نظرة إلى التراث

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

نظرة إلى التراث

أسباب انحطاط وتخلف العالم الإسلامي

يؤكد حسن البنا في منحى التفكير حول كيفية إيجاد الحركة الإسلامية الشاملة على ضرورة إجراء الدراسات والبحوث حول أسباب انحطاط العالم الإسلامي ؛ كي تتضح في رحاب هذه الدراسات الآفات والأخطاء الماضية لتفاديها . ويتم بذلك تبيين تجربة انحطاط وتخلف العالم الإسلامي والعمل نحو تنمية الحركة الإسلامية , وذلك من أجل عدم تكرار التجارب المرة للانحطاط والانهيار للعالم الإسلامي .

ويبحث البنا التخلف الموجود في العالة الإسلامي , ويرى أن للعوامل التالية دورا فاعلا في تخلف الدولة الإسلامية والتوقف في مواصلة حضارتها :

1-الخلافات السياسية والعنصرية والنزاع حول المناصب والسلطة : لقد تعرضت الدول الإسلامية خلال القرون الماضية إلى الخلافات السياسية والقومية متيحة بذلك مجالات التفرقة والتشتت بين أبناء الأمة الإسلامية .

2-الخلافات الطائفية والمذهبية : تعمل الخلافات المذهبية بين الطوائف والمذاهب الإسلامية على زعزعة وحدة الأمة الإسلامية , وتتيح انهيار قواعد الاتحاد الإسلامي .

3-التوجه نحو الدنيا والانغماس في الملذات الدنيوية : كان حسن البنا يرى أن أهم عوامل تخلف العالم الإسلامي " التوجه نحو الدنيا " من جانب المسلمين , وابتعادهم عن الإيمان بالآخرة , وتركهم للتعاليم الإسلامية في تنظيم حياتهم في هذه الدنيا .

وكان السبب الرئيس لضعف المسلمين , كما يرى البنا " حب الدنيا وخشيتهم من الموت " , وقد نسوا بذلك الحياة الأخروية , وطلب الشهادة والمجاهدة في سبيل الله .

وكان حسن البنا أن الانغماس في الملذات العابرة الدنيوية يزيد عوامل ضعف الأفراد والدول .

4-الابتعاد عن الركب الحضاري الإنساني , وعن اكتساب المهارات والفنون والعلوم الحديثة : في أعقاب انغلاق دور العلم والفضيلة بقى العالم الإسلامي متخلفا من الناحية الفكرية والحضارية , وبعد انغماس مفكري العالم الإسلامي في العلوم الإسلامي في العلوم والفلسفات العقيمة وغير المجدية للآخرين عرض ذلك الأوضاع العلمية والفكرية للعالم الإسلامي إلى أزمة داخلية , وقد نسى المسلمون الأحاديث النبوية الشريفة من أمثال : " اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد " , و"اطلبوا العلم ولو كان في الصين ", وتخلفوا بذلك عن ركب الحضارة والعلم , وكان تغلب الجهل عليهم سببا أساسيا في انحطاط الأمة الإسلامية .

5-غرور الحكام المسلمين وعدم اهتمامهم بشئون المسلمين : لقد اغتر المسئولون المسلمون باقتدارهم وهيمنتهم الظاهرية ناسين بذلك اهتمامهم بشئون المسلمين , ومن جانب آخر يرى حسن البنا أن ترك المسئوليات والالتزامات والواجبات الخطيرة لقيادة الأمة الإسلامية هو من العوامل الأساسية لفشل هذه الأمة وضعفها .

6-الانتهاج الأعمى للأقوياء والناهجين لمنطق القوة : لقد ارتاح اندحار المسلمين أمام القوى الاستعمارية والغربية المجال للانتهاج الأعمى للبلاد الإسلامية لأهداف وأفكار هذه القوى, وبات التقليد للثقافة الغربية دون التفكير في نتائجها والدراسة لها بشكل مصدرا لانحطاط الأمة الإسلامية .

طريقة حسن البنا في تشكيل الحركة الإسلامية

كان حضور زعيم حركة الإخوان المسلمين , ومؤسس هذه الحركة في الساحة السياسية , وفي المجتمع المصري قد مكنه من التعرف على التيارات السياسية والثقافية السائدة في المجتمع , وبات يعي مطالب مختلف فئات الشعب المصري , ومن خلال إفادته من خبرات السلف الصالح والزعماء القدامى للتيارات الإسلامية , اتخذ طريقة خاصة وشعبية في منحى الدعوة الإسلامية وإقامة الحركة الإسلامية من شأنها أن تكون منسجمة تماما مع الظروف والمقتضيات الزمنية , ومن خلال رؤيته الإسلامية العقيمة ودراساته التاريخية وبحوثه الفكرية , مع وعيه لأساليب المصلحين والسلف الصالح توصل إلى النتائج التالية :

1- اختار الإسلام موقفا مرنا حيال الأساليب الإصلاحية والثورية .

2- ينبغي أن تكون كافة الوسائل والسبل الإصلاحية في خدمة الحياة الجديدة ومشروع التغيير الثوري في المجتمع .

-الدعوة للعدالة والحرية والبحث عن المساواة لا ينبغي أن تكون بديلا للشرعية الإلهية , أو يحل محلها .

-الديمقراطية يجب أن لا تكون بديلا عن نظام الشورى الإسلامي .

-الحكومة الأممية ذات التوجه الإنساني والمجتمع المدني الغربي لا ينبغي أن يكونا بديلين عن الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي .

أما طبيعة حسن البنا وهويته الواضحة تتبلور في عدة مراحل يمكن اعتبارها كالتالي :

1-مرحلة التبليغ والدعوة : يتم في هذه المرحلة إعلام المجتمع بأفكار ومعارف الدين الإسلامي .

2-مرحلة التشكيل : في هذه المرحلة يتم انتخاب زملاء وأنصار الحركة الإسلامية , وتنظيمهم ليتم بذلك تقوية عملية الإعلام الإسلامي ؛ ليتيحوا المجال لظهور الحكومة الإسلامية في الساحة السياسية في المجتمع .

3-مرحلة إيجاد الدولة الإسلامية : في هذه المرحلة تتم إقامة النظام السياسي الإسلامي في المجتمع , ويصبح تنفيذ الأحكام والشريعة الإلهية شيئا عمليا .

4-مرحلة إحياء الخلافة الإسلامية : الحكومة الإسلامية الشاملة وبرامج مراحل الحركة .

يرى حسن البنا أن أية واحدة من المراحل الأربع المذكورة أعلاه لها برامجها وأهدافها وأولوياتها وأدواتها وتكون مؤشراتها على النحو التالي :

أ –مرحلة التبليغ والدعوة الإسلامية :

أهداف وأولويات هذه المرحلة من وجهة نظر حسن البنا تكون على النحو التالي :

-تربية وتعليم الأمة الإسلامية .

-إيقاظ الأمة الإسلامية وتوعيتها .

-تغيير الأعراف والأنظمة غير الإسلامية السائدة في مجتمع المسلمين .

-تهذيب النفس وأخلاقها في المجتمع الإسلامي .

-نشر وترويج مبادئ الحق وأصوله والفضيلة الإسلامية .

آليات وأدوات هذه المرحلة :

-تشكيل صفوف ومحافل ومجالس دينية وبيان الحقائق لتنمية الطلاب والتوعية الإسلامية الشاملة للمسلمين .

-اختيار وانتخاب العناصر الناشطة والصالحة والمسئولة لتولي المسئوليات والواجبات الشرعية في خدمة الإسلام وأركانه وتشكيلها في الأطر والنماذج التنظيمية وتوجيه إجراءات وعمليات التوعية للأمة الإسلامية بمسئوليتها في المرحلة الأولى للحركة الإسلامية .

-تنظيم الخدمات الاجتماعية والعامة المنفعة لرخاء الشعب وإزالة المشاكل المادية المعنوية من المجتمع الإسلامي .

ب – مرحلة الدعوة وانتخاب الصفوة :

أولويات وأهداف هذه المرحلة :

الهدف الأساسي لهذه المرحلة هو إرساء علاقات مع الشخصيات البارزة والصفوة في المجتمع في الفئات والأطياف ومختلف التيارات السياسية والاجتماعية في المجتمع , وقد جرب حسن البنا عمليا هذه المرحلة واستطاع إرساء علاقات وثيقة وقوية ومؤثرة مع الشخصيات البارزة والصفوة في المجتمع المصري مكتسبا عبر هذا السبيل الكثير من النجاحات في منحى خدمة الأهداف الإسلامية السامية والحركة الإسلامية .

ويرى حسن البنا أن أهم الآليات لتفعيل هذه المرحلة تتمثل في الحضور الفاعل في الساحة السياسية والمجتمع الإسلامي , وإيجاد علاقات سياسية وإنسانية ودينية مع الصفوة والشخصيات المهمة في المجتمع ؛ كي لا تكون لهم ميول معارضة وعدائية للإسلام .

ج – مرحلة تشكيل الدولة الإسلامية :

يرى حسن البنا أنه بعد النجاح في مرحلة التبليغ والإعلام ومرحلة تكوين المجتمع الإسلامي , تحل مرحلة إيجاد ( الأمة الإسلامية ) , ومن جملة الأهداف والأولويات لهذه المرحلة التي توقعها البنا هي عبارة عن :

-تحرير البلدان الإسلامية من هيمنة الأجانب غير المسلمين .

فهذا التحرر والاستقلال ينبغي أن يكون في الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية .

-إصلاح هيكلية الحكومة الموجودة ومختلف مؤسساتها لبلوغ مرحلة الدولة الإسلامية المرجوة , وطبيعي أن

يكون لأسلوب الإصلاح مراحل مختلفة منها : بدء الإصلاح بالنصيحة والإرشاد لأركان الحكومة الموجودة , ولكن في حالة عدم إمكانية استجابة الحكومة ينبغي استخدام الكفاح السياسي , وأخيرا القوة وإزاحتها عن السلطة .

د- مرحلة عودة الخلافة الإسلامية :

إن غاية حسن البنا وهدفه النهائي هو رسم الإطار النظري لهذه المرحلة على النحو التالي :

تتحرك الدول الإسلامية من خلال تشكيلها للاتحادات والائتلافات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية , وستتحرك خطوة فخطوة , ومرحلة بعد مرحلة نحو الاندماج ولانسجام تحت العلم الموحد للخلافة الإسلامية , وسينتخب المسلمون بعد تشكيل " حكومتهم الإسلامية الموحدة " زعيمهم أو خليفتهم من بين الأفراد الصالحين والملتزمين والواعين للشريعة الإسلامية والملتزمين بالأحكام القرآنية والسيرة النبوية الشريفة دون الأخذ في الاعتبار الانتماءات في جنسياتهم أو أوطانهم .

