقد أعلن عبد الناصر هذا السر بعد ذلك بشهور عندما انتهت أزمة القناة كلها وبدأت الحملة السياسية التى أعقبتها

وقد أذاع عبد الناصر هذا السر ليبين للعالم كيف أنه استعد تماما ونهائيا أن تهبط بريطانيا وفرنسا الى مستوى هذا العبث الصبيانى وأن يشتركا معهما إسرائيل فى مؤامرة حقيرة لم يجرؤوا حتى اليوم على الاعتراف بأنهم اشتركوا فى تدبيرها .

ولكن حدث بعد ذلك ما بدد اطمئنان عبد الناصر وبدله بالسكينى جزعا فقد أقدمت بريطانيا وفرنسا على غزو دون أن يقيما للأمم المتحدة ولا للرأى العام العالمى أى وزن ولم يقفا عند حد التهديد بانزال جيوشهما على ارض مصر بل ذهبا الى ابعد من ذلك فأنزلا هذه الجيوش بالفعل؛

ثم اتضح أن للدولتين العظيمتين خطة كاملة للاستيلاء على القناة ومدنها وأن هذه الخطة درست تماما الى حد الحليفتين طبعتا أوراق بنكنوت مصرية مزيفة بطبيعة الحال لتوزيعها فى بور سعيد والإسماعيلية والسويس وما حول هذه المدن لا ليشتروا البضائع والسلع ومواد الطعام فقط؛

بل ليشتروا ايضا الذمم والرضاء السياسى هكذا توهم البريطانيون والفرنسيون فهم لا يعرفون للاسف أخلاق العرب والشرقيين اذا وجدت على رأسهم قيادة تقودهم الى ميادين شرف حقيقية ... وفاروق جاهز

بل ان الخطة كانت أوسع من ذلك بكثير فقد دخل فى تفاصيلها أن يستعد فاروق لتنقله بارجة انجليزية الى مصر او على الاقل هذا ما اذيع بعد ذلك .

وخيل لعبد الناصر أن كل احلامه قد طارت فى الهواء وان جهاد ست سنوات فى سبيل اقامة نظام وطنى جديد قد تهاوى وتبخر ولكنه بقى يؤمل فقد ارسل الى السفير الامريكى والى السفير الروسى يسأل كلا منهما ماذا سيكون موقف بلديهما من هذا الغزو ؟ هل سيكون مجرد الفرجة والاكتفاء بالاعلان من الاحتجاج والاشمئزاز والرفض ؟ وذهب السفير الامريكى بوعد أنه سيتصل بحكومته ولكنه لم يعد لا بخير ولا بشر ..

أما السفير الروسى فقد كان أكثر صراحة اذ قال ان موقفنا مع مصر معناه دخول الاتحاد السوفيتى فى حرب عالمية ثالثة ولا أحسب ان الاتحاد السوفيتى مستعد الان لدخول مثل هذه الحرب والقرار فيما أفضيت به الى الان لا تصدره الا الزعامة السوفيتية فى اعلى درجاتها والزعامة السوفيتية بطيئة فى مثل هذه الامور غاية البطء لأنها عادة تدرس كل التفاصيل والتفاصيل فى مثل هذه المواقف معقدة وكثيرة وتأتى من مصادر مختلفة وقد تتناقض هذه المصادر بعضها مع بعض وترك عبد الناصر وحده ..

قبل أن تتأزم الأمور

ولكن حدث قبل أن تتأزم الأمور أن افتتحت شركة مصر للطيران خطا جويا جديدا بين القاهرة وروما ووجهت الدعوة الى الوزراء ليشتركوا فى افتتاح هذا الخط فى اليوم المحدد وقالت الدعوة انه لم يتيسر للوزير المشاركة فى يوم الافتتاح فالدعوة مفتوحة؛

وكانت مصلحة السياحة آنذاك تتبعنى بوصفى وزيرا للارشاد القومى فبدا لى أن سفرى الى روما فى تلك الفترة هو عمل سياسى جيد فالمناسبة التى اسافر فيها هى مناسبة حقيقية وغير مفتعلة وهى مناسبة معلومة لجميع اطراف السياسة العالمية اذا اهتمت بها هذه الاطراف؛

وسيكون فى وسعى أن اتصل بدوائر السياسة فى روما تحت ستار أنى وزير فنون وسياحة وبالفعل ذهبت الى عبد الناصر بعد جلسة من جلسات مجلس الوزراء وقلت له اننى سأسافر الى روما بقصد الوقوف على جلية الموقف الدولى وروما مكان جيد للاستطلاع فقد كانت ميالة الينا فى مسألة القناة وهى غير مشاركة فى وقائع الحرب ضدنا وبهذا تفتح مكانا هاما للاتصالات .

انصت عبد الناصر الى هذا الكلام ولاح على وجهه أنه قد سره انى فكرت فى هذا وتناولنا بعض التفاصيل الى ان ودعنى وتمنى لى التوفيق والامر الذى قد يحسن أن أذكره أننى لم الاحظ عليه انشغال بال ولا توقعا لشر ولذلك كانت حماسته مصدرها سروره باهتمامى بالتطورات وموقف مصر عموما وليس احساسه بضرورة مثل هذه الرحلة أو بالحاجة الى القيام باى استطلاع كان .

وسافرت الى روما وأعلنت حسب الخطة الموضوعة أننى ات لاجراء العديد من الاتصالات الثقافية والفنية ولتنشيط الحركة السياحية بين مصر وايطاليا والوقوف على وسائل الدعاية السياحية فى ايطاليا التى يبلغ الدخل السياسى فيها رقما هائلا .

وتلقفت وكالات الانباء هذا التصريح واذاعته فى اربعة اركان المعمورة وكأنها تقول مفهوم أنت آت لغرض ولكنك تعلن عن غيره .وفى اليوم التالى لوصولى تلقيت نبأين أحدهما فكاهى والثانى يرى مدى اتساع الفرص وتعددها أمام الساسة الذين يريدون أن يعملوا فى الساحة الدولية ويخرجوا من دورهم الىالعالم الفسيح .

أما النبأ الفكاهى فخلاصته أن الملك السابق فاروق بلغه نبأ وصولى الى روما كان فاروق قد عاش ايامه الاخيرة فى مصر وليس لديه الا هم واحد هو اننى سأقتله وقد بلغ من شدة ايمانه بهذا الوهم أنه صرح به لرئيس وزرائه نجيب الهلالي باشا عند قيام نجيب باشا بأداء اليمين الدستورية بمناسبة تأليف اخر وزراة قبل قيام الثورة؛

اذ كان من شروط نجيب باشا الهلالى أن يفرج عنى وكنت معتقلا تنفيذا لحكم مجلس الدولة فقال الملك وهو يستقبل رئيس وزرائه تفرج عن فتحي رضوان بس اياك ما يموتكش والعهدة فى هذه الحكاية على فريد زعلك باشا أحد وزراء نجيب الهلالي الذى رواها لى بنفسه ..

المهم أن فاروق بلغه أننى وصلت الى روما فخيل اليه أنه ليس لمجيئى الى هذا البلد الا هدف واحد فقط هو أن اشرف على تنفيذ حكم الموت فيه ففر من روما ومعه حراسه الشراكسة فقلت يومها ما أكثر ما فى الحبس من مظلومين .

أما الامر الثانى فهو أن جنرالا سابقا فى جيش ايطاليا اسمه الجنرال كوستا طلب عن طريق السفارة المصرية فى روما أن يقابلنى فحددت له موعد فى فندق المتربول الذى كنت أقيم فيه وقد افضى الى هذا الجنرال الذى تبينت أنه فاشستى عريق ومتحمس بأن لديه معلومات تؤكد أن بريطانيا وفرنسا تعدان العدة لحملة عسكرية ضخمة ضد مصر؛

وان بريطانيا بالذات انتهزت فرصة تأميم مصر لقناة السويس وقررت أن تستعيد جميع الاراضى التى فقدتها فى الشرق العربى بسبب السياسة الامريكية وعلى وجه التدقيق بسبب سياسة دالاس التى يقرها ايزنهاور ويباركها ولما كان الفاشيست الطليان لا يعرفون لهم انذاك اى سنة 1956

عدوا وأنهم لم يعرفوا لهم فى الماضى ايضا عدوا الا بريطانيا فانهم يودون ان يبلغوا مصر فى شخصى أنهم مستعدون ان يحاربوا معها وانهم قادرون على ان يضعوا فى خدمتها كتيبة كاملة مجهزة بالاسلحة الحديثة والجيدة ومدربة أحسن تدريب ولن يكون هذه الا مجرد بداية وان الحرب اذا طالت فستجد مصر مثل هؤلاء المتطوعين من فرنسا والمانيا وغيرهما ..

وراح الجنرال الايطالى يدلل على ان الحرب واقعة لا محالة وانه مستعد لأن يوافينى بالكثير من الادلة والتقارير وشكرته على حماسته ولم ارد أن اذهب معه فى الحديث الى ابعد من هذا المدى اذ كانت تعوزنى الاجهزة التى تستطيع أن تطلعنى على اتصالات هذا الجنرال الفاشيستى ودوافعه ..

ولما تقابلت مع اعضاء السفارة المصرية ودار الحديث حول توقعاتهم كانوا جميعا متفائلين ما عدا المستشار العسكرى محمد شكري الذى اصبح فيما بعد سفيرا لمصر فى كندا فقد قال لى مقاطعا وجازما ان بريطانيا تحضر للحرب لا محالة فان ما تنفقه فى تحريك قطع اسطولها ليس بالقليل والدول لا تنفق الملايين على مظاهرات بحرية فهذه بالقطع استعدادات للحرب وليست مظاهرات للتهديد .

وعدت من روما بعد ما سمعته من هذا وذاك ومما قرأته من الاتصالات الاخرى السريعة وقد تعجبت ان منها ما كان مع مجرد أمين لمتحف فى الفاتيكان الذى انحنى حينما رأى أن رباط حذائى قدد فك وأننى كدت أتعثر فيه؛

وقال وهو منحن وبصوت خافت جدا سيدى الوزير استعدواالحرب قادمة لا محالة ثم اعتدل وبسط قامته وقدم لى بطاقة وقال فى ادب جم اكسلانس اذا كان لا يزال لديكم وقت فى روما وترغبون فى زيارة اخرى للفاتيكان فهذا هو رقم تليفونى ويمكن لسكرتيركم أن يتصل بى فسأكون سعيدا اذا استطعت أن اقدم لكم خدمة .

وفهمت الاشارة جيدا ولكن عجبت أن يكون هذا كلام موظف فى الفاتيكان أيكون فاشستيا هو أيضا؟وعدت الى القاهرة .. وسمعت وانا لا أزال فى المطار بشيئين فقد اخبرنى أمين الوزراة أن الوزير السابق صلاح سالم كتب فى جريدة الشعب التى كان يرأسها مقالا قال فيه أين ذهب وزير الارشاد القومى فى هذه الازمة المستحكمة لعله ذهب الى روما ليصلح بين جينا لولو برجيدا وبين صوفيا لورين .

ولم اغضب لهذه الاشارة الجارحة بل لقد سرنى حقيقة أن أرى شيئا من الحيوية قد دب فى الصحافة ولكن الذى أغضبنى حقا أننى علمت فى اليوم التالى من احد زملائى وأصدقائى أن عبد الناصر جاء الى جلسة مجلس الوزراء التالية مباشرة لسفرى وسأل اين وزير ارشاد القومى ؟

وما كدت اسمع هذا الكلام حتى فار فى رأسى وذهبت اليه فورا فى مكتبه وقلت له:هل قرأت مقالة صلاح سالم عنى ؟ فقال بعد أن سرح لحظة:عرفت بها قبل نشرها وأضاف بل قبل كتابتها .. قلت له ذلك يعنى أن سيادتك أوحيت له بها .. لا ..

ولم أنتظر أن يكمل تعليقه فقلت له : يا سيادة الرئيس لقد سافرت الى روما بعد أن استأذنتك وبعد أن اتفقنا على الغرض من هذا السفر فقال : ولكن المدهش أنك اعلنت عندما وصلت الى روما أنك قادم اليها لأمور فنية فقلت له بصوت عال : وهذا بالضبط ما كنا اتفقنا عليه ..

وأعدت عليه وبالحرف الواحد ما كنت قد قلته له قبل سفرى .. فلاذ بالصمت .ثم استعان بسيجلرة وراح يشد الانفاس منها بشدة كعادته .. ثم اخذ يهز ساقه وكانت هذه علامة من علامات عصبيته ..

وبعد فترة صمت بيننا قلت له: المهم فلننس الان فتحي رضوان ونتحدث فيما هو اهم من هذا بكثير فادار رأسه نحوى ببطء شديد وقال : خير .. فقلت له : اننى بت الان اميل كثيرا الى الاقتناع بأن الحرب قادمة حتما فنظر الى نظرة طويلة صامتة ثم لوى شفتيه وقال : جائز .. ثم سارت الامور فى تعاقبها وتواليها مندفعة ومحمومة ..

الفصل الخامس:غاندى يمنع عبد الناصر من السفر الى لندن

كانت اولى برقيات التأييد التى تلقتها قيادة الثورة فى صباح يوم الثالث والعشرين من شهر يوليو سنة 1952 هى البرقية التى ارسلها المرحوم الدكتور رشوان فهمي استاذ طب العيون بجامعة الأسكندرية؛

فرأى جمال عبد الناصر أن من حق هذه الجامعة بسبب هذه البرقية أن يخصص لها يوم 26 يوليو من كل عام ليكون يوم الجامعيين ويوم الأسكندرية ويوم عزل الملك فاروق فى وقت واحد واستقر هذا التقليد فلم يأت يوم 26 يوليو فى اية سنة الا وقصد قائد الثورة مدينة الأسكندرية والقى فيها خطابا سياسيا فى المساء بعد أن يكون قد زار جامعة الأسكندرية فى الصباح .

ولم يحدث فى يوم 26 من يوليو سنة 1956 أى خروج على هذا التقليد فقد توافد الوزراء على مدينة الأسكندرية فى انتظار خطاب المساء التقليدى .. وكانت الحكومة فى طريقها الى الإشتراكية فقد اعلنت البورصة التى كانت تمارس اعمالها فى نمبنى قديم وعريق بأكبر ميادين أكبر موانى مصر وأعنى به ميدان المنشية الذى ظل يطل عليه تمثال محمد على مؤسس الاسرة المالكة التى انتهى وجودها فى يونيه سنة 1953 .. بعد عام من النزاع المملوء بالريب وبالشكوك .

ولكن الوزراء تلقوا على غير العادة دعوة لأن يذهبوا الى منزل جمال عبد الناصر فى رمل الأسكندرية ليخرجوا معه الى ميدان المنشية حيث يلقى خطابه من شرفة مبنى البورصة التى اغلقت ابوابها وفضت اعمالها وتصور الوزراء أن الدعوة يتفق ظاهرها مع باطنها أو انها لا باطن لها فالطبيعى أن يجتمع الوزراء مع رئيسهم ورئيس الجمهورية ..

وأن يذهبوا جميعا فى موكب واحد فاذا كان ذلك لم يحدث فى الماضى فلا بأس من أن يدخل على اسلوب الاحتفال بيوم 26 من يوليو شىء من التغيير ولم يكن للرئيس عبد الناصر فى الأسكندرية بيت لقضاء فصل الصيف فيه لذلك استأجر قصرا فى حى الرملة وقد شاءت الصدفة ان يكون هذا القصر هو نفس القصر الذى كان يشغله الرئيس إبراهيم عبد الهادي أحد رؤساء الوزارات قبل الثورة ورئيس الهيئة السعدية فى الوقت نفسه واحد كبار الساسة الذين حاكمتهم الثورة وقضت عليهم احدى محاكمها بالموت؛

ثم عاد فخففت الحكم الى الاشغال الشاقة المؤبدة ثم اطلق سراحه بعد أن اختفى الساسة القدامى من ميدان الحياة العامةاختفاء كليا مؤثيرين السلامة والعافية وكأنهم ادركوا ان الدنيا تغيرت فعلا وأنه لم يعد لهم فى هذه الرؤية السياسية الجديدة التى تختلف فى الشكل والتفاصيل عن روايات العهد الملكى دور يلعبونه ولم يدر بخلد أحد من الوزراء انهم سيسمعون نبأ يعد من اخطر انباء القرن العشرين كله لأنه يتصل بأخطر شريان مائى وأهم طريق للتجارة الدولية الا وهو قناة السويس .

وتجمع الوزراء .. وكل منهم فى حالة عادية فلم يكن فى الجو الداخلى ولا الخارجى ما يدعو الى الانقباض أو التوجس وجاء جمال عبد الناصر ليأخذ مكانا فى البهو الطويل الضيق الذى انعقد فيه اجتماع الوزراء غير الرسمى وبدأ يتكلم فاستمع اليه الوزراء وغيرهم من الضباط وكبار الموظفين الذين تقضى عليهم وظائفهم أن يشهدوا هذا الاجتماع ..

ولكنه ما كاد يكمل جملتين من حديثه الا وأدرك الوزراء أن هذا الاجتماع الذى بدا عاديا وبريئا انما هو اجتماع له ما بعده أما ماذا يكون بعده ؟ فأمر لا يعلمه الا الله فقد أعلن عبد الناصر للوزراء أنع أعد وثائق تأميم قناة السويس وأنه سيعلنها بعد خطبته وقال ان دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة قد بالغ فى الاساءة الى مصر حينما أعلن رفض تمويل مشروع السد العالى مقرونا باعلان سوء حالى الاقتصاد المصرى وعجزه عن النهوض بهذا المشروع .

ولا يخالجنى ادنى شك فى ان الوزراء وجميع الذين كانوا فى ذلك البهو قد شملتهم سعادة غامرة عندما سمعوا هذا الاعلان الخطير فقد كانت قناة السويس بماضيها الحافل بالماسى وكانت شركاتها القائمة على ارض مصر والمستغلة لمياهها قرحة ملتهبة فى جسم مصر يشعر كل مصرى لها بالالم والعار؛

ولا أظن أن أحدهم استطاع أن يخيل أن هذا التأميم سيجر ما جره على مصر وعلى الثورة كلها من اعلان حرب دولية ضد مصر وانزال الاساطيل البريطانية والفرنسية العتيدة جيوشها على ارضنا فى بور سعيد ثم زحفها فى طريقها الى القاهرة متآمرة فى ذلك مع إسرائيل وكأنها ند لهما فى القوة والمكانة ودون أن يشعر قادة الدولتين الكبيرتين بالخجل .

هل تشعرون بالذعر؟

ولكن الغريب أن جمال عبد الناصر ترك الحاضرين من وزراء وغيرهم واتجه بوجهه نحوى وسأل هل شعر احدكم بالذعر .. هل شعرت يا فتحى بالذعر ؟

وصعد الدم الى رأسى فقد شعرت باهانة بالغة ولا مبرر لها من هذا االتساؤل أو السؤال فلعلى كنت الوحيد بين الحاضرين الذى كتب عن تأميم قناة السويس قبل الثورة ونشرت فى صحيفة اللواء الجديد عنوانا بعرض الصفحة تأليف لجنة وطنية لدراسة تأميم قناة السويس على انى كنت قد فعلت شيئا آخر بوصفى وزيرا للارشاد القومى ومشرفا على الاذاعة فقلت للرئيس جمال ولماذا أنا الذى أشعر بالذعر؟

لقد اذعنا طوال الشهر الحالى مسلسلة اذاعية بعنوان اسماعيل المفتش ذكرنا فيها المصريين بمأساة بيع 176 الف سهم من اسهم قناة السويس كانت تملكها مصر وقد باعها الخديوى اسماعيل بمبلغ أربعة ملايين جنيه لحكومة بريطانيا استدانها اللورد دزرائيلى من يهودى مثله هو اللورد روتشيلد دون استئذان مجلس الوزراء .

فقال عبد الناصر سيقولون فيما بعد انك كنت تمهد لقرار التأميم فقلت وانا لا أزال اشعر بحدة الغضب لقد أصدرنا كتيبا بعنوان أضواء على قناة السويس نقدنا فيه بشدة ما تروجه دوائر الغرب من أن مساهمة مصر فى حفر واعداد وتنفيذ مشروع قناة السويس كان بالايدى العاملة الرخيصة فقط واثبتنا أنه كان فى اوراق وملفات حكومة مصر دراسة كاملة من الناحيتين الهندسية والطبوغرافية لمشروع حفر قناة السويس تمت فى عهد محمد على وساعهم فيه المهندسون والمساحون المصريون مساهمة علمية ذات شأن .

فسرح عبد الناصر بخاطره وقال وأين هذه الدراسة ؟ فأجبته عندنا فى مصر وقد عرضناها للبيع وراجت كثيرا فقال حسنا ارسل لى واحدة منها فقد نحتاج اليها فى المستقبل ثم نظر الى الاخرين وقال هل لدى احدكم تعليق أو سؤال ؟

فقلت عندى انا وقبل أن يرد عبد الناصر قلت له أنا فاهم من كلام سيادتك الان انك تنوى أن تقول انك أممت قناة السويس ردا على كلام دالاس واهانته لنا واعتدائه على سمعة اقتصادنا فتجهم عبد الناصر وقال مندهشا اذن ماذا تريدنى أن اقول ؟ فقلت مندفعا قل كل شىء دون أن تربط تأميم القناة بسحب الغرب تمويله لمشروع السد العالى .

لكن عبد الناصر ضاق بهذا الكلام وقال غريبة وماذا فى هذا ؟ فقلت له ان ربط الامرين معا وان كانا فى الواقع متصلين له معنيان وكلاهما سىء فاعلاننا بأننا أممنا قناة السويس لأن دول الغرب سحبت تمويلها للسد العالى فيه اضعاف لحقنا فى الـأميم فقناة السويس مرفق مصرى وشركة قناة السويس هى شركة مصرية وخاضعة للقانون المصرى وعلى ذلك فحقنا فى تأميم الشركة واخضاع المرفق للادارة المصرية المباشرة؛

انما هو من حقوقنا المطلقة هذا من جهة ومن جهة أخرى فان تصريحنا بأننا نؤمم قناة السويس ردا على امريكا وانجلترا وفرنسا معناه أننا نتخذ من قناة السويس التى تخدم الملاحة والتجارة الدولية وسيلة لعقاب وتأديب الدول التى نختلف معها وهذا سيتيح لدول الاعداء أن يتخذوا من هذا الاعلان مادة للتشهير بنا وتخويف العالم من ادارتنا لقناة السويس التى تتأثر بنوازعها وربما بنزواتنا القومية .

والى هنا كان صبر عبد الناصر قد نفذ وخيل اليه أننى اريد أن أملى عليه اتجاها معينا فقام وهو يلوح بذراعيه مسرعا تجاه دورة المياه وهو يقول أنا عارف ماذا سأقول .. سأغسل وجهى أولا .

وخرج عبد الناصر مبتهجا واثقا من نفسه سعيدا بأنه سيطلع على العالم بما سهزه وبما سيجعل اسمه على كل لسان فى الشرق وفى الغرب على السواء .

والغريب فى الامر أنه قبل هذا اليوم بأيام قليلة كنت قد أعددت مذكرة لعرضها على مجلس الوزراء ولم يكن لى أى فضل فى التفكير فى اعداد هذه المذكرة فقد حدث أن المرحوم المهندس طراف علي وزير المواصلات السابق ومندوب مصر لدى شركة قناة السويس أو ممثلها فى اللجنة الهندسية التابعة لمجلس ادارة الشركة مر على مكتبى فى وزارة المواصلات ومعه احدى الصحف البريطانية وفيها نبأ منقول عن جريدة هندوستان تايمز وهى صحيفة ذان نفوذ كبير فى الهند لاتصالها بأكبر دوائر المال فى بريطانيا والولايات المتحدة؛

وقد تضمن هذا النبأ أن شركة قناة السويس قد فرغت من اعداد عدد من المشروعات التى تهدف الى توسيع القناة وتعميقها وتزويدها بجهاز جديد للاشارات الكهربية الى جانب مشروعات لمساكن للعمال فى الشركة والموظفين وقال لى المرحوم المهندس طراف علي ان اقدام شركة القناة على هذه المشروعات الضخمة والمكلفة قاطع الدلالة على ان الشركة تطمئن الى ان امتيازها لن ينتهى فى سنة 1968 أى بعد سنة فقط .

وبالفعل اعددت مذكرة بهذا المعنى وأوشكت ان اطلب سكرتارية مجلس الوزراء توزيعها على الوزراء للتداول فيها ثم عدلت المذكرة ثم عدلت نهائيا عن تقديمها ذلك لأنى استصوبت ألا يكون لتفكيرنا نحن فى مستقبل القناة أى أثر فى اوراقنا حتى لا تنتبه الشركة ودوائر الاستعمار المؤيدة لها لما نعده من مشروعات مضادة واثرت ان احدث عبد الناصر وحده فى هذا الشأن؛

فحدثته وسلمت له الصحيفة التى سلمنى اياها المرحوم المهندس طراف علي ولكن عبد الناصر استمع الى الامر بغير اكتراث وتسلم الصحيفة بقدر كبير من اللامبالاة ولولا الحياء الذى كان صفة من ابرز صفاته لما مد لى يده ليأخذها أكان هذا تمثيلا امعانا فى التكتم واخفاء النوايا ؟ أم أن الامور لم تكن قد اتضحت فى ذهنه بعد فكان الكلام فى قناة السويس لا يبعث على النشاط ولا الاهتمام ؟

قنبلة شديدة الانفجار

وصلنا الى شرفة مبنى البورصة ووقف جمال عبد الناصر يتكلم بأسلوبه الذى تميز به خلال ثمانى عشرة سنة والذى كان مزيجا من العربية الفصحى فى مطلع الخطبة وفى الفقرات الافتتاحية لاجزاء الخطاب وفصوله الرئيسية ثم بعد ذلك العامية المطلقة مع ميل الى التكرار والاطالة ولكن الجماهير لا فى مصر وحدها بل فى بلاد العرب كلها شرقا وغربا احبت هذا الاسلوب لم يكن فى وسع أى عربى حتى رعاة الابل فى قلص الصحراء أن يعرف أن عبد الناصر ليسمع وينتشى وان لم يفهم احيانا بعض الذى يسمع .

وجلست فى الصف الذى يلى عبد الناصر اجيل النظر فى الميدان الفسيح ميدان المنشية وقد امتلأ حتى حوافيه بالناس صفوفا صفوفا وهبت نسمات من البحر العريق بحر الحضارات والثقافات وارسالات بحر العرب والروم والرومان والعثمانيين والاتراك واخيرا الانجلوسكسون والفرنجة ولم يكن هذا البحر يبعد عن الميدان الا امتارا واخذت اتأمل هذه الجموع الحاشدة التى لا تدرى شيئا عن المفاجأة المذهلة التى يخبئها لهم عبد الناصر والتى سيلقى بها بين صفوفهم وكأنها قنبلة شديدة الانفجار .

وراح عبد الناصر يروى مواقف الغرب من مشروع السد العالى وما قاله له اوجين بلاك مدير البنك الدولي وقال أنه كان يرى فى اوجين بلاك صورة فردناند دليسبس الذى احتال على سعيد باشا والى مصر حتى استصدر منه فرمان أو مرسوم امتياز فتح قناة السويس سنة 1854 مع ما فيه من شروط مجحفة بمصر؛

وأوجه الشبه بين أوجين بلاك ودليسبس ليست قوية الا من حيث أن كلا منهما يمثل الغرب الطامع فى اموالنا وثرواتنا ومركزنا الدولى فى حرصه على اخضاعنا لنفوذه واذعاننا لأوامره وكراهيته لاستقلالنا وازدهارنا ونمونا .

وكرر عبد الناصر اسم بلاك فى تلك الخطبة التاريخية حقا ولما كان بلاك بالانجليزية معناه اسود بالعربية فان بديهة ام كلثوم فيما يسميه المصريون القفش أى اصطياد اللمحات الطائرة وهدتها الى القول ان عبد الناصر خللى ليلة امريكا بلاك فى بلاك أى أنه خللى ليلتهم سوداء .

واخيرا وصل عبد الناصر الى النقطة التى اعلن عندها القرار الجمهورى بتأميم قناة السويس وما كاد نقرأ اللفظ الأول من عنوان القرار الجمهورى حتى اصابت الناس هزة عنيفة لا فى الميدان وحده بل فى كل بيت من بيوت مصر بل كل بيت من بيوت العالم العربى بل فى الشوارع والازقة وفى السيارات المنطلقة بأقصى سرعة فى كل حدب وصوب وطريق ودرب ومعهم اجهزة الاستماع لقد رايت الناس دفعة واحدة وبلا سابق اتفاق يقفزون فى الهواء ويرتفعون عن الارض صدقا .

ومضى زميل الصبا المرحوم المهندس محمود يونس مضى ومعه عدد من اعوانه المهندسين والضباط الى مبانى ومكاتب وورش ومخازن شركة قناة السويس العالمية ليضع عليها الاختام وليجعلها أمانة لدى عدد من الحراس المصريين من رجال الجيش والشرط؛

وكانت الصدمة التى عانى منها مديرو الشركة الفرنسيون الذين عاشوا حياتهم فى مصر دولة فى قلب الدولة يأمرون وينهون ولا راد لأمرهم ولا معقب على نهبهم كانت الصدمة التى عانوا منها يومذاك صدمة للنظام الاستعمارى كله وللغبر المتأله والمتغطرس والمتعالى .

ودارت حرب الاذاعات والمقالات والتصريحات الى جانب حرب المقاطعة والحصار الاقتصادى وحرب الاعصاب التى كانت الاساطيل والجيوش أداتها ولم يجد خصوم مصر شيئا يروجونه ضدها وضد نظام الحكم فيها ان عبد الناصر لم يؤمم القناة الا لانه أحس بطعنة موجهة الى كبريائه حينما سحب دالاس تمويل مشروع السد العالى؛

مبررا ذلك بأن الشروع أكبر من طاقة وقدرة مصر المالية لأنها مفلسة تقريبا ومعنى ذلك أن ادارة مرفق قناة السويس عملية خاضعة لمزاج عبد الناصر أو أى رئيس يخلفه فى مصر ومعنى هذا ايضا أن بقاء قناة السويس فى يد المصريين خطر على مصالح العالم المشروعة الى لا خلاف عليها واتخذوا من تصريحات عبد الناصر يوم 26 يوليو دليلا وسندا . ولعل عبد الناصر تذكر فى ضوء حرب الاذاعات هذه ما كنت قد قلته له ..

قصة الذئب والحمل

ولكن لا أتصور أن الموقف كان سيتغير كثيرا لو أن عبد الناصر لم يجعل التأميم عقابا لدالاس والغرب على موقفه من مشروع السد العالى فقصة الذئب والحمل كانت وستبقى الوصف النموذجى لعلاقة الاقوياء والضعفاء اذ ليس المهم مبرر الاتهام فالاتهام يقع أولا ثم يبحث له عن مبرر .

ولكن احتاج عبد الناصر عندما احتدمت المعركة السياسية الى ان يستشير مجلس الوزراء فى واقعة محددة هل يسافر الى لندن ليعرض على الرأى العالمى موقف مصر من قناة السويس وحرصها على سلامة واستقرار واستمرار الملاحة العالمية وازدهارها؛

وكان ذلك فى ابان الدعوة التى اعلنتها بريطانيا والتى كانت الغاية منها طرح تصرف مصر على الدول التى وقعت على معاهدة حياد قناة السويس 1888 وكان عبد الناصر تواقا الى ان يسافر الى لندن حيث بؤرة التآمر السياسى ضد مصر وحيث عاصمة الدعاية السياسية لقضية انتزاع قناة السويس من مصر؛

وكان عبد الناصر شاعرا بثقة بالنفس عظيمة واوحت اليه بأنه سيكون قادرا اذا ما وصل الى لندن وحوله هالة الشهرة العالمية والضجيج الذى صاحبه منذ خمس سنوات أن ينتزع شخصه صورة هتلر الحديث التى الصقت به من اذهان البريطانى العادى الذى سوف يراه انسانا بسيطا تهمه مصلحة بلده ولكن دون أن يدمر مصالح الاخرين ويعمل على رخاء مواطنيه دون أن يلقى بالعالم فى اتون الحرب؛

وبذلك يكسب تأييد الرأى العام البريطانى اولا فتأييد الرأى العام العالمى ثانيا وينزع الفتيل التى اعدها باحكام انطوانى ايدن رئيس وزراء بريطانيا ودهاة السياسة العالمية الذين هم فى الاغلب الاعم يهود ذوو أنياب زرقاء يحسنون الدس والوقيعة والتآمر الدولى ومن هنا كان السؤال المطروح على مجلس الوزراء هو هل يسافر عبد الناصر الى لندن أم لا يسافر ؟

وتكلم مثيرون ولكن بدون أن يكون كلامهم حاسما فقد احس الوزراء ان عبد الناصر تواق لأن يسافر واثق من نتائج سفره وفرح بهذه الجولة التى اتاحها له تطور الاحداث ليجرب سحره على مستوى عالمى وكان هذا الاحساس وحده كافيا لأن يتحفظ المتكلمون .

