الفرق بين المراجعتين لصفحة: «هكذا علمتني دعوة الإخوان المسلمين»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ط (حمى "هكذا علمتني دعوة الإخوان المسلمين" ([edit=sysop] (غير محدد) [move=sysop] (غير محدد)))
 
(٢٢ مراجعة متوسطة بواسطة ٣ مستخدمين غير معروضة)
سطر ٨: سطر ٨:
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم


لمعالي الأستاذ الدكتور أسحق أحمد فرحان
لمعالي الأستاذ الدكتور [[أسحق أحمد فرحان]]


لقد أسعدني الأخ الشيخ حمزة منصور مرتين ، حين غرب إلي في تقديم هذا الكتاب المعنون « هكذا علمتني دعوة الإخوان المسلمين » :
لقد أسعدني الأخ الشيخ [[حمزة منصور]] مرتين ، حين غرب إلي في تقديم هذا الكتاب المعنون « هكذا علمتني دعوة [[الإخوان المسلمين]] » :


الأولى ، سعادتي بقراءة هذه الدروس المنتقاة التي تضمنها الكتاب وما تخللها في تجارب أخي حمزة وخبراته الغنية في العمل الإسلامي العام ، وبخاصة في مجالات الدعوة والتربية والسياسة. والثانية ، إتاحة الفرصة لي لأقول كلمة حق فيما تضمنه الكتاب من مضمون وأسلوب من جهة ، وكيفية استفادة أجيال الدعوة الإسلامية منه في مجالات عملهم المستقبلي ، من جهة أخرى
الأولى ، سعادتي بقراءة هذه الدروس المنتقاة التي تضمنها الكتاب وما تخللها في تجارب أخي حمزة وخبراته الغنية في العمل الإسلامي العام ، وبخاصة في مجالات [[الإخوان|الدعوة]] والتربية والسياسة. والثانية ، إتاحة الفرصة لي لأقول كلمة حق فيما تضمنه الكتاب من مضمون وأسلوب من جهة ، وكيفية استفادة أجيال [[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]
[[تصنيف:مكتبة الدعوة]] الإسلامية منه في مجالات عملهم المستقبلي ، من جهة أخرى


وما أحوج العاملين للإسلام في عصرنا الحاضر ، إلى أمثال هذه الرسائل الصادقة ، التي تتضمن التصور الفكري الواضح ، والخبرة الغنية ، والتحليل الواقعي للأحداث ، والسلوك الحضاري إزاءها ، والسير باتجاه تحقيق مقاصد الشريعة ، بالتدريج المطلوب في طريق الإصلاح المنشود. وصدق الله العظيم القائل : (أنا أريد إلا الإصلاح ما استطعت) والقائل : (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله ما أنا من المشركين).
وما أحوج العاملين [[الإسلام|للإسلام]] في عصرنا الحاضر ، إلى أمثال هذه الرسائل الصادقة ، التي تتضمن التصور الفكري الواضح ، والخبرة الغنية ، والتحليل الواقعي للأحداث ، والسلوك الحضاري إزاءها ، والسير باتجاه تحقيق مقاصد الشريعة ، بالتدريج المطلوب في طريق [[الإصلاح]] المنشود. وصدق الله العظيم القائل : ('''إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ [[الإصلاح]] مَا اسْتَطَعْتُ''') (هود: من الآية 88) والقائل : ('''قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ'''''''''نص عريض'''''')(يوسف: 108).
   
   
ومن فوائد هذه الرسالة وأمثالها ، أنها تستند إلى خبرة داعية مخلص واع عاش دعوته ، وخالط أخوانه ، وعانى من العمل الإسلامي العام والعمل السياسي ، آلام أمته ، فهي بذلك تعكس في مجملها ، بل وفي كل جملة مفيدة من عباراتها ، فائدة من الفوائد العملية ، التي لا يستغني عنها العاملون في الحقل الإسلامي. وهي كذلك ، إضافة نوعية إلى الرسائل الإسلامية في مجال العمل الإسلامي ، من حيث تراكم الخبرات ، والإسهام في جسر الفجوة بين الأجيال ، ليبدأ كل جيل من حيث انتهى الجيل السابق ، ليسهل تجنب تكرار الأخطاء ، وتعظيم الاستفادة من الخبرات الناجحة بمنهجية علمية ، توازن بين التأصيل الإسلامي من جهة والاستجابة لمتطلبات العصر ومستجداته من جهة أخرى.
ومن فوائد هذه الرسالة وأمثالها ، أنها تستند إلى خبرة داعية مخلص واع عاش [[الإخوان|دعوته]] ، وخالط [[الإخوان|أخوانه]] ، وعانى من [[العمل الإسلامي]] العام و[[العمل السياسي]] ، آلام أمته ، فهي بذلك تعكس في مجملها ، بل وفي كل جملة مفيدة من عباراتها ، فائدة من الفوائد العملية ، التي لا يستغني عنها العاملون في الحقل الإسلامي. وهي كذلك ، إضافة نوعية إلى الرسائل الإسلامية في مجال [[العمل الإسلامي]] ، من حيث تراكم الخبرات ، والإسهام في جسر الفجوة بين الأجيال ، ليبدأ كل جيل من حيث انتهى الجيل السابق ، ليسهل تجنب تكرار الأخطاء ، وتعظيم الاستفادة من الخبرات الناجحة بمنهجية علمية ، توازن بين التأصيل الإسلامي من جهة والاستجابة لمتطلبات العصر ومستجداته من جهة أخرى.


وقد استعرض أبو عاصم حفظه الله ، وجزاه عن دعوته وأمته خير الجزاء ، في هذا الكتاب ، ثمانية عشر درساً ، طالعتها بشغف شديد ، وشوق وتجدد ، ولما انتهيت من قراءتها قلت يا ليته زاد ، فما قدمه كان من خير الزاد ، وكلي أمل ، ودعاء إلى الله تعالى أن يمد في عمره ، وأن يمكنه من أن يكتب المزيد في المستقبل.
وقد استعرض أبو عاصم حفظه الله ، وجزاه عن [[الإخوان|دعوته]] وأمته خير الجزاء ، في هذا الكتاب ، ثمانية عشر درساً ، طالعتها بشغف شديد ، وشوق وتجدد ، ولما انتهيت من قراءتها قلت يا ليته زاد ، فما قدمه كان من خير الزاد ، وكلي أمل ، ودعاء إلى الله تعالى أن يمد في عمره ، وأن يمكنه من أن يكتب المزيد في المستقبل.


وقد تضمن كل درس من الدروس الثمانية عشر ، مبدأ إسلامياً أو قيمة عليا ، أو خلقاً اجتماعياً ، أو أسلوباً دعويا ، أو سلوكاً حضاريا ، مما يعكس التصور الإسلامي الصافي ، للعمل الإسلامي في مجالات الدعوة ، والتربية ، وعمل الخير ، والعمل السياسي. وقد حرص الكاتب على أن يستشهد في عملية التأصيل هذه ، بالآيات الكريمة ، والسنة المطهرة من حديث شريف ، وسيرة نبوية عطرة ، وأقوال الفقهاء والعلماء ، وما صلح من التراث الإسلامي عبر تاريخ الأمة الإسلامية الطويل. ثم اتبعه باستشهادات من أدبيات دعوة الإخوان المسلمين ، وبخاصة سيرة الأستاذ المرشد حسن البنا رحمه الله تعالى ، وجزاه عن هذه الأمة خير الجزاء ، وكيف أن دعوته امتداد للدعوة الإسلامية الأولى ، وصدى معبر عن شمول س لكل جوانب الحياة ، واتساع العمل الإسلامي ليتضمن جميع مجالات العمل الدعوي ، والتربوي ، والخيري ، والسياسي.
وقد تضمن كل درس من الدروس الثمانية عشر ، مبدأ إسلامياً أو قيمة عليا ، أو خلقاً اجتماعياً ، أو أسلوباً دعويا ، أو سلوكاً حضاريا ، مما يعكس التصور الإسلامي الصافي ، للعمل الإسلامي في مجالات ، والتربية ، وعمل الخير ، والعمل السياسي. وقد حرص الكاتب على أن يستشهد في عملية التأصيل هذه ، بالآيات الكريمة ، والسنة المطهرة من حديث شريف ، وسيرة نبوية عطرة ، وأقوال الفقهاء والعلماء ، وما صلح من التراث الإسلامي عبر تاريخ [[الأمة الإسلامية]] الطويل. ثم اتبعه باستشهادات من أدبيات دعوة [[الإخوان المسلمين]] ، وبخاصة سيرة الأستاذ [[البنا|المرشد]] [[حسن البنا]] رحمه الله تعالى ، وجزاه عن هذه الأمة خير الجزاء ، وكيف أن [[الإخوان|دعوته]] امتداد [[البنا|للدعوة]] الإسلامية الأولى ، وصدى معبر عن شمول س لكل جوانب الحياة ، واتساع العمل الإسلامي ليتضمن جميع مجالات العمل الدعوي ، والتربوي ، والخيري ، والسياسي.


وقد أحسن الأخ أبو عاصم صنعاً ، حين اتبع ذلك كله ، وفي كل درس من تلك الدروس ، بتوثيق لكثير من جوانب العمل الإسلامي العام والعمل السياسي بخاصة ، التي كان هو شخصياً احد أطرافها ، أو القائمين عليها ، أو شاهد عيان على مجرياتها.
وقد أحسن الأخ أبو عاصم صنعاً ، حين اتبع ذلك كله ، وفي كل درس من تلك الدروس ، بتوثيق لكثير من جوانب العمل الإسلامي العام و[[العمل السياسي]] بخاصة ، التي كان هو شخصياً احد أطرافها ، أو القائمين عليها ، أو شاهد عيان على مجرياتها.


فكانت هذه اللقطات بمثابة لمسات فنية وأدبية ، أعطت لهذه الدروس معناها الحياتي الواقعي ، في إطار متكامل مع التصور الفكري والنظري ، وكانت كذلك بمثابة تاريخ لمذكرات داعية مارس العمل السياسي في فترة حساسة من تاريخ بلده وأمته. وأدعو بهذه المناسبة زملاءه وإخوانه أن يحذر حذوه ، لتتكامل الصورة ، وتعم الفائدة ، ويعلو بنيان الفقه السياسي الإسلامي ، المستند إلى الأصالة ، والمنبثق من أرض الواقع.
فكانت هذه اللقطات بمثابة لمسات فنية وأدبية ، أعطت لهذه الدروس معناها الحياتي الواقعي ، في إطار متكامل مع التصور الفكري والنظري ، وكانت كذلك بمثابة تاريخ لمذكرات داعية مارس [[العمل السياسي]] في فترة حساسة من تاريخ بلده وأمته. وأدعو بهذه المناسبة زملاءه وإخوانه أن يحذر حذوه ، لتتكامل الصورة ، وتعم الفائدة ، ويعلو بنيان الفقه السياسي الإسلامي ، المستند إلى الأصالة ، والمنبثق من أرض الواقع.


ولا أريد في هذه التقديم الموجز ، أن استعرض تفاصيل ما كتب الشيخ المربي أبو عاصم من دروس ، واحداً بعد الآخر ، ولا أريد أن أنوب عن القارئ في تلخيص أهمية كل درس من هذه الدروس ، ولكن لا بد من التنويه إلى الأسلوب الأدبي الممتع الرفيع ، الذي اتسمت به هذه الدروس التي تجعل القارئ منشدا إليها ، ومتفاعلا معها ، ومتأثرا بها.
ولا أريد في هذه التقديم الموجز ، أن استعرض تفاصيل ما كتب الشيخ المربي أبو عاصم من دروس ، واحداً بعد الآخر ، ولا أريد أن أنوب عن القارئ في تلخيص أهمية كل درس من هذه الدروس ، ولكن لا بد من التنويه إلى الأسلوب الأدبي الممتع الرفيع ، الذي اتسمت به هذه الدروس التي تجعل القارئ منشدا إليها ، ومتفاعلا معها ، ومتأثرا بها.


وأخيراً ، فإنني أهنئ الأخ الحبيب ، والصديق العزيز ، الأستاذ حمزة منصور على ما وفقه الله تعالى إليه ، من كتابة هذه الدروس. الغنية بالخبرة والعبرة والفائدة للعاملين في الحقل الإسلامي العام ، والسياسي بخاصة ، ونتمنى عليه أن تكون هذه الرسالة حلقة من سلسلة قادمة في هذا المجال ، وأن يحذو حذوه بعض إخوانه الذين رافقوه في المسيرة ، لتتراكم الخبرات ويعلو البنيان ، ويتم وعد الله تعالى ، للمستضعفين في الأرض ، بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم ، ونصر المؤمنين العاملين ، فجزاك الله تعالى يا أخي أبا عاصم ، عن دعوتك ، وأمتك ، خير الجزاء.
وأخيراً ، فإنني أهنئ الأخ الحبيب ، والصديق العزيز ، الأستاذ [[حمزة منصور]] على ما وفقه الله تعالى إليه ، من كتابة هذه الدروس. الغنية بالخبرة والعبرة والفائدة للعاملين في الحقل الإسلامي العام ، والسياسي بخاصة ، ونتمنى عليه أن تكون هذه الرسالة حلقة من سلسلة قادمة في هذا المجال ، وأن يحذو حذوه بعض إخوانه الذين رافقوه في المسيرة ، لتتراكم الخبرات ويعلو البنيان ، ويتم وعد الله تعالى ، للمستضعفين في الأرض ، بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم ، ونصر المؤمنين العاملين ، فجزاك الله تعالى يا أخي أبا عاصم ، عن دعوتك ، وأمتك ، خير الجزاء.


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


<center>أخوكم / أسحق أحمد فرحان</center>
<center>أخوكم / [[أسحق أحمد فرحان]]</center>


<center> في 27 رجب 1419هـ</center>
<center> في 27 رجب [[1419هـ]]</center>


<center>الموافق 16 /11 /1998م</center>
<center>الموافق 16 /11 /[[1998م]]</center>


==المقدمة ==
==المقدمة ==


لم أكن لدعوة الإخوان المسلمين ، فترة طفولتي وصباي ، محباً ولا راغباً ، ولعل ذلك عائد ، إلى البيئة الاجتماعية والثقافية التي أحاطت بي. وإلى حملة الدعوة في تلك المرحلة على الأقل حيث كنت أقيم ، وإلى الضجيج الإعلامي الرسمي ، الذي سيطر على الأفهام والعواطف حينها. وقاد الناس إلى نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة.
لم أكن لدعوة [[الإخوان المسلمين]] ، فترة طفولتي وصباي ، محباً ولا راغباً ، ولعل ذلك عائد ، إلى البيئة الاجتماعية والثقافية التي أحاطت بي. وإلى حملة [[الإخوان|الدعوة]] في تلك المرحلة على الأقل حيث كنت أقيم ، وإلى الضجيج الإعلامي الرسمي ، الذي سيطر على الأفهام والعواطف حينها. وقاد الناس إلى نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة.


فلقد عشت فترة طفولتي وصباي بين مخيمي جنين والكرامة ، ما خلا سنوات قليلة عشتها في أربد والعروب. وأبناء المخيمات كانوا وما زالوا لا تتقدم لديهم قضية على قضية هجرتهم ولجوئهم. ولا ينظرون إلى الأشخاص والهيئات والحكومات إلا من خلال مواقفهم من هذه القضية. ولم يكن دور جماعة الإخوان المسلمين إزاء هذه القضية خلال تلك الفترة مفهوماً ولا واضحاً. فقليلون هم الذين اطلعوا على جهادهم في حرب فلسطين. ووعوا موقفهم من القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني.
فلقد عشت فترة طفولتي وصباي بين مخيمي [[جنين]] والكرامة ، ما خلا سنوات قليلة عشتها في أربد والعروب. وأبناء المخيمات كانوا وما زالوا لا تتقدم لديهم قضية على قضية هجرتهم ولجوئهم. ولا ينظرون إلى الأشخاص والهيئات والحكومات إلا من خلال مواقفهم من هذه القضية. ولم يكن دور [[جماعة الإخوان المسلمين]] إزاء هذه القضية خلال تلك الفترة مفهوماً ولا واضحاً. فقليلون هم الذين اطلعوا على جهادهم في حرب [[فلسطين]]. ووعوا موقفهم من [[جهود الإخوان تجاه القضية الفلسطينية|القضية الفلسطينية]] والصراع مع العدو الصهيوني.


فلقد ظلت بطولات الإخوان المسلمين المصريين والسوريين والأردنيين وغيرهم مجهولة ، لدى قطاعات عريضة من الشعب الفلسطيني ومن أبناء الأمة العربية والإسلامية. حتى جاءت هزيمة عام 67 التي هزت كثيراً من القناعات ، وبددت كثيراً من الأوهام ، وكشفت كثيراً من الحقائق ، التي حجبتها وسائل الإعلام وأساليب التضليل ، ولقد كانت الإذاعة يومها وإذاعة صوت العرب بشكل خاص ، أكثر وسائل التوجيه تأثيراً. فالجرائد قليلة ، وقراؤها نادرون ، وإذا ما قرأوها فلن تغير كثيراً من قناعات الناس ، بسبب الرقابة الصارمة. والتلفاز يومها لم يكن معروفاً ، ولا سيما في مثل البيئة التي احتضنتني خلال تلك الفترة. والمسجد الذي كانت علاقتي به حينذاك بين مد وجزر لم يكن مؤهلاً لإعطاء تصور سليم للعاملين للإسلام.  فالحديث منصب في الغالب حول العبادات. فتفردت إذاعة صوت العرب في تشكيل قناعات الناس. حتى في الفترات التي كان يعتبر الاستماع إلى إذاعة صوت العرب أمراً غير مرغوب فيه من قبل الحكومة الأردنية ، وربما تعرض فاعله لمسألة لها ما بعدها ، كان بعضنا يلجأ إلى استخدام سماعة تبلغه غايته ، وتحجب الصوت عن مسترقي السمع. ومن سوء حظ الإخوان المسلمين في تلك الفترة ، بل من سوء حظي وأمثالي ، أن الإخوان المسلمين كانوا قد تعرضوا لأبشع حملة من حملات الإرهاب الرسمي ، الذي مارسته الحكومة المصرية ، حيث زج بعشرات الألوف في السجون ، بدعوى الثورة المضادة والتآمر على الزعيم الأوحد ، والتعاون مع أعداء الأمة. وقد تم إعدام بعض الرموز ، من خلال محاكمة صورية ، أبسط ما يقال فيها أنها مهزلة. وفر كثيرون خارج البلاد ، وأصبح الانتماء للجماعة جريمة يعاقب عليها بالإعدام أو المؤبد ، وهو شر من الإعدام. فالمنتسبون للجماعة من وجهة نظر صوت العرب الإذاعة العربية الأولى في تلك المرحلة خارجون على القانون ، بل خارجون على الدين ، ومتآمرون على رمز عزة الأمة العربية ، وباعث نهضتها الرئيس جمال عبد الناصر ، وحلفاء للصهيونية والاستعمار ، فلا غرابة والحالة هذه ، أن تخفت أصوات الدعاة لصعوبة مواجهة التيار الطاغي يومها. بل إن أسم الإخوان المسلمين كان مرتبطاً بالحقد والتعصب والتخلف ، ولا أنسى يوم كنا في معسكرات الحسين للجندية والبناء ، التي أنشئت عام 62 ، وكان معسكرنا في بلدة أم قيس في موقع تكثر فيه الحيات والعقارب ، كيف كنا نقول ، أو نسمع من يقول ، أن رأينا أفعى أو عقربا : هذه « حية إخوان مسلمين »! أو « عقرب إخوان مسلمين »!
فلقد ظلت بطولات [[الإخوان المسلمين]] [[:تصنيف:الإخوان في مصر|المصريين]] و[[:تصنيف:الإخوان في سوريا|السوريين]] و[[:تصنيف:الإخوان في الأردن|الأردنيين]] وغيرهم مجهولة ، لدى قطاعات عريضة من [[فلسطين|الشعب الفلسطيني]] ومن أبناء الأمة العربية والإسلامية. حتى جاءت هزيمة عام 67 التي هزت كثيراً من القناعات ، وبددت كثيراً من الأوهام ، وكشفت كثيراً من الحقائق ، التي حجبتها وسائل الإعلام وأساليب التضليل ، ولقد كانت الإذاعة يومها وإذاعة [[ صوت العرب]] بشكل خاص ، أكثر وسائل التوجيه تأثيراً. فالجرائد قليلة ، وقراؤها نادرون ، وإذا ما قرأوها فلن تغير كثيراً من قناعات الناس ، بسبب الرقابة الصارمة. والتلفاز يومها لم يكن معروفاً ، ولا سيما في مثل البيئة التي احتضنتني خلال تلك الفترة. والمسجد الذي كانت علاقتي به حينذاك بين مد وجزر لم يكن مؤهلاً لإعطاء تصور سليم للعاملين للإسلام.  فالحديث منصب في الغالب حول العبادات. فتفردت إذاعة [[صوت العرب]] في تشكيل قناعات الناس. حتى في الفترات التي كان يعتبر الاستماع إلى إذاعة [[صوت العرب]] أمراً غير مرغوب فيه من قبل الحكومة الأردنية ، وربما تعرض فاعله لمسألة لها ما بعدها ، كان بعضنا يلجأ إلى استخدام سماعة تبلغه غايته ، وتحجب الصوت عن مسترقي السمع. ومن سوء حظ [[الإخوان المسلمين]] في تلك الفترة ، بل من سوء حظي وأمثالي ، أن [[الإخوان المسلمين]] كانوا قد تعرضوا لأبشع حملة من حملات الإرهاب الرسمي ، الذي مارسته [[الحكومة المصرية]] ، حيث زج بعشرات الألوف في السجون ، بدعوى [[الثورة]] المضادة والتآمر على الزعيم الأوحد ، والتعاون مع أعداء الأمة. وقد تم إعدام بعض الرموز ، من خلال محاكمة صورية ، أبسط ما يقال فيها أنها مهزلة. وفر كثيرون خارج البلاد ، وأصبح الانتماء للجماعة جريمة يعاقب عليها بالإعدام أو المؤبد ، وهو شر من الإعدام. فالمنتسبون [[الإخوان|للجماعة]] من وجهة نظر صوت العرب الإذاعة العربية الأولى في تلك المرحلة خارجون على القانون ، بل خارجون على [[الدين]] ، ومتآمرون على رمز عزة الأمة العربية ، وباعث نهضتها الرئيس [[جمال عبد الناصر]] ، وحلفاء للصهيونية والاستعمار ، فلا غرابة والحالة هذه ، أن تخفت أصوات [[الإخوان|الدعاة]] لصعوبة مواجهة التيار الطاغي يومها. بل إن أسم [[الإخوان المسلمين]] كان مرتبطاً بالحقد والتعصب والتخلف ، ولا أنسى يوم كنا في معسكرات الحسين للجندية والبناء ، التي أنشئت عام 62 ، وكان معسكرنا في بلدة أم قيس في موقع تكثر فيه الحيات والعقارب ، كيف كنا نقول ، أو نسمع من يقول ، أن رأينا أفعى أو عقربا : هذه « حية [[الإخوان|إخوان مسلمين]] »! أو « عقرب [[الإخوان|إخوان مسلمين]]  »!


ولم يكن الكتاب الذي يعرض لفكر الإخوان المسلمين يومها ميسورا أو متداولاً ، فقد كان التوجه في معظمه نحو الكتب الأدبية ، والروايات التي تروج لها وسائل الإعلام ، كالنظرات والعبرات. فتركت هذه الكتب والروايات ، وربما أضيف إليها الأفلام السينمائية ، طابعها الخاص فيما نكتب أو نتحدث فكانت محاولاتنا الأدبية لا تخرج عن هذا الجو ، وكان المثل الأعلى للكثيرين من الشباب المغنون والممثلون ، ونسيت الأمة رموزها وصانعي مجدها ، وتعلقت ببعض نكبتها والمتسببين في هوانها. ولكن حين يشاء الله تبارك وتعالى إنفاذ مشيئته يهيئ لها الأسباب. فقد كان انتقالي إلى معهد المعلمين في حواره عام 674 بداية تحول كبير في حياتي ، حيث تعرفت إلى أخ كريم ، وسرعان ما ربطت بيننا صداقة ، وكان مما يميز عن أقرانه أنه وثيق الصلة بالمسجد ، وأنه امتلك القدرة والجرأة على إلقاء خطبة الجمعة ، فبعث لدي الحنين إلى المسجد الذي ضعفت صلتي به مؤخراً لصالح اهتمامات أخرى يسمونها أدبية ، وحفزني هذا الحنين على إرتياد مسجد المدرسة الإسلامية في أريد أيام الجمعة ، حيث يتناوب على أداء الخطبة فيه نفر من الدعاة ، عرفت فيما بعد أنهم من الإخوان مسلمين. وكانت تعجبني فيهم جرأتهم في إنكار المنكر ، والبعد عن التزلف ، والشمولية في الطرح ، والاهتمام بقضايا الأمة. وبانتهاء العام الدراسي افترقنا شأن سائر الطلبة عند انتهاء المرحلة التعليمية ، فجاءت المحطة الثانية ، حين اقتربت أكثر من قريبي الشيخ مصطفى الجندي ، وكان رحمه الله كثير الحديث عن الإخوان المسلمين ، وعن الإمام حسن البنا ، وعن الستة الذين اعدموا عام 54 ، وعن بطولات الإخوان في فلسطين ، وعن المؤامرة العالمية التي تنفذها أطراف عربية ضد الإسلام والمسلمين ، من خلال تصديهم لحملة الدعوة الإسلامية. وكان يعرض كل ذلك بأسلوب جذاب ، يفوق أسلوب كتاب الروايات ، ساعده في ذلك ، عمق انتمائه لدعوته ، وذاكرة واعية ، وأسلوب آسر يجمع بين الفضيحة والعامية ، وبين المزاح والجد ، وبين الماضي والحاضر. فأحسست أن خيطاً ما ، بدأ يربطني بهذه الجماعة ، وقلت في نفسي : « لم لم أطلع على هذه المعلومات من قبل في دراستي أو مطالعاتي ، أو من الأساتذة الذين درسوني ، أو من حملة الدعوة الإسلامية؟ وجاءت المحطة الثالثة ، حين عينت معلماً في معان ، على غير رغبة مني ، فقد اشعرني الكثيرون ممن علموا أنني سأعمل في معان ، أنتي ذاهب إلى منفى. وهذه صورة من صور الظلم ، الذي يصيب المدن والمحافظات والأقطار ، كما يصيب الأشخاص والجماعات.
ولم يكن الكتاب الذي يعرض لفكر [[الإخوان المسلمين]] يومها ميسورا أو متداولاً ، فقد كان التوجه في معظمه نحو الكتب الأدبية ، والروايات التي تروج لها وسائل [[الإعلام]] ، كالنظرات والعبرات. فتركت هذه الكتب والروايات ، وربما أضيف إليها الأفلام السينمائية ، طابعها الخاص فيما نكتب أو نتحدث فكانت محاولاتنا الأدبية لا تخرج عن هذا الجو ، وكان المثل الأعلى للكثيرين من الشباب المغنون والممثلون ، ونسيت الأمة رموزها وصانعي مجدها ، وتعلقت ببعض نكبتها والمتسببين في هوانها. ولكن حين يشاء الله تبارك وتعالى إنفاذ مشيئته يهيئ لها الأسباب. فقد كان انتقالي إلى معهد المعلمين في حواره عام 674 بداية تحول كبير في حياتي ، حيث تعرفت إلى أخ كريم ، وسرعان ما ربطت بيننا صداقة ، وكان مما يميز عن أقرانه أنه وثيق الصلة بالمسجد ، وأنه امتلك القدرة والجرأة على إلقاء خطبة الجمعة ، فبعث لدي الحنين إلى المسجد الذي ضعفت صلتي به مؤخراً لصالح اهتمامات أخرى يسمونها أدبية ، وحفزني هذا الحنين على إرتياد مسجد المدرسة الإسلامية في أريد أيام الجمعة ، حيث يتناوب على أداء الخطبة فيه نفر من [[الإخوان|الدعاة]] ، عرفت فيما بعد أنهم من [[الإخوان مسلمين]]. وكانت تعجبني فيهم جرأتهم في إنكار المنكر ، والبعد عن التزلف ، والشمولية في الطرح ، والاهتمام بقضايا الأمة. وبانتهاء العام الدراسي افترقنا شأن سائر الطلبة عند انتهاء المرحلة التعليمية ، فجاءت المحطة الثانية ، حين اقتربت أكثر من قريبي الشيخ [[مصطفى الجندي]] ، وكان رحمه الله كثير الحديث عن [[الإخوان المسلمين]] ، وعن الإمام [[حسن البنا]] ، وعن الستة الذين اعدموا عام 54 ، وعن بطولات [[الإخوان]] في [[فلسطين]] ، وعن المؤامرة العالمية التي تنفذها أطراف عربية ضد [[الإسلام]] و[[المسلمين]] ، من خلال تصديهم لحملة [[الإخوان|الدعوة]] الإسلامية. وكان يعرض كل ذلك بأسلوب جذاب ، يفوق أسلوب كتاب الروايات ، ساعده في ذلك ، عمق انتمائه [[الإخوان|لدعوته]] ، وذاكرة واعية ، وأسلوب آسر يجمع بين الفضيحة والعامية ، وبين المزاح والجد ، وبين الماضي والحاضر. فأحسست أن خيطاً ما ، بدأ يربطني بهذه [[الإخوان|الجماعة]] ، وقلت في نفسي : « لم لم أطلع على هذه المعلومات من قبل في دراستي أو مطالعاتي ، أو من الأساتذة الذين درسوني ، أو من حملة [[الإخوان|الدعوة]] الإسلامية؟ وجاءت المحطة الثالثة ، حين عينت معلماً في معان ، على غير رغبة مني ، فقد اشعرني الكثيرون ممن علموا أنني سأعمل في معان ، أنتي ذاهب إلى منفى. وهذه صورة من صور الظلم ، الذي يصيب المدن والمحافظات والأقطار ، كما يصيب الأشخاص والجماعات.


وصلت معان ، وعينت في مدرسة فلسطين الابتدائية ، وسكنت على مقربة من المسجد الكبير ، وتعرفت إلى نفر كريم من أبناء المدينة ووجهائها. وكان في مقدمتهم الحاج عبد الله عبد الدايم ، المعروف بعبد الله « شل » ، حيث كانت له محطة للوقود ، وقد رأيت فيه سماحة عجيبة ، ورقة متناهية ، وأدباً جما ، كان يدخل إلى القلب بدون استئذان ، وكلما نظرت في وجهة تذكرت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، وبدأت أنس ببعض من عرفت ، وأخذت العلاقة تتوثق بيننا ، ولم أكن راغباً في إقامة مثل هذه العلاقة ، بسبب الصورة الظالمة التي رسخها في ذهني بعض من ظلموا هذه المدينة الحبيبة ، وقديماً قيل : « الذي لا يعرف الصقر يشويه » وبدأت استمع إلى خطب الجمعة ، التي يلقيها في الغالب الشيخ فهمي كريشان ، والتي ذكرتني بخطب المدرسة الإسلامية في أريد ، وإلى بعض الدروس التي كان يسهم فيها وبحماسية بالغة ، وأسلوب رصين المرحوم علي أبو هلالة ، وقد انعقدت بيني وبين مكتبة البلدية صداقة حميمة ، فقد كنت أقبل على الكتاب بنهم ، وكأنني أريد أن أعوض ما فاتني من قبل ، وكان الكتاب الإسلامي بغيتي ، وذات يوم أهداني مدير المدرسة جريدة الشهاب البيروتية ، التي كانت تصدرها الجماعة الإسلامية في لبنان ، وكان من أبرز كتابها فتحي يكن ، وإبراهيم المصري ، والشيخ فيصل مولوي ، ولقد شدتني إليها منذ اللحظة الأولى ، فأقبلت عليها بشغف ، أقرأها من ألفها إلى يائها. أحببت معان ، أحببت ناسها ومسجدها ومكتبتها وجريدة الشهاب ، وربطت كل ذلك بأحاديث العم أبي إبراهيم ، ويخطب حوارة ومسجد المدرسة الإسلامية.
وصلت معان ، وعينت في مدرسة [[فلسطين]] الابتدائية ، وسكنت على مقربة من المسجد الكبير ، وتعرفت إلى نفر كريم من أبناء المدينة ووجهائها. وكان في مقدمتهم الحاج [[عبد الله عبد الدايم]] ، المعروف بعبد الله « شل » ، حيث كانت له محطة للوقود ، وقد رأيت فيه سماحة عجيبة ، ورقة متناهية ، وأدباً جما ، كان يدخل إلى القلب بدون استئذان ، وكلما نظرت في وجهة تذكرت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، وبدأت أنس ببعض من عرفت ، وأخذت العلاقة تتوثق بيننا ، ولم أكن راغباً في إقامة مثل هذه العلاقة ، بسبب الصورة الظالمة التي رسخها في ذهني بعض من ظلموا هذه المدينة الحبيبة ، وقديماً قيل : « الذي لا يعرف الصقر يشويه » وبدأت استمع إلى خطب الجمعة ، التي يلقيها في الغالب الشيخ [[فهمي كريشان]] ، والتي ذكرتني بخطب المدرسة الإسلامية في أريد ، وإلى بعض الدروس التي كان يسهم فيها وبحماسية بالغة ، وأسلوب رصين المرحوم [[علي أبو هلالة]] ، وقد انعقدت بيني وبين مكتبة البلدية صداقة حميمة ، فقد كنت أقبل على الكتاب بنهم ، وكأنني أريد أن أعوض ما فاتني من قبل ، وكان الكتاب الإسلامي بغيتي ، وذات يوم أهداني مدير المدرسة جريدة الشهاب البيروتية ، التي كانت تصدرها [[الجماعة الإسلامية]] في [[:الإخوان في لبنان|لبنان]] ، وكان من أبرز كتابها [[فتحي يكن]] ، و[[إبراهيم المصري]] ، والشيخ [[فيصل مولوي]] ، ولقد شدتني إليها منذ اللحظة الأولى ، فأقبلت عليها بشغف ، أقرأها من ألفها إلى يائها. أحببت معان ، أحببت ناسها ومسجدها ومكتبتها وجريدة الشهاب ، وربطت كل ذلك بأحاديث العم أبي إبراهيم ، ويخطب حوارة ومسجد المدرسة الإسلامية.


وجاءت المحطة الرابعة ، حيث بدأت جريدة الشهاب تتابع محاكمة الأستاذ سيد قطب. ورحت أتابع أخبار المحاكمة ، وبدأت أتعرف إلى أسباب المحاكمة. لقد أدركت أن الرجل يحاكم بسبب فكره وقلمه ومؤلفاته ، وفي مقدمتها المعالم والظلال حصلت على نسخة من المعالم ، وسارعت إلى قراءة الكتاب ، وجدت الرجل عظيماً ، ورأيت الطرح كبيراً ، ورأيت المستقبل وأعدا ، ورأيت الفجر قادماً. ثم أقبلت على قراءة التفسير العظيم « في ظلال القرآن » وجدته ينفذ إلى القلب ، ويغني عن كثير من القراءات ، قلت في نفسي : « مجرم من يحاكم سيد قطب » وشعرت أن س هو الذي يحاكم ، وأن الأمة الإسلامية المستهدفة. وأن أعداء الأمة هم الرابحون بإعدامه ، وقررت يومها أن أكون مع صاحب المعالم والظلال ، أعني مع الجماعة التي ينتمي إليها صاحب المعالم والظلال. ورحت أعيد وأكرر قراءة كتاب « معالم في الطريق » حتى حفظت كثيراً من فقراته ، فالكلمة التي يخطها الإنسان بدمه كلمة آسرة ، تمتلك القلوب والعقول. والكلمة التي لا يدفع صاحبها ثمنها تولد ميته ، وأن أسبغ عليها أجمل الحلل اللفظية.
وجاءت المحطة الرابعة ، حيث بدأت جريدة الشهاب تتابع محاكمة الأستاذ [[سيد قطب]]. ورحت أتابع أخبار المحاكمة ، وبدأت أتعرف إلى أسباب المحاكمة. لقد أدركت أن الرجل يحاكم بسبب فكره وقلمه ومؤلفاته ، وفي مقدمتها [[معالم في الطريق|المعالم]] و[[في ظلال القرآن|الظلال]] حصلت على نسخة من [[المعالم]] ، وسارعت إلى قراءة الكتاب ، وجدت الرجل عظيماً ، ورأيت الطرح كبيراً ، ورأيت المستقبل وأعدا ، ورأيت الفجر قادماً. ثم أقبلت على قراءة التفسير العظيم « [[في ظلال القرآن]] » وجدته ينفذ إلى القلب ، ويغني عن كثير من القراءات ، قلت في نفسي : « مجرم من يحاكم [[سيد قطب]] » وشعرت أن س هو الذي يحاكم ، وأن الأمة الإسلامية المستهدفة. وأن أعداء الأمة هم الرابحون بإعدامه ، وقررت يومها أن أكون مع صاحب [[معالم في الطريق|المعالم]] و[[في ظلال القرآن|الظلال]] ، أعني مع [[الإخوان|الجماعة]] التي ينتمي إليها صاحب المعالم والظلال. ورحت أعيد وأكرر قراءة كتاب «[[معالم في الطريق]] » حتى حفظت كثيراً من فقراته ، فالكلمة التي يخطها الإنسان بدمه كلمة آسرة ، تمتلك القلوب والعقول. والكلمة التي لا يدفع صاحبها ثمنها تولد ميته ، وأن أسبغ عليها أجمل الحلل اللفظية.


لقد أصبحت قريباً جداً من هذه الدعوة ، ومن مؤسسها ، ورموزها ، ومؤلفاتها ، وانتظرت أن يبادرني أحدهم بالدعوة للانضمام إليها. وحين طال انتظاري ، وعيل صبري ، بادرت بعضهم ذات ليلة بالقول : هل جماعة الإخوان المسلمين حكر على فريق معين؟ أم أنها أطار للراغبين في العمل الإسلامي وخدمة دين الله؟ ودون أن أدع لهم فرصة للإجابة ، وأصلت تساؤلاتي ، ألست جديرا بالانضمام لهذه الجماعة؟ أم أن هنالك أسباباً وعوائق تحول دون تحقيق هذا الشرف؟ فتهلك وجوههم بشراً لدى سماعهم هذا الكلام. وعلق أحدهم بأنك من الإخوان المسلمين ، وإن كنت لم تنضم إليهم بعد ، وكانت البداية ، بداية العمل الإسلامي المنظم من خلال جماعة الإخوان المسلمين.
لقد أصبحت قريباً جداً من هذه [[الإخوان|الدعوة]] ، ومن مؤسسها ، ورموزها ، ومؤلفاتها ، وانتظرت أن يبادرني أحدهم بالدعوة للانضمام إليها. وحين طال انتظاري ، وعيل صبري ، بادرت بعضهم ذات ليلة بالقول : هل [[جماعة الإخوان المسلمين]] حكر على فريق معين؟ أم أنها أطار للراغبين في [[العمل الإسلامي]] وخدمة دين الله؟ ودون أن أدع لهم فرصة للإجابة ، وأصلت تساؤلاتي ، ألست جديرا بالانضمام لهذه [[الإخوان|الجماعة]]؟ أم أن هنالك أسباباً وعوائق تحول دون تحقيق هذا الشرف؟ فتهلك وجوههم بشراً لدى سماعهم هذا الكلام. وعلق أحدهم بأنك من [[الإخوان المسلمين]] ، وإن كنت لم تنضم إليهم بعد ، وكانت البداية ، بداية [العمل الإسلامي] المنظم من خلال [[جماعة الإخوان المسلمين]].


أنني لست بصدد سرد قصتي مع جماعة الإخوان المسلمين ، ولكنها مقدمة ، وجدتها ضرورية ، بين يدي حديث رغب إلى إخواني في أربد الحبيبة ، التي أحببتها حباً جما ، أن أحدثهم إياه ، تحت عنوان « علمتني دعوة الإخوان المسلمين » وقد خصصت بهذا ث ثلة من شباب الإخوان المسلمين ، الذين أملوا أن يجدوا بعض الدروس ، لعلها تسهم في تقديم بعض الزاد المعين لهم في طريق الدعوة إلى الله عز وجل.
أنني لست بصدد سرد قصتي مع[[ جماعة الإخوان المسلمين]] ، ولكنها مقدمة ، وجدتها ضرورية ، بين يدي حديث رغب إلى [[الإخوان|إخواني]] في أربد الحبيبة ، التي أحببتها حباً جما ، أن أحدثهم إياه ، تحت عنوان « علمتني دعوة [[الإخوان المسلمين]] » وقد خصصت بهذا ثلة من شباب [[الإخوان المسلمين]] ، الذين أملوا أن يجدوا بعض الدروس ، لعلها تسهم في تقديم بعض الزاد المعين لهم في طريق [[الإخوان|الدعوة]] إلى الله عز وجل.


والحديث عن الدروس التي تعلمتها من جماعة الإخوان المسلمين يستدعي الإشارة ، ولو على عجل ودون إطالة ، إلى هذه الجماعة ، وإلى طبيعة المرحلة التي وجدت فيها هذه الدعوة المباركة ، وإلى بعض التجارب ، سائلاً المولى عز وجل أن يجزي خير الجزاء كل من أسدى إلي معروفاً ، أو قدم إلى مساعدة ، أو أسهم في تعريفي بهذه الدعوة ، أو أسهم في تكويني ، أو قدم إلي نصيحة ، أو شكل في عيني نموذجاً لهذا الدين العظيم.
والحديث عن الدروس التي تعلمتها من [[جماعة الإخوان المسلمين]] يستدعي الإشارة ، ولو على عجل ودون إطالة ، إلى هذه [[الإخوان|الجماعة]] ، وإلى طبيعة المرحلة التي وجدت فيها هذه [[الإخوان|الدعوة]] المباركة ، وإلى بعض التجارب ، سائلاً المولى عز وجل أن يجزي خير الجزاء كل من أسدى إلي معروفاً ، أو قدم إلى مساعدة ، أو أسهم في تعريفي بهذه [[الإخوان|الدعوة]]، أو أسهم في تكويني ، أو قدم إلي نصيحة ، أو شكل في عيني نموذجاً لهذا الدين العظيم.


في فترة من أصعب الفترات في تاريخ الأمة قامت دعوة الإخوان المسلمين ، لتواجه واقعاً ثقيلاً في النفس والمجتمع ، فهناك الجهل في الاعتقاد والتصور والسلوك ، وهناك أمة مزقت شر ممزق ، وقد أرادها الله أمة واحدة ، وهنالك قوى أجنبية تسلطت عليها وسامتها الخسف ، وهناك اغتراب في الفكر والسلوك ، وإعجاب بالأجنبي المنتصر ، واستخفاف بكل ما يمت للأمة بصلة. في هذه الأجواء وضع الإمام حسن البنا بذرة هذه الدعوة. وما كان لأحد أن يتصور أن هذه البذرة ستنبت في ظل هذه الظروف وتستوي على ساقها ، وتنتقل فسائلها إلى أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي ، بل إلى الكرة الأرضية جميعها ، لتصبح أمل الأمة ورجاء المعذبين في الأرض ، والباحثين عن النجاة من الخطر الذي يحمله المستكبرون والمتجبرون ، إلا أنها إرادة الله العليم الحكيم ، ورحمته بالعالمين ، ووعده الذي لا يتخلف ، فحاشا لله أن يذر الشر يعربد في الأرض ويفسد الأحياء والحياة : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وتجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين...).
في فترة من أصعب الفترات في تاريخ الأمة قامت دعوة [[الإخوان المسلمين]] ، لتواجه واقعاً ثقيلاً في النفس والمجتمع ، فهناك الجهل في الاعتقاد والتصور والسلوك ، وهناك أمة مزقت شر ممزق ، وقد أرادها الله أمة واحدة ، وهنالك قوى أجنبية تسلطت عليها وسامتها الخسف ، وهناك اغتراب في الفكر والسلوك ، وإعجاب بالأجنبي المنتصر ، واستخفاف بكل ما يمت للأمة بصلة. في هذه الأجواء وضع [[البنا|الإمام]] [[حسن البنا]] بذرة هذه [[الإخوان|الدعوة]]. وما كان لأحد أن يتصور أن هذه البذرة ستنبت في ظل هذه الظروف وتستوي على ساقها ، وتنتقل فسائلها إلى أرجاء [[الوطن العربي]] والعالم الإسلامي ، بل إلى الكرة الأرضية جميعها ، لتصبح أمل الأمة ورجاء المعذبين في الأرض ، والباحثين عن النجاة من الخطر الذي يحمله المستكبرون والمتجبرون ، إلا أنها إرادة الله العليم الحكيم ، ورحمته بالعالمين ، ووعده الذي لا يتخلف ، فحاشا لله أن يذر الشر يعربد في الأرض ويفسد الأحياء والحياة : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وتجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين...).


ولست هنا بصدد التأريخ لهذه الدعوة ، والتفصيل في خصائصها ، وآثارها في النفس والمجتمع : فذاك أمر يحتاج إلى جهود الباحثين والدارسين ، وهو واجب القائمين على أمر الدعوة والمهتمين بها ، وأرجو أن يوفق الله تعالى من يضطلع بهذه المهمة الجليلة فالدعوة ليست ملك مؤسسها -رحمه الله- ، ولا ملك الرعيل الأول من حملتها ، بل ليست ملك أبنائها وحملتها فحسب ، ولكنها ملك الأمة جميعاً ، بل ملك البشرية كلها ، ومن حق الجميع أن يطلعوا على هذه المسيرة الإسلامية ، بإيجابياتها وسلبياتها ، وأن يخضعوها للبحث والتقويم ، لصالح العمل الإسلامي والبشرية جمعاء. ولكنني هنا أعرض لخواطر شخصية ، بناء على رغبة بعض الأخوة ، أعبر من خلالها عن بعض ما تعلمت من هذه الدعوة المباركة على مدى ثلاثة عقود.
ولست هنا بصدد التأريخ لهذه [[الإخوان|الدعوة]] ، والتفصيل في خصائصها ، وآثارها في النفس والمجتمع : فذاك أمر يحتاج إلى جهود الباحثين والدارسين ، وهو واجب القائمين على أمر الدعوة والمهتمين بها ، وأرجو أن يوفق الله تعالى من يضطلع بهذه المهمة الجليلة ف[[الإخوان|الدعوة]] ليست ملك مؤسسها -رحمه الله- ، ولا ملك الرعيل الأول من حملتها ، بل ليست ملك أبنائها وحملتها فحسب ، ولكنها ملك الأمة جميعاً ، بل ملك البشرية كلها ، ومن حق الجميع أن يطلعوا على هذه [[الإخوان المسلمين|المسيرة الإسلامية]] ، بإيجابياتها وسلبياتها ، وأن يخضعوها للبحث والتقويم ، لصالح العمل الإسلامي والبشرية جمعاء. ولكنني هنا أعرض لخواطر شخصية ، بناء على رغبة بعض [[الإخوان|الأخوة]] ، أعبر من خلالها عن بعض ما تعلمت من هذه الدعوة المباركة على مدى ثلاثة عقود.


<center>حمزة منصور</center>
<center>[[حمزة منصور]]</center>


<center>عمان / الأردن</center>
<center>عمان / [[:تصنيف:الإخوان في الأردن|الأردن]]</center>


==الدرس الأول : تصور إسلامي سليم==
==الدرس الأول : تصور إسلامي سليم==
   
   
إن طول الفترة بين واقع المسلمين اليوم والعهود الإسلامية الزاهرة ، حيث عاش الناس الإسلام الشامل الكامل ، أوجد خللاً » كبيراً وخطيراً في التصورات والأفهام لدى المسلمين. حتى قنع بعض المسلمين بالعواطف الطيبة ، ظانين أنها س ، واكتفى بعضهم ببعض العبادات ، ظانين أنها غاية المنى. ولا أتحدث هنا عن الذين ضاقوا ذرعاً بالإسلام ، وحملوه مسئولية ما هم فيه من تخلف وهوان. وإنما أتحدث عن السواد الأعظم من المسلمين ، الذين مازالوا على الفطرة ، وهم يتطلعون إلى مرضاة الله تعالى ونيل جنته ، وصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وظنوا كل ذلك يتحقق بالعواطف الطيبة وأداء العبادات ، فجاءت هذه الدعوة لتقول لنا : أن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة سليمة ، تعرفنا بالله وتحدد علاقتنا به ، وتبين لنا الغاية التي خلقنا من أجلها ، والمصير الذي نحن إليه صائرون ، كما تبين علاقتنا بمن حولنا ، وما حولنا ، وإلى جانب هذه العقيدة التي تشكل الإطار النظري ، فهو عبادة تترجم هذا التصور النظري إلى سلوك وانسجام ، ويضبط هذه العلاقة وفق أحكام الكتاب والسنة ، فلا يطغي طرف على طرف ، ولا يجوز فريق على فريق. وقد اعتبر الإمام المؤسس هذا التصور الأصل الأول من الأصول العشرين ، التي تشكل المدخل لفهم الإسلام العظيم ، كما اعتبر الفهم الركن الأول من أركان البيعة. ويقول الإمام حسن البنا -رحمه الله- في رسالة التعاليم ، بعد تحديد أركان البيعة والمطالبة بحفظها والشروع في توضيح أبعادها :  الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً ، فهو دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة ، أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة ، أو جيش أو فكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة ، سواء بسواء. ويؤكد شهيد القرآن ، الأستاذ سيد قطب ، في مواقع عدة من المعالم والظلال هذا المعنى بقوله : أن هذا الدين شريعته كعقيدته ، بل شريعته من عقيدته ، بل شريعته هي عقيدته.
إن طول الفترة بين واقع [[المسلمين]] اليوم والعهود الإسلامية الزاهرة ، حيث عاش الناس [[الإسلام]] الشامل الكامل ، أوجد خللاً » كبيراً وخطيراً في التصورات والأفهام لدى [[المسلمين]]. حتى قنع بعض [[المسلمين]] بالعواطف الطيبة ، ظانين أنها س ، واكتفى بعضهم ببعض العبادات ، ظانين أنها غاية المنى. ولا أتحدث هنا عن الذين ضاقوا ذرعاً ب[[الإسلام]] ، وحملوه مسئولية ما هم فيه من تخلف وهوان. وإنما أتحدث عن السواد الأعظم من [[المسلمين]] ، الذين مازالوا على الفطرة ، وهم يتطلعون إلى مرضاة الله تعالى ونيل جنته ، وصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وظنوا كل ذلك يتحقق بالعواطف الطيبة وأداء العبادات ، فجاءت هذه الدعوة لتقول لنا : أن [[الإسلام]] الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة سليمة ، تعرفنا بالله وتحدد علاقتنا به ، وتبين لنا الغاية التي خلقنا من أجلها ، والمصير الذي نحن إليه صائرون ، كما تبين علاقتنا بمن حولنا ، وما حولنا ، وإلى جانب هذه العقيدة التي تشكل الإطار النظري ، فهو عبادة تترجم هذا التصور النظري إلى سلوك وانسجام ، ويضبط هذه العلاقة وفق أحكام الكتاب والسنة ، فلا يطغي طرف على طرف ، ولا يجوز فريق على فريق. وقد اعتبر [[البنا|الإمام]] المؤسس هذا التصور الأصل الأول من [[الأصول العشرين]] ، التي تشكل المدخل لفهم [[الإسلام]] العظيم ، كما اعتبر الفهم الركن الأول من أركان البيعة. ويقول [[البنا|الإمام]] [[حسن البنا]] -رحمه الله- في رسالة التعاليم ، بعد تحديد أركان البيعة والمطالبة بحفظها والشروع في توضيح أبعادها :  [[الإسلام]] نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً ، فهو دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة ، أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة ، أو جيش أو فكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة ، سواء بسواء. ويؤكد شهيد [[القرآن]] ، الأستاذ [[سيد قطب]] ، في مواقع عدة من [[معالم في الطريق|المعالم]] و[[في ظلال القرأن|الظلال]] هذا المعنى بقوله : أن هذا الدين شريعته كعقيدته ، بل شريعته من عقيدته ، بل شريعته هي عقيدته.


أن هذا التصور الشامل طبع حياة الإخوان المسلمين بطابع خاص ، فما تكاد تستمع إلى أحدهم ، بغض النظر عن تحصيله العلمي ، ومستواه الثقافي ، والمرحلة العمرية التي يعيشها ، حتى تدرك أن المتحدث من الإخوان المسلمين. هذه الرؤية الشاملة حمت الإخوان المسلمين من التطرف والشطط والنمو غير السويس ، فهم يوازنون بين الماديات والمعنويات ، وبين الفرد والمجتمع ، وبين الدنيا والآخرة. فابتعدوا بذلك عن انعزالية الفلاسفة ، وبعض المتصوفة ، وعن مماحكات المماحكين في قضايا فقهية جزئية خلافية ، وعن مادية الماديين ، فهم ذاكرون لله تعالى بأذكار مخصوصة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ساعون لأداء العبادات وفقاً للدليل ، أو اقتداء بفقيه ، بعيداً عن التعصب لمذهب ، أو التطاول على فقهاء المذاهب ، وهم دعاة إلى الله عز وجل وفق قواعد مرعبة ، في الدعوة إلى الله ، مشاركون في أنشطة الحياة ، ما دامت تحقق مصلحة شرعية ، ومبادرون إلى التصدي لأشكال الانحراف ، عبر وسائل مدروسة ومقرة ، وبما لا يؤدي إلى ما هو شر من هذه الانحرافات ، ومسارعون إلى الجهاد في سبيل الله ، حين يدعو داعية وتتوافر ظروفه ، فكانوا طليعة المقاومة للمستعمرين والمحتلين ، ولعل هذا الفهم هو الذي عرضهم لسهام أعداء الدين ، وأصحاب المصالح الضيقة.
أن هذا التصور الشامل طبع حياة [[الإخوان المسلمين]] بطابع خاص ، فما تكاد تستمع إلى أحدهم ، بغض النظر عن تحصيله العلمي ، ومستواه الثقافي ، والمرحلة العمرية التي يعيشها ، حتى تدرك أن المتحدث من الإخوان المسلمين. هذه الرؤية الشاملة حمت [[الإخوان لمسلمين]] من التطرف والشطط والنمو غير السويس ، فهم يوازنون بين الماديات والمعنويات ، وبين الفرد والمجتمع ، وبين الدنيا والآخرة. فابتعدوا بذلك عن انعزالية الفلاسفة ، وبعض المتصوفة ، وعن مماحكات المماحكين في قضايا فقهية جزئية خلافية ، وعن مادية الماديين ، فهم ذاكرون لله تعالى بأذكار مخصوصة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ساعون لأداء العبادات وفقاً للدليل ، أو اقتداء بفقيه ، بعيداً عن التعصب لمذهب ، أو التطاول على فقهاء المذاهب ، وهم دعاة إلى الله عز وجل وفق قواعد مرعبة ، في [[الإخوان|الدعوة]] إلى الله ، مشاركون في أنشطة الحياة ، ما دامت تحقق مصلحة شرعية ، ومبادرون إلى التصدي لأشكال الانحراف ، عبر وسائل مدروسة ومقرة ، وبما لا يؤدي إلى ما هو شر من هذه الانحرافات ، ومسارعون إلى [[الجهاد]] في سبيل الله ، حين يدعو داعية وتتوافر ظروفه ، فكانوا طليعة المقاومة للمستعمرين والمحتلين ، ولعل هذا الفهم هو الذي عرضهم لسهام أعداء الدين ، وأصحاب المصالح الضيقة.


ويقف الإمام المؤسس عند هذا المعنى طويلاً ، فيقول في رسالة المؤتمر الخامس ، تحت عنوان « فكرة الإخوان المسلمين تضم كل المعاني الإصلاحية » : « كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين ، إن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة ، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية ، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته ، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح ، الذين عرفوها وفهموا مراميها ، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك : أن الإخوان المسلمين دعوة سلفية ، وطريقة سنية ، وحقيقة صوفية ، وهيئة سياسية ، وجماعة رياضية ، ورابطة علمية ثقافية ، وشركة اقتصادية ، وفكرة اجتماعية. ويرسم صورة للأخ المسلم ، المتمثل لحقيقة دعوته ، تذكر بالصف الأول ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين رآهم الله تعالى حول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فأعلن عنها رضاه. « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريباً » وفي موضع آخر « محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سُجَّداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود »... فهو يقول : « فقد يرى بعينه واعظاً مدرساً يقرع الأذان بزواجر الوعظ ، وبعد قليل تراه نفسه رياضياً أنيقاً يرمي بالكرة أو يدرب على العدو أو يمارس السباحة ، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص ».
ويقف [[البنا|الإمام]] المؤسس عند هذا المعنى طويلاً ، فيقول في رسالة المؤتمر الخامس ، تحت عنوان « فكرة [[الإخوان المسلمين]] تضم كل المعاني الإصلاحية » : « كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند [[الإخوان المسلمين]] ، إن شملت فكرتهم كل نواحي [[الإصلاح]] في الأمة ، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية ، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته ، والتقت عندها آمال محبي [[الإصلاح]] ، الذين عرفوها وفهموا مراميها ، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك : أن [[الإخوان المسلمين]] [[الإخوان|دعوة]] سلفية ، وطريقة سنية ، وحقيقة صوفية ، وهيئة سياسية ، و[[الإخوان|جماعة]] رياضية ، ورابطة علمية ثقافية ، وشركة اقتصادية ، وفكرة اجتماعية. ويرسم صورة للأخ المسلم ، المتمثل لحقيقة [[الإخوان|دعوته]] ، تذكر بالصف الأول ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين رآهم الله تعالى حول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فأعلن عنها رضاه. « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريباً » وفي موضع آخر « محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سُجَّداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود »... فهو يقول : « فقد يرى بعينه واعظاً مدرساً يقرع الأذان بزواجر الوعظ ، وبعد قليل تراه نفسه رياضياً أنيقاً يرمي بالكرة أو يدرب على العدو أو يمارس السباحة ، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص ».