طريقة البنا في التعامل مع الحكومات الموجودة

يطرح الشيخ حسن البنا للتعامل مع الحكومات الموجودة , والذي يشكل جزءا من الإجراءات والأهداف الاستراتيجية للمرحلة الثانية للنهضة الإسلامية مبادئ وقواعد , ويقول في هذا الجانب :

-إننا لا نريد السلطة والحكومة " لأنفسنا " وسنختار من سيكون مستعدا لتولي أمرها , وهو ملتزم بالأحكام والشريعة الإسلامية , وفي لها , وفي مثل هذه الظروف سنكون جميعا جنوده ونصيرين له , ولكن في حالة عدم عثورنا على الشخص الذي يتولى قيادة الدولة الإسلامية , فإننا سنتولى تشكيل الحكومة الإسلامية , وإننا سوف لا نألوا عن أي جهد في سبيل بلوغ ذلك , والوصول إليه .

إننا سنقترح مشاريعنا لإصلاح شئون المسلمين الحكومية , وسنجري حوارا مع الحكومة بنفس الأدبيات واللغة التي تستخدمها , ومن الطبيعي أنه سيكون من اللازم الاتصال مع الحكومة والحوار معها لطرح مقترحاتنا , إننا نعلم أن الذين تربوا في أحضان الاستعمار سوف لا يصغون إلى رغباتنا ومطالبنا نحو إصلاح الأمور وتشكيل الدولة الإسلامية , كما أننا لا نتوقع أن يهتموا بمطالبنا المشروعة , لكننا سنواصل نصائحنا ومواعظنا وحوارنا مع هذه الحكومات كي نتمم الحجة معها , ونعمل بالواجب الشرعي الملقى على عاتقنا .

ولكن من الممكن أن تتصرف الحكومة معنا بالعنف , فعندها ينبغي علينا أن نبدي الحلم والمرونة كي يتم بذلك احتواء غضب السلطة الحاكمة , وسنعود ثانية إلى مسرح الكفاح والمقاومة .

طريقة حسن البنا للتغيير والتحول وتصعيده

أ – الكفاح البرلماني : لقد جرب حسن البنا والإخوان المسلمون هذا الشيء : كان الإخوان المسلمون , في زمن مرشدهم الأول حسن البنا , قد شاركوا في ساحة التنافس في الانتخابات , وتنافسوا مع الأحزاب السياسية في عهد الملك فاروق , وبعد استشهاد حسن البنا , وبعد الإفراج عن الإخوان المسلمين من سجون عبد الناصر كان للإخوان حضور ناشط في الانتخابات البرلمانية المصرية إبان حكم أنور السادات وحسني مبارك , ورغم القيود ومختلف الضغوط الموجهة إليهم من جانب الأجهزة الأمنية والبوليسية للأنظمة الحاكمة , فقد حققوا انتصارات مدهشة .

ب – الوصول إلى السلطة عبر الانقلاب : كان الانقلاب يشكل أعنف سبيل للسيطرة على السلطة وبلوغ الحكم , غير أنه لم يلاحظ في تاريخ هذه الحركة أي أثر من القيام بهذا الشيء , ولم يؤيد الإخوان المسلمون هذه الطريقة أو استغلالها لتسلم مقاليد الحكم أبدا .

ج – الإفادة من القوة لإزاحة الحكومة : من الطبيعي أن حسن البنا لم يلغ موضوع استخدام القوة لإزاحة الحكومة غير الشرعية , لكنه اعتبر استخدام القوة والعنف لبلوغ الحكم والسلطة في البلاد الإسلامية آخر وسيلة وطريقة .

الخلاصة : تكون وجهة نظر حسن البنا حول نظرية التحول والتغيير الاجتماعي والسياسي لبلوغ تشكيل الدولة الإسلامية على الوجه التالي :

1-الإسلام يستخدم كافة السبل في كافة المجالات والجوانب لتغيير المجتمع .

2-من الممكن استخدام الطريقة الإصلاحية في بعض الظروف اعتمادا على متطلبات الأوضاع والمقتضيات الزمنية .

3-كان حسن البنا لا يؤمن بالطريقة الثورية وأسلوب العنف لبلوغ أهداف تغيير المجتمع العلماني المصري إلى مجتمع إسلامي , وكان يوصي دائما بانتهاج الأسلوب المرحلي والإصلاحي .

4-كانت طريقة استخدام القوة والعنف لإيجاد التحول في ظروف المجتمع المصري – حسب وجهة نظر حسن البنا – تابعة لظروف وضوابط محددة وصعبة , وحتى وفي هذه المرحلة لم سمح أبدا باستخدام الإرهاب والاغتيال والتخريب والتفجير , للوصول إلى السلطة رغم مزاعم أعدائه في هذا الجانب .

5-لقد أجاز حسن البنا التنافس في الانتخابات البرلمانية في حالة وجود إمكانية العمل للوصول إلى السلطة .

مكانة المرأة في الفكر النهضوي السياسي عند حسن البنا

احتل الاهتمام بشئون المرأة ورفع مكانتها ومنزلتها موقعا متميزا في المشروع النهضوي لحسن البنا , وكان البنا طليعيا ورائدا في مشروع الاهتمام الخاص بشئون المرأة المسلمة , وفي الواقع كانت الاستجابة الملتزمة لهذا تشكل ضرورة تاريخية .

في أوائل العقد الأول من القرن العشرين كانت مصر ساحة لفعاليات نواة حركة تحرير المرأة العربية , والتي ظهرت هذه النواة بدعم شامل من جانب الاستعمار البريطاني تحت ستار الحركات التنويرية والتوجه الغربي , وكانت المرأة المصرية في تلك الظروف كباقي النساء في البلدان الإسلامية والعربية تعيش في الجهل المطلق والتخلف أمرا رياديا واستجابة للمتطلبات الاجتماعية والسياسية المصرية آنذاك , وقد خطى البنا بتأسيسه تنظيم " الأخوات المسلمات " خطوة مهمة نحو نهضة رفع المستوى الفكري والثقافي ؛ من خلال تأسيسه وإيجاده للمراكز التعليمية والخيرية , وقد أتاح ذلك المجالات المناسبة نحو تحول مجتمع المرأة المصرية .

لقد شكل تأسيس منظمة خاصة للنساء باسم " الأخوات المسلمات " مبادرة مهمة في تاريخ فعاليات حسن البنا والإخوان المسلمين ؛ لأن هذه التشكيلات طرحت بعد ذلك باعتبارها المثل والريادة لحركة المرأة في العالم العربي والإسلامي , ومكافحة الأمية , والحركة التوعوية للمرأة المسلمة , والاهتمام بتربية الأطفال والناشئين , كانت تشكل جميعا جانبا من التعاليم التربوية , والإجراءات العملية لحسن البنا ؛ لإيجاد التحول في مجتمع المرأة المصرية .

يرى حسن البنا بأن رفع المستوى المعرفي والإنساني للمرأة المسلمة يشكل جانبا من عمليات التحول والتغيير في المجتمع الإسلامي , وسيساعد على عملية تشكيل المجتمع الإسلامي والحكومة الإسلامية .

كان حسن البنا يؤمن بعدم إمكانية نجاح وفوز الحركة الإسلامية في المجتمع المصري دون رفع مستوى ومكانة المرأة التي تشكل نصف المجتمع .

حركة تقريب المذاهب الإسلامية

كان اهتمام الشيخ حسن البنا , وباقي قادة حركة الإخوان المسلمين بحركة التقريب بين المذاهب الإسلامية , يشكل أحد الدوافع والعوامل لمهاجمته , ومهاجمة أفكاره , وجماعة الإخوان المسلمين غير المنصفة من جانب السلفيين ! مع مختلف أطيافهم , ففي أدبيات السلفيين الجدد ؛ تعتبر علاقات الإخوان المسلمين وقادتها مع ما يدعى بمعارضي السنة والشيعة منهم خاصة ,أمرا مرفوضا , ويعتبرون ذلك أحد الأدلة في وجود الانحراف , والبدع , في هذه الجماعة.

وقد تجلى عمق الخلاف بين الإخوان المسلمين والتيارات الزاعمة للسلفية في الأحداث الأخيرة أبان الهجوم الوحشي للصهاينة على لبنان وحزب الله والمقاومة الإسلامية , وقد بلغ ذلك الحد الذي جعل – للأسف – بعض العلماء السلفيين يعتبرون الدعاء لنصرة المقاومة الإسلامية اللبنانية – بسبب الحضور الملحوظ وغير المنافس لحزب الله اللبناني في هذه الجبهة – أمرا محرما ومرفوضا ؟! غير أن الإخوان المسلمين وزعماءهم – وخاصة في مصر – أبدوا دعما واسعا للمقاومة الإسلامية في لبنان , واعتبروا فتاوى العلماء السعوديين أمرا مرفوضا ومصدرا لإثارة الفتنة والفساد .

كان حسن البنا يرى بأن حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية تشكل جانبا من دائرة حركة الوحدة الإسلامية , وهي في خدمة الأهداف السامية للحركة الإسلامية , وكان حسن البنا باعتباره مفكرا من أهل السنة ومؤسسا ومرشدا للإخوان المسلمين , قد أرسى منذ القدم علاقاته مع علماء الشيعة وحوزا تهم العلمية , خطى خطوات نحو تقوية حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية كما خطى أخلافه من زعماء وقادة الإخوان المسلمين اقتداء به خطوات إيجابية نحو هذا الجانب , وكان حسن البنا يرى بأن الاختلافات الفقهية لا ينبغي أن تكون سببا في التفرقة بين المذاهب الإسلامية , إذ إن من شأن تشديد الخلافات أنها تشكل مصدرا لضعف الأمة الإسلامية , وتمهد لتشتت وتفرق المجتمع الإسلامي .

وقد اعترف حسن البنا بالمذهب الإمامي الشيعي , نظرا للحقائق والدور القيم للشيعة في اعتلاء الإسلام والحضارة الإسلامية , واقتدى بذلك بكبار علماء جامع الأزهر – كالمرحوم الشيخ محمود شلتوت قبل إصدار فتواه الشهيرة – في الاعتراف بالمذهب الشيعي الجعفري باعتباره المذهب الخامس للمسلمين , وقد أرسى البنا علاقات طيبة مع علماء الشيعة , وكان يعتبر من جملة الطلائع في حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية , وكان البنا ضمن المؤسسين الأوائل " لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية " في القاهرة إلى جانب العلامة الشيخ محمد تقي القمى .

تجدر هنا الإشارة إلى ثلاث نقاط وذكريات تاريخية بشأن الدور التقريبي للمرحوم حسن البنا :

كان آية الله السيد رضا الصدر من العلماء المعروفين في الحوزة العلمية في قم ( نجل المرحوم آية الله السيد صدر الدين الصدر , والأخ الكبير للإمام موسى الصدر ) , حيث كان يقدم دروسا في الأخلاق لطلابه في ليالي الخميس في بيته ( وقد طبعت كلماته في تلك الليالي في عدد من المجلات ) , في عام 1375 ه , أي حوالي قبل نصف قرن – في الليلة التي كنت حاضرا , تحدث السيد الصدر حول أسرار الحج وآثاره الاجتماعية , ودوره في إيجاد الوحدة الإسلامية بين طوائف المسلمين , فقال : أثر التبليغ والإعلام السيئ من جانب السلفيين الوهابيين , فاحتج بعض المصريين في أحد المراسم التي أقيمت في موسم الحج – التي كان قد حضرها حسن البنا – من منطلق عدم معرفتهم لحقيقة التشيع , على الشيعة المشاركين في الحج , وعندما عرف المرحوم حسن البنا بالأمر , حضر في مركز تجمع الحجاج المصريين , وألقى كلمة تنويرية محذرا فيها من مغبة هذا الشيء , وقال : لا يحق لأي فرد أن يهاجم المسلمين الآخرين , وأضاف بعد ذلك في كلمته قائلا : إن الفرق الموجود بين بعض أهل السنة مع الشيعة هو أن الشيعة يحبون أهل بيت الرسول أكثر من غيرهم , وهذا الشيء أداء لهم للدين , فينبغي أن يشكل هؤلاء القدوة لنا نحن المصريين الذين لنا ولاء لأهل البيت .