وتكلم الدكتور فوزى

وتكلم الدكتور محمود فوزي وعلى النقيض مما يقوله عنه خصومه ويروجونه بكل وسيلة بأنه رجل يؤثر السلامة ويفر من مواقف المسئولية ويخفى رأيه ارضاء لصاحب السلطة مستعملا اسلوبا لولبيا فى التعبير عن الرأى على النقيض من هذه الصورة الثابتة كان محمود فوزي يومذاك حاسما فقد اعلن وبلا تحفظ أنه ضد سفر رئيس جمهورية مصر الى لندن .

وحمدت الله على هذا القول القاطع ثم اتجه عبد الناصر الى وكانت العلاقات بيننا يشوبها فتور لسبب نسيته تماما وقال باسلوب خال من الود ورأى الاستاذ فتحى ؟ ولم اكن فى حاجة الى اكثر من هذه الدعوة المتحفظة لاندفع قائلا يأبى الله ورسوله ..

وعقد عبد الناصر ما بين حاجبيه وقال ماذا تعنى ؟ فاجبته المسلمون يقولون هذا القول عن كل ما هو حرام فقال وقد تحسن مزاجه قليلا يعنى السفر الى لندن حرام ؟ قلت بالتأكيد واضفت لقد عشنا ندير امورنا فى لندن وتفرض علينا المعاهدات والفرمانات منها أو مكن باريس أو من استانبول ان المعاهدة التى حددت مركز مصر الدولى والتى ابرمت بعد حروب محمد على مع تركيا اسمها معاهدة ترابيا لأنها عقدت فى ضاحية فى استانبول بهذا الاسم؛

فاذا كان موضوع قناة السويس لابد أن يناقش هذه الايام فليناقش فى مؤتمر تدعو اليه مصر ويعقد فى القاهرة وتحدد له حكومة مصر جدول الاعمال ان مجرد سفر رئيس جمهورية مصر الى لندن هو نصف الطريق اللا الاعتراف بشرعية موقف بريطانيا وفرنسا غير الشرعى ولن ينقذنا هذا السفر من شىء فهو ان عتبر ملاينة منا وملاطفة اغراهم بالعدوان وان اعتبر تحرشا ومخاشنة اعلنوا ان مصر تتحدى العالم .

ولم يسافر عبد الناصر

وزام عبد الناصر ورفع الجلسة ولكنه لم يسافر وليس ذلك لانه اقتنع بما قلته أنا أو بما قاله غيرى فقد أخبرنى صلاح سالم بأن الذى ثنى عزم عبد الناصر عن السفر هو ما قاله له السفير الهندى من ان غاندى حينما سافر الى لندن سنة 1937 وكانت الكتب التى كتبها الإنجليز والامريكان والالمان والفرنسيون عنه؛

وترجمت الى الانجليزية قد بلغت المئات وكانت الصورة التى رسمتها له تلك الكتب قد اظهرته بأنه التجسيد الحديث للسيد المسيح ومع ذلك فان جرائد ومجلات الدوائر الاستعمارية نجحت فى ان تجعل منه بهلوانا؛

وبدلا من ان يبدو للجمهور البريطانى سياسيا متقشفا زاهدا سلاحه المحبة والدعوة الى الاخاء الانسانى اتخذت هذه الصحف من عريه مادة للسخرية به وترويج الدعايات عنه وسرد الوقائع غير الحقيقية وضاع سحر غاندى غير المنكور وانطفأت اضواء شهرته الساطعة وعاد مهزوما مغلوبا على امره .

ولقد اشفق عبد الناصر من ان يصل الى هذه النتيجة وقد نبه الى الفارق العظيم بين قدرة غاندى فى استعمال الانجليزية حديثا وكتابة وخطابة وبين قدرته هو فى هذا المجال ولكن الحمد لله فان عبد الناصر لم يسافر .

عاصفة من ناحية السودان

وللمرة الثالثة عرض مجلس الوزراء موضوعا سياسيا ولكن على غير ارادة عبد الناصر فقد كان المجلس مجتمعا فى قصر القبة وكان بين الوزراء نائب وزير السودان هو المرحوم عبد الفتاح حسن أحد الضباط الذين تعاونوا فى موضوع السودان مع مجلس القيادة؛

وفى خلال انعقاد المجلس تبادل عبد الناصر مع المرحوم عبد الفتاح حسن بعض العبارات بصوت منخفض اذ لم تكن الغاية اشتراك المجلس فى الموضوع ولكن هذا الهمس الجانبى طال بعض الشىء مما احوج طرفيه الى رفع الصوت قليلا قليلا؛

حتى اصبح من الممكن ان يسمعه سائر الاعضاء ولا سيما الذين كانوا قريبيبن من موضوع الرئيس فى الجلسة وكنت من هؤلاء ففهمت أن الامر يتناول موقعا صغيرا على البحر الاحمر على الحدود المصرية السودانية لا ادرى اذا كان اسمه رأس علم أو علبة؛

ولكنه على كل حال فى هذا الموضع وفهمت أن السوادنيين يعتقدون أن هذا الموقع سودانى وان الجانب المصرى يعارضهم فى هذا الاعتقاد وان الامور تأزمت بين الطرفين حتى كاد الموقف يشتد فقد ارسلت حكومة السودان قوة عسكرية وكان رأى عبد الناصر أن يتشدد المصريون مع السودانيين وان يقابلوا القوة العسكرية السودانية بقوة تفوقها؛

فقلت متداخلا فى الحديث بغير دعوة من احد المفهوم أن فى السودان انتخابات والانتخابات بطبيعتها موسم للمزايدات والهاب الموقف على الحدود المصرية السودانية الجنوبية فى هذه الفترة سيدعو جميع الأحزاب الى التسابق فى اظهار التمسك بهذا الموقع وستكون حماسة الاحزاب الموالية لمصر اشد من حماسة الاحزاب المعادية لأن نقطة ضعف الاحزاب الموالية انهم يجاملون مصر على حساب السودان؛

ولهذا فأنا اقترح ان نهدىء الامور على الحدود ما استطعنا ما دامت القوة السودانية لم تصل الى الموقع المتنازع عليه فيبقى الامر على حاله حتى تنتهى الانتخابات ونحل المشكلة بالتفاهم فرد على عبد الناصر قائلا بل العكس هو الصحيح؛

فان الاحزاب الان تخشى جميعا أن تغضبنا حتى لا نتدخل فى الانتخابات ضدها وهذه الخشية ستجعلنا اقدر على الظفر بما نطلب وعدت اشرح وجهة نظرى بتفصيل اكبر واستمر الاخذ والرد فترة ثم انتهت المناقشة الى ان صدرت اوامر عبد الناصر للمرحوم عبد الفتاح حسن بأن يتناول الموضوع بحزم .

وفى اليوم التالى علمت ان القوة المصرية التى أمرت بالتقدم وجدت نفسها أمام قوة سودانية ضخمة وان الاصرار من جانب مصر لم يكن له الا نتيجة واحدة هو ان يقوم بين مصر والسودان نزاع مسلح أى حرب مهما تكن صغيرة الا ان احدا لم يكن يدرى عاقبتها لو أن نارها اندلعت .

وتراجعت مصر وسط صراخ وتهديد من جميع الاحزاب السودانية وفى مقدمتها الاحزاب الاتحادية الموالية لمصر والمحبة لها . ولما اعلنت هذه النتيجة لعبد الناصر اكتفى بقوله عارد لك ولكن النتيجة فى جملتها كانت سارة فقد ضبط عبد الناصر نفسه وكبح جماح غضبه ومرت العاصفة بسلام .

الفصل السادس:غاب أخطر قرار فى تاريخ ثورة 23 يوليو

مضت الايام وجمال عبد الناصر شديد الاطمئنان الى انه من المستحيلات أن تدخل بريطانيا فى حرب ضدنا فقد كان يرى أن مقامها يمنعها من أن تخوض فى قتال مع مصر كما أن حنكة رجالها وتمرسهم بشئون السياسة سيحول بينهم وبين أن يتورطوا فى حماقة كحماقة غزو مصر فى وقت تغير فيه الرأى العام العالمى ونشأت فيه الأمم المتحدة واشتد عود الاتحاد السوفيتى خصم الغؤرب العنيد والمتربص لأخطاء هذا الغرب للتنديد والتشهير بها وللافادة والكسب منها .

ولكن الحرب مع ذلك وقعت وكانت بريطانيا التى تآمرت بليل وبلا ادنى حياء مع فرنسا وإسرائيل هى قائدة حرب السويس .

وادلهمت الامور وساد الظلام وأطبقت جحافله على جمال عبد الناصر حتى أحس بالحاجة الى عون الاطباء وقد سمعت نقلا عن المرحوم الدكتور أنور المفتي أنه قال لقد انهار ايدن فاعملوا أقصى ما فى وسعكم لكيلا أنهار مثله كما سمعت نقلا عن الدكتور أنور المفتي ايضا أن من بين المواضع التى كان يشكو عبد الناصر رحمه الله منها أثناء هذه الازمة ألما فى عنقه من الخلف وألما على جانبى الفم؛

فعلل له الطبيب سر الألمين بأن العنق فيه عصب الانتباه والتحفز وانه لفرط انتباهه وتيقظه وترقبه فى تلك الايام العصيبة أحس بهذا الالم الذى ظهر عندما ضعف الجسم وقلت مقاومته أما الالم الذى كان يحس به فى الموضعين الواقعين على جانبى الفم فقد نشأ من دوام الابتسام أو التظاهر به فلما اعتكف جمال خلال الازمة واسترخت عضلات الفم كان لابد لهذا الالم من ان يظهر .

ساد اليأس ما حول جمال عبد الناصر فقد اضطر أن ينقل أسرته وأولاده الى احدى الفيلات التى كانت مملوكة لأحد أمراء البيت المالك بعيدا عم مصر الجديدة وقد سمعته يقول لزكريا محيي الدين الناس تود أن تخرج من القاهرة فسهلوا لهم سبل الخروج .

فى هذه الاثناء كانت مصر بصفة عامة هادئة غير منزعجة وغير متطيرة ولم يفكر أحد فى الانقضاض على الحكومة بل لم اسمع الفاظ شماتة فيها كتلك الشماتة التى اعلنت عن نفسها وبشدة وصراحة بل وضراوة فى اعقاب حرب 67 شماتة سيلا عارما من النكات المصرية الذائعة الصيت التى لا تدع محرما ولا محترما ولا صاحب مكانة أو قداسة الا وتعبث به وتصوره كما يحلو لها فى خيالها نزولا على مبدأ القافية تعذر وهو مبدأ شعبى معروف .

وعلى الرغم من أن عبد الناصر كان متماسكا الا ان هذا التماسك كان يكلفه الكثير مما يصعب على احد غيره احتماله ومما أحوجه فى النهاية الى دواء الطبيب ونصائحه وقد ذهب عليه رحمة الله الى الجامع الأزهر ليخطب هناك فكان كعادته هادئا لا يبدر منه قول ولا اشارة تنبىء عما فى داخله من احتراق وتوتر وارتجل على طريقته الخاصة خطبة تجمع بين العامية والعربية الفصحى كانت نبرته أعلى وحماسته أشد وكانت نظرات عينيه يتطاير منها لمن يدقق شرر الغضب والضيق والقلق .

وقد استطاع عبد الناصر فى تلك الخطبة أن يقول لجمهور المصلين ولجماهير مصر والعالم العربى كله ان ما ضربته طائرات بريطانيا وفرنسا على ارض المطارات المصرية انما هو طائرات هيكلية قال ذلك وهو يعلم أنه لم يبق فى مطارات مصر كلها عشر طائرات تستطيع أن تحلق فى سماء القاهرة دع عنك سماء سيناء ولا شك أن تصريحا كهذا لابد وأن يكلف قائله جهدا عصيبا خارقا للطبيعة .

كان طبيعيا أن نفكر فى المصير الذى توشك مصر أن تؤول اليه فهناك جماعات من المصريين تختلف نزعاتهم وميولهم وأهواؤهم منهم من كان يؤمل فى ان يعود اليه ما فقده من مال ومكانة ودور بارز فى توجيه الامور ولكنه يؤثر الحذر والاتئاد لأن مصر مهما كانت الامور تواجه أعداء خارجيين وكلهم أعداء تقليديون لها وقد عاشت مصر عصرها تكرههم وتندد بهم وتهتف بسقوطهم وتجهز بعدوانهم ومن هنا لم يبد على هذه الجماعة قط أنهم ينتوون الحركة أو انهم يفكرون فى انتهازالفرصة .

ولكن كان هناك فريق اخر رأى أن مصر مهددة بالخراب وبالرجوع الى الوراء خطوات وخطوات فقد تدخل جيوش بريطانيا وفرنسا وربما جيوش إسرائيل القاهرة وربما فكر هؤلاء المعتدون أن يعيدوا النظام القديم وربما للفتنة المجال لكى تنطلق فتعيث فى مصر فسادا ليكون تأديب مصر على ايدى المصريين انفسهم فان وقع خراب ونهب وسلب كانت ايدى الإنجليز والفرنسيين وحتى اليهود بريئة منه .

هذه الجماعة تداولت فى هدوء وخلوص نية وانتهت الى ان افضل الحلول لهذه الازمة ان ينزل عبد الناصر عن الحكم ومعه زملاؤه اعضاء مجلس قيادة الثورة واعوانهم واتباعهم وان ينادى بالرئيس السابق محمد نجيب رئيسا مؤقتا للجمهورية ليدخل مع الغزاة فى مفاوضة الغاية منها الا يدخل الغزاة القاهرة والا يتقدموا فى زحفهم وان يضمن لجمال عبد الناصر واخوانه معاملة محترمة وخروجا آمنا من مصر هم وزوجاتهم وعائلاتهم ومن يرغب فى اللحاق بهم ثم احترام ما تم من اجراءات الثورة واصلاحاتها وفى مقدمتها النظام الجمهورى والاصلاح الزراعى .

ولم تجد هذه الجماعة التى لم اعلم حتى اليوم من كانت تتكون لمجرد كسل فى السؤال رجلا منحته السماء شجاعة قلب الاسود سوى سليمان حافظ نائب رئيس الوزراء فى حكومة الرئيس محمد نجيب ووزير الداخلية ووكيل مجلس الدولة من قبل ولست استبعد الان أنه كان من بين أعضاء هذه الجماعة الدكتور عبد الرازق السنهوري القانونى العربى الاشهر ورئيس مجلس الدولة فى اوائل عهد الثورة والدكتور بهي الدين بركات الذى كان رئيسا لمجلس النواب ولديوان المحاسبة فى العهد الملكى .

توكل سليمان حافظ كعادته على الله وطلب موعدا من مكتب عبد الناصر ليأخذ رايه فى هذه المحاولة ولكن عبد الناصر رفض أن يحدد له موعدا لأنه أى عبد الناصر لم يكن يملك فى تلك الظروف من الوقت ولا من الاعصاب ما يسمح له بأن يلقى رجلا كسليمان حافظ هادىء الاعصاب الى حد البرود بطىء الكلام نوعا عميق التحليل للامور والالفاظ ولم يكن عبد الناصر ليتصور أن وراء سليمان حافظ شيئا ذا بال يخرجه هو م الازمة فأحاله الى زميله عبد اللطيف البغدادي ..

وذهب سليمان حافظ الى البغدادى بنفس الهدوء الذى ذهب به الى الملك فاروق ظهر يوم 26 من يوليو سنة 1952 حاملا له وثيقة النزول عن العرش ولا شك أن ذهاب سليمان حافظ الى قصر رأس التين فى ذلك اليوم وهو ينتعل حذاء أبيض وبنطلونا رماديا وجاكتة من التيل الابيض ويتأبط وثيقة نزول الملك عن العرش ككان أشبه شىء بطفل وديع يدخل برجليه الى عرين الاسد ليعبث بشواره أو يشده من ذيله .

فقد كان قصر التين هو قصر الملك كان فى كل ثنية وحنية من ثناياه وحناياه جندى مسلح من الحرس الملكى او موظف من الخاصة الملكية يمكن أن يدفعه حقده على الثورة وولاؤه للملك الى القضاء على سليمان حافظ بضرية واحدة وبأى وسيلة كانت وما من وراء ولا سميع ولا شاهد. .

بنفس الهدوء ذهب سليمان حافظ الى عبد اللطيف البغدادي ورشف فنجان القهوة الذى قدم له وأخذ يدخن سيجارته المصرية الرفيعة والمتواضعة ووضع ساقه النحيفة فوق ساق وقال بطريقته أيوه يا اخ عبد اللطيف عاوزك تسمع كلامى لاخره وتفهم أنى جئت من اجل المصلحة العامة مصلحة البلد كلها ومصلحتكم ايضا.

واستمع البغدادى لاقتراح سليمان حافظ حتى نهايته ثم قال له فى حدة لولا أنك فى بيتى لطردتك .ولم يرد سليمان حافظ أن يشعر بالاهانة ولم يغضب لها ولم يفقد حلمه وانما اعاد الكلام بنفس الهدوء وكرر العرض ثم خرج لا تطرف له عين ولا يهتز فيه عصب .

ان الحكم الوطنى الخالص على هذا التصرف من جانب رجل عاش حياته وعقيدة الحزب الوطني تملأ قلبه وتملك عليه زمام نفسه لابد وان يكون حكما قاسيا وان كانت بواعث سليمان هى انقى واطهر البواعث فقد كان ولا شك مشفقا على بلاده من عواقب هذه الغزوة التتارية الصليبية ولكن الحزب الوطني يؤمن بأن حظ الوطن دائما أن يكون مستعدا لملاقاة الشدائد واهوال الصراع مع العدو فان فى ذلك اخر الامر النجاة وان بدت خطة محفوفة بالمخاطر وبعيدة عن الحكمة وايضا هن المرونة السياسية .

وخطأ اقتراح سليمان حافظ كائن فى انه اولا يعزل قائد المعركة واركان حربه بينما المعركة لا تزال دائرة ثم انه ثانيا يحقق للاعداء على قذارة مؤامرتهم ونذالة عدوانهم غرضا من اهم اغراض الغزوة وهو اسقاط عبد الناصر تأديبا له ولجميع الوطنيين على طول العالم العربى وعرضه ثم هو ثالثا يظهر مصر وكأنها قد أخذت المبادرة لاسقاط قادة الثورة وذلك اضعاف شديد لمركز المفاوض المصرى اذا جرت مفاوضات فيما بعد .

ولقد كان من حق عبد الناصر بلا شك أن يقبض على سليمان حافظ وعلى من اوفدوه وكان من حقه بلا شك ان يحاكمهم محاكمة شديدة بتهمة الدعوة الى الهزيمة ولكن عبد الناصر فى تلك الفترة كان اضعف من أن يقدم على شىء من هذا ولعل أعظم ما اضعفه أنه كان يرى الخطر محدقا به من كل جانب وربما جال فى خاطره أنه قد يحتاج غدا الى مثل هذه الوساطة المرفوضة الان .

زال الخطر وتدخلت الولايات المتحدة فى الأمم المتحدة لتضع حدا للغزو الانجليزى الفرنسى الإسرائيلى وذهب أيزنهاور رئيس الولايات المتحدة بنفسه الى مقر الجمعية العمومية ليدمغ الحملة البريطانية الفرنسية الإسرائيلية بأقبح النعوت وتململت لندن وباريس؛

ولكنهما أدركتا أن زعيمة الغرب تعمل فى نهاية الامر لصالح الغرب رغم المنافسات داخل المعسكر الغربى وان هذه الحماقة يجب أن تنتهى على وجه او لاخر وانه ترك الباب مفتوحا فى هذه الازمة فان أول من سيدخل من هذا الباب المفتوح هو الاتحاد السوفيتى واطمأن عبد الناصر على مكانه رئيسا لمصر وزعيما لشعبها وعندئذ تذكر أن سليمان حافظ جاء فى هذ المحنة يعرض ذلك العرض الذى يمكن أن يتلخص فى كلمتين عبد الناصر يذهب .

والقى القبض على سليمان حافظ وزج به فى المعتقل بينما أنا عضو فى الوزراة لا ادرى من ذلك قليلا ولا كثيرا.حتى كان مساء أحد الايام ورن التليفون فى منزلى وكانت المتكلمة سيدة قالت أنها شقيقة سليمان حافظ فتبادر الى ذهنى على الفور خاطر غاية فى السوء فقد اشفقت ان يكون سليمان حافظ قد فارق دنيانا؛

اذ لم يحدث ان كلمتنى شقيقة سليمان من قبل واستمعت اليها وعلمت انها عاتبة على لأن سليمان حافظ فى المعتقل بينما أنا فى الوزراة واحسست بألم وباهانة معا صحيح يعلم الله اننى لم اكن أعلم ولكن عدم علمى هو شىء فى مثل سوء علمى وسكوتى فأقسمت لها بان عهدى بهذا الذى تقوله هو اللحظة التى تخاطبنى فيها وقلت لها اطمئنى يا سيدتى سليمان حافظ سيفرج عنه بعد غد على الاكثر والا فستريننى خارج الوزراة .

وانتويت أن يكون شاغلى الوحيد فى اليوم التالى هو العمل للافراج عن سليمان حافظ ولكننا دعينا للذهاب من منازلنا الى مطار القاهرة لنستقبل ضيفا ما وذهبت الى المطار وانا اكاد اكلم نفسى فى الطريق بصوت عال كيف حدث هذا ؟ ..اوصلت الامور الى هذا الحد .. وكيف ؟

وهكذا الى ان وصلت الى المطار وهناك بحثت عن زكريا محيي الدين فلما وجدته اسرعت اليه متجها فقال خير ؟ قلت لم يبق خير فضحك زكريا وقال متسائلا ليه ليه ؟ فقلت له سليمان حافظ معتقل منذ مدة فقال بهدوئه التقليدى آه الم تكن تعرف ؟ قلت وكيف أعرف ؟

أما كان الواجب أن نخطرعلى الاقل باعتقال رجل كسليمان حافظ كان وزيرا للداخلية مثلك ونائب رئيس الوزراء واقتران اسمه بسقوط الملك . عندئذ روى زكريا محيي الدين ما حدث من سليمان حافظ وكانت هذه الرواية أول ما صافح أذنى فى هذا الصدد .

والحق صعقت ورحت كمن يهذى أردد سليمان حافظ فعل هذا فعل هذا بالضبط لكن سليمان لا يؤمن بهذه الاساليب .وأفقت من الصدمة وتمالكت جأشى وقلت لزكريا فى عبارات غاية فى الايجاز لو أنكم قبضتم على سليمان حافظ وأطلقتم عليه وعلى من معه النار فى ميدان من ميادين القاهرة لبكيت عليه طول حياتى؛

ولكن لما لمتكم أبدا فمصر كانت فى حرب ومثل هذه الدعوة من رجل مثله استهزام مرفوض وخطر على معنوية الشعب والجيش معا أما وقد مرت الازمة وخرج الاعداء وزالت مبررات القرار الاستثنائى فان اعتقال سليمان حافظ يصبح شيئا من قبيل النكاية او الثأر السياسى الذى لا يجوز من رجال مثلكم مع رجل مثله لا تحرجنى يا اخ زكريا واطلق سراح سليمان حافظ .

وكان زكريا محيي الدين كعهدى به منطقيا وحسن التقدير فما لبث أن افرج عن سليمان حافظ وفى المساء اتصلت بشقيقته لأطمئنها وكم كانت فرحتى اذ قالت لى سليمان فى منزله .

ومضت ايام وايام التقيت بعدها بسليمان حافظ وقلت له بلغنى أنك كنت عاتبا على اذ قصرت فى حقك فقال ابدا من قال ذلك قلت شقيقتك فقال بهدوئه الساخر ليس لى اخت فهتفت كيف ؟ كيف وهى التى اخبرتنى باعتقالك ولامتنى على تقصيرى.فقال هى انتحلت هذه القرابة لتكلمك فقلت على كل حال لقد عملت عملا مشكورا .

ولابد لى هنا من أن اذكر ملاحظتين تتعلقان بحديثى ذاك مع زكريا محيي الدين :

الاولى : ان زكريا اراد أن يدلل على ان سليمان حافظ رجل حقود فقال تصور يا فتحى أنه يكتب الى مدير المعتقل السيد مديرالمعتقل أرجو أن ترسلوا الى وزير الداخلية يعنى أنه يسمى مدير المعتقل وهو ضابط صغير سيدا ويجردنى أنا من هذا اللقب فقلت له هذا من حقه فمدير المعتقل موظف يؤدى واجبه وهو لم يعتقله أما أنت فزميل سابق له ثم أنت المسئول عن اعتقاله فضحك زكريا وقال نهايته سليمان لا يخطىء أبدا .
اما الملاحظة الثانية : فهى عبارة قالها وزير شهد حديثى مع زكريا ودفاعى عن سليمان وقولى له ان ما يقطع بحسن نية سليمان وبوطنيته أنه جاء اليكم اليكم انتم وأبدى الاقتراح فى حجرة مغلقة فهو لم يقف على قارعة الطريق أو ناد ليشرح اقتراحه هذه ليست مع احد فاذا الوزير المدنى ولا تنس أنه كان زميل سليمان حافظ فى مدرسة الحقوق منذ أربعين سنة ستبقة على هذا الحديث يقول سليمان حافظ لا يقدم على مؤامرة وانما يحرض غيره ويختفى فصرخت فى وجهه رحمه الله أهذا دفاع أم تأييد للاتهام ؟

ولا تزال فى جعبة أحداث تلك الفترة حادثة طريفة لم اسمع بها من قبل ولم يسمع بها على ما اظن أحد وقد وصلت الى علمى فى الصيف الاسبق فقط حينما اشتد الحديث واتسعت دائرته حول موت المشير عبد الحكيم عامر وهل مات مقتولا أم منتحرا وهل مات بالسم أم بغيره؛

وذكر فيما ذكر اسم صلاح نصر وسمومه فبهذه المناسبة تحدث عبد اللطيف البغدادي الى الاخ الدكتور نور الدين طراف فقال عندما تبين أن الإنجليز والفرنسيين فى خريف سنة 1956 مصممون على الزحف الى القاهرة؛

وان الجيش لم يعد فى مقدوره رد عاديتهم عن العاصمة وان الوساطات الدولية وقرارات الأمم المتحدة لم تجد وبدأ المستقبل مظلما شديد الحلوكة فقد صلاح سالم اخر قطرة من معنوياته وتماسكه واقترح ان يتناول اعضاء مجلس قيادة الثورة سما زعافا سريع المفعول لكيلا يقعوا فى يد الإنجليز والفرنسيين والإسرائيليين فيتخذوا منهم فرائس للانتقام والتشفى؛

وينتهزها أعداء الثورة من كل صنف ونوع فرصة ليثأروا لأنفسهم من اولاد وبنات وذوى قربى عبد الناصر واخوانه ووافق الحاضرون جميعا على هذا الاقتراح ولم يحل دون تنفيذه الا غياب البغدادى الذى لم يكن حضر ذلك الاجتماع فأرسلوا الى صلاح نصر ليجهز السم المطلوب والى عبد اللطيف البغدادي ليبدى رأيه فى الاقتراح وفى خلال البحث فى الامرين معا جاءت الانباء من نيويورك بما لا يدع مجالا لمثل هذا اليأس القاتل ..

الفصل السابع:يوم وقعنا ميثاق الوحدة مع سوريا

كان ذلك فى اليوم الحادى والثلاثين من يناير سنة 1958 وعلى الرغم من أن أواخر شهر يناير أول شهر فبراير فى القاهرة يعتبر من شهور البرد الا ان اليوم كان مشمسا ودافئا كأنه من أيام الخريف الجميل فى مصر الذى يعادل أيام الربيع فى اوربا؛

وكان اجتماع مندوبى الدولتين والشعبين مصر وسوريا فى قصر القبة فى ضاحية غير بعيدة عن قلب العاصمة وتوافد المندوبون الى حديقة القصر الجميلة وهى الحديقة التى انشأها الخديو اسماعيل منذ قرن أو يزيد؛

وقد وقفت فى شرفة الدور الاول من ادوار القصر انظر الى المندوبين السوريين يتقدمون نحو القصر فى خطى بطيئة وليس على وجوههم اى انفعال فلاهم فى فرح ولا هم فى حزن ولا هم فى توجس كأنهم مستسلمون لقدر غير واضح وقد بدا لى من خطى صبري العسلي بصفة خاصة أنه لا يجد فيما يجرى او فيما يعد ما يدعو الى الابتهاج والنشاط وانه لو استطاع أن يمنع وقوع هذا الذى يجرى لما تأخر .

اما الجانب المصرى فقد كان فى حال اخر كان القلق وانشغال البال والحيرة هى المشاعر السائدة وفى حجرة من حجرات القصر سمعت علي صبري يقول لاخر لقد وضعونا فى مأزق فقد قال السوريون انه لم تتم الوحدة سقطت سوريا فى يد االشيوعيين .

ولعل من طرائف التاريخ أن الذى كان يقول ذلك هو الضابط الذى قيل فيما بعد أنه السياسى الذى وقع عليه اختيار الاتحاد السوفيتى ليقود السفينة المصرية أى سفينة مصر أنما انا فقد كان لى ازمة خاصة بى فقد ترددت فى ان البى الدعوة الى اجتماع القبة لسبب لا يمت الى موضوع الاجتماع أى الى موضوع الوحدة المصرية السورية؛

ولا اى امر اخر يتصل بالرجال الذين اجتمعوا فى هذا المكان سواء كانوا من الفريق المصرى أو الفريق السورى بل لأمر آخر وقع بالصدفة فى اليوم السايبق لهذا الاجتماع ولذلك لقد بادرت عبد الناصر حينما سألنى ما رأيك فى موضوع الوحدة ؟ قائلا : رأيى أنه ما كان يجب على ان احضر اليوم .

ففهم عبد الناصر أن هذا الرد معناه أنى معترض على الوحدة الى حد النفور من مجرد الاجتماع المخصص لتوقيع مراسمها ولكنى أضفت قائلا : كيف يمكن أن البى الدعوة لهذا الاجتماع وهو مقصور على الوزراء وأنا لم اعد وزيرا؟

فعقد عبد الناصر ما بين حاجبيه وهو يكاد يقول لى ان المناسبة تسمح بالمزاح ولكنى لم ادع له فرصة للاستفسار فقلت له:لقد أصدرت امس قرارا جمهوريا بعزلى واسترسل فى الكلام:تذكر سيادتك أننى اقترحت ادخلا تعديل على قانون المؤسسات العامة استقلالا تاما عن الوزير؛

وهذا الاستقلال هو ركن من اركان نظام هذه المؤسسات خارج مصر ولكن الاوضاع الدستورية فى مصر لا تسمح بهذا الاستقلال لأن الوزير المسئول عن تسيير وزراته فاذا حللنا هذه الوزراة الى مؤسسات وجعلنا كل مؤسسة قائمة بذاتها لا يملك الوزير عليها سلطانا كانت مسئولية الوزراء عبثا لا معنى له وانعدمت وسيلة مراقبة ومساءلة هذه المؤسسات؛

ولذلك فأنا اريد ان اضيق نطاق تدخل الوزير فى توجيه اعمال المؤسسات بتقرير حقه فى الاعتراض المحدد المكتوب على قرار بعينه يصدره مجلس الوزير المسئولية فان تمسك فى الاعتراض المحدد المكتوب على قرار بعينه يصدره مجلس ادارة المؤسسة؛

فإن تمسك المجلس ممثلا فى ثلثى اعضائه بالقرار محل الاعتراض تحمل الوزير المسئولية واصبح واضحا ان قراره كان محل معارضة من المجلس وهذا يجعل الوزير حذرا فى الاصرار على رأيه ويبقى المسئولية الوزراية فى حدودها؛

وأذكر أن هذا النظر من جانبى كان يحمل موافقة سيادتك ومن مجلس الوزراء ومن لجان مجلس الامة المختصة الا اننى فوجئت بالامس وانا فى المجلس بأن قرارا جمهوريا آخر صدر منك بسحب القرار الجمهورى الاول الذى وافق على التعديل الذى اقترحه لم اسمع بهذا القرار يا سيادة الرئيس ولم يخطرنى به احد ولم اعرف ما الذى دعا اليه ومعنى ذلك أن سياستى أو تصرفاتى ليست محل موافقتك ورضاك واننى حصلت بطريقة ما على هذه الموافقة .