هذا الفهم الواعي وهذا التصور الشامل ، وهذه الصياغة الجديدة للإنسان المسلم تبشر ببعث إسلامي جديد ، يحقق وعد الله تعالى « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً » وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثم تكون خلافة راشدة على هدي النبوة ». ومن هنا فقد تألب عليهم أصحاب الهوى والسلطان الشخصي بغض النظر عن مصلحة الأمة ، وأعداء الأمة ، ولعل من أوضح صور الكيد لهذه الجماعة ما كتبته فتاة صهيونية تدعى « روث كاريف » ونشرته لها جريدة « الصنداي ميرو » في مطلع عام 1948 ، ونقلته جريدة « المصري » لقرائها في حينه ، قالت فيه الكاتبة : « أن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة ، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعاً ، وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها » وتضيف « والآن وقد أصبح الإخوان المسلمين ينادون بالمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة ، في شئون الشرق الأوسط ، وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ، أن لا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة فقد حان للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال متسترين وراء هذا الإسلام الرومانتيكي الجذاب « الإخوان المسلمين » و « تابعت مقالها قائلة » : إن اليهود في فلسطين الآن هم أعتف خصوم الإخوان المسلمين ، ولذلك كان اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط. وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط. وهم يعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين ، وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية ، وطالبوا علناً بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة » وتختم مقالها بقولها : « وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي ، إذ واجهتها حركة فاشية نازية ، فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية ، تمتد من شمالي أفريقيا إلى الباكستان ، ومن تركيا إلى المحيط الهندي ».
هذا الفهم الواعي وهذا التصور الشامل ، وهذه الصياغة الجديدة للإنسان المسلم تبشر ببعث إسلامي جديد ، يحقق وعد الله تعالى « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً » وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثم تكون خلافة راشدة على هدي النبوة ». ومن هنا فقد تألب عليهم أصحاب الهوى والسلطان الشخصي بغض النظر عن مصلحة الأمة ، وأعداء الأمة ، ولعل من أوضح صور الكيد لهذه [[الإخوان|الجماعة]] ما كتبته فتاة صهيونية تدعى « روث كاريف » ونشرته لها جريدة « [[الصنداي ميرو]] » في مطلع عام [[1948]] ، ونقلته جريدة « [[المصري اليوم]] » لقرائها في حينه ، قالت فيه الكاتبة : « أن [[الإخوان المسلمين]] يحاولون إقناع [[العرب]] بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة ، وأن [[الإسلام ]] هو خير الأديان جميعاً ، وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها » وتضيف « والآن وقد أصبح [[الإخوان المسلمين]] ينادون بالمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة ، في شئون [[الشرق الأوسط]] ، وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ، أن لا يتعاون مع هيئة [[الأمم المتحدة]] فقد حان للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال متسترين وراء هذا [[الإسلام]] الرومانتيكي الجذاب « الإخوان المسلمين » و « تابعت مقالها قائلة » : إن [[اليهود]] في [[فلسطين]] الآن هم أعتف خصوم [[الإخوان المسلمين]] ، ولذلك كان [[اليهود]] ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط. وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط. وهم يعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين ، وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية ، وطالبوا علناً بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة » وتختم مقالها بقولها : « وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي ، إذ واجهتها حركة فاشية نازية ، فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية ، تمتد من شمالي أفريقيا إلى الباكستان ، ومن تركيا إلى المحيط الهندي ».


ولا غرابة أن يشتد عداء الغرب لمؤسس هذه الجماعة ، وأن يفرح الغرب لاغتياله كما ذكر الأستاذ سيد قطب في كتابه أمريكا التي رأيت ، حيث استغرب فرحتهم في غير عيد وكم كانت دهشته ، حين قيل له « اليوم قتل حسن البنا ».
ولا غرابة أن يشتد عداء الغرب لمؤسس هذه الجماعة ، وأن يفرح الغرب لاغتياله كما ذكر الأستاذ سيد قطب في كتابه أمريكا التي رأيت ، حيث استغرب فرحتهم في غير عيد وكم كانت دهشته ، حين قيل له « اليوم قتل حسن البنا ».
سطر ٨٥: سطر ٨٤:
==الدرس الثاني : جندية فكرة ودعوة لا جندية غرض ومنفعة==
==الدرس الثاني : جندية فكرة ودعوة لا جندية غرض ومنفعة==


إن عضو الجماعة ليس موظفاً تحكمه ساعات محددة للعمل ، وواجبات معينة لا يتجاوزها. فالواجبات المحددة في اللوائح والتعليمات تشكل الحد الأدنى ، وفوق ذلك مجال رحب ، للمتنافسين في الخيرات. وعلى المرء أن يختار بين الحد الأدنى المطلوب يومياً وأسبوعيا وشهريا وفصليا وسنوياً ، وبين الاستكثار من الخير ، بقدر ما تؤهله له استعداداته ، آخذاً بعين الاعتبار قول الله عز وجل : (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى). أن الجندية الدعوية التي تعدها جماعة الإخوان المسلمين توجب على صاحبها أن يتحرك في الوسط الذي يعيش فيه ، بين أهله وزملائه ومعارفه. يقدم لهم النموذج ، ويعرفهم بدعوته ، ويدعوهم إليها. فقد علمتنا هذه الدعوة كيف يتودد أحدنا إلى زملائه ، يحسن استقابلهم ويسهم في حل مشكلاتهم ، ويزورهم ويدعوهم ويهدي إليهم ، حتى لو كانت الهدية جريدة أو مجلة أو كتاباً. « لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً حتى ولو أن يلقي أخاه بوجه حسن » كما علمتنا كيف يكون أحدنا قريباً من قلوب طلابه ، بحسن إتقانه لعمله ، وتفانيه في أدائه والعدل بين التلاميذ ، ليشكل كل ذلك الجو المناسب لدعوتهم. وإذا ما رأيت الداعية متجهما نزقا ، متهربا من واجباته ، متذمرا من عمله ، محابيا لفريق ، فاعلم إنه ليس من الإخوان المسلمين ، وأن تظاهر بذلك ، أو سجل في سجلات الإخوان المسلمين.
إن عضو [[الإخوان|الجماعة]] ليس موظفاً تحكمه ساعات محددة للعمل ، وواجبات معينة لا يتجاوزها. فالواجبات المحددة في اللوائح والتعليمات تشكل الحد الأدنى ، وفوق ذلك مجال رحب ، للمتنافسين في الخيرات. وعلى المرء أن يختار بين الحد الأدنى المطلوب يومياً وأسبوعيا وشهريا وفصليا وسنوياً ، وبين الاستكثار من الخير ، بقدر ما تؤهله له استعداداته ، آخذاً بعين الاعتبار قول الله عز وجل : (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى). أن الجندية الدعوية التي تعدها [[جماعة الإخوان المسلمين]] توجب على صاحبها أن يتحرك في الوسط الذي يعيش فيه ، بين أهله وزملائه ومعارفه. يقدم لهم النموذج ، ويعرفهم بدعوته ، ويدعوهم إليها. فقد علمتنا هذه [[الإخوان|الدعوة]] كيف يتودد أحدنا إلى زملائه ، يحسن استقابلهم ويسهم في حل مشكلاتهم ، ويزورهم ويدعوهم ويهدي إليهم ، حتى لو كانت الهدية جريدة أو مجلة أو كتاباً. « لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً حتى ولو أن يلقي أخاه بوجه حسن » كما علمتنا كيف يكون أحدنا قريباً من قلوب طلابه ، بحسن إتقانه لعمله ، وتفانيه في أدائه والعدل بين التلاميذ ، ليشكل كل ذلك الجو المناسب لدعوتهم. وإذا ما رأيت الداعية متجهما نزقا ، متهربا من واجباته ، متذمرا من عمله ، محابيا لفريق ، فاعلم إنه ليس من [[الإخوان المسلمين]] ، وأن تظاهر بذلك ، أو سجل في سجلات [[الإخوان المسلمين]].


إن الأخ الذي يقتصر على مهام محددة ولا يترك أثراً إيجابياً فاعلاً في الأسرة والعمل والمجتمع ، ليس جندي الفكرة والدعوة ، الذي يعيش لها ، وإنما رجل وظيفة يؤديها أداء آلياً ، لا يحدث الأثر المطلوب.
إن الأخ الذي يقتصر على مهام محددة ولا يترك أثراً إيجابياً فاعلاً في الأسرة والعمل والمجتمع ، ليس جندي الفكرة والدعوة ، الذي يعيش لها ، وإنما رجل وظيفة يؤديها أداء آلياً ، لا يحدث الأثر المطلوب.


أن الأخ المسلم الحق لا يجد سعادته إلا حين يبلغ دعوته ، وينافح عنها ويكسب لها أنصارا ومؤيدين ، وهنا أود أن أنبه إلى بعض الخلل الناجم عن الاكتفاء بالحد الأدنى من المهام الدعوية ، تاركاً الساحة لمن يعيثون فيها فساداً ، ومحملا غيره أعباء ينوء بحملها ، فلا يؤديها حق أدائها ، أو تحمله على اليأس. فالمهمة هنا مهمة مشتركة « هدهد يرتاد ، وسليمان يتفقد ويوزع الواجبات » ومن هنا فقد رأينا بعض الساحات تزدهر فيها الدعوة لوجود الجنود البسلاء في الدعوة إلى الله ، بخلاف ساحات أخرى ، أخذ العاملون فيها الأمر على التراخي ، كما رأينا بعض الساحات المزدهرة تقفر إذا غاب عنها المجلون فيها لسبب من الأسباب. إن القيادة الراشدة ولا أعني هنا القيادة المركزية فقط هي التي تكتشف استعدادات جنودها ، وتطور هذه الاستعدادات ، وتحدد لهم المهام ، وتوفر لهم إمكانات النجاح من تخطيط وإسناد ومتابعة وتقويم ، وأن الجندية العالية هي التي تأخذ الأمر بالعزيمة ، وتستحضر رقابة الله عليها ، وتنطلق من أنها مسئولية أمام الله ، مسئولية فردية ، بغض النظر أحسن الآخرون أمام أساءوا ، « فكل آتية يوم القيامة فردًا ». أن هذا الفهم وهذه القناعة ، يحملانه على أن يرتاد لدعوته الوسائل والأساليب والبيئات ، التي تعين على الانتشار الأفقي والنمو الرأسي ، ويقدم المشروع الإسلامي خطوات إلى الأمام. على قاعدة (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). وانطلاقاً من هذا الفهم لم أجد في الأسرة يوم انتظمت فيها ما يرفع عني المسئولية أمام الله عز وجل ، الذي أمرنا بالدعوة إليه. (ادع إلى سبيل ربك) ولا يؤهنلي لمرتبة من عناهم بقوله سبحانه : (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً) ففي بدايات تشرفي بالانضمام إلى الجماعة ، عمدت إلى تشكيل بعض الأسر ، جلها من الطلاب ، ساعدني في ذلك رباط الحب الذي جمع بيني وبينهم ، وتلك نعمة أحمد الله تبارك وتعالى عليها ، فهو المؤلف بين القلوب ، وما أبهج الحياة يوم يعيش المرء في وسط محب مألوف! وما أضيق العيش حين يشعر المرء أنه يعيش في بيئة معادية!
أن الأخ المسلم الحق لا يجد سعادته إلا حين يبلغ دعوته ، وينافح عنها ويكسب لها أنصارا ومؤيدين ، وهنا أود أن أنبه إلى بعض الخلل الناجم عن الاكتفاء بالحد الأدنى من المهام الدعوية ، تاركاً الساحة لمن يعيثون فيها فساداً ، ومحملا غيره أعباء ينوء بحملها ، فلا يؤديها حق أدائها ، أو تحمله على اليأس. فالمهمة هنا مهمة مشتركة « هدهد يرتاد ، وسليمان يتفقد ويوزع الواجبات » ومن هنا فقد رأينا بعض الساحات تزدهر فيها [[الإخوان|الدعوة]] لوجود الجنود البسلاء في الدعوة إلى الله ، بخلاف ساحات أخرى ، أخذ العاملون فيها الأمر على التراخي ، كما رأينا بعض الساحات المزدهرة تقفر إذا غاب عنها المجلون فيها لسبب من الأسباب. إن القيادة الراشدة ولا أعني هنا القيادة المركزية فقط هي التي تكتشف استعدادات جنودها ، وتطور هذه الاستعدادات ، وتحدد لهم المهام ، وتوفر لهم إمكانات النجاح من تخطيط وإسناد ومتابعة وتقويم ، وأن الجندية العالية هي التي تأخذ الأمر بالعزيمة ، وتستحضر رقابة الله عليها ، وتنطلق من أنها مسئولية أمام الله ، مسئولية فردية ، بغض النظر أحسن الآخرون أمام أساءوا ، « فكل آتية يوم القيامة فردًا ». أن هذا الفهم وهذه القناعة ، يحملانه على أن يرتاد [[الإخوان|لدعوته]] الوسائل والأساليب والبيئات ، التي تعين على الانتشار الأفقي والنمو الرأسي ، ويقدم المشروع الإسلامي خطوات إلى الأمام. على قاعدة ('''وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون'''). وانطلاقاً من هذا الفهم لم أجد في [[الأسرة]] يوم انتظمت فيها ما يرفع عني المسئولية أمام الله عز وجل ، الذي أمرنا بالدعوة إليه. (ادع إلى سبيل ربك) ولا يؤهنلي لمرتبة من عناهم بقوله سبحانه : (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً) ففي بدايات تشرفي بالانضمام إلى [[الإخوان|الجماعة]] ، عمدت إلى تشكيل بعض الأسر ، جلها من الطلاب ، ساعدني في ذلك رباط الحب الذي جمع بيني وبينهم ، وتلك نعمة أحمد الله تبارك وتعالى عليها ، فهو المؤلف بين القلوب ، وما أبهج الحياة يوم يعيش المرء في وسط محب مألوف! وما أضيق العيش حين يشعر المرء أنه يعيش في بيئة معادية!


وكنت أحاول اكتشاف اتجاهات الشباب واستعدادتهم ، وأحاول تنمية هذه الاتجاهات والاستعدادات ، من خلال قراءات ونشاطات أراها محققة لهذا الهدف. وكنت استعرض زملائي وطلابي ومعارفي. وكنت أتطلع إلى أن يأخذ كل هؤلاء مواقعهم في هذه الدعوة المباركة. وكم ألمني وأحزنني أن بعض أصحاب الاستعدادات العالية لا يسارعون إلى الانضمام إلى الدعوة ، وكنت استحضر في ذهني عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد ، كيف يبطئ في دخول معسكر الإيمان على رجاحة عقله. وحين قدر الله عز وجل لي أن انتقل من معان ، حيث تشرفت بالانتساب للدعوة ، وحيث عرفت العمل الإسلامي المنظم إلى بيئة جديدة ، كان اهتمامي منصباً على تأسيس عمل إسلامي فيها. وكان علي أن أتعرف على واقع الدعوة في هذا الموقع الجديد ، وحين سألت المعنيين بالأمر كانت الإجابة مخيبة للظن ، فليس في هذه البيئة أخ واحد ، وإنما هنالك شخص كانت له علاقة سابقة بالجماعة ، ولكنها انقطعت. ورأيت أن أبدأ من عنده ، لمعرفة الأسباب التي أدت إلى قطع العلاقة ، فرأيت الرجل قد سلك خطاً آخر ، وإن كان يذكر الجماعة بخير ، ويتمنى لها الخير. ولكنه رأى في خطه الجديد ترجمة لشعار طالما رفعته الجماعة : « الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا » فأدركت أن الزاوية منفرجة ، وزاد في انفراجها أن ما يسميه صاحبنا جهادا في سبيل الله ، نأى أصحابه بعيداً عن روح الجهاد ، بعد أن عمل الهوى والمصالح والتدخلات العربية والدولية عملها فيه. وكان علي أن أتحرك وليس مثل المسجد منطلقاً للحركة والدعوة ، وإن كان التحرك ليس ميسورا في هذه البيئة ، فهي تنفر من العمل الحزبي ، وتخشى من عواقبه كما ذكر أحدهم ذات يوم ، حيث قال : نحن مسلمون ، ومع الإسلام ، ولكن الحزب عندنا يعني الشيطان. ولكن الإعراض والصد لا يثنيان الداعية عن المضي في طريقه ، فحسب المرء أن يخلص النية ، وإن يحسن العمل ، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولم تمض سنوات ، حتى وجدت ثلة كريمة من الإخوان انتظمت في سلك الدعوة ، لتلحق مدنا وقرى سبقتها بسنوات في التعرف على الدعوة.
وكنت أحاول اكتشاف اتجاهات الشباب واستعدادتهم ، وأحاول تنمية هذه الاتجاهات والاستعدادات ، من خلال قراءات ونشاطات أراها محققة لهذا الهدف. وكنت استعرض زملائي وطلابي ومعارفي. وكنت أتطلع إلى أن يأخذ كل هؤلاء مواقعهم في هذه [[الإخوان|الدعوة]] المباركة. وكم ألمني وأحزنني أن بعض أصحاب الاستعدادات العالية لا يسارعون إلى الانضمام إلى [[الإخوان|الدعوة]]، وكنت استحضر في ذهني عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد ، كيف يبطئ في دخول معسكر الإيمان على رجاحة عقله. وحين قدر الله عز وجل لي أن انتقل من معان ، حيث تشرفت بالانتساب [[الإخوان|للدعوة]]، وحيث عرفت [[العمل الإسلامي]] المنظم إلى بيئة جديدة ، كان اهتمامي منصباً على تأسيس عمل إسلامي فيها. وكان علي أن أتعرف على واقع [[الإخوان|الدعوة]] في هذا الموقع الجديد ، وحين سألت المعنيين بالأمر كانت الإجابة مخيبة للظن ، فليس في هذه البيئة أخ واحد ، وإنما هنالك شخص كانت له علاقة سابقة ب[[الإخوان|الجماعة]] ، ولكنها انقطعت. ورأيت أن أبدأ من عنده ، لمعرفة الأسباب التي أدت إلى قطع العلاقة ، فرأيت الرجل قد سلك خطاً آخر ، وإن كان يذكر [[الإخوان|الجماعة]] بخير ، ويتمنى لها الخير. ولكنه رأى في خطه الجديد ترجمة لشعار طالما رفعته [[الإخوان|الجماعة]] : « [[الجهاد]] سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا » فأدركت أن الزاوية منفرجة ، وزاد في انفراجها أن ما يسميه صاحبنا جهادا في سبيل الله ، نأى أصحابه بعيداً عن روح [[الجهاد]] ، بعد أن عمل الهوى والمصالح والتدخلات العربية والدولية عملها فيه. وكان علي أن أتحرك وليس مثل المسجد منطلقاً للحركة و[[الإخوان|الدعوة]] ، وإن كان التحرك ليس ميسورا في هذه البيئة ، فهي تنفر من [[العمل الحزبي]] ، وتخشى من عواقبه كما ذكر أحدهم ذات يوم ، حيث قال : نحن مسلمون ، ومع [[الإسلام]] ، ولكن الحزب عندنا يعني الشيطان. ولكن الإعراض والصد لا يثنيان [[الإخوان|الداعية]] عن المضي في طريقه ، فحسب المرء أن يخلص النية ، وإن يحسن العمل ، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولم تمض سنوات ، حتى وجدت ثلة كريمة من [[الإخوان]] انتظمت في سلك [[الإخوان|الدعوة]] ، لتلحق مدنا وقرى سبقتها بسنوات في التعرف على [[الإخوان|الدعوة]].


ورغم حداثة العهد بالدعوة الإسلامية ، والافتقار إلى المؤهلات العلمية ، فقد حرصنا على النهوض بمسئولياتنا. فقد تم تشجيع الأخوة على التدريس في المساجد ، ثم الخطابة فيها ، وقد تعززت الثقة يومها بيننا وبين مديرية الأوقاف ، فكان المرحوم محمود علاوي كلما راجعه أهل قرية ، مطالبين بتعيين خطب لمسجدهم ، يهاتفني لتسمية خطيب ، وفي كثير من الحالات لم يكن الخطباء من حملة المؤهلات الشرعية ، لعدم توفرهم ، ولكنهم امتلكوا الإخلاص والرغبة في العمل ، والدافعية للإعداد الجيد. وربما تصدى لهذه المهمة بعض طلبة المرحلة الثانوية ، فقد أقبلت ذات يوم على المسجد ، الذي كنت أخطب فيه ، فسمعت متحدثاً يتحدث فظننته يلقي درساً ، وفوجئت لدى دخولي المسجد حين وجدت شاباً في الصف الثالث الثانوي من شباب الدعوة الإسلامية ، وقد اعتلى المنبر ، حين ظن المؤذن إن الوقت قد حان ، وأن الخطيب تأخر ، فصعد المنبر ، وحين أبصرني هم بالنزول ، فأشرت إليه أن أمض في خطبتك. وبعد انتهائه من الخطبة والصلاة ، حمدت الله عز وجل ، أن أجعل من طلبة المرحلة الثانوية من يمتلك مقومات اعتلاء المنبر. كما انعقدت صلات بيننا وبين القرى المجاورة ، من خلال رحلات قصيرة لنشر الدعوة ، وتعززت العلاقات مع الوجهاء ، من خلال التواصل معهم ، ومشاركة الناس في مناسباتهم الاجتماعية. كما أصبحت المدارس منابر دعوة ، من خلال الإذاعة الصباحية ، ومجلات الحائط ، وحصص النشاط.
ورغم حداثة العهد ب[[الإخوان|الدعوة]] الإسلامية ، والافتقار إلى المؤهلات العلمية ، فقد حرصنا على النهوض بمسئولياتنا. فقد تم تشجيع [[الإخوان|الأخوة]] على التدريس في المساجد ، ثم الخطابة فيها ، وقد تعززت الثقة يومها بيننا وبين مديرية الأوقاف ، فكان المرحوم[[ محمود علاوي]] كلما راجعه أهل قرية ، مطالبين بتعيين خطب لمسجدهم ، يهاتفني لتسمية خطيب ، وفي كثير من الحالات لم يكن الخطباء من حملة المؤهلات الشرعية ، لعدم توفرهم ، ولكنهم امتلكوا الإخلاص والرغبة في العمل ، والدافعية للإعداد الجيد. وربما تصدى لهذه المهمة بعض طلبة المرحلة الثانوية ، فقد أقبلت ذات يوم على المسجد ، الذي كنت أخطب فيه ، فسمعت متحدثاً يتحدث فظننته يلقي درساً ، وفوجئت لدى دخولي المسجد حين وجدت شاباً في الصف الثالث الثانوي من شباب [[الإخوان|الدعوة الإسلامية]] ، وقد اعتلى المنبر ، حين ظن المؤذن إن الوقت قد حان ، وأن الخطيب تأخر ، فصعد المنبر ، وحين أبصرني هم بالنزول ، فأشرت إليه أن أمض في خطبتك. وبعد انتهائه من الخطبة والصلاة ، حمدت الله عز وجل ، أن أجعل من طلبة المرحلة الثانوية من يمتلك مقومات اعتلاء المنبر. كما انعقدت صلات بيننا وبين القرى المجاورة ، من خلال رحلات قصيرة لنشر [[الإخوان|الدعوة]] ، وتعززت العلاقات مع الوجهاء ، من خلال التواصل معهم ، ومشاركة الناس في مناسباتهم الاجتماعية. كما أصبحت المدارس منابر دعوة ، من خلال الإذاعة الصباحية ، ومجلات الحائط ، وحصص النشاط.


==الدرس الثالث : التزام واع يجسد وحدة الموقف==
==الدرس الثالث : التزام واع يجسد وحدة الموقف==
   
   
إن الرسالة العظيمة تحتاج إلى قدر عال من الالتزام للنهوض بها. فالمهمة جليلة ، والطريق طويلة ، والعقبات كثيرة ، وأيما تردد أو نكوص يجعل تحقيق الهدف بعيد المنال ، فضلاً عن أنه يهز ثقة الآخرين الذين يتطلعون إلى القدوة ، التي تعزز ثقتهم بالفكرة والمسيرة ، ليأخذوا مواقعهم فيها. ومن هنا فإن دعوة الإخوان المسلمين تقوم على الالتزام الكامل ، بالمنهاج والسياسات والقرارات والمواقف والمواعيد.  فقد تعودنا كيف نحضر في الوقت المحدد ، ونغادر في الوقت المحدد ، وبالطريقة المقررة ، وكيف نقهر كل عذر للقيام بالواجب ، مهما غلت التضحيات وكيف نغضب القريب والمسئول من خلال التزامنا بالموقف الدعوي المخالف لهوى المسئول ومصلحة القريب ، وأن كان ليس من أهدافنا اغضاب الناس أو استفزازهم أو استعداؤهم ، وإنما الحرص على الالتزام بدعوتنا ، وتمثل فكرتنا ، والانطلاق بها لتحقيق غاياتها ، ومن شأن أصحاب الهوى والمصالح الشخصية أن ينفروا من الالتزام يرون أنه لا يحقق مصالحهم. فكم رأينا من أقوام تتغير مواقفهم ، ويقفزون من موقع إلى موقع بسبب الضغوط التي تمارس عليهم ، أو المصالح التي يلوح لهم بها. بينما يبقى أصحاب الدعوة مستمسكين بقرارهم الذي اتخذوه ، أو اتخذه أصحاب القرار فيهم ، ويحضرني في هذا المجال أمثلة عدة ، أقتطف منها ما يلي :
إن الرسالة العظيمة تحتاج إلى قدر عال من الالتزام للنهوض بها. فالمهمة جليلة ، والطريق طويلة ، والعقبات كثيرة ، وأيما تردد أو نكوص يجعل تحقيق الهدف بعيد المنال ، فضلاً عن أنه يهز ثقة الآخرين الذين يتطلعون إلى القدوة ، التي تعزز ثقتهم بالفكرة والمسيرة ، ليأخذوا مواقعهم فيها. ومن هنا فإن دعوة [[الإخوان المسلمين]] تقوم على الالتزام الكامل ، بالمنهاج والسياسات والقرارات والمواقف والمواعيد.  فقد تعودنا كيف نحضر في الوقت المحدد ، ونغادر في الوقت المحدد ، وبالطريقة المقررة ، وكيف نقهر كل عذر للقيام بالواجب ، مهما غلت التضحيات وكيف نغضب القريب والمسئول من خلال التزامنا بالموقف [[الإخوان|الدعوي]] المخالف لهوى المسئول ومصلحة القريب ، وأن كان ليس من أهدافنا اغضاب الناس أو استفزازهم أو استعداؤهم ، وإنما الحرص على الالتزام [[الإخوان|بدعوتنا]] ، وتمثل فكرتنا ، والانطلاق بها لتحقيق غاياتها ، ومن شأن أصحاب الهوى والمصالح الشخصية أن ينفروا من الالتزام يرون أنه لا يحقق مصالحهم. فكم رأينا من أقوام تتغير مواقفهم ، ويقفزون من موقع إلى موقع بسبب الضغوط التي تمارس عليهم ، أو المصالح التي يلوح لهم بها. بينما يبقى أصحاب [[الإخوان|الدعوة]] مستمسكين بقرارهم الذي اتخذوه ، أو اتخذه أصحاب القرار فيهم ، ويحضرني في هذا المجال أمثلة عدة ، أقتطف منها ما يلي :


أ- ضمن برنامج الإخوان المسلمين في التأهيل والتدريب ، عقدت دورة تدريبية ، لرفع سوية الدعاة ، أطلق عليها مدرسة الدعاة. وقد كان برنامج المدرسة يقول على الالتزام التام ، من حيث الإعداد النظري ، والتطبيق العملي ، ولم يكن يتساهل إزاء التقاعس عن أداء الواجبات أو التهاون فيها. وكان من ضمن نشاطات المدرسة زيارات لبعض رموز الدعوة. وحدد يوم لزيارة الشهيد الدكتور عبد الله عزام رحمه الله ، وقدر الله تعالى أن يتوفى جدي لأبي في ذاك اليوم. وبعد أن فرغنا من تجهيزه ودفنه ، بدأ الصراع في نفسي بين أخذ مكاني بين أهلي وعشيرتي في استقبال المعزين ، وبين الوفاء بالوعد ، وحضور برنامج المدرسة. لقد كان بإمكاني أن أعتذر ، وكنت أقدر أن عذري مشروع ومقبول ، إلا أنني آثرت أن أجمع بين الحسنيين وأن أقوم بالواجبين بتوازن ، فبعد الدفن ، وبعد تلبية دعوة جيران كرام ، حرصوا على دعوتنا ، حيث جرت العادة يومها أن يدعي أهل المتوفي ثلاثة أيام ، ولكنها اختصرت بعد ذلك إلى يوم واحد ، وفي ذلك تيسير محمود على الناس ، توجهت إلى عمان ، ولم تكن لدي يومها سيارة ، وكان علي أن أقطع مسافات على قدمي ، واستخدام سيارتين في الذهاب ، ومثلهما في الإياب ، وأدركت أخواني في الوقت المحدد ، وشاركتهم الزيارة ، التي ما زلت أذكر المعاني الكبيرة التي قبسناها من أخينا أبي محمد ، ومحورها الحرص على وحدة الجماعة ، وتجنب أي إجراء مهما كانت دوافعه ، يمكن أن يحدث شرخاً فيها لا سمح الله. واجتهدت أن أعود مسرعاً ، حتى لا يفتقدني أهلي في مثل هذا الواجب.
أ- ضمن برنامج [[الإخوان المسلمين]] في التأهيل والتدريب ، عقدت دورة تدريبية ، لرفع سوية [[الإخوان|الدعاة]] ، أطلق عليها مدرسة [[الإخوان|الدعاة]]. وقد كان برنامج المدرسة يقول على الالتزام التام ، من حيث الإعداد النظري ، والتطبيق العملي ، ولم يكن يتساهل إزاء التقاعس عن أداء الواجبات أو التهاون فيها. وكان من ضمن نشاطات المدرسة زيارات لبعض رموز [[الإخوان|الدعوة]]. وحدد يوم لزيارة الشهيد الدكتور [[عبد الله عزام]] رحمه الله ، وقدر الله تعالى أن يتوفى جدي لأبي في ذاك اليوم. وبعد أن فرغنا من تجهيزه ودفنه ، بدأ الصراع في نفسي بين أخذ مكاني بين أهلي وعشيرتي في استقبال المعزين ، وبين الوفاء بالوعد ، وحضور برنامج المدرسة. لقد كان بإمكاني أن أعتذر ، وكنت أقدر أن عذري مشروع ومقبول ، إلا أنني آثرت أن أجمع بين الحسنيين وأن أقوم بالواجبين بتوازن ، فبعد الدفن ، وبعد تلبية دعوة جيران كرام ، حرصوا على [[الإخوان|دعوتنا]] ، حيث جرت العادة يومها أن يدعي أهل المتوفي ثلاثة أيام ، ولكنها اختصرت بعد ذلك إلى يوم واحد ، وفي ذلك تيسير محمود على الناس ، توجهت إلى عمان ، ولم تكن لدي يومها سيارة ، وكان علي أن أقطع مسافات على قدمي ، واستخدام سيارتين في الذهاب ، ومثلهما في الإياب ، وأدركت أخواني في الوقت المحدد ، وشاركتهم الزيارة ، التي ما زلت أذكر المعاني الكبيرة التي قبسناها من أخينا أبي محمد ، ومحورها الحرص على وحدة الجماعة ، وتجنب أي إجراء مهما كانت دوافعه ، يمكن أن يحدث شرخاً فيها لا سمح الله. واجتهدت أن أعود مسرعاً ، حتى لا يفتقدني أهلي في مثل هذا الواجب.


ب- بعد بحث مستفيض شارك فيه مجلس الشورى والكتلة النيابية ، قرر الإخوان منح الثقة لحكومة السيد مضر بدران عام 1990 ، لاعتبارات أهمها إفساح المجال للمسيرة الجديدة « المسيرة الديمقراطية » أن تتجذر وتتطور ، وحتى لا يحسب على الإخوان أنهم أسهموا في وأد المولود الجديد ، رغم أن الرئيس المكلف ضن على الإخوان بوزارة التربية والتعليم لأسباب عدة ، لعل بعضها عائد إلى تجربة الأخ الدكتور إسحاق الفرحان ، يوم كان وزيراً للتربية والتعليم  حيث ضاق الكثيرون ذرعاً بالانجازات التي حققها ، على طريق أسلمة المناهج ، وإصلاح العملية التربوية من منظور إسلامي. ومن هنا فقد استقر الأمر على منح الثقة للحكومة ، لقاء التزام الرئيس المكلف ببضعة عشر شرطاً أو مطلباً. اجتهد الإخوان بأن تكون مطالب عامة ممكنة التطبيق ، تشكل بدايات يمكن التأسيس عليها. ولم يكن منح الثقة لحكومة لا تتوافر فيها الحدود الدنيا ، التي تقر بها عيوننا ، سهلاً على نفوسنا ، فقد ظل الإخوان على الدوام ، يتطلعون إلى النموذج الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده ، إلا أن الالتزام بالقرار الشوري حتم علينا منح الثقة ، رغم صعوبة ذلك على نفوسنا. ولقد استمعت إلى الأخ المفضال الأستاذ يوسف العظم وهو يقول بمرارة : « بعد خمس وعشرين سنة من الحجب » « ثقة » « ولقد رأيت المرارة في كلمات الإخوان وهم يمنحون الثقة ، وكأبي بصورة الحديبية تعود من جديد ، يوم شرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشروط الصلح ، وراح يتردد بين النبي القائد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه مرددا « علام نعطي الدنية في ديننا؟ » وقد بلغ الغضب مبلغه من نفوس الصحابة عليهم رضوان الله ، حين وجدوا أنفسهم مضطرين للعودة دون عمرة ، دعاهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد بهم الحنين إليها ، وغدوا على مقربة من تحقيقها ، وها هم يعودون الآن دون عمرة ، فبلغ بهم الغيظ مبلغه. فوقفوا واجمين أمام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالتحليق ، حتى أشفق عليهم ، وخاف من هلاكهم ، لتلكثهم في إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم حين أبصروه يحلق لم يعد أمامهم إلا إنفاذ الأمر ، والاقتداء بالنبي القائد ، رغم صعوبة القرار ومرارته في أفواههم ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً ، من فرط الغضب. ومما زاد من حراجة الموقف أنهم رأوا أبا جندل يرسف في الأغلال ، عائداً إلى المشركين ، وأبوه سهيل بن عمرو ، كبير مفاوضي مكة ، يوجه إليه الصفعات ، على مرأى ومسمع من إخوة العقيدة ، ولكنه الالتزام بشروط الصلح ، وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا دعوة بدون التزام ، ولا جندية حقة إلا بأعلى درجات الالتزام.
ب- بعد بحث مستفيض شارك فيه [[مجلس الشورى]] والكتلة النيابية ، قرر [[الإخوان]] منح الثقة لحكومة السيد مضر بدران عام [[1990]] ، لاعتبارات أهمها إفساح المجال للمسيرة الجديدة « المسيرة الديمقراطية » أن تتجذر وتتطور ، وحتى لا يحسب على [[الإخوان]] أنهم أسهموا في وأد المولود الجديد ، رغم أن الرئيس المكلف ضن على [[الإخوان]] ب[[وزارة التربية والتعليم]] لأسباب عدة ، لعل بعضها عائد إلى تجربة الأخ الدكتور [[إسحاق الفرحان]] ، يوم كان وزيراً للتربية والتعليم  حيث ضاق الكثيرون ذرعاً بالانجازات التي حققها ، على طريق أسلمة المناهج ، وإصلاح العملية التربوية من منظور إسلامي. ومن هنا فقد استقر الأمر على منح الثقة للحكومة ، لقاء التزام الرئيس المكلف ببضعة عشر شرطاً أو مطلباً. اجتهد [[الإخوان]] بأن تكون مطالب عامة ممكنة التطبيق ، تشكل بدايات يمكن التأسيس عليها. ولم يكن منح الثقة لحكومة لا تتوافر فيها الحدود الدنيا ، التي تقر بها عيوننا ، سهلاً على نفوسنا ، فقد ظل [[الإخوان]] على الدوام ، يتطلعون إلى النموذج الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده ، إلا أن الالتزام بالقرار الشوري حتم علينا منح الثقة ، رغم صعوبة ذلك على نفوسنا. ولقد استمعت إلى الأخ المفضال الأستاذ [[يوسف العظم]] وهو يقول بمرارة : « بعد خمس وعشرين سنة من الحجب » « ثقة » « ولقد رأيت المرارة في كلمات [[الإخوان]] وهم يمنحون الثقة ، وكأبي بصورة الحديبية تعود من جديد ، يوم شرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشروط الصلح ، وراح يتردد بين النبي القائد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه مرددا « علام نعطي الدنية في ديننا؟ » وقد بلغ الغضب مبلغه من نفوس الصحابة عليهم رضوان الله ، حين وجدوا أنفسهم مضطرين للعودة دون عمرة ، دعاهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد بهم الحنين إليها ، وغدوا على مقربة من تحقيقها ، وها هم يعودون الآن دون عمرة ، فبلغ بهم الغيظ مبلغه. فوقفوا واجمين أمام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالتحليق ، حتى أشفق عليهم ، وخاف من هلاكهم ، لتلكثهم في إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم حين أبصروه يحلق لم يعد أمامهم إلا إنفاذ الأمر ، والاقتداء بالنبي القائد ، رغم صعوبة القرار ومرارته في أفواههم ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً ، من فرط الغضب. ومما زاد من حراجة الموقف أنهم رأوا أبا جندل يرسف في الأغلال ، عائداً إلى المشركين ، وأبوه سهيل بن عمرو ، كبير مفاوضي مكة ، يوجه إليه الصفعات ، على مرأى ومسمع من إخوة العقيدة ، ولكنه الالتزام بشروط الصلح ، وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا دعوة بدون التزام ، ولا جندية حقة إلا بأعلى درجات الالتزام.


ج- لما كانت عضوية مجلس النواب تستلزم القسم على نص معين حدده الدستور والنظام الداخلي ، للإخوان فهم معين إزاءه ، رغم أن الشيخ محمد أبو زهرة لا يرى فيه بأساً ، فقد تدارسنا الأمر ، واتفقنا على إضافة عبارة ننفي عنا الحرج بها ، ورغم أن هذه العبارة ورمت لها أنوف ، وثار حولها جدل ، إلا أنه تم الالتزام بإضافة هذه العبارة. لقد كانت اجتهاداتنا ووجهات نظرنا تتباين وهو أمر فطري ومشروع ، ولكن حين يتخذ القرار لم يكن أمامنا إلى الالتزام. وباستثناء حالات نادرة جداً خلال ثماني سنوات كان الالتزام في أبهى صوره.
ج- لما كانت عضوية [[مجلس النواب]] تستلزم القسم على نص معين حدده [[الدستور]] والنظام الداخلي ، [[للإخوان]] فهم معين إزاءه ، رغم أن الشيخ [[محمد أبو زهرة]] لا يرى فيه بأساً ، فقد تدارسنا الأمر ، واتفقنا على إضافة عبارة ننفي عنا الحرج بها ، ورغم أن هذه العبارة ورمت لها أنوف ، وثار حولها جدل ، إلا أنه تم الالتزام بإضافة هذه العبارة. لقد كانت اجتهاداتنا ووجهات نظرنا تتباين وهو أمر فطري ومشروع ، ولكن حين يتخذ القرار لم يكن أمامنا إلى الالتزام. وباستثناء حالات نادرة جداً خلال ثماني سنوات كان الالتزام في أبهى صوره.


د- حين أحسن المسئول أن حكومة السيد طاهر المصري يصعب عليها نيل الثقة ، لأسباب عدة ، بعضها مبدئي ، وبعضها مصلحي ، فقد اتصل ببعض النواب ، الذين صدر عنهم ما يشعر أنهم سيحجبون الثقة ، وتم إقناعهم بمنح الحكومة الثقة ، بينما لم يتم الاتصال بأي منا لقناعتهم بالتزامنا بقرارنا ، فحمى التزامنا إخواننا من التناقض ، حين راح الكثيرون يتوارون من النسا ، إزاء التناقض الفاضح بين الخطاب والموقف.
د- حين أحسن المسئول أن حكومة السيد [[طاهر المصري]] يصعب عليها نيل الثقة ، لأسباب عدة ، بعضها مبدئي ، وبعضها مصلحي ، فقد اتصل ببعض النواب ، الذين صدر عنهم ما يشعر أنهم سيحجبون الثقة ، وتم إقناعهم بمنح الحكومة الثقة ، بينما لم يتم الاتصال بأي منا لقناعتهم بالتزامنا بقرارنا ، فحمى التزامنا [[الإخوان|إخواننا]] من التناقض ، حين راح الكثيرون يتوارون من النسا ، إزاء التناقض الفاضح بين الخطاب والموقف.


هـ- حين بدأ مجلس النواب مناقشة إحالة بعض كبار المسئولين في الفترات السابقة إلى المحكمة ، بتهمة الفساد المالي والإداري ، مورست كثير من الضغوط على بعض النواب ، وتدخلت بعض الاعتبارات لحرف إرادتهم وتغيير موقفهم ، ولكن نوابنا تمسكوا بموقفهم ، والتزموا بقرارهم ، وعبروا عنه بأوضح عبارة.
هـ- حين بدأ [[مجلس النواب]] مناقشة إحالة بعض كبار المسئولين في الفترات السابقة إلى المحكمة ، بتهمة الفساد المالي والإداري ، مورست كثير من الضغوط على بعض النواب ، وتدخلت بعض الاعتبارات لحرف إرادتهم وتغيير موقفهم ، ولكن نوابنا تمسكوا بموقفهم ، والتزموا بقرارهم ، وعبروا عنه بأوضح عبارة.


والحديث عن هذه القضية يطول ، وقد يحتاج إلى وقفة أطول ، أن مد الله في العمر ، وهيأ الأسباب. إلا أن ثمت قضية يمكن أن تثار ، مفادها أن بعض الأشخاص لم يلتزموا ببعض القرارات. وجوابي على ذلك صحيح ، إن هنالك بعض التجاوزات وهي مرفوضة وخارجة على الأصل ، ولكنني أرى ، أن على صاحب القرار أن يجتهد أن يكون قراره صحيحاً ، وصادرا بطريقة صحيحة ، وأن يكون مقنعاً لمن سيطبق القرار ، لأن المسلم لا يقبل منطق « ما أريكم إلا ما أرى » ولا يستطيع أن يلغي عقله ، وهنا أذكر بموقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يوم جاء يجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شروط الحديبية ، وحين راح يناقش أبا بكر الصديق فيها ، ولم يوقفه عن الجدال إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا عبد الله ورسوله ولن أعصي أمره ولن يضيعني » وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه « الزم غرزه » كما أذكر بامرأة جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكى القرآن الكريم جدالها « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها » وأذكر بمقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه « اللهم اكفني بلالا وصحبه » حين نجم الخلاف في قضية أرض السواد.
والحديث عن هذه القضية يطول ، وقد يحتاج إلى وقفة أطول ، أن مد الله في العمر ، وهيأ الأسباب. إلا أن ثمت قضية يمكن أن تثار ، مفادها أن بعض الأشخاص لم يلتزموا ببعض القرارات. وجوابي على ذلك صحيح ، إن هنالك بعض التجاوزات وهي مرفوضة وخارجة على الأصل ، ولكنني أرى ، أن على صاحب القرار أن يجتهد أن يكون قراره صحيحاً ، وصادرا بطريقة صحيحة ، وأن يكون مقنعاً لمن سيطبق القرار ، لأن المسلم لا يقبل منطق « ما أريكم إلا ما أرى » ولا يستطيع أن يلغي عقله ، وهنا أذكر بموقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يوم جاء يجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شروط الحديبية ، وحين راح يناقش أبا بكر الصديق فيها ، ولم يوقفه عن الجدال إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا عبد الله ورسوله ولن أعصي أمره ولن يضيعني » وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه « الزم غرزه » كما أذكر بامرأة جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكى القرآن الكريم جدالها « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها » وأذكر بمقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه « اللهم اكفني بلالا وصحبه » حين نجم الخلاف في قضية أرض السواد.


إن القرار الذي يتخذ بطريقة شورية صحيحة وفي الوقت المناسب ، والذي يأتي نتيجة طبيعية لحوار موسع مع كل المعنيين بتطبيق القرار ، يعين على الالتزام بالقرار إلا أن القرار ما لم يكن حراماً يستلزم الالتزام على كل حال. بينما تعمل النصيحة والنقد الموضوعي على إشاعة روح التسامح ، وتعميق مساحة الفهم المشترك ، الذي ينتج عنه وحدة التصور وتوحد المواقف.
إن القرار الذي يتخذ بطريقة شورية صحيحة وفي الوقت المناسب ، والذي يأتي نتيجة طبيعية لحوار موسع مع كل المعنيين بتطبيق القرار ، يعين على الالتزام بالقرار إلا أن القرار ما لم يكن حراماً يستلزم الالتزام على كل حال. بينما تعمل النصيحة والنقد الموضوعي على إشاعة روح التسامح ، وتعميق مساحة الفهم المشترك ، الذي ينتج عنه وحدة التصور وتوحد المواقف.


==الدرس الرابع: التعلق بالفكرة لا بالأشخاص==
==الدرس الرابع: التعلق بالفكرة لا بالأشخاص==


فكرة الإخوان المسلمين فكرة إسلامية ،  تستند إلى الكتاب والسنة والفهم الحصيف لهما. والحكم على الأشخاص والأشياء والواقع يتم استناداً إلى هذين الأصلين الكبيرين ، انطلاقاً من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم « تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ». والأشخاص على جلال قدرهم ، وعظيم بلائهم ، في الدعوة إلى الله عز وجل ، تقاس مواقفهم بالاستناد إلى الفكرة ، فيكبر أحدهم بمقدار تمثله الفكرة وتمسكه بها. ويفقد من وزنه بمقدار ما ينأى عن الفكرة التي التقينا عليها ، أو يتناقض معها ، ومن هنا فإن التعلق لا يكون بالأشخاص وإنما بالفكرة والدعوة ، ولقد حمى هذا الفهم الدعوة من تقديس الأشخاص ، كما يحصل في الأنظمة الوضعية ، أو بعض الفرق الصوفية. وهذا القضية واضحة أشد الوضوح في كتاب الله عز وجل ، ففي ث عن الإسراء والمعراج ، يأتي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية ، حتى لا يختلط مقام العبودية بمقام الربوبية ، فيضل المسلمون كما ضل النصارى واليهود حين قالوا : المسيح بن الله وعزير بن الله وفي الحديث عن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الكلام حاسماً جازما « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين » فالرسل يموتون ويقتلون ، ولكن الله باق والدعوة مستمرة.
فكرة [[الإخوان المسلمين]] فكرة إسلامية ،  تستند إلى الكتاب والسنة والفهم الحصيف لهما. والحكم على الأشخاص والأشياء والواقع يتم استناداً إلى هذين الأصلين الكبيرين ، انطلاقاً من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم « تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ». والأشخاص على جلال قدرهم ، وعظيم بلائهم ، في [[الإخوان|الدعوة]] إلى الله عز وجل ، تقاس مواقفهم بالاستناد إلى [[الإخوان المسلمين|الفكرة]] ، فيكبر أحدهم بمقدار تمثله [[الإخوان المسلمين|الفكرة]] وتمسكه بها. ويفقد من وزنه بمقدار ما ينأى عن الفكرة التي التقينا عليها ، أو يتناقض معها ، ومن هنا فإن التعلق لا يكون بالأشخاص وإنما ب[[الإخوان المسلمين|الفكرة]] و[[الإخوان|الدعوة]] ، ولقد حمى هذا الفهم [[الإخوان|الدعوة]] من تقديس الأشخاص ، كما يحصل في الأنظمة الوضعية ، أو بعض الفرق الصوفية. وهذا القضية واضحة أشد الوضوح في كتاب الله عز وجل ، ففي ث عن الإسراء والمعراج ، يأتي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية ، حتى لا يختلط مقام العبودية بمقام الربوبية ، فيضل [[المسلمون]] كما ضل النصارى و[[اليهود]] حين قالوا : المسيح بن الله وعزير بن الله وفي الحديث عن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الكلام حاسماً جازما « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين » فالرسل يموتون ويقتلون ، ولكن الله باق و[[الإخوان|الدعوة]] مستمرة.


إن رسوخ هذا المعنى لدى الإخوان المسلمين ، حفظ لهم صفهم حين تعرضت الجماعة لبعض الهزات ، بخروج بعض الرموز بالاستقالة أو الفصل ، أو الخروج على الموقف. وهذا الصمود والتماسك أمام الضغوط النفسية والاجتماعية ، يحتاج إلى استعدادات عالية ، تعززها تربية مستمرة ، فقد يكون الشخص أو الأشخاص الخارجون على الصف ، تربطهم ببعض الدعاة قرابة أو صداقة أو علاقة ، وقد يكونون سبباً لتعريفهم بالدعوة وانتظامهم فيها ، وقد يكونون من أصحاب السابقة في الدعوة والبلاء في سبيلها ، وقد يكونون أصحاب قدرة عالية على التأثير والأخذ بمجامع القلوب ، ويتناسب التماسك والالتزام إزاء مثل هذه القضية طرديا مع الفهم الواعي للدعوة ، والإخلاص لها والتجرد لله عز وجل. وهذا يحتاج إلى مزيد من الصلة بالله تبارك وتعالى ، من خلال علاقة متصلة بكتاب الله ، فهما وتدبرا ومزيد من مجاهدة النفس بالعبادة ، فإن للإيمان الصادق ، والمجاهدة نوراً وحلاوة ، يقذفها الله في قلوب العباد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
إن رسوخ هذا المعنى لدى [[الإخوان المسلمين]] ، حفظ لهم صفهم حين تعرضت الجماعة لبعض الهزات ، بخروج بعض الرموز بالاستقالة أو الفصل ، أو الخروج على الموقف. وهذا الصمود والتماسك أمام الضغوط النفسية والاجتماعية ، يحتاج إلى استعدادات عالية ، تعززها تربية مستمرة ، فقد يكون الشخص أو الأشخاص الخارجون على الصف ، تربطهم ببعض الدعاة قرابة أو صداقة أو علاقة ، وقد يكونون سبباً لتعريفهم ب[[الإخوان|الدعوة]] وانتظامهم فيها ، وقد يكونون من أصحاب السابقة في [[الإخوان|الدعوة]] والبلاء في سبيلها ، وقد يكونون أصحاب قدرة عالية على التأثير والأخذ بمجامع القلوب ، ويتناسب التماسك والالتزام إزاء مثل هذه القضية طرديا مع الفهم الواعي [[الإخوان|للدعوة]] ، والإخلاص لها والتجرد لله عز وجل. وهذا يحتاج إلى مزيد من الصلة بالله تبارك وتعالى ، من خلال علاقة متصلة بكتاب الله ، فهما وتدبرا ومزيد من مجاهدة النفس بالعبادة ، فإن للإيمان الصادق ، والمجاهدة نوراً وحلاوة ، يقذفها الله في قلوب العباد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).


ومن هنا فإن رهانات المراهنين على تصدع الجماعة إزاء بعض الحالات الفردية ، من الخروج على الجماعة ، باءت بالفشل ، رغم الضجيج الإعلامي الذي رافق كل حالة من هذه الحالات ، وبقيت الجماعة متماسكة موحدة ، رغم مكر الليل والنهار ، على أن لا يفهم من هذا أن الدعوة تزهد بالأشخاص ، وتحط من مكانتهم ، وتقلل من فضلهم وسبقهم ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الناس ، حتى احتاج إلى قدر من المواساة ، يحمله الوحي الكريم ، حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات ، وقد كان حزنه شديداً وهو يرى من يتفلتون من الدين. حتى واساه الله تبارك وتعالى بقوله (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) ومن هنا فإنني أرى ضرورة التمسك بكل فرد في هذا التنظيم ، والحيلولة دون الخروج منه أو عليه. وعدم التهاون في هذه القضية. إن التنظيم يحتاج إلى ضبط ، ويحتاج إلى قدر من الالتزام ، وأن الخروج على القرار يستدعي المسألة ، ويستوجب العقوبة ، ولكن القرار الحصيف ، الذي استكمل شرائط الشورى الشرعية ، يقلل من حالات الخروج على القرار ، بينما يدفع القرار المتسرع ، المفتقر إلى الشورى الحقيقية ، إلى التعبير عن التمرد على القرار بصورة من الصور. أن على صاحب القرار أن يدرك ، أن العقوبة ليست هدفاً ، ولكنها وسيلة ، تسبقها وسائل كثيرة ، من تربية ونصح وحوار. فإذا لم تجد كل هذه الوسائل ، جاء دور العقوبة ، على أن تكون من جهة مؤهلة ، ووفقاً لقانون عادل يتميز عن القوانين الوضعية ، ويستلهم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كما أن العقوبة ينبغي أن تكون متدرجة ، وأن لا تكون أكبر من المخالفة ، وإلا يظهر فيها أثر للانتصار للذات. وأن لا يظهر فيها الشعور بالتشفي والانتقام ، وأن لا تغلق الطريق على التائبين. أن العقوبة لا تنهي صلة الفرد بالجماعة ، ولا تحرمه حقوق الإخوة التي كفلتها الشريعة الغراء ، فلقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب ، حين لعن خالد بن الوليد ماعزا ، وقد أوقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الرجم ، كما رأينا أصحاب المصطفى عليه الصلاة والسلام يتسابقون إلى تهنئة كعب بن مالك وصاحبيه ، بعد نزول التوبة عليهم بعد مقاطعة استمرت خمسين يوماً.
ومن هنا فإن رهانات المراهنين على تصدع [[الإخوان|الجماعة]] إزاء بعض الحالات الفردية ، من الخروج على [[الإخوان|الجماعة]] ، باءت بالفشل ، رغم الضجيج الإعلامي الذي رافق كل حالة من هذه الحالات ، وبقيت [[الإخوان|الجماعة]] متماسكة موحدة ، رغم مكر الليل والنهار ، على أن لا يفهم من هذا أن [[الإخوان|الدعوة]] تزهد بالأشخاص ، وتحط من مكانتهم ، وتقلل من فضلهم وسبقهم ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الناس ، حتى احتاج إلى قدر من المواساة ، يحمله الوحي الكريم ، حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات ، وقد كان حزنه شديداً وهو يرى من يتفلتون من الدين. حتى واساه الله تبارك وتعالى بقوله (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) ومن هنا فإنني أرى ضرورة التمسك بكل فرد في هذا التنظيم ، والحيلولة دون الخروج منه أو عليه. وعدم التهاون في هذه القضية. إن التنظيم يحتاج إلى ضبط ، ويحتاج إلى قدر من الالتزام ، وأن الخروج على القرار يستدعي المسألة ، ويستوجب العقوبة ، ولكن القرار الحصيف ، الذي استكمل شرائط الشورى الشرعية ، يقلل من حالات الخروج على القرار ، بينما يدفع القرار المتسرع ، المفتقر إلى الشورى الحقيقية ، إلى التعبير عن التمرد على القرار بصورة من الصور. أن على صاحب القرار أن يدرك ، أن العقوبة ليست هدفاً ، ولكنها وسيلة ، تسبقها وسائل كثيرة ، من تربية ونصح وحوار. فإذا لم تجد كل هذه الوسائل ، جاء دور العقوبة ، على أن تكون من جهة مؤهلة ، ووفقاً لقانون عادل يتميز عن القوانين الوضعية ، ويستلهم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كما أن العقوبة ينبغي أن تكون متدرجة ، وأن لا تكون أكبر من المخالفة ، وإلا يظهر فيها أثر للانتصار للذات. وأن لا يظهر فيها الشعور بالتشفي والانتقام ، وأن لا تغلق الطريق على التائبين. أن العقوبة لا تنهي صلة الفرد ب[[الإخوان|الجماعة]] ، ولا تحرمه حقوق [[الإخوان|الإخوة]] التي كفلتها الشريعة الغراء ، فلقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب ، حين لعن خالد بن الوليد ماعزا ، وقد أوقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الرجم ، كما رأينا أصحاب المصطفى عليه الصلاة والسلام يتسابقون إلى تهنئة كعب بن مالك وصاحبيه ، بعد نزول التوبة عليهم بعد مقاطعة استمرت خمسين يوماً.


==الدرس الخامس : شجاعة لا تعرف التهور==
==الدرس الخامس : شجاعة لا تعرف التهور==
   
   
علمتنا دعوة الإخوان المسلمين كيف نعتز بإيماننا ، وندافع عن دعوتنا ، ونصدر عن فكرتنا ، ونقف في وجه الخطأ أو الانحراف ، مهما كانت الجهة التي صدر عنها ، إرضاء لله وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجيل الأول الذي تتلمذ على يديه الكريمتين ، فكان بحق خير القرون ، وتحقيقاً لمصالح أمتنا. وذلك يحتاج إلى قدر عال من الشجاعة ، فلا غرابة أن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم أشجع الناس ، بكل ما تعني كلمة الشجاعة من الصراحة والوضوح والثبات على الموقف ، والصبر على البلاء ، والتجلد للمصائب ، وأن من يردد « الرسول قدوتنا » لا بد أن يمتلك قدراً عالياً من الشجاعة ، التي تمثل صفة من أبرز صفات المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ولعل من المفيد أن أعرض بعض صور الشجاعة ، التي تعلمناها من هذه الدعوة المباركة.
علمتنا [[|الإخوان|دعوة]] [[الإخوان المسلمين]] كيف نعتز بإيماننا ، وندافع عن دعوتنا ، ونصدر عن فكرتنا ، ونقف في وجه الخطأ أو الانحراف ، مهما كانت الجهة التي صدر عنها ، إرضاء لله وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجيل الأول الذي تتلمذ على يديه الكريمتين ، فكان بحق خير القرون ، وتحقيقاً لمصالح أمتنا. وذلك يحتاج إلى قدر عال من الشجاعة ، فلا غرابة أن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم أشجع الناس ، بكل ما تعني كلمة الشجاعة من الصراحة والوضوح والثبات على الموقف ، والصبر على البلاء ، والتجلد للمصائب ، وأن من يردد « الرسول قدوتنا » لا بد أن يمتلك قدراً عالياً من الشجاعة ، التي تمثل صفة من أبرز صفات المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ولعل من المفيد أن أعرض بعض صور الشجاعة ، التي تعلمناها من هذه [[الإخوان|الدعوة]] المباركة.


- حين زار الأردن الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون ، قرر الإخوان المسلمون إصدار بيان بعنوان « عد إلى بلدك يا نكسون » انطلاقاً من أن الرؤساء الأمريكيين يتسابقون على تحقيق مصالح العدو الصهيوني ، على حساب أمتنا العربية والإسلامية ، ويقفون دوماً دون تحقيق أهداف أمتنا في النهوض والتقدم ، بغض النظر عن الرئيس الحاكم ، أو الحزب الحاكم الذي يملك الأغلبية في الكونجرس ، فتلك سياسة ثابتة لا تتغير. ووزع البيان على نطاق واسع ، واغتاظ المسئولون من البيان ، وتم اعتقال نفر من الإخوان ، وجيء بالأخ أبي ماجد إلى مجلس الملك ، وبحضور عدد من كبار المسئولين. وأحضر الإخوان الذين تم اعتقالهم ، ووجهت إليهم عدة أسئلة من كتب البيان؟ فأجابوا : الأخ أبو ماجد. ومن وزعه؟ قالوا : نحن. لماذا وزعتموه؟ قالوا : لأن الأخ أبا ماجد طلب منا ذلك. قالوا : وهل تنفذون ما يطلب منكم أبو ماجد؟ قالوا : لو طلب منا أن نلقي بأنفسنا في البحر لفعلنا. ولم يكن هؤلاء الصرحاء إلا نفرا من الإخوان ، فيهم الطالب والعامل والموظف ، ولم يمنعهم جلال الموقف من التعبير بشجاعة نادرة عن طاعتهم لأميرهم ، وتنفيذهم لما يطلب منهم. أن هذا الموقف نتاج تربية طويلة مستديمة ، رسخت في عقولهم أن الأجل محدود ، وهو بيد الله ، ولا تملك قوة أن تقدم فيه أو تؤخر « وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وأن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ».
- حين زار الأردن الرئيس الأمريكي الأسبق [[نيكسون]] ، قرر [[الإخوان المسلمون]] إصدار بيان بعنوان « [[عد إلى بلدك يا نكسون]] » انطلاقاً من أن الرؤساء الأمريكيين يتسابقون على تحقيق مصالح العدو الصهيوني ، على حساب أمتنا العربية والإسلامية ، ويقفون دوماً دون تحقيق أهداف أمتنا في النهوض والتقدم ، بغض النظر عن الرئيس الحاكم ، أو الحزب الحاكم الذي يملك الأغلبية في الكونجرس ، فتلك سياسة ثابتة لا تتغير. ووزع البيان على نطاق واسع ، واغتاظ المسئولون من البيان ، وتم اعتقال نفر من [[الإخوان]] ، وجيء بالأخ [[أبي ماجد]] إلى مجلس الملك ، وبحضور عدد من كبار المسئولين. وأحضر [[الإخوان]] الذين تم اعتقالهم ، ووجهت إليهم عدة أسئلة من كتب البيان؟ فأجابوا : الأخ [[أبو ماجد]]. ومن وزعه؟ قالوا : نحن. لماذا وزعتموه؟ قالوا : لأن الأخ أبا ماجد طلب منا ذلك. قالوا : وهل تنفذون ما يطلب منكم أبو ماجد؟ قالوا : لو طلب منا أن نلقي بأنفسنا في البحر لفعلنا. ولم يكن هؤلاء الصرحاء إلا نفرا من [[الإخوان]] ، فيهم الطالب والعامل والموظف ، ولم يمنعهم جلال الموقف من التعبير بشجاعة نادرة عن طاعتهم لأميرهم ، وتنفيذهم لما يطلب منهم. أن هذا الموقف نتاج تربية طويلة مستديمة ، رسخت في عقولهم أن الأجل محدود ، وهو بيد الله ، ولا تملك قوة أن تقدم فيه أو تؤخر « وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وأن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ».