ثم أضاف آية الله الصدر قائلا : لقد لعبت هذه الكلمة للشيخ حسن البنا دورا أساسيا في تغيير التعامل مع الشيعة .

وكان المرحوم الشيخ مصطفى مشهور _ المرشد السابق للإخوان المسلمين – قد كتب لي رسالة – بخطه – كتب فيها حول هذا الموضوع قائلا : " لقد دعت حركة الإخوان المسلمين ومنذ تأسيسها من جانب مرشده الكبير الإمام حسن البنا الجميع إلى غض النظر عن الخلافات المذهبية والاتجاهات الدينية دعوة إلى الوحدة بين جميع المسلمين , ويشكل هذا الشيء في الواقع أمرا إلهيا , حيث يأمرنا الله ( عز وجل ) في كتابه : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " وكان الشهيد حسن البنا يولي اهتماما بالغا بهذا الموضوع في أقواله وأعماله ".

الخاطرة الثالثة كان يرويها المرحوم العلامة الشيخ محمد تقي القمي – مؤسس " دار التقريب بين المذاهب الإسلامية " في جانب مصر : فكان يقول : بعد مقتل " أبي طالب اليزدي " في الحجاز من جانب السعوديين , توقفت زيارة الإيرانيين للحج عدة أعوام , وبعد بزل المزيد من الجهود لإزالة الشبهات , قامت دار التقريب بطباعة كتيب مناسك الحج اعتمادا على المذاهب الأربعة لأهل السنة ومذهب الشيعة الإمامية ليتضح وجود الإجماع الكلي بين المذاهب الإسلامية في مسائل الحج كذلك , لكن المؤسف هو أن المسئولين السعوديين منعوا نقل هذا الكتاب إلى الحجاز , وعندما طرح هذا الموضوع على الشيخ حسن البنا , والذي كان من مؤسسي دار التقريب , طرح حلا ملفتا للنظر لنقل مناسك الحج " للمذاهب الخمسة" , وهو طبع كافة مسائل الحج وفق آراء فقهاء المذاهب الإسلامية , في الصحيفة الرسمية الناطقة باسم الإخوان المسلمين , ثم بعث الصحف بواسطة الحجاج المصريين إلى الحجاز , وتم توزيعها على الحجاج , وترك ذلك أثرا بالغا في إيجاد الوحدة بين المسلمين .

والنقطة الأخرى في هذا الجانب هي لقاء الشيخ حسن البنا مع آية الله كاشاني في زيارة الحج هذه , وبعد إجرائهما الحوار , قررا عقد مؤتمر إسلامي في طهران تشارك فيه شخصيات من العالم الإسلامي , كي تتم فيه تقوية العلاقات الودية بين المسلمين أكثر فأكثر , لكن الشيء المؤسف هو عندما يتابع آية الله كاشاني هذا الموضوع في طهران قوبل بمخالفة الحكومة القومية الإيرانية آنذاك , وقد منع بحجة عدم وجود ( الميزانية اللازمة لانعقاد المؤتمر ) ! والأدهش من ذلك هو أن حسن البنا بعد عودته إلى مصر , وبعد فترة وجيزة قد اغتيل من جانب مرتزقة حكومة الملك فاروق , وطبقا لما كتبه المؤرخون المصريون , أن الوثائق الموجودة تشير إلى أن أحد أسباب ذلك الاغتيال , يعود إضافة إلى موقفه من القضية الفلسطينية , إلى هذا اللقاء وقرار العالم الشيعي وعلماء أهل السنة العمل نحو " الوحدة " .

القضية الفلسطينية في فكر حسن البنا وعمله

لقد كانت فلسطين وقضاياها دائما من القضايا المحورية في الفكر السياسي والنضالي لحسن البنا والإخوان المسلمين , وكان الكفاح ضد بريطانيا والصهاينة في فكر المرشد للإخوان المسلمين يشكل جانبا مهما من الكفاح لبلوغ تشكيل الدولة الإسلامية ووحدة الأمة الإسلامية , وكما أشرنا سابقا فيما يتعلق بالحرب بين الصهاينة والعرب وفي فلسطين وحادث تقسيم فلسطين ,وتأسيس الكيان الإسرائيلي الغاصب في عام 1948 م , وضع حسن البنا باعتباره المجاهد المقاوم وزعيم الإخوان المسلمين كافة الإمكانات والطاقات الموجودة لمنظمته في خدمة تحرير فلسطين , ولم يألوا عن أي جهد نحو تعبئة المسلمين والمجاهدين العرب في هذا الجانب , وأخيرا ضحى بنفسه في هذا السبيل المقدس .

وكان نضال الإخوان المسلمين وقيادتهم ضد الاستعمار البريطاني وحضور الإخوان المسلمين في جبهات الحرب للفلسطينيين ضد الصهاينة في عام 1948 م كان سببا أساسيا في إصدار الأمر بحل جماعة الإخوان المسلمين , واغتيال حسن البنا من جانب الحكومة المصرية العملية , وكما تشير الملفات الموجودة والكتب والوثائق المنشورة وبموافقة من البلاط الملكي المصري الفاسد آنذاك .

وسلام الله عليه حيث مات شهيدا لمشروع الوحدة الإسلامية , والقضية الفلسطينية التي تشكل أقدس قضية للأمة الإسلامية

حسن البنا وأبو الأعلى المودودي

بمناسبة إقامة مراسم الذكرى السنوي لمولد حسن البنا في باكستان من جانب " الجماعة الإسلامية " , وقد أعددنا هذا المقال بتلك المناسبة – تجدر الإشارة هنا إلى مؤسس حركة الجماعة الإسلامية مولانا السيد أبو الأعلى المودودي , إذ كان البنا والمودودي يشكلان نموذجين نادرين من القادة والدعاة الإسلاميين المعاصرين , الذين أوقفا حياتهما في سبيل سيادة الإسلام والجهاد في سبيل إعلاء شأنه .

وكان بين هذين الزعيمين الإسلاميين قواسم مشتركة وكثير من التشابه , وفيما يلي نشير إلى البعض منها :

1-إبصارهما النور في أسر دينية ملتزمة , وقد أبصر المودودي النور في عام 1311 ه – 1903 م , بينما ولد البنا في عام 1314 ه – 1906 م , وذلك في أسرتين من أهل الفضيلة والعلم والتقوى , وكان لأبويهما دورا أساسيا في تكوين شخصيتهما الإسلامية , وكان والدي المودودي والبنا من أهل العرفان والسلوك والأخلاق الإسلامية , وقد ربيا ابنيهما في إطار هذه المبادئ والمعارف السامية .

2-لقد تربى كل من المودودي والبنا في أجواء عرفانية ومعنوية , وقد تعرفا منذ بدئ حياتهما على المبادئ والمفاهيم العلمية والنظرية للعرفان والأخلاق الإسلامية , وكانا ينهجان ويمارسان عمليا في حياتهما اليومية تلك المبادئ , كما التحق الاثنان بالمؤسسات التعليمية والتربوية الحديثة , ودرسا التعاليم والعلوم الحديثة مازجين بذلك تلك العلوم بفنونها من العلوم والأفكار الإسلامية , العمل الصحفي وارتباطهما الوثيق بأبناء الشعب , والمشاكل التي يعانون منها كان من القواسم المشتركة بين المودودي والبنا , مما ترك ذلك تأثيرا بالغا في بلورة الشخصية القيادية لهذين الرجلين .

3-كان الاثنان قد اشتغلا في العمل الصحفي منذ بدء مرحلة شبابهما ,وقد دخل المودودي العمل الصحفي , وهو في الخامسة عشر من عمره , وكان يكتب مقالات في صحيفة " مدينة " , وكان البنا من جانبه يكتب مقالاته في صحيفة " المنار " , وكان الاثنان من الطليعيين في تأسيس وإصدار الجرائد والصحف الإسلامية في مصر وفي باكستان .

4-حضورهما المبكر في الرابطات والجمعيات الإسلامية : التحق المودودي في أوائل عهد شبابه " بحركة إحياء الخلافة الإسلامية " , بينما جرب حسن البنا التنظيم والتشكيل بحضوره الناشط في الجمعيات الخيرية الصوفية والرابطات الأخلاقية ومكافحة الفساد والمنكر .

كان المودودي والبنا يؤمنان بالعمل الجماعي والمنظم , وقد نضجت وتبلورت هذه الأفكار فيهما في حداثتهما .

5-دورهما الريادي في تأسيس التنظيمات الإسلامية : أسس حسن البنا " جمعية الإخوان المسلمين " في عام 1928 م في قيصر , كما شكل المودودي " الجماعة الإسلامية " في باكستان عام 1941 م , وكانت أهداف وتطلعات هذين التنظيمين الإسلاميين متناسقة تماما , مناشدة للعودة إلى الإسلام الأصيل في كافة مجالات الحياة للمسلمين .

وهي من الأهداف الأولية للإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في باكستان .

6-التشابه في مراحل التنفيذ والعمل بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية : كانت بين رؤى المودودي والبنا بشأن إصلاح المجتمع والأمة الإسلامية قواسم مشتركة كثيرة , وكان الاثنان يؤمنان إيمانا راسخا بالعمل المرحلي للإصلاح , وكان البنا والمودودي يؤمنان بأن تكوين الجماعة الإلهية والربانية يشكل النواة الأولى للدعاة الإسلاميين , ويشكل مرحلة أولى من الحركة نحو إصلاح المجتمع والأمة .

كان المودودي والبنا يؤكدان على مرجعية القرآن والسنة النبوية الشريفة باعتبارهما المرشدان للأمة , وينطويان على المبادئ الأولى والحازمة , كان يرى البنا والمودودي بأن إصلاح نفوس المسلمين وتهذيبهم يشكل خطوة أولى نحو إصلاح أخلاق الأسرة وعاداتها , ومقدمة لإصلاح العالم بأسره والأمة الإسلامية , ويعني ذلك أنهما اعتبرا إصلاح الفرد المسلم يشكل النواة المركزية للبرامج الإصلاحية للأمة الإسلامية , والقاعدة التحتية لحركة العودة وسيادة الإسلام على المجتمع والدولة الإسلامية .