وهنا نفد صبر الرئيس جمال وكان مهموما مشتت البال وقلقا فى هذه المناسبة .. مناسبة الوحدة التى فاجأته على غير توقع وأربكته وغيرت مساره فقاطعنى بشىء من الحدة:ألم توافق على سحب تعديلك؟ ألم يكن القرار الجمهورى الثانى محل مناقشة بينك وبين فهمى ؟ فأجبته متسائلا : فهمى .. وما شأن فهمى ؟

وفهمى هذا هو المرحوم محمد فهمي السيد زوج بنت شقيقة السيدة الفاضلة حرم الرئيس عبد الناصر وكان فى ذلك الحين مستشارا بمجلس الدولة وكان قد اصبح ممثل الرئيس فى مجال القانون والقانونيين وكان كل ما يتم من تعيين للقضاة والمستشارين وتعديل فى القوانين واصدار لها من عمله؛

ولما كان قانون المؤسسات العامة من وضعه فقد اعتبران اجراء تعديل فيه من غير موافقته أو على الاقل استئذانه اعتداء على اختصاصاته وسلطاته ولذا فانه حينما علم بالتعديل الذى ادخلته على ذلك القانون ذهب الى الرئيس جمال وافهمه أن هذا التعديل يعنى هدما للمؤسسات العامة من أساسها فقال له الرئيس جمال لا تصدع رأسى اذهب الى فتحي رضوان وناقش الامر معه وما تنتهيان اليه اعملا به وسأصدر من القرارات ما ينفذ ما تتفقان عليه .

لقد كان الواجب على فهمى أن يأتى الى ولكنه خشى أن يصارحنى بما قام به من وراء ظهرى وكان يعلم أنه لن يستطيع أن يصمد فى الجدل معى فى هذ القضية ولهذا ذهب الى المرحوم أحمد حسني وزير العدل وقتئذ واستعداه على وحصل منه على موافقة على رأيه ثم ذهب الى الرئيس جمال وقال له لقد اتفقنا .

وظن الرئيس جمال عليه رحمة الله ان اتفقنا هذه تنصرف الى والى فهمى فلما اطلعته ونحن فى قصر القبة على الحقيقة وفهم أن صهره لم يفاتحنى فى هذا الموضوع اطلاقا نسى موضوع الوحدة ونسى القلق الذى كان يساوره وجرى ناحية عبد اللطيف البغدادي وكان انذاك رئيسا لمجلس الامة وسأله : ألا يمكن سحب القرار الجمهورى الخاص بقانون المؤسسات والمتضمن العدول عن تنقيح هذا القانون ؟ فقال له البغدادى : لقد نفذ السهم فالمجلس وافق على السحب فى جلسة أمس كما أخبرك فتحي رضوان .

وعاد الى الرئيس جمال كاسف البال حزينا كأن موضوع الوحدة قد فشل وتهاوى قطعا على الارض وأمسك بيدى ولعبد الناصر فى فترات الصفاء النفسى عادة الامساك بيد اصحابه أو ضيوفه أو من يود مجاملتهم وعندها يحس من امسك عبد الناصر بيده بان تيارا من العطف والود والمحبة قد سرى الى يده هو امسك عبد الناصر بيدى بهذه الطريقة الودود المؤثرة وقال:ارجوك انس هذا فأنا اليوم فى حاجة الى صفاء عقلك واقسم لك ان فهمى افهمنى انه اتصل بك وتحدث اليك طويلا وحصل على موافقتك وماذا افعل وهذا هو حال الناس ؟

وجذبنى عبد الناصر نحو قاعة الاجتماع وكان قد ارسل يدعو فهمى السيد الذى جاء وقد علا وجهه اخضرارا وبهتت شفتاه فبادره عبد الناصر:الم تقل لى أنك تفاهمت مع السيد فتحي رضوان:وقبل ان ينطق فهمى رحمه الله اشار عبد الناصر اليه باصبع مرتعشة من شدة الغضب قائلا اذهب ثم التفت الى وقد زالت فوق وجهه علائم الغضب وقال المهم الان ما هو رأيك فى الوحدة؟

فقلت له على الفور:الوحدة فى ذاتها ليست محلا لاعتراضى ولا يمكن ان تكون محلا لاعتراضى وانما الاعتراض قائم على ملابساتها هل الظروف فى سوريا مواتية ؟ هل الظروف فى المجال العربى تسمح ؟ هل الظروف فى مصر تأذن؟فالتفت الى رحمه الله بكل وجهه وقال:وما رأيك أنت هل هذه الظروف كلها تسمح ؟

فقلت : النظرة العجلى لا تكفى مطلقا وهذه الخطوات الضخمة لا تتم الا بتمهيد طويل فقاطعنى : لو سبق هذه الخطوة تمهيد لما تمت فى جيلنا وانا معك فى كل ما تقول ولكن هذا هو قدرنا فلقد رفض السوريون رفضا باتا تأجيل ورفضوا منحنا فرصة نتنفس فيها نفكر وقد قبلت هى خطوة قررها الله لنا فلنتوكل وليكن ما يكون.

وهنا بدت على وجهه علائم قلق خفيفة جعلتنى أشفق عليه وقد كان بودى لو استطعت أن اضمه الى صدرى واعانقه طويلا وان اقبل جبهته فقد قدرت مقدار ما يعانيه فى هذه اللحظة واردت ان اسرى عنه فقلت:ان ما يحدث الان لم يحدث من قبل لرجل اخر فى التاريخ ربما حدث شىء مشابه لبرنادوت فشرد بذهنه وقال:من يكون برنادوت ؟

قلت:انه رأس الاسرة المالكة السويدية وقد كان ضابطا مثلك وكان طويلا كطولك وقد احتاجت السويد الى ملك فأرسلوا بعثة الى فرنسا للبحث عن ملك فوقع اختيار البعثة على جنرال من جنرالات نابليون كان طويل القامة حسن تقاطيع الوجه وكان رجلا من القلائل الذين كانوا يعارضون نابليون ولا يخافون منه وذهب الجنرال برنادوت ليتوج ملكا على بلد لم يسبق له ان زارها ولم تكن معلوماته فى الجغرافيا بصفة عامة جيدة فكان ما يعلمه عن السويد اقل من القليل .

وضحك عبد الناصر ضحكة صادقة وقال:تبدو خالى البال مستعدا ان تقص القصص المهم ما رأيك فى الوحدة؟ فاسترسلت فى الحديث.انت غدا ستكون رئيس دولة سوريا وانت لم تضع قدمك فيها ولا تعرف الكثير عنها ولم تفكر من جانبك فى هذه الخطوة اذن هى ارادة الله كما قلت فلتتوكل عليه .

وترك رحمه الله يدى قليلا ووضعها على كتفى وقال:اذن انت لست قلقا؟ فأجبته:مواجهة الجديد تستدعى القلق وتدعو الى التردد ولكن بعد المواجهة يهدأ الانسان اسمع يا سيادة الرئيس بجانب الوحدة المصريون زراعيون فى دمهم ما يدعو الى الاستقرار؛

فلعل هذه المواجهة تنقل الى المصريين بعض خصائص السوريين فى اول الامر سيشكو التجار المصريون من شدة منافسة التجار السوريين ولكن ستحصل المزاوجة وسيصعب علينا ان نعرف من المصرى ومن السورى فالتجار السوريون امثال الشوربجى وحلاوة والحلبى والحلبونى تزوجوا من مصريات واصبحوا هم انفسهم مصريين يقولون عن اهل سوريا هؤلاء الشوام ..

فضحك عبد الناصر وبدا ان نفسه انبسطت وان قلقه خف وقال لى:صلاح البيطار قال لى:يا سيادة الرئيس الانسان عند نزول البيسين (حوض السباحة) يخاف من الماء فاذا قفز اليه زالت صدمة المجازفة فقلت له يا اخ صلاح انا خايف الا يكون فى حوض السباحة ماء اصلا .

وجذبنى رحمه الله واتجه الى قاعة الاجتماعات وهو أحسن حالا واكثر استبشارا وجلس على رأس المائدة وكان اول ما قاله موجها الحديث الى الرئيس شكري القوتلي رئيس جمهورية سوريا أنذاك " الناس فى مصر بتقول أن التجار السوريين سيغزون البلاد " .. فقال الرئيس شكري القوتلي " لقد خلصتم من اليونانى والطليانى وسيطلع لكم السورى " وضحك الجميع .

ثم دار الكلام بعد ذلك حول الوزارة المركزية والوزارة المحلية أو الاقليمية فاقترحت فى هذا الصدد امرا وذكرت فى اثناء عرضه نظام البريذيوم فى الاتحاد السوفيتى فاذا بجمال عبد الناصر يتصدى لى ويفند رايى ويقول فتحي رضوان عايز يخمنا المسألة دى فيها خم .. ولفظ يخمنا هو لفظ دارج لم يستعمل فى مصر الا حديثا ومعناه يستغفل .

ولست اذكر الان تفاصيل اقتراحى ولا حتى جوهره ولكن الذى أذكره انى يومها لم ارد بما قلت استغفالا لاحد ولا احسبنى جاوزت الصواب .

انتهى البحث فى الجلسة الموسعة التى ضمت اعضاء الجانبين المصرى والسورى والرئيس عبد الناصر والقوتلى الى تأليف لجنة لصياغة بيان الوحدة وقد شكلت اللجنة من علي صبري ومنى ممثلين للمصريين ومن عفيف البرزى وصلاح البيطار ممثلين للسوريين واتفقنا على ان نجتمع فى المساء لنضع البيان .

ولقد كانت كتابة بيان من عشرين سطرا أو ثلاثين عملا شاقا حتى لقد كاد الفجر يطلع علينا ونحن ما نزال نضع كلمة ونحذفها ونقرأ سطرا ثم نلغيه وشعر علي صبري باسأم ثم التعب فقام وقال افعل معهم ما شئت فأنا موافق سلفا على ما ستوافقان عليه .

وبعد قليل شعر العضوان السوريان بالتعب فقاما وتركا لى مهمة اعداد البيان على ان نقرأه صباحا قبل الاجتماع الشامل عند الظهيرة .

كان الاتفاق قبل انفضاض اجتماعنا ان نلتقى فى الساعة الثامنة من صباح اليوم التالى ولما كانت الثامنة وجدتنى لم احظ فى الليلة السابقة اى بنحو ثلاث ساعات من النوم واحسست بأن رأسى تدور فتمهلت قليلا وحاولت أن أنبه نفسى بحمام ساخن وبعض الاسترخاء؛

ثم وصلت الى قصر القبة فى الساعة التاسعة وفى جيبى مشروع البيان وأنا ساخط عليه لأنى لم اشعر بالحرية وانا اكتب لكثرة ما سبق بالامس فى اللجنة الرباعية من جانب السوريين من تحفظات وكم كانت دهشتى انى لم اجد احدا منهم مع انى كنت اصعد درجات سلم الدور الاول فى قصر القبة؛

وانا اكاد انكفىء على وجهى خوفا من ان يطول انتظار باقى الاعضاء لى وقد بقيت وحدى اتثاءب واتمطى حتى جاوزت الساعة العاشرة فاجتمعت اللجنة الثلاثية لا الرباعية لأن علي صبري لم يحضر حتى كان الاجتماع الموسع .

ولقد حدث اثناء انعقاد اللجنة الثلاثية وكان معنا بعض الموظفين المصريين فى رياسة مجلس الوزراء وفى وزارة الخارجية ان يدفع باب الحجرة التى كنا نجتمع فيها برفق وظهر من خلف الباب الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية المصرية فلما رآنا اغلق الباب بسرعة وكأنه أتى أمرا ادا (مستنكرا) .

كانت هذه الحركة من جانب الدكتور محمود فوزي كافية لأن تثير عفيف البرزى وكان على ما أذكر قائد الجيش ووزير حربية سوريا فقد صرخ كيف .. كيف سيدى وزير الخارجية المصرية يتحرج من ان يدخل علينا وان يسألنا الى ما وصلنا ويمنحنا بعض توجيهاته أليس ذوبان بلده فى كيان أكبر عملا من اخص خصائص الخارجية ما بيصير هذا .

فرد عليه البيطار ولكن الدكتور فوزى يعلم ان المجتمعين شكلوا لجنة رباعية لوضع البيان فلا يجوز له ان يقحم نفسه على هذه اللجنة فأثار هذا الرد البرزى أكثر مما اثاره تصرف الدكتور فوزى وعلا صوته وقال لجنة .. لجنة .. لجنة سيدى ما فى اللجنة سر على عضو فى الاجتماع الاكبر ولا عليه وهو وزير الخارجية تأليف اللجنة هو اجراء عملى فقط ولكن هذه الخطة خطة البعد عن مواطن المسئولية وايثار العافية والصمت هى عيوب من كبار رجالنا الفنيين وهذا ما اغضبنى .

كان ذلك داعيا لأن نترك البيان لفترة قصيرة لمناقشة شخصية الدكتور فوزى وقد انضم الينا فى الحديث الموظفون الفنيون الذين كانوا معنا فى الحجرة وقد بدأوا الحديث أول الامر على استحياء ثم لما اطمانوا الى ان احدا لم يمنعهم أفاضوا فى الحديث عن اسلوب الدكتور فوزى وخطته..

وذكروا أنه ترك وزارة الخارجية للسيد حسين ذو الفقار وكيلها وانه تقريبا لا يأتى الى مكتبه وان سكرتيره الخاص نقل فى احدى حركات التنقلات دون أن يعرف الدكتور فوزى فضلا عن ان يستأذن فى ذلك وان السفير حسين غالب رشدي وكان سفيرا لمصر فى اسبانيا خرج ذات يوم من لدى وزير الخارجية الدكتور فوزى بعد ان سمع منه ثناء جما على عمله ووعدا بأنه سينقل فى الحركة القادمة الى مكام افضل من اسبانيا فاذا به يفاجأ بأنه فصل من السلك السياسى كله .

وقال آخر ان هذا شأن كبار الدبلوماسيين فان تاليران عمل مع الثورة الفرنسية ومع نابليون وهنا صاح صائح من السوريين قائلا تاليران كان قادرا على الاحتفاظ بمركزه لدهائه ومرونته وتكيفه ولكنه كان شخصية فعالة تبدى رأيها ولا تصمت وتكافح وتداور وتناور وبالغ احدهم فى الحملة على الدكتور فوزى فقال انه يأبى ان يحمل ساعة فى يده او جيبه لكى لا يسأله أحدهم كم الساعة فيضطر الى الاجابة .

وذكر ثالث من الغرائب ان الكثيرين يحملون على سياسة عبد الناصر الخارجية ويسمونها بالحماقة والاندفاع وعدم التخطيط والسطحية ومع ذلك يتحدثون فى نفس الوقت هن كفاءة وعبقرية الدكتور فوزى وزير الخارجية وهو اما ان يكون واضع هذه السياسة الخارجية فيتحمل وزرها واما ان يكون لا راى له فى سياسة بلاده الخارجية فينتفى اساسا القول بكفاءته وبراعته والمعيته.ووجد الاعضاء صعوبة فى العودة الى اصل الموضوع .

ولما انعقد الاجتماع الكبير تلوت البيان فاقترح الرئيس القوتلى ان نضمنه معنى أن الوحدة السورية المصرية ليست سوى بداية وانها مفتوحة لمن عداها من الدول العربية الى الانضمام لها فى وحدة او اتحاد فضممنا هذا المعنى الى البيان ولقد هزتنى كثيرا تحية الرئيس القوتلى لى اذ قال قبل ان اتلو البيان نحن عارفون بقدرتك على الافاضة وقد كتفناك وانت لا تحب القيود وانفض الاجتماع وتبادلنا التهانى ثم كان ما كان .

الفصل الثامن:عبد الناصر واختيار الرجال

ليس اشق على اى رئيس دولة من اختيار رجاله الذين يعملون معه وينفذون اوامره ويقترحون عليه الافكار والمشروعات وينصحونه او ينقدون قراراته عند الاقتضاء فاذا وفق الرئيس الى اختيار الرجل الصالح والمناسب فان بطانة الرئيس المقربة اليه والمحببة الى قلبه قد لا تقبل هذا الرجل لأنه ترى فيه ما يهدد امتيازاتها ويشاركها فى حب الرئيس فتفعل المستحيل لتمنع تعيينه؛

واذا صمد الرئيس للمؤامرات حوله وعين الرجل الصالح الذى اختاره فقد تطارده البطانة بعد ذلك وتضع فى طريقه العراقيل والعقبات حتى يفر من وجهها نجاة بنفسه واذا صمد فى وجهها رأى نفسه اخر الامر غير قادر على ان يعمل شيئا؛

وقد يرى الرجل الصالح أن خير وسيلة لبقائه هى ان يفسد وان يخضع لاوامر البطانة والحاشية ذات النفوذ ثم يكتشف الرئيس ان الرجل الذى ظنه صالحا ومناسبا لا هو صالح ولا مناسب والصلاح كلمة مطاطة وغير متفق على معنى محدد لها فالرجل الصالح كأستاذ فى الجامعة قد لا يصلح لعمل سياسى والصالح فى رئاسة مؤسسة كبرى قد لا ينجح فى ادارة وزارة صغيرة فكثير من قادة المعارك وعباقرة الحروب فشلوا فى ادارة الدول والحديث طويل .

فى السابع من سبتمبر سنة 1952 تقررت اقالة الرئيس علي ماهر من رئاسة الوزارة التى اسندت اليه يوم 24 يوليو سنة 1952 والثورة لا تزال فى يومها الاول وقد كنت انا صاحب اقتراح هذه الاقالة؛

فقد كانت عقلية علي ماهر عقلية ملكية وكان الرجل بكل مكوناته وخلفياته ابعد الناس عن ان يمثل ثورة شابة خلعت الملك الذى قام هو نفسه بالاسراع فى اجراءات اجلاسه على العرش وكان الذين حول علي ماهر ومنهم بعض وزرائه ممن لا يرقون كثيرا عن مستوى الشبهات؛

ولم يتمتع العديد منهم بالكفاءة التى ترشحهم لتولى مناصب الوزراء فى حكومة كان عليها ان تنهى الملكية وان تدخل فى صراع سياسى واجتماعى ضد جميع افكار ومبادىء وتقاليد المجتمع القديم الذى كان علي ماهر واحدا من صانعيه وواحدا من كبار ممثليه .

استجاب اعضاء مجلس قيادة الثورة لاقتراحى وتأثروا به واوفدوا اثنين من اعضاء المجلس هما أنور السادات وجمال سالم الى الرئيس علي ماهر فطلبوا اليه ان يستقيل فاستقال .

وكنت قد اقترحت على مجلس قيادة الثورة ان يسندوا رئاسة الوزارة الى قانونى كبير هو سليمان حافظ وكان يشغل انذاك منصب وكيل مجلس الدولة وهو الهيئة القضائية المختصة بمراجعة تشريعات الدولة وبالحكم فى القضايا المرفوعة ضدها؛

وقد كان سليمان حافظ بحكم منصبه هذا يعمل مستشارا خاصا لرئيس الوزراء ايا كان اسم هذا الرئيس وبهذه الصفة اتيح له ان يشارك فى المداولات الخاصة باجراءات عزل الملك فاروق واعداد وثيقة نزوله عن العرش؛

وقد اشرت فى موضع سابق من هذا الكتاب الى المجازفة العظيمة التى اقدم عليها حينما تأبط مظروفا ظهر يوم السبت الموافق 26 من يوليو 1952 وذهب الى قصر رأس التين ليقابل ملك البلاد ولم يكن فى هذا المظروف سوى وثيقة تنازل هذا الملك ذاته الذى كان يحكم مصر حتى تلك اللحظة دون أن يجرؤ رجل من رجالاتها الكبار ان يراجعه بصراحة ولو بكلمة .

ذهب سليمان حافظ الى قصر التين وكان الملك فاروق قد لجأ اليه فارا من قصر المنتزه الذى كان الجيش قد حاصره وكان قصر التين متصلا بالبحر وله ميناء خاص به ييسر لمن يكون فى القصر ان يستقل زورقا او طردا وينطلق فى البحر الواسع؛

ولم يكن الصراع بين الملك والضباط الشبان الذين ثاروا ضده قد حسم ولم تكن القوى الدولية التى اعتادت ان تتصرف فى شئون مصر وتتصارع حول الاستئثار بالسلطان فيها قد اعلنت بصراحة ماذا تريد لمصر؛

ومن هنا كان دخول سليمان حافظ الى الملك فى قصره وحوله حرسه المدجج بالسلاح والحاشية التى تحب الملك بمثابة الدخول الى عرين الاسد حقيقة لا مجازا ولكنه رجل لا يعرف الخوف اشترك فى العمل السرى ضد الاحتلال البريطانى وحلق فوق راسه الاتهام فى قضية مقتل السردار البريطانى التى اتهم فيها احمد ماهر والنقراشى؛

وكاد يعلق حبل المشنقة لولا ان الله قيض له ظرفا انجاه من هذا المصير وهو رجل هادىء لا يغضب واذا تكلم فى مسائل القانون راح يفتت المشاكل تفتيتا بمنطق بارد وصارم وواضح وضوحا عجيبا كأن فى راسه وعلى لسانه مصباحا كاشفا يطارد الغامض ويبسط الصعب .

وكان ترشيحى لسليمان حافظ ليتولى رئاسة الوزراء قائما على ثلاثة عناصر تؤهله لهذا المنصب الخطير فى تلك الحقبة التى لم تشهد مصر مثلها منذ أقبل الخديوى اسماعيل سنة 1879:

أولهما : وطنيته واشتغاله بالمسائل العامة وتضحياته وشجاعته فليس هو رجل قضاء لا يتجاوز اهتمامه وممارسته ودرايته نص القانون وملفات القضايا .
وثانيا : مكابدته لمشكلات الحكم من خلال فتاواه للحكومة فيما يصادفها من ازمات وما تقترحه من تشريعات .
وثالثا : نزاهته وزهده فى المال وفى الجاه وفى السلطان وبساطة حياته وتحرره من التقاليد التى تحكم امثاله .. ولم ادخل فى حسابى وانا ارشحه ان هذا الزهد سيغلبه وانه سيفر من رئاسة الحكومة وهو امر لا يتصور وقوعه فى تلك الفترة من مصرى سواه اذ لم يكن فى مصر من لا يرى نفسه صالحا لرئاسة الوزارة وحتى لتولى عرش البلاد مهما كانت كفايته قليلة ومكانته ضئيلة .

كان سليمان حافظ قد قدم فى يومين متتاليين وفى اقل من شهر وبعض شهر دليلين على انه رجل قد لا يضارعه احد من مواطنيه :

الاول : حينما حصل من الملك على توقيعه بالنزول عن العرش وكأنه يطلب من هذا توقيعه الملك على صك بعشرة جنيهات .
والثانى : حينما جائت اليه الرياسة منقادة فى عهد جديد ومع شبان ما يزالون فى ريعان عمرهم ومعهما قيل فى وطنيتهم وشجاعتهم فان خبرة الحكم كانت تنقصهم فأباها .

واتفق على ان يعقد مجلس القيادة اجتماعا للنظر فى تشكيل الوزارة الجديدة والعجيب اننا التقينا سليمان حافظ على غير موعد فى مبنى ادارة قضايا الحكومة فقد رأيته يسير فى دهليز من دهليزها فى بذلته البسيطة المكونة من بنطلون رمادى وسترة من التيل بيضاء اللون وينتعل حذاء ابيض بنعل من الكاوتشوك المعروف فى مصر باسم الكريب ..

وكأنه لا يمت بصلة الى الرجل الذى كان بالامس يلعب دورا من اكبر ادوار تاريخ مصر الحديث الا وهو انزال آخر ملك من ملوك مصر من فوق عرشه فى اعراق ملكية استمرت ستى ىلاف سنة متصلة لم تنقطع يوما واحدا وحيانى سليمان حافظ؛

ثم قال:اخذ باقتراحك فوزارة علي ماهر اقيلت وعرضوا علىالوزارة فاعتذرت عنها فصرخت لماذا تعتذر؟ان الوزارة هذه المرة ليست تشريفا انما هى مجازفة بالحياة واستهداف مخاطر اكثر من الموت وعبء ينوء تحته اقوى الرجال فقال؛

وكأنه لا يسمع الوزارة بعد عزل الملك اصبحت فى حاجة الى شخصية اكبر منى انا لا احد يعرفنى فى مصر ولا خارجها وشهرة الحاكم فى ظرف ما عنصر من عناصر اهليته للحكم المهم اننا سنجتمع ظهر اليوم بمجلس قيادة الثورة بكوبرى القبة وانت مدعو للمشاركة .

وفى الساعة الثانية عشرة أو بعدها بقليل كنت فى مجلس قيادة الثورة هذا المبنى المكون من دورين فى شارع الخليفة المأمون والذى اعتدت ان أمر به فى سيارتى الصغيرة هيلمان فى اليوم الواحد اربع مرات اثنين فى الصباح واثنين فى المساء دوا أن التفت اليه ودون ان اعرف ماذا فيه .

وكنت قد دخلت هذا المبنى قبل ذلك ثلاث مرات مرة فى يوم الجمعة السابق على هذا الاجتماع ومرة فى يوم السبت ثم مرة فى يوم الاحد وفى اليوم الاول تقابلت لأول مرة مع ضابط شاب فى رتبة صاغ (رائد) ولم يكن هذا الشاب سوى عضو مجلس قيادة الثورة المرحوم عبد الحكيم عامر؛

وفى المرة الثانية وفى المساء قابلت المرحوم قائد الجناح جمال سالم وفى المرة الثالثة التقيت بمجلس القيادة مجتمعا .. باستثناء اثنين هما الرئيس محمد نجيب الذى لم يكن قد ضم بعد لهذا المجلس والمرحوم جمال سالم الذى كان يرفض الاتصال بالمدنيين أو الاستماع الى ما يقولون .

وفى هذا اليوم كان يجرى أول تشكيل وزارى من نوعه فقد عانت مصر منذ احتلها الإنجليز سنة 1882 وكانت لعبة الوزراء وتشكيل الوزارات واقالتها مقصورة على الملك وعدد من رجال قصره يكون أبرزهم احيانا رئيس ديوانه واحيانا ناظر خاصته واحيانا وكيل ديوانه أو كبير امنائه؛

واستمر الحال يتدهور حتى اصبح احد خدمه الذين يعينونه على ارتداء ثيابه وخلعها هو صاحب الكلمة الاولى فى اقامة الوزارات وخلعها ايضا أما خارج القصر فقد اقتصرت اسماء الوزراء على نحو ثلاثين اسما من جميع الاحزاب يتناوبون على مقاعد الوزارة ويسقطون منها ويعودون اليها وكأنهم احجار الدينمو تتغير اماكنها من رقعة اللعب ولكنها هى لا تتغير ابدا .

وفى ذلك اليوم كان يشتغل بالحكومة وبنائها ضباط صغار لا يزيد عمر اكبرهم عن الثانية والثلاثين اذ ولدوا جميعا بين سنتى 1918 و 1919 ولم يكن فى وسع احدهم قبل الثورة ان يخاطب وكيل الوزارة أو امينا عاما فيها الا وهو مشدود القامة محييا تحية عسكرية .

وكان الوزراء الذين يدعون للحكم جددا شبانا صغارا فى اولى درجات السلم السياسى وموظفين قريبين من اعلى السلك الادارى ولكنهم بعيدون كل البعد عن السياسة والوزارة والحكم .

دخلت القاعة التى كان يشغلها رئيس مجلس قيادة الثورة لارى فيها مشهدا عجيبا اناس مدعوون للوزارة وعلى وجوههم من علائم الخوف والفزع ما لم يعل وجه مصرى دعى للوزارة من قبل .

فقد تصوروا انهم مقبوض عليهم اذ أن الدعوة التى وصلتهم لم تبين لهم لماذا دعوا الى مجلس قيادة الثورة المخيف وبعضهم ادرك انه مرشح لتولى منصة الحكم ولكنه اشفق من هذه الدعوة فالملك لم يكن قد غادر البلاد الى منذ اقل من شهرين وامور السياسة لا تستقر على حال وقد يعود المك الى مصر فيتغير من تولى امور الحكم استجابة لدعوة الثورة متمردا وخائنا؛

وقد يساق الى المشنقة بوصفه ثائرا وخارجا على مليكه وفى احسن الظروف قد يودع السجن وان خرج منه فنصيبه التشرد والجوع ثم من يضمن ان الاعتذار عن دخول الوزارة لن يفسر بأنه رفض للتعاون مع الثورة ؟ وقد تستقر هذه الثورة او يطول عمرها فيكون هذا الرفض مخاصمة لها تعرضه للمكاره والتضييق .

ولقد رايت احد المرشحين متجها الى القاعة ومن خلفه ضابط من الشرطة العسكرية والمرشح المسكين يتلفت حوله وكأنه يطلب الغوث والنجدة ولما رآنى وكان يعرفنى هتف باسمى واندفع نحوى ولولا الحياء لالقى بنفسه على صدرى؛

ولكن المرشحين الذين سبق لهم أن شاركوا فى الحكم قبل الثورة دخلوا القاعة هادئين وعلى وجههم قرار ظاهر مقروء :

نحن لن نشترك فى هذه الوزارة لآننا لا نتفق مع مبادئها وفى مقدمتها الاصلاح الزراعى وتناول الامور بروح ثورية تقلب عاليها سافلها وكان فى مقدمة اصحاب هذا القرار محمود محمد محمود والمهندس حامد سليمان ومريت غالي وإبراهيم بيومي مدكور وكان من المعتذرين حنفى محمود شقيق صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين حزب الارستقراطية المصرية
وقد انتهى به الامر الى ان يكون نصيرا للسلام وصديقا للشيوعيين ويساريا بعد ان عاش حياته يدبرالمقالب المضحكة فى اصدقائه واعدائه على السواء ولو دخل الباشا حنفى محمود الوزارة لكان وجوده فيها مددا لروح من العبث المقرون بالجد والجد الممزوح بالعبث الذى كانت الحياة المصرية فى اشد الحاجة اليه لوضع حد لركودها الذى طال نحو ربع قرن منذ أجهضت ثورة 1919 .

رأيت فى ركن من هذه الحجرة المرحوم جمال سالم يناقش تارة فى هدوء واخرى فى صراخ الاستاذ عبد الجليل العمري الذى دخل الوزارة فى نفس اليوم وزيرا للمالية وكانت له شروط بشأن الحد الاقصى للملكية الزراعية وما يحق للمالك الزراعى ان تملكه زوجته واولاده وما يتصرف فيه بالايجار لصغار المزارعين .

وكان جمال سالم يرفض هذه الشروط ويحاول ان يزحزح العمرى عنها ولما لم ينجح سمعته يقول له أنا قابل شروطك لا اقتناعا بها ولكن حرصا على معاونتك واشتراكك فى الوزارة .

وخارج القاعة كان هناك مندوبون للإخوان المسلمون الشباب اذكر منهم المرحومين منير الدلة وحسن العشماوي وكان صهرين اذ كان اولهما زوج اخت ثانيهما وكان حسن العشماوي نجل محمد العشماوى باشا الوزير الذى تعاون قبل الثورة مع الإخوان المسلمين فأصبح من كبار رجالهم وان لم ينضم رسميا اليهم؛

ولكن قيادة الثورة رفضت ان تأخذ احدهما ولا كليهما للوزارة وفضلت عليهما مرشح المرحوم حسن الهضيبى مرشد الإخوان المسلمين وهو المرحوم أحمد حسني وكيل محكمة النقض انذاك وشهدت هذه القاعة مشهدا طريفا حقا؛

فقد كانت المداولات بين الضباط من جهة وبين المدنيين المرشحين للوزارة من جهة اخرى تسفر عن الاتفاق على اسم من الاسماء فيتعين ان يتصل به رئيس مجلس قيادة الثورة تليفونيا ويدعوه للاشتراك فى الوزارة فكان يتلقى الاسم ثم يطلب له صاحب الاسم على التليفون فاذا هم بالكلام نسى الاسم ويطلب أن يذكر به فيذكر له وسط ضجيج القاعة فلا يسمع جيدا فينادى من طلبه فى التليفون باسم مغلوط ثم يصحح له فيصححه بدوره؛

وهكذا والرجل على الطرف الاخر من التليفون مندهش لا يدرى من الذى يعابثه على هذه الصورة وهو يحسب ان الامر مزاح كله وهو فى واقع الامر جد خالص كنت واقفا مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وهو يروى حيرته بين معسكرات الإخوان المسلمين؛

فالشبان منهم لهم مرشحان والشيوخ لهم مرشحان اخران فقلت له حبذا لو اخذت الشيخ أحمد حسن الباقوري وكان جمال متلهفا على حل فسألنى وهو شارد الذهن من ؟ فأعدت عليه الاسم فعاد يسأل من ؟ فلما اعدته عليه للمرة الثانية بدت عليه خيبة امل فقلت له الحقيقة انا بودى ان يكون من بين الوزارء ازهرى صاحب عمامة فاللأزهر ولاصحاب العمائم فضل على نهضة مصر الحديثة فكان منهم الخطباء والشعراء والصحفيون والمفكرون؛

ولكننا درجنا على اهمالهم بلا مبرر والباقورى ازهرى مشتغل بالسياسة وقد جره هذا الاشتغال الى المعتقل فقضى به وقتا غير قصير وهو خطيب ومتحدث ومتطور وسيرى فيه الناس صورة جيدة للازهرى فأجابنى ان اردت الحقيقة أنا افضل ان يكون ممثل الإخوان هو حسن العشماوي فهل تعرفه ؟

قلت له أعرفه جيدا فقد تردد على فى مكتبى ووكلنى فى قضايا الإخوان واعطانى فى يدى هذه المئات وهو شاب ذكى وسيكون له بلا شك مستقبل سياسى ولا اعترض على ترشيحه للوزارة وان كان لا يزال صغير السن جدا فقال لى عبد الناصر على الفور اذن نأخذه ودعك من الباقورى فقلت له افعل ما تشاء فانتم اصحاب الامر وانا لا اقول الا على سبيل الاقتراح .