- أن أكثر ما يذل الرقاب في هذه الحياة الحرص على الحياة ، والخوف على الرزق ، وهما أمران محسومان في التصور الإسلامي ، فإذا ما أيقن المرء أنهما بيد الله هان عليه كل صعب. ومن هنا فقد عزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الوهن ، الذي يصيب الأمة إلى حب الدنيا وكراهية الموت.
- أن أكثر ما يذل الرقاب في هذه الحياة الحرص على الحياة ، والخوف على الرزق ، وهما أمران محسومان في التصور الإسلامي ، فإذا ما أيقن المرء أنهما بيد الله هان عليه كل صعب. ومن هنا فقد عزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الوهن ، الذي يصيب الأمة إلى حب الدنيا وكراهية الموت.


- حين زار عمان لي أسبن عضو الكونجرس الأمريكي ، ورئيس اللجنة العسكرية في الكونجرس ، رتب له برنامج للالتقاء مع كبار المسئولين في البلد. وقد أرسلت السفارة الأمريكية في عمان إلى مكتب نواب الحركة الإسلامية رسالة عبر الفاكس ، تبدي فيها رغبتها في لقاء لي أسبن مع الكتلة النيابية للحركة الإسلامية ، وتلقيت الرسالة بصفتي أميناً للسر ، وعرضتها على الأخ المرحوم أحمد الأزايدة ، رئيس الكتلة والناطق الرسمي باسمها ، فانفعل رحمه الله خلافاً لما هو معروف عنه ، وقال : « لن التقي هذا (.....) أن دماء إخواننا الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين تسفك على يد الأمريكان ، وأن خليج العقبة محاصر من قبل الأمريكان ، فلا التقي معه أبداً ، قال هذا الكلام في الوقت الذي يتسابق كبار المسئولين على مقابلته وأمثاله. لقد كان حريصاً يرحمه الله على إيصال رسالة للدولة الأولى في العالم ، إن هنالك من يتمسك بالمبادئ ، ويصدر عنها ، رغم اختلال الموازين ، فكتب -رحمه الله- رسالة غاية في الأدب ، وغاية في الوضوح ، وغاية في الشجاعة. جاء فيها : أن ديننا يفرض علينا أن نرد على التحية بأحسن منها ، وأن نرحب بضيوفنا ونكرمهم ، ولكننا لا نستطيع أن نصافح اليد التي تسفك دماء إخواننا في فلسطين والعراق ، وتحاصر شعبنا في الأردن ».
- حين زار عمان لي أسبن عضو الكونجرس الأمريكي ، ورئيس اللجنة العسكرية في الكونجرس ، رتب له برنامج للالتقاء مع كبار المسئولين في البلد. وقد أرسلت السفارة الأمريكية في عمان إلى مكتب نواب الحركة الإسلامية رسالة عبر الفاكس ، تبدي فيها رغبتها في لقاء لي أسبن مع الكتلة النيابية للحركة الإسلامية ، وتلقيت الرسالة بصفتي أميناً للسر ، وعرضتها على الأخ المرحوم [[أحمد الأزايدة]] ، رئيس الكتلة والناطق الرسمي باسمها ، فانفعل رحمه الله خلافاً لما هو معروف عنه ، وقال : « لن التقي هذا (.....) أن دماء إخواننا الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين تسفك على يد الأمريكان ، وأن خليج العقبة محاصر من قبل الأمريكان ، فلا التقي معه أبداً ، قال هذا الكلام في الوقت الذي يتسابق كبار المسئولين على مقابلته وأمثاله. لقد كان حريصاً يرحمه الله على إيصال رسالة للدولة الأولى في العالم ، إن هنالك من يتمسك بالمبادئ ، ويصدر عنها ، رغم اختلال الموازين ، فكتب -رحمه الله- رسالة غاية في الأدب ، وغاية في الوضوح ، وغاية في الشجاعة. جاء فيها : أن ديننا يفرض علينا أن نرد على التحية بأحسن منها ، وأن نرحب بضيوفنا ونكرمهم ، ولكننا لا نستطيع أن نصافح اليد التي تسفك دماء إخواننا في [[فلسطين]] و[[:تصنيف:إخوان العراق|العراق]] ، وتحاصر شعبنا في [[:تصنيف:إخوان الأردن|الأردن]] ».


وحين توترت الأجواء بيننا وبين الحكومة ، في أعقاب معاهدة وادي عربة ، وتعرض بعض إخواننا النواب لاستدعاء من قبل المدعي العام ، وجه نائب الملك دعوة لقرابة خمسة عشر نائباً ، جلهم من الإخوان ، وحين وصلنا الديوان الملكي ، أطل علينا السيد محمد السقاف مستشار ولي العهد وقال : أنتم تعرفون لماذا جئتم. أنتم جئتم للسلام على سمو الأمير والاعتذار. فقلت على الفور : « لقد جئنا للسلام على سمو الأمير وللحوار ، ولم يصدر عنا ما يستوجب الاعتذار ، فإن كان هناك إصرار على الاعتذار ، فنحن جاهزون للمغادرة. وتكلم الأخ الدكتور إبراهيم زيد بنفس المعنى. وغادر المستشار الجلسة. ثم عاد بعد دقائق متجهم الوجه وقال « تفضلوا » ووجدنا أنفسنا في قاعة فيها وزير الداخلية ، ووزير العدل ، ووزير الأوقاف ، وأمام كل منهم ملف. وبدأ النقاش ، واحتدم بيننا حيث عرضنا بعض التجاوزات الرسمية على الحريات العامة ، بينما عرض الوزراء بعض ما يرونه تجاوزا من قبل أشخاص يرون أنهم محسوبون علينا. ثم دخل الأمير ، واستمر الحديث لكن على وتيرة أقل. وفي المساء نشر التلفزيون تقريراً حول هذا اللقاء ، ولما كان التقرير مخالفاً للحقيقة فقد أصدرنا بياناً رفضنا من خلاله عملية التحريف ، وأوضحنا الحقيقة كما نراها. ولا يعتبر هذا السلوك غريباً على المؤسسة الإعلامية وال علينا ، فقد كان التلفزيون يتعمد الإساءة إلى كلماتنا في مجلس النواب ، بحجب الكلمات ، أو اختيار مقاطع منها ، وفقاً لرغبة القائمين على المؤسسة ، وكثيراً ما طالبنا بإخراج التلفزيون من مجلس النواب.
وحين توترت الأجواء بيننا وبين الحكومة ، في أعقاب معاهدة وادي عربة ، وتعرض بعض إخواننا النواب لاستدعاء من قبل المدعي العام ، وجه نائب الملك دعوة لقرابة خمسة عشر نائباً ، جلهم من [[الإخوان]] ، وحين وصلنا الديوان الملكي ، أطل علينا [[السيد محمد السقاف]] مستشار ولي العهد وقال : أنتم تعرفون لماذا جئتم. أنتم جئتم للسلام على سمو الأمير والاعتذار. فقلت على الفور : « لقد جئنا للسلام على سمو الأمير وللحوار ، ولم يصدر عنا ما يستوجب الاعتذار ، فإن كان هناك إصرار على الاعتذار ، فنحن جاهزون للمغادرة. وتكلم الأخ الدكتور [[إبراهيم زيد]] بنفس المعنى. وغادر المستشار الجلسة. ثم عاد بعد دقائق متجهم الوجه وقال « تفضلوا » ووجدنا أنفسنا في قاعة فيها [[وزير الداخلية]] ، و[[وزير العدل]] ، ووزير الأوقاف ، وأمام كل منهم ملف. وبدأ النقاش ، واحتدم بيننا حيث عرضنا بعض التجاوزات الرسمية على الحريات العامة ، بينما عرض الوزراء بعض ما يرونه تجاوزا من قبل أشخاص يرون أنهم محسوبون علينا. ثم دخل الأمير ، واستمر الحديث لكن على وتيرة أقل. وفي المساء نشر التلفزيون تقريراً حول هذا اللقاء ، ولما كان التقرير مخالفاً للحقيقة فقد أصدرنا بياناً رفضنا من خلاله عملية التحريف ، وأوضحنا الحقيقة كما نراها. ولا يعتبر هذا السلوك غريباً على المؤسسة الإعلامية وال علينا ، فقد كان التلفزيون يتعمد الإساءة إلى كلماتنا في [[مجلس النواب]] ، بحجب الكلمات ، أو اختيار مقاطع منها ، وفقاً لرغبة القائمين على المؤسسة ، وكثيراً ما طالبنا بإخراج التلفزيون من [[مجلس النواب]].


أن هنالك الكثيرين ممن يملأون الدنيا صحبا وضجيجاً ، حتى إذا ضمهم مجلس مع أصحاب القرار ، أحجموا عن النطق بكلمة فيها انتقاد لسياسة ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر. ولكن الجماعة التي تعرف مقام النصيحة في دين الله ، ومنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يملك حملته إلا النهوض بهذه الأمانة ، وإلا فقدت مقومات وجودها ، « لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها » وليس بالضرورة أن تكون النصيحة قاسية ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعنيفا ، فربما أضاعت القسوة الهدف من النصيحة ، وربما أفسد التعنيف الغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من التزاوج العجيب ، بين الشجاعة والحكمة ، وفي لغتنا الشريفة من المرونة والسعة ، ما يشكل رصيدا للدعاة ، لينهضوا بواجبهم بشجاعة حكيمة ، تحقق مقاصد الشريعة ، وتعود بالخير على الناس.
أن هنالك الكثيرين ممن يملأون الدنيا صحبا وضجيجاً ، حتى إذا ضمهم مجلس مع أصحاب القرار ، أحجموا عن النطق بكلمة فيها انتقاد لسياسة ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر. ولكن [[الإخوان|الجماعة]] التي تعرف مقام النصيحة في دين الله ، ومنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يملك حملته إلا النهوض بهذه الأمانة ، وإلا فقدت مقومات وجودها ، « لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها » وليس بالضرورة أن تكون النصيحة قاسية ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعنيفا ، فربما أضاعت القسوة الهدف من النصيحة ، وربما أفسد التعنيف الغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من التزاوج العجيب ، بين الشجاعة والحكمة ، وفي لغتنا الشريفة من المرونة والسعة ، ما يشكل رصيدا [[الإخوان|للدعاة]] ، لينهضوا بواجبهم بشجاعة حكيمة ، تحقق مقاصد الشريعة ، وتعود بالخير على الناس.


- في لقاء مع ملك البلاد ، في الديوان الملكي ، ضم عدداً من النواب ، من رؤساء اللجان النيابية ورؤساء الكتل ، ولم يحضرها من كتلتنا إلا كاتب هذه السطور ، وعلى طعام الغداء ، جرى حديث تكلم فيه عدد من النواب ، واستأذنت بالحديث ، وكنت قد أعددت ورقة ، واستشرت الأخ الشيخ عبد الرحيم العكور بشأنها ، واتفقنا على قراءتها إذا كان ذلك ممكناً ، أو التحدث بما تضمنته ، إن تعذرت قراءتها ، أو تسليمها باليد ، إذا لم أتمكن من الخطوتين السابقتين. ولما كان متعذرا علي قراءتها على مائدة الطعام ، فقد تحدثت بمضمونها ، واستهلك حديثي بمآثر الشعب الأردني ، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وجدارته بكل خير. مستشهدا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « تفتحون الشام من بعدي من رفح إلى الفرات مرابطون إلى يوم القيامة رجالهم ونساؤهم وإماؤهم ». ثم تحدثت حول مفهومنا للوحدة الوطنية ، التي تقوم على الحقوق والواجبات ، وتحدثت عن الكرامة الإنسانية ، وضرورة التوازن بينها وبين الأمن الوطنين وأشرت إلى الممارسات التي تقوم بها الحكومة خلافاً للحق وللدستور وللتوجيهات الملكية. كما تحدثت عن التطوير والإصلاح الإداري ، وأكدت أن التطوير ما زال في مرحلة التنظير ، وأن التطوير الحقيقي ينطلق من قول الله عز وجل على لسان ابنة الرجل الصالح في مدين : « يا أبت أستئجره أن خير من استأجرت القوي الأمين ». وقد كنت أقرأ الإصغاء التام ، والاهتمام البالغ في قسمات وجه صاحب الجلالة ، يقابلهما امتعاض في نظرات صاحب الملك من رئيس الحكومة ، أن يتحدث عن الاتفاق مع الإخوة الفلسطينيين ، وكان وفد فلسطيني قد زار الأردن ، وأجرى مباحثات اقتصادية ، ولكن رئيس الحكومة قال : « أريد أن أرد على النائب حمزة منصور ، لأن من يسمعه يظن أننا نعمل خلافاً لتوجيهات جلالتكم»  ولكن الملك أصر على الحديث عن المباحثات الاقتصادية ، معلقاً بجملة قصيرة : أن النائب لا يعجبه النموذج الأفغاني ، ولا يقبل بأي إخلال بالأمن. وقد أبلغني سماحة الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني بعد أيام ، حيث كنا نلتقي للمعايدة في مقر جهة العمل الإسلامي ، نقلاً عن أخيه محمد رسول الكيلاني ، وكان يومها مستشارا للملك « إن صاحبكم بلغ أقوى رسالة بأعلى قدر من الأدب ».
- في لقاء مع ملك البلاد ، في الديوان الملكي ، ضم عدداً من النواب ، من رؤساء اللجان النيابية ورؤساء الكتل ، ولم يحضرها من كتلتنا إلا كاتب هذه السطور ، وعلى طعام الغداء ، جرى حديث تكلم فيه عدد من النواب ، واستأذنت بالحديث ، وكنت قد أعددت ورقة ، واستشرت الأخ الشيخ [[عبد الرحيم العكور]] بشأنها ، واتفقنا على قراءتها إذا كان ذلك ممكناً ، أو التحدث بما تضمنته ، إن تعذرت قراءتها ، أو تسليمها باليد ، إذا لم أتمكن من الخطوتين السابقتين. ولما كان متعذرا علي قراءتها على مائدة الطعام ، فقد تحدثت بمضمونها ، واستهلك حديثي بمآثر الشعب الأردني ، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وجدارته بكل خير. مستشهدا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « تفتحون الشام من بعدي من رفح إلى الفرات مرابطون إلى يوم القيامة رجالهم ونساؤهم وإماؤهم ». ثم تحدثت حول مفهومنا للوحدة الوطنية ، التي تقوم على الحقوق والواجبات ، وتحدثت عن الكرامة الإنسانية ، وضرورة التوازن بينها وبين الأمن الوطنين وأشرت إلى الممارسات التي تقوم بها الحكومة خلافاً للحق و[[للدستور]] وللتوجيهات الملكية. كما تحدثت عن التطوير و[[الإصلاح]] الإداري ، وأكدت أن التطوير ما زال في مرحلة التنظير ، وأن التطوير الحقيقي ينطلق من قول الله عز وجل على لسان ابنة الرجل الصالح في مدين : « يا أبت أستئجره أن خير من استأجرت القوي الأمين ». وقد كنت أقرأ الإصغاء التام ، والاهتمام البالغ في قسمات وجه صاحب الجلالة ، يقابلهما امتعاض في نظرات صاحب الملك من رئيس [[الحكومة]] ، أن يتحدث عن الاتفاق مع [[الإخوان|الإخوة]] الفلسطينيين ، وكان وفد فلسطيني قد زار [[:تصنيف:الإخوان في الأردن|الأردن]] ، وأجرى مباحثات اقتصادية ، ولكن رئيس الحكومة قال : « أريد أن أرد على النائب[[حمزة منصور]] ، لأن من يسمعه يظن أننا نعمل خلافاً لتوجيهات جلالتكم»  ولكن الملك أصر على الحديث عن المباحثات الاقتصادية ، معلقاً بجملة قصيرة : أن النائب لا يعجبه النموذج الأفغاني ، ولا يقبل بأي إخلال بالأمن. وقد أبلغني سماحة الشيخ [[إبراهيم زيد الكيلاني]] بعد أيام ، حيث كنا نلتقي للمعايدة في مقر جهة العمل الإسلامي ، نقلاً عن أخيه [[محمد رسول الكيلاني]] ، وكان يومها مستشارا للملك « إن صاحبكم بلغ أقوى رسالة بأعلى قدر من الأدب ».


- حين صدر إعلان واشنطن بشأن المفاوضات الأردنية الإسرائيلية ، اتصل بي وزير الداخلية ، وكان يومها السيد سلامة حماد. وطلب مني مقابلته في مكتبة في تمام الساعة الخامسة مساء. وفي الوقت المحدد كنت في مبنى الوزارة ، بعد أن أبلغت الأخ الأمين العام بالطلب ، واستقبلني الوزير مرحباً ، وقدم بمقدمة ركز من خلالها على الدور المسئول لجماعة الإخوان المسلمين ، وحرصهم على أمن البلاد ، والعلاقة التاريخية مع النظام ، وأنهم لا يقارنون بالأحزاب الأخرى ، التي راح يستعرض بعض ممارساتها وعلاقاتها ، كما يراها ، وخلص من ذلك إلى طلب إلغاء الاعتصام الرمزي ، الذي كان الأمناء العامون لأحزاب المعارضة قد قرروه ، بحجة أن الظرف دقيق ، والمرحلة لا تحتمل مثل هذا الاعتصام. فأجبته : أن هذا القرار ليس قرار جبهة العمل الإسلامي ، ولكنه قرار ثمانية أحزاب ولا أستطيع إلغاءه ، لا أنا ولا الأخ الأمين العام.
- حين صدر إعلان واشنطن بشأن المفاوضات الأردنية الإسرائيلية ، اتصل بي وزير الداخلية ، وكان يومها السيد سلامة حماد. وطلب مني مقابلته في مكتبة في تمام الساعة الخامسة مساء. وفي الوقت المحدد كنت في مبنى الوزارة ، بعد أن أبلغت الأخ الأمين العام بالطلب ، واستقبلني الوزير مرحباً ، وقدم بمقدمة ركز من خلالها على الدور المسئول ل[[جماعة الإخوان المسلمين]] ، وحرصهم على أمن البلاد ، والعلاقة التاريخية مع النظام ، وأنهم لا يقارنون بالأحزاب الأخرى ، التي راح يستعرض بعض ممارساتها وعلاقاتها ، كما يراها ، وخلص من ذلك إلى طلب إلغاء الاعتصام الرمزي ، الذي كان الأمناء العامون لأحزاب المعارضة قد قرروه ، بحجة أن الظرف دقيق ، والمرحلة لا تحتمل مثل هذا الاعتصام. فأجبته : أن هذا القرار ليس قرار جبهة [[العمل الإسلامي]] ، ولكنه قرار ثمانية أحزاب ولا أستطيع إلغاءه ، لا أنا ولا الأخ الأمين العام.


وحين يئس من محاولة إقناعي انصرفت ، ولم يمض طويل وقت حتى تم استدعاء الأمناء العامين للأحزاب إلى رئاسة الوزراء ، وكنت أحد المشاركين إلى جانب الأخ الأمين العام. ولدى وصولنا الرئاسة تبين لنا أن الاجتماع غير عادي ، وأنه من مجلس الأمن القومي ، وأن المطلوب الضغط على أصحاب القرار بالاعتصام لإلغائه. وقيل ليلتها كلام كثير وخطير ، ولكن أصحاب القرار بالاعتصام ، وعلى رأسهم أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي تمسكوا بقرارهم. لأن هذه الفعالية يقرها الدستور ، وهي حق طبيعي للمواطنين ، وتمثل الحد الأدنى إزاء الحدث الجلل. وفي صبيحة اليوم التالي ، وفي الساعة المحددة ، كان قادة الأحزاب في مقدمة المعتصمين أمام المسجد الحسيني الكبير.
وحين يئس من محاولة إقناعي انصرفت ، ولم يمض طويل وقت حتى تم استدعاء الأمناء العامين للأحزاب إلى رئاسة الوزراء ، وكنت أحد المشاركين إلى جانب الأخ الأمين العام. ولدى وصولنا الرئاسة تبين لنا أن الاجتماع غير عادي ، وأنه من مجلس الأمن القومي ، وأن المطلوب الضغط على أصحاب القرار بالاعتصام لإلغائه. وقيل ليلتها كلام كثير وخطير ، ولكن أصحاب القرار بالاعتصام ، وعلى رأسهم أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي تمسكوا بقرارهم. لأن هذه الفعالية يقرها [[الدستور]] ، وهي حق طبيعي للمواطنين ، وتمثل الحد الأدنى إزاء الحدث الجلل. وفي صبيحة اليوم التالي ، وفي الساعة المحددة ، كان قادة [[الأحزاب]] في مقدمة المعتصمين أمام المسجد الحسيني الكبير.


- على أثر مجزرة عيون قارة ، التي راح ضحيتها عدد من العمال الفلسطينيين ، على أيدي قوات الاحتلال الصهيونية ، وفقاً لخطتهم الرامية إلى تهجير الشعب الفلسطيني أو إبادته ، اتصل بي مدير شرطة العاصمة ، العميد غالب الزعبي ، وسألني عن مسيرة كان مقرراً القيام بها في الوحدات تضامنا مع الشعب الفلسطيني ، وتعبيرا عن الرفض للممارسات الصهيونية ، وسألني عن مشاركتي وأخي الدكتور أحمد نوفل في هذه المسيرة ، فأجبته بالإيجاب ، فطلب إلى إلغاء المسيرة فقلت له : أنا مشارك في هذه المسيرة ، ولست صاحب القرار في تسييرها ، وبالتالي فأنا لا أملك إلغاءها ، فأبدى مخاوفه من الآثار التي ستترتب على هذه المسيرة. فقلت له : أنا ضامن أن مسيرة الإخوان المسلمين مسيرة حضارية ، ليس من أهدافها التعرض لأمن الوطن أو تخريب المنشآت. وعقب صلاة الجمعة انطلقت المسيرة من مسجد المدارس ، وانضم إليها بعد ذلك أعداد كبيرة من أدوا الصلاة في مساجد أخرى ، وجابت شوارع الوحدات ، وألقيت الكلمات ، وعلت الهتافات المعبرة عن المناسبة بانضباطية عالية ، وحققت المسيرة الهدف المقرر لها ، واستجاب المشاركون لطلب قيادة المسيرة بالانصراف راشدين. وعندها توقفت قليلاً ، عند ثلة من رجال الأمن ، وحييتهم ، واستفسرت منهم فيما ، إذا رأوا أو سمعوا ما يكرهون ، فأجابوا بالنفي ، فحمدت الله تعالى على رشد شعبنا وأصالته.
- على أثر مجزرة عيون قارة ، التي راح ضحيتها عدد من العمال الفلسطينيين ، على أيدي قوات الاحتلال الصهيونية ، وفقاً لخطتهم الرامية إلى تهجير الشعب الفلسطيني أو إبادته ، اتصل بي مدير شرطة العاصمة ، العميد غالب الزعبي ، وسألني عن مسيرة كان مقرراً القيام بها في الوحدات تضامنا مع الشعب الفلسطيني ، وتعبيرا عن الرفض للممارسات الصهيونية ، وسألني عن مشاركتي وأخي الدكتور [[أحمد نوفل]] في هذه المسيرة ، فأجبته بالإيجاب ، فطلب إلى إلغاء المسيرة فقلت له : أنا مشارك في هذه المسيرة ، ولست صاحب القرار في تسييرها ، وبالتالي فأنا لا أملك إلغاءها ، فأبدى مخاوفه من الآثار التي ستترتب على هذه المسيرة. فقلت له : أنا ضامن أن مسيرة [[الإخوان المسلمين]] مسيرة حضارية ، ليس من أهدافها التعرض لأمن الوطن أو تخريب المنشآت. وعقب صلاة الجمعة انطلقت المسيرة من مسجد المدارس ، وانضم إليها بعد ذلك أعداد كبيرة من أدوا الصلاة في مساجد أخرى ، وجابت شوارع الوحدات ، وألقيت الكلمات ، وعلت الهتافات المعبرة عن المناسبة بانضباطية عالية ، وحققت المسيرة الهدف المقرر لها ، واستجاب المشاركون لطلب قيادة المسيرة بالانصراف راشدين. وعندها توقفت قليلاً ، عند ثلة من رجال الأمن ، وحييتهم ، واستفسرت منهم فيما ، إذا رأوا أو سمعوا ما يكرهون ، فأجابوا بالنفي ، فحمدت الله تعالى على رشد شعبنا وأصالته.


لدى مشاركتي في وفد مجلس الأمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 95 برئاسة العين طاهر حكمت ، اشتمل برنامجنا على عدد من الأنشطة ، منها زيارة الكونجرس الأمريكي ، والخارجية الأمريكية ، ومراكز الدراسات ، وهنا أسجل لرئيس الوفد حرصه على إعطائي الفرصة في التحدث بعده مباشرة ، باعتباري ممثلا للمعارضة الأردنية ، وكان الحديث غالباً ينصب حول موقف الولايات المتحدة الأمريكية من القضايا العربية والإسلامية ، وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي ، وكان حديثاً واضحاً وصريحا ، يدين الانحياز الأمريكي للعدو الصهيوني ، ويطالب بموقف محايد ، استناداً إلى المبادئ التي يتغنى بها الأمريكان ، ووفقاً لمصالحهم ، وهي بالتأكيد مع مليار وربع المليار من العرب والمسلمين ، وليست مع بضعة عشر مليون يهودي. وحين سئلت عن وجهة نظري في حل القضية الفلسطينية أجبت : الأمر بسيط ، هنالك مهاجرون يهود ، ومهاجرون عرب ، فاليهودي يعود من حيث جاء ، والعربي يعود من حيث أتى ، فشامير يعود إلى بولندا ، وأنا أعود إلى مرج ابن عامر.
لدى مشاركتي في وفد مجلس الأمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 95 برئاسة العين طاهر حكمت ، اشتمل برنامجنا على عدد من الأنشطة ، منها زيارة الكونجرس الأمريكي ، والخارجية الأمريكية ، ومراكز الدراسات ، وهنا أسجل لرئيس الوفد حرصه على إعطائي الفرصة في التحدث بعده مباشرة ، باعتباري ممثلا للمعارضة الأردنية ، وكان الحديث غالباً ينصب حول موقف الولايات المتحدة الأمريكية من القضايا العربية والإسلامية ، وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي ، وكان حديثاً واضحاً وصريحا ، يدين الانحياز الأمريكي للعدو الصهيوني ، ويطالب بموقف محايد ، استناداً إلى المبادئ التي يتغنى بها الأمريكان ، ووفقاً لمصالحهم ، وهي بالتأكيد مع مليار وربع المليار من [[العرب]] و[[المسلمين]] ، وليست مع بضعة عشر مليون يهودي. وحين سئلت عن وجهة نظري في حل القضية الفلسطينية أجبت : الأمر بسيط ، هنالك مهاجرون يهود ، ومهاجرون عرب ، فاليهودي يعود من حيث جاء ، والعربي يعود من حيث أتى ، فشامير يعود إلى بولندا ، وأنا أعود إلى مرج ابن عامر.


إن هذه الصراحة والوضوح في التعبير عن القناعة المستندة إلى مبادئ الأمة وثوابتها ، يعود الفضل فيها إلى التربية الدعوية التي تقول أبجدياتها : (وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). على أن الشجاعة عند الإخوان المسلمين لا تعرف التهور ، فهي منضبطة بضوابط شرعية. فالصراحة لا تعني التطاول على الناس ، والتمسك بالموقف لا يعني التعنت والتعصب ، ولكنهم يقابلون الحجة بالحجة ، ويوازنون بين صلابة الموقف وأدب الخطاب ، وتلك لعمر الحق عين الحكمة. أذكر أن مجلسا جمعنا ذات يوم مع السيد ذوقان الهنداوي ، نائب رئيس الوزراء ، وقد أورد بعض الشواهد على تجاوزات بعض الخطباء -والحكومة حساسة في الغالب إزاء خطب الجمعة- فقال : أن خطبة الشيخ حمزة تأتينا كل أسبوع ، ورغم قوة الطرح إزاء القضايا التي يتناولها ، إلا أننا لا نجد ملاحظة واحدة تشكل خروجاً على القانون ، وإن كانت هذه الشهادة لم تحمني من سيف وزارة الأوقاف التي نفذ صبرها ، في الذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين ، فاصدر وزير الأوقاف قراره بتوقيفي عن الخطابة ، ولكن هذه التصرفات الرسمية لن تستفزنا ، ولن تخرجنا عن الحكة التي لا نعترف بشجاعة لا ترافقها الحكمة ، شعوراً ما أننا أم الولد كما يقولون.
إن هذه الصراحة والوضوح في التعبير عن القناعة المستندة إلى مبادئ الأمة وثوابتها ، يعود الفضل فيها إلى التربية الدعوية التي تقول أبجدياتها : (وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). على أن الشجاعة عند [[الإخوان المسلمين]] لا تعرف التهور ، فهي منضبطة بضوابط شرعية. فالصراحة لا تعني التطاول على الناس ، والتمسك بالموقف لا يعني التعنت والتعصب ، ولكنهم يقابلون الحجة بالحجة ، ويوازنون بين صلابة الموقف وأدب الخطاب ، وتلك لعمر الحق عين الحكمة. أذكر أن مجلسا جمعنا ذات يوم مع السيد ذوقان الهنداوي ، نائب رئيس الوزراء ، وقد أورد بعض الشواهد على تجاوزات بعض الخطباء -والحكومة حساسة في الغالب إزاء خطب الجمعة- فقال : أن خطبة الشيخ حمزة تأتينا كل أسبوع ، ورغم قوة الطرح إزاء القضايا التي يتناولها ، إلا أننا لا نجد ملاحظة واحدة تشكل خروجاً على القانون ، وإن كانت هذه الشهادة لم تحمني من سيف وزارة الأوقاف التي نفذ صبرها ، في الذكرى الخمسين لاغتصاب [[فلسطين]] ، فاصدر وزير الأوقاف قراره بتوقيفي عن الخطابة ، ولكن هذه التصرفات الرسمية لن تستفزنا ، ولن تخرجنا عن الحكة التي لا نعترف بشجاعة لا ترافقها الحكمة ، شعوراً ما أننا أم الولد كما يقولون.


==الدرس السادس : جرأة في الحق==
==الدرس السادس : جرأة في الحق==
   
   
إن هذه الدعوة التي تستهدف إقامة منهج الله في الأرض ، تستلزم قدراً عالياً من الجرأة والإقدام ، لأن الطريق محفوفة بالمكاره ، ومن هنا فإن حمل الدعوة يحتاج إلى جرأة ، وتبليغها يحتاج إلى إقدام ، والقيام بشرائط عضويتها يحتاج إلى شجاعة ، وتنفيذ واجباتها يحتاج إلى مثل ذلك.
إن هذه [[الإخوان|الدعوة]] التي تستهدف إقامة منهج الله في الأرض ، تستلزم قدراً عالياً من الجرأة والإقدام ، لأن الطريق محفوفة بالمكاره ، ومن هنا فإن حمل [[الإخوان|الدعوة]] يحتاج إلى جرأة ، وتبليغها يحتاج إلى إقدام ، والقيام بشرائط عضويتها يحتاج إلى شجاعة ، وتنفيذ واجباتها يحتاج إلى مثل ذلك.
 
ومن هنا فإن [[الإخوان|الدعوة]] ببرامجها التربوية ، والنماذج العملية التي تقدمها ، تربي أفرادها على الجرأة في قول كلمة الحق ، فالخطبة الإخوانية متميزة في وضوحها وصراحتها ومعالجتها للقضايا الهامة ، والبيان [[الإخوان|الإخواني]] لا يجامل ولا يتجاهل الحقائق ، و[[الخطاب الدعوي]] والسياسي يصدع بالحق. لذا فلا غرابة أن نجد قطاعات الحقائق ، و[[الخطاب الدعوي]] والسياسي يصدع بالحق. لذا فلا غرابة أن نجد قطاعات عريضة تلهج ألسنتها بالثناء على جرأة [[الإخوان المسلمين]] وشجاعتهم ، وأود أن أورد بعض الشواهد على ذلك :


ومن هنا فإن الدعوة ببرامجها التربوية ، والنماذج العملية التي تقدمها ، تربي أفرادها على الجرأة في قول كلمة الحق ، فالخطبة الإخوانية متميزة في وضوحها وصراحتها ومعالجتها للقضايا الهامة ، والبيان الإخواني لا يجامل ولا يتجاهل الحقائق ، والخطاب الدعوي والسياسي يصدع بالحق. لذا فلا غرابة أن نجد قطاعات الحقائق ، والخطاب الدعوي والسياسي يصدع بالحق. لذا فلا غرابة أن نجد قطاعات عريضة تلهج ألسنتها بالثناء على جرأة الإخوان المسلمين وشجاعتهم ، وأود أن أورد بعض الشواهد على ذلك :
- حين كنت خطيباً لمسجد « أبو علندا الكبير » في منتصف السبعينيات ، وكنت قد تشرفت بهذه المهمة منذ عام [[1970]] ، وكنت أدرك أن الخطيب مراقب ، وأن خطبة الجمعة تتم دراستها من أطراف عدة ، وأن مسألة تترتب على كل ما يراه أصحاب القرار تجاوزا للخطوط الحمراء. ولكنني كنت على يقين أن اعتلاء المنبر أمانة ، لا يجوز أن يرتقي إليها إلا من أداها بحقها ، ومن تأديتها بحقها قول كلمة الحق ، وأن أغضبت بعض الجهات رسمية كانت أو شعبية. فالحق أحق أن يتبع ، والله سبحانه يقول وهو أصدق القائلين : « فلا تخشوا الناس واخشون » والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحقرن أحدكم نفسه » وحين سئل عليه الصلاة والسلام : كيف يحقر أحدنا نفسه؟ أجاب : « أن يقف موقفاً فيه لله مقال فلا يقول؟ ». لقد كنت حريصاً أن تكون الخطبة معنية بالمستجدات على الساحة المحلية والوطنية والإسلامية ، وأن أربط كل ذلك بهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام ، إدراكا مني أن تناولها مجردة يجعلها حديثاً صحفياً ، وعرض هدي محمد صلى الله عليه وسلم دون تنزيله على الواقع فصل للدين عن الحياة. وقد كان بعض الرقباء أحياناً ، يتعاملون بأساليب قديمة وسطحية ، وتخرج عن حدود الذوق العام. أذكر أن أحدهم كان يقف بأساليب قديمة وسطحية ، وتخرج عن حدود الذوق العام. أذكر أن أحدهم كان يقف بلباسه الرسمي بباب المسجد ، ويمسك بورقة وقلم ويدون ما يرى تدوينه مما يرى ويسمع. حتى إذا قضيت الصلاة رجاني أن أوصله إلى مكان عمله في طريقي ، فسألته ذات يوم : هل أنت مسلم؟ فأجاب « نعم ». فقلت له : أن الذي يراك واقفاً خارج المسجد ، أثناء الصلاة يظنك غير مسلم. فهلا أديت الصلاة واستمعت إلى الخطبة بنية العبادة. فقال : « إنها وظيفة » فقلت : « '''لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق''' » وبإمكانك إن كنت فاعلاً لا محالة -وأنا أرى أن التجسس على [[المسلم]] حرام- أن تحضر معك مسجلاً ، وأن تسجل ما تسمع دون أن تخسر الصلاة وتعرض نفسك لانتقاد الناس ».
- حين كنت خطيباً لمسجد « أبو علندا الكبير » في منتصف السبعينيات ، وكنت قد تشرفت بهذه المهمة منذ عام 1970 ، وكنت أدرك أن الخطيب مراقب ، وأن خطبة الجمعة تتم دراستها من أطراف عدة ، وأن مسألة تترتب على كل ما يراه أصحاب القرار تجاوزا للخطوط الحمراء. ولكنني كنت على يقين أن اعتلاء المنبر أمانة ، لا يجوز أن يرتقي إليها إلا من أداها بحقها ، ومن تأديتها بحقها قول كلمة الحق ، وأن أغضبت بعض الجهات رسمية كانت أو شعبية. فالحق أحق أن يتبع ، والله سبحانه يقول وهو أصدق القائلين : « فلا تخشوا الناس واخشون » والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحقرن أحدكم نفسه » وحين سئل عليه الصلاة والسلام : كيف يحقر أحدنا نفسه؟ أجاب : « أن يقف موقفاً فيه لله مقال فلا يقول؟ ». لقد كنت حريصاً أن تكون الخطبة معنية بالمستجدات على الساحة المحلية والوطنية والإسلامية ، وأن أربط كل ذلك بهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام ، إدراكا مني أن تناولها مجردة يجعلها حديثاً صحفياً ، وعرض هدي محمد صلى الله عليه وسلم دون تنزيله على الواقع فصل للدين عن الحياة. وقد كان بعض الرقباء أحياناً ، يتعاملون بأساليب قديمة وسطحية ، وتخرج عن حدود الذوق العام. أذكر أن أحدهم كان يقف بأساليب قديمة وسطحية ، وتخرج عن حدود الذوق العام. أذكر أن أحدهم كان يقف بلباسه الرسمي بباب المسجد ، ويمسك بورقة وقلم ويدون ما يرى تدوينه مما يرى ويسمع. حتى إذا قضيت الصلاة رجاني أن أوصله إلى مكان عمله في طريقي ، فسألته ذات يوم : هل أنت مسلم؟ فأجاب « نعم ». فقلت له : أن الذي يراك واقفاً خارج المسجد ، أثناء الصلاة يظنك غير مسلم. فهلا أديت الصلاة واستمعت إلى الخطبة بنية العبادة. فقال : « إنها وظيفة » فقلت : « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » وبإمكانك إن كنت فاعلاً لا محالة -وأنا أرى أن التجسس على المسلم حرام- أن تحضر معك مسجلاً ، وأن تسجل ما تسمع دون أن تخسر الصلاة وتعرض نفسك لانتقاد الناس ».


كنت أرى مثل هذا الرقيب ، ولكنني أمضي في خطبتي كما أعددت لها ، دون اعتبار لمن يكتب أو يسجل ، إيماناً مني بأن مخافة الله هي التي تحدد ما أقول وليست رقابة الرقباء.
كنت أرى مثل هذا الرقيب ، ولكنني أمضي في خطبتي كما أعددت لها ، دون اعتبار لمن يكتب أو يسجل ، إيماناً مني بأن مخافة الله هي التي تحدد ما أقول وليست رقابة الرقباء.


ومثل هذا الموقف يتكرر في كل ندوة أو محاضرة أو مهرجان ، ورائدنا في ذلك ما تعلمناه في الدروس الأولى في جماعة الإخوان المسلمين ، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ». ومن ذلك أيضاً تناول ما يجد على الساحة المحلية بروح النصح والإشفاق والتحذير ، وليس بروح الفضيحة والتشفي والتشهير. فلقد بلغني ذات يوم أن تنافسا بين أبناء العمومة في الانتخابات البلدية ، خرج عن حده المقبول فاستحضرت حالة مشابهة شهدتها سحاب ، وكان الثمن غالباً ، حيث خلفت دماء وجراحات واعتقالات وعداوات. فكان لا بد لي أن أحذر من مغبة ما يترتب على هذا التنافس ، وقد قدرت أن تناول الموضوع ليس سهلاً بسبب حساسيته. فجعلت موضوع خطبتي الإمارة والأمير ، ومسست الموضوع مسا خفيفاً ، أدركت أنه وصل قلوب العقلاء ، وبعد الصلاة وقف أحد المصلين وقال : « الليلة على بيت أبو راشد حلال المشاكل ». وكم سعدت في الجمعة التالية ، حين علمت أن الأمر تمت تسويته ، وتجنبت البلدة شراً نستعيذ بالله منه. والأمثلة على ذلك كثيرة منها أنني علمت ذات يوم أن التنافس دفع ببعض المواطنين إلى تصيد الأخطاء والمناسبات ، للإيقاع بمنافسيهم ، ولا سيما بعد أن رأيت نفرا منهم في أحد المراكز الأمنية ، فصعب علي ذلك ، وأنا حريص على أن تبقى هذه البلدة بمنأى عن الشحناء والبغضاء. فعزمت على جعل هذا الموضوع محور خطبتي ، وتخيرت له القاعدة المناسبة من معاني الأخوة ، متجلية في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلوك أصحابه عليهم رضوان الله. وتأسيسا على ذلك فقد حذرت من الظنون ، وتتبع العورات ، والإيقاع بالمسلمين وإيذائهم ، مستشهدا بفيض من النصوص القرآنية الكريمة ، والنبوية الشريفة ، دون أن أدخل في التفاصيل على قاعدة « ما بال أقوام ». وكم كانت سعادتي حين بشرني أبو هلال بعد ليال ، بأن القضية قد انتهت ، ووئدت الفتنة في مهدها. إن الشر من مستصغر الشرر ، وأن خير أسلوب للتعامل مع المشكلات الجرأة في المواجهة ، والحكمة في التعامل ، والصدق في النية ، فتحسم الشرور ولا تتفاقم فتصبح داء عضالا.
ومثل هذا الموقف يتكرر في كل ندوة أو محاضرة أو مهرجان ، ورائدنا في ذلك ما تعلمناه في الدروس الأولى في [[جماعة الإخوان المسلمين]] ، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ». ومن ذلك أيضاً تناول ما يجد على الساحة المحلية بروح النصح والإشفاق والتحذير ، وليس بروح الفضيحة والتشفي والتشهير. فلقد بلغني ذات يوم أن تنافسا بين أبناء العمومة في الانتخابات البلدية ، خرج عن حده المقبول فاستحضرت حالة مشابهة شهدتها سحاب ، وكان الثمن غالباً ، حيث خلفت دماء وجراحات واعتقالات وعداوات. فكان لا بد لي أن أحذر من مغبة ما يترتب على هذا التنافس ، وقد قدرت أن تناول الموضوع ليس سهلاً بسبب حساسيته. فجعلت موضوع خطبتي الإمارة والأمير ، ومسست الموضوع مسا خفيفاً ، أدركت أنه وصل قلوب العقلاء ، وبعد الصلاة وقف أحد المصلين وقال : « الليلة على بيت أبو راشد حلال المشاكل ». وكم سعدت في الجمعة التالية ، حين علمت أن الأمر تمت تسويته ، وتجنبت البلدة شراً نستعيذ بالله منه. والأمثلة على ذلك كثيرة منها أنني علمت ذات يوم أن التنافس دفع ببعض المواطنين إلى تصيد الأخطاء والمناسبات ، للإيقاع بمنافسيهم ، ولا سيما بعد أن رأيت نفرا منهم في أحد المراكز الأمنية ، فصعب علي ذلك ، وأنا حريص على أن تبقى هذه البلدة بمنأى عن الشحناء والبغضاء. فعزمت على جعل هذا الموضوع محور خطبتي ، وتخيرت له القاعدة المناسبة من معاني [[الإخوان|الأخوة]] ، متجلية في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلوك أصحابه عليهم رضوان الله. وتأسيسا على ذلك فقد حذرت من الظنون ، وتتبع العورات ، والإيقاع ب[[المسلمين]] وإيذائهم ، مستشهدا بفيض من النصوص القرآنية الكريمة ، والنبوية الشريفة ، دون أن أدخل في التفاصيل على قاعدة « ما بال أقوام ». وكم كانت سعادتي حين بشرني أبو هلال بعد ليال ، بأن القضية قد انتهت ، ووئدت الفتنة في مهدها. إن الشر من مستصغر الشرر ، وأن خير أسلوب للتعامل مع المشكلات الجرأة في المواجهة ، والحكمة في التعامل ، والصدق في النية ، فتحسم الشرور ولا تتفاقم فتصبح داء عضالا.


- حين تقدم الرئيس المكلف الشريف زيد بن شاكر ببيان حكومته ، طالباً الثقة على أساسه ، قال لي أحد كبار الضباط المتقاعدين : « لن يجرؤ أحد على حجب الثقة عن الرئيس ، أو الاعتراض على بيان حكومته. لان هذا الرئيس ليس كسائر الرؤساء ، الذين حجبتهم عنهم الثقة ، فهو قائد عسكري ، وابن عم الملك. فقلت له : أنك لا تعرف حقيقة الإخوان المسلمين ، أنهم يستندون في مواقفهم إلى القواعد الإسلامية. ويقتدون في ذلك بأصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، الذين كانوا يقولون : « لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها » وجاء موعد مناقشة البيان وأعد الإخوان ردهم عليه وتم إلقاؤه في الموعد المحدد ، وكان كما أراد الإخوان ، وكما يؤمل فيهم من يعرفهم. وأذكر أننا ضمنا لقاء مع رئيس الوزراء بعد أن استمع إلى كلمتنا فقال : « كنت أتوقع أن تحجبوا الثقة عن حكومتي ، ولكن لم يخطر لي ببال أن ردكم سيكون بهذه القوة » فكان جوابنا أن قوة الطرح أمانة ، نتحمل مسئوليتها عند الله ، أما الأدب فهو خلقنا في التعامل ، فهل رأيت منا خروجاً على الأدب؟ قال : « لا » قلنا : « الحمد لله».
- حين تقدم الرئيس المكلف الشريف زيد بن شاكر ببيان حكومته ، طالباً الثقة على أساسه ، قال لي أحد كبار الضباط المتقاعدين : « لن يجرؤ أحد على حجب الثقة عن الرئيس ، أو الاعتراض على بيان حكومته. لان هذا الرئيس ليس كسائر الرؤساء ، الذين حجبتهم عنهم الثقة ، فهو قائد عسكري ، وابن عم الملك. فقلت له : أنك لا تعرف حقيقة [[الإخوان المسلمين]] ، أنهم يستندون في مواقفهم إلى القواعد الإسلامية. ويقتدون في ذلك بأصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، الذين كانوا يقولون : « لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها » وجاء موعد مناقشة البيان وأعد [[الإخوان]] ردهم عليه وتم إلقاؤه في الموعد المحدد ، وكان كما أراد [[الإخوان]] ، وكما يؤمل فيهم من يعرفهم. وأذكر أننا ضمنا لقاء مع رئيس الوزراء بعد أن استمع إلى كلمتنا فقال : « كنت أتوقع أن تحجبوا الثقة عن حكومتي ، ولكن لم يخطر لي ببال أن ردكم سيكون بهذه القوة » فكان جوابنا أن قوة الطرح أمانة ، نتحمل مسئوليتها عند الله ، أما الأدب فهو خلقنا في التعامل ، فهل رأيت منا خروجاً على الأدب؟ قال : « لا » قلنا : « الحمد لله».


- وحين نعوض الشيخ عبد المنعم أبو زنط لاعتداء آثم ، أثناء خروجه من مسجد أبي هريرة ، عقب صلاة الجمعة ، اتصل بي بعض الإخوة من منطقة حي نزال ، لإبلاغي بما حدث ، فسارعت إلى الاتصال برئيس الوزراء الدكتور عبد السلام المجالي ، ولكنني لم أتمكن من مهاتفته فاتصلت بوزير الداخلية السيد سلامة حماد ، وحين سمعت صوته قلت : « أوفعلتموها يا أبا ماهر؟ وهل وصل بكم الحد أن تضربوا الشيخ عبد المنعم أبو زنط؟ فقال : « الشيخ بخير وهو يهتف للإسلام ». فقلت : « سنبقى نهتف للإسلام ». وعلى الفور ، هاتف الأخ الأمين العام الدكتور إسحق الفرحان ، مخبرا إياه بما تم ، واقترحت عليه سلسلة من اللقاءات ، لقاء للمكتب التنفيذي فوراً ، ولقاء للجنة القانونية ، ولقاء للأمناء العامين لأحزاب المعارضة ، ولقاء لنواب كتلة جبهة العمل الإسلامي ، ثم لقاء لجميع النواب في تمام الساعة الثامنة مساء ، ولقد كان أبو أحمد كعادته يحترم اقتراحات إخوانه ، وينزل على الصائب منها ، ويتحمس لها وكأنها صادرة عنه ثم هاتفت الشيخ عبد العزيز جبر ، واتفقت معه على التوجه إلى مسجد أبي هريرة ، حيث كنت قد أبلغت أن المصلين محاصرون في المسجد ، وخلال دقائق معدودة توقفنا على مقربة من المسجد ، حيث وجدنا أعداداً كبير من رجال الأمن يحيطون بالمنطقة ، ومضينا في طريقنا بعد أن عرفناهم بأنفسنا إلى المسجد ، ولكن المسجد كان قد خلا تماماً من المصلين ، ولم يعد فيه أحد. وبعد سلسلة من الاجتماعات التي اتفقنا عليها ، وبعد أن أطمأننا على وضع إخينا في المستشفى ، حيث قام الإخوان عبد العزيز جبر والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني بزيارته ، كما قام رئيس مجلس النواب بزيارته كذلك ، اتفقنا على كيفية التحرك من خلال مجلس النواب. وقد عهد إلى الدكتور عبد الله العكايلة بإلقاء كلمة باسم الكتلة النيابية ، تدين الاعتداء ، وتحمل الحكومة مسئوليته ، وتطالب بتشكيل لجنة برئاسة رئيس مجلس النواب للتحقيق فيما جرى ، وتقديم تقريرها للمجلس. وجاءت كلمة الدكتور العكايلة متناسبة مع قداحة الحادث. المتمثل بالاعتداء على نائب يمثل الشعب ويحظى بثقته ، فضلاً عن أنه شيخ معمم ، وإن الاعتداء عليه تم في بيت الله عز وجل. ونظراً لقوة الطرح وسلامة التحرك ، فقد كان التجاوب في أعلى مستوياته. وتم تشكيل اللجنة المعنية بالتحقيق.
- وحين نعوض الشيخ [[عبد المنعم أبو زنط]] لاعتداء آثم ، أثناء خروجه من مسجد أبي هريرة ، عقب صلاة الجمعة ، اتصل بي بعض [[الإخوان|الإخوة]] من منطقة حي نزال ، لإبلاغي بما حدث ، فسارعت إلى الاتصال برئيس الوزراء الدكتور عبد السلام المجالي ، ولكنني لم أتمكن من مهاتفته فاتصلت ب[[وزير الداخلية]] السيد سلامة حماد ، وحين سمعت صوته قلت : « أوفعلتموها يا أبا ماهر؟ وهل وصل بكم الحد أن تضربوا الشيخ [[عبد المنعم أبو زنط]]؟ فقال : « الشيخ بخير وهو يهتف للإسلام ». فقلت : « سنبقى نهتف للإسلام ». وعلى الفور ، هاتف الأخ الأمين العام الدكتور [[إسحق الفرحان]] ، مخبرا إياه بما تم ، واقترحت عليه سلسلة من اللقاءات ، لقاء للمكتب التنفيذي فوراً ، ولقاء للجنة القانونية ، ولقاء للأمناء العامين لأحزاب المعارضة ، ولقاء لنواب كتلة جبهة [[العمل الإسلامي]] [[ئ]]، ثم لقاء لجميع النواب في تمام الساعة الثامنة مساء ، ولقد كان أبو أحمد كعادته يحترم اقتراحات إخوانه ، وينزل على الصائب منها ، ويتحمس لها وكأنها صادرة عنه ثم هاتفت الشيخ [[عبد العزيز جبر]] ، واتفقت معه على التوجه إلى مسجد أبي هريرة ، حيث كنت قد أبلغت أن المصلين محاصرون في المسجد ، وخلال دقائق معدودة توقفنا على مقربة من المسجد ، حيث وجدنا أعداداً كبير من رجال الأمن يحيطون بالمنطقة ، ومضينا في طريقنا بعد أن عرفناهم بأنفسنا إلى المسجد ، ولكن المسجد كان قد خلا تماماً من المصلين ، ولم يعد فيه أحد. وبعد سلسلة من الاجتماعات التي اتفقنا عليها ، وبعد أن أطمأننا على وضع إخينا في المستشفى ، حيث قام [[الإخوان]] [[عبد العزيز جبر]] والدكتور [[إبراهيم زيد الكيلاني]] بزيارته ، كما قام رئيس [[مجلس النواب]] بزيارته كذلك ، اتفقنا على كيفية التحرك من خلال [[مجلس النواب]]. وقد عهد إلى الدكتور [[عبد الله العكايلة]] بإلقاء كلمة باسم الكتلة النيابية ، تدين الاعتداء ، وتحمل [[الحكومة]] مسئوليته ، وتطالب بتشكيل لجنة برئاسة رئيس [[مجلس النواب]] للتحقيق فيما جرى ، وتقديم تقريرها للمجلس. وجاءت كلمة الدكتور العكايلة متناسبة مع قداحة الحادث. المتمثل بالاعتداء على نائب يمثل الشعب ويحظى بثقته ، فضلاً عن أنه شيخ معمم ، وإن الاعتداء عليه تم في بيت الله عز وجل. ونظراً لقوة الطرح وسلامة التحرك ، فقد كان التجاوب في أعلى مستوياته. وتم تشكيل اللجنة المعنية بالتحقيق.


- حين فرغت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب من مناقشة معاهدة وادي عربة ، والتنسيب بالموافقة عليها ، بعد أن استبسل إخواننا في محاولة إقناع الزملاء برفضها. بعد أن كشفنا الكثير من عيوبها وأخطارها. قرر رئيس مجلس النواب دعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشتها في جلسة صباحية. وقد أعد كل واحد من أعضاء الكتلة كلمة ، توضح أخطار المعاهدة ، وتدعو إلى عدم الموافقة عليها ، بينما سجل إخواننا أعضاء اللجنة -وكنا يومها ثلاثة- مخالفة مدروسة بعناية لأغلبية أعضاء اللجنة. وفي طريقي إلى مكتب نواب جبهة العمل الإسلامي أبصرت انتشاراً أمنيا واسعاً ، ومظاهر عسكرية غير مسبوقة. في المنطقة المحيطة بمجلس الأمة. فهاتفت رئيس الوزراء ، فلم أعثر عليه ، ثم هاتفت نائب رئيس الوزراء قائلاً ماذا يعني الانتشار الأمني الكثيف؟ وهل تريدون مناقشة المعاهدة تحت الحراب؟ أرجو أن لا تذكرونا بعام 1970 ، أنني أطالب بإزالة المظاهر المسلحة لتتم المناقشة في ظروف عادية. وفي اجتماع عاجل لأعضاء الكتلة تم الاتفاق على المكث في قاعة الصور حتى تزول المظاهر العسكرية ، وتوجه إخواننا وبعض الزملاء الذين يقفون موقفنا من المعاهدة إلى قاعة الصور ، وإصرارنا على عدم دخول قاعة المجلس حتى تتم إزالة المظاهر المسلحة. وحين اكتمل النصاب لم يكن أمامنا إلا الدخول حتى لا نخسر فرصتنا في إلقاء كلماتنا ، وحتى لا يقال أن الموافقة على المعاهدة تمت بالإجماع. وبعد تلاوة تقرير لجنة الشئون الخارجية جاء دوري في إلقاء مخالفتي ، وكانت الحكومة قد حشدت أعداد كبيرة من العناصر الأمنية ، أو سمحت بدخولها على الأقل بملابس مدنية. وأخذوا أماكنهم في الشرفات ، وحين بدأت بإلقاء مخالفتي في إظهار أخطار المعاهدة ، كانت تتعالى الأصوات من الشرفات ، بغية التأثير علي ، أو التعبير عن رفضها لما أقول. فتوقفت عن تلاوة المخالفة ، ووجهت الحديث إلى رئيس المجلس ، مطالباً إياه بالاضطلاع بمسئولياته ، وتطبيق النظام الداخلي الذي يوجب عليه وقف التشويش ، وعدم السماح بعبارات الاستحسان والاستهجان. وحين كررت الطلب مهدداً بالتوقف عن الحديث وارتفعت أصوات إخواني بالاحتجاج على ممارسات الحضور ، الذين جيء بهم للتشويش ، وعلى عدم تعامل رئيس المجلس بالحزم إزاء هذه المخالفات. عندها استجاب رئيس المجلس وحاول وضع حد للتشويش. لقد كنا ننطلق في هذه المواقف من منطلقين ، أولهما إرضاء الله تعالى ، الذي أوجب علينا تقديم النصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتستقيم الأمور ، ولنحمي أنفسنا من سخط الله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب. وثانيهما وفاء بالأمانة التي أناطها بنا شعبنا الطيب الذي قال : « نعم للإسلام هو الحل » فهي وكالة عن الشعب ، ينبغي القيام بها بأمانة ، وإلا عد السلوك نكوصا عن الواجب ، وتضييعا للأمانة ، وتفريطا بالحقوق.
- حين فرغت لجنة العلاقات الخارجية في [[مجلس النواب]] من مناقشة معاهدة وادي عربة ، والتنسيب بالموافقة عليها ، بعد أن استبسل إخواننا في محاولة إقناع الزملاء برفضها. بعد أن كشفنا الكثير من عيوبها وأخطارها. قرر رئيس [[مجلس النواب]] دعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشتها في جلسة صباحية. وقد أعد كل واحد من أعضاء الكتلة كلمة ، توضح أخطار المعاهدة ، وتدعو إلى عدم الموافقة عليها ، بينما سجل إخواننا أعضاء اللجنة -وكنا يومها ثلاثة- مخالفة مدروسة بعناية لأغلبية أعضاء اللجنة. وفي طريقي إلى مكتب نواب جبهة [[العمل الإسلامي]] أبصرت انتشاراً أمنيا واسعاً ، ومظاهر عسكرية غير مسبوقة. في المنطقة المحيطة بمجلس الأمة. فهاتفت رئيس الوزراء ، فلم أعثر عليه ، ثم هاتفت نائب رئيس الوزراء قائلاً ماذا يعني الانتشار الأمني الكثيف؟ وهل تريدون مناقشة المعاهدة تحت الحراب؟ أرجو أن لا تذكرونا بعام [[1970]] ، أنني أطالب بإزالة المظاهر المسلحة لتتم المناقشة في ظروف عادية. وفي اجتماع عاجل لأعضاء الكتلة تم الاتفاق على المكث في قاعة الصور حتى تزول المظاهر العسكرية ، وتوجه إخواننا وبعض الزملاء الذين يقفون موقفنا من المعاهدة إلى قاعة الصور ، وإصرارنا على عدم دخول قاعة المجلس حتى تتم إزالة المظاهر المسلحة. وحين اكتمل النصاب لم يكن أمامنا إلا الدخول حتى لا نخسر فرصتنا في إلقاء كلماتنا ، وحتى لا يقال أن الموافقة على المعاهدة تمت بالإجماع. وبعد تلاوة تقرير لجنة الشئون الخارجية جاء دوري في إلقاء مخالفتي ، وكانت [[الحكومة]] قد حشدت أعداد كبيرة من العناصر الأمنية ، أو سمحت بدخولها على الأقل بملابس مدنية. وأخذوا أماكنهم في الشرفات ، وحين بدأت بإلقاء مخالفتي في إظهار أخطار المعاهدة ، كانت تتعالى الأصوات من الشرفات ، بغية التأثير علي ، أو التعبير عن رفضها لما أقول. فتوقفت عن تلاوة المخالفة ، ووجهت الحديث إلى رئيس المجلس ، مطالباً إياه بالاضطلاع بمسئولياته ، وتطبيق النظام الداخلي الذي يوجب عليه وقف التشويش ، وعدم السماح بعبارات الاستحسان والاستهجان. وحين كررت الطلب مهدداً بالتوقف عن الحديث وارتفعت أصوات إخواني بالاحتجاج على ممارسات الحضور ، الذين جيء بهم للتشويش ، وعلى عدم تعامل رئيس المجلس بالحزم إزاء هذه المخالفات. عندها استجاب رئيس المجلس وحاول وضع حد للتشويش. لقد كنا ننطلق في هذه المواقف من منطلقين ، أولهما إرضاء الله تعالى ، الذي أوجب علينا تقديم النصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتستقيم الأمور ، ولنحمي أنفسنا من سخط الله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب. وثانيهما وفاء بالأمانة التي أناطها بنا شعبنا الطيب الذي قال : « نعم للإسلام هو الحل » فهي وكالة عن الشعب ، ينبغي القيام بها بأمانة ، وإلا عد السلوك نكوصا عن الواجب ، وتضييعا للأمانة ، وتفريطا بالحقوق.