7-التجربة القمعية والسلوك العنيف للحكومات : عانى البنا والمودودي في مختلف المراحل النضالية في الدعوة إلى الإسلام والدولة الإسلامية ما الآلام والكثير من المصائب , وتعرضا من جانب الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي لأنواع التعامل العنيف واللاإنساني , وكانا المودودي والبنا رجلين مؤمنين صامدين نموذجين جيدين للمجاهدين . وقد تعرض المودودي مرات عدة إلى التعذيب والسجن لمدة ثلاثة أعوام في الفترة من ( 19551957 ) , ومرة صدر حكما بإعدامه عن السلطة العلمانية , كما تعرض البنا في سبيل نشر التعاليم الإسلامية إلى الملاحقة والاعتقال , وأخيرا ضحى بروحه العزيزة في سبيل الإسلام , واغتيل في عام 1949 م من جانب مرتزقة الملك فاروق , وبأمر من السفارتين البريطانية والأمريكية في القاهرة ( كما ذكرت ذلك الوثائق المشورة ) .

8-الإيمان بالإجراءات المدروسة : كان المودودي والبنا لا يؤمنان مطلقا بالاستعجال أو ممارسة الإجراءات غير المدروسة وغير المبرمجة , وكانا يوصيان أتباعهما بالصبر والمقاومة , وعدم الاستعجال , وكانا يحذران من مغبة الاستعجال والتطرف الثوري والإجراءات غير المدروسة . ويعتبران التربية الإسلامية للأفراد بأنها تشكل الأساس لمراحل الدعوة للعودة إلى الإسلام وسيادة الشريعة الإلهية .

9-عودة الخلافة : كان البنا والمودودي يعيشان إبان انهيار الدولة العثمانية وانحلال الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك , وعملا من خلال كفاحهما واحتجاجهما الشامل دفاعا عن الخلافة الإسلامية , وشارك الاثنان في هذه الحركات

كان الاثنان يؤكدان على ضرورة عودة الخلافة وسيادة الشرع الإلهي الغائب ليكونا من أهداف وتطلعات آية حركة إسلامية , وكانا يعتقدان اعتقادا راسخا بالوحدة الإسلامية باعتبارها خطوة أولى نحو عودة الخلافة الإسلامية .

أبو الأعلى المودودي وسيد قطب

في الختام ينبغي أن نشير إلى نقطة , وهي أن أفكار ونظريات المودودي تركت تأثيرات مختلفة على الحركات الإسلامية وروادها , وكانت مبادئ وأفكار المودودي تعتمد على ثلاثة أسس فكرية وعقائدية , وهي :

" السيادة الإلهية , والديمقراطية الإسلامية , والتربية الإسلامية " , فهذه القواعد الثلاث جاءت مقابل المبادئ الإدارية للحكومات المعاصرة المتمثلة " بالعرف الاجتماعي والديمقراطية والتربية على أساس الأفكار العلمانية " !

وكان بين سيد قطب والمودودي باعتبارهما منظرين إسلاميين علاقات ومشتركات فكرية وعقائدية دون أن يلتقيا معا , ويقول أصدقاء المودودي : " بأن الأستاذ المودودي كان قد قرأ كتاب " معالم في الطريق " لسيد قطب في يوم واحد , وكان قد قال بعد ذلك : كأني أنا الذي ألفت هذا الكتاب !

وكان المودودي والجماعة الإسلامية في باكستان قد أعلنا احتجاجهما حيال إعدام سيد قطب من جانب حكومة حمال عبد الناصر في مصر , وأعربا عن قلقهما وسخطهما بشكل علني في شكل حملة صحيفة ضد هذا الإجراء الإجرامي .

من جانبه كان سيد قطب قد تأثر بأفكار ونظريات المودودي , وكان قد نقل بعض المفردات والأسس النظرية لأفكاره من المبادئ الفكرية للمودودي .

وترك كتاب المصطلحات الأربعة في القرآن " الإله – الرب – العبادة – والدين " للمودودي تأثيرات مختلفة وعقيمة على الاتجاه الفكري لسيد قطب .

أهم العناصر الفكرية التي نقلها سيد قطب من المودودي هي عبارة عن :

1-السيادة : بمعنى أن الله المتعال هو السيد والحاكم المطلق على الكون والعالم , وهو وحده المشرع والباني للشريعة لهذا العالم , وتكون القوانين الأخرى التي لم تكن جانبه باطلة وغير شرعية .

2-الجاهلية وتأويلها : في الحوار العقائدي والسياسي للمودودي وسيد قطب تعني الجاهلية الانحراف عن الطريقة الإسلامية وسبيلها , والحكم بقوانين غير إلهية وتشكل محاربة الجاهلية الأساس للنهضة والحركة الإسلامية , وأن كل حكومة من الحكومات الموجودة في العام الإسلامي أيا نوعها يشملها هذا الحكم الإلهي .

3-التكفير : يرى المودودي أن خروج الفرد والمجتمع من الشريعة وارتداده عن السيادة الإلهية يعد كفرا ! لكن الأستاذ المودودي رفض إصدار أحكام التكفير ضد الفرد أو المجتمع , وكان يدعو إلى المزيد من الحيطة والدراسة لذلك . وقد نفذ مفهوم تكفير الفرد والمجتمع في أدبيات ونظريات سيد قطب عن طريق مطالعة آثار المودودي , ونظرا للوضع الذي كان سائدا في سجون النظام الناصري وحالات التعذيب الوحشي واللاإنساني التي كانت تمارس ضد شباب الإخوان , وحتى النساء المسلمات , وضد سيد قطب نفسه ما أدى إلى قيام سيد قطب بتكفير الحكم الموجود في مصر , ووجوب الانتفاض ضده , وأخيرا وبعد نشره كتاب " معالم في الطريق " أعدم سيد قطب – صاحب تفسير في " ظلال القرآن " في 30 مجلدا – مع اثنين من قادة الإخوان في القاهرة بأمر صريح من حمال عبد الناصر .

4-بعد موت المودودي وإعدام سيد قطب , انتشر مفهوم التكفير والكفاح ضد الطاغوت , والعمل " بفرضية الجهاد " في أدبيات البعض من الشباب المسلم , ولكن بما أنهم لم يمتلكوا قوة التفسير والاجتهاد في هذا الجانب , قد دخلوا وللأسف في وادي التطرف , وكفروا بذلك كافة الأفراد والمجتمع المسلم , وقد شكل ذلك بداية للانحرافات الشديدة التي تعرضت لها بعض المجموعات الإسلامية في العالم العربي وشبه القارة الهندية منزلين بإجراءاتهم اللاإنسانية , ودون وعي , ومن منطلق جهلهم , ضربات موجعة بالحركة الإسلامية , إننا نشهد وللأسف النماذج الوحشية والبربرية في ارتكاب المجازر بحق السنة والشيعة , خاصة من جانب العناصر التكفيرية كل يوم في العراق وأفغانستان وباكستان .

آثار حول البنا والإخوان

لقد زار حسن البنا في خطوة منه لتوعية الشعب المصري في فترة قصيرة مئات المدن والقرى المصرية ,و قان بتنظيم الأفراد , وإلقاء الخطب فيهم , وتبليغ الديانة الإسلامية ومعارفها.

وقد طبعت الكلمات التي كان يلقيها في الأجهزة الإعلامية , والصحافة المصرية آنذاك .

وتعتبر كتابات وكلمات حسن البنا تراثا زاخرا بالقيم , ومرجعا فكريا للإخوان المسلمين .

ومن بينها مجموعة " رسائل الإمام الشهيد حسن البنا " . والتي ما زالت تشكل مصدرا فكريا واجتماعيا وسياسيا لجماعة الإخوان المسلمين , وقد أجريت البحوث والنقد حولها , وتكون مطالعة الكتب التالية نافعة في هذا الجانب :

1-غانم إبراهيم البيومي : الفكر السياسي للإمام حسن البنا , القاهرة دار التوزيع والنشر الإسلامية , 1992 م .

2-أنور الجندي : حسن البنا الداعية الإمام والمجدد الشهيد , بيروت 1978 م .

3-روبير جاكسون : حسن البنا الرجل القرآني , ترجمة أنور الجندي , القاهرة , دار الدعوة , بدون تاريخ .

4-الإمام الشهيد حسن البنا , مجموعة رسائل , الإسكندرية , 1988 م .

5-محمود عد الحليم : الإخوان المسلمون : رؤية من الداخل , الإسكندرية , دار الدعوة .

6-د . إسحاق موسى الحسيني , الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية الحديثة , دار بيروت للطباعة والنشر , بيروت ( وقد ترجم هذا الكتاب إلى الفارسية كذلك , وطبع من جانب مؤسسة إطلاعات ) .

7-د . زكريا سليمان بيومي : الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية ( 1928 – 948 م) القاهرة , مكتبة وهبة 1991 م .

8-عباس السيسي : حسن البنا ( مواقف في الدعوة والتربية ) , القاهرة , دار القبس للنشر والتوزيع , 1982 م .

9-ريجارد ميشيل : الإخوان المسلمون , طبع أمريكا ( ترجم هذا الكتاب كذلك إلى الفارسية , وسينشر قريبا ) .

10-محمد عبد الله السمان : أيام مع الإمام الشهيد حسن البنا , القاهرة , دار الفضيلة , 2003 م .

11-د . توفيق يوسف الواعي , الفكر السياسي المعاصر عند الإخوان المسلمين , الكويت , مكتبة المنار الإسلامية , 2001 م .

12-فتحي يكن : منهجية الإمام الشهيد حسن البنا , مؤسسة الرسالة , بيروت 2001 م .

13-فؤاد الهجرسي ( من علماء الأزهر ) الإمام الشهيد حسن البنا , القاهرة , 1999 م .

14 –علي مصطفى نعمان : جهاد الإخوان المسلمين في فلسطين , دار التوزيع والنشر الإسلامية , القاهرة 2001 م .

15 –الإمام الشهيد حسن البنا ... نظرات في كتاب الله , دار التوزيع والنشر الإسلامية , القاهرة 2002 م .

16-د . يوسف القرضاوي : 70 عاما لدعوة وتربية وجهاد الإخوان المسلمين ( ترجم إلى الفارسية , طبع طهران , انتشارات إحسان 1381 ه . ش ) .

17 –مؤسسة الأهرام , مصر : الحالة الدينية في مصر ( جزء 1 و 2 ) . القاهرة , 1998 م .

18 –الأستاذ جابر رزق , الأسرار الحقيقية لاغتيال حسن البنا , القاهرة 1996 م .

20 –جمعة أمين عبد العزيز , أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين ( 4 مجلدات ) القاهرة , دار النشر والتوزيع الإسلامية , 2004 م .

21 –الإمام الشهيد حسن البنا , مذكرات الدعوة والداعية , دار الرسالة , بيروت 1998 م .

22-محمد الصروي , الإخوان المسلمون , الزلزال والصحوة , القاهرة 2004 م

23 –د . محمد جامع : وعرفت الإخوان , القاهرة , دار التوزيع , 2004 م .

24 –ضياء رشوان , دليل الحركات الإسلامية , المجلد الأول , مؤسسة الأهرام , القاهرة 2006 م .

25 –محسن محمد , من قتل حسن البنا ! دار الشروق , القاهرة 1987 م .