والعجيب أننى سمعت عبد الناصر يقول لى ولكننى اريد ان توافق على دخول حسن العشماوي الوزارة فأدهشنى منه اصراره على طلب موافقتى فقلت له موافق فسألنى وسحبت ترشيحك للباقورى ؟ فزادت دهشتى وقلت له ان ترشيحى للباقورى او لغيره هو مجرد اقتراح تأخذون به أو تدعونه كما يحلو لكم ولست أرى تعارضا فى ان تأخذهما معا فهما مرشحان جيدان؛

فقال فى اسف بل لابد من اخذ احدهما فقط لأنى لا استطيع أن أخذ من الإخوان المسلمين اكثر من اثنين ولا استطيع ان آخذ من فريق الشباب اكثر من واحد واريد ان يكون هذا الواحد هو العشماوى ولكنك مصمم على ترشيح الباقورى فقلت له وماذا يقدم تصميمي او يؤخر فأنت الذى تختار الوزارء لا انا فهز رأسه وقال ليكن ما تريد سناخذ الباقورى .

ومن غرائب التاريخ أنه لم يكد يمضى على هذا الحديث بضعة شهور حتى كان حسن العشماوي قد صار خصما عنيفا للثورة ولعبد الناصر بالذات وبلغت هذه الخصومة الى حد ان اتهمته الثورة بتدبير انقلاب ضدها وحوكم غيابيا وحكم عليه بالموت فاضطر الى اللجوء الى الكويت وعاش فيها لاجئا وعلا مقامه هناك حتى توفاه الله وهو فى مقتبل العمر .

وفى ذات ليلة بعد تأليف الثورة بشهور انصرفنا نحن سكان مصر الجديدة من اعضاء مجلس الوزارء الشرباصى وأحمد حسني والباقورى وانا فركبنا معا عربة واحدة وجاء ذكر العشماوى فقلت للباقورى لو ان ترشيح حسن العشماوي نفذ يومذاك لكان معنا الان ولكنت انت محكوما عليك ومطاردا وهائما على وجهك . ولم اكن قد ذكرت للباقورى حتى هذا اليوم شيئا عن ترشيحى اياه خشية ان يكون فى ذلك صورة من صور المن .

ولم ينته ترشيح الرجال واستبدالهم بغيرهم بل استمرت عملية الترشيح فالذين رشحتهم فى ذلك اليوم وهم سليمان حافظ والدكتور صبري منصور والاستاذ فراج طايع والاستاذ حسين أبو زيد والشيخ الباقورى ثم فريد أنطون بعد ذلك لم يبق منهم فى الوزارة قبل ان ان يكمل عاما الا الباقورى الذى اثبت انه سياسى وانه يتمتع بمرونة وحسن حيلة؛

اما الاخرون فقد خرجوا من الوزارة تباعا وكان ذلك طبيعيا فقد كانوا رجالا صالحين فى كثرتهم وعلى خلق عظيم لكن لم يكن فيهم سياسى واحد والبقاء فى الوزارة خصوصا فى اوقات الازمات يحتاج الى قدرة سياسة فلا تنفع الكفاءة الفنية وحدها ولا ينفع الخلق القويم وحده؛

فالمرونة التى ترتفع احيانا او تهبط الى المداوارة ثم المنافقة وضبط النفس حتى لا يندفع السياسى الى معارضة ومهاجمة كل ما لا يعجبه محتفظا بنفسه الى المواقف الاكثر اهمية قد تتحول مع الزمن الى وصولية تبررر كل خطأ وتؤيد الحاكم فى كل ما يقول ويعمل ولكن الظروف وايضا الحظوظ لهما دورهما وكلمتهما فيما يرفع الناس وفيما يهبط بهم فقد يكون الفرق بين دخول الوزارة او دخول السجن بل صعود المشنقة مجرد حركة صغيرة او دخول زائر غير متوقع او تعطل خط تليفونى .

ولدى على ذلك امثلة كثيرة فمرشح حسن الهضيبى الاول للوزارة فى السابع من سبتمبر 1952 كان هو الاستاذ كمال الديب محافظ الإسكندرية فى ذلك الوقت ولكنه لم يدخل الوزارة لمجرد وجوده فى الإسكندرية يوم تأليف الوزارة اذ كان جمال عبد الناصر حريصا على ان يتم الوزارة فى تلك الليلة وقد كان تأليفها ممكنا مع ادراج اسمه فى قائمة الوزارء وتأجيل حلف اليمين بالنسبة لكمال الديب الى اليوم التالى .

وفى ذات الليلة عدت الى بيتى وبينما انا على السلم المؤدى الى مكتبى فى المنزل سمعت جرس التليفون فعدوت نحوه ورفعت السماعة فاذا المتكلم جمال عبد الناصر وكنت انذاك وزيرا للمواصلات فسألنى هل تعرف الدكتور مصطفى خليل ؟

فقلت له لقد مر على فى مكتبى بعد ان حددت له موعدا بناء على طلب الاخ زكريا محيي الدين الذى فهمت منه أنه صديقه وزميله فى نادى التجديف فضحك عبد الناصر وقال انا عارف ان صداقتهما رياضية واسترسلت فى كلامى بعد هذه المقاطعة قائلا لقد جاء يعرض على فكرة ادخال نظام جديد اسمه نظام التحكم المركزى يغنى عن ازدواج الخطوط فى السكك الحديدية؛

فقال عبد الناصر وما رأيك فيه على العموم فقلت له ان جلسة واحدة لا تكفى للحكم له او عليه ولكن الاثر الذى تركه فى نفسى فى هذه لجلسة كان طيبا فقال عبدالناصر وما رايك ان يمسك وزارة المواصلات وكان لفظ يمسك من تعبير الضباط بمعنى أنه يتولى امر وزارة او منصب ما فقلت على خيرة الله فقال ايه مش موافق ؟

فقلت ابدا كيف لا اوافق وانا لم اجلس معه الا عشر دقائق فعاد عبد الناصر يسأل وفى صوته شىء من التردد يعنى رأيك ايه على العموم ؟ فضحكت وقلت رأيى على العموم هو رأيى على الخصوص ففى الحالين لا استطيع ان احكم عليه فقال يعنى بلاش فاضطررت امام هذا الالحاح ان اقول لا لا ابدا ليس هناك ما يدعو الى العدول عن ترشيحه؛

ولكن اذا كنت تريد ان اقول شيئا من ظاهر الامور فان مما يحسب له انه مهندس سكك حديدية وقد يدفعه ذلك الى اساءة معاملتهم كما قد يحمله صغر سنه الى الرغبة فى اقالة الموظفين الكبار فى السكك الحديدية والتليفونات والمرفقان لا يحتملان ان يحدث فيهما عملية كهذه؛

فقد اخرج منهما فى اول الثورة عدد من خيرة المهندسين لمثل هذا الاعتبار فقال عبد الناصر خليه يدى لهم على رؤوسهم يستاهلوا وكان عبد الناصر دائم الشكوى من مرفق السكك الحديدية ومن كبار موظفيها ويتمنى ان يتخلص منهم او يضع لهم من يتولى تأديبهم .

ولكن هذه المكالمة انتهت بختام اراه مهما للغاية فى الدلالة على اسلوب اختيار الوزراء والرؤساء فقد قلت لعبد الناصر هل اخبرت باقى الزملاء بهذا التعيين الجديد؟ فقال لى مندهشا ولماذا اخبرهم؟ فقلت له ان الوزير الجديد سيكون زميلا لباقى الوزراء وسيجرى بينهم تعاون حميم..

وقد يكون احدهم يعرفه وقد تكون علاقة احدهم به سيئة فكيف يتعاونان وزمالة احدهما للاخر مفروضة على كليهما ثم ان الوزراء احق بأن يعرفوا التغيير الذى سيطرأ على مجلس الوزراء الى ينتمون اليه ويعملون فيه بد من ان يقرأوه فى الصحف كباقى القراء فكان جواب عبد الناصر هل تتصور ان كلهم زيك السلام عليكم . وانتهت المكالمة .

واستمر ترك اختيار الوزراء واشباههم من الرؤساء للمصادفات من ذلك انه عرضت علينا يوما مذكرة موقع عليها من الدكتور عزيز صدقي مع اقتران امضائه بلقب المستشار الفنى لرئيس الوزراء فلما وقع نظر جمال سالم على هذا الوصف صرخ بأعلى صوته ابن ال .. مين اللى عينه مستشارا فنيا لرئيس مجلس الوزراء ؟

وكان رئيس مجلس الوزراء فى ذلك الحين هو اللواء محمد نجيب فأعلن على الفور انه لم يعينه ولم يستعين به فى شىء ولم يعرض عليه اى عمل أو أى تقرير من تقاريره وان اقصى ما سمعه عنه ان الصاغ مجدي حسنين مدير مكتبه قد الحقه بمكتبه كمعاون له اى لمجدى لا للرئيس وانه لم ير التدخل فيمن يختارهم مدير مكتبه لمعاونته فى عمله .

وعلق الوزراء على هذا الاسلوب من الالتصاق بمكاتب رئيس الوزراء والوزراء بدون علم الوزير المختص وبدون موافقة المجلس او صدور قرار بذلك كل بما وفق اليه من كلام ونال الدكتور عزيز صدقي فى تلك الجلسة نصيب غير قليل من هذا الكلام وبعد قليل لم يلبث الدكتور عزيز صدقي حتى اصبح وزيرا للصناعة ومقربا للرئيس عبد الناصر حتى اصبح فيما بعد رئيسا للوزراء .

واليك مثل آخر على تعيين الكبار وتقريبهم وابعادهم ذهبت يوما الى بيت الرئيس جمال بلا موعد وسألت عن الرئيس فقال لى احد الضباط العاملين فى مكتبه الرئيس موجود ولكن معه الدكتور عبد المنعم القيسوني فقلت له ارجو ان تخبره فتردد الضابط قليلا..

فقلت له قل للرئيس انى موجود فقد طلب ان اقابله ولو كان معه غيره كان هذا القول منى صحيحا المهم اننى دخلت مكتب الرئيس فوجدت الدكتور القيسونى يعرض عليه اعمال وزارته وكان من بينهما اختيار شخص يتولى امر الحراسة على اموال الرعايا الفرنسيين والبريطانيين الذين هاجروا من مصر فى اعقاب حرب السويس سنة 1956 فرشح الرئيس جمال لهذا المنصب الدكتور كمال رمزى استينو وكان الدكتور استينو وزيرا للتموين فى ذلك الحين فاستفسر الدكتور القيسونى وهل سيترك ستينو الوزارة؟

فقال الرئيس ولماذا يتركها ؟ فقال القيسونى كيف يتفق ان يكون وزيرا فى الوزارة وزميلا لى ثم يتبعنى ويعرض على اعمال الحراسة اصدر له الاوامر والغى اوامره ؟ فهز الرئيس جمال رأسه وقال وفيها ايه؟ فقال القيسونى هذا سيكون محرجا لى فضلا عن انه سيشل رقابتى على اعمال الحراسة اللهم الا اذا الحقت الحراسة برئاسة الجمهورية فقال الرئيس جمال مستنكرا هذا الاقتراح وهل ينقصنى قرف جديد ؟

ثم سأل الا يوجد عندك وكيل وزارة من وكلاء المالية يصلح لأن يكون حارسا ؟ فاعتذر القيسونى بأن اعباءهم فوق ما يطيقون كنت طول الوقت ساكتا ولم اشترك فى الحديث برأى اذ ان وجودى لم يكن مأخوذا فى الحسبان ولم يكن موضوع الحديث موضوعا يسمح لغير الزير المختص ان يشارك فيه ولو بتعليق ولكنى رأيت نفسى مضطرا لأن أقول شيئا؛

فقد سمعت عند اول مقدمى ان الدكتور مصطفى خليل وزير المواصلات غير مستعد للتعاون مع المندهس موسى عرفة وكيل وزارة المواصلات وانه يطلب اقالته من منصبه او نقله الى وزارة اخرى وان المهندس موسى عرفة طلب نقله الى وزارة الرى لأنه اصلا من كبار مفتشيها الا ان وزارة الرى اعتذرت عن قبوله بأنه ليس فيها منصب وكيل وزارة شاغر فاقترح الرئيس جمال على القيسونى نقله الى وزارة المالية لدى اقتراح لحل المشكلة فقال متهللا وماذا هو ؟

قلت يعين موسى عرفة حارسا على اموال الرعايا البريطانيين والفرنسيين فتحل بهذا مشكلة البحث عن حارس وتحل فى نفس الوقت مشكلة موسى عرفة نفسه الذى يراد ابعاده عن وزارة المواصلات ولا تجدون له مكانا بدا السرور الشديد على وجه الرئيس جمال وهنأنى طويلا على هذا الحل ووقف قائلا هلى صدقتنى ان مجيئك نافع ؟

وعلى ذكر القيسونى نفسه اذكر كيف اختير لمنصب نائب وزير مالية فقد كنت جالسا مع الرئيس جمال فى مقر قيادة الثورة الكائن على شاطىء النيل الغربى بحى الجزيرة كان الدكتور عبد الجليل العمري على ما اذكر قد شكا من كثرة عمله بوزارة المالية وطلب ان يعاون بنائب وزير يحيل اليه بعض الاعمال؛

ولما كان عديل الرئيس جمال اى زوج شقيقة حرمه هو الاستاذ محمود فهمي رزق وكان موظفا كبيرا وقديما من موظفى البنك الأهلي وكان البنك هو مستودع الكفايات الاقتصادية وكان اكثر موظفيه من الشبان المصريين الذين حصلوا على الدكتوراه فى الاقتصاد من انجلترا او امريكا؛

فقد رأى الرئيس ان يستعين بعديله فى اختيار واحد من شبان البنك الأهلي الممتازين وجاء الاستاذ محمود رزق الى مقر القيادة وتكلم كعادته بصوت خفيض وحياء شديد حتى لقد كنت احاول التقاط الفاظه بصعوبة مع اننى كنت اجلس الى جواره تماما؛

وكان خلاصة كلامه ان المفاضلة تقوم بين الاستاذ عبد المنعم القيسوني وعلى الجريتلي وانهما متقاربان على وجه العموم وان كان الجريتلى اوسع علما واكثر شجاعة اى اقل ميلا للمجاملة والمداراة الا ان القيسونى اكثر اختلاطا بغيره من موظفى البنك واقل انطواء على نفسه وبعدا عن الناس فكانت صفاته الاجتماعية هذه هى العامل المرجح فى الاختيار .

ذات يوم كان السيد أمين شاكر مديرا لمكتب الرئيس ومن المقربين الى قلبه ولكن حدث منه ما اغضب الرئيس عليه فأقصاه عن مكانه فاشتغل أمين شاكر بالتجارة وفتح مكتبا للاستيراد والتصدير أو شيئا من هذا القبيل وراح يتردد على الوزراء لشئون عمله؛

فجاء الرئيس جمال الى مجلس الوزراء وقال للوزراء احب ان اقول لكم ان أمين شاكر صديقى وهو خفيف الظل وذكى ولكن علاقاته الان لا تطمئننى فارجوكم لا تفتحوا له مكاتبكم ولا تقابلوه ثم التفت الى الدكتور استينو بالذات وقال ويا دكتور كمال لا تعطه موعدا بعد ذلك ابدا .

ولكن لم ينقض على هذا الحديث سوى شهور حتى استعاد أمين شاكر ثقة الرئيس ثم عين وزيرا للسياحة بعد ان قضى مدة غير قصيرة سفيرا لمصر فى بروكسل لدى مقر السوق الاوربية المشتركة .

وقد لا يكتمل الكلام عن الرجال الا اذا ذمرنا مستشارى الرئيس جمال فالناس كانوا يحكمون على الامور من ظاهرها فيظنون مثلا ان السيد حسن صبري الخولي ممثل الرئيس الشخصى هو واحد من اقرب الناس الى الرئيس ومن اكثرهم ترددا عليه واختلاطا به ولكن الواقع كان ابعد ما يكون عن هذا التصور الذى له ما يبرره تماما؛

فقد قال الاستاذ حسن صبري الخولي نفسه لصديق مشترك اعتاد ان يفضى اليه بمتاعبه هل تصدق اننى لم ار جمال عبد الناصر على انفراد خلال اكثر من عشر سنوات الا مرتين وكانت مقابلتى له على هذه الصورة فى المرتين بناء على طلبى اما فيما عدا هاتين المرتين فقد كنت اقابله مع غيرى من الزائرين الكبار .

وقد قال مستشار اخر للرئيس هو السيد حسين ذو الفقار صبرى الصديق وكان حسين قد نقل من منصب وكيل الوزارة الخارجية الى مستشار للرئيس فى الشئون الخارجية وكان قد انقضى على تعيينه بهذا المنصب اكثر من تسعة اشهر السؤال الوحيد الذى وجهه الى الرئيس جمال هو سؤاله عن صحتى حينما التقينا على سبيل المصادفة فى حفلة زفاف ابنة احد كبار الضباط واراد الرئيس ان يمرحول مائدة الشاى لسبب وكنت على قمة المائدة وكان المكان ضيقا فالتقى وجه الرئيس بوجهى فقال لى ازى صحتك يا حسين .

وعندما اعتذرت فى أكتوبر 1958 عن ان اكون وزيرا للثقافة والارشاد القومى فوجىء الدكتور ثروت عكاشة وكان سفيرا لمصر فى روما وهو يتسمع الى نشرة الاخبار من الاذاعة بأنه اختير وزيرا للثقافة دون أن يفاتحه فى هذا الامر احد .

الفصل التاسع:عندما يغضب عبد الناصر

كنت كما ذكرت من قبل زاهدا فى العودة الى وزارة الارشاد القومى الاعلام سنة 1956 على الرغم من انى انا الذى كنت قد دعوت الى انشائها وعانيت كثيرا حتى انتهى مخاض ميلادها ثم رأت النور ووقفت على قدميها وساقيها الصغيرتين تديرها الرياح يمينا ويسارا وتحاول ان تقلبها على وجهها ثم تنتزعا من جذورها الغضة اللينة .

وقد بينت فيما سبق من القول سبب زهدى فى هذه العودة فان وزارة الارشاد القومى الاعلام التى تشرف على الاذاعة وتعمل على انشاء التليفزيون وتدير المسارح والسينما وتتبعها مصلحتا الاثار والسياحة وتبسط ظلها على المتاحف القديمة والحديثة وتعقد الندوات وتطبع المجلات وتصدر الكتب والمسلسلات هى اكثر الوزارات جاذبية؛

فالفن جذاب وسدنة الفن من مطربات وممثلات وراقصات ومن يلحقهن من ربات الجمال وبائعات الفتنة والباحثات عن الشهرة والطامعات فى المال ومن وراءهن من الرجال ذوى المطامع والمآرب الذين يحسنون اكتشاف الطرق الى اصحاب السلطة والنفوذ والمكانة كل هؤلاء يأبون ان تكون الوزارة عملا جديا ولا ان تتأبى على اطماعهم وشهواتهم فان استعصت عليهم اعلنوا الحرب على الوزارة وعلى وزيرها وعلى كل من بها وما يمت اليها .

ولكن هؤلاء على ضراوة اساليبهم وعلى عدم تورعهم عن استعمال اى سلاح يحقق اطماعهم كحشرات المنازل ما يكادون يحسون بالنور قد اضاء ووقع الاقدام قد اقترب منهم حتى يفروا بسرعة خاطفة فوزير الارشاد القومى اى وزير الفن والاذاعة والسياحة والطباعة يجب ان يكون ثابتا فى مقعده مؤيدا بالسلطة محمى الظهر ولما كنت اعلم اننى قادر على الظفر بالتأييد وبالسلطة الكاملة واننى مهيأ بطبعى للمعارك واندبرت خطتها فى الظلام واشرف على تدبيرها سفلة القوم واحط اللئام شريطة ان اكون على احسن العلاقات بصاحب السلطة الاول اى الرئيس جمال عبد الناصر .

ولم اكن اشك فى مودة الرئيس لى ولا فى حسن ظنه بى ولا فى رغبته فى ان يقف معى وان يدفع عنى ولكن بشرط الا اختلف مع خطه السياسى والاساسى والا ادخل فى معارك مع الذين يؤثرهم بحبه وثقته .

ولما كنت لا اضمن ان احقق هذين الشرطين فقد اعتذرت لجمال عبد الناصر عندما رشحنى لوزارة الارشاد القومى ولكنه اصر واطال فى محاولة التأثير على وكان فى غير حاجة الى بذل مجهود كبير لاغرائى فقد كان بى ضعف حقيقى امام هذه الوزارة ولم اكن قد يئست بعد من ان تؤدى رسالتها على الصورة التى تخيلتها لها .

ولكن لم ينقض وقت طويل حتى تحققت كل مخاوفى ووقع بينى وبين عبد الناصر ما كاد يؤدى الى قطيعة كاملة بيننا لولا انه كان حريصا على استبقاء علاقتى به .

لما عدت الى وزارة الارشاد القومى فوجئت بحقيقة لا يصدقها عقل وجدتها هيكلا عظيما لا لحم فيها ولا شحم وربما ولا عظم ايضا لأنى وجدت فى الوزارة وكيلا لها يعنى قمة موظفيها ثم موظفا فنيا واحدا فى ادنى درجاتها وليس بينهما احد سواهما فتصور هيكلا عظيما يتكون من الجمجمة ثم القدمين ولا شىء يربط بينهما وكيف استقرت الجمجمة فى الهواء وماذا كانت تفعل وفيم التصاق القدمين بالارض وماذا كانا يعملان ؟

الله وحده يعلم وبالطبع لم تكن بالوزارة وحدة حسابية ولا وحدة ادارية تدير شئون الموظفين ولا شىء اخر يمت الى ما تواضع عليه الناس فى جميع بلاد الله لاقامة الوزارات والمصالح والدوائر الحكومية .

والسبب فى هذا كله أن السيد وزير الارشاد القومى السابق المرحوم صلاح سالم كانت تقع على كتفيه أعباء الدعاية فى خارج البلاد وكان دائم التنقل من السودان الى العراق الى غيرها؛

وكانت الوزارة بمصوريها وصحفييها ومترجميها وفنييها تتبعه اينما ذهب ولكى يواجه صلاح سالم الفراغ الناجم عن اتصاله بشئون السياسة العامة أعطى استقلالا تاما للمصالح التى تتبعه وهى الاذاعة والاستعلامات والمسارح ونعم مديرو هذه المصالح بفترة كانت اسعد فترات حياتهم الحكومية .

فلما جئت الى الوزارة فوجىء هؤلاء المديرون بأن مصالح اخرى كالسياحة والاثار قد انضمت اليهم وبأن الوزير قد كرس وقته كله لعمل الوزارة وبالتالى سيمارس كل اختصاصات الوزير الممنوحة له بلا تزيد ولا استئثار بالسلطة ولكن ايضا بلا تفريط فيها ولا تنازل عنها حيث لا مبرر للتنازل ولا للتفريط .

وكان ذلك أشبه شىء بالكارثة حلت بهم فكان لابد أن تواجه هذه الحالة الطارئة من جانبهم بمقاومة ايجابية والا دالت دولتهم وزالت سلطتهم .

وفى ذات يوم وجدت على مكتبى ورقة طويلة مكتوبة بخط عريض فتناولتها فاذا هى صحيفة احتجاج أو قل اتهام موجهة من احد المديرين التابعين لى والمعروفين بالحذر الشديد فى كل خطوة والاحتياط التام فى كل كلمة يقولونها واعدت قراءة الصحيفة وادهشنى انها جاءت هكذا مفتوحة بلا مظروف كأن كاتبها اراد لها ان تعرف فى دوائر الوزارة وان تتداول الالسنة ما جاء فيها .

ولقد تعودت فى مثل هذه الظروف الا اصدر قرارا بل أننى لا ادع نفسى تنساق مع الانفعال الاول لقد كان المطلوب ان اغضب وكان المطلوب ان اتخذ قرارا ولذلك لم اتخذ قرار بل لقد حدث أن اتصل بى هذا المدير الذى يطالب باعادة سلطات زعم أنها سلبت منه وباختصاصات انتزعت؛

وكانت كما قال من حقه ولعل اتصاله التليفونى بى كانت الغاية منه معروفة ما اذا كانت الصحيفة قد وصلتنى وما هو أثرها عندى فرآنى هادئا كأن لم يحدث شىء ورددت عليه كالعادة وانتهى الحديث على وجه جعل السيد الدير يشك فى وصول خطابه الى لذلك كالعادة؛

وانتهى الحديث على وجه جعل السيد المدير يشك فى وصول خطابه الى لذلك اضطر الى ان يتصل بسكرتيرى الخاص ويسأله عما اذا كان الخطاب قد سلم الى فأخبره بأن ذلك هو ما حدث بالضبط وان هذا الخطاب كان اول ما قرأته .

وانتظر المدير العام والذيم حوله من المديرين الاخرين يوما كاملا وفى الليل الهادىء وبعد أن فرغت من عملى قر قرارى على ان اندب المدير العام صاحب الخطاب الى ديوان الوزارة وان احيل اختصاصاته الى وكيل المصلحة التى كان يديرها وكان موظفا على درجة عالية من الكفاءة الفنية مع صفات خلقية لم تكن محل خلاف بين عارفيه .

واستدعى وكيل الوزارة المدير العام واعلنه أنه ندب للعمل فى ديوان الوزراة فوقع النبأ عليه وقع الصاعقة فقد كان يتصور اننى لن اجرؤ على المساس به وان انتزعه من مكانه على رأس مصلحته الذائعة الصيت الكبيرة القدر أمر لا يخطر على بال لأنى اول من يعلم أن هذه المصلحة هى اهم مصالح الدولة عند عبد الناصر وان من الاقوال المتداولة ان عبد الناصر يتفاءل بوجود هذا المدير بالذات على رأس تلك المصلحة .

ونفضت يدى من هذه المسألة لأنى فة واقع الامر لم اعدها أكثر من كونها عملا عاديا من اعمال الوزير فلقد كنت وما ازال اومن بأن من حق الوزير ان يندب المديرين من اية جهة فى وزارته الى اية جهة اخرى فى الوزارة ذاته ما دامت المصلحة العامة هى غايته وانه لا تعقيب على تصرفات الوزير وقراراته داخل وزارته ما دامت فى حدود اختصاصاته فقد نجمت عن هذا التصرف الادارى البسيط ازمة شديدة بينى وبين عبد الناصر .

والحق ان وقوع هذه الازمة ادهشنى تماما وكنت قد رأيت ان اطلع عبد الناصر على قرار الندب بخطاب كتبته بخط يدى وطويته داخل مظروف وارسلته الى مكتب الرئيس مع موظف من مكتبى .

وبدأت طلائع الازمة ونذرها حينما ذهبت بعد صدور قرار الندب الى ميدان الاوبرا بالقاهرة لاشترك فى تشييع جنازة أحد زملائنا الوزراء وهو المستشار جندي عبد الملك وزير التموين فقد توفى الى رحمة الله وهو يشغل منصب الوزير؛

فلما دخلت السرادق وكان عبد الناصر يجلس فى صدره رأيته مكفهر الوجه فلم اتصور ولو لجزء من الثانية ان هذا الاكفهرار هو تعبير عن حزن عبد الناصر على جندي عبد الملك فقد كانت صلته به ضعيفة جدا وكانت مدة شغله للوزارة قصيرة تأكدت ان هذا الاكفهرار شىء خاص بى بعد ان رأين زملائى الوزراء يجيئون تباعا ويتجهون الى الرئيس يعزونه فيحسن استقبالهم فى حين انه اشاح بوجهه عنى مما صرفنى عن تحيته .

ولما انتهت الجنازة وعدت الى مكتبى عرفت ان السيد جمال سالم قد اتصل بمكتبى فى الوزارة مرارا فلما تم الاتصال بينى وبين جمال سالم بدأنى بقوله:ماذا فعلت مع الرئيس ؟ فقلت له:خير لا شىء. فقال وهو يضحك : كيف لا شىء وهو غاضب منك اشد الغضب الى حد انى لم استطع ان اذكر اسمك امامه الا مرة واحدة فلما كررت اسمك صاح : ارجوك لا تسمعنى هذا الاسم ثانية .

لقد كان مثل هذا الكلام جديرا فى ظرف اخر ان يبعث فى نفسى الغضب او ان يشغل بالى . ولكن لحسن الحظ ملأنى هذا الكلام برودا واشعرنى بأن الموقف به من الهزل ما لا يصح معه الانفعال ولذلك دهش جمال سالم حينما سمعنى اقول له:على كل حال الدنيا لم تخرب بعد وفى وسعك ان تريح الريس من سماع اسمى وان اريحه انا ايضا من رؤية وجهى .

فقال جمال سالم:ماذا تعنى ؟ قلت:وهل لكلامى معنى اخر اعنى اذهب الى بيتى فقد ان لى ان استريح واريح.ففاض جمال سالم رقة ولطفا ومجاملة والذين يعرفون جمال سالم يعرفون ان الرقة واللطف والمجاملة ليست من صفاته التى تحضره دائما وانما هو فى الاغلب الاعم من الاحوال ساخط ثائر بل عاصف قاصف ينال الناس من قبضات يده وصفعات كفه وركلات قدمه وقذائف لسانه الشىء الكثير ولكنه حينما تصفو نفسه يصبح آية من آيات الرقة والوداعة والحرص الشديد على مشاعر الناس .

انتهى حديثنا على ان نلتقى فى نفس اليوم او فى اليوم التالى بمكتبه بمجلس الوزراء وكان هذا المكتب ذاته هو مكتبى عندما كنت اشغل منصب وزير الدولة .

وتلاقينا وسألنى : ما الحكاية ؟ فقلت له : الحكاية أتفه من ان تحكى مدير عام يتبع الوزارة التى اديرها واشرف عليها ارسل يحتج على تصرفات لى فى خطاب مفتوح وكان بوسعه ان يتحدث الى شفويا وشخصيا ولكنه فعل ما فعل مدفوعا من اخرين من مديرى الوزارة وبعضهم عسكريون ولم افعل اكثر من ندبه الى ديوان الوزارة وليس هذا الاجراء جزاءا ولا عقابا .

وسألنى جمال سالم سؤالا عابرا : وهل من حق الوزير ان يندب مديرا عاما لا يعين الا بقرار جمهورى ؟ فأجبته : بأن ذلك من حقى بلا شبهة ومع ذلك فقد تداولت بطريق الصدفة مع اثنين من الوزارء الزملاء احدهم قضى حياته موظفا متقلبا بين ادنى الدرجات الى ان اصبح وزيرا والثانى هو وزير العدل المكلف بالسهر على تنفيذ القوانين وسلامة التشريع فأقرانى .

وخيل الى جمال سالم ان وساطته نجحت وأنه استطاع ان يصرف الغضب عن نفس جمال عبد الناصر فاتصل بى مرارا بيتى وكنت قد اعتكفت فيه لا ارد عليه ولا على سواه لأنى كرهت ان تقوم بسبب هذه المسألة التافهة منازعة وان تستلزم المنازعة والوساطة .

واخيرا نجح جمال سالم فى ان يتصل بى ولدهشتى وجدنى هادئا فان فشله فى محاولة الاتصال باحد كان يشعره بالاهانة وشعوره بالاهانة كان يدفعه الى الثورة وكانت الثورة تخرجه عن طوره اخبرنى جمال سالم بأن كل السحب تبدد وان السماء اصبحت صافية؛

وان عبد الناصر يقيم فى استراحة القناطر الخيرية غير بعيد عن القاهرة وانه سيستقبلنى فور الاتصال به وقد استمعت لهذا الكلام الى آخره ولكننى كنت موقنا أن جمال سالم أخطأ فهم مزاح عبد الناصر واسلوبه فهو لا يغضب الا نادرا ولكنه اذا غضب كان غضبه شديدا من ناحية كما ان صفاء مزاجه كان يحتاج من ناحية اخرى الى وقت يطول .