==الدرس السابع: أدب من غير ذلة==
==الدرس السابع: أدب من غير ذلة==
   
   
أن دعوة تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك حملتها إلا أن يكونوا على قدر عال من الأدب ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من رقة في الطبع ، وسماحة في التعامل ، وحلم مع الجاهل ، وإيصال للرسالة بسلاسة ويسر ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس مع الجاهلين ، وأوسع الخلق صدرا مع المسيئين ، وأعظم الناس عفواً حين يمكنه الله من المتطاولين عليه والمجترئين. والأمثلة على ذلك حافلة بها كتب السنن والسير. ولما كانت دعوة الإخوان المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم مقتدية ، ولخطاه مقتفية ، فقد أتيح لحملتها قدر عال من هذا الشرف. ولعل في مقدمتهم الإمام الشهيد حسن البنا ، الذي طالما علم إخوانه وأصحابه العبارة المأثورة : « كونوا مع الناس كالشجر ، يرمونه بالحجر ، فيرميهم بالثمر » وما أعظمها حكمة تفتح لصاحبها قلوب العالمين! ولعل هذه الميزة في مقدمة الميزات التي جمعت القلوب على حبه ، ولعل من خير ما علمت عنه في هذا المجال حادثة رواها لنا الشيخ محمد جبر ، فقد كنا نغشاهما ، ونجلس إليهما ، ونتبادل الأحاديث معهما ، فروى لنا هذه الواقعة فقال : كان في مصر ثلاثة إذا قالوا نعم قال شعب مصر نعم ، وإذا قالوا لا قال الشعب لا. أنهم حسن البنا ويوسف القرضاوي وحسن دوح. ولم يشأ أن يتركنا دون مثال يؤكد من خلاله الفكرة التي أوردها ، ويكشف عن السر الذي من أجله تربعوا على عرش القلوب فقال : « كان الإخوان المسلمون قد بنوا سرادقا ضخماً في إحدى المناسبات ، واجتمع فيه خلق كثير ، وكان المتحدث الشيخ حسن البنا رحمه الله ، فاستأجر بعض خصومهم السياسيين أحد رجال العصابات ليفشل هذا الحفل على الإخوان ، واسمه إبراهيم كروي. فدخل إبراهيم السرداق ، وكان الإمام البنا قد وقف للحديث ، فبادره الإمام الشهيد بالتحية على الطريقة المصرية « أي يا سي إبراهيم آنست وشرفت » فرد على التحية بقوله : « لا آنست ولا... » فقال الإمام : « أي يا سي إبراهيم عايز آية »؟ فأجابه إبراهيم : « ما فيش حفل » فقال الإمام « حاضر » ثم قال : « ما رأي سيادتك أتكلم خمس دقائق؟ فقال إبراهيم : « تكلم » فلما انتهت الدقائق الخمس قال الإمام : « آي يا سي إبراهيم أتكلم ولا بلاش »؟ فقال : « تكلم » فتكلم خمس عشرة دقيقة وتوقف ، ووجه سؤالاً آخر : « آي يا سي إبراهيم أتكلم ولا أوقف »؟ فقال إبراهيم : « تكلم لي بقول لك وقف حاوقف إدماغه ». هذا درس بليغ لمن كان له قلب. لقد كان باستطاعة الشيخ أن يامر اثنين من إخوانه فيخرجاه من السرداق ، ويعلماه أن الإخوان ليس حائطهم واطيا ولكنه أراد أن يعلم الناس كيف تكسب القلوب وتستل الأحقاد والسخائم. فليت الذين ينفرون الناس من الدعوة بفظاظتهم وتجهمهم وتعاليهم عليهم والعجز عن استيعابهم يتعلمون من الإمام المعلم ، الذي جدد فينا هدي نبينا عليه الصلاة والسلام.
أن دعوة تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك حملتها إلا أن يكونوا على قدر عال من الأدب ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من رقة في الطبع ، وسماحة في التعامل ، وحلم مع الجاهل ، وإيصال للرسالة بسلاسة ويسر ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس مع الجاهلين ، وأوسع الخلق صدرا مع المسيئين ، وأعظم الناس عفواً حين يمكنه الله من المتطاولين عليه والمجترئين. والأمثلة على ذلك حافلة بها كتب السنن والسير. ولما كانت دعوة [[الإخوان المسلمين]] برسول الله صلى الله عليه وسلم مقتدية ، ولخطاه مقتفية ، فقد أتيح لحملتها قدر عال من هذا الشرف. ولعل في مقدمتهم [[البنا|الإمام الشهيد]] [[حسن البنا]] ، الذي طالما علم إخوانه وأصحابه العبارة المأثورة : « كونوا مع الناس كالشجر ، يرمونه بالحجر ، فيرميهم بالثمر » وما أعظمها حكمة تفتح لصاحبها قلوب العالمين! ولعل هذه الميزة في مقدمة الميزات التي جمعت القلوب على حبه ، ولعل من خير ما علمت عنه في هذا المجال حادثة رواها لنا الشيخ [[محمد جبر]] ، فقد كنا نغشاهما ، ونجلس إليهما ، ونتبادل الأحاديث معهما ، فروى لنا هذه الواقعة فقال : كان في [[مصر]] ثلاثة إذا قالوا نعم قال شعب [[مصر]] نعم ، وإذا قالوا لا قال الشعب لا. أنهم [[حسن البنا]] و[[يوسف القرضاوي]] و[[حسن دوح]]. ولم يشأ أن يتركنا دون مثال يؤكد من خلاله الفكرة التي أوردها ، ويكشف عن السر الذي من أجله تربعوا على عرش القلوب فقال : « كان [[الإخوان المسلمون]] قد بنوا سرادقا ضخماً في إحدى المناسبات ، واجتمع فيه خلق كثير ، وكان المتحدث الشيخ [[حسن البنا]] رحمه الله ، فاستأجر بعض خصومهم السياسيين أحد رجال العصابات ليفشل هذا الحفل على [[الإخوان]] ، واسمه [[إبراهيم كروي]]. فدخل إبراهيم السرداق ، وكان [[البنا|الإمام]] [[البنا]] قد وقف للحديث ، فبادره [[البنا|الإمام الشهيد]] بالتحية على الطريقة المصرية « أي يا سي إبراهيم آنست وشرفت » فرد على التحية بقوله : « لا آنست ولا... » فقال [[البنا|الإمام]] : « أي يا سي إبراهيم عايز آية »؟ فأجابه إبراهيم : « ما فيش حفل » فقال [[البنا|الإمام]] « حاضر » ثم قال : « ما رأي سيادتك أتكلم خمس دقائق؟ فقال إبراهيم : « تكلم » فلما انتهت الدقائق الخمس قال .: « آي يا سي إبراهيم أتكلم ولا بلاش »؟ فقال : « تكلم » فتكلم خمس عشرة دقيقة وتوقف ، ووجه سؤالاً آخر : « آي يا سي إبراهيم أتكلم ولا أوقف »؟ فقال إبراهيم : « تكلم لي بقول لك وقف حاوقف إدماغه ». هذا درس بليغ لمن كان له قلب. لقد كان باستطاعة الشيخ أن يامر اثنين من إخوانه فيخرجاه من السرداق ، ويعلماه أن [[الإخوان]] ليس حائطهم واطيا ولكنه أراد أن يعلم الناس كيف تكسب القلوب وتستل الأحقاد والسخائم. فليت الذين ينفرون الناس من [[الإخوان|الدعوة]] بفظاظتهم وتجهمهم وتعاليهم عليهم والعجز عن استيعابهم يتعلمون من [[البنا|الإمام]] المعلم ، الذي جدد فينا هدي نبينا عليه الصلاة والسلام.


- اذكر أن نفرا من النواب دعوا ذات يوم إلى لقاء مع الأمير الحسن. وكنت أحدهم ، والأمير كما هو الملك ، يرغب بين الفينة والفينة في مثل هذا اللقاء ، يسمع من خلاله ويسمع ، ويوصل بعض الرسائل. فأدليت يومها بدلوي كسائر الحاضرين. وأنا أحرص في مثل هذه المناسبة أن أكون معبراً عن دعوتي ، لأدفع عنها ظلم الظالمين ، ممن لا يتقون الله فيحاولون أن يوغروا صدور المسئولين على الدعوة والدعاة. وهذا بعض ما ابتليت به دعوتنا وأمتنا. فتحدثت يومها عن وطنية الإخوان المسلمين ، التي أفرد هلا الإمام الشهيد مساحة كبيرة في الرسائل ، وعن مفهومنا للوحدة الوطنية والأمن الوطني ، وقد قدمت لذلك بعبارة : أن جلسة يديرها أمير عالم توفر فرصة كبيرة للمصارحة وإن كانت هذه العبارة أسيء فهمها واستغلالها ممن يستكثرون على المرء كلمة يفهم منها مدح المسئول واعتقد أن هذه إحدى السلبيات التي ابتلى بها بعضنا... وكنا يومها في بدايات معركة سياسية تتعلق بتوجه الحكومة لرفع الدعم عن الخبز والأعلاف ، وأذكر مما قال : « لقد استمعت بالأمس إلى الشيخ حمزة منصور وهو يتكلم فأحسست أن الوطن يتكلم » ، وذلك في معرض حديثه عن مسئولية الحركة الإسلامية ، ودورها في خدمة الهم الوطني. وأجد من الأمانة هنا أن أؤكد ، أن الرجل كثيراً ما كان يؤكد على أهمية استمرار التفاهم والانسجام ، بين الحركة الإسلامية والنظام خدمة للجميع ، وحماية للأردن مما ابتليت به بعض الأقطار العربية ، جراء الصدام بين الأنظمة والإسلاميين.
- اذكر أن نفرا من النواب دعوا ذات يوم إلى لقاء مع الأمير الحسن. وكنت أحدهم ، والأمير كما هو الملك ، يرغب بين الفينة والفينة في مثل هذا اللقاء ، يسمع من خلاله ويسمع ، ويوصل بعض الرسائل. فأدليت يومها بدلوي كسائر الحاضرين. وأنا أحرص في مثل هذه المناسبة أن أكون معبراً عن دعوتي ، لأدفع عنها ظلم الظالمين ، ممن لا يتقون الله فيحاولون أن يوغروا صدور المسئولين على [[الإخوان|الدعوة]] و[[الإخوان|الدعاة]]. وهذا بعض ما ابتليت به دعوتنا وأمتنا. فتحدثت يومها عن وطنية [[الإخوان المسلمين]] ، التي أفرد هلا [[البنا|الإمام الشهيد]] مساحة كبيرة في الرسائل ، وعن مفهومنا للوحدة الوطنية والأمن الوطني ، وقد قدمت لذلك بعبارة : أن جلسة يديرها أمير عالم توفر فرصة كبيرة للمصارحة وإن كانت هذه العبارة أسيء فهمها واستغلالها ممن يستكثرون على المرء كلمة يفهم منها مدح المسئول واعتقد أن هذه إحدى السلبيات التي ابتلى بها بعضنا... وكنا يومها في بدايات معركة سياسية تتعلق بتوجه الحكومة لرفع الدعم عن الخبز والأعلاف ، وأذكر مما قال : « لقد استمعت بالأمس إلى الشيخ [[حمزة منصور]] وهو يتكلم فأحسست أن الوطن يتكلم » ، وذلك في معرض حديثه عن مسئولية الحركة الإسلامية ، ودورها في خدمة الهم الوطني. وأجد من الأمانة هنا أن أؤكد ، أن الرجل كثيراً ما كان يؤكد على أهمية استمرار التفاهم والانسجام ، بين الحركة الإسلامية والنظام خدمة للجميع ، وحماية للأردن مما ابتليت به بعض الأقطار العربية ، جراء الصدام بين الأنظمة والإسلاميين.


أن اختلافنا مع الحكومات ، ومعارضتنا لسياساتها ، وإنكارنا للمنكرات لا يجوز أن يخرجنا عن أدب الإسلام ، فهنالك فرق بين من يريد أن يصلح فساداً ، أو يقوم اعوجاجا ، أو يوصل رسالة ، وبين من يريد أن ينتصر لنفسه. وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام غنية بالأمثلة. فهو يكتفي في كثير من الأحيان بالتلميح والإشارة ، إذا كانا يغنيان عن الصراحة فلا يعنف ، ولا يحرج ، لأن النفوس إذا جرحت جمحت ، وصعب ردها إلى الجادة ، فكان كثيراً ما يقول : « ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ». وقد سار الإمام حسن البنا على هدي معلم الناس الخير ، فهو يوصي إخوانه بقوله : « لا تجرحوا الأشخاص ولا الهيئات » فرب كلمة لم يقدر صاحبها آثارها دفع وغيره ثمنها غالياً.
أن اختلافنا مع الحكومات ، ومعارضتنا لسياساتها ، وإنكارنا للمنكرات لا يجوز أن يخرجنا عن أدب [[الإسلام]] ، فهنالك فرق بين من يريد أن يصلح فساداً ، أو يقوم اعوجاجا ، أو يوصل رسالة ، وبين من يريد أن ينتصر لنفسه. وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام غنية بالأمثلة. فهو يكتفي في كثير من الأحيان بالتلميح والإشارة ، إذا كانا يغنيان عن الصراحة فلا يعنف ، ولا يحرج ، لأن النفوس إذا جرحت جمحت ، وصعب ردها إلى الجادة ، فكان كثيراً ما يقول : « ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ». وقد سار [[البنا|الإمام]] [[حسن البنا]] على هدي معلم الناس الخير ، فهو يوصي إخوانه بقوله : « لا تجرحوا الأشخاص ولا الهيئات » فرب كلمة لم يقدر صاحبها آثارها دفع وغيره ثمنها غالياً.


وفي ضوء هذا الفهم حرصت فيما أقول وأكتب على التزام هذا الهدي. فأذكر أننا التقينا ذات يوم في مكتب رئيس الوزراء ، وكثيراً ما كنا نتصارح ونتناصح. وكان بعض المسئولين يأخذ على بعضنا عبارات تند من خطيب ، تحمله عليها حرارة المناسبة ، أو صعوبة المرحلة. ولا نستطيع أن ندافع عن موقف خاطئ أو عبارة في غير موقعها ، ولكننا نطالب بتقويم الموقف كاملاً ، وعدم الاقتصار على نماذج قليلة أو عبارات محدودة ، فالموضوعية تقتضي استعراض كل ما يصدر عن الخطباء والكتاب والمتحدثين ، للوقوف على الإيجابيات والسلبيات. وأما أن يصبح تصيد خطأ هنا وزلة هناك هدفاً للتحريض على الدعوة الإسلامية. فذاك أمر تأباه الأمانة والموضوعية. واذكر يومها مقالة للأستاذ ذوقان الهنداوي ، نائب رئيس الوزراء : « أننا في كل أسبوع نستعرض خطبة الأستاذ حمزة منصور فنجدها أكثر ما تكون جرأة وصراحة ، ولكننا لا نجد فيها كلمة يمكن أن تعرضه للمسألة ».
وفي ضوء هذا الفهم حرصت فيما أقول وأكتب على التزام هذا الهدي. فأذكر أننا التقينا ذات يوم في مكتب رئيس الوزراء ، وكثيراً ما كنا نتصارح ونتناصح. وكان بعض المسئولين يأخذ على بعضنا عبارات تند من خطيب ، تحمله عليها حرارة المناسبة ، أو صعوبة المرحلة. ولا نستطيع أن ندافع عن موقف خاطئ أو عبارة في غير موقعها ، ولكننا نطالب بتقويم الموقف كاملاً ، وعدم الاقتصار على نماذج قليلة أو عبارات محدودة ، فالموضوعية تقتضي استعراض كل ما يصدر عن الخطباء والكتاب والمتحدثين ، للوقوف على الإيجابيات والسلبيات. وأما أن يصبح تصيد خطأ هنا وزلة هناك هدفاً للتحريض على الدعوة الإسلامية. فذاك أمر تأباه الأمانة والموضوعية. واذكر يومها مقالة للأستاذ ذوقان الهنداوي ، نائب رئيس الوزراء : « أننا في كل أسبوع نستعرض خطبة الأستاذ [[حمزة منصور]] فنجدها أكثر ما تكون جرأة وصراحة ، ولكننا لا نجد فيها كلمة يمكن أن تعرضه للمسألة ».


ولقد كان أخونا المرحوم أحمد الأزايدة مجليا في هذا المجال ، كما هو في كثير من المجالات. فمن يستمع إلى كلمته في ندوة محاضرة أو مهرجان أو احتفال ، أو تحت القبة ، يجد قوة في الطرح ، وأدباً في التعبير ، نال به ثقة الكثيرين ومحبتهم ، وكثيراً ما عبروا عن مشاعرهم الطيبة إزاء هذا السلوك المتميز. ولعل أستاذنا عمر التلمساني بلغ الذروة في هذا الفن ، فكانت مقالته في مجلة الدعوة مناسبة عزيزة للالتقاء معه في كل شهر ، كان يعيش قضايا أمته ويتفاعل معها ، ويتقن فن إبرازها وحشد التأييد لها ، وكان حساساً إزاء السلوكات السياسية الخاطئة ، ويحسن تسديد السهام إليها ، ولكن القارئ يحس أن كل سهم منها قد تم تغليفه بمنديل من حرير. وهو في ذلك يصدر عن أدب الخطاب القرآني ، والهدي النبوي ، ولعل في التوجيه القرآني الكريم لموسى وهارون عليهما السلام خير دليل ت اذهبا إلى فرعون أنه طغى ، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى فإذا كان هذا هو أسلوب مخاطبة فرعون الذي طغى ، فكيف يكون ث مع من لم يبلغ درجته في الطغيان؟ وهذا الأدب يشيع في التوجيهات القرآنية ، حتى في توجيه خير الخلق وأوفرهم أدباً « ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر »... بل أن في الحوار الرقيق من مؤمن آل فرعون وهو يهتف بقومه ، في محاولة منه لهدايتهم وإخراجهم من دائرة نفوذ الطغاة أسوة حسنة « يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ».. « وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ». وقد آثرت التوسع في الاقتباس من كتاب لله عز وجل ، لأن مما دها بعض الناس في هذه الأيام ، أنه خيل غليهم أن التجهم واصطناع الجدية دليل التميز والالتزام ، وأن الرفق ولين الجانب سمة المفرطين ، وغاب عنهم أن ألين الناس جانباً ، وأرفق الناس بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لما كان جديرا بقول الله عز وجل (وأنك لعلى خلق عظيم). ولعل من أجمل ما قرأت في هذا المجال ما ورد في كتاب مذكرات الدعوة والداعية للإمام الشهيد حسن البنا ، فقد ذكر تحت عنوان نماذج من تصرفات الرعيل الأول هذه الواقعة : « استدعى المسيو سولت باشمهندس القنال الأخ حافظ ، ليصلح له بعض أدوات التجارة في منزله ، وسأله عما يطلب من أجر فقال : (130) قرشاً ، فقال المسيو سوليت بالعربي « أنت حرامي » فتماسك الأخ نفسه وقال له بكل هدوء : لماذا؟ فقال : لأنك تأخذ أكثر من حقك. فقال له لن أخذ منك شيئاً ، ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرؤوسيك ، فإن رأي أنني طلبت أكثر من القدر المناسب فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل فعلاً مهندساً وسأله ، فقدر أن العمل يستوجب (200) قرش ، فصرفه المسيو سولت وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل. فقال له : سأفعل ، ولكنك أهنتني فعليك أن تعتذر ، وأن تسحب كلمتك ، فاستشاط الرجل غضباً ، وغلبه الطابع الفرنسي الحاد ، وأخذته العزة بالإثم وقال : تريد أن أعتذر لك ، ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما اعتذرت له. فقال حافظ في هدوء أيضاً : وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولت ، فأنت ي بلد الملك فؤاد ، وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا الكلام ، وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام. فتركه وأخذ يتمشى في البهو الفسيح ، ويداه في جيب بنطلونه ، ووضع حافظ عدته وجلس على كرسي واتكأ على منضدة ، وسادت فترة سكون لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الحائر. وبعد قليل تقدم من حافظ وقال له : افرض أنني لم أعتذر لك فماذا تفعل؟ فقال الأمر هين ، سأكتب تقريراً إلى قنصلكم هنا ، وإلى سفارتكم أولاً ، ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس بباريس ، ثم إلى الجرائد الفرنسية المحلية والأجنبية ، ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس فأشكوك إليه ، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك ، استطعت أن أهينك في الشارع وعلى ملأ من الناس ، التي قيدتموها بسلاسل والامتيازات الأجنبية الظالمة ، ولكنني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريق. فقال الرجل : يظهر أنني أتكلم مع « أفوكاتوا لا نجار » ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس؟ فكيف تتصور أن أعتذر لك؟ فقال حافظ : ألا تعلم أن قناة السويس في وطني لا في وطنك ، وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة وستنتهي ، ثم تعود الينا فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا ، فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ وانصرف الرجل إلى مشيئته الأولى ، وبعد فترة عاد مرة ثانية وعلى وجهه أمارات التأثر ، وطرق المنضدة بيده في عنف مرات وهو يقول : أعتذر يا حافظ سحبت كلمتي فقام الأخ حافظ بكل هدوء وقال : متشكر يا مسيو سولنت وزاول عمله حتى أتمه. وبعد الانتهاء أعطاء المسيو سولنت 150 قرشاً ، فأخذ منها 130 قرشاً ورد له العشرين. فقال له خذها بقشيشا ، فقال لا لا حتى لا آخذ أكثر من حقي فأكون « حرامي » فدهش الرجل وقال : إني مستغرب ، لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت « فاميلي محمد » فقال حافظ : يا مسيو سولنت كل المسلمين « فاملي محمد » ولكن الكثيرين منهم عاشروا « الخواجات » وقلدوهم ففسدت أخلاقهم. فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلاً : متشكر. متشكر. كثر خيرك. وفيها الإذن بالانصراف ».
ولقد كان أخونا المرحوم [[أحمد الأزايدة]] مجليا في هذا المجال ، كما هو في كثير من المجالات. فمن يستمع إلى كلمته في ندوة محاضرة أو مهرجان أو احتفال ، أو تحت القبة ، يجد قوة في الطرح ، وأدباً في التعبير ، نال به ثقة الكثيرين ومحبتهم ، وكثيراً ما عبروا عن مشاعرهم الطيبة إزاء هذا السلوك المتميز. ولعل أستاذنا [[عمر التلمساني]] بلغ الذروة في هذا الفن ، فكانت مقالته في مجلة الدعوة مناسبة عزيزة للالتقاء معه في كل شهر ، كان يعيش قضايا أمته ويتفاعل معها ، ويتقن فن إبرازها وحشد التأييد لها ، وكان حساساً إزاء السلوكات السياسية الخاطئة ، ويحسن تسديد السهام إليها ، ولكن القارئ يحس أن كل سهم منها قد تم تغليفه بمنديل من حرير. وهو في ذلك يصدر عن أدب الخطاب القرآني ، والهدي النبوي ، ولعل في التوجيه القرآني الكريم لموسى وهارون عليهما السلام خير دليل ت اذهبا إلى فرعون أنه طغى ، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى فإذا كان هذا هو أسلوب مخاطبة فرعون الذي طغى ، فكيف يكون ث مع من لم يبلغ درجته في الطغيان؟ وهذا الأدب يشيع في التوجيهات القرآنية ، حتى في توجيه خير الخلق وأوفرهم أدباً « ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر »... بل أن في الحوار الرقيق من مؤمن آل فرعون وهو يهتف بقومه ، في محاولة منه لهدايتهم وإخراجهم من دائرة نفوذ الطغاة أسوة حسنة « يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ».. « وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ». وقد آثرت التوسع في الاقتباس من كتاب لله عز وجل ، لأن مما دها بعض الناس في هذه الأيام ، أنه خيل غليهم أن التجهم واصطناع الجدية دليل التميز والالتزام ، وأن الرفق ولين الجانب سمة المفرطين ، وغاب عنهم أن ألين الناس جانباً ، وأرفق الناس بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لما كان جديرا بقول الله عز وجل (وأنك لعلى خلق عظيم). ولعل من أجمل ما قرأت في هذا المجال ما ورد في كتاب [[مذكرات الدعوة والداعية]] [[البنا|للإمام الشهيد]] [[حسن البنا]] ، فقد ذكر تحت عنوان نماذج من تصرفات الرعيل الأول هذه الواقعة : « استدعى المسيو سولت باشمهندس القنال الأخ حافظ ، ليصلح له بعض أدوات التجارة في منزله ، وسأله عما يطلب من أجر فقال : (130) قرشاً ، فقال المسيو سوليت بالعربي « أنت حرامي » فتماسك الأخ نفسه وقال له بكل هدوء : لماذا؟ فقال : لأنك تأخذ أكثر من حقك. فقال له لن أخذ منك شيئاً ، ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرؤوسيك ، فإن رأي أنني طلبت أكثر من القدر المناسب فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل فعلاً مهندساً وسأله ، فقدر أن العمل يستوجب (200) قرش ، فصرفه المسيو سولت وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل. فقال له : سأفعل ، ولكنك أهنتني فعليك أن تعتذر ، وأن تسحب كلمتك ، فاستشاط الرجل غضباً ، وغلبه الطابع الفرنسي الحاد ، وأخذته العزة بالإثم وقال : تريد أن أعتذر لك ، ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما اعتذرت له. فقال حافظ في هدوء أيضاً : وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولت ، فأنت ي بلد الملك فؤاد ، وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا الكلام ، وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام. فتركه وأخذ يتمشى في البهو الفسيح ، ويداه في جيب بنطلونه ، ووضع حافظ عدته وجلس على كرسي واتكأ على منضدة ، وسادت فترة سكون لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الحائر. وبعد قليل تقدم من حافظ وقال له : افرض أنني لم أعتذر لك فماذا تفعل؟ فقال الأمر هين ، سأكتب تقريراً إلى قنصلكم هنا ، وإلى سفارتكم أولاً ، ثم إلى مجلس إدارة [[قناة السويس]] بباريس ، ثم إلى الجرائد الفرنسية المحلية والأجنبية ، ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس فأشكوك إليه ، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك ، استطعت أن أهينك في الشارع وعلى ملأ من الناس ، التي قيدتموها بسلاسل والامتيازات الأجنبية الظالمة ، ولكنني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريق. فقال الرجل : يظهر أنني أتكلم مع « أفوكاتوا لا نجار » ألا تعلم أنني كبير المهندسين في [[قناة السويس]] ؟ فكيف تتصور أن أعتذر لك؟ فقال حافظ : ألا تعلم أن [[قناة السويس]] في وطني لا في وطنك ، وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة وستنتهي ، ثم تعود الينا فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا ، فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ وانصرف الرجل إلى مشيئته الأولى ، وبعد فترة عاد مرة ثانية وعلى وجهه أمارات التأثر ، وطرق المنضدة بيده في عنف مرات وهو يقول : أعتذر يا حافظ سحبت كلمتي فقام الأخ حافظ بكل هدوء وقال : متشكر يا مسيو سولنت وزاول عمله حتى أتمه. وبعد الانتهاء أعطاء المسيو سولنت 150 قرشاً ، فأخذ منها 130 قرشاً ورد له العشرين. فقال له خذها بقشيشا ، فقال لا لا حتى لا آخذ أكثر من حقي فأكون « حرامي » فدهش الرجل وقال : إني مستغرب ، لماذا لا يكون كل الصناع أولاد [[العرب]] مثلك؟ أنت « فاميلي محمد » فقال حافظ : يا مسيو سولنت كل [[المسلمين]] « فاملي محمد » ولكن الكثيرين منهم عاشروا « الخواجات » وقلدوهم ففسدت أخلاقهم. فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلاً : متشكر. متشكر. كثر خيرك. وفيها الإذن بالانصراف ».


إن المتأمل في هذا الحوار يحس أنه إمام محام كبير وليس إمام نجار ، ولكنها التربية الإسلامية ، وصدق القائل « أدبني ربي فأحسن تأديبي ».
إن المتأمل في هذا الحوار يحس أنه إمام محام كبير وليس إمام نجار ، ولكنها [[التربية]] الإسلامية ، وصدق القائل « أدبني ربي فأحسن تأديبي ».


==الدرس الثامن: مبادرة تؤتي أكلها==
==الدرس الثامن: مبادرة تؤتي أكلها==


الإسلام يقدر الإبداع ، ويثيب عليه « من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها... ». ومن هنا فتاريخ الإسلام حافل بالمبادرات. فهناك مبادرات معاذ بن جبل « اجتهد رأيي » ونعيم بن مسعود « خذل عنا » وأبو جندل ، وصاحب النقب ، وغيرها. فالمبادرة المدروسة الواعية قوة للدعوة ، وأود أن أشير هنا إلى بعض المبادرات الشخصية ، التي تعلمتها من مدرسة النبوة ، من خلال المنهج التربوي للجماعة ، فما كانت دروس السيرة التي احتفى بها سلفنا الصالح إلا للتأسي والاقتداء ، ويوم تصبح وقائع السيرة مادة للحفظ أو للتسلية أو للمناسبات ، فإنها تفقد قيمتها « فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضواً عليها بالنواجد ».
[[الإسلام]] يقدر الإبداع ، ويثيب عليه «''' من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها...''' ». ومن هنا فتاريخ [[الإسلام]] حافل بالمبادرات. فهناك مبادرات معاذ بن جبل « اجتهد رأيي » ونعيم بن مسعود « خذل عنا » وأبو جندل ، وصاحب النقب ، وغيرها. فالمبادرة المدروسة الواعية قوة [[الأخوان|للدعوة]] ، وأود أن أشير هنا إلى بعض المبادرات الشخصية ، التي تعلمتها من مدرسة النبوة ، من خلال [[المنهج التربوي]] [[الإخوان|للجماعة]] ، فما كانت دروس السيرة التي احتفى بها سلفنا الصالح إلا للتأسي والاقتداء ، ويوم تصبح وقائع السيرة مادة للحفظ أو للتسلية أو للمناسبات ، فإنها تفقد قيمتها « '''فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضواً عليها بالنواجد''' ».


- حينما نقلت من معان إلى سحاب عام 70 ، بعد خدمة استمرت خمس سنوات ، كانت من أحلى سني العمر ، وأكثرها بركة في حياتي ، راجعت الهيئة الإدارية للإخوان المسلمين في عمان ، واضعاً نفسي تحت تصرفها ، وفاء بالبيعة التي تشرفت بها ، وسألت الأخوة المعنيين إن كان في سحاب أحد من الإخوان المسلمين ، فكان الجواب سلبياً ، وسألت إن كان هناك من له علاقة سابقة بالإخوان ، فذكر لي شخص كانت له علاقة ولكنها لم تعد قائمة. فسألت عنه ، وتوجهت إليه ، زائراً ومعرفا ومحفزا على العمل لمصلحة الإسلام والمسلمين ، فرحب بي وأكرم وفادتي ، وعبر عن اعتزازه بالإسلام وبالدعوة الإسلامية ، التي هو مدين إليها ، وأضاف قائلاً : وإن ما تعلمناه في دعوة الإخوان المسلمين وجدنا الفرصة لتطبيقه من خلال حركة فتح ، حيث الجهاد في سبيل الله لتحرير المقدسات والأوطان ، فأدركت أن الرجل نحا منحى آخر ، ولكن ذلك لم يفت في عضدي ، ولم يمنعني من العمل ، بل زاد من درجة الدافعية لدي ، فيممت وجهي شطر المسجد ، ومن خلال المدرسة ، ولم يمض طويل وقت حتى تشكلت النواة ، وحسنت الصلة ، وامتدت الجسور ، وكثر الجمع ، وفتحت شعبة للإخوان المسلمين. أن الانكفاء على الذات ، والانشغال بالنفس بدعوى قلة الأنصار ، وصعوبة المرحلة ، مقبرة للدعوة والدعاة ، وأن الإحساس العالي بالمسئولية ، والمبادرة إلى العمل ، والتشمير عن ساعد الجد ، يجعل المستحيل ممكناً ، والصعب ميسورا ، فكثير من الدعوات والانجازات كانت فكرة في ذهن شخص أو أشخاص ، فوجدت لديهم روح المبادرة العالية ، فأصبحت ملء السمع والبصر ، وإن كثيراً من الفرص قد لا تتكرر ، وأن من الحكمة اغتنام هذه الفرص ، ولعل هذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : « بادروا بالأعمال سبعاً فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا ، أو غني مطغيا ، أو مرضاً مفسدا ، أو هرما مفندا ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر » فالبدر البدرا قبل أن يأتي زمان يقول فيه المرء « ليت ».
- حينما نقلت من معان إلى سحاب عام 70 ، بعد خدمة استمرت خمس سنوات ، كانت من أحلى سني العمر ، وأكثرها بركة في حياتي ، راجعت الهيئة الإدارية [[للإخوان المسلمين]] في [[عمان]] ، واضعاً نفسي تحت تصرفها ، وفاء بالبيعة التي تشرفت بها ، وسألت [[الإخوان|الأخوة]] المعنيين إن كان في سحاب أحد من [[الإخوان المسلمين]] ، فكان الجواب سلبياً ، وسألت إن كان هناك من له علاقة سابقة ب[[الإخوان]] ، فذكر لي شخص كانت له علاقة ولكنها لم تعد قائمة. فسألت عنه ، وتوجهت إليه ، زائراً ومعرفا ومحفزا على العمل لمصلحة [[الإسلام]] و[[المسلمين]] ، فرحب بي وأكرم وفادتي ، وعبر عن اعتزازه ب[[الإسلام]] وب[[الإخوان|الدعوة]] الإسلامية ، التي هو مدين إليها ، وأضاف قائلاً : وإن ما تعلمناه في [[الإخوان|دعوة الإخوان المسلمين]] وجدنا الفرصة لتطبيقه من خلال حركة فتح ، حيث [[الجهاد]] في سبيل الله لتحرير المقدسات والأوطان ، فأدركت أن الرجل نحا منحى آخر ، ولكن ذلك لم يفت في عضدي ، ولم يمنعني من العمل ، بل زاد من درجة الدافعية لدي ، فيممت وجهي شطر المسجد ، ومن خلال المدرسة ، ولم يمض طويل وقت حتى تشكلت النواة ، وحسنت الصلة ، وامتدت الجسور ، وكثر الجمع ، وفتحت شعبة[[للإخوان المسلمين]]. أن الانكفاء على الذات ، والانشغال بالنفس بدعوى قلة الأنصار ، وصعوبة المرحلة ، مقبرة [[الإخوان|للدعوة]] و[[الإخوان|الدعاة]] ، وأن الإحساس العالي بالمسئولية ، والمبادرة إلى العمل ، والتشمير عن ساعد الجد ، يجعل المستحيل ممكناً ، والصعب ميسورا ، فكثير من الدعوات والانجازات كانت فكرة في ذهن شخص أو أشخاص ، فوجدت لديهم روح المبادرة العالية ، فأصبحت ملء السمع والبصر ، وإن كثيراً من الفرص قد لا تتكرر ، وأن من الحكمة اغتنام هذه الفرص ، ولعل هذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : « بادروا بالأعمال سبعاً فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا ، أو غني مطغيا ، أو مرضاً مفسدا ، أو هرما مفندا ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر » فالبدر البدرا قبل أن يأتي زمان يقول فيه المرء « ليت ».


- حين أعتدي على الدكتور حسن الترابي في كندا ، أثناء رحلة له إلى الولايات المتحدة وكندا ، أجرى خلالها عدداً من الحوارات واللقاءات أسهمت في تأجيج الحقد عليه ، فكان قرار الاغتيال ، استمعت إلى الخبر من إذاعة لندن ، أثناء توجهي إلى عملي في مكتب النواب ، وقد تأثرت كثيراً للنبأ ، لما يمثله الدكتور حسن الترابي ، ليس في السودان فقط ، ولكن في العالم الإسلامي أجمع ، وقد رأيت لزاماً علي أن أقوم بعمل ما ، وفق ما تسمح به إمكاناتي ، وفاء بحق الإخوة ، وكنت يومها مقرراً للكتلة النيابية للحركة الإسلامية في المجلس النيابي الحادي عشر ، فعزمت على الاتصال بالأخ إبراهيم خريسات رئيس الكتلة ، عارضا عليه إصدار تصريح باسم الكتلة حول هذا الاعتداء فوافقني على ذلك ، فكتبت تصريحاً من بضعة أسطر ، أكدت من خلاله أن الدكتور حسن الترابي ليس مجرد رمز سوداني ، ولكنه بالإضافة إلى ذلك رمز عربي إسلامي ، وأن الاعتداء عليه اعتداء على كل عربي ومسلم ، وإن السلطات الكندية تتحمل مسئولية الحافظ على سلامته. وتم إرسال التصريح عبر جهاز الفاكس ، إلى عدد من وكالات الأنباء والصحف ، وقد اعتدنا حين نرسل بياناتنا وتصريحاتنا إلى وسائل الإعلام توجيهها إلى قرابة ستين مؤسسة إعلامية. ولم يمض نصف ساعة ، حتى راحت وكالات الأنباء تتصل بنا ، ونستفسر منا عن الحادثة ، ثم راحت تزودنا بآخر الأخبار ، بشأن الوضع الصحي للدكتور الترابي ، ولم يكن يخطر ببالي أن هذا التصريح سيكون له مثل هذا الأثر ، فقد نقل إلينا السفير السوداني شكر رئيس الدولة على هذه المبادرة ، كما أبلغني الإخوة الذين زاروا الدكتور الترابي بعد عودته سالماً ، مهنئين بالسلامة ، أنهم أخبروا أن تحولاً في المعاملة ، قد بدأ منذ ذلك التاريخ ، تاريخ إصدار التصريح الصحفي.
- حين أعتدي على الدكتور [[حسن الترابي]] في كندا ، أثناء رحلة له إلى الولايات المتحدة وكندا ، أجرى خلالها عدداً من الحوارات واللقاءات أسهمت في تأجيج الحقد عليه ، فكان قرار الاغتيال ، استمعت إلى الخبر من إذاعة لندن ، أثناء توجهي إلى عملي في مكتب النواب ، وقد تأثرت كثيراً للنبأ ، لما يمثله الدكتور [[حسن الترابي]] ، ليس في [[:تصنيف:الإخوان في السودان|السودان]] فقط ، ولكن في [[العالم الإسلامي]] أجمع ، وقد رأيت لزاماً علي أن أقوم بعمل ما ، وفق ما تسمح به إمكاناتي ، وفاء بحق [[الإخوان|الإخوة]] ، وكنت يومها مقرراً للكتلة النيابية للحركة الإسلامية في المجلس النيابي الحادي عشر ، فعزمت على الاتصال بالأخ [[إبراهيم خريسات]] رئيس الكتلة ، عارضا عليه إصدار تصريح باسم الكتلة حول هذا الاعتداء فوافقني على ذلك ، فكتبت تصريحاً من بضعة أسطر ، أكدت من خلاله أن الدكتور [[حسن الترابي]] ليس مجرد رمز سوداني ، ولكنه بالإضافة إلى ذلك رمز عربي إسلامي ، وأن الاعتداء عليه اعتداء على كل عربي ومسلم ، وإن السلطات الكندية تتحمل مسئولية الحافظ على سلامته. وتم إرسال التصريح عبر جهاز الفاكس ، إلى عدد من وكالات الأنباء والصحف ، وقد اعتدنا حين نرسل بياناتنا وتصريحاتنا إلى وسائل الإعلام توجيهها إلى قرابة ستين مؤسسة إعلامية. ولم يمض نصف ساعة ، حتى راحت وكالات الأنباء تتصل بنا ، ونستفسر منا عن الحادثة ، ثم راحت تزودنا بآخر الأخبار ، بشأن الوضع الصحي للدكتور [[حسن الترابي|الترابي]] ، ولم يكن يخطر ببالي أن هذا التصريح سيكون له مثل هذا الأثر ، فقد نقل إلينا السفير السوداني شكر رئيس الدولة على هذه المبادرة ، كما أبلغني [[الإخوان|الإخوة]] الذين زاروا الدكتور [[حسن الترابي|الترابي]] بعد عودته سالماً ، مهنئين بالسلامة ، أنهم أخبروا أن تحولاً في المعاملة ، قد بدأ منذ ذلك التاريخ ، تاريخ إصدار التصريح الصحفي.


- حين برزت بعض الممارسات السلبية في بعض المباريات الرياضية ، ولا سيما في مباريات الوحدات والفيصلي ، عقد نواب المعارضة اجتماعاً لتدارس هذه الممارسات السلبية ، وخلصوا إلى أن هذا المنهج يشكل خطراً على الوحدة الوطنية والأمن الوطني ، ولا يستفيد منه إلا أعداء الوطن والأمة ، وعهد إلى المجتمعون بكتابة مذكرة موجهة إلى الملك ، كما كلفت بتدبر أمر إيصالها ، وبعد إعداد المذكرة ، اتصلت بالديوان الملكي ، معلماً أحد المسئولين بأن مذكرة نريد إيصالها ، فسألني من سيسلمها فقلت : إذا كان اللقاء مع الملك فإن نواب المعارضة مجتمعين سيسلمونها ، وإذا كان مع رئيس الديوان ، فإن أحدنا سيقوم بتسليمها. وإذا كانت ستسلم لمسئول آخر ، فإننا سنرسلها مع أحد الموظفين. وتم الاتفاق على إرسالها مع أحد الموظفين ، وغادرت مكتب النواب إلى لقاء في المركز العام ، فأخبرني سكرتير مكتب النواب ، إن الملك يرغب في أن أكلمه ، وأعطاني هاتفه الخاص ، ولدي الاتصال وبعد تبادل التحية ، قال : « لقد قرأت المذكرة ، وأنا مع الروح التي تضمنتها وسيتم تصويب الأمر ، وسنلتقي قريباً إن شاء الله » ولم يمض يوم أو يومان حتى كان رئيس الوزراء السيد عبد الكريم الكباريتي يزور بعض الأندية في المخيمات ، ويجري مع إدارتها لقاءات ، ويقدم لها بعض الدعم المادي الضروري.  
- حين برزت بعض الممارسات السلبية في بعض المباريات الرياضية ، ولا سيما في مباريات الوحدات والفيصلي ، عقد نواب المعارضة اجتماعاً لتدارس هذه الممارسات السلبية ، وخلصوا إلى أن هذا المنهج يشكل خطراً على الوحدة الوطنية والأمن الوطني ، ولا يستفيد منه إلا أعداء الوطن والأمة ، وعهد إلى المجتمعون بكتابة مذكرة موجهة إلى الملك ، كما كلفت بتدبر أمر إيصالها ، وبعد إعداد المذكرة ، اتصلت بالديوان الملكي ، معلماً أحد المسئولين بأن مذكرة نريد إيصالها ، فسألني من سيسلمها فقلت : إذا كان اللقاء مع الملك فإن نواب المعارضة مجتمعين سيسلمونها ، وإذا كان مع رئيس الديوان ، فإن أحدنا سيقوم بتسليمها. وإذا كانت ستسلم لمسئول آخر ، فإننا سنرسلها مع أحد الموظفين. وتم الاتفاق على إرسالها مع أحد الموظفين ، وغادرت مكتب النواب إلى لقاء في [[معالم وآثار دعوية : المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة|المركز العام]] ، فأخبرني سكرتير مكتب النواب ، إن الملك يرغب في أن أكلمه ، وأعطاني هاتفه الخاص ، ولدي الاتصال وبعد تبادل التحية ، قال : « لقد قرأت المذكرة ، وأنا مع الروح التي تضمنتها وسيتم تصويب الأمر ، وسنلتقي قريباً إن شاء الله » ولم يمض يوم أو يومان حتى كان رئيس الوزراء السيد [[عبد الكريم الكباريتي]] يزور بعض الأندية في المخيمات ، ويجري مع إدارتها لقاءات ، ويقدم لها بعض الدعم المادي الضروري.  


إن كثيراً من جوانب الخلل التي تشكل عوامل نخر في المجتمع ، ما كان لها أن تترسخ لولا سلبية الكثيرين وافتقارهم إلى عنصر المبادرة. فهل ندرك جميعاً مقالة المصطفى صلى الله عليه وسلم « أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ».
إن كثيراً من جوانب الخلل التي تشكل عوامل نخر في المجتمع ، ما كان لها أن تترسخ لولا سلبية الكثيرين وافتقارهم إلى عنصر المبادرة. فهل ندرك جميعاً مقالة المصطفى صلى الله عليه وسلم « أنت على ثغرة من ثغر [[الإسلام]] فلا يؤتين من قبلك ».


- على أثر انتخابات اتحاد الطلبة في جامعة اليرموك عام 96 وفوز الكتلة الإسلامية بأغلبية بسيطة ، وصل فاكس من الطلبة إلى مجلس النواب ، يطلب منا إثارة موضوع اعتقال طالبين من الطلبة الإسلاميين المنتخبين ، لحرمانهم من فرصة الفوز في الهيئة الإدارية. ولدى عودتي إلى المكتب وجدت رسالة تفيد أن تم اعتقال أربعة طلاب ، فتساوى عدد الناجحين من الكتلتين. وفي المساء رفعت سماعة الهاتف ، واتصلت بالسيد رئيس الوزراء ، وقلت له : هل تريدون أن تخربوا جامعة اليرموك؟ فقال : ماذا تقول؟ فقلت : لمصلحة من يتم اعتقال الطلبة؟ وهل أصبح الإسلاميون خارجين على القانون حتى يتعامل معهم بهذه الطريقة؟ وما الذي يضيركم إذا نجح الطلاب الإسلاميون المعروفون بالتزامهم ، وحرصهم على وطنهم؟ فقال : أمهلني عشر دقائق وهاتفني بعدها ، وأخبرني أن هؤلاء الطلبة لم يعتقلوا من قبل المخابرات ولكن من قبل الأمن العسكري. فقلت له : أنهم طلاب وليسوا عسكريين ، فقال : الآن سيتم الإفراج عنهم. إن هنالك إجراءات يمارسها بعض المسئولين لأسباب شخصية أو فئوية ، أو لأسباب وهمية ، تخلف آثاراً في النفس والمجتمع ، ما كان لها أن توجد أو تستمر .
- على أثر انتخابات اتحاد الطلبة في جامعة اليرموك عام 96 وفوز الكتلة الإسلامية بأغلبية بسيطة ، وصل فاكس من الطلبة إلى [[مجلس النواب]] ، يطلب منا إثارة موضوع اعتقال طالبين من الطلبة الإسلاميين المنتخبين ، لحرمانهم من فرصة الفوز في الهيئة الإدارية. ولدى عودتي إلى المكتب وجدت رسالة تفيد أن تم اعتقال أربعة طلاب ، فتساوى عدد الناجحين من الكتلتين. وفي المساء رفعت سماعة الهاتف ، واتصلت بالسيد [[رئيس الوزراء]] ، وقلت له : هل تريدون أن تخربوا جامعة اليرموك؟ فقال : ماذا تقول؟ فقلت : لمصلحة من يتم اعتقال الطلبة؟ وهل أصبح الإسلاميون خارجين على القانون حتى يتعامل معهم بهذه الطريقة؟ وما الذي يضيركم إذا نجح الطلاب الإسلاميون المعروفون بالتزامهم ، وحرصهم على وطنهم؟ فقال : أمهلني عشر دقائق وهاتفني بعدها ، وأخبرني أن هؤلاء الطلبة لم يعتقلوا من قبل المخابرات ولكن من قبل الأمن العسكري. فقلت له : أنهم طلاب وليسوا عسكريين ، فقال : الآن سيتم الإفراج عنهم. إن هنالك إجراءات يمارسها بعض المسئولين لأسباب شخصية أو فئوية ، أو لأسباب وهمية ، تخلف آثاراً في النفس والمجتمع ، ما كان لها أن توجد أو تستمر .


- على أثر الأحداث المؤسفة بين فريقين من طلبة الجامعة الأردنية ، التي اتخذت بعداً عرقياً مؤسفاً ، يصب في خدمة المتربصين بهذا الوطن ، إلى جانب النزعات الطائفية والإقليمية والجهوية ، التي يغذيها بعض أصحاب الأهواء والمصالح ، اتفقت وبعض إخواني على القيام بدور مسئول يسهم في وأد الفتنة ، وإطفاء نارها فتوجه بعضهم إلى الجامعة الأردنية ، للحصول على مزيد من المعلومات ، وتقديم النصيحة الواجبة ، بينما توجه بعضنا إلى السلطنة وعمان ، ضمن وفد كبير من الأعيان والنواب والوجهاء ، وفي اجتماع حاشد في نادي الجيل الجديد ، ألقيت بعض الكلمات من قبل الجاهة والمستقبلين ، تهدف إلى تطويق الفتنة ، وإحلال الوئام ، ولم تكن لي كلمة مقررة ، ولكني رأيت الصوت الإسلامي غائباً على أهميته ، ولا سيما في مثل هذا الموقف ، فاستأذنت بإلقاء كلمة ، ارتجلتها ، اجتهدت من خلالها أن أعمل على وأد الفتنة فقلت : « نحن أسرة واحدة ، جمعنا الله على الإخوة فيه ، فإذا فاتكم أيها الأخوة من أبناء الشركس والشيشان رباط الدم بالعرب ، فحسبكم رباط العقيدة المقدم على كل الروابط « إنما المؤمنون إخوة » « سلمان منا آل البيت » ، إلا يرضيكم أن تكونوا من آل محمد حين تحيون المعاني التي عاش لها محمد صلى الله عليه وسلم؟ ثم من قال : إنكم لستم عربا ، أن تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب ليس تعريفاً عرقياً ، كما يفهمه بعض الناس ، فهو القائل : « إنما العربية اللسان » فحين يكون القرآن لغتكم ، والكعبة قبلتكم ، لا يتقدم في العروبة عليكم إلا من أبلى في ذلك أكثر من بلائكم. ووقعت الكلمات بردا وسلاماً على قلوبهم شيئاً وشبانا ، ووجدت أثرها في النفوس في ذلك اللقاء وبعده ، فكم من كلمة اطفأت ناراً عظيمة.
- على أثر الأحداث المؤسفة بين فريقين من طلبة الجامعة الأردنية ، التي اتخذت بعداً عرقياً مؤسفاً ، يصب في خدمة المتربصين بهذا الوطن ، إلى جانب النزعات الطائفية والإقليمية والجهوية ، التي يغذيها بعض أصحاب الأهواء والمصالح ، اتفقت وبعض إخواني على القيام بدور مسئول يسهم في وأد الفتنة ، وإطفاء نارها فتوجه بعضهم إلى الجامعة الأردنية ، للحصول على مزيد من المعلومات ، وتقديم النصيحة الواجبة ، بينما توجه بعضنا إلى السلطنة و[[:تصنيف:الإخوان في عمان|عمان]] ، ضمن وفد كبير من الأعيان والنواب والوجهاء ، وفي اجتماع حاشد في نادي الجيل الجديد ، ألقيت بعض الكلمات من قبل الجاهة والمستقبلين ، تهدف إلى تطويق الفتنة ، وإحلال الوئام ، ولم تكن لي كلمة مقررة ، ولكني رأيت الصوت الإسلامي غائباً على أهميته ، ولا سيما في مثل هذا الموقف ، فاستأذنت بإلقاء كلمة ، ارتجلتها ، اجتهدت من خلالها أن أعمل على وأد الفتنة فقلت : « نحن أسرة واحدة ، جمعنا الله على [[الإخوان|الإخوة]] فيه ، فإذا فاتكم أيها الأخوة من أبناء الشركس و[[الشيشان]] رباط الدم بالعرب ، فحسبكم رباط العقيدة المقدم على كل الروابط « إنما المؤمنون إخوة » « سلمان منا آل البيت » ، إلا يرضيكم أن تكونوا من آل محمد حين تحيون المعاني التي عاش لها محمد صلى الله عليه وسلم؟ ثم من قال : إنكم لستم عربا ، أن تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب ليس تعريفاً عرقياً ، كما يفهمه بعض الناس ، فهو القائل : « إنما العربية اللسان » فحين يكون [[القرآن]] لغتكم ، والكعبة قبلتكم ، لا يتقدم في [[العروبة]] عليكم إلا من أبلى في ذلك أكثر من بلائكم. ووقعت الكلمات بردا وسلاماً على قلوبهم شيئاً وشبانا ، ووجدت أثرها في النفوس في ذلك اللقاء وبعده ، فكم من كلمة اطفأت ناراً عظيمة.


والحديث عن المبادرات يطول ، ونتائجها مباركة ، فلا يزهدن أحد بها ، ولا يضيعن فرصة ، يمكن أن يكون خلالها رائد خير.
والحديث عن المبادرات يطول ، ونتائجها مباركة ، فلا يزهدن أحد بها ، ولا يضيعن فرصة ، يمكن أن يكون خلالها رائد خير.


==الدرس التاسع : نظام قيمي جديد مؤذن بفجر إسلامي سعيد==
==الدرس التاسع : نظام قيمي جديد مؤذن بفجر إسلامي سعيد==
سطر ٢٠٧: سطر ٢٠٠:
لكل مجتمع قيمة ومقاييسه ، في الحكم على الأشخاص والأشياء والأحداث. ونظام القيم في المجتمع يستند إلى تربيته وثقافته ، ونظراً لفترة الجهل أو التجهيل التي مرت بها الأمة ، فقد شاعت لديها قيم غريبة. ارتد بعضها إلى قيم الجاهلية ، عبرت عن كثير منها الأمثال الشعبية « أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي  على الغريب » وهي صياغة جديدة للمبدأ الجاهلي « انصر أخاك ظالماً أو مظلوما ». ومنها « حط رأسك بين الروس وناد يا قطاع الروس » وهو ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا يكن أحدكم إمعة » ومنها « للي معه قرش يساوي قرش ، واللي معه ألف يساوي ألف » وهي قيمة مادية غريبة ، تستند إلى النظام الرأسمالي. فجاءت هذه الدعوة لتبعث القيم الإسلامية من جديد ، فإذا الرابطة رابطة العقيدة « إنما المؤمنون أخوة » وإذا القيمة العليا في التفاضل بين الناس هي قيمة الإيمان والتقوى والعمل الصالح « إن أكرمكم عند الله أتقاكم » وإذا التفاؤل والثقة بوعد الله عز وجل يحلان محل اليأس والسلبية.
لكل مجتمع قيمة ومقاييسه ، في الحكم على الأشخاص والأشياء والأحداث. ونظام القيم في المجتمع يستند إلى تربيته وثقافته ، ونظراً لفترة الجهل أو التجهيل التي مرت بها الأمة ، فقد شاعت لديها قيم غريبة. ارتد بعضها إلى قيم الجاهلية ، عبرت عن كثير منها الأمثال الشعبية « أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي  على الغريب » وهي صياغة جديدة للمبدأ الجاهلي « انصر أخاك ظالماً أو مظلوما ». ومنها « حط رأسك بين الروس وناد يا قطاع الروس » وهو ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا يكن أحدكم إمعة » ومنها « للي معه قرش يساوي قرش ، واللي معه ألف يساوي ألف » وهي قيمة مادية غريبة ، تستند إلى النظام الرأسمالي. فجاءت هذه الدعوة لتبعث القيم الإسلامية من جديد ، فإذا الرابطة رابطة العقيدة « إنما المؤمنون أخوة » وإذا القيمة العليا في التفاضل بين الناس هي قيمة الإيمان والتقوى والعمل الصالح « إن أكرمكم عند الله أتقاكم » وإذا التفاؤل والثقة بوعد الله عز وجل يحلان محل اليأس والسلبية.


وفي ظل هذا النظام القيمي الجديد أصبحت مؤهلات التقدم في الدعوة الإيمان والوعي والعمل ، وليس الجاه والحسب والنسب والثروة. وهذا ما عبر عنه الإمام الشهيد المؤسس ، بقوله : وهو يتحدث عن خصائص دعوة الإخوان المسلمين : « البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان » فأصبحت النماذج التي يتغنى بها شباب الإخوان في جلساتهم ، وخلواتهم وكتاباتهم ، الشهداء ورواد الدعوة الإسلامية ، وأصحاب المواقف المتميزة في مواجهة الطغيان. ولعل هذا النظام هيأ لهم القدرة على عدم الانبهار بالباطل وأهله ، بل شجعهم على الوقوف في مواجهته. وإذا كانت هنالك ممارسات تقوم على تقديم القيم الأجنبية على حساب القيم السماوية ، فلنلعم أنها ليست من طبيعة دعوة الإخوان ، ولا تمثل قاعدة وإنما استثناء ينبغي التصدي له ، والوقوف في وجهه ، فمقياس التفاضل التقوى ، ومؤهلات التقدم « القوي الأمين » وأود هنا أن أشير إلى ثلاث وقائع ، أولاها استشهاد الدكتور عبد الله عزام ، وثانيتها رحيل المهندس أحمد الأزايدة. وثالثتها بطولة محمد أبو سيف.
وفي ظل هذا النظام القيمي الجديد أصبحت مؤهلات التقدم في [[البنا|الدعوة]] الإيمان والوعي والعمل ، وليس الجاه والحسب والنسب والثروة. وهذا ما عبر عنه [[البنا|الإمام الشهيد]] المؤسس ، بقوله : وهو يتحدث عن خصائص [[الإخوان|دعوة]] [[الإخوان المسلمين]] : « البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان » فأصبحت النماذج التي يتغنى بها شباب [[الإخوان]] في جلساتهم ، وخلواتهم وكتاباتهم ، الشهداء ورواد [[الإخوان|الدعوة]] الإسلامية ، وأصحاب المواقف المتميزة في مواجهة الطغيان. ولعل هذا النظام هيأ لهم القدرة على عدم الانبهار بالباطل وأهله ، بل شجعهم على الوقوف في مواجهته. وإذا كانت هنالك ممارسات تقوم على تقديم القيم الأجنبية على حساب القيم السماوية ، فلنلعم أنها ليست من طبيعة [[الإخوان|دعوة الإخوان]] ، ولا تمثل قاعدة وإنما استثناء ينبغي التصدي له ، والوقوف في وجهه ، فمقياس التفاضل التقوى ، ومؤهلات التقدم « القوي الأمين » وأود هنا أن أشير إلى ثلاث وقائع ، أولاها استشهاد الدكتور [[عبد الله عزام]] ، وثانيتها رحيل المهندس [[أحمد الأزايدة]]. وثالثتها بطولة [[محمد أبو سيف]].
 