26 –د . صلاح عبد الفتاح الهادي , سيد قطب من الولادة حتى الشهادة , طهران , نشر إحسان , 1380 ه .

وتشكل الكتب المذكورة نماذج من المئات , بل الالآف من الكتب البحوثية حول حركة الإخوان المسلمين , وقيادتها , والتي قدمت من جانب الباحثين المعاصرين أو تلاميذ مدرسة الإخوان المسلمين , ومن خلال مطالعة هذه الكتب , يمكن التعرف على الأهداف والبرامج التاريخية الإسلامية للشهيد الإمام الشيخ حسن البنا , وللإخوان المسلمين , وأدائهم في منحى توعية المجتمع الإسلامي , وتشكيل الحكومة الإلهية في بلاد المسلمين .

حجة الإسلام والمسلمين

سيد هادي خسر وشاهي

مفكر إيراني من مواليد إيران بمدينة تبريز – أذربيجان عام 1938 م , درس هناك , وتتلمذ على يد والده وهو من العلماء الكبار آنذاك , ثم التحق بالحوزة العلمية في مدينة ( قم ) , وتخرج في العلوم الإسلامية هناك على يد العلماء والأساتذة الكبار منهم : الإمام الخميني , العلامة محمد حسين الطبابائي , وغيرهما , ثم قام بالتدريس في الحوزة العلمية وجامعة طهران – كلية الحقوق – لسنوات عدة .

ثم أسس " مركز البحوث الإسلامية " في الحوزة العلمية – قم , وهو لا يزال رئيسا لهذه المؤسسة الإسلامية العلمية , وللمركز إصدارات كثيرة متنوعة بلغات مختلفة منها : العربية , الإنجليزية , الألمانية , الفارسية , وغيرها .

ويعتبر الأستاذ من العلماء البارزين المعروفين في إيران , وله مؤلفات عدة في شتى المجالات العلمية الإسلامية , طبع أكثر من 50 مجلدا منها في إيران وبعض البلاد العربية , ومرات عدة , ويتقن عدة لغات (التركية , الفارسية , العربية , الإنجليزية , الإيطالية ....) .

وكان للأستاذ دور خاص في الكفاح ضد النظام الحاكم الشاهنشاهي , واعتقل وسجن ونفي عدة مرات , ولكنه استمر في كفاحه ونضاله ضد الاستبداد والاستعمار رغم كل الضغوط .

وبعد انتصار الثورة الإسلامية انتخب ممثلا للإمام الخميني في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في طهران , عمل فيها لمدة سنتين .

ثم انتخب سفيرا لإيران في الفاتيكان , وعمل هناك خمس سنوات , وأسس في روما , " مركز الثقافة الإسلامية في أوروبا – روما " .

وبعد العودة إلى طهران انتخب مستشارا للوزير الدكتور ولايتي , ثم مستشارا للوزير الدكتور كمال خرازي , وأستاذا في كلية وزارة الخارجية – كلية العلاقات الدولية .

وهو كذلك عضو في مركز الدراسات السياسية والعالمية , التابع لوزارة شئون الخارجية .

وقد اشترك في كثير من المؤتمرات قبل الثورة وبعدها , في السعودية , مصر , لبنان , قطر , الجزائر , سوريا , باكستان , تركيا , ألمانيا , إنجلترا , إيطاليا ... منها مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية في القاهرة , نيابة عن الوزير – ومؤتمرات إسلامية كثيرة .

وقد أسس الأستاذ منذ ثلاث سنوات ( جمعية الصداقة المصرية – الإيرانية ) بطهران , بالتعاون مع 40 من كبار المفكرين الإسلاميين والعلماء والفنانين الإيرانيين , وهو لا يزال رئيسا لهذه الجمعية .

عمل في القاهرة لمدة ثلاث سنوات , بصفته رئيسا لبعثة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في جمهورية مصر العربية .

البنا وتجربة الفن

بقلم عصام تليمة

بما يستغرب القارئ للوهلة الأولى من عنوان البحث، فما شأن البنا والفن ، وهل فعلا كان للبنا تجربة في الفن؟ وهل هذه التجربة ثرية لدرجة أن تتناول، ويوجد فيها مادة تجعلها جديرة بالبحث؟ هذه الأسئلة التي ربما يثيرها عقل القارئ، أثارها عقلي عند دراستي للموضوع عند الإمام البنا _رحمه الله) ، ولكني بعد أن انقدحت محاور الموضوع في رأسي رأيت أنه بالفعل موضوع حري أن يبحث ، وأن يناقش ويثار، وهو من الموضوعات القلائل التي نأى الباحثون بأنفسهم وأقلامهم عن البحث فيها، إما لوضع نتائج مسبقة قبل البحث بأن علاقة البنا بالفن لن تتجاوز حدود إصدار فتوى ، أو العروج من قريب أو بعيد بالفن من حيث الحل والحرمة لا أكثر.

وقد نويت أن أجعل الحديث عن البنا وتجربة الفن بما للفن من مجالات رحبة، ومن حيث تقسيم الفن إلى فنون صوتية ، وحركية، ويدوية، وتناولت من الفنون الصوتية: فن الغناء والإنشاد، وفن النكتة، ومن الفنون الحركية: فن التمثيل ، ومن الفنون اليدوية : فن التصوير والرسم الكاريكاتوري.

مكانة الفن في دعوة الإخوان

لم يقف البنا من الفن مجرد المنظر أو مبدي الرأي الفقهي، أو الداعي نظريا إلى تبني الفن، دون الولوج إلى ذلك عمليا، بل ربما سبق عند البنا جانب التطبيق التنظيري، وليس معنى ذلك أن البنا لم يكن معنيا بذلك، بل لم يكن معنيا بالوقوف كثيرا عند الإسهاب في التنظير، ما دام قد اقتنع بشرعية فعل الشيء، وهذا ما حدث مع الأستاذ البنا (رحمه الله) فقد جعل للفن مساحة ليست بالصغيرة في دعوة الإخوان المسلمين، فأنشأ فرقة مسرحية- بل فرقا مسرحية- لعل أبرزها وأشهرها، فرقة القاهرة، فقد أنشأ الأستاذ البنا في معظم شعب الإخوان المسلمين فرقا مسرحية، كشعبة السيد عائشة، والتي قدمت عددا من المسرحيات للناس، منها ما هو تاريخي، ومنها ما هو خلقي، ومعظمها كان من اللون الفكاهي النظيف الراقي.

بل إن أول رسالة صدرت تهاجم الفن والتمثيل عند جماعة الإخوان المسلمين ، كانت بسبب مسرحية قامت بها شعبة طنطا، وقد نما إلى علم مؤلف الرسالة أن هذه الفرقة المسرحية في شعبة طنطا، قد قامت بتمثيل قصة ( الذبيح إسماعيل عليه السلام)، وأنهم جاءوا على المسرح بكبش ومثلوا شخصية إسماعيل عليه السلام ، مما حدا بالمؤلف أن يهاجم هذا الموقف ، ويهاجم أن يكون في دعوة إسلامية فرقة مسرحية من الأساس، اعتمادا على أن التمثيل يرتكز بالأسس على الكذب، والكذب كبيرة من الكبائر، لا يجوز للمسلم أن يتخذها سلوكا ولا مهنة، حتى وإن كانت من باب الترفيه.

كما كان للأستاذ البنا نهج في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية، لم أره في أي صحيفة إسلامية أخرى في مثل هذا الوقت، ولا فيما بعد، فقد كان يكب في إحدى صفحات الجريدة اليومية برامج الإذاعة المصرية، بداية بالقرآن الكريم ومرورا بأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم، وغيرهما، وكان يضع تحت عنوان الباب قوله تعالى:" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا". (الإسراء: 36).

مسرح الإخوان المسلمين

يعتبر مسرح الإخوان المسلمين أول مسرح تنشئه جماعة إسلامية في مصر، فقد نشأ في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، وقد تولى هذا الأمر الأستاذ عبد الرحمن البنا- شقيق الأستاذ البنا- المعروف بميوله الأدبية، والذي صدرت له عدة مسرحيات ومؤلفات أدبية، وكانت أولى مسرحيات مسرح الإخوان المسلمين: مسرحية (جميل بثينة، وقد أنتجت المسرحية (لجنة تشجيع التمثيل) التابعة لوزارة المعارف- التربية والتعليم- وقررت إخراجها على نفقتها عام 1934م.

وقد نجحت المسرحية الأولى للإخوان المسلمين نجاحا مبهرا، مما حدا بأحد الباحثين وهو الدكتور شوقي قاسم في رسالته للدكتوراه (الإسلام والمسرح المصري)، أن يقرر أن مسرحية جميل بثينة قد صارت موضع المقارنة مع درة أمير الشعراء (مجنون ليلى).

هذا عن دلالة نجاح المسرحية من حيث التأليف، أما من حيث الحرفية المسرحية فيكفي أن تقف على أسماء النجوم المشاركين في المسرحية فمنهم، جورج أبيض ، وأحمد علام، وعباس فارس، وحسن البارودي، وفتوح نشاطي، ومحمود المليجي. ومن العناصر النسائية، فاطمة رشدي، وعزيزة أمير.

تبع هذا العمل عدة أعمال أخرى، وبدأ الأستاذ البنا في تعميم تجربة إنشاء الفرق المسرحية، من المحترفين أو الهواة على حد سواء ، كانت الفرقة الأم الكبرى في القاهرة، وكانت هناك فرق أخرى عن طريق قسم الطلبة في الإخوان، وذلك بتمرين طلبة القسم الثانوي على الأداء المسرحي، وتم تعميم الفكرة على معظم شعب الإخوان في بقية المحافظات، لتكون بديلا للريف المصري والمناطق النائية عن المسارح والسينمات، ولغرس أهداف وقيم تصل سريعا عن طريق الفن، أكثر من أي وسيلة أخرى، وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم تجربته الشخصية في هذا المجال المسرحي، يقول رحمه الله:

(لم يكن بـ "فوة" في تلك الأيام أية مؤسسة من مؤسسات الترفيه، فلا سينما ولا مسرح، وقد رأيتها فرصة سانحة لنقل الأفكار الإسلامية إلى عقول الفلاحين وعقول الناشئة وأهليهم، فصغت من أحداث نفي مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولني هاشم في شعب من شعاب مكة مسرحية، وكنت قبل قد وضعت أحداث معركة القادسية في مسرحية طويلة، وكانت هاتان المسرحيتان باللغة الفصحى، فرأيت أن أضع بجانب ذلك مسرحية باللغة العامية لتخاطب عامة الناس، وجعلت هدفها معالجة ما درج عليه الفلاحون، في ذلك الوقت، من الاستدانة بالربا من اليهود الذين أنشأوا مكاتب في المدن، ويبعثون بمندوبيهم إلى القرى والعزب للإيقاع بهؤلاء الفلاحين العوام، ولما كانت مسرحية القادسية طويلة فقد اجتزأت من فصلها الأخير.

وقد استغرقت وقتا طويلا في تدريب مجموعة من شباب الشعبة على التمثيل حتى أتقن كل منهم الدور الذي أسند إليه تمام الإتقان.