وقد صح ما توقعته اذ انى طلبت استراحة القناطر فرد على الاخ محمد أحمد وقال ان الرئيس نائم وانه عند استيقاظه سيتصل بى واعدت السماعة الى مكانها وانا اعرف انه لن يتصل بى ثانية وقد تحقق ما توقعته تماما فلم يتصل بى احد ولكن جمال سالم هو الذى اتصل بى وقد بدت فى صوته لهفة من يريد ان يعرف نتيجة تدخله ووساطته فأخبرته بما حدث فبدت على صوته خيبة امل عميقة وقال:اذن نتقابل غدا فى مكتبى .

ذهبت الى مكتبه وفى جيبى استقالة مسببة وقد اطلعت عليها جمال سالم بعد فترة قصيرة من الحديث معه علمت منه اسفه الشديد لعدم نجاحه وقد لاحظت أنه بدأ يميل الى جانب عبد الناصر بمعنى أننى هولت من امر الخطاب وانه لم يكن يزيد عن مجرد ابداء رغبة من مدير لوزيره؛

واننا يجب ان نشجع الموظفين على ابداء آرائهم والا نعتبر كل اعتراض على تصرف من تصرفاتنا تمردا وثورة من المرؤسين أما الندب فلم يكن من حقى وان الوزيرين اللذان افتيانى بصحة اجراء الندب الصادر منى قد غررا بى .

فقلت له:انى اشكرك على تجشمك متاعب الوساطة والحق انى كنت زاهدا فى البقاء فى الوزارة ولذلك كنت ادعو فى سرى الا تنجح الوساطة .

وكنت اتوقع ان يثير هذا الكلام جمال سالم ولكنه تقبله بروح طيبة ولما قلت اننى لم اكن فى حاجة الى فتوى من احد فالمسألة قانونية وانا محام ومحام امام مجلس الدولة لم يعقب ولكنه اخذ الاستقالة وراح يقرأها معجبا بألفاظها ومعانيها وسألنى متى كتبتها وكم استغرقت كتابتها من الوقت ؟

فلما قلت له:اذا عرفت يا اخ جمال اننى كتبت منذ توليت الوزارة فى 7 سبتمبر سنة 1952 ما لا يقل عن عشر استقالات وجب ان يخف عجبك فقد تمرنت على كتابة الاستقالات انفجر جمال سالم ضاحكا وراح جسمه يهتز اهتزازا عنيفا من ثورة الضحك ثم تصافحنا وتمنى لى الصحة ومستقبلا سعيدا خارج الوزارة ووعدنى بأنه سيزورنى دائما فى مكتبى مكتب المحاماه ومنزلى .

وشكرت له هذ المشاعر الجميلة وانصرفت دون ان يخالجنى اى شعور بأن الاستقالة التى اعجبت جمال سالم ستقبل وقد تحقق للمرة الثانية ما توقعته فقد اتصل الاخ محمد أحمد واخبرنى بأنه قد تحدد لى موعد لمقابلة الرئيس جمال فى منزله بمنشية البكرى .

ومضيت الى الموعد فاذا بالرئيس جمال يقابلنى متهللا والحق ان هذه المقابلة ادهشتنى فقد ظننت انه سيبقى فى نفسه اثر غضبه لقرار الندب الذى اعتبره اجتراء على حقوقه من جهة والذى عده تمردا عليه من جهةاخرى اذ كانت ادارات وزارة الارشاد القومى (الاعلام) تعتبر بالنسبة له مواقع استراتيجية ومناطق حساسة .

بدأ عبد الناصر حديثه معى بالضحك بطريقته المألوفة التى سبق ان وصفتها والتى تشبه رشف الماء وبعيدة غاية البعد عن جلجلة الضحكات المبهجة التى تعدى السامعين بالبهجة والسرور .

بدأ حديثه بالعتاب قائلا:منذ متى نتعامل بالكتابة ؟ لقد افزعنى اذ وجدت منك وزاد فزعى اذ رأيت الخطاب منطويا على اخطارى بأنك ندبت أحد المديرين العامين الذين يعينون بقرار جمهورى لوظيفة غير وظيفته وكان رد الفعل الاول عندى هو ان اكتب اليك خطابا رسميا أقول لك فيه ان اجراءاك باطل وان ندبك كأن لم يكن؛

وبالفعل ناديت علي صبري وكان مديرا لمكتبه وقلت له اكتب لفتحي رضوان حالا خطابا بهذا المعنى ولدهشتى اعد الخطاب بعد عشر دقائق فقط مع ان بعض ما اطلبه من خطابات تتأخر كتابته اياما واحيانا لا يكتب ابدا فقد انسى ولا اجد من يذكرنى ووضع علي صبري الخطاب امامى وامسكت بالقلم وهممت بالامضاء ولست ادرى ما الذى منعنى عن الامضاء وعن ارساله اليك قلت ماذا يريد فتحى من وراء هذا التصرف ايريد ان يخرج من الوزارة بطلا ؟

وهنا قاطعته قائلا:أية بطولة ان استقيل من الوزارة احتجاجا او اعتراضا بسبب ندب موظف ؟ لقد كان الناس يتوقعون منى ان استقيل بمناسبة اتفاقية الجلاء وقد سمعت بأذنى اذاعات اجنبية تقول اننى استقلت فعلا واذاعات اخرى تقول اننى اتزعم مجموعة من الوزراء ترفض هذه الاتفاقية وقد حدثت اشياء كثيرة اعرف ان المصريين لا يحبونها ولكنى لم ارد ابدا ان استغل هذه الظروف .

وطابت نفس عبد الناصر لكلماتى وقال مداعبا : صحيح لماذا لم تستقيل فى هذه المناسبات مع انك كنت غاضبا من اتفاقية الجلاء ؟ فقلت له : لأننى كنت مؤمنا بأننا سندخل عاجلا او اجلا فى صدام مع الانجليز والغرب كله وان المعاهدة ستسقط تلقائيا وكنت احب ان اكون طرفا فى هذا الصدام .

وبدا على عبد الناصر انه نسى تماما موضوع ندب ذلك الموظف الكبير وقال : لكن الحقيقة انك لم يكن لك حق فى ان تتخذ هذا الاجراء كان لابد من الرجوع الى .

فقلت له باصرار : ان ندب الموظف المعين بقرار جمهورى يصح ان يكون بقرار وزارى . قال : وهو يريد المصالحة : ما علينا ولكن انا اريد ان اسوى معك مسألة اخرى وهى مسألة استقالاتك فما يمضى اسبوعان الا واسمع من شخص ما او جهة ما انك استقلت أو ستستقيل .

فقلت له : ان العمل مع الذين حولك صعب جدا وانا ممن لا يحبون ان يشكوا اليك فاما ان تحسم الامرمعهم واما ان اصبر حتى اجد حلا بعيدا عنك . فقال : هذا صحيح انك لم تشك الى قط . واخذ عبد الناصر يسألنى عن علاقتى بكل واحد ممن كانوا حوله ويسألنى عن اسباب الصدام فأتحاشى ان اذكر شيئا بحجة اننى نسيت او ان الامر اتفه من ان يذكر ولكنه عندما ذكر اسم علي صبري الح الحاحا شديدا فى ان يعرف؛

فقلت له : لقد حدث عندما سافرت الى الاتحاد السوفيتى ان اصدرت سيادتك قرارا بندب علي صبري ليكون وزيرا للارشاد القومى كأنى انا لا احسن ضبطهم ولكنى صبرت على مضض وسافرت وعدت فوجدته قد اتخذ اكثر من قرار لا يمكن تنفيذه .

وهنا تفتحت شهية عبد الناصر وقال : اعطنى مثالا لذلك . فقلت : لا داعى للامثلة فهذه امور تافهة وقد انتهت ولكنه اصر على ان يسمع فقلت له : مثلا اراد ان يعين شقيق احد زملائه فى الطيران مديرا للاوبرا وقد عينه فعلا فى حين ان هذا المنصب عين فيه عبد الرحمن صدقي بوصفه وكيلا لمصلحة الفنون التى انشأتها؛

فكأنه عين موظفا على وظيفة مشغولة كما أنه أمر مدير السياحة ان يعين موظفا فى مصلحة الاستعلامات فى احد مكاتب السياحة بالخارج مع عدم وجود وظيفة خالية وهكذا وهكذا وقد اضطررت بعد عودتى ان الغى هذه القرارات ولابد ان اكون قد اغضبته وانا لا اقصد ان اغضبه .

وقد حدث ان اجتمعنا فى مجلس الوزراء فى مساء اليوم التالى فتحدث زكريا محيي الدين فى هذا الاجتماع عن اصلاح قام به فى وزارته وقال ان ذلك سيستدعى عزل عدد من مديرى المحافظات ومديرى الوزارة فندبهم للديوان العام بالوزارة توطئة لعزلهم وهنا اضطر الرئيس جمال أن يسأل زكريا:كيف ندبتهم؟ ولم يفهم زكريا القصد من السؤال .

فقال : كيف ندبتهم ؟ ندبتهم أصدرت بندبهم . فنظر عبد الناصر نجوى وقال ولكن كيف تندب مديرين بقرار منك ؟ فرد زكريا بحسن نية : ومن اذن الذى يندبهم ؟ الست وزير الداخلية فسأله عبد الناصر : وهل يملك الوزير ندب مدير عين بقرار جمهورى ؟ فأجاب الوزراء فى صوت واحد قائلين طبعا . فنظر عبد الناصر وهو يضحك بطريقته المعهودة ويقول " طيب .. طيب" . .

الفصل العاشر : ثقافة عبد الناصر

دق التليفون فى منزلى ذات مساء قبيل الساعة الثانية ثم اخبرت بأن الرئيس جمال عبد الناصر يطلبنى فقمت لأرد دون أن اكلف نفسى مشقة استنتاج الغرض من المكالمة موقنا انه أمر عادى من أمور الحكم ولكن صوت عبد الناصر الذى بدت فيه نبرة مرح واضحة ادهشتنى بقدر ما ادهشتنى صيغة السؤال الذى بدأ به المكالمة فقد قال ماذا تفعل ؟

فأجبته بما نسيته الان ولكنه على اى حال لا يخرج عن أنه ليس لدى شىء هام يشغلنى ثم تزايدت دهشتى حينما سمعت عبد الناصر يقول اذن لنذهب الى الشيطان ذلك اذن أنه على حبه الشديد للمداعبة ولتفوق حاسة المزاج عنده الا انه فى الاغلب الاعم يبدو رصينا متحفظا وخجولا فلا يتبسط الا خلال الحديث وبعد ان يطمئن وينسى تحفظه .

وادركت فى الحال ما يعنيه الرئيس فقد كانت دار الاوبرا تعرض لى مسرحية دموع ابليس وكانت المسرحية محلا لتعليقات كثيرة وشديدة ومن هنا كان من السهل ان ادرك مرماه فقلت له كما ترى فأضاف حكيم معى يقصد المشير عبد الحكيم عامر

وقد قلنا لنذهب الى الاوبرا لنرى ماذا يقول ابليس فتحي رضوان فهل لديك مانع أن تصحبنا الى الاوبرا لنكون فى ضيافتك فقلت له وأنا متأثر فعلا من هذه المكالمة المرحة الفياضة بالود والمجاملة هذ شرف حقيقى للمسرحية ولمؤلفها فقاطعنى قائلا طيب طيب سنذهب فى الموعد متى تبدأ أظن التاسعة الا ربعا فقلت نعم فقال اذن سنتركك لتنهى ما عساه يكون لديك من عمل وسنتقابل هناك .

واعدت سماعة التليفون الى مكانها واتصلت بدار الاوبرا فورا لأنهى اليهم ان الرئيس سيحضر ومعه نائبه فاذا بالدار تعلم واذا بالاستاذ أحمد حمروش مدير المسرح القومى انذاك قد اخطر وقد كانت اكبر المشكلات التى واجهها الجميع فى تلك الليلة هو كيف يملأون القاعة ليبدو المسرح مزدهرا وليبدوا اقبال الجمهور على مسرحياته عظيما او مناسبا .

وعلى الرغم من الجهود التى بذلت على عجل لدعوة عدد من موظفى المسرح والوزارة فقد بقيت اماكن كثيرة فى القاعة خالية ولم يشغلنى هذا فى قليل او كثير ودخلنا الى مقصورة رئيس الجمهورية ومعه نائبه المشير عبد الحكيم عامر وكلاهما فى احسن حالاته المعنوية يتبادلان التعليقات الضاحكة؛

وكما استقبلا بالتصفيق الطويل حيا الرئيس الجمهور الذى كان فى المسرح بسرور وعاد وهو يقول لى الناس عادة تقبل على المسرحيات التى بها اسماء كبيرة فمن ممثلو مسرحيتك ؟ فذكرت اسماؤهم فقال : لا بأس بهم ولكن ليس عدد الكبار فيهم كافيا ومن العادات السيئة ان يكون العمل الفنى وقفا على اسماء بعينها فمهمة الوزارة ان تكشف للناس عن مواهب جديدة وان تقدم لهم اسماء لا يعرفونها ولم يسمعوا بها فهز رأسه وقال هذا صحيح ولكن التغيير متعب .

وبدأت المسرحية وتوالت مشاهدها وفصولها وعبد الناصر ونائبه مندمجان تماما مع احداثها لا يكادان يتبادلان طوال الفصل الاول الا اقل القليل من الكلمات مما عددته تحية عظيمة منهما للمسرحية وبعد الفصل الثانى استأذن مدير الاوبرا فى ان يستقبل الرئيس الممثلين الذين يتوقون الى قضاء بضعة دقائق معه فرحب بذلك واصطفوا امامه فى الصالون الملحق بمقصورته

فتبادل مع كل منهم بضعة كلمات فلما جاء دور احمد علام أطال معه الحديث وكان يبدو على عبد الناصر التأثر لأنه لم يعد يسمع احمد علام ويستمتع بالقائه العذب كما كان يفعل فى الماضى وتقدمت الممثلة عايدة هلال وكانت قادمة من لبنان من فترة قصيرة فقالت انها باسم فنانى سوريا ولبنان تحيى الرئيس فسألها وهل انت سعيدة بالعمل فى مصر ؟ فقال بالطبع مصر ام الفنون فضحك الرئيس قائلا اهلا بك .

وفى فترة الاستراحة كان الحديث يدور حول شئون المسرح والفنون فى بلادنا ولكنه لم يتضمن سوى تعليقات سطحية على هذه الشئون ولكنا ما كدنا نجلس ثلاثيتنا فى عربة الرئيس حتى انفتحت شهية الجميع للكلام وبدأ الرئيس بتعليق على ختام المسرحية؛

وقال لماذا انتهت المسرحية بوفاة البطل ونقل جثمانه وهو منظر فوق كآبته فانه مرتبك ولا يبدو جميلا لقد كنت افضل ان تختم المسرحية بطعن البطل وبكاء ابليس فهو متفق مع عنوان المسرحية وما بعده لا معنى له فقلت له ان ما بعده بقال عنه بالانجليزية انتى كلايمكس اى انكسار القمة فاستعاد هذه العبارة وسأل عن معناها؛

فقلت له الغريب أن ما تقترحه هو نفس المسرحية الاصلية ولكن المخرج رأى تعديل ترتيب الحوادث ولم ارد ان اعارضه فقال عبد الناصر انا أعتقد ان العمل المسرحى ملك المؤلف لا ملك المخرج ولا يجوز له ان يخرج بالنص عن اصله ولكن له ان يفسره كما هو ثم التفت الى عبد الحكيم عامر وقال هل تعرف يا حكيم ان هذا هو العمل الفنى الثانى الذى اراه لفتحي رضوان؛

فقد رأيت له من قبل فيلم مصطفى كامل فقال عبد الحكيم انا شاهدته معك فذكرتهما بأنهما رأياه فى حفلة خاصة بسينما ريفولى احتفالا بالعقيد التشيشيكلى فقال عبد الناصر ليلتها انا كنت طوال الفيلم خائفا على مصطفى ومشفقا من وفاته مع انى اعرف انه مات منذ أكثر من خمسين سنة هذا هو سحر العمل الفنى الجيد .

ثم التفت الى وقال اعمل فيلم آخر عن فريد يقصد المجاهد الوطنى محمد فريد فأكملت له وعن عبد الله نديم فتردد قليلا ثم قال انتم عملتم مسلسلة ناجحة عنه فى الاذاعة انا فاكر اداءها وكان الرئيس عبد الناصر قد قال لى فى مناسبة سابقة أنه يسهر مع الاذاعة حتى نهاية برنامجها مع ام كلثوم واضواء المدينة اذا لم تكن الذاكرة قد خانتنى...

ثم توقف قليلا وقال انا عارف ان فتحي رضوان غير راضى عن طول حفلات ام كلثوم واستمرارها الى الرابعة صباحا وكثرة ترديد المقطع الواحد عشرين مرة أو اكثر والصياح والصراخ والوقوف على المقاعد وقد عجبت حقيقة كيف اعرف هذا الرأى؛

فقد حاولت ان اذكر متى سمع منى هذا الكلام ولم استطع ولكنه ضحك على طريقته التى اسميها طريقة الرشف وقال فى ليلة اقمنا حفلة غنائية لأم كلثوم فى نادى الضباط احتفالا بالملك حسين ولما خرجنا نوصله وكنت انت مع رئيس الوفد المرافق له كان منظر الضباط ساعة الانصراف وعدد غير قليل منهم نائم على مقعده لا يرضى احدا...

وكانت عيون الملك حسين حمراء وكان يتمايل من شدة التعب وفى اليوم التالى بدأ الحديث تعليقا على الليلة فسمعتك تكلم احدا على مقربة منى ووصل سمعى كل هذا انا معك ولكن محاولة تغيير هذا بمثابة الوقوف على وجه التيار فقلت له ولكننا واقفون فى وجه التيار فعلا الست تقيم السد العالى ؟

فقال السد العالى معلهش ولكن يأتى على الناس وقت لا يطيقون فيه انفسهم دع لهم وقتا يفرجون فيه على انفسهم فقلت ولكن العمل الفنى فى كل مكان وسيلة لرفع معنوية الناس وتزويدهم بجرعة منعشة ومنشطة ومبهجة يخرجون بعدها اكثر اقبالا على الحياة؛

ولكن حفلات الطرب عندنا عملية تعذيب ينام الناس فى اليوم التالى الى الظهر ويستيقظون يشكون من الصداع ووجوههم صفراء وشهيتهم مسدودة ومزاجهم معكر فقاطعنى الرئيس انا معك ولكن الناس ينسون انفسهم ويعتبرون هذه الحفلة عيدا شهريا وفى جميع الاعياد يسهر الناس الى الصباح ويكونون فى اليوم التالى بالصورة التى تصفها؛

فقلت له ان التكرار فى اغانينا اثره الذاتى والخلقى مدمر انه وسيلة للتنويم أشبه بأغنية النوم للطفل فقال عبد الناصر لا تخف لن يستمر هذا كثيرا ثم توقف وقال بس اوعى تغضب ام كلثوم فضحكت وقلت لا سبيل لاغضابها قال هذا حق .

وفجأة تحول احديث الى السيد المسيح فقد شاهد عبد الحكيم على المسرح شيئا يشبه مهد الطفل فقال متسائلا هل قصتك هذه هى قصة المسيح يعنى مأخوذة عن حياته ؟ فقلت له : اطلاقا ولكن المخرج أضاف اشياء الى المناظر اوحت الى الجمهور بأن بطل المرسحية مع انقطاع الصلة بين مسرحيتى وحياة المسيح ولكن هذا الانطباع اقوى من تفسيرى وتكذيبى .

وبدأ المشير يسأل عن تفاصيل من حياة المسيح حتى اوصلنا الى بيته فى منشية البكرى ووقفنا بالعربة امام بيتى فى مصر الجديدة نحو ربع ساعة يسألنى واجيب وقد ابدى دهشتى المفرطة من ان حياته لم تزد عن ثلاثين عاما فقال عجيبة هل مات صغيرا الى هذا الحد هذه اول مرة اسمع بذلك .

وفى جلسة مجلس الوزراء التالية لهذه السهرة المسرحية عقد عبد الناصر عليه رحمة الله ندوة فنية سأل فيها الوزراء عن رأيهم فى مسرحية دموع ابليس وكان اكثر من نصف الوزراء قد شاهدوها فاثنوا عليها وكان عبد الناصر ظاهر السرور بهذه النتيجة؛

وكلما سمع ثناء عليها من احد الوزراء نظر الى متهللا وهو يقول الم اقل لك كأنى كنت انكر ذلك ولكن احد الوزراء من اصدقائى اكتفى بالقول بأن ختام المسرحية فاتر جدا فعقب عبد الناصر بقوله ليس الى هذا الحد ولكننى كنت افضل ان يبقى النص على اصله .

ولما نتهت الجلسة ركبت مع ثلاثة من الوزراء سيارة واحدة فقال لى الوزير الذى تفضل بنقد المسرحية لقد قلت ذلك خوفا عليك من الحسد فشكرته على هذه الروح الكريمة .

وقد حدث نقاش ىخر فى مجلس الوزراء حول عمل فنى اخر لم يكن من عملى ولكنه كان يتم تحت اشرافى ياليل يا عين وقد اشتدت حملة عدد من الكتاب والادباء والصحفيين على هذ المحاولة الجديدة الى الحد الذى لم يكن يمر يوم دون ان يقرأ القارىء فى صحيفة أو مجلة نقدا لهذا العمل الجديد؛

والعجيب ان هذا النقد الحاد والعنيف والمثابر كان يتم خلال ازمة تأميم قناة السويس ومع خطورة الموقف السياسى المصرى والدولى فقد كان هؤلاء النقاد مصممين على مواصلة حملتهم والاعجب أن اوبرت يا ليل يا عين كان انذاك تحت الاعداد ولم نكن قد فرغنا من تهيئتها فجاء عبد الناصر الى مجلس الوزراء وقال لى فى عبارة جافة ونهاية الحملة دى ايه ؟

فقلت له هل هذا الكلام موجه لى ؟ فقال طبع فقلت هذا كلام يجب ان يوجه الى القائمين بالحملة اما انا فلا أملك شيئا افعله قال يمكن ان ترد عليهم قلت ارد على من وعلى ماذا ؟ ان هؤلاء اشبه شىء بأناس يتسورون منزلا وينقدون ما يجرى فيه مما لا حق للناس فى ان يطلعوا عليه قال هذا تشبيه مع الفارق قلت بانفعال أى فارق العمل الفنى قبل أن يتم اسمه بكل اللغات تجارب بروفات بروفس؛

فحينما ننتهى نسمع كلامهم على العين والرأس قال لكن هذه الحملة تنالنى انا ايضا فأنا مسئول عن كل الوزارات فقلت له يمكن لاحد غيرى أن يقوم بالرد اما انا فان ردى سيكون العمل نفسه وانا واثق من النتيجة فقال عبد الناصر اذن رد وقل هذا الكلام فاجبته بشىء من الجفاف انا لا ارد ولن اقول شيئا فعقب عبد الناصر ممتعضا غريبة والله .

ثم خرجت فرقة يا ليل يا عين على الناس فأرضتهم الى ابعد حد وكانت بداية باهرة للفن الشعبى والغنائى والتمثيلى ولفن الرقص واوحت بعشرات ومئات من الافكار المماثلة والفرق التى نسجت على منوالها وحضر الرئيس عبد الناصر حفلة من حفلات هذه الفرقة وابدى سعادته وسروره بها واصبحت عروضها عرضا ثابتا فى جميع حفلات التحية والتكريم التى تقام لكبار الضيوف .

ولكنى لابد أن اقيم فاصلا بين هذا الكلام والكلام الذى يليه لننى بودى ان احدث القارىء فى تصرف صدر من عبد الناصر وليس لدى ما افسره به الا ان اقول ان النفس الانسانية اكثر ظواهر الكون غموضا واشدها استعصاء على الفهم وابعدها عن القوانين التى تحكم المادة وتحكم الكائنات الاخرى .

فعبد الناصر الذى رايت شواهد عديدة على عظمته وقوة شخصيته وبعده عن الصغار رايته فى الموقف الذى سأرويه على النقيض من هذا كله وجملة الامر اننى حينما كنت فى موسكو فى شتاء سنة 1957 على رأس وفد ثقافى الححت على وزير الثقافة السوفيتى ان يبعث الينا بفرقة البولشوى فى الربيع التالى وجاء الرد من مدير البولشوى بأن الفرقة مرتبطة فى داخل الاتحاد السوفيتى وخارجه حتى مارس 1958 وانها لا تستطيع ان تحضر الى مصر بعد هذا التاريخ؛

لان المستشار الثقافى فى السفارة السوفيتية قال لهم أنه لا يتحمل مسؤولية مجىء الفرقة فى شهر أبريل لأنه شهر الخماسين فحرارة الحو فيه والعواصف الترابية وما تسببه من احتقان فى الحلق كل هذه المخاطر لا يجب ان يعرضها لها؛

بل يجب أن يحذرها منه فلما الححت على وزير الثقافة السوفيتى وقلت لع ان عودتى بغير الحصول منه على وعد مؤكد بانه شسيرسل البولشوى الينا تجعل رحلتى الى الاتحاد السوفيتى فشلا كاملا وكان قد قام بيننا اثناء وجودىفى ضيافته ود فأحس بأنه مدين لى بتحية يقدمها فأمسك التليفون وطلب مدير البولشوى وصاح واخذ يكرر كلمة خماسين قائلا خماسين خماسين ثم القى السماعة بعنف ونظر الى وقال البولشوى ستكون عندكم اوائل ابريل من العام القادم على الرغم من الخماسين خماسين خماسين ماذا تكون الخماسين هذه التى يخوفوننا منها ؟

ولقد حمدت للوزير السوفيتى هذه الحماسة فى محاولة ارضائى وحدث ان جاء لزيارة مصر فى نفس الوقت الذى وصلت فيه فرقة البولشوى الى القاهرة فى يوم افتتاح موسمها ووقفت على خشبة مسرح الاوبرا ارحب بالوزير وبفرقة البولشوى ثم عدت الى مقصورة رئيس الجمهورية

وما كدت أجلس على مقعدى بجواره حتى رأيته يتجه الى كيسيليف سفير الاتحاد السوفيتى فى مصر فى ذلك الوقت وقال الم أطلب اليك ان تحضر فرقة البولشوى فأخذ الرجل وبدا عليه انه لم يفهم ماذا يكون الامر فقال البولشوى ؟ فقال مستفسرا احضر فرقة البولشوى الى مصر ؟

وترجم السؤال فاندفع الوزير السوفيتى من حيث لا يدرى ان اجابته ستغضب عبد الناصر وقال ضاحكا لولا ضغط والحاح الجاسبادين رد فان اى رضوان فتحى لما جداء البولشوى الى مصر فقاطعه عبد الناصر قائلا ولكننى اسأل السفير الست انا الذى طلبت حضور البولشوى والم تعدنى انت بمجيئها ؟

وادرك السفير بأن الاجابة بغيرما يريد عبد الناصر ستغضبه فقال كلمتين للوزير السوفيتى بالروسية ثم قال بالتأكيد سيادتك طلبت ذلك طلبت مرارا وسكت انا وانتقل الحديث الى شىء آخر واخذت انا اتأمل فى هذه الواقعة طويلا واسأل نفسى ايكون عبد الناصر برغم مكانته العالمية كلها محتاجا الى هذا الشرف الصغير ؟ شرف احضار فرقة رقص وغناء مهما بلغت من الاهمية والعظمة هو الذى يقيم الدنيا ويقعدها بقراراته المدوية يمكن أن يكون محتاجا لشىء كهذا ؟

ولم يوجه الى عبد الناصر كلمة واحدة طوال الحفلة وحيانى بفتور عند الانصراف . وفى اليوم التالى ظهرت صورة عبد الناصر فى المقصورة بالاوبرا ومعه السفير والوزير وعلى الرغم من اننى كنت أجلس الى جواره الا اننى لم اجد لنفسى وجودا فهل محيت صورتى وعقابا على اى شىء ؟

لقد كتب الكاتب الفرنسى فوشيه أن عبد الناصر قد طالع وهو ما يزال بالكلية الحربية عددا من الكتب اورد بها قائمة فى كتابه عن عبد الناصر ومن بينها كتاب ارمسترونج عن اتاتورك المعنون الذئب الاغير؛

وقد حدثنى الاخ الاستاذ حلمي سلام ان عبد الناصر كان ذات يوم فى زيارة له بمنزله فلما هم بالانصراف وقف أمام مكتبة الاستاذ حلمى ثم مد يده الى كتاب الذئب الاغير فى نسخته المترجمة واستأذن فى اخذه ليقرأه ومعنى هذا ان قائم الكتب التى وردت فى كتاب فوشيه والتى امليت له لم تكن تحوى الكتب التى قرأها جمال عبد الناصر فعلا بقدر ما كانت تحوى الكتب التى كان عبد الناصر يتمنى قراءتها .

ولست اعرف مدى قدرة عبد الناصر على القراءة بعد ان تولى شئون مصر وزادت اعباؤه وكبر مقامه ولكن الذى استطيع أن اؤكده انه كان حريصا اشد الحرص على تثقيف نفسه وتثقيف الضباط الذين من حوله وانه كان صاحب فكرة ترجمة وتلخيص كتب ذات اهمية خاصة فى السياسة والاقتصاد وطبعها على الالة الكاتبة وتوزيعها بعد نسخها على الرنيو على الضباط والوزراء؛

وهذه الكتب التى كونت بعد ذلك سلسلة اخترنا لك والمتابع لهذ ه السلسلة يرى تنوع الموضوعات فيها وشدة اتصالها بمنطقة الشرق العربى وبتطور الاحداث السياسية الكبرى فى ايامنا وبالافكار والمذاهب الإشتراكية واحسب ان بعض هذه الكتب من بين ما قرأه عبد الناصر؛

ولكن المؤكد أن عبد الناصر كان يقرأ الصحف الاوربية المحررة باللغة الانجليزية بنهم شديد وانه كان حريصا على قراءة كل ما يكتب فى صحف بريطانيا وان لغته الانجليزية تقدمت كثيرا بفضل مقابلاته مع الرجال من طراز نهرو وسوكارنو ممن يتكلمون الانجليزية فضلا عن هذه الافواج من الصحفيين ومراسلى الجرائد والسفراء والشخصيات البريطانية والاميريكية وغيرهم ممن كانوا يقابلونه ويتكلمون هذه اللغة .

وذات يوم كنا نتكلم عن الكتب التى تطبعها وتنشرها وزارة الارشاد القومى ثم وزارة الثقافة وكنت اشكو من ضعف اقبال المصريين على اقتناء ومطالعة الكتب على الرغم من ان سلاسل وزارة الارشاد القومى كانت بأقلام اكبر الكتاب المصريين وكانت تباع بأرخص الاسعار بعد ان تعلن عنها فى الصحف الاربعة الأهرام،الأخبار،الجمهورية،الشعب؛

فضلا عن المجلات والاذاعة فاننا لم نوزع من كتاب محرر بقلم العقاد او طه حسين اكثر من الفى نسخة فقال عبد الناصر كتاب يقرؤه فرد واحد ينفع فالعبرة ليست بالكثرة فرب فرد يتأثر بالكتاب ويكون هذا الفرد بمثابة شخص وكان هذ القول من اجمل ما سمعت من عبد الناصر .

ووجهت اليه مرة خطابا مفتوحا فى احدى المجلات أدعوه فيه الى العناية بكتب التراث لاعادة طبعها مشروحة ومبوبة ومعلق عليها ومذيلة بالفهارس والتراجم لأن ذلك هوسبيل البعث الحقيقى لمصر فجاء الى مجلس الوزراء غاضبا للجوئى لهذا الاسلوب؛

وكأنه يقول وزير من وزرائى لا يجمل به ان يخاطبنى كأنه أحد الكتاب وقد احسست بأنه محق الى حد ما فى غضبه ولكنى قلت من قبيل المكابرة وانا لم اوجهه الى سيادتك لتقرأه فقال ولماذا توجهه الى ؟ قلت لأثير الاهتمام بما فيه فيقرأه عدد كبير من الناس فرضى عن هذا التفسير وسكت .

ولقد كانت السينما هى احدى هوايات عبد الناصر المحببة اليه واذكر فى صدد السينما ثلاث ذكريات اولاها وقد كانت صلتى به فى بدايتها المبكرة يوم الفنا وزارة الثورة الاولى فى السابع من سبتمبر سنة 1952

فقد كان حريصا على ان يتم تأليف الوزارة فى ذلك اليوم وكان يستبعد كل شىء من شأنه ان يؤدى الى تأجيل الوزارة ولو ليوم واحد فلما اطمأن الى ان الوزارة الفت قال وهو يتنفس الصعداء حقيقة لا مجازا الان استطيع ان اذهب الى السينما تصور أننى لم ار فيلما واحد منذ شهرين .وعرفت يومها أن الحرمان من السينما لمدة شهرين هو عقاب شديد بالنسبة له .