- الشيهد عبد الله عزام شأنه شأن الكثيرين من أبناء هذه الدعوة المباركة ، من حيث وضعه الوظيفي والاجتماعي ، ولكنه امتاز على الكثيرين ، والكثيرين جداً ، بإيمان متدفق ، وجهاد مبرور ، جعلاه نموذجاً يحتذى ، وأهزوجة على الشفاه ، نرددها في الأعراس والرحلات والخلوات ، إلى جانب البنا والقسام فما أخال بقعة فيها مؤمن يقر لله بالوحدانية ، إلا ويذكر عبد الله عزام بالخير ، ويدعو له بالخير. فقد نجد إنساناً محل احترام فئة ما ، في بقعة ما ، في فترة ما. أما أن نجد من يحظى بالأكبار والإجلال ، على امتداد الساحة ، ورغم مرور السنوات ، ومن مختلف القطاعات ، فذلك أمر بعيد المنال ، ولا تحظى به إلا فئة محدودة أحسبها واقعة ضمن قول الله عز وجل وهو يتحدث عن السابقين السابقين فيقول : « ثلة من الأولين وقليل من الآخرين » وأحسب أن أبا محمد من هذا القليل. وقد شاء الله عز وجل أن أشهد مناسبة العزاء باستشهاده فرأيت كيف تدافعت الجموع إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين ، وكيف ألهم الخطباء أروع الكلام ، وكيف تسابق الرسميون والشعبيون على نسبته إليهم. فكم من زعيم طويت صفحته بعد مماته ، وقد كانت وسائل الإعلام تملأ الدنيا ضجيجاً وهي تحاول أن تصنع له مجدا! وكم من ثري نافس قارون في الثراء غداً نسيا منسيا بعد أن زالت المصلحة! وبقي الشهداء لحناً عذبا يشنف الأذان على مر الزمان.
 
- الراحل الكريم أحمد الازايدة ، شاب أردني ، نشأ نشأة الكثيرين من لداته ، وعاش حياة بسيطة ، شأن معظم أبناء الدعوة الإسلامية ، ولكنه ملك قلوب الكثيرين حياً وميتاً ، هذا الشاب الذي يأسر سامعيه بحديثه العذب وقلبه الكبير ، وفهمه الواعي ، وفقهه الحركي ، فكان للجميع ، عاش همومهم وقضاياهم ، ورسم معالم درب ، للتعاون على الخير مع المخالفين في الرأي ، على قاعدة القواسم المشتركة ، وحين رحل إلى الدار الآخرة رافقته القلوب ، وشيعه الأردن في جنازة مهيبة ، من عمان إلى مادياً ، سماعات المآذن تتلو آيات القرآن الكريم ، والكنائس تقرع أجراسها ، وفي مقبرة مادبا وقف مئات الألوف يبكون الراحل الكبير. ولم تقتصر العواطف الملتهبة على إخوانه ورفاق دربه وأبناء عشيرته ، فلقد حدثني بعض من أعرف ، أن فتاة نصرانية سورية ، اتخذت مابا دار إقامة ، أسدلت الستائر السوداء على واجهة محلها عندما مرت الجنازة ، وحين سئلت عن ذلك قالت : « أن أحمد الأزايدة فقيد الجميع » ، وأضافت تقول : « لقد زرت بيته في رمضان ، لحاجة كنت أرجو قضاءها ، فطلب من أم بلال أن تقدم لي طعام الغداء » ، فقلت : « إنه رمضان » ، فأجاب : « أن صيام رمضان ملزم للمسلمين ، أما الضيوف من غير المسلمين فلهم الإكرام ».
 
ولا أنسى ما يردده الإخوة في مأدبا ، عن فترة توليه رحمه الله رئاسة البلدية. وقد قدمه أهل مادبا لهذا الموقع مرتين. فكانت فترة ذهبية في تاريخ مادبا ، ونموذجاً يحتذى من قبل العاملين في هذا الميدان ، وأن ضن عليه من يجهلون قدره بلوحة تحمل اسمه ، على أحد ميادين المدينة التي ابتليت بهم. يقول أخواننا المطلعون على حقائق الأمور ، جاءت مواطنة من نصارى مادبا تلتمس من أبي بلال الأنصاف ، فاستمع إليها ، وأدرك أنها صاحبة حق ، وأن أمانة المسئولية تقتضي انصافها. فلم يهدأ له بال ، حتى انصفها ، ورفع الحيف الواقع عليها ، فجاءته إلى مبنى البلدية ، تقدم له نسخة من القرآن الكريم ، اعترافاً منها أن القرآن أعظم هدية ، وأنه المنهل الذي نهل منه أحمد الأزايدة ، فنجح بينما أخفق من نهلوا من ينابيع ملوثة.
 
وفي مكتب نواب الحركة الإسلامية ، جلست مراسلة لصحيفة تصدر خارج البلاد ، كانت قد طلبت موعداً لإجراء مقابلة صحفية ، وما أن بدأنا ث حتى انهمرت عيناها بالدموع ، واجهشت بالبكاء ، وحين رأت الحيرة في عيني قالت : « لا أستطيع تصور مكتب النواب بدون أبي بلال ».
 
إن أحمد الأزايدة لم يرفعه إلى موقع القدوة جاء عريض ، أو ثراء عظيم ، أو منصب رفيع ، ولكنه حب الآخرين والقرب منهم ، والحرص عليهم ، والفهم الواعي لروح دعوته ، والقدرة على استلهام دروس السيرة النبوية ، وتنزيلها على الواقع ، فنجح حيث أخفق الكثيرون ممن حفظوا النصوص ، وضيعوا الروح والمضمون.
 
- أما محمد أبو سيف ، أمد الله في عمره ، فقد دخل التاريخ من بوابة الشجاعة والنبل والفروسية والوفاء والصبر والمصابرة ، دفاعاً عن قائده خالد مشعل حفظه الله ، ودفاعا عن شرف الأردن ، الذي استباحه الصهاينة ، بعد معاهدة وادي عربة فاحتل مكانة أية مكانة في قلوب إخوانه ، إلى جان يحيى عياش وعماد عقل. ونال إعجاب كل من اطلع على تفاصيل منازلته عصابة الموساد ، كما ملأ قلوب الأعداء حقدا وحسدا.
 
لقد أدرك الصهاينة رغم الدعم غير المحدود ، الذي وفرته لهم الدوائر الاستعمارية ، أن بقاءهم على الأرض العربية إلى زوال ، ما دام فيها من يؤمن بالجهاد سبيلاً لحماية الأوطان ، واستعادة الحقوق. فقد رأوا نموذجين ، أحدهما على أرض فلسطين ، التي ما بخل عليها الخيرون بالدماء ، فمن أجل فلسطين ترخص الدماء. وثانيهما على أرض الجنوب اللبناني الأشم. وقد قلب النموذجان الطاولة على المحتلين ، حين أثبتوا لهم أن التفوق المادي لا يحسم المعركة ، وإن توقيع بعض الأطراف العربية معاهدات معهم لمن ينهي الصراع. وأنه ما دام فينا من يتلو الأنفال والتوبة ، ويعيش معانيهما ، فإن المعركة مستمرة. فضاق الغزاة ذرعاً بحماس وحزب الله ، ووضعوا خططهم لتصفية هذه الفصائل الجهادية. وقد تضمنت خطتهم تصفية بعض الرموز ، ومن بينها القائد السياسي خالد مشعل ، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس. وأحكم المجرمون خطتهم ، وأحسنوا اختيار عناصرهم ، ووظفوا أحدث ما تفتقت عنه عقولهم الإجرامية من وسائل الفناء. ودخلوا عمان ، واقتربوا من أبي الوليد ، وضربوا ضربتهم الغادرة ، لولا أن عناية الله كانت تظله ، وقد كان محمد أبو سيف لهذه العصابة بالمرصاد ، فانقض عليها انقضاض القدر. وقد استخدموا كل خبرتهم في هذا المجال ، ولكن بلطنا جاد في مطاردتهم ، فلم يكن يخطر بباله شيء إلا الإمساك بهم ، والسيطرة عليهم ، حماية لمشعل ، وحماية للأردن ، فاستهان بكل ما يتهدده من أخطار ، وهو الأعزل إلا من سلاح الإيمان والعزيمة ، فبعد مطاردة أبدى خلالها صاحبنا ضروبا من الوعي والإرادة والمثابرة ، مكنه الله تعالى من منفذي الجريمة ، وتسليمهم للسلطات الأردنية ، ليحقق بذلك أعظم هزيمة لجهاز الموساد الإجرامي ، الذي ظن أن اغتيال خالد مشعل أمر ميسور. أن هذه الشجاعة النادرة ، والإقدام العجيب ، وما هما يعجبان على أبناء الدعوة الإسلامية ، الامتداد الطبيعي لجيل الصحابة عليهم رضوان الله ، جعلت من محمد أبو سيف رمز فداء ، وكنز عطاء ، فتطلعت إليه العيون والقلوب ، وكتب فيه وحوله الكثير من المقالات والتحليلات.
 
أذكر ذات مساء ، حيث أقامت حركة حماس حفل استقبال. دعت إليه مئات الشخصيات الأردنية ، ممن وقفوا إلى جانب القائد خالد مشعل ، خلال الأيام العصيبة التي اعقبت العدوان الموسادي الغاذر ، وقد جمعتني طاولة مع المناضل الكبير ، الأستاذ بهجت أبو غريبة ، الذي أبدى رغبة في التعرف إلى البطل محمد أبو سيف ، فدعوت له محمدًا ، وسلم المناضل الشيخ علي البطل الشاب ، بحرارة المناضلين ، وعانقه عناقا حاراً ، ومضى محمد أبو سيف إلى حال سبيله ، وكأبي بأبي سامي تذكر موقف الخليفة الراشد ، عمر بن الخطاب ، من عبد الله بن حذافة السهمي ، فقال : « أريد محمد أبو سيف ، أريد أن اقبل رأسه » فدعوته ثانية إليه ، فأقبل على رأسه يقبله ، ولا يعرف لذوي الفضل فضلهم إلا ذوو الفضل.
 
إن هذا التقدير العالي ، والحب الغامر ، نتاج قيم جديدة أحيتها جماعة الإخوان المسلمين ، تقوم على الإيمان والبذل والعطاء. هذه القيم الجديدة ، صنعت جيلاً جديداً ، قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجيل الأول ، الجيل القرآني الفريد. وأشاعت هذه القيم في المجتمع ، حتى جرت على السنة الناس ، وأصبحت جزءاً من ثقافتهم ونمط تفكيرهم.
 
إن هذا النظام القيمي الجديد ، يؤذن بانبلاج فجر جديد ، فإن هذه النماذج الرائعة ، يتعلم منها الناس أضعاف أضعاف ما يتعلمونه من الكتب ، ولا خير في علم الكتب أن لم يتجسد في واقع عملي ، وسلوك يومي. وصدق رب العزة « لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون » ومن هنا فقد أنتهر سعيد بن جبير من حاول أن يفتديه ، بدعوى أن الناس بحاجة إلى علمه فقال « الناس يحتاجون إلى من يعلمهم التضحية أكثر مما يحتاجون إلى من يعلمهم الفقه » وأن التحدي الأكبر للحركة الإسلامية وللخيرين من أبناء هذه الأمة يكمن في تعزيز هذه القيم وتكثير النماذج لينبلج فجر أمتنا من جديد.
 
==الدرس العاشر: ثقة وتفويض وتشجيع==
إن عضو الجماعة ليس إنساناً أعمى يحتاج إلى من يقوده على الدوام ، ولكنه مبصر يحتاج إلى من يدله على الطريق ليمضي فيه ، ولا بأس من المراقبة والمتابعة ، وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوه بإحسان. فقد جلس الطفيل بن عمرو الدوسي أياماً إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقتبس من نور دعوته ، ثم انطلق إلى أهله داعية إلى الله عز وجل ، فلم يجاور الطفيل بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم السنين الطوال ، حتى يحيط بعلوم الشريعة ، وإن كانت الإحاطة بعلوم الشريعة زاد عظيم للسائرين في طريق الدعوة إلى الله عز وجل ، ولم يكف يده عن العمل بحجة أن زاده من الفقه قليل ، ولكنه أعطاه إشارة البدء ، وهذا هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم « بلغوا عني ولو آية » أن ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه تشكل حافزاً يشجعهم على المضي في طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ، وعلى طريق الدعوة إلى الله تكتمل التربية ، ويزداد رصيد الخبرة ، فهو تعلم بالعمل ، ومن خلال المعايشة اليومية.
 
حين بدأنا بالعمل مع الأحزاب والقوى الشعبية عام 1991 ، لم يكن يخطر ببالي أن أكون صلة الوصل بين الجماعة والأحزاب. ولكنها الأقدار هيأت كل ذلك. وللعمل مع الأحزاب قصة بدأت بكتاب موجه إلى محافظ العاصمة ، تطلب فيه الموافقة على إقامة ندوة سياسية في المدرج الروماني ، تعبر عن موقف قوي المعارضة من مؤتمر مدريد. وقد وقع على هذا الكتاب بهجت أبو غريبة ، وليث شبيلات ، وفخزي قعوار ، ويوسف العظم ، وحمزة منصور ، وعطا أبو الرشتة. وجاء جواب المحافظ بالرفض ، وأرتأى أصحاب الفكرة إقامة الندوة في مجمع النقابات المهنية ، ولكن أصحاب الكنزات السوداء جيء بهم لتخريب الندوة ، وكان هذا العمل التخريبي بداية المشوار. حيث عقد اجتماع في مكتب المهندس ليث شبيلات ، دعى إليه عشرات من ممثلي التنظيمات والأحزاب غير المرخصة حتى تاريخه ، وبعض الشخصيات المستقلة ، وقد سمي ثلاثة من إخواننا للمشاركة في هذا النشاط لم أكن أحدهم. وانطلاقاً من فكرة « كأس الماء » التي طالما رددها الأخ أبو ماجد ، للتأكيد على أن يكون الأخ المسلم كأس العسل. فقد حضرت الاجتماع. وبعد التداول اقترح بعض الحاضرين تشكيل لجنة برئاسة كاتب هذه السطور ، فاعتذرت بسبب تكليف غيري للقيام بهذه المهمة. ولكنني إزاء إصرار الحاضرين ، بمن فيهم إخواني المكلفين بهذه المهمة ، قبلت الدور. وكانت هذه بداية تجمع القوى المناهضة للاستسلام ، الذي ظل يعمل حتى تشكيل اللجنة الشعبية لمقاومة التطبيع. ومن بعدها المؤتمر الشعبي للدفاع عن الوطن ومجابهة التطبيع ، فبداية العمل الجماعي ، الذي ضم مختلف التيارات السياسية تزامنت مع مؤتمر مدريد ، على قاعدة « أن المصائب يجمعن المصابين » وقد تطورت العلاقة فيما بعد ، حيث ترجمت إلى عدد من صيغ التعاون ، فهناك لجنة التنسيق العليا للأمناء العامين لأحزاب المعارضة ، واللجنة التنفيذية للمؤتمر الشعبي لحماية الوطن ومجابهة التطبيع ، ومؤتمر الإصلاح والإنقاذ الوطني ، ومؤتمر الدفاع عن القدس ، ولجنة التعبئة الوطنية للدفاع عن العراق ، واللجنة الوطنية لنصرة السودان ، والأمانة العامة للأحزاب العربية ، وما كان لهذه العلاقة أن تتطور ، لولا الثقة التي تعززت من خلال العمل الجماعي ، والإحساس العالي بالمسئولية ، والإدراك الواعي لعظم التحديات.
 
إن الثقل النيابي للجماعة في مجلس النواب الحادي عشر ، والدور المتميز في التعامل مع آثار حرب الخليج ، جعل الجماعة موضع احترام الشارع الأردني ، بما في ذلك الأحزاب والتنظيمات الشعبية ، ومن هنا فإن من يمثل الجماعة يحظى بتقدير الآخرين وثقتهم ، وأن الجماعة تمتلك طاقات خيرة ، قادرة على العمل ، ومؤهلة للنجاح ، حين نجد من قيادتها الثقة والتفويض والدعم ، فمتى تتم عملية فرز وتصنيف لأعضاء الجماعة ، ليتم توجيه كل منهم للاضطلاع بالمهمة التي تؤهله لها استعداداته وطاقاته.
 
إن الاعتقاد بأن مستويات قيادية معينة هي القادرة على العمل خطأ وخطر ، وأن ميدان العمل كفيل بالكشف عن كثير من الطاقات والاستعدادات ، التي لا يسهل اكتشافها خارج ميدان العمل. فميدان الجهاد هو الذي كشف عن إمكانات صاحب النقب ، وأجواء التحدي هي التي أبرزت مهارة نعيم ابن مسعود. وأذكر أن جلستين عقدتا بين ثلة من شباب الدعوة الإسلامية ، أطلق عليهم حينها » قيادات شبابية » وفريق من مكتب الأمير الحسن ، جعلت هذا الفريق يخرج بانطباع ، أن هؤلاء الشباب متقدمون على كثير من القيادات السياسية الرسمية. وأن النجاحات التي يحققها إخواننا الطلاب في الجامعات ، في إدارة معركة انتخابات مجالس الطلبة ، والأنشطة التي يقومون بها خدمة لقضايا الوطن والأمة ، لخير دليل على أن أبناء الدعوة قادرون ، حين يمنحون الثقة والتفويض والدعم ، على تحقيق إنجازات كثيرة. والأمثلة من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرة ، اقتطف منها : قول المصطفى عليه الصلاة والسلام « لا تحدثوني عن إخواني ، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر » فهل أدرك الذين يتبعون عورات الناس ، وينفخون فيها ، ويعلنونها على الملأ ، أنهم بعملهم هذا يخالفون هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهم ضربوا عرض الحائط بكثير من الآيات الكريمة ، والأحاديث النبوية الشريفة. « أن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا » « ولا يغتب بعضكم بعضاً » « ولا تجسسوا ولا تحسسوا » فسلامة الصدر ، وكف الأذى ، أقل درجات الإخوة ، فإذا عجزنا عن بلوغ مرتبة الإيثار ، وقصرت هممنا عن تحقيق المساواة « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » فلا أقل من سلامة الصدر ، وكف الأذى ، ولا أخال فيما دون ذلك ذرة من إخاء.
 
إن أبناء الحركة الإسلامية بشر يصيبون ويخطئون ، ويسمون وينحدرون ، ولقد أخطأ وكبا ، من هو خير منهم ، ولكن خطأهم لم يلغ إخوتهم ، وكبوتهم لم تلغ تاريخهم ، فلقد فارق حاطب بن أبي بلتعة ما يمكن تسميته بلغة اليوم « الخيانة العظمى » ولكن هذه الكبوة الخطيرة لم تعف على تاريخه « لعل الله أطلع على أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم فاني قد غفرت لكم » وقد وقع كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، في مخالفة شنيعة ، وحين تاب الله عليهم ، تسابق أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم على تبشيرهم.
 
ولقد سن الإخوان المسلمين في السنوات القليلة الماضية سنة حميدة. حين فطنوا إلى من كانت لهم بالدعوة صلة ، ووجهوا إليهم الدعوات ولا سيما في رمضان ، وهي لعمر الحق مأثرة مقدرة. ولكن هل يمكن تطوير هذه السنة ، فتترجم إلى برنامج بدني البعيد ، ويفتح مجالاً للتعاون والتنسيق مع القريب؟ وهل نخطو خطوة أبعد من ذلك ، فنحول دون ابتعاد أحد من إخواننا إلا من أبى ، وأن نبذل للحفاظ على كل واحد منا مثل بذلنا ، حتى جمعتنا وإياه ، طريق واحدة؟ وهل نحقق قول المصطفى صلى الله عليه وسلم « لا تكن عونا للشيطان على أخيك » و « التمس لأخيك عذراً ».
 
أن ثمة طاقات كبيرة واستعدادات عالية ، يمكن أن تحقق نجاحات كبيرة ، ولكن المهم كيف نكتشف هذه الاستعدادات ، وكيف نحسن إعدادها؟ وكيف ندفع بها إلى ميدان العمل؟ وكيف تأخذ دورها في خدمة الأهداف التي التقينا عليها؟ وإن هذا يستدعي التقليل من القيود التي تفرض لاعتبارات السن ، والعمر الدعوي ، والقرب أو البعد عن موقع القيادة ، فلقد تسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه قيادة الجيش في مؤتة ، ولما يمض على إسلامه إلا شهران ، وقاد محمد بن القاسم ، الجيوش وهو ابن سبعة عشر عاماً ، وحقق انجازات يعجز عنها أصحاب النواصي البيضاء ، وسار عمر بن الخطاب جندياً في جيش أسامة ، لولا أنه آثر أمير المؤمنين أبا بكر به ، ليكون إلى جانبه ، بعد أن استأذنه الخليفة بذلك ، وزاحم عبد الله بن عباس الأشياخ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأظن في هذه الأمثلة ونظائرها في تاريخنا كثيرة ، ما يصلح دليلاً على أهمية الثقة بأفراد الجماعة وإطلاق طاقاتهم ، على أن الثقة لا تلغي المتابعة والمحاسبة ، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه « أرأيتم لو استعملت عليكم خير من أعلم ، أكنت أديت ما علي؟ قالوا : « نعم » ، قال : « لا » حتى انظر أعمل بما أعلم أم لا » على ألا تأخذ المتابعة والمحاسبة طابع التجسس ، وتصيد الأخطاء ، وتضخيم الزلات ، والشطط في العقوبات ، فإن كل ذلك لا يتفق بحال مع هدي النبوة ، ولا يحقق مصالح الدعوة. فالأصل براءة الذمة ، ولا عقوبة إلا بنص ، ولا تلغي العقوبة حق الإخوة ، ولا تجرد المعاقب من إيجابياته ومن سابقته.
 
أن مزيداً من الثقة ، ومزيدا من ضبط السلوك ، إزاء العلاقات الأخوية ، ومزيدا من النصح الحصيف والصبر الجميل ، ومزيدا من التواصل ، يجنبنا كثيراً من الخسائر ، وبقينا عواقب الظلم والتقصير ، ويبقى على كثير من الجسور ، التي نحن أحوج ما نكون إليها. وخير لنا أن نبحث عن العيوب في أنفسنا وفي أساليبنا ، من أن نلجأ إلى أبسط الحلول وأفشلها ، فنعلق تقصيرنا وفشلنا ، على مشجب غيرنا.
 
==الدرس الحادي عشر: عدم الإنشغال بالقضايا الفرعية أو الإنجرار إلى معارك جانبية==
إن طريق الإخوان المسلمين واضحة ، وأهدافهم محددة ، لعل أوضح إشارة إليها قول الإمام المؤسس : « نحن نريد أن نبني الفرد المسلم ، والأسرة المسلمة ، والمجتمع المسلم ، والحكومة المسملة ». وقد ظل يؤكد على هذا المعنى ، حيث يقول في موقع آخر : « أننا نسعى لتحرير الوطن الإسلامي من سلطان المستعمر وإقامة المجتمع الإسلامي ». وأن أيسر السبل لتحقيق الأهداف ، أن تكون العيون دوماً على الهدف ، وأن تكون وسائل تحقيقه محددة بعناية ، وأن لا ينشغل السائرون على الدرب بمعارك جانبية ، يقصد منها حرف المسيرة ، أو تأخيرها.
 
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك ، ما ذكره الإمام حسن البنا رحمه الله ، في كتاب مذكرات الدعوة والداعية تحت عنوان « موقفنا من الدعوات الأخرى » فهو يقول : « موقفنا من الدعوات في هذا البلد ، دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية -بناء على طبيعة دعوتنا- موقف واحد على ما اعتقد ، نتمنى لها جميعاً الخير ، وندعو لها بالتوفيق ، وأن خير طيق نسلكها ، إلا يشغلنا اللالتفات إلى غيرنا ، عن الالتفات إلى أنفسنا. إننا في حاجة إلى عدة وإلى تعبئة وأن أمتنا والميادين الخالية فيها ، محتاجة إلى جنود وإلى جهاد ، والوقت لا يتسع ، لنتطلع إلى غيرنا ، ونشتغل به كل في ميدانه ، والله مع المحسنين ، حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق ».
 
هذا الفهم الحصيف للعمل ، والمضي نحو تحقيق الأهداف ، يصون الطاقات من أن تبدد في الانشغال بالآخرين ، أو الانشغال بقضايا جانبية ، تستنزف الجهود ، وتزيد من العوائق ، وتكثر الأعداء. ولعل في المثال التالي خير دليل ، على تفويت الفرصة على من يريدون إشغالنا في معارك جانبية ، على حساب أهدافنا المركزية :
 
في عام 69 ظهرت جماعة صوفية في معان ، وقد جذبت هذه الجماعة بعض المريدين ، فكثر العدد ، وضاقت ذرعاً بلقاءاتهم البيوت ، فتذكر بعضهم أن دار جماعة الإخوان المسلمين كانت فيما مضى زاوية ، قبل وصول دعوة الإخوان المسلمين إلى الأردن ، فتحولت إلى شعبة للإخوان المسلمين ، نظراً للقبول الحسن ، الذي لقيته في معان ، فخطر ببال هذه الجماعة الصوفية ، الاستيلاء على المبنى ، فداهموه ، وغيروا أقفاله ، ونقلوا إليه بعض البسط وفرشوها ، وأقاموا فيه ، وقد صادفت هذه الخطوة رضا ومباركة من المحافظ ، الذي عبر عن تأييده لهم في هذه الخطوة ، بتزويدهم بكميات من السكر والشاي ، وقد استشاط الإخوان المسلمون هناك غضباً لما حدث ، وعزموا على إخراجهم بالقوة ، فهم لم يروا في ذلك إلا عدوانا صارا ، لا يجوز السكوت عليه ، مهما كانت النتائج. فهم لم يروا في ذلك إلا عدوانا صارخا ، لا يجوز السكوت عليه ، مهما كانت النتائج. وقد زار معان يومها ، فضيلة المراقب العام للإخوان المسلمين ، الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة ولست أدري هل كان هناك علاقة بين الزيارة وهذه الحادثة. وكان يرافقه المرحوم صلاح حسن « أبو عمرو » وآخرون. وطفت القضية على السطح ، وسيطرت على الجو العام ، واستأثرت بجل ث ، وعلت الأصوات ، وانبعثت تهديدات ، وأصغى أبو عمرو بكل جوارحه للحديث ، وتفرس الوجوه ، ورأى أن الأمانة تفرض عليه أن يتكلم ، واجتهد أن يوصل رسالة بكلمات قليلة ، جاء فيها بلهجته المصرية المعبرة : « يا أخوان دي حاجات رفيعة ، يقصد منها إشغالكم عن أهدافكم ولقد كان الاستعمار البريطاني ، يمارس مثل هذه الأساليب معنا ، ليضربنا ببعضنا ، وليوجد البيئة الملائمة ، التي يحقق من خلالها أهدافه ، فأنا أنصحكم أن تفوتوا الفرصة على من يتربص بكم ، وأرى أن تتركوا لهم المبنى ، وتعملوا على إقامة بناء جديد ». وقد نزلت كلمات أبي عمرو ، بردا وسلاماً على كثير من النفوس الثائرة. ووضعت حداً لصدام ، الله وحده يعلم مداه ، في مثل هذه البيئة العشائرية ، ولعمر الحق أن هذا الفهم لينسجم مع التصور الإسلامي ، الذي كان يقوم في مكة ، على قاعدة « كفواً أيديكم » حتى لا تنشب معركة في كل بيت ، وحتى لا يرتبط الإسلام ، بالمعنى الدموي. وفعلاً تم شراء قطعة أرض وإقامة بناء ، لا يقارن به البناء السابق ، وتم تجنب شر عظيم. أن الانشغال بالقضايا الجانبية ، والاستجابة لمحاولات الاستدراج والوقوع في الشرك ، إنما يكون في حالة غياب الهدف ، أو عدم تحديده ، أو افتقاره إلى الوضوح. ولم يعد اليوم مقبولاً ترديد أهداف غير قابلة للتحقق وفق المعطيات القائمة ، تحت شعار « التوكل على الله » صحيح أن التوكل على الله عبادة ، نتقرب بها إلى الله ، وقوة دافعة للمضي في خط الدعوة إلى الله ، ولا حظ من إيمان لمن لا يتوكل على الله. ولكن من التوكل على الله أن يحدد لكل مرحلة أهدافها ، المأمول تحقيقها ، في ضوء الإمكانات المتاحة ، بما في ذلك الأشخاص واستعداداتهم النفسية والمادية ، والإمكانات المتوافرة ، والعوامل المساعدة أو المثبطة ، ومعرفة إمكانات أطراف الصراع. مع الأخذ بمبدأ الاعتماد على الله. أن مثل هذا الفهم والوضوح الذي تسهم في التوصل إليه المؤتمرات والملتقيات والحوارات ، يجنب الجماعة ضبابية الرؤية ، والتناقض في المواقف ، والتردد في وضع القدم.
 
ومما يشغل الدعاة في بعض الأحايين عن وظيفتهم الرئيسة « ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً » الإشاعات التي يطلقها الحاسدون وأهل الهوى وأصحاب المصالح ، والتي تسري عادة بين الناس سريان النار في الهشيم. ولكن الرد الحقيقي على الإشاعات والشبهات ، لا يكون بالانشغال بها ، والرد عليها ، والتصدي لأصحابها ، إنما بمزيد من التمسك بالهدف ، والإصرار على تحقيقه ، يقول الإمام البنا رحمه الله : « وأنا أعلم قاعدة أفادتني كثيراً في سيرة الدعوة العملي ، وهي أن الإشاعة والأكاذيب ، لا يقضي عليها بالرد ولا بإشاعة مثلها ، ولكن يقضي عليها بعمل إيجابي نافع ، يستلفت الأنظار ، ويستنطق الألسنة بالقول ، فتحل الإشاعة الجديدة وهي حق ، مكان الإشاعة القديمة وهو باطل ».
 
ومثل هذا ما ذكره أيضاً تحت عنوان « محاضرة عن الإسراء » حيث راح بعض المغرضين يشيعون ، أن الإخوان المسلمين ينكرون الإسراء والمعراج ، ويقولون أنها ليست معجزة ، وأنها بالروح فقط ، وليست بالبدن ، وإنهم خوارج بهذا عن إجماع الأمة ، وما عرف في ذلك عن الأئمة. وأراد الإخوان أن يردوا على هذا الكلام ، فنهاهم نهياً شديداً ، وقال لهم « إن الطريق الإيجابية أجدى ألف مرة من الطريق السلبية ، فأشغلوا الناس عن الفكرة الباطلة بفكرة صحيحة » فقالوا : « وماذا نصنع؟ » قال : « أعلنوا عن محاضرة تحت عنوان » عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا ، واجتمع الناس ، وتحدث إليهم ، فخرجوا ومالهم حديث إلا ما سمعوا.
 
ومن أساليب الخصوم في محاولة أشغالنا بقضايا جانبية لجوءهم إلى وسائل الإعلام ، ولا سيما الصحافة ، مفتعلين بعض القضايا ، أو متصيدين بعض الهنات ، التي تصدر عن بعضنا ، لتشكل مادة أشغال وتلهية. وتجد هذه المحاولات هوى لدى بعض الصحف رغبة منها في كسب مادي رخيص ، نتيجة الإثارة ، أو تحقيقاً لهدف تلتقي مع الخصوم عليه. ومن أمثلة ذلك ، بعض التصريحات المنسوبة إلى بعض إخواننا النواب والمسئولين ، فيما يتعلق بالمشاركة في الحكومة ، أو المشاركة في الانتخابات النيابية ، أو مقاطعتها. أن الوقوف عند مثل هذه التصريحات ، التي كثيراً ما يفرد لها مكان بارز في الصحيفة ، ويختار لها العنوان المثير ، واللون الصارخ ، يشكل مشغلة عن تحقيق الأهداف ، أو مراعاة الأولويات ، في زمن كثرت فيه الواجبات ، وعظمت التحديات ، وتكسرت النصال على النصال ، فكان يتم في الغالب ، تجاهل مثل هذه التصريحات ، أو التعامل معها بحجمها الطبيعي ، دون أن نجعل منها قضية ، وإن كان يحلو لبعضنا ، الانشغال بها ، بل محاولة إشغال الآخرين بها. ولا أرى سبباً لذلك إلا الهوى والإفلاس ، وقد رأينا في النماذج السابقة ، كيف كان الإمام الشهيد ، يعالج مثل هذه الحالات بمزيد من العمل النافع ، ليشكل العمل المنتج ، الرد القاطع على المفتريات والإشاعات وحرصاً على التأكيد على أهمية هذا الدرس فإنني أود أن أسوق هذا المثال.
 
على أثر البيان الصادر عن جبهة العمل الإسلامي ، في أعقاب اغتيال الشهيدين عادل عوض الله وعماد عوض الله ، خرج علينا بعض الكتاب الصحفيين ، ينكرون علينا التدخل في الشأن الفلسطيني ، بدعوى أننا حزب مرخص من وزارة الداخلية الأردنية. كما نشرت بعض الصحف تحليلات سياسية ، تضمنت هجوماً مقذعا على الحركة الإسلامية ، واتهامات باطلة بارتباطات مع قوى ومصالح أجنبية ، وقد نسبت هذه التحليلات إلى مصادر فلسطينية. وإزاء تعدد المقالات والتحليلات ، فقد رأينا أن نرد على هذه المفتريات ، وعهد إلى أخوين كريمين بكتابة الرد ، وحين قدم البيان إلى الأخ الأمين العام الدكتور عبد اللطيف عربيات ، وهو كثيراً ما يحرص على توسيع قاعدة الشورى ، إيماناً منه بأهمية المبدأ ، وتجنبا للزلل ، فدفع به إلي لقراءته ، وإبداء الرأي فيه ، فقرأت البيان ، فوجدته يستند إلى جملة حقائق ، تعبر عن حقيقة السلطة الفلسطينية ، ولكنني رأيت في هذا الرد ، بابا لمزيد من الردود والردود عليها ، وفرصة للباحثين عن موضوعات للكتابة. وحين سألني عن رأيي في البيان قلت : « كل ما فيه صحيح ، ولكنني لا أرى الصياغة معبرة عن الهدف » ثم عرضه على المكتب التنفيذي ، فتحدث عدد من الأخوة في نفس الاتجاه. فما كان من كاتب البيان إلا أن قال : لم أكن مقتنعاً بأهمية الرد ، ولكنني كتبته احتراماً للقرار ، ورغم ما بذلت فيه من جهد ، فإنني أرى عدم نشره ، وانشرحت صدور الحاضرين لذلك. لقد أدرك الحاضرون أن السلطة في أضعف حالاتها ، أمام تعنت نتنياهو ، وسلبية الإدارة الأمريكية ، بل انصياعها للمشيئة الصهيونية ، وبعد أن ثبت للشعب الفلسطيني عيثية أوسلو وأترابها ، فهي والحالة هذه ، تبحث عن مشجب تعلق عليه فشلها ، فلنفوت عليها هذه الفرصة. أن أكبر خدمة نقدمها لخصوم الدعوة وأعدائها ، أن تقع في الشرك ، ونستجيب للاستثارة ، ونبلع الطعم ، فندخل في مهاترات ومعارك جانبية ، تصرفنا عن الواجبات الأساسية ، والأهداف الكبيرة.
 
==الدرس الثاني عشر : النقد الذاتي يحول دون تشكيل الجيوب==
 
لما كان النقص من طبائع البشر ، ولما كان الكمال مطلوباً ، فقد علمتنا دعوة الإخوان المسلمين كيف نتصارح على قاعدة « المؤمن مرآة أخيه » و « شكراً لمن أهدى إلي عيوبي » و « لو تكاشفتم ما تدافنتم » ومن هنا كانت النصيحة التي أجلها الإسلام منزلة عظيمة « الدين النصيحة » وأوضح ما يكون النقد الذاتي في الكتائب ، حيث يتم تقويم الكتيبة ، وفي اجتماعات الهيئات العامة ومجلس الشورى.
 
وحتى لا يذهب الظن بعيداً ببعض الناس ، ولا سيما في هذا الزمن حيث كثر المتربصون بالإخوان ، والمحرضون عليهم ، فإن الكتاب برنامج تربوي ، وفق آلية الإمام البنا ، في جملة ما وفق إليه ، يستهدف تحقيق أهداف تربوية ، يتم التدريب خلاله على قيام الليل ، والتزود بزاد روحي من خلال التلاوة والذكر والحديث الروحي ، وزاد فكري ، من خلال تفسير سورة أو بعض سورة ، بمشاركة من الحاضرين ، ويتناول فيه قضية من القضايا ، فضلاً عما فيه من تعزيز لروح الإخوة وخروج عن المألوف ، في المطعومات والمشروبات وطريقة النوم ، فيخرج المرء بعدها بزاد وفير ، يسهم في تربيته وإعداده ، إلى جانب ما يناله من أجر ، فالكتيبة والحالة هذه نموذج لما ينبغي أن تكون عليه حياة الداعية. أن النقد الذاتي حين يمارس بروح النصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبأسلوب تربوي متدرج ، يبرز الإيجابيات والسلبيات ، فإنه يضع حداً لتراكمات تفسد العلاقة ، بين أبناء الصف الواحد. ويقطع الطريق على النجوى وآفات اللسان من غيبة ونميمة وغيرها ، ويحول دون وجود جيوب في التنظيم ، تهدد وحدته وتماسكه. وقد كانت لقاءات الكتلة النيابية ، مناسبة لتقويم الأداء ، والإعداد لنشاط قادم. وأن تقبل الانتقاد ليس أمراً سهلاً ، ولا يصبر عليه إلا من أخذ بحظ وافر من التربية.
 
ومن هنا فقد كان بعضنا يضيق ذرعاً بالنقد. ولعل من المفيد في هذا المجال التركيز على مفهوم النصيحة ، ليكون الاستماع إليها أيسر ، والانتفاع بها أكبر. بل لعل من المفيد في هذا المجال ، أن يتم تسجيل الموقف الذي يحتاج إلى التقويم على شريط فيديو أو شريط كاسيت ، وأن يطلب إلى صاحب السلوك أن يقوم سلوكه بنفسه ، وأن يحدد أبرز الإيجابيات وأهم السلبيات ، ليصار إلى تعزيز الإيجابيات ، وتجنب السلبيات مستقبلاً. أن الأغضاء من الأخطاء ، والخوف من النقد ، يعزز سلوك التعصب للرأي ، فضلاً عن بروز التناقض بين أبناء الدعوة الواحدة. أن أسلوب المؤتمرات الذي سلكته الدعوة في السنوات القليلة الماضية ، أسلوب مفيد إزاء القضايا الاجتهادية ، وبغية التطوير في المناهج والسياسات. ولكن هذا الأسلوب يحتاج إلى مريد من التطوير ، من حيث توسيع قاعدة المشاركين ، فلا يحصر في مستوى معين ، وإن كنا لا نقلل من فضل السابقين ، فنحن في عصر تفجر المعلومات ، وتنوع الخبرات ، فلا يجوز إغفال دور الشباب والمرأة ، فإن من حق هؤلاء أن يسهموا بما تسمح به استعداداتهم في تطوير العمل والارتقاء به ، كما أن الأسلوب التنفيسي ليس هو الأسلوب المناسب للتطوير ، أن التباري في إلقاء الخطب ، والتخندق عند المواقف المسبقة ، لا يحقق كبير نفع ، وإنما التحليل الواعي ، والاستنتاج الحصيف ، والتعليل الذكي ، كل ذلك يسهم في ترشيد عملية اتخاذ القرار. وأن المؤتمر الذي لا يفضي إلى إشراك المؤتمر في اتخاذ القرار قليل الجدوى ، وأن أسلوب تشكيل اللجان ومحاولة الوصول إلى موقف توفيقي لا يقدم كبير فائدة. كما أن أسلوب الندوات الداخلية يمكن أن يسهم في إيضاح الحقائق ، وإزالة سوء الفهم ، وأذكر في هذا لمجال أنني دعيت ذات يوم مع أحد الأخوة الفضلاء إلى مثل هذه الندوة ، حول موضوع شغل الجماعة والرأي العام المحلي والعالمي ، وهو موضوع مقاطعة الانتخابات النيابية. وجاءت هذه الندوة بعد مرور عام على هذا القرار ، وكنت البادي في الحديث ، فقلت : بعيداً عن الانتصار للذات ، والتخندق في خنادق المواقف المسبقة ، دعونا نستعرض الأسباب التي كانت تقف وراء اتخاذ القرار ، ولنحاول تعرف ما تم انجازه خلال هذا العام ، على طريق معالجة الأسباب ، لنحكم بعد ذلك لصالح القرار أو لصالح غيره. هذا الطرح الهادي العقلاني المنصف هيا أرضية للبحث والمراجعة ، والربط بأحداث السيرة ، وبتجربة الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ، من لدن الإمام المؤسس رحمه الله. أن استمرار هذا النهج والتوسع فيه يمكن أن يسهم في عملية التقويم ، بما يجعل من التقويم أسلوباً علمياً كاشفاً للحقائق ، ومرشدا للمسيرة ، على أن يستحضر العاملون في هذا المجال آفات اللسان ، حتى لا يكون النقد والمراجعة وسيلة للتجريح والتشهير وخطف الأضواء ، والانتصار للنفس ، فيضيع الهدف ، ويقع الناس في المحذور ، الذي طالما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم « ويكره لكم ثلاثاً : قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ».
 
ويمكن الاستفادة من استطلاعات الرأي العام إزاء سياسة من السياسات ، أو موقف من المواقف ، شريطة أن لا يتصدى لهذه المسئولية إلا من امتلك أدواتها ووسائلها ، فإن قياس الرأي العام علم لا ينبغي أن يمارسه إلا أهله « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » أن نتائج قياس الرأي العام تضع بين يدي المخططين وأصحاب القرار كشافا ، يقرأون على ضوئه خططهم وقراراتهم. وهنا أود أن أحذر من الأساليب غير العلمية وغير الأمينة ، التي يلجأ إليها بعضهم في محاولة فاشلة للبحث عن شواهد وبراهين لسياساتهم ومواقفهم. أن هدف الباحث الصادق الوصول إلى الحقيقة ، سواء وافقت رغبته أو عارضتها ، وهذا النهج أصيل في تراثنا الإسلامي « ولا تقف ما ليس لك به علم ». كما أن الصحافة الجادة يمكن أن تسهم بدور مسئول في هذا المجال ، على أن يتصدى لهذه المهمة بروح العالم المنصف المتحري للحقيقة ، وليس بروح كسب المواقف وتضليل الرأي العام ، وهي مهمة دقيقة وعسيرة وخطيرة ، فقد رأينا كيف انزلقت بعض الأقلام إلى مستوى الحملات الإعلامية الرسمية ، في بعض المراحل. وكيف دفع الهوى وشهوة الغلبة ، والانتصار للنفس ، وردات الفعل ، إلى نشر ما لا يجوز نشره. أن العمل الجماعي ولا سيما الدعوى أمانة. وأن حفظ السر من أعلى درجات الشجاعة ، كما يقرر الإمام حسن البنا ، فلا يجوز أن يحملنا الحرص على الانتصار للرأي إلى كشف المستور ، الذي لا يستفيد منه إلا خصوم الدعوة وأعداؤها.
 
ولعل من المفيد في ها الأمر الاستفادة من خبرات بعض المنصفين ، من خارج صف الدعوة وملاحظاتهم. وأن هنالك أشخاصاً ليس أعضاء في الجماعة ولكنهم على قدر عال من الوعي والخبرة ، والموضوعية والغيرة ، على المصلحة العامة ، يمكن أن يستفاد من جهودهم في هذا المجال. إن فترة الانفتاح والانفراج النسبي ، الذي شهدتها الساحة الأردنية منذ عام 1989 أزالت كثيراً من الحواجز بين التنظيمات والأشخاص ، وأكدت أن ليس كل من اختلف معك عدواً لك ، وأن الإخلاص ليس حكراً على فريق ، أو اجتهاد بعينه ، وأنه هناك مساحة لا باس بها يمكن أن يلتقي عليها الناس ، وان يتعاونوا عليها. كما أثبتت الجماعة خلال هذه السنوات ، درجة عالية من الإخلاص في التصدي للقضايا العامة على الساحتين الوطنية والعربية ، قربها من نفوس بعض التنظيمات ، وكثير من الأشخاص ، من مختلف الاتجاهات ، ولعل في ذلك ما يعزز إمكانية الاستفادة من ملاحظات الكثيرين ، ووجهات نظرهم ، إزاء بعض السياسات والمواقف. إن اعتماد هذه الوسائل والأساليب وغيرها يوفر إضاءة كافية تنير الدرب ، ومراجعة أمينة تعزز الإيجابيات ، وتقلل السلبيات ، وتقطع الطريق على الوشوشات والجيوب ، التي أن بقيت أعمت وأضلت ، وأشغلت.
 
==الدرس الثالث عشر : دعوة تحمي أفرادها من الانحراف==
 
إن جماعة الإخوان المسلمين بتشكيلاتها وبرامجها والأجواء التي تهيئها لأبنائها ومريديها ، تحميم ولا سيما في فترة الشباب ، من عوامل الانحراف. فالأجواء القرآنية والسجدية ، والبرامج التربوية ، والأشغال الفعال للأوقات ، والرياضات النافعة ، والمخيمات الهادفة ، كل ذلك يسهم في تحصين الشباب من الانحراف ويرفع من سويتهم. ولعل فيما أورده الإمام حسن البنا ، في مذكرات الدعوة والداعية ، تحت عنوان « الدعوة في جباسات البلاح » خير دليل على ذلك حيث يقول :
 
« اتصل بعض عمال الجباسات الفضلاء بالإخوان بالإسماعيلية ، فنقلوا عنهم الفكرة إلى أخوانهم ، ودعيت إلى زيارة الجباسات ، وهناك بايعت الإخوان على الدعوة ، فكانت هذه البيعة نواة الفكرة في هذا المكان النائي. وبعد قليل طلب العمال إلى الشركة أن تبني مسجداً ، إذ كان عددهم أكثر من ثلاثمائة عامل. وفعلاً استجابت الشركة لمطلبهم ، وبني المسجد ، وطلبت الشركة من الجماعة بالإسماعيلية انتداب أخ من العلماء ليقوم بالإمامة والتدريس. فانتدب لهذه المهمة فضيلة الأخ المفضال الأستاذ الشيخ محمد فرغلي ، المدرس بمعهد حراء حينذاك. وصل الأستاذ فرغلي إلى البلاح ، وتسلم المسجد ، وأعد له سكن خاص بجواره. ووصل روحه القوي المؤثر بأرواح هؤلاء العمال الطيبين. فلم تمض عدة أسابيع وجيزة ، حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفساني والاجتماعي ارتفاعاً عجيباً. ولقد أدركوا قيمة أنفسهم ، وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة ، وقدروا فضل إنسانيتهم ، فنزع من قلوبهم الخوف والذل والضعف والوهن ، واعتزوا بالإيمان بالله ، وبإدراك وظيفتهم الإنسانية في هذه الحياة -خلافة الله في أرضه- فجدوا في عملهم اقتداء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه » ثم عفواً عما ليس لهم ، فلم تأسرهم المطامع التافهة ، ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة ، وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب ، شامخ الأنف في وقار ، يحدثه في حجة ومنطق ، لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية ، أو لفظة جافية ، أو مظهراً من مظاهر التحقير والاستصغار ، كما كان ذلك شأنهم من قبل. واجتمعوا على الإخوة ، واتحدوا على الحب والجد والأمانة ».
 
أية مدرسة هذه التي تبني هذا البناء القيمي العجيب الذي يدهش المراقبين ، ويملأ قلوب الحاسدين غيظاً وكمدا! ومن هنا فإن بعض الحريصين على أبنائهم يدفعون بهم إلى مراكز الإخوان المسلمين ، حتى وإن كان الآباء من غير الإخوان.
 
حدثني السيد محمد رشيد الكيلاني ، وهو زميل عمل في التربية والتعليم ، أن والده رحمه الله كان يحثه وإخوانه ، على الذهاب إلى المركز العام ، للإخوان المسلمين ، فخطر له يوماً أن يسأل أباه ، لماذا تشجعنا على الذهاب إلى مقر الإخوان المسلمين ولست منهم؟ فأجاب : لكي أحمي فترة شبابكم من الانحراف.
إن مرحلة الشباب ، التي يطلقون عليها مرحلة المراهقة مرحلة خطيرة ، وهي تترك بصمات على حياة الإنسان ، إلى ما شاء الله. ويصدق فيها قول الشاعر :
 
إن الشباب والفراغ والجدة
:::مفسدة للمرء أي مفسدة
 
وقد عانت الأمم التي حرمت التصور الإسلامي السليم من الأمراض والعلل التي تفتك بشبابها ، وتحرمها من رأسمالها الحقيقي. بينما لم يعرف المسلمين أيام كانوا يتفيأون ظلال المجتمع الإسلامي ، هذه المرحلة. ولم تبد عليهم أعراضها. فقد كان شبابهم مكتهلين في شبابهم ، غضيضة عن الشر أعينهم ، ثقيلة عن الباطل أرجلهم. أن ربط قلب الشاب بربه ، واستحضاره لعظمته سبحانه ودوام مراقبته ، والتطلع إلى جنته ، وتقديم القدوة العملية له ، ممثلة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن سار على دربه رفعتهم إلى طهر الملائكة وحكمة الشيوخ ، وإقدام الأبطال ، ولا أدل على ذلك من الصورة الرائعة التي يرسمها عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، يوم بدر. حيث يقول : نظرت عن يميني وعن شمالي ، فوجدت نفسي بين فتيين صغيرين ، فلم آمن على نفسي بينهما. فتقدم أحدهما مني ، وهمس في أذني يا عم ، دلني على أبي جهل ، فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دنا مني الآخر ، وقال مثل مقالة أخيه. فما سرني أنني بين رجلين جلدين ، لما رأى من إقدامهما وإصرارهما على الانقضاض على رأس الكفر. ومثل هذا تجلى في غزوة أحد ، وبعد أن أنخذل المنافقون ، وأصبح المسلمون أمام معركة غير متكافئة ، حيث تسابق الفتيان لأخذ مواقعهم في الجهاد ، وراحوا يقفون على رؤوس أصابعهم ، ليبدوأ في عين النبي القائد صلى الله عليه وسلم كباراً. وكم كان حزن من يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغر سنه.
 
هذه النماذج بدأت تشكل من جديد على أيدي الإخوان المسلمين. فالفتيان الذين احتضنتهم الجماعة في الأشبال ودور القرآن ، وأقسام الطلاب كبروا سريعاً ، فاهتماماتهم غير اهتمامات لداتهم ، وحياتهم صورة مختلفة تماماً. أنهم لم يتربوا على أيدي أساتذة علم النفس ، وإن كنت لا أقلل من شان هؤلاء ، لو أنهم جمعوا إلى هذا العلم قواعد التربية الإسلامية ، ولكنهم تربوا على أيدي موجهين ، وعوا كتاب الله عز وجل ، وأشربت قلوبهم سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فراحوا يرددون مع إخوانهم الكبار ، و « الرسول زعيمنا ».
 
ولنستمع إلى هذه السطور الرائعة ، التي نقلها الأستاذ كامل الشريف ، في كتابه « الإخوان المسلمون في حرب فلسطين » حيث يقول : « ولا زلت أذكر ذلك اليوم ، الذي حضرت فيه جماعة من الإخوان ، قوامها خمسة عشر شاباً ، لم تكن تزيد أعمارهم على السادسة عشرة ، فقالوا : إنهم يرغبون في تأدية فريضة الجهاد ، بعد أن نجحوا في امتحاناتهم لهذا العام. ثم أخذوا يقصون علي أبناء رحلتهم الشاقة ، وكيف غافلوا رجال البوليس ، وقفزوا إلى عربات البضائع في قطارات السكك الحديدية ، وكيف ساروا مسافات شاسعة في صحراء سيناء الموحشة ، بمعونة دليل من البدو ».
 
هؤلاء الفتيان ومن خلال الدعوة المباركة أسهموا في استقرار مدارسهم ، وتوجيه زملائهم ، وتقديم النماذج العملية. كما حققوا حضوراً متميزاً في نشاطات الجماعة. وحين انطلقت الانتفاضة المباركة على الأرض الفلسطينية ، كانوا عمادها ، وحين تسابق الشهداء إلى الجنة كانوا في المقدمة ، فبعثوا الأمل في عيون الأمهات ، وسلبوا الأمن من قلوب الغزاة المحتلين ، وألفت ساحتنا معاذاً ومعوذا وابن القاسم من جديد.
 
ومما يؤسف له ، أن هذا الدور المبارك ، لم يحظ بالدعم من الجهات الرسمية ، بل ضاقت به ذرعاً. وهي تصدر في ذلك عن مخاوف لا مبرر لها ، تقف وراءها جهات لا تريد الخير للوطن والمواطن. فأي ضير من نشاط طلابي مسئول ، يتمثل في رحلة أو مخيم كشفي ، أو جريدة حائط أو ناد أو مدرسة إسلامية ، أو مجلس طلبة؟ لقد آن للمسئولين أن يدركوا أن البديل خطير ومدمر ، في ظل هجمة إعلامية تجاوزت الحدود والحواجز ، في عصر اللواقط والانترنت. وفي زمن تفنن أصحاب المصالح الضيقة في إفساد الأجيال بالمخدرات من أجل ربح عاجل. ولو أدرك المسئولون في بلادنا عظم الدور الذي تضطلع به الجماعة في بناء الجيل وتحصينه وحمايته من الأدواء النفسية والاجتماعية ، لقدموا لهم كل التسهيلات ، ولهيأوا لهم الإمكانات التي تعينهم في تطوير آدائهم ، وتوسيع قاعدة « اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون ».
 
إن المجتمعات التي توفرت لها الإمكانات المادية الهائلة ، وحققت شأوا بعيداً في الرخاء الاقتصادي ، والتأمينات الاجتماعية ، والفرص التعليمية ، والمؤسسات التربوية ، تشهد مشكلات نفسية واجتماعية مدمرة ، تتمثل في اتساع الجريمة بكل أشكالها ، من قتل واغتصاب وانتحار ، وإقبال على المخدرات ، مما ينذر بكوارث مروعة. لقد نجح هؤلاء في عالم الماديات وأخفقوا في عالم الروحانيات ، لقد رعوا الإنسان الجسد ، وأهملوا الإنسان الروح ، وهي مؤامرة على الإنسان توشك أن تدمر حضارته.
 
إن الحضارة الغربية نأت عن تعاليم الدين ، بعد أن فرغ القائمون على أمر الدين دينهم من الحياة ، وحولوه إلى رسوم وإشكال ، ورتعوا في شهواتهم وملذاتهم ومصالحهم ، بعيداً عن أهداف الدين ومراميه. وبقي شرقنا المؤهل الوحيد للنجاة من هذا الخطر الماحق ، بل المؤهل للأخذ بيد البشرية لإنقاذها مما هفي فيه. وقد يبدو هذا الكلام ضرباً من الخيال ، في ظل حالة الانبهار بالواقع الغربي ، والشعور بالهون إزاء التخلف الذي تعيشه الأمة ، وغاب عن هذا الفريق المبهور ببريق الحضارة المادية ، إن القوة التي لا تستند إلى القيم الإيمانية والمثل الأخلاقية ، هي قوة موهومة تحتاج إلى من يحرك عصا سليمان فتسقط.
 
وما هذا الانهيار الذي فاق كل التوقعات والتقديرات للاتحاد السوفيتي ، فأصبح جديرا بالرثاء إلا دليلاً على ذلك. وإن قوى عالمية أخرى مرشحة لمثل هذا المصير ، أو إلى ما هو شر منه. إن لم يتم تداركها بصحوة ضمير ، وعودة روح ، وإعادة توازن بين الماديات والمعنويات. ومن هنا تتكشف أبعاد جريمة الذين يصرون على تطويع العقل العربي والإسلامي ، والواقع العربي والإسلامي للمناهج المادية الغربية. أنهم بعملهم هذا يخرجون القطار عن سكته ، ليهوي في أسفل سافلين. إن على كل حريص على الأجيال القادمة ، وكل مناضل من أجل غد أفضل ، أو مكافح من أجل الحد من الجريمة ، أو متطلع إلى تنمية حقيقية شاملة ، أن يدرك أن وسيلة ذلك كله ، هي بناء الإنسان وفقاً لمنهج يقوم على العلم المطلق ، والعدل المطلق ، والتوازن ، ولا إخال ذلك متوافراً إلا في المنهج الإسلامي ، الذي يشكل الطبعة الإلهية الأخيرة لرسالته إلى الناس ، لإصلاح الإنسان والكون والحياة ، وتحقيق السعادة على الأرض ، والتأهيل للفردوس الأعلى في العالم الآخر. وقد وفق الإخوان المسلمين إلى فهم هذا المنهج ، والانحياز غليه والالتفاف حوله ، والدعوة إليه. ولكن الجهل والهوى جندا كل أصحاب المصالح في الداخل والخارج ، للحيلولة دون تحقيق هذا الهدف الكبير « فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ».
 
 
==الدرس الرابع عشر : دعوة لا مكان فيها للعصبية والتعصب==
 
لما كانت دعوة الإخوان المسلمين امتداداً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما كان أبناء الدعوة يتجمعون على رابطة الإخوة في الله ، التي لا تنحاز إلى لون أو عرق أو بقعة جغرافية ، شعارها :
 
أبي الإسلام لا أبا لي سواه
:::إذا انتسبوا لقيس أو تميم
 
فقد حماها الله عز وجل من التعصب ، الذي لم ينج عن شره إلا من عصم الله. ومن هنا فإن أبناء الدعوة الإسلامية لا يكلفون أنفسهم السؤال عن مكان الولادة إلا لأغراض التعارف. فالمواقع القيادية لا ينظر فيها إلى هذه الاعتبارات. فشكلوا وما زالوا يشكلون نموذجاً للوحدة الوطنية وحراسا لها. ولا غرو في ذلك ، فهم ورثة رسالة ضمت كل الأعراق ، وجمعت القلوب على رابطة الإخوة ، يحدوهم قول ربهم « إنما المؤمنون إخوة » ورغم ما تعرض له الناس في الأردن من هزات استهدفت نسيجه الاجتماعي ، ولعل أخطرها ما حدث عام (70) ولم تتوقف المحاولات حتى هذه اللحظة ، إذ أن المستفيدين من ضرب الوحدة الوطنية موجودون ، وقد ظل الإخوان المسلمين مستمسكين بوحدتهم ، داعين إلى وحدة شعبهم ، على طريق توحيد الأمة « وإن هذه أمتكم أمة واحدة » وظلت خطبهم وبياناتهم وأحاديثهم في المنتديات والمناسبات الاجتماعية عامل توحيد يلجم نوازع الفرقة والتشتت ، فالعصبية عندهم منتنة ، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهي دعوى جاهلية ، فضلاً عن أنها خدمة مجانية لأعداء الأمة الطامعين بها.
 