وقد أدت الفرقة التي كونها الأستاذ محمود عبد الحليم في بداية الأربعينيات في ريف البحيرة أكثر من مسرحية، وكان من ثمرتها: أن عدلت من مسار كثير من الناس، وكانت سببا في افتتاح شعب كثيرة على حد قوله.

واستمر مسرح الإخوان المسلمين في تقديم أعماله، بل رأينا من بين فنانيه عددا ليس بالقليل من عمالقة الفن المصري فيما بعد، عبد المنعم مدبولي، وإبراهيم الشامي، وسراج منير، ومحمود المليجي، ومحمد السبع، وعبد البديع العربي، وشفيق نور الدين، وسعد أردش، والأخوان، حمدي غيث وعبد الله عيث ، وإبراهيم سعفان وغيرهم.

البنا وفن التصوير

أما عن البنا والفن اليدوي، والمتمثل في التصوير الفوتوغرافي والرسم وغيره، فموقف البنا فيه موقف معروف، فلم يكن البنا ضد التصوير الفوتوغرافي ولا ضد الرسوم الكاريكاتورية، فمن أول مجلة أنشأها الإمام البنا استخدم فيها الصور، وهي مدجلة (جريدة الإخوان المسلمين)، ففي السنة الأولى منها فاجأ البنا الجميع بأمر لم يكن مألوفا في المجلات الإسلامية، فقد أعلن عن إنشاء قسم الأخوان المسلمات في جماعة الإخوان المسلمين، فكتب تحت عنوان: إلى الأخوات المسلمات نداء من السيدة لبيبة هانم أحمد- مسئولة قسم الأخوات المسلمات- تدعو فيه أخواتها المسلمات للتعاون معها في هذا القسم، ثم ثنى عل ذلك البنا بتعقيب على ما كان كتبته السيدة لبيبة هانم أحمد، بعنوان: مثال المرأة المسلمة الصالحة السيدة لبيبة هانم أحمد، وقدمها بما فيها من خلال وصفات ، وقد وضع رأس الصفحة صورة السيدة لبيبة هانم أحمد، ويعتبر هذا أول مرة تجرؤ مجلة إسلامية على نشر صورة امرأة في صدر صفحة من صفحاتها، أو في أي صفحة من صفحات مجلتها.

ثم اقترح أحد الإخوان على الأستاذ البنا أن ينشر صور أعضاء جمعية الإخوان المسلمين من باب التعارف، وذلك في السنة الثالثة من المجلة، فبادر الإمام البنا بتنفيذ الفكرة، فنشر صورته، ثم بعد ذلك صور عدد من الإخوان، وكلما أرسل عضو صورته نشرت مع ذكر اسمه وذكر منطقته، ونفذ نفس الفكرة في مجلة (الشهاب)- آخر مجلات البنا إصدارا- فقد كان يفرد في نهاية المجلة صفحة أو صفحتين ينشر فيهما صورا لعلماء ومفكرين ودعاة، معرفا في صفحة أخرى أو أكثر بأصحاب الصور بما يليق بهم من تعريف، ويعطي القارئ نبذة مختصرة عنهم.

هذا الأمر يجعلنا نخرج بنتيجة: وهي أن الإمام البنا كان رأيه جواز التصوير الفوتوغرافي، وعدم ممانعته في ذلك، وإن لم يكن هناك أي فتوى للبنا في حكمه، ولكن رأينا له فعلا عمليا في ذلك.

البنا وفن الكاريكاتير

كانت علاقة الإمام البنا بالجماعات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية وطيدة، يجمع بينهما الود والتعاون ، وكذلك حاول نع بعض الأحزاب، إلا أن هناك أحزابا ناصبته العداء، وسخرت صحافتها للنيل منه، والتهكم عليه، وعلى دعوته وكثيرا ما كانوا يرسمونه في صورة كاريكاتورية تعبر عن سخريتهم من دعوة الإخوان، ومنه شخصيا، كما في تعمدهم دوما عند الحديث عنه نعته بمدرس الخط، وكان البنا يرد على ذلك كله بالرد الجميل، وكان يرسل خطاباته للنحاس باشا- رئيس وزراء مصر- بهذا الأسلوب: من مدرس الخط إلى دولة رئيس الوزراء، وقد كان لصحف الوفد النصيب الأكبر في النقد والتهكم.

غير أن كثرة تجاوز الصحف التي سخرت أقلامها للنيل من البنا ودعوته دفعت بعض الإخوان للجوء للرد عليهم بنفس الأسلوب، وقد قرر عضوان من الإخوان إصدار مجلة ساخرة كاريكاتورية، وأعلنوا مرارا في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية عن مسابقة للبحث عن عنوان لمجلة لا حزبية، ثم استقر صاحبا المجلة على أن تصدر باسم (الكشكول الجديد) ، وقد قررا الاستقالة من تنظيم الإخوان حتى لا تحسب كتاباتهما عليه، على الرغم من حملها أهداف الجماعة، ونشرا استقالتهما في المجلة، وطلبا من الأستاذ البنا التعقيب على ذلك، ورأيه في المجلة نفسها، فرد عليهما الأستاذ البنا وكتب يبين رأيه في هذا الفن وكيف يكون، والخطة التي يقترحها عليهما، فكتب رحمه الله قائلا:

" تلقيت استقالتكما من الإخوان المسلمين وقرأت ما كتبتماه عن ذلك في مجلة (الكشكول) في عددها، وعرضتها على الهيئة التأسيسية للإخوان في اجتماعها الماضي، فوافقت عليها شاكرة لكما جهودكما الصادقة في خدمة الدعوة الكريمة سابقا، وحسن استعدادكما لخدمتها لاحقا. وجميل ثنائكما عليها، واعترافكما بما تقدم للشباب من خير وحسن توجيه، فأبلغكما ذلك سائلا الله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعا لخير دينه، والعمل على إعلاء كلمته، وإرشاد الناس إلى سبيله، آمين.

ولقد تابعت بعد ذلك ما يكتب في الكشكول، فأردت أن أتقدم لكما بمخلص النصيحة، نصيحة من لا يزال وسيظل يشعر لكما بعاطفة الأخوة الكاملة التي ربط الله بها قلوب عباده المؤمنين في محكم كتابه إذ يقول: " إنما المؤمنون إخوة" (الحجرات: 10)، ذلك أني وإن وافقتكما موافقة تامة في وجوب محاربة الحزبية والاستعمار ومقاومة المبادئ الهدامة الفاسدة كائنة ما كانت، فإني لا زلت أخالفكما في الأسلوب على الصورة التي رايتها في (الكشكول الجديد).

ولهذا أرجو أن تسلكا به مسلكا آخر نحو بناء جديد، حاربتا الحزبية بصورتها البغيضة التي ظهرت بها في مصر، فأحرجت الصدور، وجرحت لأبرياء، ونفرت القلوب ، وقززت النفوس، وأوهنت القوى، وأفسدت الأخلاق والضمائر، وفعلت بالمجتمع الأفاعيل.

وحاربا الاستعمار الغاشم الظالم الماكر الخادع الذي سلب حريتنا، وقيد استقلالنا، وتدخل في كل شئوننا، وحرمنا خيرات بلادنا، وتراث كدنا وكفاحنا، واستأثر دوننا بكل شيء ، مهد في وطننا لكل دخيل، وكان في حياتنا الاجتماعية رأي كل خطيئة.

وحاربتا المبادئ الهدامة التي لا تتكشف في حقائقها وأهدافها ومراميها إلا عن الإلحاد والكفران والإباحية والإثم والعصيان، والتمكين للمستعمر القديم، أو التمهيد للمتحفز الجديد، كأنما كتب على هذه الأمة ألا تنقل من سيادة إلا إلى سيادة، وألا تتذوق طعم الحرية أبدا على أيدي هؤلاء الخبثاء، ويأبى الله ذلك والمؤمنون.

حاربا كل هذا واكشفا عن مخازيه للناس، وحذروهما إياه، ولقد كان سفيان الثوري يقول لصحابه إذا اجتمع إليهم: تعلوا نذم ساعة في سبيل الله، لا تجالسوا فلانا فإنه كذاب، ولا تأخذوا عن فلان فإنه يضع الحديث، ولا تثقوا بفلان فإنه متهم في دينه، أو رأيه وهكذا.

ولكن تحريا في ذلك كلمة الحق الذي لا يفتري ولا يعتدي ولا يكذب، والجد الذي يحفظ على النفوس قوتها، لا تتميع معه الأخلاق، ولا تموت بكثرته القلوب، ولا يذهب برهبته العدوان، ولا يضعف مشاعر السخط وهي عدة المجاهدين، ولا ينافي ذلك ورود المزحة القاسية، والنكتة اللاذعة، ورب واحدة من هذه أبلغ من قول كثير، ثم خصصا أبوابا لهذا، واحرصا على ن يظهر هذا اللون واضحا.

وتجنبا الانحياز على جهة، فإنكما تحاربان مذاهب وآراء وأعمالا على يد كائن من كان، ولا تكشفا عما ستر الله من النقائص الشخصية، فإن الإذاعة عن ذلك في ذاتها إثم من الآثام ما لم يتعلق بذلك حق للمجتمع، أو مصلحة تعود على الناس، والعفة عن الولوغ في الأعراض أدب الإسلام، ولا أجمل من التورع والاحتشام.

كونا كذلك واطبعا مجلتكما بهذا الطبع، وانهجا به نهجا جديدا، و (نحو بناء جديد) ، وأعتقد أنكما بذلك ستقدمن إلى الناس غذاء شهيا سائغا لا تعب معه، ولا ضرر فيه إن شاء الله، وحينئذ يكون لمثلي على ضعفه وضيق وقته ألا يحرم نفسه المساهمة معكما في هذا الجهاد، والله أسأل لي ولكما كمال الهداية ودوام التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

في هذا النص يتبين لنا بوضوح موقف البنا من هذا الفن (الكاريكاتير)، وهو الموافقة والتأييد، بل جعله جهادا، ولكنه وضع شروطا مهمة في كيفيته، وأخلاقيات على من يمارسه أن يتخلق بها، لا أرى فائدة في إعادتها، فهي واضحة المعالم والعناصر في صلب مقال البنا.

البنا وفن النكتة

كما كان البنا (رحمه الله) يستخدم لونا من الفن اشتهر به المصريون، وهو فن النكتة، وهو يمتاز بهذا الفن تذوقا، وإنشاء، ومن ذلك ما حكاه الشيخ الغزالي( رحمه الله) من قصة زواج ودور البنا فيه، يقول الشيخ الغزالي رحمه الله:

" مع تسلمي للعمل الحكومي، تم زواجي، وكان الأستاذ حسن البنا قد تدخل في المسألة التي بدأت معقدة، فإن والد الفتاة التي اخترتها كان يطمع في زوج أغنى مني.. إنه من قريتنا، وإن كان موظفا بوزارة العدل في القاهرة، وعلم أن مرتبي ستة جنيهات أعطي أبي نصفها تقريبا.

لكن الأستاذ المرشد أقنع الرجل بأني أفضل من غيري، والمستقبل بيد الله، وسيكون خيرا.