والذكرى الثانية يوم حدثنى عن فيلم نسيت اسمه واسم بطله وكنت ارجح انه الفيلم الرائع اريد ان اعيش الذى مثلته سوزان هيوارد وقد قيل يومها أن بطلته صهيونيه أو انها ذات ميول صهيوينة عبرت عنها بصراحة أو شاركت فى نشاط مؤسسة الجباية اليهودية التى تمول إسرائيل تجمع لها التبرعات من يهود الولايات المتحدة .

وطالب بعضهم بمنع عرض الفيلم ومنع الفيلم فعلا لمدة طويلة ثم قال لى عبد الناصر متى تفرج عن الفيلم ؟ فسألته وهل هو فيلم جيد هل رايته سيادتك ؟فقال بحماس طبعا فيلم جيد لا تسمع كلام هؤلاء الاغبياء وبعد تحريات قمت بها وجدت ان التهمة الملحقة بالممثلة لا دليل عليها؛

ورأيت الفيلم فوجدته عملا فنيا ممتازا لا زلت اذكره واذكر اللحظة التى سبقت فيها البطلة الى غرفة الاختناق بالغاز وهى تقول للقسيس ابتاه انى خائفة ثم ردت على الجلاد حينما نصحها بأن تأخذ نفسا عميقا فان ذلك يجعل الامر ايسر فصاحت فى وجهه من اخبرك بذلك ؟

ولست انسى اننى حين افرجت عن الفيلم تلقيت تهنئة خاصة من عبد الناصر على ذلك .. والذكرى الثالثة كانت بالنسبة لعبد الناصر حرجا مفرطا فقد طلب المخرج السينمائى العالمى سيسل دى ميل بأن يقدم له تسهيلات هائلة فى مصر عند اعادة اخراجه الفيلم الضخم الوصايا العشر على ان يبذل سيسيل دى ميل جهودا خاصة لسرعة ادخال التليفزيون فى مصر ونفذ عبد الناصر وعده وتم اخراج الفيلم الذى يروى قصة خروج بنى إسرائيل من مصر وعلى رأسهم موسى عليه السلام وعبورهم البحر الاحمر؛

ولما عرض الفيلم فى الولايات المتحدة ورأه العرب صاحوا ان هذه اكبر دعاية لبنى إسرائيل واكبر دعاية ضد مصر فاضطر عبد الناصر لوقف عرض الفيلم فى مصر فجاءه سيسيل دى ميل محتجا وهو يقول ان الفيلم يروى احدى قصص القرآن ملتزما نصوص الكتاب الكريم غير محرف لها فى اى موضع ولا مضيف اليها حرفا؛

وقال لى عبد الناصر هل عرض قصى قرآنية امر يعاب ؟ فقلت له انا مع العرب ان اظهار شعب مصر ولو من الاف السنين فى صورة المضطهد للاقلية اليهودية واظهار فرعون مصر فى ثوب الطاغية يكسب قضية الصهيونية عطفا وعرضه الان ليس عملا فنيا بل هو عمل سياسى بحت وسكت عبد الناصر .

وقد بدت اثار مطالعات عبد الناصر فى مناقشاته مع بعض الوزارء ففى احدى الجلسات اشار سيد مرعى وزير الاصلاح الزراعى الى كتاب لكاتب غربى ولخص بعض افكاره فاعترض عبد الناصر على هذا التلخيص وقال ان الرجل يقول فى كتابه نقيض ما تقول فقال الوزير هذا ما فهمته انا فقال له الرئيس لابد أنك قرأته بالمقلوب .

وقد اخبرنى احد رؤساء الوزارات ان مناقشة حادة دارت بين عبد الناصر وبين احد وزراء الاقتصاد فقد كان الوزير يشكو من الضغوط التضخمية على الاقتصاد المصرى ويقترح لمواجهة هذه الضغوط سياسة اقتصادية انكماشية وكانت العلاقة بين الرئيس والوزير سيئة فى تلك الفترة وقد خرج الوزير بعد هذه المناقشة من الوزارة وقد اجاب عليه الرئيس ماذا حدث يا دكتور منذ سنة واحدة فقط كانوا خصوم سياستك يقولون انها تؤدى الى التضخم وكنت انت تنكر هذا بشدة فماذا جد ؟

قال الوزير كان ذلك منذ اكثر من سنة فقال الرئيس لا منذ سنة واحدة فقط ولكن لنقل سنتين ما الذى تغير من سياستنا السياسة هى هى والارقام هى هى وربما الانفاق الحكومة اصبح أقل لا سأخبرك عن السبب انت ذهبت الى المومس الفاضلة وشرح الرئيس نفسه وقال لقد قرأت كتابا لاقتصادى امريكى كبير يقول فيه اننا ننهى الدول النامية عن ان تقوم بالتنمية مع التضخم فى حين ان امريكا تعانى من تضخم رهيب وتواصل التوسع فى اقتصادها فكأننا كالمومس الفاضلة التى تمارس الرذيلة ثم تقف على باب دارها لتعظ الناس وتحذرهم من الرذيلة .

وضحك الوزراء طويلا وخرج الوزير بعد قليل من الوزارة ويومها قال بعض الوزراء ان ازدياد ثقافة الرئيس ليس من مصلحتنا فى شىء .

الفصل الحادى عشر : مجوهرات فاروق من الذى سرقها ووزعها على عشيقاته؟

لكم رددت نفسى عن ان اكتب هذ الفصل لأنه يتعلق بى ويدور حولى ولكم وددت فى ذات الوقت ان اكتبه لأنه صفحة من تاريخ بلادنا لا ينبغة أن يتجاوزها التسجيل واذا كان هذا الفصل فيه هزل يدعو الى الضحك او الابتسام؛

فما احوجنا ونحن نروى التاريخ الصادق ان نذكر هزله مع جده وخفيفه مع ثقيله وغريبه مع مألوفه فالتاريخ الانسانى هو صورة الانسان وصداه والانسان كما وصفه كتاب الله الكريم جامع لمتناقضات خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وسواه على صورته ولكنه خلقه من صلصال ومن حمأ مسنون ومن ماء مهين فكان فيه اشراقة السماء وظلام الطين .

كان عزل الملك فاروق 26 من يوليو سنة 1952 حدثا خطيرا غاية فى الحياة الدولية ذلك لأن الملكية المصرية كما سبق القول هى اقدم الملكيات طرا وقد استمرت بلا اقطاع اربعة الاف سنة ولأن موقع نصر واتصالها بأفريقيا واسيا وبالعرب والمسلمين والمسيحيين واليهود ولجريان قناة السويس فيها ولأطلالها علي البحرين العظيمين الاحمر والابيض؛

فإن كل ما يجرى على ارضها ويحدث لرجالها يعتبر ذا شأن عند الناس جميعا ومن هنا فقد برزت شخصية الملك فاروق على الصفحات الاولى لكل جرائد العالم شرقه وغربه قديمه وحديثه وراحت الاقلام تكتب عنه وتحلل وتهتم وتدافع عن تاريخه وتتهكم وتسخر ثم تثنى وتمدح كل قلم على هواه وكل صحيفة تبعا لمذهبها .

واخيرا رأى الملك فاروق أن يتولى بنفسه مهمة الدفاع عن نفسه وان يهاجم الثورة وكل من اتصل بها فلم يجد شخصا يجسد له هذه الثورة ويصلح هدفا لضرباته سواى فلم يكن عبد الناصر قد ظهر بعد وكان نجيب يبدو أنه لن يكون عدوا لأحد؛

وقد وجد الملك الى جانبه فى تلك اللحظة كاتبا من كتاب التراجم والفصول السياسية اسمة وارد برايس وقد قرأت له كتابا جيدا بعنوان عرفت هؤلاء الطغاة تحدث فيه عن هتلر وموسولينى وستالين حديث العارف بهم اذ قد زارهم ووجه اليهم الاسئلة؛

وقرأ الكثير من الوثائق التى لا تتاح لغيره من الكتاب وقد كان وارد برايس هذا من كبار كتاب صحيفة بريطانية ذائعة الصيت هى امبير نيوز اى انباء الامبراطورية وعلى الرغم من انى كنت فى اول الثورة مشرفا على النشاط الاذاعى والدعائى للثورة الا انى لم اطلع على هذه الصحيفة .

مفاجأة نصف الليل

وفى ذات ليلة سمعت فى حديقة منزلى الصغيرة حركة ووقع اقدام لاشخاص كثيرين وصوت سيارة تقف فجأة امام دارى فأفقت من النوم ونظرت الى ساعتى فاذا نحن فى الثالثة بعد منتصف الليل وعلى الرغم من انى من المتفائلين غير المتطيرين؛

فإنى لم اجد تفسيرا لهذا الضجيج فى هذه الساعة المتأخرة من الليل الا ان تكون الثورة قد انتكست وان اقواما ما قد رأوا ان يقصدوا دارى ولم يطل تفكيرى فقد قمت من فراشى ورأيت نفسى هادئا واذا بالباب يفتح ليدخل شاب لم يقع نظرى على وجهه من قبل؛

ولم استطع ان اقرأ على وجهه شيئا عن الدافع الذى حفزه الى طرق بابى فى هذه الساعة المتأخرة من الليل وقد سكن كل الاحياء وناموا ورأيت من ورائه جندى الحراسة المعين على باب دارى يحيى تحيته العسكرية وانا مستغرب كيف سمح لهذا الشاب ان يدخل بيتى ودون اذنى فى هذه الظروف الشاذة ؟

ولكنى لمحت وراء العسكرى ضابطا وربما اكثر من ضابط فزاذ الامر تعقيدا عندى واصبحت شديد الفضول لمعرفة هذ الالغاز .

لقد كانت زيارة متأخرة فى الليل البهيم فى عهد ما قبل الثورة امرا مألوفا ولا غرابة فيه بالنسبة لى ولكن ان يأتى الطارق وانا فى الوزارة والحارس المخصص لحمايتى لا يرى فى ذلك ما يدعو الى مؤاخذته ومن خلفه ضباط فهذا الذى لا عهد لى به والذى يحتاج منى الى تفكير سريع لأعرف بالضبط موقفى من هذه المفاجأة الليلية .

وأخيرا تكلم الشاب قال انه لايعرف كيف يعتذر لى فقلت له :

وانا بين الدهشة والضيق دعنا من الاعتذار وقل ما الغرض من هذه الزيارة ؟ فقال : سيادتك ستندهش اذا علمت هذا الغرض فقلت له وانا اكاد افقد هدوء أعصابى واخرج عن حلمى يا سيدى انى مندهش بما فيه الكفاية ولست فى حاجة الى مزيد من الدهشة تكلم ارجوك .

فقال: أنا فى الحقيقة فى غاية الخجل لأنى لا اعرف كيف ابدأ الكلام عند هذه العبارة تصورت ان الامر قد انجلى عنه الغموض ولست فى حاجة الى الانتظار فلابد من ان ادخل الى حجرتى لارتدى ثيابى واذهب مع هذا الشاب والضباط الذين وقفوا خلفه ايا كانوا فلا احد يقتحم منزلا فى الساعة الثالثة صباحا ويتعثر فى الكلام الا ان يكون موظفا مكلفا بالقاء القبض على اى انسان فى مثل هذه الساعة مما يحرج القائم به فان حرجه سيزداد ولا شك اذا ما كان المطلوب القبض عليه رجلا فى السلطة .

فقلت له : لا داعى للاعتذار فأنا قد فهمت .

فاذا بالشاب قد سرى عنه تماما وقال اذن هم قد اتصلوا بك قبل مجيئنا . وتوقفت عن السير ونظرت اليه وقد خيل الى ان فى الامر لبس لا محالة فقلت له فى صوت تشوبه حدة من هم ؟

فقال: الأهرام ؟

وشرد ذهنى وخيل الى اننى فى كابوس فقلت له متسائلا الأهرام اى اهرام؟

فقال الشاب وهو لا يعرف كيف يجد الالفاظ التى تعينه على التعبير عن نفسه: جريدة الأهرام.

فاقتربت منه لأتأكد من سلامة عقله وقلت له الأهرام تكلمنى الساعة الثالثة صباحا هل تجرؤ هل يعقل ان تفعل هذا هل حدث فى البلد شىء ؟

فاذا بالشاب يرتبك او يزداد ارتباكا ويحسب اننى اوبخه واقرعه فقال لا كل شىء على ما يرام وانما نحن .. نحن الذين ارتكبنا هذه المخالفة ولكن ليس بأرادتنا فقد الزمنا الزاما .

ولا اريد ان استنفد حلم القارىء اكثر مما فعلت فقد عرفت آخر الامر ان الأهرام تلقت ملخص مقالة كاملة بقلم صاحب الجلالة الملك فاروق يهاجمنى انا بالذات وودت الجريدة ان تسبق غيرها وان تنشر هذه المقالة فأبت سلطات الرقابة الا ان اطلع عليها وان اجيز نشرها وان ارد عليها .

ولم تردد الجريدة فى ان تنفذ اوامر الرقابة ولكنها طلبت ان يصحب المحرر عدد من ضباط الحرس ليسمح الحارس الواقف على بابى بدخوله الى ولاطمئن الى ان المسألة مسألة تحرير وحديث ورد وانها ليست مؤامرة وقعت بليل؛

وعلى ذلك قام الركب المكون من محرر الجريدة الشاب ومعه موظف من الرقابة وضابطان احدهما شاب وثانيهما فى منتصف العمر وجنديان واتجهوا الى بيتى الذى اعتاد من قبل ان يستقبل امثالهم كثيرا وشعرت فى هذه اللحظة بالهوان اذ أن موظفا ما فى الرقابة بدا له ان هذا اجراء لازم من وجهة نظر امن الدولة فلم يتردد فى ان ينفذ ما خطر على باله دون أن يحسب لراحتى اى حساب ولا لما قد يسببه هذا الاجراء لى من ازعاج .

ومد الشاب يده ومعه ورقة فيها ملخص المقال وترددت فى ان اخذ منه ما قدمه لى بل فكرت فى ان اطرد الجميع بغلظة ولكن غلبت على طبيعتى وقد لا يكون لى فضل فان فضولى كان قد بلغ اقصى درجاته اذ لاول مرة فى تاريخى ادخل فى حوار صحفى مع ملك ومع الملك فاروق بالذات الذى عشنا سنوات نكتب ضده المقالات ونحاول ما استطعنا ان نصل الى اغراضنا دون أن يقف القانون عائقا فى طريقنا فأخذت المقال ولم اكن اتصور مطلقا اننى ساقرأ فيه ذلك الكلام الغريب والممتع الذى احتوى عليه .

الملك يتكلم

بدأ جلالة الملك مقاله بقوله ان الثورة اساءت الاختيار اذ اسندت الى منصب وزير الاعلام لآفتين كبيرتين فى الافة الاولى أننى شيوعى والآفة الثانية أننى كما يقول المصريون رد سجون يعنى أننى ممن لا يخرجون من السجون الا ليعودوا اليها وان الثورة التى تختار شيوعيا ليكون لسانها لا يمكن الا ان تكون حمقاء لا تدرى خيرها من شرها اذ كيف تستقيم الامور فى بلد يكون من وزرائه من هم اصحاب سوابق ؟

واضاف الملك الاخير لمصر اننى لن ادخر وسعا فى نشر الشيوعية فى مصر وفى البلاد العربية ولست ادرى ماذا قال الملك حينما اصبحت فيما بعد هدفا خاصا لحملات الشيوعيين فى مصر ولا سيما فى الفترة الاولى لشغلى منصب الوزير؛

وبطبيعة الحال فان ما قصده الملك فاروق كان مجرد اثارة لمخاوف الغرب منى كـأن دول الغرب أو الشرق فى حاجة الى معلومات من جلالة الملك وكأن ادارات المخابرات بأجهزتها الحديثة الخارقة للمألوف واعتماداتها المالية الخرافية ومئات الالوف من اعوانها وعيونها المنبثين فى كل مكان لا تعرف كل صغيرة وكبيرة عن أى شخص يلعب دورا فى السياسة ولو كان من ادوار الكومبارس .

على ان المقال الثانى كان اكثر طرافة مما يدل على ان خيال الملك وكاتب مقالاته وارد برايس رأيا أن يزيدا الجرعة ليستثيرا نصيبا أكبر من اهتمام الناس فى مشارق الارض ومغاربها فقال ان الشيوعى فتحي رضوان نسى شيوعيته حينما دخل القصور الملكية؛

فرأى مجوهرات الملكة ومجوهرات شقيقات الملك وبناته من عقود واقراط وخواتم وبروشات فقد اغترف منها الى بيته اكواما واكداسا ولكنى لم اوزعها على الفقراء كما كان يقضى على مذهبى ولم اعطها للدولة كما كانت تقضى الامانة بل وزعتها على من ؟ على عشيقاتى اللاتى لا تتجاوز الواحدة منهن السابعة عشرة من عمرها .

والحق ان هذه الكلام وان كان كله خيالا فى خيال الا انه جدير بأن يسعد وزيرا فقيرا لم ير هذه الاصناف الباهرة من الحلى ولو من بعيد وما رآه منها كان الحلى الزائف الذى تستعمله ممثلات المسرح وقد زاد هذا الخيال متعة اذ اضاف الى جانب المال الذى يسيل له لعاب الناس فى القديم والحديث خصوصا اذا كانت بهذه المقادير التى تدير الرأس متعة اخرى يقتتل الناس فى سبيلها ويحبكون المؤامرات والدسائس من اجلها وهى ان يكون لهم حريم من الجميلات الكثيرات العدد وصغيرات السن التى لا تتجاوز الواحدة منهن السابعة عشرة .

وفى المقال الثالث اتسع خيال الملك وكاتب وحيه وارد برايس فقالا اننى حينما علمت ان افواج السياح ستتدفق فى حجرات وابهاء القصور الملكية اسرعت فوضعت الى جانب فراشه كتبا جنسية وزودت مكتبته بصور شائنة .

وفى المقال الرابع قال الملك اننى قدت مظاهرة بعد تولى الوزارة وذهبت بها الى ميدان المحطة بالقاهرة حيث كان يقف تمثال لوالده فانهلت على شوارب الملك القديم فحطمتها والحق ان الملك قد بلغ بهذا المقال بالذات اقصى حدود الجرأة لأن كل من يقيم بالقاهرة يعلم انه لم يكن للملك فؤاد فى يوم من الايام وحتى فى عهد الملك فاروق نفسه تمثال بشوارب .

والطريف هنا ان بعض الذين لم يكن يعجبهم من الثورة ومن زعمائها العجب ولا الصيام فى رجب ضايقتهم مقالات الملك فاروق ضدى الى حد ان احد زعماء السعديين وكان نائبا ومحاميا كبيرا جلس فى حجرة المحامين فى الزقازيق

حيث يوجد عدد من اقاربى واصدقائى وقال ان هذه المقالات هى من تأليفى انا وانا الملك فاروق لم يكتب شيئا من هذا الكلام وان جريدة امباير نيوز جريدة لم يسمع بها احد وهاج هذا الكلام غضب احد ذوى قرابتى فتماسك مع النائب السعدى وكلاهما تجاوز الخمسين من عمره .

على ان الملك فاروق بعد هذه المقالات آثر الصمت ولم يعد يكتب او يقول شيئا وانصرف الى حياته الخاصة والى استثمار امواله فى مشروعات مربحة ولعله ندم اذ تبين انه تعجل الحوادث وانه كان يجب ان يدخر كلماته للشاب جمال عبد الناصر الذى سيسقط الملكية ويتعقب افراد اسرة محمد على بما لم يخطر لهم على بال .

والحق انه لم يخلع ملك الثورة بالسهولة التى خلع بها الملك فاروق ولا تفسير لهذا الا ان دوائر الغرب من انجليز وامريكان كانت قد يئست تماما من اصلاح حال الملك فقد وعدها كثيرا بأنه سيقصى من حاشيته ذوى السمعة السيئة؛

وانه سيدع فرصة لعناصر جديدة ونظيفة لكى تتولى الحكم فى بلاده وتقوم بتقديم المشورة له ولكنه كان لا يخلو لنفسه حتى يعاوده الضعف امام بطانته ذات التأثير البلغ عليه فلم تر تلك الدوائر بدا من ان تدعه ليلقى مصيره وكانوا قد ارسلوا اليه صديقه عمرو باشا بطل الاسكواش راكت العالمى الذى كان الملك قد عينه سفيرا له فى لندن..

وذهب اليه عمرو باشا فى مضيفه بكابرى أو دوفيل ونصحه بسرعة العودة الى مصر لأن الظروف فيها اسوأ مما يتصور وكان زعماء الاحزاب قد اعدوا عريضة ينبهوه فيها على سوء حكمه فى عبارات شديدة اللهجة لم يألف زعماء الاحزاب فى مصر ان يستعملوها او يستعملوا ما يشبهها فى مخاطبة الملك بل فى مخاطبة احد من كبار موظفى ديوانه ولكنه لم يعبأ بهذه النصيحة وابدى دهشته من ان رياضيا عالميا كعمرو باشا يهتز لما يقوله الانجليز الذين لا يعرفون طبيعة السياسة فى مصر .

والحق ام المك لم يكن بعيدا عن الصواب كثيرا فانه عندما عاد ومضت بضعة شهور على ثورة هؤلاء الزعماء واحتجاجهم حتى تعاونوا معه جميعا تقريبا والفوا الوزارات فى ظل حكمه ولو تركوا لأنفسهم لبقى الحال على ما كان عليه ذلك هو ظهور غضب شعبى يزداد مع الايام تشكيلا ويزداد جرأة مع ظهور تشكيل عسكرى على قدر من التنظيم والاستمرار .

وقد ادرك زعماء الغرب عندما تبينوا هذه الحقائق ان المراهنة على الملك فقدت كل مبرراتها وكان هو نفسه يحس بذلك قبل 23 يوليو بشهور عديدة ويقول مازحا مزاح اكثر جد انه ذاهب وانه لن يبقى بعده من الملوك الا ملوك الكوتشينة الاربعة .

على انه يجب أن نذكر هنا حقيقتين أولاهما ما سمعته نقلا عن المهندس أحمد عبده الشرباصي الذى عمل لسنوات طويلة وزيرا فى حكومات الثورة رواية لما صرح له به الاستاذ مرتضى المراغى وزير الداخلية فى اخر وزارة قبل الثورة مباشرة؛

وخلاصة التصريح ان الوزارة اتصلت بالسفارة البريطانية صبيحة 23 يوليو وتداولت معها فى الموقف الناجم عن ثورة الضباط وسألت الوزارة هل تنصح السفارة بمقاومة الضباط الامر الذى كان ممكنا فى راى الوزارة لوجود قوات مسلحة ذات قيمة موالية لللدولة وان مجرد ظهور بوادر هذه المقاومة سيحمل اكثر الذين انضموا الى الثورة وآمنوا بها الى الانفضاض عنها فكان جواب السفارة ان رجلا لا يدافع عن نفسه لا يستحق ان يدافع عنه الاخرون ولذلك قررت الوزارة ان تنفض يدها منه .

واذكر اننى استقبلت فى الايام الاولى للثورة السكرتير المسئول عن شئون الدعاية والصحافة فى السفارة البريطانية وكان قد جاء ليحتج على الحملات التى توجهها برامج الاذاعة الموجهة الى الاستعمار فى افريقيا ولا سيما فى غربها؛

وفيما نحن نتكلم دخل احد اعضاء مجلس القيادة الذى سمع هذا السياسى البريطانى يقول لو ان بريطانيا كانت تود ان تقمع الثورة لكان ذلك من ايسر الامور فقد كان فى السويس ثمانون الف جندى بريطانى مع قوة طيران كبيرة ولكنهم كانوا يتمنون للثورة النجاح بعد اليأس المتكرر من اصلاح فاروق.

عشاء .. سجله التاريخ

ولقد كف الناس عن الكلام عن الملك فاروق حتى توفاه الله فى 18 مارس 1965 فى مطعم فى ايطاليا بعد عشاء سجله التاريخ فى كتاب الامريكى ميشيل سترن المعنون:فاروق فى كتاب لم يمر على الرقابة فقال عن هذا العشاء قد هاجم فاروق طبقا فيه اثنى عشر محارة من الصنف الكبير غارق فى مرقة التابسكو الشهيرة؛

وقد اعانه على ابتلاع هذه الوجبة الضخمة زجاجة كاملة وضخمة حجمها 32 اوقية من ماء افيان ثم جاء دور فخذة خروف تساوى اربع وجبات كاملة من اللحم لاربعة رجال مع البطاطس المحمر تيسر وصولها الى بطنه بفضل زجاجة من الصودا اما الحلو فقد كان كومة ضخمة من الصنف المعروف فى ايطاليا الجبل الابيض او مونت بيانكو والمكون من دقيق الكستناء ابو فروة المغلى فى اللبن والمخلوط بمحلول السكر والمحلى بالقشدة المضروبة المتوجة بالفاكهة؛

وقد تبع ذلك زجاجتان من الحجم الصغير من الكاكولا وتبعا للنظام الايطالى انهى الملك هذه الوجبة بعدد من البرتقالات ثم عدد آخر من زجاجات الكاكولا وبعد هذا استحق فاروق وكأنما هو فى سباق فى حلبة العدو ووصل الى ختام السباق ان يستريح فقد اضجع فى مقعده واخرج من جيبه سيجارا ضخما من تبغ هافانا ثم اشعله واخذ منه انفاسا قليلة عميقة واطلق حوله سحابة من الدخان...

وفجأة شملت عضلات وجهه مسحة من الجمود وقد تدحرج السيجار من فمه واتجهت رأسه الى الخلف وحدقت عيناه تحديقا خفيفا فى سقف حجرة المطعم ولكا كان فاروق غفر الله له صاحب مزاج خاص فى المزاح الثقيل فان صاحبته تلك الليلة كانت واثقة من انه يمزح وعلقت على هذه الحركة تعليقا قصدت به المداعبة .

ولما لم تسمع تعليقه ردا ممجلجلا كالعادة من صديقها النائم او المتناوم فقد كررت المداعبة وكانت مداعبة خفيفة هذه المرة ولكنها لم تسمع ردا ايضا ولما كانت رأس اللمك قد اتجهت بعيدا الى الخلف فان الفتاة لم تستطع ان ترى وجهه فى هذه اللحظة لذلك تركت مكانها وذهبت الى جواره وبنظرة واحدة ادركت الحقيقة؛

فصدرت عنها صرخة جاء على اثرها خادم المطعم اليوبيرمانى ومديره البرتو ساردى كان الملك غائبا عن صوابه يتنفس بصعوبة وقد تعاون الثلاثة فى رفعه عن مقعده وانامته على منضدتين من مناضد المطعم مستلقيا على ظهره ثم فتح عامل المطعم سترة اللمك وراح يدلك صدره عند موضع قلبه اما مدير المطعم فقد ذهب ليتصل بالاسعاف تليفونيا وفى دقائق وصلت سيارة اسعاف تابعة للصليب الاحمر؛

كما اقبل الدكتور نيقولا ماسا الى الملك الغائب عن صوابه فتبين ان النبض ضعيف وان تنفسه يجرى بصعوبة وفى الحال ملأ الطبيب حقنة بسائل الكافور ثم طلب حمله النقالة ونقل فاروق الى مستشفى سان كاميليو حيث وضع فى الحال فى خيمة اوكسجين لانعاشه ثم تقاطر عدد من الاطباء واحاطوا به فى حين كان نبضه يزداد ضعفا .

وبعد عشرة دقائق وبالضبط فى الساعة التاسعة والدقيقة الثامنة من مساء 18 مارس 1965 وفى تمام اليوم الخامس والثلاثين التالى لعيد ميلاده الخامس والاربعين لفظ فاروق انفاسه .

بقى بعد ذلك ان نعرف ان هذا المطعم الذى شهد آخر لحظات الملك فاروق كان اسمه ايزل فرانس وهو مطعم متواضع فى طريق باريس اورليان وقد استقبله المشرف على المطعم فى ترحيب حار وسأله عن صحته فقال ليست جيدة تماما اما صاحبته فى تلك الليلة انا ماريا جاتى فهى سيدة منفصلة عن زوجها وأم لطفل فى الخامسة من عمره .

وقد مضت وفاة الملك فاروق فى ذلك اليوم بلا تعليق خاص عليها فقد كان الملك يشكو من ضغط دم ومن اضطراب فى الكبد ولكن حينما ثار الحديث حول السموم فى مصر وتعاطيها وقتل الناس بها وحينما كثرت الاقاويل والاتهامات والاختلافات والمبالغات والاكاذيب؛

واصبح جائزا ان يعتبر كل من مات فى السنين الاخيرة انما مات مقتولا بالسم انتحارا أو غدرا فقد نسب الى كبير فى المخابرات المصرية قوله ان السم الذى ورد ذكره فى تحقيقات وفاة المشير عبد الحكيم عامر استعملته المخابرات فى احوال ثلاثة معروفة منها قتل الملك فاروق .

ماذا يساوى هذا الكلام ؟ وماذا كان دور أنا ماريا جاتى اذا كان اهذا الكلام نصيب من الصحة ؟

أهو قول مفترى ؟ أو هو حقيقة ؟

التاريخ الى الان لا يعلم ولكن متى يعلم ؟

الله وحده هو العليم الخبير .

الفصل الثانى عشر : أزمات صغيرة ودسائس أصغر

سلمنى سكرتير مكتبى بوصفى وزيرا للثقافة والارشاد القومى مظروفا ضخما يحمل عنوانا كتب بخط أخضر عريض رئاسة الجمهورية ففضضته وانا لا اتوقع ان اجد بداخله شيئا مثيرا أو خطيرا فما اكثر المظاريف التى يتلقاها الوزراء من رئاسة الجمهورية دون أن تتضمن سوى ما يقتضيه تصريف شئون الدوله من قرارات أو خطابات أو اخطارات أو تحويل شكاوى للوزير أو شكاوى ضد الوزير؛

ولكن هذا المظروف كان يحمل قرارا جمهوريا باحالة الاستاذ صالح الشيتي وكيل دار الاوبرا الى المعاش وكان القرار بطبيعة الحال بالامضاء الشهير جمال عبد الناصر وما كدت افرغ من تلاوته والوقوف على فحواه حتى مددت يدى الى القلم الاحمر وكتبت عليه بخطى الردىء نظر ويحفظ .

ولما كان سكرتيرى محمد عفيفي قد لازمنى سنوات قبل الوزارة فقد كان منى بمثابة الابن ومن هنا لم اسمعه يعترض على شىء يصدر منى وكان خجولا وعصبيا تبدو عصبيته فى وجهه وفى اهتزاز رأسه فى بعض الاحوال ولكنى احسست فى تلك اللحظة أن عفيفى يود ان يمسك بيدى ويمنعنى من كتابة ما كتبت ولكنه منع نفسه فنظرت اليه متسائلا ماذا يا عفيفى ؟

فقال الشاب وهو لا يكاد يجد العبارة التى يمكن أن يستعملها فى هذا الموقف دون أن تجرحنى أو تضايقنى ثم تعبر عما يجول بخاطره فتمتم سيادتك . فقلت: نعم .

فعاد يتمتم قرار من رئيس الجمهورية فقلت بصوت عال وكأنى أود أن يسمع الناس كلهم ماذا اقول: انا اعرف انه قرار من رئيس الجمهورية ولانه قرار من رئيس الجمهورية فانى اعلق عليه هذا التعليق .

وقال سكرتيرى كلاما معناه: أن هذه التأشيرة ليس لها الا معنى واحد هو انك تتحدى رئيس الجمهورية. فقلت له وكأنى أخاطب نفسى: وما فائدة الناس من دخولى الوزارة اذا لم استطيع ان اوقف قرارا جمهوريا ظالما كهذا القرار .

وبعد قليل جدا من هذ الكلام دق جرس تليفون مكتبى فرفعته لاسمع صوت علي صبري مدير مكتب رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت يقول بطريقته الهادئة: لقد جاءك قرار من الريس فهل اطلعت عليه ؟

فهممت ان اقول له قرأته وعلقت عليه بالنظر والحفظ ولكننى رددت نفسى عن هذا القول وقلت لقد قرأته ولكننى لم افهمه وقد كنت على وشك الاتصال بالرئيس لاسأله عن سبب هذا القرار فقال علي صبري لقد اقحم هذا الموظف نفسه فى شئون الرئيس الخاصة وفى امر يتعلق بحرم الرئيس وهو خطأ لا يجوز ان يصدر عن موظف فى هذا المكان .

وقد يحسن ان ندع جانبا ولو مؤقتا هذا الحوار لنروى الحكاية من بدايتها .

كان منصب مدير الاوبرا قد خلا بوفاة سليمان نجيب وقد تنافس على هذا المنصب المغرى عدد غير قليل من اهل الفن موسيقيون ورسامون واداريون .