إن المهم عند الإخوان المسلمين أن يكون الأخ منتميا لدعوته ، متمثلا لها ، ليلتف الإخوة من حوله ، ويقدموه للموقع التي تخدم هذه الدعوة المباركة ، بغض النظر عن الاعتبارات التي تعارف عليها الناس ، في غياب التوجيه الإسلامي. هذا التصور أنتج ساحة مع مخالفيهم من أبناء الوطن الإسلامي ، فلم ير فيهم الناس تعصباً إزاء مخالفيهم في التصور والاعتقاد. وبذلك فوتوا الفرصة على الحالمين بضرب الوحدة الوطنية ، من أجل مزيد من الفرقة ، وتبديد الشمل ، وإيجاد بؤر توتر ينفذون من خلالها لتحقيق أهدافهم ، ومن هنا فقد كانوا قريبين إلى قلوب الجميع ومحل إعجابهم ، فقد ربط بين الإخوان المسلمين في مصر والأقباط صداقات وصلات حتى أن بعضهم قدم عرائض موقعة تطالب بالحكم بالإسلام ، لما رأى من خلق الإمام حسن البنا وسماحته ، ومثل هذا صدر عن فارس الخوري ، القائل « أحب أن أتعبد في كنيستي وأحكم بالقرآن ». كما أن الإخوان المسلمين الذين دخلوا فلسطين مجاهدين ، وأخذوا مواقعهم في منطقة بيت لحم ، حظوا بتقدير المواطنين النصارى هناك. وفي الأردن انعقدت صداقة وتعاون مع كثير من رموز النصارى ، ممن ألفتهم مقار جبهة العمل الإسلامي والمركز العام للإخوان المسلمين ، على قاعدة التعاون على دفع الشرور التي تتهدد الوطن ، وتحقيق أكبر قدر من المصالح العامة. حتى شاع لدي الكثيرين في الأردن ، رسميين وشعبيين ، أن الحركة الإسلامية في الأردن نموذج خاص ، وحالة متميزة في رشدها وعقلانيتها ومرونتها وقدرتها على التعامل والتعاون مع الآخرين ، وفي تقديري أن الحركة الإسلامية هي الحركة الإسلامية ، من حيث مبادئها ومنطلقاتها ، ولكن قدراً من الحرية النسبية في الأردن هيأ للقوى السياسية والاتجاهات الفكرية أن تلتقي وتتحاور فوضحت هذه الصورة. ويوم يزول الكابوس الجاثم على صدور المواطنين في الأقطار التي تشهد صراعاً بين السلطة والإسلاميين ، أو بين السلطة والشعب بشكل عام ، فسيجد الناس أن الحركة الإسلامية دعوة خير وسماحة رحب خير للجميع ، استناداً إلى التصور الإسلامي الرائع ، الذي ضان الحقوق وحماها « وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » فهلا أدركت البشرية مدى خسارتها بإقصاء الإسلام عن واقع الحياة ، فكان البديل أجنبياً متحكما ، أو صاحب هوى متبع ، يريد أن يعبد الناس لهواه ومصالحه ، وأني قيم له سلطاناً في قلوبهم ، كما هو في حياتهم ، والخاسر هو الشعب ، الذي لم يدرك أن خروجه مما هو فيه لا يتحقق إلا في ظل عدالة الإسلام ورحمته وسماحته. وكم أصاب كبد الحقيقة الفيلسوف الانجليزي برنارد شو حين قال : « ما أحوج العالم إلى رجل كمحمد يحل مشكلاته وهو يحتسي فنجانا من القهوة ».
 
==الدرس الخامس عشر : لا ترد طلباً ولا تخيب رجاء مؤمل==
المسلم ينطلق من أن الخلق عيال الله ، وأحبهم إلى الله أحسنهم لعياله ، ومن هنا فإن إغاثة الملهوف من أخلاق المصطفى عليه الصلاة والسلام « وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر » ولما كان الإخوان المسلمين امتداداً لذلك الجيل ، الذي وصفه ربه تبارك وتعالى بقوله : « كنتم خير أمة أخرجت للناس » فقد عقد عليهم كثير من الناس الأمل والرجاء. وما أسوأ أن يدعو المرء إلى فضيلة وهو يتقلب في الرذيلة « لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون » أن التناقض بين الفكرة والسلوك ، والظاهر والباطن علامة نفاق ، وسبيل صد عن منهج الله ، فكم من إنسان نكص على عقبيه حين اكتشف أن من يدعونه إلى الخير يخالفون إلى الشر.
 
صحيح الاستجابة لمطالب الناس والقيام بحقوقهم تكلف صاحبها غالباً ، ولكنها زكاة العلم والعمل والجاه يجب إداؤها ، فمن تصدى لدعوة الناس إلى الله ، أو تمثيلهم ، أو ممارسة العمل العام ، وجب عليه أن يؤدي هذه الزكاة ، وإلا كان جاحداً لنعمة الله ، مضيعا لحقوق عباد الله ، ظالماً لهم وظالما لنفسه. وقد كانت فترة مشاركتنا في الحياة النيابية ابتلاء عظيماً. فلقد جئنا في ظروف بالغة الصعوبة ، كما جئنا ونحن نرفع شعار الإسلام هو الحل » فهل نحن قادرون على تقديم الحلول لمشكلات الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ صحيح أن الإسلام هو الحل ، وليس هنالك لمشاكلنا سواه حل « فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى » فالإسلام حل مشكلات الناس يوم حكم في حياة الناس ، حتى قيل : « لقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس » ولم يغنهم عمر من ماله أو مال أبيه ، ولكنه أغناهم حين أقام منهج الله ، وأدى الأمانات إلى أهلها. ولكن الحل الإسلامي في الأوضاع المعرضة عن الله أمر متعذر ، ورغم ذلك فالداعية مطالب بأني يبذل جهده ، ويقدم ما يستطيع « لا يكلف الله نفساً إلا وسعها » وإلا كان مقصراً ومضيعا ، وعن سبيل الله حائدا وصادا.
 
كانت من أكثر القضايا التي يقصدنا الناس من أجلها الاعتقالات ، التي طالت الكثيرين في فترة التراجع الديموقراطي ، وهي فترة جاءت في أعقاب انتهاء حرب الخليج ، فبدأ مسلسل قضايا جيش محمد ، والنفير الإسلامي ، وحماس ، والأردنيين الأفغان ، وشباب مؤنة ، وبيعة الإمام وغيرها ، ولعلمنا أن معظم المتهمين في هذه القضايا أبرياء ، حيث تم إخلاء سبيل كثير منهم بعد فترات من اعتقالهم ، كما حكمت محكمة التمييز ببراءة بعضهم. فقد رأينا أن نقف إلى جانبهم ، فأحسنا استقبال ذويهم ، وحرصنا على زيارتهم ، والاستماع إليهم ، وحملنا مظالمهم إلى أصحاب القرار وتحت القبة. فانعقدت بيننا وبين ذويهم صداقات ، فتحنا لهم أبواب مكاتبنا ، وزرناهم حين تم الإفراج عن أبنائهم مهنئين ، ولبينا دعواتهم حين أولموا إكراماً لله الذي فرج عن المعتقلين ، وتكريماً لمن وقفوا إلى جانبهم في محنتهم.
 
ولم يقتصر الأمر على حالات الاعتقال ، فهناك ذوو الحاجة ، الذين سدت في وجوههم أبواب الرزق ، فقصدونا لمساعدتهم في الحصول على العلاج ، أو معونة طارئة ، أو فرصة للعمل ، أو للحيلولة على بيوتهم بعد أن عجزوا عن الوفاء بالالتزامات المترتبة عليهم.
 
وكنا ننطلق في تجاوبنا مع هموم الناس ، من أننا جزء من أمة ، حدودها لا إله إلا الله. ولم تقيدنا حدود جغرافية ضيقة ، رسمها أعداؤنا ، فرضي بها بعض بني قومنا ، واعتبروها حدود وطننا. ومن هنا كان تجاوبنا مع فلسطين والعراق وليبيا والسودان والجزائر واليمن والبوسنة وكوسوفا والأفغان والشيشان ، فلكل قضية لجنة ، ولكن لجنة طريقتها في العمل ، وقد يقتضي ذلك ركوب الخطر. وأود أن أسوق بعض الأمثلة مع الحرص على عدم الإطالة.
 
- حين أبعدت سلطات الاحتلال الصهيوني أكثر من ثلاثمائة فلسطيني إلى مرج الزهور ، تطبيقاً لخطتها في تفريغ الأرض الفلسطينية ، ومحاولة تحطيم نفسية الإنسان الفلسطيني ، وإنهاء الانتفاضة الباسلة ، التي تتصدى لسياسات تهويد فلسطين. فقد كان علينا أن نتخذ كل إجراء نراه مفيداً ، في تمكين المبعدين من العودة ، ومؤثرا في فضح الممارسات الصهيونية. فقد بادر أخونا الدكتور عبد اللطيف عربيات ، رئيس مجلس النواب ، إلى الدعوة لعقد مؤتمر للاتحاد البرلماني العربي في عمان ، لوضع البرلمانات العربية أمام مسئولياتها ، ووظفت أقلام الإخوان وخطبهم وأحاديثهم لخدمة هذه القضية. كما توجه نفر منهم إلى لبنان ، لحضور المؤتمر الذي عقدته القوى والفصائل اللبنانية والفلسطينية ، لمساندة المبعدين ، وشاركوا بفعالية في أعمال المؤتمر ، ولم يكتفوا بذلك ، بل حرصوا على زيارة المبعدين في موقعهم. ولم يكن الوصول إليهم سهلاً ، فهم في منطقة حدودية مع فلسطين المحتلة ، وعلى مرمى البندقية الصهيونية ، وهذا يستدعي أن يكون التحرك ليلاً ، كما أن السيارة لاعتبارات عدة لا تستطيع الوصول إليهم ، وهذا يرتب على زائرهم أن يسير على قدميه قرابة ساعتين في منحدر سحيق ، ومثلها في صعود جبل شاهق أثناء العودة. ولكن الوصول إليهم ، للتضامن معهم ، وشد أزرهم ، والاقتباس من بطولاتهم ، أهداف تستحق التضحية. ولم نتمكن من العودة إلا قبيل الفجر. وحين عدنا إلى الفندق في الضاحية الجنوبية من بيروت ، وجدنا رسالة من إخواننا في صيداً ، تشير إلى أنهم رغبوا في لقائنا ، واضطروا إلى العودة بسبب تأخرنا ، وهم يرجوننا أن نزورهم في صيداً. وكان التعب قد أخذ منا مأخذه ، والنعاس قد ألقى علينا بكلكله. ولكن إرادة الخير انتصرت على مطالب النفس ورغائبها ، فكان جوابنا « فليبشروا » وبعيد أداء الصلاة ، وتناول طعام الإفطار ، توجهنا إلى الجنوب. وكنا ثلاثة نفر ، الشيخ عبد الرحمن عكور ، والشيخ أحمد كفاوين ، وكاتب هذه السطور. ووصلنا قبيل الظهر ، وكان يوم جمعة ، فرغب مضيفنا أن يقوم أحدنا بإلقاء خطبة الجمعة في أحد مساجد صيداً ، فكان جواب أخينا أحمد كفاوين « نريد ثلاثة مساجد » ، وتم توزيعنا على مساجد ، حمزة ، والحسين ، وعلي بن أبي طالب ، وكان لهذه الاستجابة أطيب الأثر في النفوس. وكم كنا نود لو كان الوقت يسمح لنا بزيارة مخيم اللاجئين ، الذين يرون في زيارتنا لهم قوة معنوية ، في مواجهة الاعتداءات الصهيونية المستمرة ، ولكن موعد إقلاع الطائرة كان قد اقترب ، فاكتفينا بجولة في السيارة ، في شوارع المخيم.
 
- حين انفرط عقد الاتحاد اليوغسلافي ، واختارت أغلبية سكان البوسنة والهرسك في انتخابات حرة نزيهة الاستقلال ، أسوة ببعض الجمهوريات التي استقلت ، قامت قيامة الصرب ، وارتكبوا من الجرائم ما يجعل الولدان شيبا. لقد هزتنا مأساة البوسنة والهرسك ، وبعثت فينا شجون الأندلس من جديد ، وما أشبه اليوم بالأمس ، وقررت السفر إلى كرواتيا ، برفقة الدكتور موسى الزغول ، وكان قد سبقنا الأخ سعود أبو محفوظ. حيث كان لجمعية الهلال الأخضر ، التي أشرف برئاستها ، فضل السبق إلى تلك الديار ، نحمل بعض المساعدة الطبية والغذائية. وقد سهل من مهمة الجمعية وجود بعض الطلبة الأردنيين ، الذين كانوا بحق نعم السفراء لبلدهم. فقد عوضوا بجهودهم الموصولة نقص الإمكانات المادية ، فبدأ حجم المساعدات الأردنية كبيراً ، نتيجة جهود هؤلاء الشباب المخلصة. وصلنا إلى كرواتيا ، وزرنا لجان الإغاثة ، وتجولنا في مخيمات اللاجئين ، وقرأنا في عيونهم فيضاً من المعاني ، فيها الحزن وفيها العتب وفيها التقدير. وقد حفزنا ما رأينا على زيارة سبليت ، لنعبر عن هناك إلى البوسنة. وكانت الرحلة شاقة ، والطريق مخوفة ، فالتنقل يتم بين قوى عسكرية متعادية ، وهذا يحتم علينا تحاشي القوات الصربية ، والحصول على موافقة الكروات ، وقد ساعدنا في ذلك سائق ماهر خبير بالدروب ، رابط الجأش ، كثير الصمت. وقد تمكنا بتوفيق الله عز وجل ، ثم بخبرة هذا السائق المتميز ، من الوصول إلى زانتسا ، والوقوف على احتياجات القوم ، والإطلاع على معاناتهم. ومما زاد في صعوبة المهمة الظروف الجوية. فقد كان الفصل شتاء ، وكان الثلج غزيراً وكثيراً ما كان يتراكم فيسد الطريق. ويجعل التحرك عليه خطيراً ولا سيما في الطرق غير المطروقة ، التي كنا نتحاشى من خلالها الوقوع في أيدي القوى المعادية. ولم يكن لنا من زاد إلا التوجه إلى الله مفرج الكرب.
 
إن شعورنا بالمسئولية إزاء إخواننا ، وقناعتنا إننا يمكن أن نقدم بعض حقوقهم علينا ، وإيماننا بأن جهدنا في مثل هذه الظروف من أفضل العبادات. هو الذي حملنا على ركوب هذه الأخطار ، وجعلنا نحسن ببرد اليقين ، وراحة النفس ، ورضي الله عن حذيفة بن اليمان ، الذي خرج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ، ليرى ما يفعل القوم ، فعاد يقول « كنت كأنني أمشي في حمام » رغم لسع البرد ، ودمدمة الريح ، وحلكة الظلام.
 
- إن مما ابتليت به مؤسساتنا الرسمية مزاجية المسئول ، فهو يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء. ولعل وزارة التربية والتعليم أكثر الوزارات حساسية إزاء هذه القضية ، فقد استهل وزير التربية ذات يوم عهده بإحالة عدد من القيادات التربوية على التقاعد. فأحسن هؤلاء بالظلم ، فتقدموا بقضية إلى محكمة العدل العليا ، طالبين إلغاء القرار ، ومحكمة العدل العليا يعتبر إنشاؤها من أهم منجزات المجلس النيابي الحادي عشر ، ولقد شهدت الساحة الأردنية لهذه المحكمة نجاحات ، في إلغاء كثير من القرارات الإدارية ، التي اتخذها بعض المسئولين بحق بعض الموظفين أو المواطنين ، أذكر منها قضية رفعتها جبهة العمل الإسلامي ضد وزير الداخلية ، حين قرر منع مرشحيها من عقد مهرجانات خطابية ، بين يدي الانتخابات النيابية عام 93 ، ومنها الحكم بعدم دستورية القانون المؤقت للمطبوعات والنشر ، وكثير من الإحالات على التقاعد أو الاستيداع ، أو الحرمان من جواز السفر. أقول : تقدمت هذه المجموعة من القيادات التربوية بقضية إلى محكمة العدل العليا ، كما قامت بجهد مواز زارت من خلاله بعض النواب. وقد استقبلت كتلة نواب جبهة العمل الإسلامي هذه الثلة التربوية ، ورحبت بها الترحيب اللائق بكوكبة تربوية ، وأصغت إليها باهتمام ، وعبرت عن تفهمها للقضية ، ودعمها الكامل لمطالبها ، فطابت نفوسهم لما سمعوا ، وعبروا عن ذلك بالشكر ، وأذكر أن السيد محمد بني هاني قال : لقد كنت أنتمي إلى تيار فكري وسياسي مختلف مع التيار الإسلامي ، فوجدت من التقي معه في الفكر والتوجه السياسي يظلمني ، بينما أجد الدعم والمؤازرة من التيار الذي اختلف معه إلى درجة التناقص.
 
إنها ليست حالات معينة ، ولكنها سنة متبعة ، ومنهج ملتزم ، نقتدي فيه بخير الورى صلى الله عليه وسلم ، الذي كان لا يرد طالباً ، ولا يتردد في مصاحبة من جاءه يطلب مساعدته ، حتى يقضي له حاجته. لقد سمعنا كثيراً من العتب يصل حد اللوم والتقريع ، ملخصه أننا زرنا فلاناً فلم يستقبلنا ، وزرنا علانا فقال أنتم انتخبتم غيري. ويممنا شطر زيد وعمرو فقالا لنا : لستم من دائرتي الانتخابية. أن فعل الخير لكل طالب معروف أحد المهام الرئيسية للإنسان المسلم (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون). ففعل الخير عبادة ورسالة وفضيلة ، لا ينتظر فاعلها أجراً إلا من الله تبارك وتعالى. ويعظم الأجر والذكر والأثر حين تشتد الحاجة ، ومن هنا فقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم السعي بحوائج الناس ، مقدماً على الاعتكاف في مسجده عليه الصلاة والسلام ، تأكيداً منه على كرامة الإنسان ، وأهمية إغاثة الملهوف. وإلى جانب كونه عبادة ، فهو مؤشر على مروءة وسماحة. هدي إليها العرب بفطرتهم ، والفطرة الصافية منسجمة مع الشريعة ، لأنهما يخرجان من مشكاة واحدة ، فكانت إغاثة الملهوف من مفاخر العربي ، ونجدة المضطر من أرفع محامد العرب ، ولا سيما حين يبذل المعروف بالبشر والسماحة ، وما أروع مقالة الشاعر العربي :
 
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله


فما عرف حقيقة الإخوان ، ولا دعوة الحق ، ولا سلامة الفطرة ، من أغلق بابه دون حوائج الناس ، أو أصم أذنيه عن سماع أناتهم ، أو خيب رجاء سائليه ، ورحم الله من قال فيه الشاعر :
- الشيهد [[عبد الله عزام]] شأنه شأن الكثيرين من أبناء هذه [[الإخوان|الدعوة]] المباركة ، من حيث وضعه الوظيفي والاجتماعي ، ولكنه امتاز على الكثيرين ، والكثيرين جداً ، بإيمان متدفق ، وجهاد مبرور ، جعلاه نموذجاً يحتذى ، وأهزوجة على الشفاه ، نرددها في الأعراس والرحلات والخلوات ، إلى جانب البنا والقسام فما أخال بقعة فيها مؤمن يقر لله بالوحدانية ، إلا ويذكر [[عبد الله عزام]] بالخير ، ويدعو له بالخير. فقد نجد إنساناً محل احترام فئة ما ، في بقعة ما ، في فترة ما. أما أن نجد من يحظى بالأكبار والإجلال ، على امتداد الساحة ، ورغم مرور السنوات ، ومن مختلف القطاعات ، فذلك أمر بعيد المنال ، ولا تحظى به إلا فئة محدودة أحسبها واقعة ضمن قول الله عز وجل وهو يتحدث عن السابقين السابقين فيقول : « ثلة من الأولين وقليل من الآخرين » وأحسب أن أبا محمد من هذا القليل. وقد شاء الله عز وجل أن أشهد مناسبة العزاء باستشهاده فرأيت كيف تدافعت الجموع إلى [[المركز العام بالحلمية (صور)|المركز العام]] ل[[جماعة الإخوان المسلمين]] ، وكيف ألهم الخطباء أروع الكلام ، وكيف تسابق الرسميون والشعبيون على نسبته إليهم. فكم من زعيم طويت صفحته بعد مماته ، وقد كانت وسائل الإعلام تملأ الدنيا ضجيجاً وهي تحاول أن تصنع له مجدا! وكم من ثري نافس قارون في الثراء غداً نسيا منسيا بعد أن زالت المصلحة! وبقي الشهداء لحناً عذبا يشنف الأذان على مر الزمان.


ما قال لا قط إلا في تشهده
:::لولا التشهد كانت لاؤه نعم


وكم اعتصر الألم قلوبنا ، واقض مضاجعنا ، حين كنا نقف عاجزين عن جبر عثرة كريم ، أو دفع الظلم عنه ، وأن أنس لا أنس ذاك البدوي ، الذي جاءني يعرض علي ظلم إحدى المؤسسات الرسمية له ، حيث صادرت أرضه وداره ، حين عجز عن قضاء دينه ، فقد تأكد لي أن العملية ليست أقل من اغتصاب قطاع الطرق ، فتفاعلت مع قضيته ورتبت له لقاء مع رئيس الحكومة ، الذي أبدى تفهماً ، وأشعره أنه سيرد إليه حقه. وطال الانتظار ، وتعددت اللقاءات ، وفي كل لقاء كنت ازداد ألماً ، مرده العجز عن إغاثته ، وشعوري بمرارة قهر الرجال. ورحل رئيس الحكومة ، وخلفه رئيس ، وواصلت معه المشوار ، ولمست استجابة عالية ، لكن إحساسي بالألم والحسرة ظل يزداد ، وأذكر أنني كتبت رسالة ، غاية في الإيجاز ، ودفعت بها إلى رئيس الحكومة ، ملخصها « أنني أتوقع خلال فترة قصيرة أن ينعي لك فلان ، أو ينعي لك غيره على يديه ، بسبب شعوره بالظلم » كنت أحس أن مرجلا يغلي في أحشاء الرجل ، وكنت أشفق على نفسي من سماع حديثه ، وكنت أتأمل قول المصطفى عليه الصلاة والسلام « من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم » واستعرض سيرة السلف الصالح ، الذين حرموا أنفسهم الراحة ، ليوفروها لرعيتهم. إن الذين يعيشون في أبراجهم العاجية ، بعيداً عن هموم الناس ومعاناتهم ، ليسوا أصحاب دعوة ، ولا يصلحون لها ،  ولا يشكلون إلا عبثاً عليها ، ولكن الذين يعيشون هموم الناس ، ويفتحون لهم قلوبهم ، ويمسحون على جراحاتهم ، ولو بالكلمة المؤنسة ، يسقون شجرة الدعوة ماء الحياة ، فتورق وتغدق وتثمر ويزكو ثمرها. إن موقفاً عملياً واحداً ننفس فيه عن مكروب ، أو نؤنس فيه مستوحشا ، لا تعدله كل الخطب ، وكل الكلمات ، وما قيمة الخطب والأشعار أن لم تترجم إلى مواقف عملية؟


==الدرس السادس عشر : إنصاف واعتراف لذي الفضل بفضله==
أن ما تعارف عليه الناس مؤخراً باسم الموضوعية يتجلى بأروع صوره في الإسلام ، ويعبر عنه باسم العدل تارة ، وباسم القسط تارة أخرى ، ويشمله مفهوم الأمانة الواسع. فالعدل ليس في حالة الحب والاستلطاف فقط ، ولكنه مع البغض والشنآن أيضاً « ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى » وهو ليس مع المسلمين دون سواهم ، ولكنه مع الجميع « وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » وهو مأمور به لان الله يحب المقسطين ، ومحذرا من تجاوزه والخروج عليه بوضوح وصرامة « ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً » ومن هنا فقد سجل سلفنا الكريم نماذج بعيدة الشاو في هذا المجال ، كانت سبباً في تقريب بعيد ، واستلال سخيمة ، وتغيير نهج ، وإقبال ما تضمنه قول الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
:::ولكن عين السخط تبدي المساويا
'''وأذكر في هذا المجال بعض الأمثلة :'''
- حين نشبت حرب الخليج التي ما زال المسلمين يدفعون ثمنها غالياً ، تباينت مواقف الدول العربية ، حكومات وحركات شعبية ، وكان الموقف الأردني في معظمه مع العراق على المستويين الرسمي والشعبي ، ولا أريد أن أتحدث عن دوافع الموقف الرسمي ، فلست جزءاً من صناع قراره ، ولكنني أشير إلى الموقف الشعبي ، باعتبار الحركة الإسلامية جزءاً منه ، بل في مقدمته. لقد قلناها مراراً ، وعبرنا عنها باللسان والقلم والموقف ، لسنا مع حاكم عربي ضد حاكم عربي ، ولا مع حكم عربي ضد حكم عربي. ولكننا مع قومنا ضد التدخل الأجنبي ، ولا سيما حين يقود التدخل اليهود والأمريكان فهم أصحاب مشروع ، ولا يتدخلون إلا من أجل أحكام سيطرتهم على الشعوب ، التي تقع بين براثنهم. ومن هنا فقد رفضنا التدخل الأجنبي ، واعتبرناه عدوانا ولا يجوز المشاركة فيه ، أو السكوت عليه ، بل يجب مناهضته والتحريض عليه.
فنحن أصحاب تجربة طويلة ومريرة ، تحمل مآسي عظيمة ، جراء تمكين الأجنبي من بلادنا ، وهذا الشعور ليس شعور الحركة الإسلامية وحدها ، ولا القوى المنظمة والمؤطرة حزبيا فقط ، ولكنه الشعور العام لدى مواطننا. ومن هنا فقد كان التجاوب الشعبي في أعلى مستوياته ، وكانت اللغة التي يحترمها المواطن هي لغة الوقوف في الخندق المواجه لليهود والأمريكان وقوات التحالف الدولي. في هذه المرحلة كان الإعلام الرسمي ممثلا بالإذاعة والتلفزيون منسجماً مع هذا التصور ، ومعبرا عنه إلى حد كبير ، خلافاً لما درج عليه من قبل ومن بعد. مما كان يتسبب في استفزازنا ورفضنا لدور المؤسسة الإعلامية ، ولا سيما التلفزيون ، الذي يقرن بين الصورة والصوت ، ويدخل كل بيت ، ويملك من وسائل التأثير ما لا تملكه الوسائل الأخرى. أقول : في هذه الفترة التي انسجم خلالها الإعلام الرسمي مع الإرادة الشعبية ، لأسباب لعل في مقدمتها أن الحكومة يومها كان يشارك فيها خمسة من الإخوان المسلمين ، وأن الإسلاميين كانوا يملكون قوة مؤثرة في مجلس النواب والشارع الأردني. وجدنا أن الإنصاف يفرض علينا أن نقدر دور وسائل الإعلام ، لانسجامها مع الموقف الشعبي ، رغم السياسة الإعلامية والبرامج التي طالما أدناها واحتججنا عليها ، فنحن نحكم على السلوك الظاهر ، معززين الإيجابيات ، منكرين السلبيات ولذلك وجهت كتلة نواب الحركة الإسلامية رسالة إلى وزير الإعلام ، تتضمن شكر نواب الحركة للمؤسسة الإعلامية ، على انسجامها مع الروح الشعبية السائدة ، إدراكا منا للحكمة البالغة « من لا يشكر الناس لا يشكر الله » فالأمانة تقتضي أن تقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت.
- عندما حمل إلينا الناعي نبأ وفاة المرحوم محمد حامد أبو النصر ، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ، أحسننا أن الواجب يملي علينا التوجه إلى القاهرة للعزاء. ولما كنا ندرك أن دخول القاهرة ليس ميسورا في كل الأحوال ، فقد عهد إلي بإجراء الاتصالات اللازمة ، فهاتفت سفير جمهورية مصر العربية في عمان ، معزيا بالفقيد الكبير ومشعرا إياه برغبتنا في زيارة مصر للتعزية ، ولم أسمع إلا عبارات الترحيب ، ثم هاتفت وزير الخارجية ، وكان يومها السيد عبد الكريم الكباريتي ، طالباً منه رقم هاتف السفارة الأردنية في القاهرة ، فتساءل عن السبب فأخبرته. فسألني عن المسافرين ، فذكرت أسماء من أعرف مشاركتهم في الوفد. فقال : « أمهلني عشرة دقائق ». وبعد عشرة دقائق اتصل بي قائلاً : « توكلوا على الله ، الأمور مرتبة » وتوجهنا إلى القاهرة ، وحطت الطائرة في مطار القاهرة الدولي ، وعند سلم الطائرة استقبلنا شابان أردنيان ، عرفنا فيما بعد ، أنهما مستشاران في السفارة الأردنية. وفي صالة كبار الزوار كان السفير الأردني السيد نايف القاضي ينتظرنا. وكان ذلك منتصف الليل ، رغم وضعه الصحي ، حيث كان يعاني من وعكة صحية طارئة. وبعد أن سلم علينا مستفسرا عن أحوالنا ، كلف سائقين بسيارتين من سيارات السفارة ، ليكونا في خدمتنا ، بعد أن زودنا بأرقام الهواتف الرسمية والخاصة ، مختصراً علينا كثيراً من الإجراءات ، التي يألفها من ينزل في المطارات العربية. وبعد أن انهينا المهمة التي جئنا من أجلها ، أدركنا أن الواجب يفرض علنيا أن نشكر من أسهم في إنجاح رحلتنا ، فسطرت رسالة باسم نواب الحركة الإسلامية ، تم توجيهها إلى وزير الخارجية تعبر عن شكرنا للدور المميز للسفارة الأردنية في القاهرة.
أننا نختلف مع الحكومة بل نعارض الحكومة وننكر عليها كثيراً من سياساتها ومواقفها ، ولا تمنعنا هذه المعارضة وهذا الاختلاف ، من أن ننسب الفضل لأهله ، والخير لصاحبه ، ومن أن نجهر بالشكر إزاء كل موقف إيجابي ، وهذا بعض مقتضيات الإنصاف.
- والأمثلة على ذلك كثيرة ، فلقد ظل الإخوان يذكرون للشريف زيد بن شاكر ، إنه أشرف على انتخابات نيابية عام 1989 ، هي الأولى من نوعها ، ليس في الأردن فقط ، وإنما في منطقتنا العربية. كما ظلوا يذكرون للسيد سالم مساعدة ، وزير الداخلية يومها ، مثل هذا الفضل. وقد ارتبط السيد إبراهيم عز الدين ، وزير الإعلام الأسبق ، بعقليته المنفتحة ، ونهجه الإعلامي وحرصه على الحوار ، وتطلعه إلى ساحة معقولة من الحريات العامة ، بصداقة مع كثير من رموز الحركة الإسلامية.
إننا لا نعادي الناس ، رسميين كانوا أم شعبيين ، إنما نحكم عليهم بحسب مواقفهم وكما نعطي أنفسنا الحق في المعارضة والاختلاف والاحتجاج والإنكار ، فإن من حقهم علينا أن نشكر لهم سلوكهم الإيجابي ، لأننا لا نتعامل مع أعداء ، وإنما مع أبناء وطن. وإن كانت بيننا وبينهم خصومة سياسية. ويحضرني هنا ، أنني قلت في أحد اللقاءات مع عدد من سباب الدعوة الإسلامية : «أن الحكومة ليست عدواً لنا ، ولكنها خصم سياسي ». فأنكر علي أحدهم هذا القول ، فقلت له : « لا يا أخي أننا وإياها أبناء بلد واحد ، والمعيار هو الالتزام بمبادئ أمتنا ، والحرص على مصالحها ، فإن استمسكوا بها فلهم الشكر والدعم والتأييد ، وإن قصروا أو فرطوا فالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ».
ولقد علمنا الإمام البنا رحمه الله بحلمه وإناته وإنصافه دروساً كثيرة جعلته محبوب الجماهير.
==الدرس السابع عشر: انحيازا إلى الأمة بغض النظر عن الموقف من الأنظمة==
إن موقف الجماعة من معظم الأنظمة في الوطن العربي ليس إيجابياً ، فهي في معظمها لا تحكم بما أنزل الله ، ولا تتوجه جدياً نحو ذلك ، وإن تظاهر بعضها باحترام الإسلام ، وأدعى الحرص عليه. فالإسلام ليس مظهراً خادعا ، أو قناعاً يلبس في بعض الأحايين ، لاستغفال الشعوب ، والضحك على الذقون ، ولكنه التزام تام بما نزل من عند الله ، عقيدة وعبادة ونظام حياة. فجماعة الإخوان المسلمين ، التي يتلو أفرادها قول الله عز وجل : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) والتي تعلم أن الأنظمة في معظمها أنظمة فردية ، عسكرية كانت أم مدنية ، فيها مجالس منتخبة أم معينة ، فهي أنظمة فردية. وهي في الغالب معادية للحركة الإسلامية ، وإن كانت صورة عدائها لها تختلف من نظام إلى آخر ، فبعضها حل الجماعة ونكل بأبنائها وشردهم في الأرض ، وحال بين الإسلاميين وبين تأسيس جماعة أو حزب ، يستند إلى التصور الإسلامي. وبعضها يضيق على الجماعة ، أو من يحمل فكرها ، بحرمانهم من منابر الدعوة إلى الله ، أو التقدم الوظيفي ، أو الوصول إلى مواقع المشاركة الرسمية والشعبية بحجمهم الطبيعي. ولا غرابة في ذلك ، فالدوائر المعادية تحرض عليهم باستمرار ، ورؤيتهم الإسلامية تتعارض مع الحكم الفردي ، وتتناقض مع السياسات الرسمية ، التي لا تنسجم مع عقيدة الأمة ، ولا تحقق مصالحها.
ورغم مواقف الأنظمة والحكومات ، التي دفعت الشعوب وفي مقدمتها الإسلاميون ثمنها غالياً ، والتي لم يستفد منها إلا أعداء الأمة ، وأصحاب المصالح الشخصية ، فقد ظلت الجماعة ومؤازروها والمتأثرون بفكرها أوفياء لامتهم ، حريصين على أوطانهم ، يرخصون الأرواح ذودا عنها وعن كرامتها. والأمثلة على ذلك كثيرة :
- حين وقع عدوان عام 1967 ، واحتل العدو الصهيوني أراضي ثلاث دول عربية ، وألحق بالأمة هزيمة عسكرية ونفسية بالغة القوة ، كتب الإخوان المسلمين من أعماق سجون مصر عريضة بالدم ، يطالبون من خلالها بالسماح لهم بمقاتلة اليهود ، دفاعاً من الأوطان والحرمات والكرامة ، مع تعهدهم بالعودة إلى السجون ، حين ينهضون بالواجب. وأن هؤلاء المعتقلين والسجناء ، الذين نالهم من الظلم ما سود صحائف ثورة مصر ، وأزرى بإنسانية الإنسان ، لم يمنعهم كل ذلك من الوفاء لأمتهم ، والقيام بواجبها. إنها نظرة تختلف عن نظرة أولئك ، الذين يرددون مع الشاعر :
إذا مت ظمآنا
:::فلا نزل القطر
'''وإنما هم دوماً مع القائل :'''بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام
فلم تمنعهم دماء عبد القادر عودة ويوسف طلعت ومحمد فرغلي ومحمود عبد اللطيف وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل ويوسف هواش وآلاف القتلى ممن قضوا على أعواد المشانق ، أو في سجون جرب فيها الطغاة أحدث ما توصلت إليه عقول الحاقدين في الشرق والغرب على الجنس البشري ، من الوفاء لأمتهم ووطنهم.
- حين وقعت حرب الخليج الثانية ، في أعقاب اجتياح العراق للكويت ، وتوجهت الجيوش الجرارة ، التي لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية إلى المنطقة ، بأساطيلها وحاملات طائراتها ، أدركت الحركة الإسلامية في الأردن ، ممثلة بجماعة الإخوان المسلمين ، إن هذه الحشود لم تهب نجدة للكويت ، ولم تحركها مشاعر إنسانية ، ولكنها إرادة القهر والتسلط والاستحواذ على ثروات المنطقة ، وفرض سيطرتها عليها. ومن هنا فقد كان الهاجس المسيطر على الحركة الإسلامية ، هو الحيلولة دون تحقيق القوات الأجنبية أهدافها. لقد عاش أبناء الحركة الإسلامية فترة تحشيد الجيوش أجواء الحرب ، فقادوا المسيرات الشعبية ، التي لم تشهد الساحة الأردنية لها نظيرا من قبل ، وطالبوا الحكومة بتسليح الشعب ، دعماً للعراق ، ودفاعا عن الأردن ، إذا ما تعرض للعدوان. ولم يكتف الإخوان بذلك ، بل حرصوا على تحريك الشارع العربي ، إيماناً منهم أن تحركاً شعبياً عارما ، على امتداد الساحة العربية والإسلامية ، يمكن أن يثني الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها عن العدوان على العراق ، حفاظاً على مصالحها ، إذا ما أيقنت أنها باتت مهددة. وكم أحزننا تأخر حالة النهوض على الساحة المصرية ، حتى رنا نتوارى من نظرات الناس ، ونحن نقرأ فيها ما بال إخوانكم في مصر؟ وقد ذهب إلى هناك أكثر من مبعوث ، يحمل رسالة استنهاض واستصراخ ، ولكن لم يتم تحرك الشارع المصري إلا في وقت متأخر. وقد علمنا فيما بعد ، أن الساحة المصرية كانت لها أسبابها ، التي أخرت تفاعلها مع الأحداث ، ولكنها لم تكن مقنعة لنا أبداً ، فكل الأسباب الخاصة تختفي أمام مثل هذا الخطر الماحق.
- وعندما وقعت الواقعة ، وهاجمت قوات التحالف العراق ، مستخدمة أحدث الوسائل القتالية ، فدمرت منشآت العراق ، ملحقة أفدح الحسائر بالأنفس والممتلكات ، ثارت ثائرة الإخوان المسلمين ، وامتزجت لديهم مشاعر الحزن والألم والغضب والسخط على دول التحالف. ولا سيما الدول العربية التي ارتضت المشاركة في هذا العدوان ، أو قدمت له التسهيلات اللازمة ، أو وفرت له الغطاء المناسب ، وعلى الشعوب العربية التي مل ترتق إلى مستوى المسئولية ، التي تحتم عليها الوقوف في الخندق المواجه لأمريكا والصهيونية ، وحين فرض الحصار على العراق ، وبدأ يحقق أهدافه في التضييق على شعب العراق ، وحرمانه من أبسط مقومات الحياة ، شعر الإخوان المسلمون أنهم هم المحاصرون. ومن هنا فقد اعتمدوا سياسة الرفض والإدانة لهذا الحصار ، والمطالبة برفعه ، عبر كتلتهم النيابية ، ومن خلال لقاءاتهم الجماهيرية في المساجد والمهرجانات ، كما كانوا في طليعة اللجان العاملة لجمع التبرعات ، وإرسالها إلى العراق ، من خلال اللجان الوطنية لنصرة العراق ، والنقابات المهنية ، ولجنة التعبئة الوطنية للدفاع عن العراق ، اعتقاداً منهم أن الشعب المحاصر شعب شقيق ، له أياد بيضاء على أمته. فشهداؤه يرقدون في فلسطين والأردن وسوريا وغيرها. وهو يتعرض لظلم صارخ. وحين أحس الإخوان المسلمون بتغيير في الموقف الرسمي الأردني إزاء العراق ، ولا سيما حين تم استقبال حسين كامل ، والسماح له بمهاجمة العراق من مؤسسات رسمية ، أنكر نواب جبهة العمل الإسلامي هذا الموقف ، واعتبروه خروجاً على مبادئ الشعب الأردني ، ومصالح الأمة العربية. ولم يدع الإخوان المسلمون فرصة لنصرة العراق ضد الحصار الظالم ، وضد العدوان الأمريكي إلا اغتنموها. ولم يعبأوا بالموقف العراقي الرسمي ، عبر العقود الماضية ، إزاء الدعوة الإسلامية ، حيث جرى حلها ، وتعريض أبنائها إلى أشكال من الاضطهاد ، ولم تظفر حتى هذه اللحظة ، بحقها في تشكيل حزب سياسي ، أو السماح لها بالعمل تحت مظلة الدستور. ومع ذلك فقد ظلوا يرددون ، أن حماية العراق ورفع الحصار عنه يستوجبان بذل كل جهد مستطاع ، وعدم القيام بأي عمل أو كلمة ، يمكن أن تتسبب في إيذاء العراق ، وأذكر أنني حين دعيت إلى طهران ، في مناسبة ما يسمونه عشرة الفجر المباركة ، أجرى معي أحد الصحفيين لقاء مطولاً ، حول الإسلام والقضية الفلسطينية وقضايا الأمة ، وختم أسئلته بسؤال جاء فيه ما رأيك في النظام... العراقي؟ فقلت له : « أني لا أسمح لنفسي ما دام العراق محاصرا أن أنبس بكلمة ، يمكن أن تصب في خدمة الأعداء المحاصرين للعراق. وحين يزول الحصار ، فلن اتحرج من التعبير عن قناعتي كما أفعل إزاء الأنظمة الأخرى.
لقد التزمت الحركة الإسلامية هذا الموقف ، وبدت من خلاله متقدمة على الأحزاب القومية ، بما فيها الأحزاب التي تتبنى مبادئ حزب البعث ، بينما وجدنا بعض الأحزاب اليسارية ، لا تتحرج من القول لأحد المسئولين في حزب البعث العراقي ، أثناء زيارته عمان « أن بيننا وبينكم دماء » فلقد ظلت الجماعة منحازة إلى مصالح الأمة ، منزرعة في خندقها ، بغض النظر عن مواقف الحكومات والأنظمة من الجماعة.
- حين بدأ العدو الصهيوني يلمح إلى إمكانية ضرب سوريا ، بحجة عدم قيامها بكبح جماح حزب الله في لبنان ، وبسبب حصولها على صواريخ متطورة ، أدركنا أن الانتماء للأمة يفرض علينا الوقوف إلى جانب سوريا وشد أزرها. رغم ما يعرفه القاصي والداني من مواقف النظام السوري ، إزاء الحركة الإسلامية هناك ، فمأساة حماة محفورة في القلوب ، وقانون (49) خير شاهد ، ولكن حين تتعرض البلاد لعدوان أجنبي ، فالأولوية لمواجهة العدوان ، ودفع الخطر. وانطلاقاً من هذا الفهم ، فقد توجه الإخوان الدكتور محمد عويضة والدكتور بسام العموش ، إلى دمشق ضمن الوفد الحزبي الذي زار سوريا ، وأجريا حوارات مع المسئولين هناك ، أكد من خلالها هذا الموقف ، وقد مهدت هذه الزيارة لزيارة أخرى ، قام بها وفد من جبهة العمل الإسلامي ، برئاسة الأمين العام الدكتور أسحق الفرحان. وقد التقى الوفد مع عدد من المسئولين الحكوميين والحزبيين ، ولم تتقدم قضية خلال المباحثات المطولة ، على تعزيز الصمود أمام التهديدات الصهيونية ، وبناء الصف العربي ، وتعزيز الدور الشعبي في الإسهام في تحصين الأمة ضد عوامل الاختراق. وقد تم توقيع مذكرة تفاهم وتعاون ، ركزت على هذه الأهداف والوسائل المحققة لها. ولم تكن هذه الزيارة موضع ارتياح من بعض الرسميين في الأردن ، ومن معينة. ولكننا لا نربط مواقفنا برضى هذا الفريق أو ذاك ، إنما يرضى ربنا وتحقيق مصالح أمتنا ، وإعمالا لهذه الوثيقة ، وتفعيلا لنصوصها ، فقد شاركت جبهة العمل الإسلامي في المهرجان الخطابي الشعبي ، الذي أقامته أحزاب المعارضة الأردنية ، تأييداً لسوريا الشقيقة ، من خلال الكلمة التي ألقاها كاتب هذه السطور ، التي أوضح من خلالها موقع سوريا في الوجدان العربي والإسلامي ، ودورها المأمول في الصراع مع العدو الصهيوني وخطورة استفراذ العدو الصهيوني الأمريكي بها.
وحين حشدت حكومة تركيا العلمانية قواتها على الحدود مع سوريا ، وراح جنرالات الحرب ، وأركان النظام ، يتسابقون على إصدار التهديدات ، دعا الإخوان المسلمون إلى اجتماع ، انصب في معظمه على الوضع على الحدود ، وإصدار الإخوان المسلمون بياناً بدين التهديديات ، ويطالب بحل القضايا موضع النزاع عبر مفاوضات ، تأخذ بعين الاعتبار روح الإخوة ، التي تجمع بين الشعبين المسلمين ، ومصالحهما العليا ، التي تستوجب علاقات طيبة ، قائمة على الإخوة وحسن الجوار ، كما أصدر حزب جبهة العمل الإسلامي بياناً ، ركز على هذه المعاني ، كما قام وفد مشترك من قيادتي الإخوان المسلمين وحزب جبهة العمل الإسلامي على أعلى مستوى ، بزيارة السفارة السورية في عمان ، حيث أكد الوفد على رفض الحركة الإسلامية للتهديدات ، التي تستهدف سوريا الشقيقة ، وإدانة التحالف التركي الصهيوني ، والدعوة إلى إنهاء الأزمة بالحوار كما أكد الوفد حرص الحركة الإسلامية على القيام بأي جهد يمكن أن يجنب الشعبين المسلمين ويلات الحرب.
إن الإنسان المنتمي لأمته لا يتحقق انتماؤه إلا إذا فدى أمته بأعز ما يملك. وأن الحركة الصادقة في انتمائها ، إذا دها الوطن خطب عصبت جرحها ، وصمدت في خندق الوطن والأمة ، حتى يزول الخطر وتنكشف الغمة. ومن هنا تبرز تفاهة الحركات المتسولة في الأسواق الدولية ، تعرض خدماتها على أعداء الوطن والأمة ، بحجة أنها حركات معارضة ، إن المعارضة الشريفة تسلك أساليب نظيفة ، ووسائل طاهرة في التعبير عن معارضتها ، وليس منها بالتأكيد التعاون مع أعداء الوطن والمتربصين بالأمة الدوائر.
==الدرس الثامن عشر :عداوة لليهود لا تتوقف==
لا أخال قضية نالت من اهتمام الإخوان المسلمين على كثرة القضايا وأهميتها ، ما نالته قضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني. ومرد ذلك إلى معرفتهم الدقيقة والعميقة باليهود ، وخطورة مشروعهم على الأمة وعلى الإنسانية. ولا غرابة في ذلك ، فلقد حفل القرآن الكريم الكتاب الأول للإخوان المسلمين ولكل المسلمين ، والمرجع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، بالحديث عن اليهود وصفاتهم وأخلاقهم وطباعهم ، بعبارة حازمة لا تحتمل التأويل « لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا » « لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ». ومن هنا جاء رفضهم للوجود اليهودي على أرض فلسطين ، وحرصهم على دعم جهاد الشعب الفلسطيني أبان ثوراته المتلاحقة ، ولا سيما ثورة الشيخ عز الدين القسام. وحين انسحبت القوات البريطانية من فلسطين بعد أن مكنت لهم فيها ، وأنجزت على أرض الواقع وعد بلفور المشئوم ، ودخلت الجيوش العربية ، وقاد الإخوان المسلمون كتائب الإيمان في مصر وسوريا والأردن ، ومن انضم إليهم من المتطوعين ، وسطروا صحائف مجد عز نظيرها ، وإن كان هذا الجهاد المبارك جر عليهم ابتلاءات. فلقد عاد المجاهدون من أرض فلسطين إلى السجون والمعتقلات. وهذا يؤكد العلاقة الحميمة بين الصهاينة وبعض أنظمة الحكم العربية. ولعل معظم نكبات الإخوان المسلمين على أيدي الأنظمة العربية ، يرجع إلى موقفهم المبدئي من القضية الفلسطينية وظلت فلسطين هما يحمله الإخوان المسلمون ، وبقي التحرير هدفاً لا يتزجزحون عنه إلى يوم الدين ، وحين أتيحت الفرصة لقتال يهود ، على أثر نكبة عام 67 حرص الإخوان المسلمون على الاضطلاع بمسئوليتهم فيه ، رغم ما لا قوة من الأنظمة والتنظيمات ، وخاصة مجاهدهم أشرف العمليات الجهادية ، وقدموا من خلالها ثلة من خيرة قادتهم ومجاهديهم ، فيهم المصري والأردني والسوري والفلسطيني واليمني. وكان بإمكان هذا الجهاد أن يشكل بداية سليمة للمواجهة مع العدو ، لولا النهاية المأساوية للعمل الفدائي ، بفعل عوامل بعضها داخلي ، وبعضها خارجي ، وحين انطلقت الانتفاضة المباركة كان شباب الإخوان المسلمين مفجريها وموجهيها ، حتى غدت الانتفاضة أملاً يفجر فلسطيني جديد ، لولا مؤامرة مدريد وأوسلو ، التي أجهضت الانتفاضة ولئن نجحت الجهود الصهيونية والدولية بالتعاون مع أطراف فلسطينية وعربية في وقف الانتفاضة ، فقد ظلت حماس تشكل طليعة المواجهة على الساحة الفلسطينية ، وشكلت عملياتها الاستشهادية والجهادية متناغمة مع المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان رافعة للأمة.
وحين قررت القيادات الرسمية في العالم العربي والإسلامي إلغاء خيار الجهاد ، وراحت تتلاعب بالألفاظ وتتحدث عن السلام العادل ، وأبطال السلام ، والهجوم نحو السلام ، باسم الواقعية وباسم مصلحة الشعب الفلسطيني ، ظل الإخوان المسلمون يؤكدن أن فلسطين غير قابلة للقسمة إلا على واحد ، والواحد هو الشعب العربي الفلسطيني. فهي وقف لا يجوز التصرف فيه ، وكل محاولة لإخراج فلسطين من مفهومها الإسلامي ، وعمقها العربي والإسلامي محاولة مدانة يأباها الله ورسوله ، وصالح المؤمنين ، ولقد تصدى الإخوان المسلمون عبر الوسائل المتاحة ، في ظل اختلال موازين القوى ، -حيث الهيمنة الأمريكية ، والتفوق الصهيوني ، والتضييق الرسمي العربي على الشعوب ومحاصرتها -للمعاهدات والاتفاقيات. فأصدروا فتوى تحريم الصلح مع اليهود ، ووزعوا فتاوى علماء المسلمين بشأن حرمة التنازل عن شيء من فلسطين على نطاق واسع ، وانبرى خطباؤهم يبصرون المسلمين بخطورة ما يجري ، ليس على فلسطين فحسب ، وإنما على الأمة بأسرها.
وحين أدركت الحكومات أثر خطب في تعرية المعاهدات والاتفاقيات ، ضاقت بها ذرعاً ، فعمدت إلى إقصاء الخطباء عن الخطابة ، واختيار خطباء يقبلون بالإملاءات الرسمية ، متجاهلين الأخطار التي تعصف بالأمة. وقد كان حظ الإخوان من هذه الحملة كبيراً ، فقد طالت معظم خطبائهم حتى النواب ، رغم أن محكمة العدل العليا ألغت القرارات الإدارية ، الصادرة عن الحكومة بهذا الشأن.
وتحت قبة البرلمان كان نواب الحركة الإسلامية صوت فلسطين ، لأنهم صوت الأمة وضميرها. فهم لا يفهمون النيابة تمثيلا لدوائر محدود المساحة والسكان ، ولكنهم يفهمونها تمثيلا للأمة. فلم تخل جلسة أو لقاء من الحديث عن فلسطين ، متمسكين بعروبتها وإسلاميتها ، مبصرين بأخطار الصهيونية ومؤامرتها ، مدينين لكل خطوة تهدف إلى الاعتراف باليهود والتعاون معهم. فانبرت بعض الألسنة والأقلام محتجة على ذلك ، مذكرة بأن الشعب الفلسطيني اختار طريقه ، وإن قيادته ممثلة بالسلطة الفلسطينية وقبلها منظمة التحرير ، هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ولكنها حجة داحضة ، فالشعب الفلسطيني لم يختر هذه الطريق ، ولو خير لما أختار إلا التمسك بفلسطين كل فلسطين. ولو استغرق النضال من أجل تحقيق هذا الهدف القرون الطوال ، فهو الشعب الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأنه القائم على الحق ، الظاهر على الأعداء ، القاهرة لهم ، غير عابئ بمخالفة المخالفين ، وخذلان الخاذلين والمخذلين ، وشهد له الواقع ، فأصبحت ثورة المساجد ، وثورة الحجارة ، والانتفاضة ، مصطلحات في القاموس العالمي للمقاومة الشعبية.
إن هذا الموقف الواضح الثابت للإخوان المسلمين ، إزاء القضية الفلسطينية ، والصراع مع العدو الصهيوني ، نابع من إيمانهم الذي لا يتزعزع ، بحقائق الكتاب والسنة. فالقدس شقيقة مكة ، وفلسطين صنو الحجاز ، واليهود أعداء الأمة كل الأمة ، وليسوا أعداء جزء منها ، أو فصيل من فصائلها. وإن العداء معهم عداء عقيدة ودين ، إلى جانب أنه مقاومة محتل غاصب لئيم. وربما أثارت عبارة عداء عقيدة ودين حساسية بعض الناس ، باسم التسامح الديني ، والابتعاد عما يمكن أن يوصف بالإرهاب. ولكن كل من كان له أدنى صلة بمكونات العقيدة اليهودية ، والعقلية الصهيونية ، يدرك تماماً أنه يستحيل عليه التعايش معهم. فإذا كانت توراتهم المحرفة ، وتلمودهم الحاقد ، ينصان صراحة على أن الناس كل الناس من غير اليهود حمير ، خلقهم الله على صورة البشر ، ليكونوا جديرين بخدمة اليهود ، وأن الرب خاطب إسرائيل قائلاً : « سأنزل يا إسرائيل إلى الأرض ، واضع في يدك السيف ، وأذل لك الرقاب » فكيف يمكن التعايش مع أهل هذه العقيدة ، التي تشكل الخلفية الثقافية للإرهاب الصهيوني ، الفردي والجماعي ، الرسمي والشعبي ، على حد سواء؟؟ أن هذا الموقف ليس موقف مسئول متعصب ، أو حزب متطرف ، ولكنه موقف الشارع اليهودي ، ولا أدل على ذلك من الاستطلاع الذي أجري في الأونة الأخيرة ، والذي أكد أن ثلثي اليهود يؤيدون طرد عرب الـ 48 من أماكن سكنهم.
إن هذا الفهم للقضية والمحتلين ، حمى الإخوان المسلمين من اللوثة التي أصابت بعض بني قومنا ، فوقعوا في الشرك الصهيوني ، جاهلين أو مضبوعين ، فصاروا يتحدثون عن عالم جديد ، وعصر جديد ، يسهم فيه العرب واليهود ، في تحقيق الرخاء والأمن والاستقرار. ورغم هذا البله الذي أصاب بعض قومنا ، فقد ظل اليهود أوفياء لعقيدتهم ، ماضين في خطتهم ، غير عابثين بما يسمى الرأي العام العالمي ، الذي أفلحوا في صناعته وتوجيهه ، وغير مقيمي وزن للمعاهدات والاتفاقيات التي وقعوها. وظلوا تماماً وفق التصور الذي عبر عنه القرآن الكريم ، بلسان عربي مبين ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فرغم أن الشقيقة الكبرى مصر ، وقع حكامها معاهدة « سلام » معهم ، منهية بذلك صراعاً طويلاً ، وفاتحة ثغرة واسعة في جدار الأمة ، وممهدة السبيل لمن أراد أن يحذو حذوها ، إلا أنهم ظلوا على حقدهم على مصر ، هذا الحقد الذي عبروا عنه أشكال شتى من التعبير. فقد صدروا إليها العملاء والجواسيس ، ونشروا شبكات التجسس ، كما صدروا إليها الأمراض الجنسية ، وفي مقدمتها الإيدز ، وعملوا على ضرب المحاصيل الزراعية ، ودفعوا إليها بالمؤثرات العقلية ، حتى السفير المصري ، الذي كان أول دبلوماسي عربي ، يتخذ له مكاناً في تل أبيب ، لم يسلم من محاولات الإذلال المستمرة.
والأردن الذي وقعت حكومته معاهدة مع الصهاينة ، خروجاً على إرادة أغلبية الشعب ، الذي دفع ثمناً غالياً لهذه المعاهدة ، حيث انتكست مسيرته الديمقراطية الوليدة ، إذ كان من المتعذر إقرار المعاهدة لو جاءت في ظل أوضاع ديمقراطية حقيقية ، مكنت الشعب من اختيار ممثليه الحقيقيين وفي ظل قانون عادل وإجراءات سليمة.
الأردن هذا لم يسلم من كيد يهود ومؤامراتهم. فرغم أن القيادة السياسية ظلت تؤكد على الدوام تمسكها « بالسلام » ، ومارست أشكالاً شتى من التضييق على الرافضين للمعاهدة ، كما قادت السياسات التطبيعية ، فإن الصهاينة لم يتحرجوا من تصدير أدوات الإرهاب ووسائله إليه في رابعة النهار ، حيث دفع الموساد بمجموعة من إرهابية إلى العاصمة الأردنية ، في محاولة إجرامية للقضاء على القائد المجاهد خالد مشعل ، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. رغم ما تحلت به حماس على الساحة الأردنية ، من رشد في السلوك والمسيرة ، حيث أكدت على الدوام ، أنها لا تتدخل في الشأن الأردني ، ولا تمارس على الساحة الأردنية أي فعل يمكن أن يسبب له حرجاً ، فهي فعل سياسي إعلامي ، وأن العمل الجهادي هو شأن كتائب عز الدين القسام ، وهو على الساحة الفلسطينية ، فقط ، وهو مقاومة مشروعة تقرها كل الشرائع والقوانين.
إن عداء اليهود ليس لحركات المقاومة فقط ، ولا للأجزاء الحية في الأمة الخبيرة مخططاتهم وحدها ، ولكنه يتجاوز هؤلاء إلى الناس ، كل الناس ، شعوباً وحكومات وحكاما. إنهم معادون للجنس البشري ، بغض النظر عن عقائدهم ، فولاؤهم ليهوديتهم ويهوديتهم فقط. ومن هنا فإنهم لم يتحرجوا من التضييق على الأردن ، رغم الاتفاقيات الموقعة مع حكومته ، فهم يغلقون السوق الفلسطينية في وجه التبادل التجاري ، بين الأردن والسلطة الفلسطينية ، ويستحوذون على السوق الفلسطينية ، مما زاد من مشكلات الوضع الاقتصادي الأردني ، فهم القائلون كما عبر عن ذلك القرآن الكريم : « ليس علينا في الأميين سبيل » وفي هذا السياق نستطيع أن نفسر الأزمة الخانقة ، التي عاشها الأردن في النصف الثاني من عام 1998م ، حين صدروا له مياههم العادمة ، ملوثين بذلك مياه الشرب. رغم أن الورقة الأولى ، إن لم تكن الوحيدة ، التي كان المفاوض الأردني يلوح بها » أعدنا مياهنا » أنه العداء الدائم المستمر ، الذي لن تلغيه معاهدات واتفاقيات ، حيث فتحت أمامهم الأبواب للتملك والاستثمار والسياحة ، ومع ذلك فقد تجاوز الصهاينة كل الأعراف ، وكل الحدود ، حين راح سياحهم ينشدون نشيدهم الخاص بهم على الأرض الأردنية ، ويدعون حقوقاً دينية وتاريخية في بعض المواقع الأردنية ، فمتى ينتبه أصحاب القرار في الأردن إلى خطورة ما يتهدد الوطن والأمة ، جراء توقيع المعاهدة التي تشكل استجابة للمشروع الصهيوني ، ووقوعا في شركة؟!!
ومتى تتنبه السلطة الفلسطينية ، التي فجعت الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية ، بأعز ما تملك ، حين منحت الصهاينة الغرباء المحتلين الغاصبين الاعتراف والشرعية ، ووقعت معهم اتفاقية أوسلوا وما تلاها. وأجلت البحث في القضايا الرئيسية ، القدس ، واللاجئين ، والمستوطنات ، والسيادة ، وتنازلت عن الميثاق الوطني الفلسطيني ، وقدمت من صنوف التعاون الأمني مع العدو المحتل ما لا يمكن أن يقبل من جهة تدعي أنها وطنية. ومع ذلك فقد ظل الصهاينة ينطلقون من عقليتهم ، التي عبر عنها القرآن الكريم أصدق تعبير « أم لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون الناس نقيرا » فهو تعنت دائم ، إذلال مستمر ، عبر عنه رئيس السلطة الفلسطينية أكثر من مرة ، على طريقة أبي عبد الله الصغير ، ومضى في خطة إجرامية ، لتهويد الأرض ، وتفريغها من أهلها ، وإمعان في محاولة تحطيم إرادة الشعب الفلسطيني.
إنه لسلوك غير مستغرب ، من كل من له أدنى صلة بكتاب الله عز وجل. فالصهاينة مهما اجتهدوا في إخفاء معالم جريمتهم ، إلا أنهم مكشوفون لنا ، واضحون أمامنا. ومن هنا فإن موقف جماعة الإخوان المسلمين منهم موقف ثابت. لا يتغير ولا يتبدل ، لأنه مستند إلى الحقائق القرآنية ، وهي متطابقة تماماً مع حقائق التاريخ ، وحقائق الواقع ، وما كان للحقائق الصادرة عن الحق أن تتناقض. وبناء عليه ، فإن عداء الإخوان المسلمين لليهود لن ينهيه معاهدات أو اتفاقيات أو اختلال ميزان القوى ، إنه صراع الحق والباطل ، صراع الخير والشر ، ولئن كان للباطل جولة ، فإن للحق جولات والعاقبة للتقوى ، ولتعلمن نبأه بعد حين.
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]
[[تصنيف:مكتبة الدعوة]]
[[تصنيف:مكتبة الدعوة]]

المراجعة الحالية بتاريخ ١٩:٢٤، ٢٩ سبتمبر ٢٠١٩

هكذا علمتني الحياة.jpg

بقلم/ الأستاذ حمزة منصور


تقديم الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

لمعالي الأستاذ الدكتور أسحق أحمد فرحان

لقد أسعدني الأخ الشيخ حمزة منصور مرتين ، حين غرب إلي في تقديم هذا الكتاب المعنون « هكذا علمتني دعوة الإخوان المسلمين » :

الأولى ، سعادتي بقراءة هذه الدروس المنتقاة التي تضمنها الكتاب وما تخللها في تجارب أخي حمزة وخبراته الغنية في العمل الإسلامي العام ، وبخاصة في مجالات الدعوة والتربية والسياسة. والثانية ، إتاحة الفرصة لي لأقول كلمة حق فيما تضمنه الكتاب من مضمون وأسلوب من جهة ، وكيفية استفادة أجيال الإسلامية منه في مجالات عملهم المستقبلي ، من جهة أخرى

وما أحوج العاملين للإسلام في عصرنا الحاضر ، إلى أمثال هذه الرسائل الصادقة ، التي تتضمن التصور الفكري الواضح ، والخبرة الغنية ، والتحليل الواقعي للأحداث ، والسلوك الحضاري إزاءها ، والسير باتجاه تحقيق مقاصد الشريعة ، بالتدريج المطلوب في طريق الإصلاح المنشود. وصدق الله العظيم القائل : (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ) (هود: من الآية 88) والقائل : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ''''نص عريض')(يوسف: 108).