وتزوجت وسألني الأستاذ المرشد: إذا فعلت مع فلان- يعني صهري؟ فقلت: دخلت بابنته، قال عاتبا: لم لم تدعني؟ وتمثل بقول الشاعر وهو يبتسم:

وإذا تكون كريهة أدعى لها

وإذا يحاس الحيس يدجى جندب

فقلت : لم تكن هناك وليمة، اكتفينا بأشربة حلوة، تناولها بعض الزملاء، وأوسع لي الرجل غرفة في بيته، والحمد لله، فدعا لنا بالبركة.

ويحكي الدكتور جابر قميحة نكتة قصها عليه الحاج عبد الرازق هويدي- والد الكاتب الإسلامي المعروف فهمي هوديدي – خلاصتها، أنه ركب (حنطور) مع الإمام الشهيد ومعهما ثالث قاصدين إحدى القرى المجاورة لـ (بنها) لا تقصدها السيارات لضيق الطريق، وكان الجو باردا عاصفا، فطلب الإمام رفع غطاء الحنطور إلى الخلف ، لأن وضعه الحالي يزيد من مقاومة الحصان للهواء فيتبعه، قال الحاج عبد الرازق، بل نتركه يا فضيلة المرشد لأن الجو بارد، ولا ضير فصاحب الحنطور من الإخوان، فصاح الإمام، سبحان الله يا أخي، لكن الحصان مش من الإخوان.

وكان الإمام البنا إضافة إلى أنه يمازح ويضاحك من حوله، كان من هواة القفشات الضاحكة، كما حدث وأن زار عمدة (رشيد) محمد بك طبق، وفي جلسة تعارف- كما هي عادة البنا- بدأ العمدة فقال: ( محمد طبق) عمدة رشيد، ثم تلاه من بجواره في التعارف قائلا: ( محمد سمك) رئيس مجلس بلدية رشيد، وقدم الذي يليه نفسه بقوله : ( زكي بطيخة) طالب.

فقال الأستاذ البنا وهو يبتسم: (سفرة دايمة)، وضحك الجالسون جميعا.

البنا وفن الإنشاد والغناء

وقد استخدم البنا من أول دعوته فن الإنشاد، وبخاصة الديني منه، الذي يغرس القيم ويذكر بالماضي التليد، ولا غرو أن رأينا أكبر جماعة إسلامية لها رصيد هائل من الأناشيد هي جماعة الإخوان المسلمين ولا يشاركها أو ينازعها في هذا الكم جماعة أخرى، فقد اختار البنا نشيدا ليكون نشيد الإخوان، والذي ألفه شاعر الإخوان الأستاذ أحمد الباقوري، : (يا رسول الله هل يرضيك أنا). ثم بعد ذلك توالت الأناشيد، كنشيد الكتائب الذي ألفه الأستاذ عبد الحكيم عابدين، وغيره من أناشيد الجوالة، وأناشيد الجهاد.

إذاعة الإخوان المسلمين

كما أنشأ الأستاذ البنا إذاعة خاصة، وكان هذا الأمر في عهد الكلية المصرية قبل ثورة يوليو أمرا ممكنا، وقد سلمها للحكومة المصرية بعد قرار حل الإخوان الأول في عهد النقراشي، وكانت إذاعة الإخوان تبث، وأحيانا كانت جريدة الإخوان المسلمين اليومية تعيد كتابة ما تبثه من أحاديث الأستاذ البنا، كما لقي: ( صور من الماضي)، و( ثمن الحياة).

علاقة البنا بالفنانين

كما كون البنا علاقة بالفنانين الذين تيسر له الوصول إليهم، فقد كان يتعامل مع الفنانين بروح أخرى غير ما كان يتعامل بها معظم إسلاميي عصره، وهي روح المقاطعة، وعدم إقامة أي علاقة معهم، ولا حتى الحرص على السلام عليهم، على عكس البنا (رحمه الله)، فقد ذهب الإمام البنا ومعه أحد الإخوان إلى لبنك الوطني، وقابله الفنان أنور وجدي وذهب إليه، وقال له: يا حسن بيه، أنا سعيد بمقابلة حضرتك، ولكن يؤلمني أنكن تنظرون إلينا على أننا قدوة غير صالحة وغير أمناء على الشباب، فقال له الإمام البنا، من قال ذلك؟ أنتم لو أتقنتم وأخلصتم عملكم، وقدمتم الفن الهادف ستكونون معنا في طريق الدعوة بفنكم الهادف، وتوجيه الناس، فعندما سمع أنور وجدي هذا الرد الجميل من الإمام البنا بكى وقبل يده ورأسه.

وكذلك الأستاذ حسين صدقي الذي يشير بعض معاصري البنا إلى علاقة بينه وبين البنا في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، قبل وفاة البنا ببضعة شهور، وأكمل الأستاذ سيد قطب المشوار الدعوي معه، إذ كان يسكن بجواره الفنان حسين صدقي (رحمه الله)، وقد ذهب إليه يخبره أنه ينوي اعتزال التمثيل، وتركه نهائيا، فقال له سيد قطب، إنني أكتب عشرات المقالات، وأخطب عشرات الخطب، وبفيلم واحد تستطيع أن تنهي ما فعلته أنا، أو تقويه، أنصحك أن تستمر ولكن بأفلام هادفة.

وبالفعل قدم حسين صدقي بعد ذلك فيلمين: الأول ضاع عن ذهني اسمه، وقد مثل فيه معه: حسين فايق، وعزيزة حلمي، وماجدة، وكان يدور حول علاقة الأب بأبنائه، وأسلوب التربية الخطأ، وقد دخل هذه الأسرة المفككة فأقام علاقة جيدة بالأولاد، مما كان سببا في تحسين علاقتهم بأبيهم وربهم.

أما الفيلم الآخر: فهو فيلم : (الشيخ حسن) ولم أره، ولا يعرضه التلفزيون المصري، فقد صادرته الرقابة آنذاك، ولكني رأيت إعلانه في الجرائد القديمة، وقد رأيت صورة حسين صدقي يرتدي الزى والعمامة الأزهرية، وشاركته في البطولة ليلى فوزي، وسألت أحد الذين شاهدوا الفيلم، فحكى لي أنه يدور حول شيخ أزهري، عرف فتاة مسيحية فدعاها للإسلام فأسلمت، فأثار الفيلم ضجة، واعترضا من المسيحيين في مصر، فآثرت الرقابة السلامة فمنعته.

أما الفنان الثالث الذي يبدو أن الإخوان أقاموا معه علاقة وتعاملا، أو رأى منهم سلوكيات تشعره بموقفهم تجاه الفن، مما أثر في رأيه تجاه الإخوان بالإيجابية، فهو الفنان العالمي المصري المعروف عمر الشريف، الذي هاجت الدنيا بعد فوز الإخوان في انتخابات البرلمان المصري في توفمبر 2005م ، متخوفين من موقف الإخوان تجاه الفن والثقافة، فصرح عمر الشريف أكثر من مرة بأنه لا أساس لهذا الخوف من الإخوان فهو يعرفهم منذ القدم، وهم ليسوا ضد الفن، ولا شك أن هذه الصورة تكونت لديه من نهاية الأربعينيات وبدايات الخمسينات، كما ذكر في تصريحه، فقد غابوا بعد ذلك فترة طويلة وراء السجون، إلى منتصف السبعينيات.

لماذا اختفت هذه الصفحة من تاريخ البنا المنشور؟

الراصد لكل هذه الأدبيات عند البنا، والمواقف العملية له، من خلال علاقته بالفن، يقف مذهولا أمام سؤال ملح، لماذا اختفت هذه الصفحة من تاريخ البنا فلم تنشر ولم تذكر، ولم يحكها أحد عنه إلا في أضيق المواقف؟ وهو أمر مستغرب بشدة من معاصري الرجل، ولم يحرص حتى جيل السبعينيات على إبراز هذه الصفحة والمواقف معا.

والسبب في تقديري: أن الإخوان بعد خروجهم من السجون في السبعينيات، خرجوا وقد وجدوا صحوة بين شباب الجامعات، وقد غلب عليها طابع التشدد، والتشنج، والرفض.

بالإضافة إلى أن الإعلام الإسلامي في هذه المرحلة خاصة كان إعلاما يتسم بالتشدد من هذه المواقف، كما غلب على أدبيات هذه المرحلة ما سمي بأدبيات المحنة، وأدب السجون.

إنه خط عام لمرحلة عاشتها الصحوة الإسلامية بأسرها، وهي مرحلة: أدبيات المحنة، وفقه المحنة، التي عاشتها الصحوة في بداية السبعينيات فترة ليست بالقصيرة، فقد سادت هذه الفترة في أدبيات الإسلاميين أدبيات المحنة، وفقه التشدد، وذلك في كل مجالات الصحوة الإسلامية عموما، والحركة الإسلامية خصوصا، فعند الحديث عن الدعوة الإسلامية المعاصرة وتاريخها ، نرى التركيز الشديد على ما حدث في معتقلات عبد الناصر من التعذيب، والقتل والشنق والتنكيل بالدعاة ، وفي المقابل يمر المتحدث مرور الكرام على إنجازات الحركة، والتحديات التي تواجهها في المرحلة المقبلة.

كما سادت لهجة التهييج الإعلامي وخط التشدد في مجلات الصحوة، كمجلة (الدعوة)، ومجلة (الاعتصام)، إذ نراها تصب جام غضبها عند تناولها للرموز الدينية عندما تبرز أي نقطة ضعف في حياة أحدهم، فنرى مجلة (الاعتصام) تمطر الشيخ محمود خليل الحصري( رحمه الله) شيخ المقارئ المصرية، بوابل من الهجوم، والسبب في ذلك: هو اتجاه ابنته أفراج الحصري (ياسمين الخيام) للغناء، رغم أن الرجل لا ذنب له في ذلك، كما أنها لم تكن تغني غناء فاحشا، بل كله غناء وطني وإسلامي، مما أباحه عدد كبير من العلماء.

وكذلك رأينا مسارعة الشيخ محمد الطوخي في نفي علاقته بالممثلة إيمان الطوخي وأنها ليست ابنته، مخافة أن يلحقه أذى من بعض الأقلام التي تتصيد ذلك، وقد شاع بين الناس- بسبب تشابه الاسم- أنها ابنته، فاضطر إلى نشر تكذيب أنها ابنته في مجلة (الاعتصام).

وخرجت مجلة (الدعوة) رغم اعتدال ولين جانب الأستاذ عمر التلمساني (رحمه الله) وهو المشرف عليها، إلا أنهه نحت هذا المنحى في بعض أعدادها، فقد ذهب الأستاذ محمد عبد القدوس للشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه اله) لإجراء مقابلة معه، فرفض الشيخ لقاءه بوصفه مندوبا من قبل مجلة (الدعوة) ، فخرج عدد المجلة وعلى الغلاف عنوان عريض: لقاء عاصف مع الشيخ الشعراوي، وفي داخل العدد لم يحل للمجلة أن تنشر صورة للشيخ الشعراوي إلا صورته وفي يده سيجارة يدخنها.