ولقد واظب الكاتب توفيق الحكيم ومعه صديقه القديم حسين فوزي الذى كان يشغل آنذاك منصب وكيل وزارة الثقافة والارشاد القومى على ترشيح وتزكية احد موظفى وزارة التربية والتعليم لهذا المنصب وكان هذا الاخير تواقا الى ان يشغله؛

فقد كان محبا لجو الاوبرا بل كان مستهاما بهذه الدار وبالحركة وببريقها الخاطف للابصار والمسيل للعاب وانتهى الامر بتعيين هذا الموظف فى الاوبرا وكان فيها عدد من كبار وصغار الموظفين استمروا يشغلون وظائفهم فى هذه الدار ويعرفون مداخل العمل فيها ومخارجه حتى اصبحوا لا يطيقون أن يقتحم عليهم حرمهم المقدس دخيل أو غريب؛

ولهذا انقسم الموظفون فى الدار بالنسبة لقدوم المدير الى معسكرين واستطاع هذا المدير ان يعقد صلات جيدة بالعسكريين فى مكتب الرئيس جمال فقد واظبوا على الاتصال بى من اجله والتوصية عليه فكنت اظهر لهم نفورا شديدا عند سماع هذه التوصيات كراهية منى لهذا الاسلوب الذى يفسد الموظفين ويفسد العمل الذى يباشرونه .

وذات يوم ابدت السيدة حرم الرئيس عبد الناصر رحمه الله رغبة فى ان تشهد شيئا ما فى احدى السهرات بالاوبرا فاتصل اصدقاء المدير الجديد من العسكريين فى مكتب الرئيس به واطلعوه على هذه الرغبة فأخفاها عن جميع الموظفين ليستأثر بهذا الشرف وليمنع منافسة وكيل دار الاوبرا الاستاذ صالح الشيتي من المشاركة فيه والمثول بين يدى السيدة حرم رئيس الجمهورية عند تشريفها الدار .

وكان نظام العمل فى دار الاوبرا يقضى بان يكون وكيل الاوبرا هو المسئول عن الامن فيها وهو بهذه المناسبة يحمل مفاتيح مقصورتى رئيس الجمهورية وحرم رئيس الجمهورية وهما المقصورتان اللتان كان يستغلهما قبل الثورة الملك والملكة؛

ولكن الاخبار الخطيرة لا يمكن كتمها اذ ان هناك مسالك تتسرب منها تلك الاخبار للمنافسات والخصومات وحرص الموظفين على المباهاة بما يصل الى عملهم من الاسرار مما يرفع قدرهم ويظهر الناس خطرهم ومن هنا فقد عرف وكيل الاوبرا بخبر تشريف حرم الرئيس الاوبرا قبل مجيئهما بوقت قليل؛

فتحدث بهذا الى صحفى فى الأهرام مشتغل بالفنون ونقدها هو المرحوم عثمان العنتبلي شاكيا من محاولة تخطيه فى مناسبة هامة تلقى عليه فيها انظمة العمل مهاما محددة اذا عليه ان يتأكد من صلاحية المقصورة الخاصة بحرم الرئيس لاستقبالها بحيث اذا اصابها مكروه او كانت المقصورة غير لائقة حوسب على ذلك بل وعوقب ايضا .

والظاهر أن الرجل كان يتكلم من تليفون متصل بخطوط تليفونات الاوبرا فأمكن التسمع عليه ونقلت هذه المكالمة الى المدير الذى نقلها بدوره الى اصدقائه العسكريين فى مكتب الرئيس الذين نقلوها الى الرئيس ذاته وحوروها له فى اقبح صورة فغلى الدم فى رأسه؛

واعتبر ان كرامة السيدة حرمه قد مست اذا اقتحم اسمها فى مكالمة تليفونية بين موظف وصحفى مقرونا بنقد اساليب الرياسة فى الاتصال بالموظفين المختصين فكان أن امر الرئيس باعداد قرار جمهورى باحالة وكيل الاوبرا الى المعاش وتسلمت القرار وعرفت المقدمات التى ادت اليه وعرفت ايضا الدسيسة الصغيرة التى اقترنت به فكان لى رأى مخالف تماما .

ثم ..

نعود الى الحوار الذى دار بينى وبين علي صبري .

قال: ان الرئيس حر فى شئون زوجته تتصل فى تنقلاتها بمن تشاء وتتحاشى الاتصال بمن لا تود الاتصال به .

فقلت له على الفور: ليس هذا صحيحا فحرم الرئيس عبد الناصر حينما تتنقل من مكان الى مكان تتنقل بوصفها حرم رئيس الجمهورية فاذا كان انتقالها الى دار رسمية كدار الاوبرا لتشغل مكانا رسميا كمقصورة رئيس الجمهورية وكان هذه المقصورة امين يسأل عنها ويحمل مفتاحا خاصا بها؛

فالواجب الاتصال بهذا الموظف لا برئيسه او بهما معا على الاقل فاذا كنا لا نثق به أو لا نطمئن اليه ننقله من مكانه أو نعزله تماما اذا كان المنسوب اليه يلقى ظلالا على امانته والمدير الذى اخفى على وكيله نبأ زيارة حرم رئيس الجمهورية لم يفعل ذلك حرصا على راحتها بل مكايدة لوكيله ومثل هذه الروح لا يجب منا تشجيعا .

فقال علي صبري: وهل يليق أن يتحدث هذا الوكيل فى التليفون مع صحفى فى شأن زيارة حرم رئيس الجمهورية وكأنها ارتكبت خطأ وانت تعرف ما يضيفه خيال الناس الى مثل هذا التصرف اذا ذكروا ان الزيارة ستتم سرا .

فقلت له: ومن قال لنا ان هذه المكالمة قد جرت اولا ومع هذا الصحفى ثانيا وبهذه العبارات ثالثا. ؟

فقال: علي صبري مدير الاوبرا سمعها بأذنه .

فصحت: آه كيف عرف أنها جرت حتى استطاع ان يسمعها . فقال هل نحن سنحقق هو قال انه سمعها وهذا يكفى .

فقلت: انه يكفى تماما ولكن لطرد هذا المدير على الاقل من مكانه .

فقال: علي صبري . هلى سنقلب الوضع ؟

فقلت له: بل انى سأصححه هذا الموظف الذى يجترىء على القول بأنه تسمع مكالمات مرءوسيه وبدون جريمة ترتكب يسجل على نفسه خطأ صريحا لا يجوز ان نغمض العين عنه والى هنا وكان صبر علي صبري قد نفذ فقال والخلاصة ماذا اقول للرئيس ؟ فأجبته لا تقل له شيئا .

فصرخ: كيف لا اقول له شيئا وقد اصدر قرار جمهوريا ؟ فقلت له بهدوء قل له ان هذه المسألة اصلا من اختصاصى أنا وكان يجب أن يترك لى امر التصرف فيها كيفما اشاء ومراعيا كل الاعتبارات بما فيها رغبة السيدة حرم الرئيس

ثانيا أؤكد لك أن كل ما نقل الى الرئيس لم يكن على الاقل دقيقا وثالثا فليعلم الرئيس أن حرص وكيل الاوبرا على ان يكون فى شرف استقبال حرمه مصدره حبه للرئيس نفسه وهو شعور لا يجوز أن يقابل بطرد صاحبه من وظيفته .

فقال: علي صبري متسائلا والنتيجة ؟

فقلت: والنتيجة اننى لن انفذ قرار رئيس الجمهورية وانا مستعد ان ارده اليكم وكأنه لم يصدر .

فقال: وهل ابلغ ذلك للرئيس ؟

فقلت: افعل ما تشاء وبعد قليل قلت له ولم لا قل له ذلك .

اذكر ان ذلك كله كان قد جرى فى يوم من ايام شهر رمضان وكنت مدعوا الى تناول الافطار فى نادى بنك مصر تكريما لرئيس محكمة استئناف القاهرة بمناسبة بلوغه سن المعاش اى انتهاء خدمته .

وفيما ان اتناول طعام الافطار جاء من أخبرنى ان السيد زكريا محيي الدين على التليفون فذهبت وانا مطمئن الى ان هذه المكالمة بشأن حادث الاوبرا وصدق حدسى فقد قال لى زكريا: ما الذى فعلته هل صحيح أنك قلت لعلي صبري انك لن تنفذ قرار الريس ؟

فقلت له: لقد قلت ذلك بعد مقدمة طويلة كان لابد ان يسمعها الرئيس لكيلا يقوم فى اعتقاده أنها مسألة رفض لقراره لمجرد الرفض .

فقال: انه عرف بعضها منها فما هى المقدمة ؟ فأعدتها عليه فقال: وما المخرج من هذا المأزق ؟ قلت: سأنتدب وكيل الاوبرا لمكان اخر وسأنتدب فى نفس الوقت مدير الاوبر خارج الاوبرا فأبدى زكريا رغبته فى ان ادع المدير فى مكانه .

فقلت له: لا .. لا يمكن فقال زكريا وهو يضحك: طيب ربنا يسهل .

وتم ذلك ولم ينفذ قرار احالة وكيل الاوبرا الى المعاش وبقى فى عمله .

ولكن هذه الازمة او الدسيسة الصغيرة لم تكد تنتهى حتى بدأنا فى ازمة اخرى او دسيسة اصغر منها :

فقد اتصل بى يوما مدير الاذاعة واخبرنى بأن فى مكتبه ضابطا كبيرا من ضباط الطيران جاء موفدا من مكتب السيد الرئيس ليتسلم الادارة الهندسية بالاذاعة والادارة الهندسية بالاذاعة هى عصب العمل الاذاعى وبقدر كفاية العاملين وحسن ادراكهم لواجباتهم ومتابعتهم للجديد فى حقل عملهم تكون الاذاعة مؤثرة وناجحة اذ ما النفع من خطاب سياسى جيد لا يسمع الا فى نطاق ضيق أو لا يسمع الا مخلوطا وممزوجا بالطفيليات الصوتية؛

ولم تكن العلاقة بين مدير الاذاعة وبين كبير مهندسيها حسنة دائما لذلك ما كدت اسمع الخبر حتى شممت كما يقول الانجليز رائحة فأر ميت فقلت للمدير عجبا كيف يتولى ضابط طيار أو اى انسان اخر هندسة الاذاعة ومدير هذا القسم لم يعزل بعد وهو بحمد الله حى يرزق ؟

فقال : والله ما على الرسول الا البلاغ فقلت أرسله الى فورا فقال يعنى لا اسلمه المكتب فقلت بشىء من العصبية اى مكتب الذى تسأل عنه انت رجل قانون فكيف يتولى شخصان ادارة عمل واحد ؟ ارسله الى ولا تشغل بالك .

وبعد قليل كان فى مكتبى ضابط فى سلاح الطيران برتبة لواء او عميد تبينت من الحديث أنه حسن الاطلاع على اللغة الانجليزية بل انه يتقنها وقد دس فى حديثه معى اسماء من كبار الشخصيات البريطانية السياسية منها مستر ايدن وزير الخارجية باعتبارهم من معارفه او اصدقائه ولم افهم اول الامر ما الحكاية ؟

وقد ظننت بادىء ذى بدء أن هذا الحديث المتوبل بالانجليزية حينا وبالاشارات الكثيرة الى شخصيات ذات شأن عل المسرح الدولى انما يراد به التاثير على معنويتى ولكنى عرفت فيما بعد أن هذا هو اسلوب هذا الضابط الزائر ولا شأن له بالمناسبة التى جاء من اجلها .

ثم سألته ما الموضوع بالضبط ؟ فقال انه تلقى امرا مباشرا من السيد علي صبري مؤداه ان اذهب الى الاذاعة واتولى الشئون الهندسية فيها بناء على رغبة السيد رئيس الجمهورية فقد كان فى استراحة برج العرب الواقعة فى غرب الإسكندرية فلاحظ ان بعض الاذاعات المصرية الموجهة الى الخارج والمذاعة على الموجات القصيرة يصيبها ما يسمى بالانجليزية اى تضاؤل أو تناقص؛

بحيث يأتى وقت لا تسمع فيه مطلقا فضايقه ذلك اذ ان مصر تعلق أهمية كبيرة على هذه الاذاعات فاذا كانت لا تسمع جيدا داخل مصر كان معنى ذلك أن ما ينفق على هذ الاذاعات من الجهد والمال ضائع تماما وقد رؤى ان يعهد الى المختصين فى اللاسلكى بسلاح الطيران لمعالجة ذلك .

فقلت له: ولكن هل معنى ذلك ان يتولى ادارى الهندسة الاذاعية فقال مبديا بعض الدهشة اذن ماذا يكون معناه ؟ قلت: معناه أن سيادتك فى مكتبك بسلاح الطيران تطلب من تشاء من الفنيين بالاذاعة وما تشاء من المعلومات فاذا تبينت ان هناك تقصيرا من الاشخاص اطلعتنا عليه لمعالجته وان كان ثمة عيب فى الاجهزة اصلحناه واذا كان الامر مرده ظاهرة طبيعية لا علاج لها قررت ذلك .

فقال: ولكن انا لم أذهب الى الاذاعة من تلقاء نفسى ولم اطلب تولى ادارتها الهندسية وانما امرت بذلك .

فقلت له: دع سيادتك ما طلب منك فقد كان ما طلب منك خطأ صريح ونحن الان فى اشد الحاجة الى معونتك ونشكرك عليها مقدما .

فعاد يقول: ولكن هؤلاء الذين ارسلونى الى الاذاعة لك يكونوا يعرفون ما هو الصحيح وما هو الخطأ لماذا يضعوننى فى هذا الموضع الحرج ؟

قلت: انهم لم يضعوك فى اى موضع حرج فقد احسنوا الظن بكفايتك الفنية وارادوا ان ينفعوا الاذاعة بها ونحن مثلهم نرحب بهذه الكفاية فأنت قد وضعت فى احسن وضع خبير من طراز ممتاز رشحك مدير مكتب الرئيس للوزير المختص الذى يرحب بك فما هو الحرج ؟

فقال الضابط الطيار: اذا اعود ادراجى من حيث جئت .

فقلت مسرعا: بل بالعكس تبقى معنا وانا مستعد ان اهيىء لك مكتبا بجوارى تباشر فيه دراستك وتأتى اليك فيه المعلومات والخرائط والتقارير وكل ما تطلبه .

فعاد يسال: هنا فى الوزارة ؟ فقلت بحسم: نعم هنا وبعيدا عن الاذاعة ولكنا سنضع تحت امرك كل ما يلزم لاداء مهمتك وسنحتاج بطبيعة الحال الى خطاب من مكتب رئيس الجمهورية ليحدد لنا المطلوب مذكورا فيه اسم سيادتك صراحة .

وهنا بدا على الضيف فتور شديد وقال لا لا لا خطاب ولا حاجة أنا سأعود الى مكانى وليبعثوا اليكم بغيرى ان شاءوا .

فقلت: لا لا نحن مصممون على الانتفاع بعلمك وخبرتك وحينما يصلنى خطاب الرياسة سأكون سعيدا باستقبالك فى مكتبى ثانية .

وانصرف الرجل وبعد نصف ساعة سألنى مدير الاذاعة ما الذى انتهى اليه امر القائد الطيار فقلت له : انصرف فى انتظار خطاب يأتينا من الرياسة ولا اظن اننا سنلقى خطابا من هذه القبيل . وتحقق ما ظننت وانتهت الحكاية تماما .

أما الدسيسة الثالثة فقد كانت فى حقيقتها فقاعة ولكنها ما لبثت ان كبرت وتضخمت حتى بدت ازمة دستورية شغلت الصحف والهمت الاقلام أو الهبتها وكانت حديث الناس زمنا فى وقت افتقد فيه قراء الصحف الحملات الصحفية الحادة التى كانت تجدد حياتهم وتبعث الدم الحار فى عروقهم.

وجملة القول فى هذه الفقاعة ونشأتها أن اثنين من المشتغلين بالصحافة والنشر والاذاعة كانت تربطنى بهما علاقة قديمة بدا لهما ان يخرجا لهما مجلة وان ينشرا فيها برامج الاذاعة كاملة نقلا هن هيئة الاذاعة وسبقا لمجلتها وليقضيا على هذه المجلة التى كانت البرامج الاذاعية اهم عناصر ما تكتبه وتنشره على الناس؛

ولم يكن فى هذه المحاولة من بأس لولا أنه كان للدولة لا فى مصر وحدها بل فى مصر وبريطانيا رأى مستقر يجعل من برامج الاذاعة الكاملة التفصيلية وقفا أو حكرا لمجلة الاذاعة التى تنشرها عن هيئة الاذاعة انتفاعا بدخل المجلة فى تحسين موضوعاتها ومادتها فى اذاعة الثقافة .

وقد قضت الصدفة أن يكون لى قبل ذلك دور فى هذ الموضوع قبل ان اتولى امر الاذاعة بتولى وزارة الثقافة والارشاد القومى فقد لجأ الى احد العاملين فى حقل الصحافة لأعينه على الحصول على برامج اذاعة مصر لأنه بسبيل اصدار مجلة تنشر جميع برامج الاذاعة التى توجه اذاعاتها الى الشرق العربى؛

وقد تيسر له بدون عناء الحصول على جميع هذه البرامج فلما جاء دور الاذاعة المصرية وبرامجها اصطدم بأن هناك أمرا صادرا من الحاكم العسكرى يمنع نشر برامج اذاعة مصر الا فى مجلتها فقال لى هل يعقل أن اصدر مجلة تنشر جميع برامج الاذاعات العربية والاجنبية التى تعمل فى الشرق العربى ولا أنشر برنامج الاذاعة الاولى فى المنطقة وهى اذاعة بلدى التى انتمى اليها واعمل لها ؟

فكلمت فى هذا الشأن الرئيس عبد الناصر فقال ان هذا الامر العسكرى صدر بناء على طلب وزير ارشاد القومى صلاح سالم الذى قال ان المجلة فى حاجة الى دعم لتحسن مستواها بما تحصل عليه من ايراد التوزيع ثم كلمت المرحوم صلاح سالم واقترحت عليه ان يعدل الأمر العسكرى بحيث يكون نشر برامج الاذاعة المصرية ممكنا بعد نشرها فى مجلة هيئة الاذاعة المصرية بيومين مثلا ولكن صلاح سالم رفض هذا الاقتراح وقال ان مراقبة تنفيذ الامر على هذا الوجه لن يكون بالامر الهين فى حين ان المنع البات يحسم الامور وانتهت المسألة عند هذا الحد .

فلما تجددت المحاولة لم تكن مجرد رغبة فى نشر برامج الاذاعة المصرية كما كان القصد فى المحاولة السابقة بل كانت مكايدة صريحة لمجلة الاذاعة التى اشرف عليها وكانت ادارة هذه المجلة قد الحقت باختصاص الوزير فى عهد المرحوم صلاح سالم؛

وكانت دوائر الاذاعة غاضبة لسلخ المجلة من سلطتها ومن هنا وجدت هذه المحاولة الجديدة كل تشجيع من موظفى الاذاعة وفى هذه الفترة او بعدها بقليل قدم لى الاستاذ فؤاد دواره كتابا يتناول بالدراسة الفنية والتحليلية الاذاعة البريطانية وتاريخا وتأثيرها الى اخر ما يتصل بها؛

واطلعنى على فصل طريف يروى كيف أن الحكومة البريطانية اتفقت مع رؤساء تحرير الصحف فى بريطانيا على ان يتركوا لمجلة المستمع لسنر التى تصدرها هيئة الاذاعة البريطانية ما تذيعه هذه الهيئة من دراسات ادبية وتاريخية؛

وقد قبلوا ذلك متصورين أن هذه المجلة لن تروج وان الاقبال على مطالعة البرامج الثقافية لن يكون عظيما لكنهم فوجئوا بنجاح المجلى وبتزايد المبيع منها شهرا بعد شهر فأسفوا على هذه الموافقة التى صدرت منهم على عجل فلما دعاهم مستر تشرشل وهو على رأس الوزارة البريطانية وعرض عليهم ان يتركوا لمجلة الاذاعة البريطانية برامجها التفصيلية؛

وان يكتفوا بنشر رؤوس الموضوعات فى الصحف اليومية رفضوا هذا الطلب ولكنه صمم عليه واستطاع بقوة شخصيته ان يقنعهم بقبوله وعندها زال كل تردد من جانبى فى ان اصدر تشريعا يحدد علاقة الاذاعة بالمتحدثين والمحاضرين والفنانين وينظم بالتالى حق نشر هذه البرامج مع مجلة الاذاعة بحيث يضمن لها السبق ويبقى على احتكارها لنشر البرامج المفضلة .

وتلقف خصومى هذا المشروع بفرحة شديدة فقد اعتبروه خروجا على الدستور ومساسا بحقوق الصحفيين وتحديا لحرية الرأى وافردت لهذا الموضوع المقالات الطويلة والعريضة ولا انسى أن واحدا منها كان بقلم المرحوم سامي داوود الذى اختار لمقاله عنوانا طريفا هو دستورك يا وزير الارشاد .

واتصل بى عدد من الصحفيين الذين كانوا يريدون ان يفهموا الموضوع فاستولت عليهم الدهشة حينما علموا ان التشريع الذى اقترحه ليس تشريعا جديدا بل انه تشريع قائم فعلا ولكن بدلا من ان يستعان فى هذا التشريع بالاداة الطبيعية وهى القانون استعين بالادارة الاستثنائية وهى الامر العسكرى الذى يستند الى الحكم العرفى وان هذا الامر العسكرى صادر من الرئيس عبد الناصر من سنين وكان قائماالى ايام مضت ولم يجرؤ احد من الصحفيين الذين يصرخون الان ان يشير اليه بحرف حتى بعد الغاء الاحكام العرفية .

ثم رويت لهم ما حدث فى بريطانيا الموصوفة عندهم بأنها اعرق الدول الدستورية فعقب احدهم عل كل هذا نقبل ان تكون الاذاعة كلها حكرا للدولة ونغضب من احتكار الدولة لنشر برامج هذه الاذاعة نفسها هذا عبث .

ولكن الحملة الصحفية استمرت فلما عرض القانون أو مشروع القانون على مجلس الوزراء وما ضرورته ؟ فأجبت ضرورته سيادتك اقتنعت بها حين اصدرت بها امرا عسكريا فقال: ولكن الاحكام العرفية الغيت وكانت قد الغيت لفترة قصيرة فقلت له الذى تغير هو اداة التشريع انما بعض التشريعات العسكرية تحقق للدولة مصالح مدنية؛

فلا تلغى بالغاء الاحكام العرفية قال ولكن منمصلحتنا ان تنشر برامج الاذاعة المصرية قلت له ولكن سيادتك رفضت هذه الحجة من شهرين فقط وقد كنت تدافع عن المبدأ من حيث هو فقال وما الحاجة الى تشريع والبرامج ملك الاذاعة وموظفو الاذاعة يتبعونك ولك أن تأمرهم بعدم اعطاء البرامج لغير المجلة؛

فأجبته ان قانون الموظفين ملىء بالتعليمات والقيود والتوجيهات التى كان يمكن ان يكتفى فيها بالاوامر الادارية ولكن اضفاء صفة القانون على بعض الاوامر الادارية تقتضيه المصلحة العامة احيانا حتى لا تخضع هذه التوجيهات الادارية للتقلبات بتقلب الوزراء وقد تتسرب البرامج وتضيع المسئولية بين عشرات الموظفين .

أجل البحث فى هذ المشروع من جلسة الى جلسة حتى سحبت الاذاعة نفسها منى والطريف أن المجلة التى كانت تنوى نشر هذه البرامج لم تصدر ولم تر النور قط وعادت الاحكام العرفية واستمر قرار الحاكم العسكرى الخاص بمنع نشر برامج الاذاعة فى غير مجلة الاذاعة قائما .

والطريف كذلك أن احد الوزراء قال فى جلسة من الجلسات أن هذا القانون ينطوى على مساس بحرية النشر فقلت له: وهل حرية النشر قائمة فى كل جانب من جوانب حياتنا ما عدا نشر البرامج الاذاعية ؟ فضج الوزراء بالضحك وخجل الوزير وانتقلنا الى شىء آخر .

الفص الثالث عشر: من يحاكم الوزراء ايام عبد الناصر ؟

عندما قامت الثورة سنة 1952 كنت معتقلا فى معتقل الهاكستب الذى كسب شهرة واسعة قبل ذلك التاريخ لأنه ضم الإخوان المسلمين والشيوعيين والوطنيين وقد كان هذا المعتقل اصلا مخازن للجيش الامريكى خلال الحرب العالمية الثانية ؛

فلما انتهت الحرب مضى الجنود الامريكيون الى بلادهم وسلمت هذه المخازن بما فيها للحكومة المصرية وبدأ النشاط السياسى يستعيد وجوده بعد ان وضعت الحرب اوزارها وخفضت القيود العسكرية ثم رفعت لفترة فاحتاجت الحكومات المتعاقبة سواء كان حكومة اغلبية يؤيدها الشعب أو حكومة اقلية يؤيدها الملك احاجت الى معسكرات اعتقال تزف اليها الخصوم والمخالفون زمرا .

وقد كان زملائى فى خارج المعتقل ممن نسب اليهم شىء يتصل بحريق القاهرة الا انا وقد احتاج زملائى فى خارج المعتقل الى رفع دعاوى متكررة امام مجلس الدولة طعنا فى امر اعتقالى الباطل والذى كانت تعوذه مبررا ت الواقع ومبررات القانون والاجراءات القانونية فى مصر تقتضى ان يطعن فى قرار ادارى ويلتمس من المحكمة الحكم بالغائه ان يرافق دعوى الالغاء دعوى تعويض ومن هنا كان الزملاء مضطرين ان يطلبوا الحكم لى بتعويض رمزى ولكن الدعوة كانت من اصلها الى فرعها تستهدف فك قيودى واطلاق سراحى .

ولم يكن يرد على الخاطر ان نتخذ من هذه الدعوى سبيلا الى كسب قرش واحد من مال الحكومة ولما اخترت للوزارة بعد قيام الثورة بقيت القضية مرفوعة ومتداولة فى الجلسات وكانت لى قضية اخرى امام محكمة الجنايات اذ اتهمت قبيل الثورة بالعيب فى الملك وساقونى الى محكمة الجنايات وقد قلت فى التحقيق الذى اجرى معى اننى لم لقصد العيب فى الملك وانما قصدت نقد ما يجرى عليه الحكم من فساد وهذا مطلق حقى وحق كل مواطن اخر .

وجاء موعد نظر هذ القضية وانا فى دست الوزارة وتلقيت اعلانا بتاريخ الجلسة فلم اخبر احدا من موظفى مكتبى بذلك واخذت سيارتى الخاصة وذهبت بها الى المحكمة وليس معى احد حتى ولا محام ولما انعقدت المحكمة جلست فى اخر صفوف الجمهور حتى اذا ما نودى على وقفت وترافعت عن نفسى مكررا نفس الدفاع الذى قلته فى التحقيق قبيل الثورة والملك متربع على عرشه؛

وكان الاستاذ جمال العطيفى وزير الثقافة والاعلام الحالى ممثلا للنيابة فرآنى التزم بالدفاع القديم ولاازيد عليه فتولته الدهشة كما بدا على المحكمة الاستغراب فقد حسب الجميع اننى سأنتهز فرصة سقوط الملك وانهال عليه طعنا وابرر قيام الثورة ولكنى رفضت وقلت للمحكمة ليس لنا دفاع فى ظرف يناقضه فى ظرف آخر .

وسمع الناس بما جرى فى محكم الجنايات ولكن فى بطء اذ لم احرص من ناحيتى على اذاعته ولم الفت نظر الصحف لنشره وفى هذه الفترة سلمنى عبد الناصر تقريرا من المخابرات كان اولى حلقات الدسائس الصغيرة التى سلطها ضدى عدد من الذين ضاقوا بمكانى من قائد الثورة؛

فقد ظن بعض قادة الاحزاب القديمة انه لولاى لما اتجهت الثورة الى حل احزابهم باعتبار ان الثورة اعلنت فى اول بيان لها انها تريد ان تقيم فى البلاد حكما دستوريا نظيفا وانه لا دستور بغير احزاب وان الاحزاب بعد ان ابدت استعدادها لتطرد من صفوفها الفاسدين والفسدين انعدم مبرر حكم الموت عليها وقد انضم الى هؤلاء عدد من العسكريين الذين نفسوا على ان اكون دونهم مستشار قائد الثورة فى بعض شئون الحكم وهو مكان لا يجب ان يصل اليه فى رأيهم الا واحد منهم وآخرون لا اعلمهم الله يعلمهم .

وقد اتهمنى كاتب هذا التقرير انى طامع فى مال الدولة مع انى احد وزرائها بدلالة انى رفعت دعوى ضدها امام مجلس الوزراء واقتربت من عبد الناصر وقد دس القانون فى كلية الحقوق سنة او سنتين فقلت له ماذا تريد منى ان افعل بهذه الورقة ؟

قال:هل صحيح ان هناك دعوى من هذا القبيل ؟ فقلت انها دعوى مرفوعة قبل الثورة وضد حكومة عزلتم انتم رئيسها ووزراءها واعتقلتم بعضهم وكان لابد لى لكى أرفع دعوى الغاء الاعتقال ان يصحبها طلب التعويض فأجاب عبد الناصر فضقت ذرعا بهذا الذى بدا لى فقال له : وهل تعرف ما هو التعويض المطلوب ؟ فقال : تعويض على كل حال فصرخت انه قرش صاغ واحد وهنا بدا على عبد الناصر شىء من الارتباك وقال ولماذا تجعل لمثل هذا الامر كل هذه الاهمية ما دام التعويض بهذ التفاهة ؟

فقلت الامر يهمنى من حيث المبدأ هل يجوز ان تكتب ورقة كهذه يريد أن يظهر بها كاتب انه ضبط لى سقطة وانه حريص على المال العام اكثر من حرصى انا عليه وانه رقيب على يهدينى الى الصواب مثل هذا لا يقبله الا رجل احساسه بالشرف معدوم وانا لن اتنازل عن الدعوى ولن التفت الى هذا الاسلوب فى الدس الصغير وارجوك ان تضع له حدا من الآن والا فانه سيستفحل وتهب من ورائه رياح خطرة .

ولم يهتز عبد الناصر لهذه الخطبة الحارة وانم هز كتفيه وقال لست معك ان الموضوع صغير جدا وارى انه لا مبرر لتضخيمه .

وتحققت توقعاتى

وما توقعته تحقق تماما فقد نقلت الى وزارة المواصلات وكان يزعجنى ما كنت اقرأه فى الصحف جهارا نهارا وبلا احتشام من اعلانات عن تجارة فى التليفونات والنزول عنها وكأن البلد لا قانون فيه ولا نظام لم ار بدا من ان اضع قواعد جديدة لتركيب التليفونات؛

وبدأت هذه القواعد باهدار جميع الطلبات المقدمة قبل تاريخ اسناد الوزارة الى على أن يقوم الراغبون فى تركيب تليفون ان يتقدموا بطلبات جديدة على الا يسلموها الى احد فى مصلحة التليفونات بل يرسلون بها الى مصلحة بخطابات مسجلة مصحوبة بايصال مرتجع وامرت باعداد دفاتر جديدة مختومة كل صفحة فيها بخاتم الدولة وموقع عليها من مدير المصلحة أو من ينيبه..

وقررت ان يلتزم الدور المطلق فى التركيب بلا اى استثناء وحرمت نفسى بوصفى وزيرا للمواصلات من الحق فى اى استثناء بالغة ظروف الاستثناء وجعلت تركيب التليفون بصفة استثنائية لا يكون الا بناء على طلب الوزير المختص بالمجال الذى يشرف عليه مبينا به اعتبارات المصلحة العامة؛

وادركت ان الوزراء سيحجمون عن استعمال هذا الحق لأنه سيستحيل عليهم مجاملة الاصدقاء اذ لن يكون فى وسع وزير الصحة ان يوصى ا على طبيب اذ لا حق له فى التوصية على غير الاطباء ولن يقبل منه ان يبرر تخطى الاطباء الآخرين الا بكلام مقنع ويدعو الى الاحترام .

ولم أكن ادرى اننى وضعت يدى كما يقولون فى عش الزنانير واننى اهجتها وكان أول من ثار ضد قراراتى مدير عام مصلحة التليفونات نفسه فقد كان من اكبر مظاهر سلطته ان يتقدم اليه فى الحفلات العائلية الاصدقاء والاقارب واصدقاؤهم واصحاب المصالح برجاء تركيب تليفون فلا يكفه ذلك ان يضع امضاء الكريم فى ذيل طلب صغير فى ورقة صغيرة فاذا بالامر الساحر يفعل فعله واذا بصاحب الطلب يبيت قرير العين وربما الجيب ايضا .

وعلى الرغم من اننى حققت لمدير عام المصلحة رحمة الله رجاء كان يسعى اليه وهو رفع درجته الى وكيل وزارة فانه لم يستطع ان يغفر لى حرمانه من سلطة من اغلى سلطاته وقد كان يظن اننى سأتشدد لبعض الوقت ثم يسترخى النظام الذى وضعته؛

لكنه ادرك ان وهمه بلا اساس فقد اقنع لجنة التليفونات بتركيب آالتى تليفون لوزير سابق فى غير دوره وكان هذا الوزير قد زارنى فى الوزارة وزعم ان الرياسة توصى على هذين الطلبين فراع المدير اننى الغيت قرار اللجنة ولم احفل بما قيل من ان الرياسة توصى عليهما .