ومن فوائد هذه الرسالة وأمثالها ، أنها تستند إلى خبرة داعية مخلص واع عاش دعوته ، وخالط أخوانه ، وعانى من العمل الإسلامي العام والعمل السياسي ، آلام أمته ، فهي بذلك تعكس في مجملها ، بل وفي كل جملة مفيدة من عباراتها ، فائدة من الفوائد العملية ، التي لا يستغني عنها العاملون في الحقل الإسلامي. وهي كذلك ، إضافة نوعية إلى الرسائل الإسلامية في مجال العمل الإسلامي ، من حيث تراكم الخبرات ، والإسهام في جسر الفجوة بين الأجيال ، ليبدأ كل جيل من حيث انتهى الجيل السابق ، ليسهل تجنب تكرار الأخطاء ، وتعظيم الاستفادة من الخبرات الناجحة بمنهجية علمية ، توازن بين التأصيل الإسلامي من جهة والاستجابة لمتطلبات العصر ومستجداته من جهة أخرى.

وقد استعرض أبو عاصم حفظه الله ، وجزاه عن دعوته وأمته خير الجزاء ، في هذا الكتاب ، ثمانية عشر درساً ، طالعتها بشغف شديد ، وشوق وتجدد ، ولما انتهيت من قراءتها قلت يا ليته زاد ، فما قدمه كان من خير الزاد ، وكلي أمل ، ودعاء إلى الله تعالى أن يمد في عمره ، وأن يمكنه من أن يكتب المزيد في المستقبل.

وقد تضمن كل درس من الدروس الثمانية عشر ، مبدأ إسلامياً أو قيمة عليا ، أو خلقاً اجتماعياً ، أو أسلوباً دعويا ، أو سلوكاً حضاريا ، مما يعكس التصور الإسلامي الصافي ، للعمل الإسلامي في مجالات ، والتربية ، وعمل الخير ، والعمل السياسي. وقد حرص الكاتب على أن يستشهد في عملية التأصيل هذه ، بالآيات الكريمة ، والسنة المطهرة من حديث شريف ، وسيرة نبوية عطرة ، وأقوال الفقهاء والعلماء ، وما صلح من التراث الإسلامي عبر تاريخ الأمة الإسلامية الطويل. ثم اتبعه باستشهادات من أدبيات دعوة الإخوان المسلمين ، وبخاصة سيرة الأستاذ المرشد حسن البنا رحمه الله تعالى ، وجزاه عن هذه الأمة خير الجزاء ، وكيف أن دعوته امتداد للدعوة الإسلامية الأولى ، وصدى معبر عن شمول س لكل جوانب الحياة ، واتساع العمل الإسلامي ليتضمن جميع مجالات العمل الدعوي ، والتربوي ، والخيري ، والسياسي.

وقد أحسن الأخ أبو عاصم صنعاً ، حين اتبع ذلك كله ، وفي كل درس من تلك الدروس ، بتوثيق لكثير من جوانب العمل الإسلامي العام والعمل السياسي بخاصة ، التي كان هو شخصياً احد أطرافها ، أو القائمين عليها ، أو شاهد عيان على مجرياتها.

فكانت هذه اللقطات بمثابة لمسات فنية وأدبية ، أعطت لهذه الدروس معناها الحياتي الواقعي ، في إطار متكامل مع التصور الفكري والنظري ، وكانت كذلك بمثابة تاريخ لمذكرات داعية مارس العمل السياسي في فترة حساسة من تاريخ بلده وأمته. وأدعو بهذه المناسبة زملاءه وإخوانه أن يحذر حذوه ، لتتكامل الصورة ، وتعم الفائدة ، ويعلو بنيان الفقه السياسي الإسلامي ، المستند إلى الأصالة ، والمنبثق من أرض الواقع.

ولا أريد في هذه التقديم الموجز ، أن استعرض تفاصيل ما كتب الشيخ المربي أبو عاصم من دروس ، واحداً بعد الآخر ، ولا أريد أن أنوب عن القارئ في تلخيص أهمية كل درس من هذه الدروس ، ولكن لا بد من التنويه إلى الأسلوب الأدبي الممتع الرفيع ، الذي اتسمت به هذه الدروس التي تجعل القارئ منشدا إليها ، ومتفاعلا معها ، ومتأثرا بها.

وأخيراً ، فإنني أهنئ الأخ الحبيب ، والصديق العزيز ، الأستاذ حمزة منصور على ما وفقه الله تعالى إليه ، من كتابة هذه الدروس. الغنية بالخبرة والعبرة والفائدة للعاملين في الحقل الإسلامي العام ، والسياسي بخاصة ، ونتمنى عليه أن تكون هذه الرسالة حلقة من سلسلة قادمة في هذا المجال ، وأن يحذو حذوه بعض إخوانه الذين رافقوه في المسيرة ، لتتراكم الخبرات ويعلو البنيان ، ويتم وعد الله تعالى ، للمستضعفين في الأرض ، بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم ، ونصر المؤمنين العاملين ، فجزاك الله تعالى يا أخي أبا عاصم ، عن دعوتك ، وأمتك ، خير الجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أخوكم / أسحق أحمد فرحان
في 27 رجب 1419هـ
الموافق 16 /11 /1998م

المقدمة

لم أكن لدعوة الإخوان المسلمين ، فترة طفولتي وصباي ، محباً ولا راغباً ، ولعل ذلك عائد ، إلى البيئة الاجتماعية والثقافية التي أحاطت بي. وإلى حملة الدعوة في تلك المرحلة على الأقل حيث كنت أقيم ، وإلى الضجيج الإعلامي الرسمي ، الذي سيطر على الأفهام والعواطف حينها. وقاد الناس إلى نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة.

فلقد عشت فترة طفولتي وصباي بين مخيمي جنين والكرامة ، ما خلا سنوات قليلة عشتها في أربد والعروب. وأبناء المخيمات كانوا وما زالوا لا تتقدم لديهم قضية على قضية هجرتهم ولجوئهم. ولا ينظرون إلى الأشخاص والهيئات والحكومات إلا من خلال مواقفهم من هذه القضية. ولم يكن دور جماعة الإخوان المسلمين إزاء هذه القضية خلال تلك الفترة مفهوماً ولا واضحاً. فقليلون هم الذين اطلعوا على جهادهم في حرب فلسطين. ووعوا موقفهم من القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني.

فلقد ظلت بطولات الإخوان المسلمين المصريين والسوريين والأردنيين وغيرهم مجهولة ، لدى قطاعات عريضة من الشعب الفلسطيني ومن أبناء الأمة العربية والإسلامية. حتى جاءت هزيمة عام 67 التي هزت كثيراً من القناعات ، وبددت كثيراً من الأوهام ، وكشفت كثيراً من الحقائق ، التي حجبتها وسائل الإعلام وأساليب التضليل ، ولقد كانت الإذاعة يومها وإذاعة صوت العرب بشكل خاص ، أكثر وسائل التوجيه تأثيراً. فالجرائد قليلة ، وقراؤها نادرون ، وإذا ما قرأوها فلن تغير كثيراً من قناعات الناس ، بسبب الرقابة الصارمة. والتلفاز يومها لم يكن معروفاً ، ولا سيما في مثل البيئة التي احتضنتني خلال تلك الفترة. والمسجد الذي كانت علاقتي به حينذاك بين مد وجزر لم يكن مؤهلاً لإعطاء تصور سليم للعاملين للإسلام. فالحديث منصب في الغالب حول العبادات. فتفردت إذاعة صوت العرب في تشكيل قناعات الناس. حتى في الفترات التي كان يعتبر الاستماع إلى إذاعة صوت العرب أمراً غير مرغوب فيه من قبل الحكومة الأردنية ، وربما تعرض فاعله لمسألة لها ما بعدها ، كان بعضنا يلجأ إلى استخدام سماعة تبلغه غايته ، وتحجب الصوت عن مسترقي السمع. ومن سوء حظ الإخوان المسلمين في تلك الفترة ، بل من سوء حظي وأمثالي ، أن الإخوان المسلمين كانوا قد تعرضوا لأبشع حملة من حملات الإرهاب الرسمي ، الذي مارسته الحكومة المصرية ، حيث زج بعشرات الألوف في السجون ، بدعوى الثورة المضادة والتآمر على الزعيم الأوحد ، والتعاون مع أعداء الأمة. وقد تم إعدام بعض الرموز ، من خلال محاكمة صورية ، أبسط ما يقال فيها أنها مهزلة. وفر كثيرون خارج البلاد ، وأصبح الانتماء للجماعة جريمة يعاقب عليها بالإعدام أو المؤبد ، وهو شر من الإعدام. فالمنتسبون للجماعة من وجهة نظر صوت العرب الإذاعة العربية الأولى في تلك المرحلة خارجون على القانون ، بل خارجون على الدين ، ومتآمرون على رمز عزة الأمة العربية ، وباعث نهضتها الرئيس جمال عبد الناصر ، وحلفاء للصهيونية والاستعمار ، فلا غرابة والحالة هذه ، أن تخفت أصوات الدعاة لصعوبة مواجهة التيار الطاغي يومها. بل إن أسم الإخوان المسلمين كان مرتبطاً بالحقد والتعصب والتخلف ، ولا أنسى يوم كنا في معسكرات الحسين للجندية والبناء ، التي أنشئت عام 62 ، وكان معسكرنا في بلدة أم قيس في موقع تكثر فيه الحيات والعقارب ، كيف كنا نقول ، أو نسمع من يقول ، أن رأينا أفعى أو عقربا : هذه « حية إخوان مسلمين »! أو « عقرب إخوان مسلمين  »!

ولم يكن الكتاب الذي يعرض لفكر الإخوان المسلمين يومها ميسورا أو متداولاً ، فقد كان التوجه في معظمه نحو الكتب الأدبية ، والروايات التي تروج لها وسائل الإعلام ، كالنظرات والعبرات. فتركت هذه الكتب والروايات ، وربما أضيف إليها الأفلام السينمائية ، طابعها الخاص فيما نكتب أو نتحدث فكانت محاولاتنا الأدبية لا تخرج عن هذا الجو ، وكان المثل الأعلى للكثيرين من الشباب المغنون والممثلون ، ونسيت الأمة رموزها وصانعي مجدها ، وتعلقت ببعض نكبتها والمتسببين في هوانها. ولكن حين يشاء الله تبارك وتعالى إنفاذ مشيئته يهيئ لها الأسباب. فقد كان انتقالي إلى معهد المعلمين في حواره عام 674 بداية تحول كبير في حياتي ، حيث تعرفت إلى أخ كريم ، وسرعان ما ربطت بيننا صداقة ، وكان مما يميز عن أقرانه أنه وثيق الصلة بالمسجد ، وأنه امتلك القدرة والجرأة على إلقاء خطبة الجمعة ، فبعث لدي الحنين إلى المسجد الذي ضعفت صلتي به مؤخراً لصالح اهتمامات أخرى يسمونها أدبية ، وحفزني هذا الحنين على إرتياد مسجد المدرسة الإسلامية في أريد أيام الجمعة ، حيث يتناوب على أداء الخطبة فيه نفر من الدعاة ، عرفت فيما بعد أنهم من الإخوان مسلمين. وكانت تعجبني فيهم جرأتهم في إنكار المنكر ، والبعد عن التزلف ، والشمولية في الطرح ، والاهتمام بقضايا الأمة. وبانتهاء العام الدراسي افترقنا شأن سائر الطلبة عند انتهاء المرحلة التعليمية ، فجاءت المحطة الثانية ، حين اقتربت أكثر من قريبي الشيخ مصطفى الجندي ، وكان رحمه الله كثير الحديث عن الإخوان المسلمين ، وعن الإمام حسن البنا ، وعن الستة الذين اعدموا عام 54 ، وعن بطولات الإخوان في فلسطين ، وعن المؤامرة العالمية التي تنفذها أطراف عربية ضد الإسلام والمسلمين ، من خلال تصديهم لحملة الدعوة الإسلامية. وكان يعرض كل ذلك بأسلوب جذاب ، يفوق أسلوب كتاب الروايات ، ساعده في ذلك ، عمق انتمائه لدعوته ، وذاكرة واعية ، وأسلوب آسر يجمع بين الفضيحة والعامية ، وبين المزاح والجد ، وبين الماضي والحاضر. فأحسست أن خيطاً ما ، بدأ يربطني بهذه الجماعة ، وقلت في نفسي : « لم لم أطلع على هذه المعلومات من قبل في دراستي أو مطالعاتي ، أو من الأساتذة الذين درسوني ، أو من حملة الدعوة الإسلامية؟ وجاءت المحطة الثالثة ، حين عينت معلماً في معان ، على غير رغبة مني ، فقد اشعرني الكثيرون ممن علموا أنني سأعمل في معان ، أنتي ذاهب إلى منفى. وهذه صورة من صور الظلم ، الذي يصيب المدن والمحافظات والأقطار ، كما يصيب الأشخاص والجماعات.

وصلت معان ، وعينت في مدرسة فلسطين الابتدائية ، وسكنت على مقربة من المسجد الكبير ، وتعرفت إلى نفر كريم من أبناء المدينة ووجهائها. وكان في مقدمتهم الحاج عبد الله عبد الدايم ، المعروف بعبد الله « شل » ، حيث كانت له محطة للوقود ، وقد رأيت فيه سماحة عجيبة ، ورقة متناهية ، وأدباً جما ، كان يدخل إلى القلب بدون استئذان ، وكلما نظرت في وجهة تذكرت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، وبدأت أنس ببعض من عرفت ، وأخذت العلاقة تتوثق بيننا ، ولم أكن راغباً في إقامة مثل هذه العلاقة ، بسبب الصورة الظالمة التي رسخها في ذهني بعض من ظلموا هذه المدينة الحبيبة ، وقديماً قيل : « الذي لا يعرف الصقر يشويه » وبدأت استمع إلى خطب الجمعة ، التي يلقيها في الغالب الشيخ فهمي كريشان ، والتي ذكرتني بخطب المدرسة الإسلامية في أريد ، وإلى بعض الدروس التي كان يسهم فيها وبحماسية بالغة ، وأسلوب رصين المرحوم علي أبو هلالة ، وقد انعقدت بيني وبين مكتبة البلدية صداقة حميمة ، فقد كنت أقبل على الكتاب بنهم ، وكأنني أريد أن أعوض ما فاتني من قبل ، وكان الكتاب الإسلامي بغيتي ، وذات يوم أهداني مدير المدرسة جريدة الشهاب البيروتية ، التي كانت تصدرها الجماعة الإسلامية في لبنان ، وكان من أبرز كتابها فتحي يكن ، وإبراهيم المصري ، والشيخ فيصل مولوي ، ولقد شدتني إليها منذ اللحظة الأولى ، فأقبلت عليها بشغف ، أقرأها من ألفها إلى يائها. أحببت معان ، أحببت ناسها ومسجدها ومكتبتها وجريدة الشهاب ، وربطت كل ذلك بأحاديث العم أبي إبراهيم ، ويخطب حوارة ومسجد المدرسة الإسلامية.

وجاءت المحطة الرابعة ، حيث بدأت جريدة الشهاب تتابع محاكمة الأستاذ سيد قطب. ورحت أتابع أخبار المحاكمة ، وبدأت أتعرف إلى أسباب المحاكمة. لقد أدركت أن الرجل يحاكم بسبب فكره وقلمه ومؤلفاته ، وفي مقدمتها المعالم والظلال حصلت على نسخة من المعالم ، وسارعت إلى قراءة الكتاب ، وجدت الرجل عظيماً ، ورأيت الطرح كبيراً ، ورأيت المستقبل وأعدا ، ورأيت الفجر قادماً. ثم أقبلت على قراءة التفسير العظيم « في ظلال القرآن » وجدته ينفذ إلى القلب ، ويغني عن كثير من القراءات ، قلت في نفسي : « مجرم من يحاكم سيد قطب » وشعرت أن س هو الذي يحاكم ، وأن الأمة الإسلامية المستهدفة. وأن أعداء الأمة هم الرابحون بإعدامه ، وقررت يومها أن أكون مع صاحب المعالم والظلال ، أعني مع الجماعة التي ينتمي إليها صاحب المعالم والظلال. ورحت أعيد وأكرر قراءة كتاب «معالم في الطريق » حتى حفظت كثيراً من فقراته ، فالكلمة التي يخطها الإنسان بدمه كلمة آسرة ، تمتلك القلوب والعقول. والكلمة التي لا يدفع صاحبها ثمنها تولد ميته ، وأن أسبغ عليها أجمل الحلل اللفظية.

لقد أصبحت قريباً جداً من هذه الدعوة ، ومن مؤسسها ، ورموزها ، ومؤلفاتها ، وانتظرت أن يبادرني أحدهم بالدعوة للانضمام إليها. وحين طال انتظاري ، وعيل صبري ، بادرت بعضهم ذات ليلة بالقول : هل جماعة الإخوان المسلمين حكر على فريق معين؟ أم أنها أطار للراغبين في العمل الإسلامي وخدمة دين الله؟ ودون أن أدع لهم فرصة للإجابة ، وأصلت تساؤلاتي ، ألست جديرا بالانضمام لهذه الجماعة؟ أم أن هنالك أسباباً وعوائق تحول دون تحقيق هذا الشرف؟ فتهلك وجوههم بشراً لدى سماعهم هذا الكلام. وعلق أحدهم بأنك من الإخوان المسلمين ، وإن كنت لم تنضم إليهم بعد ، وكانت البداية ، بداية [العمل الإسلامي] المنظم من خلال جماعة الإخوان المسلمين.

أنني لست بصدد سرد قصتي معجماعة الإخوان المسلمين ، ولكنها مقدمة ، وجدتها ضرورية ، بين يدي حديث رغب إلى إخواني في أربد الحبيبة ، التي أحببتها حباً جما ، أن أحدثهم إياه ، تحت عنوان « علمتني دعوة الإخوان المسلمين » وقد خصصت بهذا ثلة من شباب الإخوان المسلمين ، الذين أملوا أن يجدوا بعض الدروس ، لعلها تسهم في تقديم بعض الزاد المعين لهم في طريق الدعوة إلى الله عز وجل.

والحديث عن الدروس التي تعلمتها من جماعة الإخوان المسلمين يستدعي الإشارة ، ولو على عجل ودون إطالة ، إلى هذه الجماعة ، وإلى طبيعة المرحلة التي وجدت فيها هذه الدعوة المباركة ، وإلى بعض التجارب ، سائلاً المولى عز وجل أن يجزي خير الجزاء كل من أسدى إلي معروفاً ، أو قدم إلى مساعدة ، أو أسهم في تعريفي بهذه الدعوة، أو أسهم في تكويني ، أو قدم إلي نصيحة ، أو شكل في عيني نموذجاً لهذا الدين العظيم.

في فترة من أصعب الفترات في تاريخ الأمة قامت دعوة الإخوان المسلمين ، لتواجه واقعاً ثقيلاً في النفس والمجتمع ، فهناك الجهل في الاعتقاد والتصور والسلوك ، وهناك أمة مزقت شر ممزق ، وقد أرادها الله أمة واحدة ، وهنالك قوى أجنبية تسلطت عليها وسامتها الخسف ، وهناك اغتراب في الفكر والسلوك ، وإعجاب بالأجنبي المنتصر ، واستخفاف بكل ما يمت للأمة بصلة. في هذه الأجواء وضع الإمام حسن البنا بذرة هذه الدعوة. وما كان لأحد أن يتصور أن هذه البذرة ستنبت في ظل هذه الظروف وتستوي على ساقها ، وتنتقل فسائلها إلى أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي ، بل إلى الكرة الأرضية جميعها ، لتصبح أمل الأمة ورجاء المعذبين في الأرض ، والباحثين عن النجاة من الخطر الذي يحمله المستكبرون والمتجبرون ، إلا أنها إرادة الله العليم الحكيم ، ورحمته بالعالمين ، ووعده الذي لا يتخلف ، فحاشا لله أن يذر الشر يعربد في الأرض ويفسد الأحياء والحياة : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وتجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين...).

ولست هنا بصدد التأريخ لهذه الدعوة ، والتفصيل في خصائصها ، وآثارها في النفس والمجتمع : فذاك أمر يحتاج إلى جهود الباحثين والدارسين ، وهو واجب القائمين على أمر الدعوة والمهتمين بها ، وأرجو أن يوفق الله تعالى من يضطلع بهذه المهمة الجليلة فالدعوة ليست ملك مؤسسها -رحمه الله- ، ولا ملك الرعيل الأول من حملتها ، بل ليست ملك أبنائها وحملتها فحسب ، ولكنها ملك الأمة جميعاً ، بل ملك البشرية كلها ، ومن حق الجميع أن يطلعوا على هذه المسيرة الإسلامية ، بإيجابياتها وسلبياتها ، وأن يخضعوها للبحث والتقويم ، لصالح العمل الإسلامي والبشرية جمعاء. ولكنني هنا أعرض لخواطر شخصية ، بناء على رغبة بعض الأخوة ، أعبر من خلالها عن بعض ما تعلمت من هذه الدعوة المباركة على مدى ثلاثة عقود.

حمزة منصور
عمان / الأردن

الدرس الأول : تصور إسلامي سليم

إن طول الفترة بين واقع المسلمين اليوم والعهود الإسلامية الزاهرة ، حيث عاش الناس الإسلام الشامل الكامل ، أوجد خللاً » كبيراً وخطيراً في التصورات والأفهام لدى المسلمين. حتى قنع بعض المسلمين بالعواطف الطيبة ، ظانين أنها س ، واكتفى بعضهم ببعض العبادات ، ظانين أنها غاية المنى. ولا أتحدث هنا عن الذين ضاقوا ذرعاً بالإسلام ، وحملوه مسئولية ما هم فيه من تخلف وهوان. وإنما أتحدث عن السواد الأعظم من المسلمين ، الذين مازالوا على الفطرة ، وهم يتطلعون إلى مرضاة الله تعالى ونيل جنته ، وصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وظنوا كل ذلك يتحقق بالعواطف الطيبة وأداء العبادات ، فجاءت هذه الدعوة لتقول لنا : أن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة سليمة ، تعرفنا بالله وتحدد علاقتنا به ، وتبين لنا الغاية التي خلقنا من أجلها ، والمصير الذي نحن إليه صائرون ، كما تبين علاقتنا بمن حولنا ، وما حولنا ، وإلى جانب هذه العقيدة التي تشكل الإطار النظري ، فهو عبادة تترجم هذا التصور النظري إلى سلوك وانسجام ، ويضبط هذه العلاقة وفق أحكام الكتاب والسنة ، فلا يطغي طرف على طرف ، ولا يجوز فريق على فريق. وقد اعتبر الإمام المؤسس هذا التصور الأصل الأول من الأصول العشرين ، التي تشكل المدخل لفهم الإسلام العظيم ، كما اعتبر الفهم الركن الأول من أركان البيعة. ويقول الإمام حسن البنا -رحمه الله- في رسالة التعاليم ، بعد تحديد أركان البيعة والمطالبة بحفظها والشروع في توضيح أبعادها : الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً ، فهو دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة ، أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة ، أو جيش أو فكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة ، سواء بسواء. ويؤكد شهيد القرآن ، الأستاذ سيد قطب ، في مواقع عدة من المعالم والظلال هذا المعنى بقوله : أن هذا الدين شريعته كعقيدته ، بل شريعته من عقيدته ، بل شريعته هي عقيدته.

أن هذا التصور الشامل طبع حياة الإخوان المسلمين بطابع خاص ، فما تكاد تستمع إلى أحدهم ، بغض النظر عن تحصيله العلمي ، ومستواه الثقافي ، والمرحلة العمرية التي يعيشها ، حتى تدرك أن المتحدث من الإخوان المسلمين. هذه الرؤية الشاملة حمت الإخوان لمسلمين من التطرف والشطط والنمو غير السويس ، فهم يوازنون بين الماديات والمعنويات ، وبين الفرد والمجتمع ، وبين الدنيا والآخرة. فابتعدوا بذلك عن انعزالية الفلاسفة ، وبعض المتصوفة ، وعن مماحكات المماحكين في قضايا فقهية جزئية خلافية ، وعن مادية الماديين ، فهم ذاكرون لله تعالى بأذكار مخصوصة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ساعون لأداء العبادات وفقاً للدليل ، أو اقتداء بفقيه ، بعيداً عن التعصب لمذهب ، أو التطاول على فقهاء المذاهب ، وهم دعاة إلى الله عز وجل وفق قواعد مرعبة ، في الدعوة إلى الله ، مشاركون في أنشطة الحياة ، ما دامت تحقق مصلحة شرعية ، ومبادرون إلى التصدي لأشكال الانحراف ، عبر وسائل مدروسة ومقرة ، وبما لا يؤدي إلى ما هو شر من هذه الانحرافات ، ومسارعون إلى الجهاد في سبيل الله ، حين يدعو داعية وتتوافر ظروفه ، فكانوا طليعة المقاومة للمستعمرين والمحتلين ، ولعل هذا الفهم هو الذي عرضهم لسهام أعداء الدين ، وأصحاب المصالح الضيقة.

ويقف الإمام المؤسس عند هذا المعنى طويلاً ، فيقول في رسالة المؤتمر الخامس ، تحت عنوان « فكرة الإخوان المسلمين تضم كل المعاني الإصلاحية » : « كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين ، إن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة ، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية ، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته ، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح ، الذين عرفوها وفهموا مراميها ، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك : أن الإخوان المسلمين دعوة سلفية ، وطريقة سنية ، وحقيقة صوفية ، وهيئة سياسية ، وجماعة رياضية ، ورابطة علمية ثقافية ، وشركة اقتصادية ، وفكرة اجتماعية. ويرسم صورة للأخ المسلم ، المتمثل لحقيقة دعوته ، تذكر بالصف الأول ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين رآهم الله تعالى حول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فأعلن عنها رضاه. « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريباً » وفي موضع آخر « محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سُجَّداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود »... فهو يقول : « فقد يرى بعينه واعظاً مدرساً يقرع الأذان بزواجر الوعظ ، وبعد قليل تراه نفسه رياضياً أنيقاً يرمي بالكرة أو يدرب على العدو أو يمارس السباحة ، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص ».

هذا الفهم الواعي وهذا التصور الشامل ، وهذه الصياغة الجديدة للإنسان المسلم تبشر ببعث إسلامي جديد ، يحقق وعد الله تعالى « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً » وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثم تكون خلافة راشدة على هدي النبوة ». ومن هنا فقد تألب عليهم أصحاب الهوى والسلطان الشخصي بغض النظر عن مصلحة الأمة ، وأعداء الأمة ، ولعل من أوضح صور الكيد لهذه الجماعة ما كتبته فتاة صهيونية تدعى « روث كاريف » ونشرته لها جريدة « الصنداي ميرو » في مطلع عام 1948 ، ونقلته جريدة « المصري اليوم » لقرائها في حينه ، قالت فيه الكاتبة : « أن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة ، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعاً ، وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها » وتضيف « والآن وقد أصبح الإخوان المسلمين ينادون بالمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة ، في شئون الشرق الأوسط ، وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ، أن لا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة فقد حان للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال متسترين وراء هذا الإسلام الرومانتيكي الجذاب « الإخوان المسلمين » و « تابعت مقالها قائلة » : إن اليهود في فلسطين الآن هم أعتف خصوم الإخوان المسلمين ، ولذلك كان اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط. وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط. وهم يعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين ، وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية ، وطالبوا علناً بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة » وتختم مقالها بقولها : « وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي ، إذ واجهتها حركة فاشية نازية ، فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية ، تمتد من شمالي أفريقيا إلى الباكستان ، ومن تركيا إلى المحيط الهندي ».

ولا غرابة أن يشتد عداء الغرب لمؤسس هذه الجماعة ، وأن يفرح الغرب لاغتياله كما ذكر الأستاذ سيد قطب في كتابه أمريكا التي رأيت ، حيث استغرب فرحتهم في غير عيد وكم كانت دهشته ، حين قيل له « اليوم قتل حسن البنا ».

فهل يدرك الذين ما زالت على أعينهم غشاوة أية دعوة هذه؟ وهل يعي الذي جندوا طاقات الأمة لمحاربة الدعاة إلى الله ، أي جريمة يرتكبون؟


الدرس الثاني : جندية فكرة ودعوة لا جندية غرض ومنفعة

إن عضو الجماعة ليس موظفاً تحكمه ساعات محددة للعمل ، وواجبات معينة لا يتجاوزها. فالواجبات المحددة في اللوائح والتعليمات تشكل الحد الأدنى ، وفوق ذلك مجال رحب ، للمتنافسين في الخيرات. وعلى المرء أن يختار بين الحد الأدنى المطلوب يومياً وأسبوعيا وشهريا وفصليا وسنوياً ، وبين الاستكثار من الخير ، بقدر ما تؤهله له استعداداته ، آخذاً بعين الاعتبار قول الله عز وجل : (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى). أن الجندية الدعوية التي تعدها جماعة الإخوان المسلمين توجب على صاحبها أن يتحرك في الوسط الذي يعيش فيه ، بين أهله وزملائه ومعارفه. يقدم لهم النموذج ، ويعرفهم بدعوته ، ويدعوهم إليها. فقد علمتنا هذه الدعوة كيف يتودد أحدنا إلى زملائه ، يحسن استقابلهم ويسهم في حل مشكلاتهم ، ويزورهم ويدعوهم ويهدي إليهم ، حتى لو كانت الهدية جريدة أو مجلة أو كتاباً. « لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً حتى ولو أن يلقي أخاه بوجه حسن » كما علمتنا كيف يكون أحدنا قريباً من قلوب طلابه ، بحسن إتقانه لعمله ، وتفانيه في أدائه والعدل بين التلاميذ ، ليشكل كل ذلك الجو المناسب لدعوتهم. وإذا ما رأيت الداعية متجهما نزقا ، متهربا من واجباته ، متذمرا من عمله ، محابيا لفريق ، فاعلم إنه ليس من الإخوان المسلمين ، وأن تظاهر بذلك ، أو سجل في سجلات الإخوان المسلمين.

إن الأخ الذي يقتصر على مهام محددة ولا يترك أثراً إيجابياً فاعلاً في الأسرة والعمل والمجتمع ، ليس جندي الفكرة والدعوة ، الذي يعيش لها ، وإنما رجل وظيفة يؤديها أداء آلياً ، لا يحدث الأثر المطلوب.

أن الأخ المسلم الحق لا يجد سعادته إلا حين يبلغ دعوته ، وينافح عنها ويكسب لها أنصارا ومؤيدين ، وهنا أود أن أنبه إلى بعض الخلل الناجم عن الاكتفاء بالحد الأدنى من المهام الدعوية ، تاركاً الساحة لمن يعيثون فيها فساداً ، ومحملا غيره أعباء ينوء بحملها ، فلا يؤديها حق أدائها ، أو تحمله على اليأس. فالمهمة هنا مهمة مشتركة « هدهد يرتاد ، وسليمان يتفقد ويوزع الواجبات » ومن هنا فقد رأينا بعض الساحات تزدهر فيها الدعوة لوجود الجنود البسلاء في الدعوة إلى الله ، بخلاف ساحات أخرى ، أخذ العاملون فيها الأمر على التراخي ، كما رأينا بعض الساحات المزدهرة تقفر إذا غاب عنها المجلون فيها لسبب من الأسباب. إن القيادة الراشدة ولا أعني هنا القيادة المركزية فقط هي التي تكتشف استعدادات جنودها ، وتطور هذه الاستعدادات ، وتحدد لهم المهام ، وتوفر لهم إمكانات النجاح من تخطيط وإسناد ومتابعة وتقويم ، وأن الجندية العالية هي التي تأخذ الأمر بالعزيمة ، وتستحضر رقابة الله عليها ، وتنطلق من أنها مسئولية أمام الله ، مسئولية فردية ، بغض النظر أحسن الآخرون أمام أساءوا ، « فكل آتية يوم القيامة فردًا ». أن هذا الفهم وهذه القناعة ، يحملانه على أن يرتاد لدعوته الوسائل والأساليب والبيئات ، التي تعين على الانتشار الأفقي والنمو الرأسي ، ويقدم المشروع الإسلامي خطوات إلى الأمام. على قاعدة (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). وانطلاقاً من هذا الفهم لم أجد في الأسرة يوم انتظمت فيها ما يرفع عني المسئولية أمام الله عز وجل ، الذي أمرنا بالدعوة إليه. (ادع إلى سبيل ربك) ولا يؤهنلي لمرتبة من عناهم بقوله سبحانه : (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً) ففي بدايات تشرفي بالانضمام إلى الجماعة ، عمدت إلى تشكيل بعض الأسر ، جلها من الطلاب ، ساعدني في ذلك رباط الحب الذي جمع بيني وبينهم ، وتلك نعمة أحمد الله تبارك وتعالى عليها ، فهو المؤلف بين القلوب ، وما أبهج الحياة يوم يعيش المرء في وسط محب مألوف! وما أضيق العيش حين يشعر المرء أنه يعيش في بيئة معادية!

وكنت أحاول اكتشاف اتجاهات الشباب واستعدادتهم ، وأحاول تنمية هذه الاتجاهات والاستعدادات ، من خلال قراءات ونشاطات أراها محققة لهذا الهدف. وكنت استعرض زملائي وطلابي ومعارفي. وكنت أتطلع إلى أن يأخذ كل هؤلاء مواقعهم في هذه الدعوة المباركة. وكم ألمني وأحزنني أن بعض أصحاب الاستعدادات العالية لا يسارعون إلى الانضمام إلى الدعوة، وكنت استحضر في ذهني عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد ، كيف يبطئ في دخول معسكر الإيمان على رجاحة عقله. وحين قدر الله عز وجل لي أن انتقل من معان ، حيث تشرفت بالانتساب للدعوة، وحيث عرفت العمل الإسلامي المنظم إلى بيئة جديدة ، كان اهتمامي منصباً على تأسيس عمل إسلامي فيها. وكان علي أن أتعرف على واقع الدعوة في هذا الموقع الجديد ، وحين سألت المعنيين بالأمر كانت الإجابة مخيبة للظن ، فليس في هذه البيئة أخ واحد ، وإنما هنالك شخص كانت له علاقة سابقة بالجماعة ، ولكنها انقطعت. ورأيت أن أبدأ من عنده ، لمعرفة الأسباب التي أدت إلى قطع العلاقة ، فرأيت الرجل قد سلك خطاً آخر ، وإن كان يذكر الجماعة بخير ، ويتمنى لها الخير. ولكنه رأى في خطه الجديد ترجمة لشعار طالما رفعته الجماعة : « الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا » فأدركت أن الزاوية منفرجة ، وزاد في انفراجها أن ما يسميه صاحبنا جهادا في سبيل الله ، نأى أصحابه بعيداً عن روح الجهاد ، بعد أن عمل الهوى والمصالح والتدخلات العربية والدولية عملها فيه. وكان علي أن أتحرك وليس مثل المسجد منطلقاً للحركة والدعوة ، وإن كان التحرك ليس ميسورا في هذه البيئة ، فهي تنفر من العمل الحزبي ، وتخشى من عواقبه كما ذكر أحدهم ذات يوم ، حيث قال : نحن مسلمون ، ومع الإسلام ، ولكن الحزب عندنا يعني الشيطان. ولكن الإعراض والصد لا يثنيان الداعية عن المضي في طريقه ، فحسب المرء أن يخلص النية ، وإن يحسن العمل ، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولم تمض سنوات ، حتى وجدت ثلة كريمة من الإخوان انتظمت في سلك الدعوة ، لتلحق مدنا وقرى سبقتها بسنوات في التعرف على الدعوة.

ورغم حداثة العهد بالدعوة الإسلامية ، والافتقار إلى المؤهلات العلمية ، فقد حرصنا على النهوض بمسئولياتنا. فقد تم تشجيع الأخوة على التدريس في المساجد ، ثم الخطابة فيها ، وقد تعززت الثقة يومها بيننا وبين مديرية الأوقاف ، فكان المرحوممحمود علاوي كلما راجعه أهل قرية ، مطالبين بتعيين خطب لمسجدهم ، يهاتفني لتسمية خطيب ، وفي كثير من الحالات لم يكن الخطباء من حملة المؤهلات الشرعية ، لعدم توفرهم ، ولكنهم امتلكوا الإخلاص والرغبة في العمل ، والدافعية للإعداد الجيد. وربما تصدى لهذه المهمة بعض طلبة المرحلة الثانوية ، فقد أقبلت ذات يوم على المسجد ، الذي كنت أخطب فيه ، فسمعت متحدثاً يتحدث فظننته يلقي درساً ، وفوجئت لدى دخولي المسجد حين وجدت شاباً في الصف الثالث الثانوي من شباب الدعوة الإسلامية ، وقد اعتلى المنبر ، حين ظن المؤذن إن الوقت قد حان ، وأن الخطيب تأخر ، فصعد المنبر ، وحين أبصرني هم بالنزول ، فأشرت إليه أن أمض في خطبتك. وبعد انتهائه من الخطبة والصلاة ، حمدت الله عز وجل ، أن أجعل من طلبة المرحلة الثانوية من يمتلك مقومات اعتلاء المنبر. كما انعقدت صلات بيننا وبين القرى المجاورة ، من خلال رحلات قصيرة لنشر الدعوة ، وتعززت العلاقات مع الوجهاء ، من خلال التواصل معهم ، ومشاركة الناس في مناسباتهم الاجتماعية. كما أصبحت المدارس منابر دعوة ، من خلال الإذاعة الصباحية ، ومجلات الحائط ، وحصص النشاط.

الدرس الثالث : التزام واع يجسد وحدة الموقف

إن الرسالة العظيمة تحتاج إلى قدر عال من الالتزام للنهوض بها. فالمهمة جليلة ، والطريق طويلة ، والعقبات كثيرة ، وأيما تردد أو نكوص يجعل تحقيق الهدف بعيد المنال ، فضلاً عن أنه يهز ثقة الآخرين الذين يتطلعون إلى القدوة ، التي تعزز ثقتهم بالفكرة والمسيرة ، ليأخذوا مواقعهم فيها. ومن هنا فإن دعوة الإخوان المسلمين تقوم على الالتزام الكامل ، بالمنهاج والسياسات والقرارات والمواقف والمواعيد. فقد تعودنا كيف نحضر في الوقت المحدد ، ونغادر في الوقت المحدد ، وبالطريقة المقررة ، وكيف نقهر كل عذر للقيام بالواجب ، مهما غلت التضحيات وكيف نغضب القريب والمسئول من خلال التزامنا بالموقف الدعوي المخالف لهوى المسئول ومصلحة القريب ، وأن كان ليس من أهدافنا اغضاب الناس أو استفزازهم أو استعداؤهم ، وإنما الحرص على الالتزام بدعوتنا ، وتمثل فكرتنا ، والانطلاق بها لتحقيق غاياتها ، ومن شأن أصحاب الهوى والمصالح الشخصية أن ينفروا من الالتزام يرون أنه لا يحقق مصالحهم. فكم رأينا من أقوام تتغير مواقفهم ، ويقفزون من موقع إلى موقع بسبب الضغوط التي تمارس عليهم ، أو المصالح التي يلوح لهم بها. بينما يبقى أصحاب الدعوة مستمسكين بقرارهم الذي اتخذوه ، أو اتخذه أصحاب القرار فيهم ، ويحضرني في هذا المجال أمثلة عدة ، أقتطف منها ما يلي :

أ- ضمن برنامج الإخوان المسلمين في التأهيل والتدريب ، عقدت دورة تدريبية ، لرفع سوية الدعاة ، أطلق عليها مدرسة الدعاة. وقد كان برنامج المدرسة يقول على الالتزام التام ، من حيث الإعداد النظري ، والتطبيق العملي ، ولم يكن يتساهل إزاء التقاعس عن أداء الواجبات أو التهاون فيها. وكان من ضمن نشاطات المدرسة زيارات لبعض رموز الدعوة. وحدد يوم لزيارة الشهيد الدكتور عبد الله عزام رحمه الله ، وقدر الله تعالى أن يتوفى جدي لأبي في ذاك اليوم. وبعد أن فرغنا من تجهيزه ودفنه ، بدأ الصراع في نفسي بين أخذ مكاني بين أهلي وعشيرتي في استقبال المعزين ، وبين الوفاء بالوعد ، وحضور برنامج المدرسة. لقد كان بإمكاني أن أعتذر ، وكنت أقدر أن عذري مشروع ومقبول ، إلا أنني آثرت أن أجمع بين الحسنيين وأن أقوم بالواجبين بتوازن ، فبعد الدفن ، وبعد تلبية دعوة جيران كرام ، حرصوا على دعوتنا ، حيث جرت العادة يومها أن يدعي أهل المتوفي ثلاثة أيام ، ولكنها اختصرت بعد ذلك إلى يوم واحد ، وفي ذلك تيسير محمود على الناس ، توجهت إلى عمان ، ولم تكن لدي يومها سيارة ، وكان علي أن أقطع مسافات على قدمي ، واستخدام سيارتين في الذهاب ، ومثلهما في الإياب ، وأدركت أخواني في الوقت المحدد ، وشاركتهم الزيارة ، التي ما زلت أذكر المعاني الكبيرة التي قبسناها من أخينا أبي محمد ، ومحورها الحرص على وحدة الجماعة ، وتجنب أي إجراء مهما كانت دوافعه ، يمكن أن يحدث شرخاً فيها لا سمح الله. واجتهدت أن أعود مسرعاً ، حتى لا يفتقدني أهلي في مثل هذا الواجب.

ب- بعد بحث مستفيض شارك فيه مجلس الشورى والكتلة النيابية ، قرر الإخوان منح الثقة لحكومة السيد مضر بدران عام 1990 ، لاعتبارات أهمها إفساح المجال للمسيرة الجديدة « المسيرة الديمقراطية » أن تتجذر وتتطور ، وحتى لا يحسب على الإخوان أنهم أسهموا في وأد المولود الجديد ، رغم أن الرئيس المكلف ضن على الإخوان بوزارة التربية والتعليم لأسباب عدة ، لعل بعضها عائد إلى تجربة الأخ الدكتور إسحاق الفرحان ، يوم كان وزيراً للتربية والتعليم حيث ضاق الكثيرون ذرعاً بالانجازات التي حققها ، على طريق أسلمة المناهج ، وإصلاح العملية التربوية من منظور إسلامي. ومن هنا فقد استقر الأمر على منح الثقة للحكومة ، لقاء التزام الرئيس المكلف ببضعة عشر شرطاً أو مطلباً. اجتهد الإخوان بأن تكون مطالب عامة ممكنة التطبيق ، تشكل بدايات يمكن التأسيس عليها. ولم يكن منح الثقة لحكومة لا تتوافر فيها الحدود الدنيا ، التي تقر بها عيوننا ، سهلاً على نفوسنا ، فقد ظل الإخوان على الدوام ، يتطلعون إلى النموذج الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده ، إلا أن الالتزام بالقرار الشوري حتم علينا منح الثقة ، رغم صعوبة ذلك على نفوسنا. ولقد استمعت إلى الأخ المفضال الأستاذ يوسف العظم وهو يقول بمرارة : « بعد خمس وعشرين سنة من الحجب » « ثقة » « ولقد رأيت المرارة في كلمات الإخوان وهم يمنحون الثقة ، وكأبي بصورة الحديبية تعود من جديد ، يوم شرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشروط الصلح ، وراح يتردد بين النبي القائد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه مرددا « علام نعطي الدنية في ديننا؟ » وقد بلغ الغضب مبلغه من نفوس الصحابة عليهم رضوان الله ، حين وجدوا أنفسهم مضطرين للعودة دون عمرة ، دعاهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد بهم الحنين إليها ، وغدوا على مقربة من تحقيقها ، وها هم يعودون الآن دون عمرة ، فبلغ بهم الغيظ مبلغه. فوقفوا واجمين أمام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالتحليق ، حتى أشفق عليهم ، وخاف من هلاكهم ، لتلكثهم في إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم حين أبصروه يحلق لم يعد أمامهم إلا إنفاذ الأمر ، والاقتداء بالنبي القائد ، رغم صعوبة القرار ومرارته في أفواههم ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً ، من فرط الغضب. ومما زاد من حراجة الموقف أنهم رأوا أبا جندل يرسف في الأغلال ، عائداً إلى المشركين ، وأبوه سهيل بن عمرو ، كبير مفاوضي مكة ، يوجه إليه الصفعات ، على مرأى ومسمع من إخوة العقيدة ، ولكنه الالتزام بشروط الصلح ، وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا دعوة بدون التزام ، ولا جندية حقة إلا بأعلى درجات الالتزام.

ج- لما كانت عضوية مجلس النواب تستلزم القسم على نص معين حدده الدستور والنظام الداخلي ، للإخوان فهم معين إزاءه ، رغم أن الشيخ محمد أبو زهرة لا يرى فيه بأساً ، فقد تدارسنا الأمر ، واتفقنا على إضافة عبارة ننفي عنا الحرج بها ، ورغم أن هذه العبارة ورمت لها أنوف ، وثار حولها جدل ، إلا أنه تم الالتزام بإضافة هذه العبارة. لقد كانت اجتهاداتنا ووجهات نظرنا تتباين وهو أمر فطري ومشروع ، ولكن حين يتخذ القرار لم يكن أمامنا إلى الالتزام. وباستثناء حالات نادرة جداً خلال ثماني سنوات كان الالتزام في أبهى صوره.

د- حين أحسن المسئول أن حكومة السيد طاهر المصري يصعب عليها نيل الثقة ، لأسباب عدة ، بعضها مبدئي ، وبعضها مصلحي ، فقد اتصل ببعض النواب ، الذين صدر عنهم ما يشعر أنهم سيحجبون الثقة ، وتم إقناعهم بمنح الحكومة الثقة ، بينما لم يتم الاتصال بأي منا لقناعتهم بالتزامنا بقرارنا ، فحمى التزامنا إخواننا من التناقض ، حين راح الكثيرون يتوارون من النسا ، إزاء التناقض الفاضح بين الخطاب والموقف.

هـ- حين بدأ مجلس النواب مناقشة إحالة بعض كبار المسئولين في الفترات السابقة إلى المحكمة ، بتهمة الفساد المالي والإداري ، مورست كثير من الضغوط على بعض النواب ، وتدخلت بعض الاعتبارات لحرف إرادتهم وتغيير موقفهم ، ولكن نوابنا تمسكوا بموقفهم ، والتزموا بقرارهم ، وعبروا عنه بأوضح عبارة.

والحديث عن هذه القضية يطول ، وقد يحتاج إلى وقفة أطول ، أن مد الله في العمر ، وهيأ الأسباب. إلا أن ثمت قضية يمكن أن تثار ، مفادها أن بعض الأشخاص لم يلتزموا ببعض القرارات. وجوابي على ذلك صحيح ، إن هنالك بعض التجاوزات وهي مرفوضة وخارجة على الأصل ، ولكنني أرى ، أن على صاحب القرار أن يجتهد أن يكون قراره صحيحاً ، وصادرا بطريقة صحيحة ، وأن يكون مقنعاً لمن سيطبق القرار ، لأن المسلم لا يقبل منطق « ما أريكم إلا ما أرى » ولا يستطيع أن يلغي عقله ، وهنا أذكر بموقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يوم جاء يجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شروط الحديبية ، وحين راح يناقش أبا بكر الصديق فيها ، ولم يوقفه عن الجدال إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا عبد الله ورسوله ولن أعصي أمره ولن يضيعني » وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه « الزم غرزه » كما أذكر بامرأة جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكى القرآن الكريم جدالها « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها » وأذكر بمقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه « اللهم اكفني بلالا وصحبه » حين نجم الخلاف في قضية أرض السواد.

إن القرار الذي يتخذ بطريقة شورية صحيحة وفي الوقت المناسب ، والذي يأتي نتيجة طبيعية لحوار موسع مع كل المعنيين بتطبيق القرار ، يعين على الالتزام بالقرار إلا أن القرار ما لم يكن حراماً يستلزم الالتزام على كل حال. بينما تعمل النصيحة والنقد الموضوعي على إشاعة روح التسامح ، وتعميق مساحة الفهم المشترك ، الذي ينتج عنه وحدة التصور وتوحد المواقف.

الدرس الرابع: التعلق بالفكرة لا بالأشخاص

فكرة الإخوان المسلمين فكرة إسلامية ، تستند إلى الكتاب والسنة والفهم الحصيف لهما. والحكم على الأشخاص والأشياء والواقع يتم استناداً إلى هذين الأصلين الكبيرين ، انطلاقاً من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم « تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ». والأشخاص على جلال قدرهم ، وعظيم بلائهم ، في الدعوة إلى الله عز وجل ، تقاس مواقفهم بالاستناد إلى الفكرة ، فيكبر أحدهم بمقدار تمثله الفكرة وتمسكه بها. ويفقد من وزنه بمقدار ما ينأى عن الفكرة التي التقينا عليها ، أو يتناقض معها ، ومن هنا فإن التعلق لا يكون بالأشخاص وإنما بالفكرة والدعوة ، ولقد حمى هذا الفهم الدعوة من تقديس الأشخاص ، كما يحصل في الأنظمة الوضعية ، أو بعض الفرق الصوفية. وهذا القضية واضحة أشد الوضوح في كتاب الله عز وجل ، ففي ث عن الإسراء والمعراج ، يأتي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية ، حتى لا يختلط مقام العبودية بمقام الربوبية ، فيضل المسلمون كما ضل النصارى واليهود حين قالوا : المسيح بن الله وعزير بن الله وفي الحديث عن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الكلام حاسماً جازما « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين » فالرسل يموتون ويقتلون ، ولكن الله باق والدعوة مستمرة.

إن رسوخ هذا المعنى لدى الإخوان المسلمين ، حفظ لهم صفهم حين تعرضت الجماعة لبعض الهزات ، بخروج بعض الرموز بالاستقالة أو الفصل ، أو الخروج على الموقف. وهذا الصمود والتماسك أمام الضغوط النفسية والاجتماعية ، يحتاج إلى استعدادات عالية ، تعززها تربية مستمرة ، فقد يكون الشخص أو الأشخاص الخارجون على الصف ، تربطهم ببعض الدعاة قرابة أو صداقة أو علاقة ، وقد يكونون سبباً لتعريفهم بالدعوة وانتظامهم فيها ، وقد يكونون من أصحاب السابقة في الدعوة والبلاء في سبيلها ، وقد يكونون أصحاب قدرة عالية على التأثير والأخذ بمجامع القلوب ، ويتناسب التماسك والالتزام إزاء مثل هذه القضية طرديا مع الفهم الواعي للدعوة ، والإخلاص لها والتجرد لله عز وجل. وهذا يحتاج إلى مزيد من الصلة بالله تبارك وتعالى ، من خلال علاقة متصلة بكتاب الله ، فهما وتدبرا ومزيد من مجاهدة النفس بالعبادة ، فإن للإيمان الصادق ، والمجاهدة نوراً وحلاوة ، يقذفها الله في قلوب العباد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).

ومن هنا فإن رهانات المراهنين على تصدع الجماعة إزاء بعض الحالات الفردية ، من الخروج على الجماعة ، باءت بالفشل ، رغم الضجيج الإعلامي الذي رافق كل حالة من هذه الحالات ، وبقيت الجماعة متماسكة موحدة ، رغم مكر الليل والنهار ، على أن لا يفهم من هذا أن الدعوة تزهد بالأشخاص ، وتحط من مكانتهم ، وتقلل من فضلهم وسبقهم ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الناس ، حتى احتاج إلى قدر من المواساة ، يحمله الوحي الكريم ، حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات ، وقد كان حزنه شديداً وهو يرى من يتفلتون من الدين. حتى واساه الله تبارك وتعالى بقوله (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) ومن هنا فإنني أرى ضرورة التمسك بكل فرد في هذا التنظيم ، والحيلولة دون الخروج منه أو عليه. وعدم التهاون في هذه القضية. إن التنظيم يحتاج إلى ضبط ، ويحتاج إلى قدر من الالتزام ، وأن الخروج على القرار يستدعي المسألة ، ويستوجب العقوبة ، ولكن القرار الحصيف ، الذي استكمل شرائط الشورى الشرعية ، يقلل من حالات الخروج على القرار ، بينما يدفع القرار المتسرع ، المفتقر إلى الشورى الحقيقية ، إلى التعبير عن التمرد على القرار بصورة من الصور. أن على صاحب القرار أن يدرك ، أن العقوبة ليست هدفاً ، ولكنها وسيلة ، تسبقها وسائل كثيرة ، من تربية ونصح وحوار. فإذا لم تجد كل هذه الوسائل ، جاء دور العقوبة ، على أن تكون من جهة مؤهلة ، ووفقاً لقانون عادل يتميز عن القوانين الوضعية ، ويستلهم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كما أن العقوبة ينبغي أن تكون متدرجة ، وأن لا تكون أكبر من المخالفة ، وإلا يظهر فيها أثر للانتصار للذات. وأن لا يظهر فيها الشعور بالتشفي والانتقام ، وأن لا تغلق الطريق على التائبين. أن العقوبة لا تنهي صلة الفرد بالجماعة ، ولا تحرمه حقوق الإخوة التي كفلتها الشريعة الغراء ، فلقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب ، حين لعن خالد بن الوليد ماعزا ، وقد أوقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الرجم ، كما رأينا أصحاب المصطفى عليه الصلاة والسلام يتسابقون إلى تهنئة كعب بن مالك وصاحبيه ، بعد نزول التوبة عليهم بعد مقاطعة استمرت خمسين يوماً.

الدرس الخامس : شجاعة لا تعرف التهور

علمتنا [[|الإخوان|دعوة]] الإخوان المسلمين كيف نعتز بإيماننا ، وندافع عن دعوتنا ، ونصدر عن فكرتنا ، ونقف في وجه الخطأ أو الانحراف ، مهما كانت الجهة التي صدر عنها ، إرضاء لله وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجيل الأول الذي تتلمذ على يديه الكريمتين ، فكان بحق خير القرون ، وتحقيقاً لمصالح أمتنا. وذلك يحتاج إلى قدر عال من الشجاعة ، فلا غرابة أن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم أشجع الناس ، بكل ما تعني كلمة الشجاعة من الصراحة والوضوح والثبات على الموقف ، والصبر على البلاء ، والتجلد للمصائب ، وأن من يردد « الرسول قدوتنا » لا بد أن يمتلك قدراً عالياً من الشجاعة ، التي تمثل صفة من أبرز صفات المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ولعل من المفيد أن أعرض بعض صور الشجاعة ، التي تعلمناها من هذه الدعوة المباركة.

- حين زار الأردن الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون ، قرر الإخوان المسلمون إصدار بيان بعنوان « عد إلى بلدك يا نكسون » انطلاقاً من أن الرؤساء الأمريكيين يتسابقون على تحقيق مصالح العدو الصهيوني ، على حساب أمتنا العربية والإسلامية ، ويقفون دوماً دون تحقيق أهداف أمتنا في النهوض والتقدم ، بغض النظر عن الرئيس الحاكم ، أو الحزب الحاكم الذي يملك الأغلبية في الكونجرس ، فتلك سياسة ثابتة لا تتغير. ووزع البيان على نطاق واسع ، واغتاظ المسئولون من البيان ، وتم اعتقال نفر من الإخوان ، وجيء بالأخ أبي ماجد إلى مجلس الملك ، وبحضور عدد من كبار المسئولين. وأحضر الإخوان الذين تم اعتقالهم ، ووجهت إليهم عدة أسئلة من كتب البيان؟ فأجابوا : الأخ أبو ماجد. ومن وزعه؟ قالوا : نحن. لماذا وزعتموه؟ قالوا : لأن الأخ أبا ماجد طلب منا ذلك. قالوا : وهل تنفذون ما يطلب منكم أبو ماجد؟ قالوا : لو طلب منا أن نلقي بأنفسنا في البحر لفعلنا. ولم يكن هؤلاء الصرحاء إلا نفرا من الإخوان ، فيهم الطالب والعامل والموظف ، ولم يمنعهم جلال الموقف من التعبير بشجاعة نادرة عن طاعتهم لأميرهم ، وتنفيذهم لما يطلب منهم. أن هذا الموقف نتاج تربية طويلة مستديمة ، رسخت في عقولهم أن الأجل محدود ، وهو بيد الله ، ولا تملك قوة أن تقدم فيه أو تؤخر « وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وأن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ».