وفى مساء اليوم الذى الغيت فيه قرار اللجنة لصالح الوزير الزميل انعقد مجلس الوزراء فسألت المرحوم جمال سالم هل اوصيت فلان ؟ وكعادته صرخ صراخا عاليا وسب الوزير وقال هل اقطع شعر رأسى التى لا اشعر فيها ؟

ودخل فى هذه اللحظة جمال عبد الناصر فسأل عن سبب صراخ جمال سالم فقال له بأعلى الصوت هل وصيت على طلب تليفون للدكتور فلان ؟ فلم يرد عبد الناصر على سؤاله ومضى الى مكانه على رأس طاولة الاجتماع وقال يا اخوانى بمناسبة سؤال جمال ارجو ان تعلموا اننى لا يمكن ان اوصى احدا غيركم فاذا سمعتم انى اتصلت بمدير مصلحة او وكيل وزارة ليجرى شيئا من اجل قريب او صديق فلا تصدقوا وتمتعوا بحريتكم الى اقصى الحدود وانا اتصل بكم واكلمكم ولا اظن أن احدا منكم يذكر اننى طلبت منه شيئا استثناء من القواعد او اتباعا لها واذا كنت فعلت ذلك فذكرونى ارجوكم .

وسمعت دوائر وزارة المواصلات بما جرى بشأن طلب الوزير السابق وادركوا ان التعويذة السحرية أوامر الرياسة وطلبات الرياسة وتوصيات الرياسة ليس لها سوق فى وزارة المواصلات فاستقامت الامور .

ولست انسى يوما اتصل بى فيه استاذى المرحوم حلمى بهجت بدوى الذى كنت احبه واحترمه واعجب به ورجانى من اجل تليفون لطبيبه الذى يعالجه وقد كنت ارجو ان اجيب هذا الطلب تعبيرا عن المودة والاعزاز اللذين احملهما له ولكنى غالبت نفسى وانا اكاد ائن كذلك حدثنى الدكتور القيسونى وزير المالية آنذاك فى شأن طلب لخاله الدكتور غنايم كبير اطباء السجون فقلت له اننى لا استطيع ان استثنيه هذا من حق وزير الصحة وكبر علىالدكتور القيسونى ان يرجو وزير الصحة وعلق على ذلك بقوله انت خليت رقبتنا زى السمسمة .

كما طلب منى المرحوم عبد الحكيم عامر ان آمر بتركيب تليفون لأحد ضباط حرسه وكان تابعا لوحدة فى وزارة الداخلية تسمى حرس الوزراء وجاءنى الضابط وفى ظنه انه ما دام عبد الحكيم عامر وزير الحربية وعضو مجلس قيادة الثورة قد اوصى عليه..

فمن حقه ان يدخل الى مكتب وزير مدنى وهو منتفخ الاوداج فرفضت ان اقابله وحولت طلبه حسب القواعد الجديدة لزكريا محيي الدين وزير الداخلية الذى ارسل الى يقول لا تركبوا له تليفونا لأننا سنضع لرجال الشرطة نظاما خاصا بشأن طلبات التليفون .

وبلغ الامر لعبد الحكيم فلما قابلنى قال ما ذها يا اخ فتحى ؟ الا استطيع ان اركب تليفونا لحارسى فقلت له كلم فى ذلك زكريا فتولته الدهشة وقال وما شأن زكريا ؟ ومضى غاضبا .

وتعكرت المياه

وهكذا تهيأ الجو وتعكرت المياه للاصطياد فيها فاذا بتليفون مكتبى بوزارة المواصلات يدق وما كدت ارفع السماعة حتى سمعت صراخا عنيفا الى الحد الذى خشيت منه على السماعة أن تتمزق وكان مصدر الصراخ هو المرحوم جمال سالم الذى لم افهم منه شيئا الا انه فى اعلى درجات الغضب .

وبعد جهد فهمت أن ما نشر عن قواعد تركيب التليفونات يتضمن مساسا به واتهاما له بعدم الكفاءة أو بعدم الامانة باعتبار انه كان الوزير السابق على مباشرة واضاف جمال سالم كلاما معناه اننى اتعقب تصرفاته فى الوزارة قبل مجىء تصيدا لأخطاء وقع فيها تثبت خراب ذمته وادركت فى الحال أن فى الامر دسيسة محكمة فقلت له على الفور هل استطيع ان ارد عليك بعد قليل فان لدى ضيوفا ولست قادرا على التحدث معك فى حضورهم فهدأ قليلا وقال حسنا أنا فى الانتظار .

وتعمدت ألا ارد عليه حتى يهدأ ولكنه لم يطق الانتظار فعاود الاتصال بى فقلت له الضيوف لا يزالون عندى فهل لديك مانع ان امر عليك غدا فى مكتبك وبدا لى ان اكثر من نصف غضبه قد زال ولم يكن ذلك بالشىء المستغرب عندى فأنى كنت اعرف جمال سالم جيدا اعرف طيبة نفسه وشدة غضبه وسرعة صفحه .

وفى اليوم التالى قصدت مكتبه فوجدت رجلا اخر تماما فقد كان صافى المزاج مجاملا وودودا وتحدثنا طويلا فى امور مختلفة حتى كدت اتصور اننى لوانصرفت قبل ان افتح حديث الامس لما استوقفه هذا ولكنى رأيت ألا يبقى الموضوع معلقا فسألته عن سبب غضبه فعاودته حدة الطبع قليلا وقال كيف تنشر انك تضع قواعد لتركيب التليفونات منعا للفوضى كأن هذا الامر قد غاب عنى ؟

فقلت له وكنت صادقا الواقع اننى لاحظت أن القواعد التى وضعتها وانت فى الوزارة اهملت فأنا اعدت نشرها وهذه القواعد الجديدة اليست هو قواعدك ؟ فقرأها بسرعة وقال بالضبط قلت ما الشكوى اذن . فأجاب وهو يهز رأسه والله ما انا عارف ..

وسألته وما الامر الثانى فقال ان مدير التليفونات يشكو من ان مفتشى التحقيقات فى الوزارة يطرقون باب مكتبه كل اسبوع مرة على الاقل ويحققون معه فى شأن احد السنترالات بطريقة تشعر بأنهم يشكون فى هذه العملية وان رشوة دفعت فيها له فظهرت على امارات دهشة حقيقية لأنى سمعت يومذاك بهذا الامر لاول مرة؛

وقلت له انى سمعت عن هذا الامر الان فقط ولا اعرف شيئا عن السنترال الذى تشير اليه فما الذى يغضبك منى ؟ قال مدير التليفونات قال انك وراء هذا التحقيق فسألته وانا اكاد انفجر غيظا من هذا الدس الصغير وهل سألته وما هو دليلك على هذا فقال انت حتعملها محكمة ؟ قلت هذا افضل من ان تغضب من زملائك بلا مبرر .

وامسك جمال سالم بالتليفون وهو يكاد يحطمه وطلب مدير التليفونات الذى جاء على عجل مرتبكا غارقا فى عرقه هل عرفت متى بدأت الشكوى ضدك وممن ؟ وتعثر الرجل فى الرد وبعد سؤالين اقر ان هذا التحقيق بدأ قبل ان اتولى امر المواصلات فانفجر جمال سالم رحمه الله وانطلق المسكين وقد كان يشكو شللا فى قدميه وهو يكاد ينكفىء على وجهه ذعرا من ان يطارده جمال سالم . ومضيت الى عملى وفى فمى مرارة .

وانتقلت الى وزارة الثقافة والارشاد القومى ومن ورائى هؤلاء الدساسون الصغار وفى ذات يوم تحدث الى تليفونيا السيد عبد اللطيف البغدادي وكان وقتئذ وزيرا للشئون البلدية والقروية ورجانى ان امر عليه فى الغد فى ساعة حددها ومضيت الى مكتبه فى الميعاد الذى اختاره وتحدثنا مليا فى الشئون العامة؛

وكان كعادته هادئا وبسيطا وتناول حديث المنافقين وحديث المنتفعين من صلاتهم بالوزارة والمسئولين فقلت له ان بعض الناس قد يكون فى غير حاجة الى قريبه الوزير ونفوذه ولكنه يعز عليه الا يستعمله ثم قال ان احد خصومه قال له انه تعقب فى كل خطوة مؤملا ان يجد له خطأ تورط فيه فلم يجد فقلت له ان هذا منافق يتقن نفاقه فدهش بغدادى وقال كيف ؟

قلت ان العبرة هنا بآخر معنى فى الكلام كان مدحا فهو نفاق وان كان نقدا فهو شجاعة وصراحة وهنا مد بغدادى يده الى مكتبه واخرج ورقة سلمها الى وما كدت القى عليها النظرة الاولى حتى عرفت ماذا تكون وماذا يكون فيها انها ورقة من هذه الورقات التى تكتبها احدى الجهات التى تعتمد عليها الدولة لجمع المعلومات فى امور شديدة الحساسية تتصل بأمنها وبنشاط كبار العاملين فيها وكبار خصومها واعدائها واحسست فى التو بحسرة تعتصر قلبى ومرارة تملأ نفسى وحيرة تحيط بى من كل جانب فلقد كانت الورقة صورة من صور ذلك العبث الصارخ الذى يجب ان تترفع عنه أية جماعة انسانية ولو كانت من اطفال .

حسبك ان تعلم أنه جاء فى هذه الورقة أننى عينت فى الوزراة التى تتبعنى ستة من اقاربى نعم ستة دفعة واحدة.وقرأت اسماء هؤلاء الستة فاذا بى لا اجد فيهم واحدا اعرفه او سمعت باسمه ولو مرة واحدة هكذا بالضبط ستة اقارب لا اعرفهم ولم اسمع باسمائهم وبالتالى لا يمكن ان يكونوا قابلونى أو قابلتهم وحمدت الله أنه عندما بدا لأحد لأن يكيد لى للاجراءات الشديدة التى اتخذها سدا لمنافذ الفساد قد اعماه الله فجعله يقول ما لا معنى له...

ثم قرأت فقرة اخرى عن اثنين من اقاربى درجا على الكتابة فى مجلة الاذاعة مقابل مكافآت يتقاضونها ولما كنت اقرأ مجلة الاذاعة واعرف ان هذين القريبين لا يقرآنها فقد كنت واثقا انهما لم يكتبا فيها حرفا؛

وبالتالى لم يقبضا منها قرشا وتساءلت وانا اعبر سطور هذه الورقة فى سرعة ما غاية كاتبها ؟ أيعلم انه يؤلف قصة من خياله السقيم ؟ اذا كان ذلك فما الضرر الذى سيصيبنى من هذه المحاولة المفضوحة أكان يظن أن رؤساء وسادته سيقرأونها ويقتنعون بها دون أن يطلعونى عليها .؟

هذا هو التفسير الوحيد المعقول لهذا التصرف الذى لا يصدر الا عن معتوه . ولكن بعد أن قلبت الورقة فى يدى اصبحت المشكلة التى تواجهنى كيف اتصرف هل أمزقها امام البغدادى مع ما هذا التصرف من قلة ذوق ؟ وقد يكون البغدادى بريئا ولا يد له فى هذا العبث .

ولكن لم البث حتى افقت على كلام من البغدادى يقول لى فيه : لو امكن تمر علينا غدا لنأخذ كلمتين والاخ محيي الدين ابو العز سيقوم بأعمال سكرتارية التحقيق . ولم اصدق اذنى كلمتين وتحقيق ومحيي الدين ابو العز ما هذا الذى يحدث ؟ لقد بذلت جهدا خارقا لكى لا يبدو على ما احسست به من تقزز وقلت له : سأرد على ما جاء فى هذه الورقة بمذكرة صغيرة .

وأوصلنى البغدادى الى المصعد ومضيت الى مكتبى وانا اسفق ان يصدر عنى تصرف غير لائق هل اقدم استقالتى ؟ ان هذا قد يكون غاية القصد وبلوغ المراد عند اولئك الخصوم الذين لا اعرفهم ولا يهمنى ان اعرفهم وستكون الاستقالة عندهم هى الاقرار بصحة ما جاء فى تلك الورقة .

وماذا فى هذه الورقة ؟ انها امور لو صحت فلا تشين حاكما فلا هى تمس النزاهة ولا الامانة ولا الكفاءة وهى اذا قورنت بما اقدم عليه الاقرباء والاشقاء والآباء والاصهار من صفقات مع الحكومة ومقاولات ونشاط فى الداخل والخارج يتناول الاستيراد والتصدير والنقل والتعيين بالمئات والألوف لعدت من حسنات الأبرار هلى ادع مكتبى واذهب الى عبد الناصر واوقفه على خطر وخطأ هذا التصرف غير المسئول لأن الدستور رسم اجارءات هذه الخطوة التى قد يظن ان ردى سيحسمه اذ سيظهر كل ما فيها من بطلان .

وقلت لنفسى بل سأعرضها على مجلس الوزراء واطلب ان يصدر قرارا بسحب هذه الورقة واعتبارها كأن لم تكن ومحاسبة الذين حرروها واقدموا عليها ولكنى سألت نفسى أهذا ممكن ؟

وعدت اقول لابد أن افعل ذلك وليكن ما يكون وهدأت نفسى فقررت اولا أن اكتب ردا قصيرا وموجزا على ك لما جاء فىالورقة مؤيدا بالاسانيد وكان اول ما امرت به تكليف مدير المستخدمين فى الوزارة بأن يقدم لى بيانا بتاريخ تعيين كل من الاشخاص المنسوب الى تعيينهم ومؤهله ومرتبه عند التعيين ومرتبه اليوم والترقيات التى حصل عليها لا فى ديوان الوزراة فحسب؛

بل فى الوزارة وفى المصالح التابعة لها وجاء الرجل آخر النهار متصبب العرق مبهور الانفاس يلتمس اعطاءه مهلة لأنه لم يعثر بعد على اسم واحد من هؤلاء الستة وهو بطبيعة الحال لا يستطيع ان يقول للوزير انت تعبث وتضيع وقتنا فيما لا طائل تحته .

وارسلت الى مجلة الاذاعة لتعطينا بيانا بما تقاضاه قريباى الكاتبان ولا اطيل على القارىء فقد جاءت البيانات كلها كما يقول المحللون فى معامل التحاليل الطبية سلبية واستمهلت البغدادى يوما ثم ارسلت اليه المذكرة .

ثم ذهبت الى عبد الناصر ولعله رحمه الله لم يرنى فى حياته اسوأ مزاجا واقرب الى المصادمة منى فى ذلك اليوم ولست اريد ان اثقل على القارىء اذ حسب القارىء ان انقل اليه الجانب العام من المشكلة فقد قلت له ان اخذ الامور بهذه الخفة لا يدل الا على تقدير الشرف عند الدولة التى ننتمنى اليها ونعمل معها هو تقدير غاية فى الضعف انكم تحسون انه من الهين ان تقول لانسان يحترم نفسه انك عينت وهو لم يعين أو ان قريبك قبض ثلاثة جنيهات نعم ثلاثة جنيهات وهو لم يقبض شيئا .

وجلسنا بعد هذا الحديث فترة صامتين واجمين لا نقول حرفا ولكن عبد الناصر وبعد طول المجاهدة لنفسه قال لك يكن امامى الا هذا فانهم يظنون اننى احمى بعض الوزراء لصلة خاصة بينى وبينهم فتركتهم يفعلون ما يشاءون وفى هذا خير على عكس ما ترى انت .

وفهمت ان عبد الناصر كان مغلوبا على امره وفى الايام التالية قرأت ان ثلاثة من الوزراء ذهبوا الى مكتب البغدادى وقضوا وقتا طويلا فى مناقشة بعض الامور وانه كان مع البغدادى محيي الدين ابو العز وفهمت وعجبت لهؤلاء الذين قبلوا ان يحقق معهم وقد بلغ احدهم منصب رئيس الوزراء والثانى منصبا لا يقل عنه والثالث بقى فى الوزارة حتى كتب له ان يقيم الدنيا ويقعدها بقرار منه .

الفصل الرابع عشر:عبد الناصر يتحدث عن رفاقه

قال لى جمال عبد الناصر يوما انا هنا واشار الى بيته اعيش مع كابوس طويل لا ادرى متى ينتهى ؟ لم اكن اعرف ولا اتصور انه هكذا ستكون الامور .كان ذلك فى خلال ازمة من الازمات التى لم تكن تنتهى الواحدة منها الا لتبدأ غيرها وتدور كلها حول جذب وشد مع واحد من اقرب الناس اليه .

ولقد كانت اول ازمة من هذا القبيل هى ازمة الرئيس محمد نجيب وقد حدث ان قبل أن تنفجر هذه الازمة لتصبح بعد ذلك زلزالا يهدد الثورة من اساسها انى كنت جالسا الى جوار عبد الناصر فى نادى السيارات بعد ان تناولنا العشاء على شرف الرئيس السورى شكري القوتلي وكان الرئيس محمد نجيب يجلس فى الطرف الاخر من الدائرة التى توزع فيها الضيوف والمضيفون فنظر اليه عبد الناصر طويلا ثم قال:اننى لم اعد اطيق النظر الى وجه مطر .

ولم اكن اعرف أن المقصود باسم مطر هو الرئيس محمد نجيب فسألت بسذاجة وسلامة نية ومن هو مطر ؟ فضحك عبد الناصر ضحكة خالية من البهجة وقال اذن انت لا تعرف أنه نجيب وبقدر ما كنت أحبه واثق به أصبحت لا اقوى على مجرد النظر اليه . وفاتنى ليلتها ان اسأل عن سر هذه التسمية .

وذات يوم كان الرئيس الاندونيسى سوكارنو فى زيارة لمصر وكانت له طلبات غير معقولة وكانت كلها متصلة بالمزاج وقد اضطرت الدول الى اجابتها له وهى كارهو ارضاء لمزاجه الذى لا يقبل القيود ولا يستسلم لها فقال لى عبد الناصر لست أدرى لماذا يذكرنى سوكارنو بنجيب خفته ومزاجه وتعلق الناس به وبساطته التى تخفى فى نفس الوقت مكرا شديدا .

وفى يوم آخر عين احد المحامين وزيرا فقال له عبد الناصر وفى حديثه شىء من المرارة الحكم اكثر صعوبة بمراحل من المحاماة انه عذاب عظيم .

ودعينا لنؤدى اليمين الدستورية فى اعقاب تعديل وزارى وكان جمال سالم قد خرج من الوزارة فى هذا التعديل فلاحظت ان عبد الناصر كان يستمع الى الوزراء وهم يحلفون اليمين الواحد فى اثر الثانى وعلى وجهه من آيات الضيق والتبرم ما لا تخطئه العين مهما كان صاحبها قليل الحظ من الفراسة وفى اليوم التالى كنت ازوره فى بيته فقلت له:لقد كان وجهك بالامس يقطر كآبة وهما فماذا كان هناك ؟

فأجاب على الفور : جمال سالم يا سيدى قرفنى وسود يومى فقد عرضت عليه الدخول فى الوزارة قبل التعديل وكان غاضبا قبله بمدة لأمور كثيرة أخذها على اسلوب الحكم فحاولت ان ازحزحه عن موقفه وان نقترب بعضنا من بعض ولكنه زاد بعدا وزاد هجومه على ونقده لى عنفا ولكنى صبرت فلما أوشك التعديل الوزارى على الاتمام وعاودت الاتصال به اذا هو يرفض مجرد الكلام فى الاشتراك فى الوزارة بعنف حاسم؛

فقررت الا اتجاوز هذه المحاولة على مضض وعرف بغدادى وحسن ابراهيم بأن الوزارة ستعدل وان جمال سالم لن يكون من بين اعضائها فكبر عليهما ذلك وراحا يلحان على جمال سالم ليعدل عن قراره وبعد أن فرغت تماما من اجراء التعديل وتحدد يوما لأداء اليمين جاءنى بغدادى وحسن وقالا لى جمال سالم قبل الدخول فى الوزارة..

فقلت لهما وانا ارفض ان يدخلها نحن لا نعبث لقد رجوته واطلت صبرى عليه وقد كان رفضه قائما على انه يختلف معى فى المبادىء لا فى التطبيق فما الذى حدث حتى يرضى عنى وعن اسلوبى انى ارجح انكما ورطتماه وان كان هو من الصراحة بحيث لا يتورط ولكنه حسب حساب مودتكما له ومشاعركما نحوه وانا اخشى ان يحدث لنا ازمة بعد دخوله الوزارة بيومين او ثلاثة فتكون العاقبة وخيمة .

وانصرف بغدادى وحسن ابراهيم آسفين واعلن التعديل وفى اليوم التالى المحدد لأداء اليمين جاءنى جمال سالم مكفهرا وغاضبا وقضى معى ساعتين كانت اطول ساعتين فى حياتى نقول الشىء ونعيده ويثور جمال وتصدر عنه الفاظ جارحة فأحتملها لأنى لا اريد ان يتسع الخرق وان يتجاوز حدوده .

وسرح عبد الناصر بيعينيه ناظرا الى الحديقة الصغيرة التى تقع امام داره ثم قال الواقع ان الذى جعلنى اصبر على عتاب جمال سالم المرير أنى احبه لأنه راجل .

واشهد اننى سمعت هذه الشهادة من عبد الناصر فى حق جمال سالم مرارا ولقد حاولت ان افهم ما المقصود بكلمة راجل وهل تعنى عند عبد الناصر شجاعة جمال سالم أم صراحته ام بعده عن التظاهر والنفاق ؟

وهذه كلها كانت من فضائل جمال سالم رحمه الله ولكن بعد التأمل فى المناسبات التى كان عبد الناصر يقول فيها هذه العبارة فى حق جمال سالم أدركت بالضبط ما كان يعنيه بلفظ راجل وهو انه لا يمكن أن يخشى تآمره عليه أو التفكير فى ايذائه فالرجولة هنا معناها الحرص على مقتضيات الوفاء .

ولكن راى عبد الناصر فى صلاح سالم شقيق جمال سالم لم يكن بنفس الجودة فقد سمعت منه فى مناسبات كثيرة تعليقات على تصرفات لصلاح لا تنطوى على الرضا فهو لم يكن بتاع شغل أى انه قادر على التنفيذ وتحمل مشقاته لأنه يحب الكلام ويحسنه ولا يقوى على العمل ولا يطيقه؛

قال لى عبد الناصر ذلك مرة فى مناسبة ظهور أو فرقة فنون شعبية فى مصر والبلاد العربية وهى الفرق التى ولدت فى سنة 1957 وعرفت باسم يا ليل يا عين والتى نجحت نجاحا مدويا بعد حملة ضارية بل ومسعورة ضدها وهى لا تزال فى دور التكوين والانشاء فقد قال لى عبد الناصر:لقد قلت لصلاح أن يتبنى فننا القومى وان ينشىء شيئا مثل هذه الفرقة وقد وعدنى صلاح بذلك ولم يفعل شيئا فهو مش بتاع شغل .

وذات يوم مر على يوسف السباعى وكنا وقتها نضع قانون المجلس الاعلى للفنون والآداب ولم يكن الرأى قد استقر بعد على الوزارة التى سوف يتبعها هذا المجلس وكان صلاح سالم وزيرا للارشاد القومى وكانت المسارح والفنون تتبعه فى حين كان كمال الدين حسين وزيرا للتربية والتعليم وكانت المدارس والمعاهد تتبعه ثم انتهى الرأى عند عبد الناصر اخيرا على الحاق المجلس بكمال الدين حسين بحجة كمال شغال وصلاح مش بتاع شغل .

ومضت سنوات اصبح بعدها كمال الدين حسين صاحب اكبر نصيب فى الحكم تتبعه المدارس بمستوياتها جميعا والجامعات والمعاهد كلها ومجالس عليا لا حصر لها ولا عد منه المجلس الاعلى للفنون والمجلس الاعلى للاثار والمجلس الاعلى لدار الكتب والمجلس الاعلى للجامعات وهكذا وهكذا؛

وبالتالى بدأت العلاقة تفتر بينه وبين عبد الناصر حتى انقطعت وفى هذه الفترة السابقة على القطيعة التى ادت الى الخصومة العنيفة جلس عبد الناصر مع الوزارء بعد تشكيل جديد لم يشترك فيه كمال الدين حسين بطبيعة الحال يذكر لهم رأى كمال فيهم ويقول كمال الدين حسين يقول أنكم وزراء غير ثوريين قلت لابد ان يكون الوزير الثورى هو من كان على شاكلته أحمد محرم .

وضحك عبد الناصر طويلا ثم قال والغريب أنى لم ار أحمد محرم الا حسبته حسن بغدادي مدير جامعة الإسكندرية ولكن هذا هو الوزير الثورى فى رأى كمال .

وقد لا يعرف بعض القراء ان الدكتور أحمد محرم كان احد الوزراء الذين أختارهم كمال الدين حسين لوزارة برئاسته وكان قبل الوزارة يعمل استاذا بكلية الهندسة وله مكتب خاص يعد من اكبر المكاتب الهندسية فى مصر نجاحا .

اما الدكتور حسن بغدادي فقد كان استاذا بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية ثم اختير وزيرا للزراعة لبضعة شهور ثم عين مدير لجامعة الإسكندرية لفترة طويلة ولم افهم ما الذى كان يضحك جمال عبد الناصر فى تشابه أحمد محرم وحسن بغدادي .

ولم تكن العلاقة بين عبد الناصر وبين زميله عبد اللطيف البغدادي حسنة معظم الوقت وقد اعددت يوما الخطاب السنوى الذى يلقى فى مساء يوم 22 يوليو من كل عام وقد جرت العادة فى اعداده ان يقوم على اساس من سرد الاحداث الكبرى التى وقعت فى العام المنصرم؛

ولما كان انشاء كورنيش النيل من اكبر الاحداث التى شهدها العام السابق الذى كنت أعد الخطاب فى ختامه لاستقبال العام الجديد فقد ذكرت كورنيش النيل ووصفته بأنه نافذة عريضة تطل منه القاهرة على النيل فأمسك عبد الناصر بالقلم وكان ان يشطب هذه الجملة فسألته لماذا تود ان تشطب هذا الكلام؟

فقال لقد سئم الناس الحديث عن الكورنيش بعد أن اسرفت الصحافة فى الكلام عنه وفى الحديث عن عصا البغدادى السحرية ومشروعاته فقلت هذا سبب ادعى للابقاء على هذة الجملة اذ ما دام الناس تكلمت عنه كثيرا فهى تنتظر ان تقرأ او تسمع عنه فى الخطاب السنوى ولو جملة فاذا خلا الخطاب من مثل هذه الجملة كان التفسير الوحيد لهذا هو انك غير راض عن هذا المشروع او عن القائم به .

ولم ارد ان اقول المعنى الذى عنيته بالضبط وهو ان الاضراب عن الاشارة الى هذا المشروع يمكن ان يفسر بأنه نوع من الغيرة منه ومن نجاحه ومن صاحبه ولكن عبد الناصر ادرك هذا المعنى دون أن اقوله فبقى ممسكا بالقلم فترة ثم قال وهو كذلك لندعها ولو انى غير مرتاح لها .

وبقيت علاقة عبد الناصر بحسين الشافعي خالية من الشد والجذب وقد كان يذكره دائما على وجه يدل على اعتقاده بطيبته وسلامة نيته فقد أوفده يوما الى اليمن ابان ثورة سيف الإسلام عبد الله على اخيه الامام احمد امام اليمن وكان سيف الإسلام عبد الله قد نجح فى تطويق قصر اخيه وكاذ يطبق عليه ويخلعه من عرشه الى أن تمكن الامام احمد من فك الحصار والقبض على اخيه عبد الله وقطع رقبته .

وانفرجت الازمة وعاد حسين الشافعي الى القاهرة واخذ عبد الناصر يروى لنا مجريات الامور فى اليمن وهو يضحك ثم ختم هذه الرواية بقوله وقد حصلت على كل حال بركة الامام الشافعى .

ولكن روى لى الاستاذ عصام الدين حسونة وزير العدل فى الفترة اللاحقة لهزيمة سنة 1967 عن موقف عاصف بين عبد الناصر وحسين الشافعي فقد فتح عبد الناصر الحديث فيما جرى فى اعقاب تلك الهزيمة ثم فى احداث يومى 9 و 10 من يونيو وطلب عبد الناصر من الوزارء ان يعلل كل منهم اسباب وقائع يومى الخامس والسادس من يونيه اللذين شهدا وقائع الكارثة..

ثم حوادث 9 و 10 اللذين شهدا مظاهر الالتفاف المفاجىء حول عبد الناصر وانفجار التأييد الجماعى له فى الوقت الذى كانت تدعو فيه كل الامور الى الانفضاض من حوله بل والى الانقضاض عليه باعتباره الزعيم والرئيس المطلق السلطة الذى تمت الهزيمة على يديه فقال حسين الشافعي ان نسبة كبيرة من دواعى الالتفاف حول عبد الناصر والتمسك به كانت وجدانية وعاطفية ومن وحى اللحظة .

فبدت على وجه عبد الناصر آيات غضب كاسح لأن التحليل جرحه فحاول حسين الشافعي ان يترضاه بأن وضع يده على كتفه فازداد انفعال عبد الناصر وازاح يد الشافعى من فوق كتفه واتجه اليه ليقول له بعنف انت تقول ان ما حدث كان بسبب انفعال وقتى لأنك جئت الى لأرفع الحراسة عن ابن خالتك فرفضت فبقيت هذه المسالة تحز فى نفسك الى الان .

ولقد كان السبب فى توتر العلاقة بين جمال سالم والرئيس عبد الناصر مخالفا للسبب الذى قام عليه توتر العلاقات بينه وبين البغدادى كانت انفجارات طبع جمال سالم هى التى تحرج عبد الناصر وتزعجه واذكر فى منطقة الشلوفة على قناة السويس انى رأيت عبد الناصر ووجهه مربد وكأنه يوشك على الموت فلما سألته عن السبب لم يجب وكانت الشلوفة معسكرا للانجليز وكانت هى اول منطقة يجلو عنها الاحتلال البريطانى تنفيذا لاتفاقية الجلاء ولذلك فقد احتفلت الحكومة المصرية بتسلمها .

ووقتها لم يكن عبد الناصر قد عرف بأنه قائد الثورة وزعيمها وان كانت بشائر هذه الحقيقة وطلائعها قد بدت فى الافق ومن هنا تجمع الصحفيين حوله وتهافت المصورين على تصويرعبد الناصر بجمال سالم فهاج هياجه وجرى وراء المصور وبيده عصاه واختفى هذا المسكين وراء مكتب ثم تحت اريكة وجمال سالم يأبى ان يعفيه من العقاب والاجانب من الضيوف يشهدون ذلك...

وعبد الناصر يكاد ينفجر وبقى على غضبه واكتئابه فترة طويلة وقد قام احد اصدقائى من هواة التصوير بالتقاط مشاهد ذلك اليوم على فيلم ملون اهديته الى عبد الناصر بعدها بأسابيع قليلة فلما مددت اليه يدى به سأل ما هذا ؟ فقلت فيلم الشلوفة فقبض يده قائلا لا لا اريد ان اذكر هذا اليوم فقد كدت ان اعود الى القاهرة تاركا الاحتفال ومن فيه وليحدث ما يحدث ؟ ولكننى ما زلت به حتى هدأت نفسه .

أما علاقة عبد الناصر ببغدادى فقد كان يشوبها ما عبر عنه عبد الناصر فى يوم كنا نراجع فيه خطبة من خطب مناسبة الاحتفال بذكرى ثورة 23 يوليو فقال هل تصدق ان بغدادى كان مقاطعا لى وبعيدا عن تنظيمنا الى ما قبل الثورة بستة اشهر فقط وانه كان يقول دائما انه اسبق فى الحركة لأنه اسس من قبل تنظيما سابقا على تنظيم الضباط الأحرار ؟ ويبدو ان هذه الحكاية بقيت لدى كليهما عقدة مستحكمة لا تسمح بتطور طبيعى للعلاقات بينهما .

ولست فى حاجة الى الحديث عن علاقة عبد الناصر بعبد الحكيم عامر فقد كانا اخوين متحابين ولكنى حريص على ان اورد شهادة ذات قيمة من عبد الناصر فى عامر فقد اخترت وزير للمواصلات بعد فترة طويلة كنت فيها وزيرا للدولة بلا اختصاصات محددة فقال لى عبد الناصر وهو يفضى الى بهذا التعديل لقد كنت اقول دائما أنه لابد ان يسند الى فتحي رضوان وزارة محددة ليظهر فيها نشاطه محددا كما يجب ان يدخل عبد الحكيم مجلس الوزراء ويشهده لأن عبد الحكيم "مخ " .