- أن أكثر ما يذل الرقاب في هذه الحياة الحرص على الحياة ، والخوف على الرزق ، وهما أمران محسومان في التصور الإسلامي ، فإذا ما أيقن المرء أنهما بيد الله هان عليه كل صعب. ومن هنا فقد عزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الوهن ، الذي يصيب الأمة إلى حب الدنيا وكراهية الموت.

- حين زار عمان لي أسبن عضو الكونجرس الأمريكي ، ورئيس اللجنة العسكرية في الكونجرس ، رتب له برنامج للالتقاء مع كبار المسئولين في البلد. وقد أرسلت السفارة الأمريكية في عمان إلى مكتب نواب الحركة الإسلامية رسالة عبر الفاكس ، تبدي فيها رغبتها في لقاء لي أسبن مع الكتلة النيابية للحركة الإسلامية ، وتلقيت الرسالة بصفتي أميناً للسر ، وعرضتها على الأخ المرحوم أحمد الأزايدة ، رئيس الكتلة والناطق الرسمي باسمها ، فانفعل رحمه الله خلافاً لما هو معروف عنه ، وقال : « لن التقي هذا (.....) أن دماء إخواننا الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين تسفك على يد الأمريكان ، وأن خليج العقبة محاصر من قبل الأمريكان ، فلا التقي معه أبداً ، قال هذا الكلام في الوقت الذي يتسابق كبار المسئولين على مقابلته وأمثاله. لقد كان حريصاً يرحمه الله على إيصال رسالة للدولة الأولى في العالم ، إن هنالك من يتمسك بالمبادئ ، ويصدر عنها ، رغم اختلال الموازين ، فكتب -رحمه الله- رسالة غاية في الأدب ، وغاية في الوضوح ، وغاية في الشجاعة. جاء فيها : أن ديننا يفرض علينا أن نرد على التحية بأحسن منها ، وأن نرحب بضيوفنا ونكرمهم ، ولكننا لا نستطيع أن نصافح اليد التي تسفك دماء إخواننا في فلسطين والعراق ، وتحاصر شعبنا في الأردن ».

وحين توترت الأجواء بيننا وبين الحكومة ، في أعقاب معاهدة وادي عربة ، وتعرض بعض إخواننا النواب لاستدعاء من قبل المدعي العام ، وجه نائب الملك دعوة لقرابة خمسة عشر نائباً ، جلهم من الإخوان ، وحين وصلنا الديوان الملكي ، أطل علينا السيد محمد السقاف مستشار ولي العهد وقال : أنتم تعرفون لماذا جئتم. أنتم جئتم للسلام على سمو الأمير والاعتذار. فقلت على الفور : « لقد جئنا للسلام على سمو الأمير وللحوار ، ولم يصدر عنا ما يستوجب الاعتذار ، فإن كان هناك إصرار على الاعتذار ، فنحن جاهزون للمغادرة. وتكلم الأخ الدكتور إبراهيم زيد بنفس المعنى. وغادر المستشار الجلسة. ثم عاد بعد دقائق متجهم الوجه وقال « تفضلوا » ووجدنا أنفسنا في قاعة فيها وزير الداخلية ، ووزير العدل ، ووزير الأوقاف ، وأمام كل منهم ملف. وبدأ النقاش ، واحتدم بيننا حيث عرضنا بعض التجاوزات الرسمية على الحريات العامة ، بينما عرض الوزراء بعض ما يرونه تجاوزا من قبل أشخاص يرون أنهم محسوبون علينا. ثم دخل الأمير ، واستمر الحديث لكن على وتيرة أقل. وفي المساء نشر التلفزيون تقريراً حول هذا اللقاء ، ولما كان التقرير مخالفاً للحقيقة فقد أصدرنا بياناً رفضنا من خلاله عملية التحريف ، وأوضحنا الحقيقة كما نراها. ولا يعتبر هذا السلوك غريباً على المؤسسة الإعلامية وال علينا ، فقد كان التلفزيون يتعمد الإساءة إلى كلماتنا في مجلس النواب ، بحجب الكلمات ، أو اختيار مقاطع منها ، وفقاً لرغبة القائمين على المؤسسة ، وكثيراً ما طالبنا بإخراج التلفزيون من مجلس النواب.

أن هنالك الكثيرين ممن يملأون الدنيا صحبا وضجيجاً ، حتى إذا ضمهم مجلس مع أصحاب القرار ، أحجموا عن النطق بكلمة فيها انتقاد لسياسة ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر. ولكن الجماعة التي تعرف مقام النصيحة في دين الله ، ومنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يملك حملته إلا النهوض بهذه الأمانة ، وإلا فقدت مقومات وجودها ، « لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها » وليس بالضرورة أن تكون النصيحة قاسية ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعنيفا ، فربما أضاعت القسوة الهدف من النصيحة ، وربما أفسد التعنيف الغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من التزاوج العجيب ، بين الشجاعة والحكمة ، وفي لغتنا الشريفة من المرونة والسعة ، ما يشكل رصيدا للدعاة ، لينهضوا بواجبهم بشجاعة حكيمة ، تحقق مقاصد الشريعة ، وتعود بالخير على الناس.

- في لقاء مع ملك البلاد ، في الديوان الملكي ، ضم عدداً من النواب ، من رؤساء اللجان النيابية ورؤساء الكتل ، ولم يحضرها من كتلتنا إلا كاتب هذه السطور ، وعلى طعام الغداء ، جرى حديث تكلم فيه عدد من النواب ، واستأذنت بالحديث ، وكنت قد أعددت ورقة ، واستشرت الأخ الشيخ عبد الرحيم العكور بشأنها ، واتفقنا على قراءتها إذا كان ذلك ممكناً ، أو التحدث بما تضمنته ، إن تعذرت قراءتها ، أو تسليمها باليد ، إذا لم أتمكن من الخطوتين السابقتين. ولما كان متعذرا علي قراءتها على مائدة الطعام ، فقد تحدثت بمضمونها ، واستهلك حديثي بمآثر الشعب الأردني ، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وجدارته بكل خير. مستشهدا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « تفتحون الشام من بعدي من رفح إلى الفرات مرابطون إلى يوم القيامة رجالهم ونساؤهم وإماؤهم ». ثم تحدثت حول مفهومنا للوحدة الوطنية ، التي تقوم على الحقوق والواجبات ، وتحدثت عن الكرامة الإنسانية ، وضرورة التوازن بينها وبين الأمن الوطنين وأشرت إلى الممارسات التي تقوم بها الحكومة خلافاً للحق وللدستور وللتوجيهات الملكية. كما تحدثت عن التطوير والإصلاح الإداري ، وأكدت أن التطوير ما زال في مرحلة التنظير ، وأن التطوير الحقيقي ينطلق من قول الله عز وجل على لسان ابنة الرجل الصالح في مدين : « يا أبت أستئجره أن خير من استأجرت القوي الأمين ». وقد كنت أقرأ الإصغاء التام ، والاهتمام البالغ في قسمات وجه صاحب الجلالة ، يقابلهما امتعاض في نظرات صاحب الملك من رئيس الحكومة ، أن يتحدث عن الاتفاق مع الإخوة الفلسطينيين ، وكان وفد فلسطيني قد زار الأردن ، وأجرى مباحثات اقتصادية ، ولكن رئيس الحكومة قال : « أريد أن أرد على النائبحمزة منصور ، لأن من يسمعه يظن أننا نعمل خلافاً لتوجيهات جلالتكم» ولكن الملك أصر على الحديث عن المباحثات الاقتصادية ، معلقاً بجملة قصيرة : أن النائب لا يعجبه النموذج الأفغاني ، ولا يقبل بأي إخلال بالأمن. وقد أبلغني سماحة الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني بعد أيام ، حيث كنا نلتقي للمعايدة في مقر جهة العمل الإسلامي ، نقلاً عن أخيه محمد رسول الكيلاني ، وكان يومها مستشارا للملك « إن صاحبكم بلغ أقوى رسالة بأعلى قدر من الأدب ».

- حين صدر إعلان واشنطن بشأن المفاوضات الأردنية الإسرائيلية ، اتصل بي وزير الداخلية ، وكان يومها السيد سلامة حماد. وطلب مني مقابلته في مكتبة في تمام الساعة الخامسة مساء. وفي الوقت المحدد كنت في مبنى الوزارة ، بعد أن أبلغت الأخ الأمين العام بالطلب ، واستقبلني الوزير مرحباً ، وقدم بمقدمة ركز من خلالها على الدور المسئول لجماعة الإخوان المسلمين ، وحرصهم على أمن البلاد ، والعلاقة التاريخية مع النظام ، وأنهم لا يقارنون بالأحزاب الأخرى ، التي راح يستعرض بعض ممارساتها وعلاقاتها ، كما يراها ، وخلص من ذلك إلى طلب إلغاء الاعتصام الرمزي ، الذي كان الأمناء العامون لأحزاب المعارضة قد قرروه ، بحجة أن الظرف دقيق ، والمرحلة لا تحتمل مثل هذا الاعتصام. فأجبته : أن هذا القرار ليس قرار جبهة العمل الإسلامي ، ولكنه قرار ثمانية أحزاب ولا أستطيع إلغاءه ، لا أنا ولا الأخ الأمين العام.

وحين يئس من محاولة إقناعي انصرفت ، ولم يمض طويل وقت حتى تم استدعاء الأمناء العامين للأحزاب إلى رئاسة الوزراء ، وكنت أحد المشاركين إلى جانب الأخ الأمين العام. ولدى وصولنا الرئاسة تبين لنا أن الاجتماع غير عادي ، وأنه من مجلس الأمن القومي ، وأن المطلوب الضغط على أصحاب القرار بالاعتصام لإلغائه. وقيل ليلتها كلام كثير وخطير ، ولكن أصحاب القرار بالاعتصام ، وعلى رأسهم أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي تمسكوا بقرارهم. لأن هذه الفعالية يقرها الدستور ، وهي حق طبيعي للمواطنين ، وتمثل الحد الأدنى إزاء الحدث الجلل. وفي صبيحة اليوم التالي ، وفي الساعة المحددة ، كان قادة الأحزاب في مقدمة المعتصمين أمام المسجد الحسيني الكبير.

- على أثر مجزرة عيون قارة ، التي راح ضحيتها عدد من العمال الفلسطينيين ، على أيدي قوات الاحتلال الصهيونية ، وفقاً لخطتهم الرامية إلى تهجير الشعب الفلسطيني أو إبادته ، اتصل بي مدير شرطة العاصمة ، العميد غالب الزعبي ، وسألني عن مسيرة كان مقرراً القيام بها في الوحدات تضامنا مع الشعب الفلسطيني ، وتعبيرا عن الرفض للممارسات الصهيونية ، وسألني عن مشاركتي وأخي الدكتور أحمد نوفل في هذه المسيرة ، فأجبته بالإيجاب ، فطلب إلى إلغاء المسيرة فقلت له : أنا مشارك في هذه المسيرة ، ولست صاحب القرار في تسييرها ، وبالتالي فأنا لا أملك إلغاءها ، فأبدى مخاوفه من الآثار التي ستترتب على هذه المسيرة. فقلت له : أنا ضامن أن مسيرة الإخوان المسلمين مسيرة حضارية ، ليس من أهدافها التعرض لأمن الوطن أو تخريب المنشآت. وعقب صلاة الجمعة انطلقت المسيرة من مسجد المدارس ، وانضم إليها بعد ذلك أعداد كبيرة من أدوا الصلاة في مساجد أخرى ، وجابت شوارع الوحدات ، وألقيت الكلمات ، وعلت الهتافات المعبرة عن المناسبة بانضباطية عالية ، وحققت المسيرة الهدف المقرر لها ، واستجاب المشاركون لطلب قيادة المسيرة بالانصراف راشدين. وعندها توقفت قليلاً ، عند ثلة من رجال الأمن ، وحييتهم ، واستفسرت منهم فيما ، إذا رأوا أو سمعوا ما يكرهون ، فأجابوا بالنفي ، فحمدت الله تعالى على رشد شعبنا وأصالته.

لدى مشاركتي في وفد مجلس الأمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 95 برئاسة العين طاهر حكمت ، اشتمل برنامجنا على عدد من الأنشطة ، منها زيارة الكونجرس الأمريكي ، والخارجية الأمريكية ، ومراكز الدراسات ، وهنا أسجل لرئيس الوفد حرصه على إعطائي الفرصة في التحدث بعده مباشرة ، باعتباري ممثلا للمعارضة الأردنية ، وكان الحديث غالباً ينصب حول موقف الولايات المتحدة الأمريكية من القضايا العربية والإسلامية ، وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي ، وكان حديثاً واضحاً وصريحا ، يدين الانحياز الأمريكي للعدو الصهيوني ، ويطالب بموقف محايد ، استناداً إلى المبادئ التي يتغنى بها الأمريكان ، ووفقاً لمصالحهم ، وهي بالتأكيد مع مليار وربع المليار من العرب والمسلمين ، وليست مع بضعة عشر مليون يهودي. وحين سئلت عن وجهة نظري في حل القضية الفلسطينية أجبت : الأمر بسيط ، هنالك مهاجرون يهود ، ومهاجرون عرب ، فاليهودي يعود من حيث جاء ، والعربي يعود من حيث أتى ، فشامير يعود إلى بولندا ، وأنا أعود إلى مرج ابن عامر.

إن هذه الصراحة والوضوح في التعبير عن القناعة المستندة إلى مبادئ الأمة وثوابتها ، يعود الفضل فيها إلى التربية الدعوية التي تقول أبجدياتها : (وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). على أن الشجاعة عند الإخوان المسلمين لا تعرف التهور ، فهي منضبطة بضوابط شرعية. فالصراحة لا تعني التطاول على الناس ، والتمسك بالموقف لا يعني التعنت والتعصب ، ولكنهم يقابلون الحجة بالحجة ، ويوازنون بين صلابة الموقف وأدب الخطاب ، وتلك لعمر الحق عين الحكمة. أذكر أن مجلسا جمعنا ذات يوم مع السيد ذوقان الهنداوي ، نائب رئيس الوزراء ، وقد أورد بعض الشواهد على تجاوزات بعض الخطباء -والحكومة حساسة في الغالب إزاء خطب الجمعة- فقال : أن خطبة الشيخ حمزة تأتينا كل أسبوع ، ورغم قوة الطرح إزاء القضايا التي يتناولها ، إلا أننا لا نجد ملاحظة واحدة تشكل خروجاً على القانون ، وإن كانت هذه الشهادة لم تحمني من سيف وزارة الأوقاف التي نفذ صبرها ، في الذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين ، فاصدر وزير الأوقاف قراره بتوقيفي عن الخطابة ، ولكن هذه التصرفات الرسمية لن تستفزنا ، ولن تخرجنا عن الحكة التي لا نعترف بشجاعة لا ترافقها الحكمة ، شعوراً ما أننا أم الولد كما يقولون.

الدرس السادس : جرأة في الحق

إن هذه الدعوة التي تستهدف إقامة منهج الله في الأرض ، تستلزم قدراً عالياً من الجرأة والإقدام ، لأن الطريق محفوفة بالمكاره ، ومن هنا فإن حمل الدعوة يحتاج إلى جرأة ، وتبليغها يحتاج إلى إقدام ، والقيام بشرائط عضويتها يحتاج إلى شجاعة ، وتنفيذ واجباتها يحتاج إلى مثل ذلك.

ومن هنا فإن الدعوة ببرامجها التربوية ، والنماذج العملية التي تقدمها ، تربي أفرادها على الجرأة في قول كلمة الحق ، فالخطبة الإخوانية متميزة في وضوحها وصراحتها ومعالجتها للقضايا الهامة ، والبيان الإخواني لا يجامل ولا يتجاهل الحقائق ، والخطاب الدعوي والسياسي يصدع بالحق. لذا فلا غرابة أن نجد قطاعات الحقائق ، والخطاب الدعوي والسياسي يصدع بالحق. لذا فلا غرابة أن نجد قطاعات عريضة تلهج ألسنتها بالثناء على جرأة الإخوان المسلمين وشجاعتهم ، وأود أن أورد بعض الشواهد على ذلك :

- حين كنت خطيباً لمسجد « أبو علندا الكبير » في منتصف السبعينيات ، وكنت قد تشرفت بهذه المهمة منذ عام 1970 ، وكنت أدرك أن الخطيب مراقب ، وأن خطبة الجمعة تتم دراستها من أطراف عدة ، وأن مسألة تترتب على كل ما يراه أصحاب القرار تجاوزا للخطوط الحمراء. ولكنني كنت على يقين أن اعتلاء المنبر أمانة ، لا يجوز أن يرتقي إليها إلا من أداها بحقها ، ومن تأديتها بحقها قول كلمة الحق ، وأن أغضبت بعض الجهات رسمية كانت أو شعبية. فالحق أحق أن يتبع ، والله سبحانه يقول وهو أصدق القائلين : « فلا تخشوا الناس واخشون » والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحقرن أحدكم نفسه » وحين سئل عليه الصلاة والسلام : كيف يحقر أحدنا نفسه؟ أجاب : « أن يقف موقفاً فيه لله مقال فلا يقول؟ ». لقد كنت حريصاً أن تكون الخطبة معنية بالمستجدات على الساحة المحلية والوطنية والإسلامية ، وأن أربط كل ذلك بهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام ، إدراكا مني أن تناولها مجردة يجعلها حديثاً صحفياً ، وعرض هدي محمد صلى الله عليه وسلم دون تنزيله على الواقع فصل للدين عن الحياة. وقد كان بعض الرقباء أحياناً ، يتعاملون بأساليب قديمة وسطحية ، وتخرج عن حدود الذوق العام. أذكر أن أحدهم كان يقف بأساليب قديمة وسطحية ، وتخرج عن حدود الذوق العام. أذكر أن أحدهم كان يقف بلباسه الرسمي بباب المسجد ، ويمسك بورقة وقلم ويدون ما يرى تدوينه مما يرى ويسمع. حتى إذا قضيت الصلاة رجاني أن أوصله إلى مكان عمله في طريقي ، فسألته ذات يوم : هل أنت مسلم؟ فأجاب « نعم ». فقلت له : أن الذي يراك واقفاً خارج المسجد ، أثناء الصلاة يظنك غير مسلم. فهلا أديت الصلاة واستمعت إلى الخطبة بنية العبادة. فقال : « إنها وظيفة » فقلت : « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » وبإمكانك إن كنت فاعلاً لا محالة -وأنا أرى أن التجسس على المسلم حرام- أن تحضر معك مسجلاً ، وأن تسجل ما تسمع دون أن تخسر الصلاة وتعرض نفسك لانتقاد الناس ».

كنت أرى مثل هذا الرقيب ، ولكنني أمضي في خطبتي كما أعددت لها ، دون اعتبار لمن يكتب أو يسجل ، إيماناً مني بأن مخافة الله هي التي تحدد ما أقول وليست رقابة الرقباء.

ومثل هذا الموقف يتكرر في كل ندوة أو محاضرة أو مهرجان ، ورائدنا في ذلك ما تعلمناه في الدروس الأولى في جماعة الإخوان المسلمين ، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ». ومن ذلك أيضاً تناول ما يجد على الساحة المحلية بروح النصح والإشفاق والتحذير ، وليس بروح الفضيحة والتشفي والتشهير. فلقد بلغني ذات يوم أن تنافسا بين أبناء العمومة في الانتخابات البلدية ، خرج عن حده المقبول فاستحضرت حالة مشابهة شهدتها سحاب ، وكان الثمن غالباً ، حيث خلفت دماء وجراحات واعتقالات وعداوات. فكان لا بد لي أن أحذر من مغبة ما يترتب على هذا التنافس ، وقد قدرت أن تناول الموضوع ليس سهلاً بسبب حساسيته. فجعلت موضوع خطبتي الإمارة والأمير ، ومسست الموضوع مسا خفيفاً ، أدركت أنه وصل قلوب العقلاء ، وبعد الصلاة وقف أحد المصلين وقال : « الليلة على بيت أبو راشد حلال المشاكل ». وكم سعدت في الجمعة التالية ، حين علمت أن الأمر تمت تسويته ، وتجنبت البلدة شراً نستعيذ بالله منه. والأمثلة على ذلك كثيرة منها أنني علمت ذات يوم أن التنافس دفع ببعض المواطنين إلى تصيد الأخطاء والمناسبات ، للإيقاع بمنافسيهم ، ولا سيما بعد أن رأيت نفرا منهم في أحد المراكز الأمنية ، فصعب علي ذلك ، وأنا حريص على أن تبقى هذه البلدة بمنأى عن الشحناء والبغضاء. فعزمت على جعل هذا الموضوع محور خطبتي ، وتخيرت له القاعدة المناسبة من معاني الأخوة ، متجلية في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلوك أصحابه عليهم رضوان الله. وتأسيسا على ذلك فقد حذرت من الظنون ، وتتبع العورات ، والإيقاع بالمسلمين وإيذائهم ، مستشهدا بفيض من النصوص القرآنية الكريمة ، والنبوية الشريفة ، دون أن أدخل في التفاصيل على قاعدة « ما بال أقوام ». وكم كانت سعادتي حين بشرني أبو هلال بعد ليال ، بأن القضية قد انتهت ، ووئدت الفتنة في مهدها. إن الشر من مستصغر الشرر ، وأن خير أسلوب للتعامل مع المشكلات الجرأة في المواجهة ، والحكمة في التعامل ، والصدق في النية ، فتحسم الشرور ولا تتفاقم فتصبح داء عضالا.

- حين تقدم الرئيس المكلف الشريف زيد بن شاكر ببيان حكومته ، طالباً الثقة على أساسه ، قال لي أحد كبار الضباط المتقاعدين : « لن يجرؤ أحد على حجب الثقة عن الرئيس ، أو الاعتراض على بيان حكومته. لان هذا الرئيس ليس كسائر الرؤساء ، الذين حجبتهم عنهم الثقة ، فهو قائد عسكري ، وابن عم الملك. فقلت له : أنك لا تعرف حقيقة الإخوان المسلمين ، أنهم يستندون في مواقفهم إلى القواعد الإسلامية. ويقتدون في ذلك بأصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، الذين كانوا يقولون : « لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها » وجاء موعد مناقشة البيان وأعد الإخوان ردهم عليه وتم إلقاؤه في الموعد المحدد ، وكان كما أراد الإخوان ، وكما يؤمل فيهم من يعرفهم. وأذكر أننا ضمنا لقاء مع رئيس الوزراء بعد أن استمع إلى كلمتنا فقال : « كنت أتوقع أن تحجبوا الثقة عن حكومتي ، ولكن لم يخطر لي ببال أن ردكم سيكون بهذه القوة » فكان جوابنا أن قوة الطرح أمانة ، نتحمل مسئوليتها عند الله ، أما الأدب فهو خلقنا في التعامل ، فهل رأيت منا خروجاً على الأدب؟ قال : « لا » قلنا : « الحمد لله».

- وحين نعوض الشيخ عبد المنعم أبو زنط لاعتداء آثم ، أثناء خروجه من مسجد أبي هريرة ، عقب صلاة الجمعة ، اتصل بي بعض الإخوة من منطقة حي نزال ، لإبلاغي بما حدث ، فسارعت إلى الاتصال برئيس الوزراء الدكتور عبد السلام المجالي ، ولكنني لم أتمكن من مهاتفته فاتصلت بوزير الداخلية السيد سلامة حماد ، وحين سمعت صوته قلت : « أوفعلتموها يا أبا ماهر؟ وهل وصل بكم الحد أن تضربوا الشيخ عبد المنعم أبو زنط؟ فقال : « الشيخ بخير وهو يهتف للإسلام ». فقلت : « سنبقى نهتف للإسلام ». وعلى الفور ، هاتف الأخ الأمين العام الدكتور إسحق الفرحان ، مخبرا إياه بما تم ، واقترحت عليه سلسلة من اللقاءات ، لقاء للمكتب التنفيذي فوراً ، ولقاء للجنة القانونية ، ولقاء للأمناء العامين لأحزاب المعارضة ، ولقاء لنواب كتلة جبهة العمل الإسلامي ئ، ثم لقاء لجميع النواب في تمام الساعة الثامنة مساء ، ولقد كان أبو أحمد كعادته يحترم اقتراحات إخوانه ، وينزل على الصائب منها ، ويتحمس لها وكأنها صادرة عنه ثم هاتفت الشيخ عبد العزيز جبر ، واتفقت معه على التوجه إلى مسجد أبي هريرة ، حيث كنت قد أبلغت أن المصلين محاصرون في المسجد ، وخلال دقائق معدودة توقفنا على مقربة من المسجد ، حيث وجدنا أعداداً كبير من رجال الأمن يحيطون بالمنطقة ، ومضينا في طريقنا بعد أن عرفناهم بأنفسنا إلى المسجد ، ولكن المسجد كان قد خلا تماماً من المصلين ، ولم يعد فيه أحد. وبعد سلسلة من الاجتماعات التي اتفقنا عليها ، وبعد أن أطمأننا على وضع إخينا في المستشفى ، حيث قام الإخوان عبد العزيز جبر والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني بزيارته ، كما قام رئيس مجلس النواب بزيارته كذلك ، اتفقنا على كيفية التحرك من خلال مجلس النواب. وقد عهد إلى الدكتور عبد الله العكايلة بإلقاء كلمة باسم الكتلة النيابية ، تدين الاعتداء ، وتحمل الحكومة مسئوليته ، وتطالب بتشكيل لجنة برئاسة رئيس مجلس النواب للتحقيق فيما جرى ، وتقديم تقريرها للمجلس. وجاءت كلمة الدكتور العكايلة متناسبة مع قداحة الحادث. المتمثل بالاعتداء على نائب يمثل الشعب ويحظى بثقته ، فضلاً عن أنه شيخ معمم ، وإن الاعتداء عليه تم في بيت الله عز وجل. ونظراً لقوة الطرح وسلامة التحرك ، فقد كان التجاوب في أعلى مستوياته. وتم تشكيل اللجنة المعنية بالتحقيق.

- حين فرغت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب من مناقشة معاهدة وادي عربة ، والتنسيب بالموافقة عليها ، بعد أن استبسل إخواننا في محاولة إقناع الزملاء برفضها. بعد أن كشفنا الكثير من عيوبها وأخطارها. قرر رئيس مجلس النواب دعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشتها في جلسة صباحية. وقد أعد كل واحد من أعضاء الكتلة كلمة ، توضح أخطار المعاهدة ، وتدعو إلى عدم الموافقة عليها ، بينما سجل إخواننا أعضاء اللجنة -وكنا يومها ثلاثة- مخالفة مدروسة بعناية لأغلبية أعضاء اللجنة. وفي طريقي إلى مكتب نواب جبهة العمل الإسلامي أبصرت انتشاراً أمنيا واسعاً ، ومظاهر عسكرية غير مسبوقة. في المنطقة المحيطة بمجلس الأمة. فهاتفت رئيس الوزراء ، فلم أعثر عليه ، ثم هاتفت نائب رئيس الوزراء قائلاً ماذا يعني الانتشار الأمني الكثيف؟ وهل تريدون مناقشة المعاهدة تحت الحراب؟ أرجو أن لا تذكرونا بعام 1970 ، أنني أطالب بإزالة المظاهر المسلحة لتتم المناقشة في ظروف عادية. وفي اجتماع عاجل لأعضاء الكتلة تم الاتفاق على المكث في قاعة الصور حتى تزول المظاهر العسكرية ، وتوجه إخواننا وبعض الزملاء الذين يقفون موقفنا من المعاهدة إلى قاعة الصور ، وإصرارنا على عدم دخول قاعة المجلس حتى تتم إزالة المظاهر المسلحة. وحين اكتمل النصاب لم يكن أمامنا إلا الدخول حتى لا نخسر فرصتنا في إلقاء كلماتنا ، وحتى لا يقال أن الموافقة على المعاهدة تمت بالإجماع. وبعد تلاوة تقرير لجنة الشئون الخارجية جاء دوري في إلقاء مخالفتي ، وكانت الحكومة قد حشدت أعداد كبيرة من العناصر الأمنية ، أو سمحت بدخولها على الأقل بملابس مدنية. وأخذوا أماكنهم في الشرفات ، وحين بدأت بإلقاء مخالفتي في إظهار أخطار المعاهدة ، كانت تتعالى الأصوات من الشرفات ، بغية التأثير علي ، أو التعبير عن رفضها لما أقول. فتوقفت عن تلاوة المخالفة ، ووجهت الحديث إلى رئيس المجلس ، مطالباً إياه بالاضطلاع بمسئولياته ، وتطبيق النظام الداخلي الذي يوجب عليه وقف التشويش ، وعدم السماح بعبارات الاستحسان والاستهجان. وحين كررت الطلب مهدداً بالتوقف عن الحديث وارتفعت أصوات إخواني بالاحتجاج على ممارسات الحضور ، الذين جيء بهم للتشويش ، وعلى عدم تعامل رئيس المجلس بالحزم إزاء هذه المخالفات. عندها استجاب رئيس المجلس وحاول وضع حد للتشويش. لقد كنا ننطلق في هذه المواقف من منطلقين ، أولهما إرضاء الله تعالى ، الذي أوجب علينا تقديم النصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتستقيم الأمور ، ولنحمي أنفسنا من سخط الله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب. وثانيهما وفاء بالأمانة التي أناطها بنا شعبنا الطيب الذي قال : « نعم للإسلام هو الحل » فهي وكالة عن الشعب ، ينبغي القيام بها بأمانة ، وإلا عد السلوك نكوصا عن الواجب ، وتضييعا للأمانة ، وتفريطا بالحقوق.

الدرس السابع: أدب من غير ذلة

أن دعوة تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك حملتها إلا أن يكونوا على قدر عال من الأدب ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من رقة في الطبع ، وسماحة في التعامل ، وحلم مع الجاهل ، وإيصال للرسالة بسلاسة ويسر ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس مع الجاهلين ، وأوسع الخلق صدرا مع المسيئين ، وأعظم الناس عفواً حين يمكنه الله من المتطاولين عليه والمجترئين. والأمثلة على ذلك حافلة بها كتب السنن والسير. ولما كانت دعوة الإخوان المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم مقتدية ، ولخطاه مقتفية ، فقد أتيح لحملتها قدر عال من هذا الشرف. ولعل في مقدمتهم الإمام الشهيد حسن البنا ، الذي طالما علم إخوانه وأصحابه العبارة المأثورة : « كونوا مع الناس كالشجر ، يرمونه بالحجر ، فيرميهم بالثمر » وما أعظمها حكمة تفتح لصاحبها قلوب العالمين! ولعل هذه الميزة في مقدمة الميزات التي جمعت القلوب على حبه ، ولعل من خير ما علمت عنه في هذا المجال حادثة رواها لنا الشيخ محمد جبر ، فقد كنا نغشاهما ، ونجلس إليهما ، ونتبادل الأحاديث معهما ، فروى لنا هذه الواقعة فقال : كان في مصر ثلاثة إذا قالوا نعم قال شعب مصر نعم ، وإذا قالوا لا قال الشعب لا. أنهم حسن البنا ويوسف القرضاوي وحسن دوح. ولم يشأ أن يتركنا دون مثال يؤكد من خلاله الفكرة التي أوردها ، ويكشف عن السر الذي من أجله تربعوا على عرش القلوب فقال : « كان الإخوان المسلمون قد بنوا سرادقا ضخماً في إحدى المناسبات ، واجتمع فيه خلق كثير ، وكان المتحدث الشيخ حسن البنا رحمه الله ، فاستأجر بعض خصومهم السياسيين أحد رجال العصابات ليفشل هذا الحفل على الإخوان ، واسمه إبراهيم كروي. فدخل إبراهيم السرداق ، وكان الإمام البنا قد وقف للحديث ، فبادره الإمام الشهيد بالتحية على الطريقة المصرية « أي يا سي إبراهيم آنست وشرفت » فرد على التحية بقوله : « لا آنست ولا... » فقال الإمام : « أي يا سي إبراهيم عايز آية »؟ فأجابه إبراهيم : « ما فيش حفل » فقال الإمام « حاضر » ثم قال : « ما رأي سيادتك أتكلم خمس دقائق؟ فقال إبراهيم : « تكلم » فلما انتهت الدقائق الخمس قال .: « آي يا سي إبراهيم أتكلم ولا بلاش »؟ فقال : « تكلم » فتكلم خمس عشرة دقيقة وتوقف ، ووجه سؤالاً آخر : « آي يا سي إبراهيم أتكلم ولا أوقف »؟ فقال إبراهيم : « تكلم لي بقول لك وقف حاوقف إدماغه ». هذا درس بليغ لمن كان له قلب. لقد كان باستطاعة الشيخ أن يامر اثنين من إخوانه فيخرجاه من السرداق ، ويعلماه أن الإخوان ليس حائطهم واطيا ولكنه أراد أن يعلم الناس كيف تكسب القلوب وتستل الأحقاد والسخائم. فليت الذين ينفرون الناس من الدعوة بفظاظتهم وتجهمهم وتعاليهم عليهم والعجز عن استيعابهم يتعلمون من الإمام المعلم ، الذي جدد فينا هدي نبينا عليه الصلاة والسلام.

- اذكر أن نفرا من النواب دعوا ذات يوم إلى لقاء مع الأمير الحسن. وكنت أحدهم ، والأمير كما هو الملك ، يرغب بين الفينة والفينة في مثل هذا اللقاء ، يسمع من خلاله ويسمع ، ويوصل بعض الرسائل. فأدليت يومها بدلوي كسائر الحاضرين. وأنا أحرص في مثل هذه المناسبة أن أكون معبراً عن دعوتي ، لأدفع عنها ظلم الظالمين ، ممن لا يتقون الله فيحاولون أن يوغروا صدور المسئولين على الدعوة والدعاة. وهذا بعض ما ابتليت به دعوتنا وأمتنا. فتحدثت يومها عن وطنية الإخوان المسلمين ، التي أفرد هلا الإمام الشهيد مساحة كبيرة في الرسائل ، وعن مفهومنا للوحدة الوطنية والأمن الوطني ، وقد قدمت لذلك بعبارة : أن جلسة يديرها أمير عالم توفر فرصة كبيرة للمصارحة وإن كانت هذه العبارة أسيء فهمها واستغلالها ممن يستكثرون على المرء كلمة يفهم منها مدح المسئول واعتقد أن هذه إحدى السلبيات التي ابتلى بها بعضنا... وكنا يومها في بدايات معركة سياسية تتعلق بتوجه الحكومة لرفع الدعم عن الخبز والأعلاف ، وأذكر مما قال : « لقد استمعت بالأمس إلى الشيخ حمزة منصور وهو يتكلم فأحسست أن الوطن يتكلم » ، وذلك في معرض حديثه عن مسئولية الحركة الإسلامية ، ودورها في خدمة الهم الوطني. وأجد من الأمانة هنا أن أؤكد ، أن الرجل كثيراً ما كان يؤكد على أهمية استمرار التفاهم والانسجام ، بين الحركة الإسلامية والنظام خدمة للجميع ، وحماية للأردن مما ابتليت به بعض الأقطار العربية ، جراء الصدام بين الأنظمة والإسلاميين.

أن اختلافنا مع الحكومات ، ومعارضتنا لسياساتها ، وإنكارنا للمنكرات لا يجوز أن يخرجنا عن أدب الإسلام ، فهنالك فرق بين من يريد أن يصلح فساداً ، أو يقوم اعوجاجا ، أو يوصل رسالة ، وبين من يريد أن ينتصر لنفسه. وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام غنية بالأمثلة. فهو يكتفي في كثير من الأحيان بالتلميح والإشارة ، إذا كانا يغنيان عن الصراحة فلا يعنف ، ولا يحرج ، لأن النفوس إذا جرحت جمحت ، وصعب ردها إلى الجادة ، فكان كثيراً ما يقول : « ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ». وقد سار الإمام حسن البنا على هدي معلم الناس الخير ، فهو يوصي إخوانه بقوله : « لا تجرحوا الأشخاص ولا الهيئات » فرب كلمة لم يقدر صاحبها آثارها دفع وغيره ثمنها غالياً.

وفي ضوء هذا الفهم حرصت فيما أقول وأكتب على التزام هذا الهدي. فأذكر أننا التقينا ذات يوم في مكتب رئيس الوزراء ، وكثيراً ما كنا نتصارح ونتناصح. وكان بعض المسئولين يأخذ على بعضنا عبارات تند من خطيب ، تحمله عليها حرارة المناسبة ، أو صعوبة المرحلة. ولا نستطيع أن ندافع عن موقف خاطئ أو عبارة في غير موقعها ، ولكننا نطالب بتقويم الموقف كاملاً ، وعدم الاقتصار على نماذج قليلة أو عبارات محدودة ، فالموضوعية تقتضي استعراض كل ما يصدر عن الخطباء والكتاب والمتحدثين ، للوقوف على الإيجابيات والسلبيات. وأما أن يصبح تصيد خطأ هنا وزلة هناك هدفاً للتحريض على الدعوة الإسلامية. فذاك أمر تأباه الأمانة والموضوعية. واذكر يومها مقالة للأستاذ ذوقان الهنداوي ، نائب رئيس الوزراء : « أننا في كل أسبوع نستعرض خطبة الأستاذ حمزة منصور فنجدها أكثر ما تكون جرأة وصراحة ، ولكننا لا نجد فيها كلمة يمكن أن تعرضه للمسألة ».

ولقد كان أخونا المرحوم أحمد الأزايدة مجليا في هذا المجال ، كما هو في كثير من المجالات. فمن يستمع إلى كلمته في ندوة محاضرة أو مهرجان أو احتفال ، أو تحت القبة ، يجد قوة في الطرح ، وأدباً في التعبير ، نال به ثقة الكثيرين ومحبتهم ، وكثيراً ما عبروا عن مشاعرهم الطيبة إزاء هذا السلوك المتميز. ولعل أستاذنا عمر التلمساني بلغ الذروة في هذا الفن ، فكانت مقالته في مجلة الدعوة مناسبة عزيزة للالتقاء معه في كل شهر ، كان يعيش قضايا أمته ويتفاعل معها ، ويتقن فن إبرازها وحشد التأييد لها ، وكان حساساً إزاء السلوكات السياسية الخاطئة ، ويحسن تسديد السهام إليها ، ولكن القارئ يحس أن كل سهم منها قد تم تغليفه بمنديل من حرير. وهو في ذلك يصدر عن أدب الخطاب القرآني ، والهدي النبوي ، ولعل في التوجيه القرآني الكريم لموسى وهارون عليهما السلام خير دليل ت اذهبا إلى فرعون أنه طغى ، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى فإذا كان هذا هو أسلوب مخاطبة فرعون الذي طغى ، فكيف يكون ث مع من لم يبلغ درجته في الطغيان؟ وهذا الأدب يشيع في التوجيهات القرآنية ، حتى في توجيه خير الخلق وأوفرهم أدباً « ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر »... بل أن في الحوار الرقيق من مؤمن آل فرعون وهو يهتف بقومه ، في محاولة منه لهدايتهم وإخراجهم من دائرة نفوذ الطغاة أسوة حسنة « يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ».. « وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ». وقد آثرت التوسع في الاقتباس من كتاب لله عز وجل ، لأن مما دها بعض الناس في هذه الأيام ، أنه خيل غليهم أن التجهم واصطناع الجدية دليل التميز والالتزام ، وأن الرفق ولين الجانب سمة المفرطين ، وغاب عنهم أن ألين الناس جانباً ، وأرفق الناس بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لما كان جديرا بقول الله عز وجل (وأنك لعلى خلق عظيم). ولعل من أجمل ما قرأت في هذا المجال ما ورد في كتاب مذكرات الدعوة والداعية للإمام الشهيد حسن البنا ، فقد ذكر تحت عنوان نماذج من تصرفات الرعيل الأول هذه الواقعة : « استدعى المسيو سولت باشمهندس القنال الأخ حافظ ، ليصلح له بعض أدوات التجارة في منزله ، وسأله عما يطلب من أجر فقال : (130) قرشاً ، فقال المسيو سوليت بالعربي « أنت حرامي » فتماسك الأخ نفسه وقال له بكل هدوء : لماذا؟ فقال : لأنك تأخذ أكثر من حقك. فقال له لن أخذ منك شيئاً ، ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرؤوسيك ، فإن رأي أنني طلبت أكثر من القدر المناسب فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل فعلاً مهندساً وسأله ، فقدر أن العمل يستوجب (200) قرش ، فصرفه المسيو سولت وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل. فقال له : سأفعل ، ولكنك أهنتني فعليك أن تعتذر ، وأن تسحب كلمتك ، فاستشاط الرجل غضباً ، وغلبه الطابع الفرنسي الحاد ، وأخذته العزة بالإثم وقال : تريد أن أعتذر لك ، ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما اعتذرت له. فقال حافظ في هدوء أيضاً : وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولت ، فأنت ي بلد الملك فؤاد ، وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا الكلام ، وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام. فتركه وأخذ يتمشى في البهو الفسيح ، ويداه في جيب بنطلونه ، ووضع حافظ عدته وجلس على كرسي واتكأ على منضدة ، وسادت فترة سكون لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الحائر. وبعد قليل تقدم من حافظ وقال له : افرض أنني لم أعتذر لك فماذا تفعل؟ فقال الأمر هين ، سأكتب تقريراً إلى قنصلكم هنا ، وإلى سفارتكم أولاً ، ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس بباريس ، ثم إلى الجرائد الفرنسية المحلية والأجنبية ، ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس فأشكوك إليه ، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك ، استطعت أن أهينك في الشارع وعلى ملأ من الناس ، التي قيدتموها بسلاسل والامتيازات الأجنبية الظالمة ، ولكنني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريق. فقال الرجل : يظهر أنني أتكلم مع « أفوكاتوا لا نجار » ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس ؟ فكيف تتصور أن أعتذر لك؟ فقال حافظ : ألا تعلم أن قناة السويس في وطني لا في وطنك ، وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة وستنتهي ، ثم تعود الينا فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا ، فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ وانصرف الرجل إلى مشيئته الأولى ، وبعد فترة عاد مرة ثانية وعلى وجهه أمارات التأثر ، وطرق المنضدة بيده في عنف مرات وهو يقول : أعتذر يا حافظ سحبت كلمتي فقام الأخ حافظ بكل هدوء وقال : متشكر يا مسيو سولنت وزاول عمله حتى أتمه. وبعد الانتهاء أعطاء المسيو سولنت 150 قرشاً ، فأخذ منها 130 قرشاً ورد له العشرين. فقال له خذها بقشيشا ، فقال لا لا حتى لا آخذ أكثر من حقي فأكون « حرامي » فدهش الرجل وقال : إني مستغرب ، لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت « فاميلي محمد » فقال حافظ : يا مسيو سولنت كل المسلمين « فاملي محمد » ولكن الكثيرين منهم عاشروا « الخواجات » وقلدوهم ففسدت أخلاقهم. فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلاً : متشكر. متشكر. كثر خيرك. وفيها الإذن بالانصراف ».

إن المتأمل في هذا الحوار يحس أنه إمام محام كبير وليس إمام نجار ، ولكنها التربية الإسلامية ، وصدق القائل « أدبني ربي فأحسن تأديبي ».

الدرس الثامن: مبادرة تؤتي أكلها

الإسلام يقدر الإبداع ، ويثيب عليه « من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها... ». ومن هنا فتاريخ الإسلام حافل بالمبادرات. فهناك مبادرات معاذ بن جبل « اجتهد رأيي » ونعيم بن مسعود « خذل عنا » وأبو جندل ، وصاحب النقب ، وغيرها. فالمبادرة المدروسة الواعية قوة للدعوة ، وأود أن أشير هنا إلى بعض المبادرات الشخصية ، التي تعلمتها من مدرسة النبوة ، من خلال المنهج التربوي للجماعة ، فما كانت دروس السيرة التي احتفى بها سلفنا الصالح إلا للتأسي والاقتداء ، ويوم تصبح وقائع السيرة مادة للحفظ أو للتسلية أو للمناسبات ، فإنها تفقد قيمتها « فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضواً عليها بالنواجد ».

- حينما نقلت من معان إلى سحاب عام 70 ، بعد خدمة استمرت خمس سنوات ، كانت من أحلى سني العمر ، وأكثرها بركة في حياتي ، راجعت الهيئة الإدارية للإخوان المسلمين في عمان ، واضعاً نفسي تحت تصرفها ، وفاء بالبيعة التي تشرفت بها ، وسألت الأخوة المعنيين إن كان في سحاب أحد من الإخوان المسلمين ، فكان الجواب سلبياً ، وسألت إن كان هناك من له علاقة سابقة بالإخوان ، فذكر لي شخص كانت له علاقة ولكنها لم تعد قائمة. فسألت عنه ، وتوجهت إليه ، زائراً ومعرفا ومحفزا على العمل لمصلحة الإسلام والمسلمين ، فرحب بي وأكرم وفادتي ، وعبر عن اعتزازه بالإسلام وبالدعوة الإسلامية ، التي هو مدين إليها ، وأضاف قائلاً : وإن ما تعلمناه في دعوة الإخوان المسلمين وجدنا الفرصة لتطبيقه من خلال حركة فتح ، حيث الجهاد في سبيل الله لتحرير المقدسات والأوطان ، فأدركت أن الرجل نحا منحى آخر ، ولكن ذلك لم يفت في عضدي ، ولم يمنعني من العمل ، بل زاد من درجة الدافعية لدي ، فيممت وجهي شطر المسجد ، ومن خلال المدرسة ، ولم يمض طويل وقت حتى تشكلت النواة ، وحسنت الصلة ، وامتدت الجسور ، وكثر الجمع ، وفتحت شعبةللإخوان المسلمين. أن الانكفاء على الذات ، والانشغال بالنفس بدعوى قلة الأنصار ، وصعوبة المرحلة ، مقبرة للدعوة والدعاة ، وأن الإحساس العالي بالمسئولية ، والمبادرة إلى العمل ، والتشمير عن ساعد الجد ، يجعل المستحيل ممكناً ، والصعب ميسورا ، فكثير من الدعوات والانجازات كانت فكرة في ذهن شخص أو أشخاص ، فوجدت لديهم روح المبادرة العالية ، فأصبحت ملء السمع والبصر ، وإن كثيراً من الفرص قد لا تتكرر ، وأن من الحكمة اغتنام هذه الفرص ، ولعل هذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : « بادروا بالأعمال سبعاً فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا ، أو غني مطغيا ، أو مرضاً مفسدا ، أو هرما مفندا ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر » فالبدر البدرا قبل أن يأتي زمان يقول فيه المرء « ليت ».

- حين أعتدي على الدكتور حسن الترابي في كندا ، أثناء رحلة له إلى الولايات المتحدة وكندا ، أجرى خلالها عدداً من الحوارات واللقاءات أسهمت في تأجيج الحقد عليه ، فكان قرار الاغتيال ، استمعت إلى الخبر من إذاعة لندن ، أثناء توجهي إلى عملي في مكتب النواب ، وقد تأثرت كثيراً للنبأ ، لما يمثله الدكتور حسن الترابي ، ليس في السودان فقط ، ولكن في العالم الإسلامي أجمع ، وقد رأيت لزاماً علي أن أقوم بعمل ما ، وفق ما تسمح به إمكاناتي ، وفاء بحق الإخوة ، وكنت يومها مقرراً للكتلة النيابية للحركة الإسلامية في المجلس النيابي الحادي عشر ، فعزمت على الاتصال بالأخ إبراهيم خريسات رئيس الكتلة ، عارضا عليه إصدار تصريح باسم الكتلة حول هذا الاعتداء فوافقني على ذلك ، فكتبت تصريحاً من بضعة أسطر ، أكدت من خلاله أن الدكتور حسن الترابي ليس مجرد رمز سوداني ، ولكنه بالإضافة إلى ذلك رمز عربي إسلامي ، وأن الاعتداء عليه اعتداء على كل عربي ومسلم ، وإن السلطات الكندية تتحمل مسئولية الحافظ على سلامته. وتم إرسال التصريح عبر جهاز الفاكس ، إلى عدد من وكالات الأنباء والصحف ، وقد اعتدنا حين نرسل بياناتنا وتصريحاتنا إلى وسائل الإعلام توجيهها إلى قرابة ستين مؤسسة إعلامية. ولم يمض نصف ساعة ، حتى راحت وكالات الأنباء تتصل بنا ، ونستفسر منا عن الحادثة ، ثم راحت تزودنا بآخر الأخبار ، بشأن الوضع الصحي للدكتور الترابي ، ولم يكن يخطر ببالي أن هذا التصريح سيكون له مثل هذا الأثر ، فقد نقل إلينا السفير السوداني شكر رئيس الدولة على هذه المبادرة ، كما أبلغني الإخوة الذين زاروا الدكتور الترابي بعد عودته سالماً ، مهنئين بالسلامة ، أنهم أخبروا أن تحولاً في المعاملة ، قد بدأ منذ ذلك التاريخ ، تاريخ إصدار التصريح الصحفي.

- حين برزت بعض الممارسات السلبية في بعض المباريات الرياضية ، ولا سيما في مباريات الوحدات والفيصلي ، عقد نواب المعارضة اجتماعاً لتدارس هذه الممارسات السلبية ، وخلصوا إلى أن هذا المنهج يشكل خطراً على الوحدة الوطنية والأمن الوطني ، ولا يستفيد منه إلا أعداء الوطن والأمة ، وعهد إلى المجتمعون بكتابة مذكرة موجهة إلى الملك ، كما كلفت بتدبر أمر إيصالها ، وبعد إعداد المذكرة ، اتصلت بالديوان الملكي ، معلماً أحد المسئولين بأن مذكرة نريد إيصالها ، فسألني من سيسلمها فقلت : إذا كان اللقاء مع الملك فإن نواب المعارضة مجتمعين سيسلمونها ، وإذا كان مع رئيس الديوان ، فإن أحدنا سيقوم بتسليمها. وإذا كانت ستسلم لمسئول آخر ، فإننا سنرسلها مع أحد الموظفين. وتم الاتفاق على إرسالها مع أحد الموظفين ، وغادرت مكتب النواب إلى لقاء في المركز العام ، فأخبرني سكرتير مكتب النواب ، إن الملك يرغب في أن أكلمه ، وأعطاني هاتفه الخاص ، ولدي الاتصال وبعد تبادل التحية ، قال : « لقد قرأت المذكرة ، وأنا مع الروح التي تضمنتها وسيتم تصويب الأمر ، وسنلتقي قريباً إن شاء الله » ولم يمض يوم أو يومان حتى كان رئيس الوزراء السيد عبد الكريم الكباريتي يزور بعض الأندية في المخيمات ، ويجري مع إدارتها لقاءات ، ويقدم لها بعض الدعم المادي الضروري.

إن كثيراً من جوانب الخلل التي تشكل عوامل نخر في المجتمع ، ما كان لها أن تترسخ لولا سلبية الكثيرين وافتقارهم إلى عنصر المبادرة. فهل ندرك جميعاً مقالة المصطفى صلى الله عليه وسلم « أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ».

- على أثر انتخابات اتحاد الطلبة في جامعة اليرموك عام 96 وفوز الكتلة الإسلامية بأغلبية بسيطة ، وصل فاكس من الطلبة إلى مجلس النواب ، يطلب منا إثارة موضوع اعتقال طالبين من الطلبة الإسلاميين المنتخبين ، لحرمانهم من فرصة الفوز في الهيئة الإدارية. ولدى عودتي إلى المكتب وجدت رسالة تفيد أن تم اعتقال أربعة طلاب ، فتساوى عدد الناجحين من الكتلتين. وفي المساء رفعت سماعة الهاتف ، واتصلت بالسيد رئيس الوزراء ، وقلت له : هل تريدون أن تخربوا جامعة اليرموك؟ فقال : ماذا تقول؟ فقلت : لمصلحة من يتم اعتقال الطلبة؟ وهل أصبح الإسلاميون خارجين على القانون حتى يتعامل معهم بهذه الطريقة؟ وما الذي يضيركم إذا نجح الطلاب الإسلاميون المعروفون بالتزامهم ، وحرصهم على وطنهم؟ فقال : أمهلني عشر دقائق وهاتفني بعدها ، وأخبرني أن هؤلاء الطلبة لم يعتقلوا من قبل المخابرات ولكن من قبل الأمن العسكري. فقلت له : أنهم طلاب وليسوا عسكريين ، فقال : الآن سيتم الإفراج عنهم. إن هنالك إجراءات يمارسها بعض المسئولين لأسباب شخصية أو فئوية ، أو لأسباب وهمية ، تخلف آثاراً في النفس والمجتمع ، ما كان لها أن توجد أو تستمر .

- على أثر الأحداث المؤسفة بين فريقين من طلبة الجامعة الأردنية ، التي اتخذت بعداً عرقياً مؤسفاً ، يصب في خدمة المتربصين بهذا الوطن ، إلى جانب النزعات الطائفية والإقليمية والجهوية ، التي يغذيها بعض أصحاب الأهواء والمصالح ، اتفقت وبعض إخواني على القيام بدور مسئول يسهم في وأد الفتنة ، وإطفاء نارها فتوجه بعضهم إلى الجامعة الأردنية ، للحصول على مزيد من المعلومات ، وتقديم النصيحة الواجبة ، بينما توجه بعضنا إلى السلطنة وعمان ، ضمن وفد كبير من الأعيان والنواب والوجهاء ، وفي اجتماع حاشد في نادي الجيل الجديد ، ألقيت بعض الكلمات من قبل الجاهة والمستقبلين ، تهدف إلى تطويق الفتنة ، وإحلال الوئام ، ولم تكن لي كلمة مقررة ، ولكني رأيت الصوت الإسلامي غائباً على أهميته ، ولا سيما في مثل هذا الموقف ، فاستأذنت بإلقاء كلمة ، ارتجلتها ، اجتهدت من خلالها أن أعمل على وأد الفتنة فقلت : « نحن أسرة واحدة ، جمعنا الله على الإخوة فيه ، فإذا فاتكم أيها الأخوة من أبناء الشركس والشيشان رباط الدم بالعرب ، فحسبكم رباط العقيدة المقدم على كل الروابط « إنما المؤمنون إخوة » « سلمان منا آل البيت » ، إلا يرضيكم أن تكونوا من آل محمد حين تحيون المعاني التي عاش لها محمد صلى الله عليه وسلم؟ ثم من قال : إنكم لستم عربا ، أن تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب ليس تعريفاً عرقياً ، كما يفهمه بعض الناس ، فهو القائل : « إنما العربية اللسان » فحين يكون القرآن لغتكم ، والكعبة قبلتكم ، لا يتقدم في العروبة عليكم إلا من أبلى في ذلك أكثر من بلائكم. ووقعت الكلمات بردا وسلاماً على قلوبهم شيئاً وشبانا ، ووجدت أثرها في النفوس في ذلك اللقاء وبعده ، فكم من كلمة اطفأت ناراً عظيمة.

والحديث عن المبادرات يطول ، ونتائجها مباركة ، فلا يزهدن أحد بها ، ولا يضيعن فرصة ، يمكن أن يكون خلالها رائد خير.

الدرس التاسع : نظام قيمي جديد مؤذن بفجر إسلامي سعيد

لكل مجتمع قيمة ومقاييسه ، في الحكم على الأشخاص والأشياء والأحداث. ونظام القيم في المجتمع يستند إلى تربيته وثقافته ، ونظراً لفترة الجهل أو التجهيل التي مرت بها الأمة ، فقد شاعت لديها قيم غريبة. ارتد بعضها إلى قيم الجاهلية ، عبرت عن كثير منها الأمثال الشعبية « أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب » وهي صياغة جديدة للمبدأ الجاهلي « انصر أخاك ظالماً أو مظلوما ». ومنها « حط رأسك بين الروس وناد يا قطاع الروس » وهو ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا يكن أحدكم إمعة » ومنها « للي معه قرش يساوي قرش ، واللي معه ألف يساوي ألف » وهي قيمة مادية غريبة ، تستند إلى النظام الرأسمالي. فجاءت هذه الدعوة لتبعث القيم الإسلامية من جديد ، فإذا الرابطة رابطة العقيدة « إنما المؤمنون أخوة » وإذا القيمة العليا في التفاضل بين الناس هي قيمة الإيمان والتقوى والعمل الصالح « إن أكرمكم عند الله أتقاكم » وإذا التفاؤل والثقة بوعد الله عز وجل يحلان محل اليأس والسلبية.

وفي ظل هذا النظام القيمي الجديد أصبحت مؤهلات التقدم في الدعوة الإيمان والوعي والعمل ، وليس الجاه والحسب والنسب والثروة. وهذا ما عبر عنه الإمام الشهيد المؤسس ، بقوله : وهو يتحدث عن خصائص دعوة الإخوان المسلمين : « البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان » فأصبحت النماذج التي يتغنى بها شباب الإخوان في جلساتهم ، وخلواتهم وكتاباتهم ، الشهداء ورواد الدعوة الإسلامية ، وأصحاب المواقف المتميزة في مواجهة الطغيان. ولعل هذا النظام هيأ لهم القدرة على عدم الانبهار بالباطل وأهله ، بل شجعهم على الوقوف في مواجهته. وإذا كانت هنالك ممارسات تقوم على تقديم القيم الأجنبية على حساب القيم السماوية ، فلنلعم أنها ليست من طبيعة دعوة الإخوان ، ولا تمثل قاعدة وإنما استثناء ينبغي التصدي له ، والوقوف في وجهه ، فمقياس التفاضل التقوى ، ومؤهلات التقدم « القوي الأمين » وأود هنا أن أشير إلى ثلاث وقائع ، أولاها استشهاد الدكتور عبد الله عزام ، وثانيتها رحيل المهندس أحمد الأزايدة. وثالثتها بطولة محمد أبو سيف.

- الشيهد عبد الله عزام شأنه شأن الكثيرين من أبناء هذه الدعوة المباركة ، من حيث وضعه الوظيفي والاجتماعي ، ولكنه امتاز على الكثيرين ، والكثيرين جداً ، بإيمان متدفق ، وجهاد مبرور ، جعلاه نموذجاً يحتذى ، وأهزوجة على الشفاه ، نرددها في الأعراس والرحلات والخلوات ، إلى جانب البنا والقسام فما أخال بقعة فيها مؤمن يقر لله بالوحدانية ، إلا ويذكر عبد الله عزام بالخير ، ويدعو له بالخير. فقد نجد إنساناً محل احترام فئة ما ، في بقعة ما ، في فترة ما. أما أن نجد من يحظى بالأكبار والإجلال ، على امتداد الساحة ، ورغم مرور السنوات ، ومن مختلف القطاعات ، فذلك أمر بعيد المنال ، ولا تحظى به إلا فئة محدودة أحسبها واقعة ضمن قول الله عز وجل وهو يتحدث عن السابقين السابقين فيقول : « ثلة من الأولين وقليل من الآخرين » وأحسب أن أبا محمد من هذا القليل. وقد شاء الله عز وجل أن أشهد مناسبة العزاء باستشهاده فرأيت كيف تدافعت الجموع إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين ، وكيف ألهم الخطباء أروع الكلام ، وكيف تسابق الرسميون والشعبيون على نسبته إليهم. فكم من زعيم طويت صفحته بعد مماته ، وقد كانت وسائل الإعلام تملأ الدنيا ضجيجاً وهي تحاول أن تصنع له مجدا! وكم من ثري نافس قارون في الثراء غداً نسيا منسيا بعد أن زالت المصلحة! وبقي الشهداء لحناً عذبا يشنف الأذان على مر الزمان.