حتى في أفراح وأعراس الإسلاميين آنذاك، كانت الأناشيد والأهازيج التي تنشد كلها أناشيد خرجت من مشكاة أدبيات المحنة، ولا تراعي المقام الذي تقال فيه، فنجد من الأناشيد التي تنشد في الأعراس: تدلت الحبال لتشنق الرجال، أو نشيد: جاهد في الله أخي، جاهد إن كنت تقيا، تملك آفاق الدنيا، وتلاقي الله رضيا، جد بالمال، وبالنفس إن تطمع في الفردوس، فهنالك أجمل عرس في الجنة الحورية، فأي كلام هذا الذي يقال لعروس يزف لعروسه؟ وما دخل عبارات الجهاد والمشانق بالزواج؟ وأين هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد سألته ماذا تقول في الأعراس ، فقال لها: قولي:

أتيناكم أتيناكم

فحيونا نحييكم

ولولا الحنطة السمرا

ما سمنت عذاريكم؟

هذا عند المتدينين الذين يقبلون بالإنشاد في الأعراس، فما بالنا بمن يرفضون الإنشاد من أساسه، ولا يرون العرس يقام إلا بمحاضرات دينية وطعام، ثم ينفض العرس، وهذا هو حفل العروسين.

إنها إذن أدبيات مرحلة هيمنت عليها البيئة التي عاشها الدعاة آنذاك، وظلت لفترة ليست بالقصيرة تهيمن على أدبيات وفقه الصحوة.

كل هذه العوامل كانت عائقا أمام من يتكلمون عن البنا وتاريخه من ذكر هذه الصفحة، وغيرها من صفحات أخرى، يتوجس المحبون للبنا خيفة من ذكرها.


خصائص الفن عند البنا

لقد امتازت تجربة البنا والفن بعدة خصائص تبين ملامح هذا المشروع الفني، وتبين الميزات التي امتاز بها، وهي بإجمال:

1- فن ملتزم، فقد امتاز الفن عند البنا بأنه فن ينطلق في دائرة الالتزام، ولا يحيد عنها، فله أخلاقيات ومبادئ يسير في إطارها، فلا يستدرج لمحرم حتى ولو كان مما يعجب الجمهور ويجذبه، كما في كثير من وسائل الفن غير المنضبط بضوابط الشرع، ولذلك لما هاجم أحد المتدينين مسرحية عن (الذبيح إسماعيل) عليه السلام، وأشاع أنهم أتوا محرما في ذلك، ومثلوا شخصية جبريل (عليه السلام) ، ولك يكن البنا قد شاهد المسرحية، فأوقفها البنا إلى أن يتبين من ذلك جيدا، وقال، نتوقف سدا للذريعة.

2- فن منفتح، كما امتازت تجربة البنا في الفن بالانفتاح، سواء في الانفتاح من حيث تكوين الفرقة، أو من حيث عرض الموضوعات، فلم يصر على أن يكون أعضاء الفرقة من تنظيم جماعة الإخوان فقط، أومن المسلمين فقط، بل رأينا عددا من فرقته ليست له علاقة تنظيمية بالإخوان، واستعان بالعنصر النسائي أيضا.

وكان منفتحا في موضوعاته التي تناولها وأداها، فلم يقف موقف التضييق من قضايا يجد فيها الإسلاميون اليوم حرجا شديدا في طرحها، بل إنكارا ، فرأينا أول مسرحية للإخوان يقدمونها على مسرحهم، (جميل بثينة) وهي مسرحية رومانسية، تتكلم عن الحب العذري العفيف.

3- فن واقعي، فهو فن لم يحلق بالناس في أجواء خيالية لا تمت إلى واقعهم، بصلة، فلم يأت لهم بقصص أو مسرحيات بعيدة عن واقعهم، وإن استلهم معظمه من التاريخ الإسلامي والعربي ، فعالج قضايا الحب والعروبة والوطنية، من خلال المسرحيات التي قدمها مسرح الإخوان المسلمين.

4- فن يجمع بين الصالة والمعاصرة، فهو يجمع بين أصالة الفكر والمنطلق، وبين معاصرة الوسائل والأدوات، لم يقف عند حدود القديم، مهملا الحديث ومستجداته، فيكون بذلك خطابا محنطا ، جلبا لزمان لا يصلح له.

عوامل نجاح تجربة البنا في الفن

لقد حالف النجاح تجربة البنا في الفن، لعدة عوامل ساعدت على هذا النجاح، ينبغي دراستها، وهي:

1- اعتماد مبدأ إنسانية الفن:

من أولى العوامل التي ساعدت على نجاح تجربة الإمام البنا في الفن، أنه تبنى مبدأ مهما في تناول الفن والتعامل معه، وهو مبدأ اعتماد إنسانية الفن في الحكم على الفن من حيث إسلاميته، وهو ما تبناه نظريا وكتابة فيما بعد الأستاذ محمد قطب (حفظه الله)، ولكن في مجال الأدب ، فتبنى مبدأ إنسانية الأدب، وقد سبقه إلى ذلك الأستاذ البنا في الفن، فتبنى المبدأ عمليا، ويبدو أنه ساقه إلى ذلك تنظير علمي، وإن لم يترجم إلى كتابة في كتابات الأستاذ البنا، فقد حاولت البحث في كل تراث الإمام البنا- المجموع منه وغير المجموع- كي أعثر على نص في هذا المقام فلم أجد، ولكني وجدته في تطبيقه العملي في تجربته، وأعني أن الإمام البنا تبنى مبدأ إنسانية الفن، أي أنه وضع أهدافا للفن الإسلامي، وأن هذا الهدف إذا تحقق – ولو على يد من لا يؤمنون بقضية الفن الإسلامي- فلنا أن نعتبر هذا الفن معبرا عن الفن الإسلامي.

وقد تأملت في هذا التوجه عند الأستاذ البنا، فألفيته منهجا إسلاميا بلا شك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم على المبادئ والمفاهيم والثقافات من حيث أهدافها ونفعها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن شعر أمية ابن أبي الصلت الشاعر الذي مات كافرا:" آمن شعره، وكفر قلبه".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء من خلا الله باطل . وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم".

قال الإمام النووي: مقصود الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية واستزاد من إنشاده، لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث، ففيه جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسماعه، سواء شعر الجاهلية وغيرهم.

فالنبي صلى الله عليه وسلم حكم على شعره بالإسلام، وإن لم يؤمن قلبه، وكان يستنشد صحابته ويستزيدهم من شعره، رغم كفر الرجل.

كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامية مبدأ وهدف حلف الفضول الذي عقد في بيت عبد الله بن جدعان ، قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وهو حلف لنصرة المظلوم، فقال عنه صلى الله عليه وسلم : " لقد شهدت عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".

2- تبنيه فقه التيسير:

كما ساعد الإمام البنا في تجربته الفنية أنه تبنى فقه التيسير في قضايا الفن، فإن فقه التيسير كفيل باستمرارية الفن، أما فقه التشدد فلا يمكن أن ينشأ في ظلاله أبدا، وأحب أن أوضح أمرا مهما هنا حتى لا نفهم قضية التيسير عند البنا خطأ، وهو: أن ما أعنيه بالتيسير هنا عند البنا: ليس التهاون أو التفريط، أو التساهل والتجاوز لأوامر الله ونصوص شريعته، فما يعقل أن يفعل ذلك البنا ولا عالم يخشى الله سبحانه وتعالى ، وإنما أعنيه بالتيسير : هو الميل في الفتاوى والآراء إلى الأيسر، وذلك يكون إذا كانت المسألة محل رأي واجتهاد اختلاف، أو كان فيها نص محتمل، وإذا تناولت أدلة الجواز والمنع، وهو في ذلك لا يخالف الشريعة، بل هو ملتزم بروحها ونصها ومقاصدها، وهو ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه والمسلمين جميعا، فقال: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" وهو منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي " ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما".

كما يعضد ذلك أيضا عدة أحاديث ، منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".

وقوله : " إن ابلله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته".

وقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله يحب أن تقبل رخصه، كما يحب أن تؤتى فريضته"

وسار الصحابة والتابعون على هذا النهج النبوي، يقول ابن عمر وابن عباس (رضي الله عنهما): "إن الله يحب أن تؤتى مياسره، كما يحب أن تؤتى عزائمه".

وقال إبراهيم التيمي:" إن الله يحب أن تؤتى مياسره ، كما يحب أن تطاع عزائمه" .

وقال عطاء:" إذا تنازعت أمران فاحمل المسلمين على أيسرهما".

وقال الشعبي: ما خير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما، إلا كان ذلك أحبهما على الله تعالى".

فالبنا لم يكن بدعا إذن أن تبنى فقه التيسير في قضية الفن، وذلك لتيسير عجلة الفن، فلو أن البنا – مثلا – وقف عند قضايا الفن متبنيا الرأي الأشد في القضية المطروحة لما أنشأ فنا، ولما اقترب منه سواء منشئا، أو حتى مشاهدا له، فلو استعرضنا القضايا المثارة فهيا في مسألة الفن، وتبنينا فيها قضية التشديد بديلا عن الآلات الموسيقية، فسنرى فتاوى تبرز عندئذ بحكم استخدام الآلات الموسيقية، وأنها محرمة ، ثم إذا كانت هذه الآلات حلالا، أو كان منها ما هو حلال شرعا، فمن يستخدم هذه الآلات؟ إنهم لا يجيزون ذلك إلا للمرأة، ثم يتفرع عن ذلك قضية أخرى، لمن تضرب المرأة أو آلة الموسيقى التي تباح عندهم؟ إنها لابد من استخدامها ذلك لسيدها، أو لزوجها ومحارمها فقط، حيث أنهم لا يجيزون للرجل استخدم ضرب الدف، فضلا عن الآلات التي يحرمون استخدامها بداية.

ثم الانتقال إلى قضية ثانية، وهي: من يعمل بالفن، ما حكمه؟ إن العمل بالفن- عند الرأي المتشدد- فيه حرج شرعي، وهو أنه خارم للمروءة، وبذلك تسقط شهادة من يعمل بالفن، وتجرح في عدالة شخصيته.

ثم تأتي قضية شرعية ثالثة تثار، حتى لو أجاز القائلون بالنهي عن استخدام الآلات، والعمل بالفن، فهم يثيرون قضية أخرى، وهي: لو كان العمل بالفن جائزا. فلا يجوز أن يكون الفن مهنة، يأخذ عليها الإنسان أجرا.

ثم إن اشتراك المرأة في الفن لا يجوز ، لأنه اختلاط، والاختلاط مذموم ومحرم شرعا، غير مفرقين بين ما هو من باب الجائز، وبين ما هو محرم لما يجلبه من مفاسد خلقية، وكذلك فإن صوت المرأة عورة، فلا ينبغي لها أن تبرز صوتها، فضلا أن تمثل أو تغني.

وهكذا، عدة قضايا فقهية تثار ، لو أن البنا وقف عند هذا الجدل الطويل الذي لا يقتنع فيه فريق برأي الفريق الآخر، لما تحرك تجاه العمل، ولما ظهرت لعمله ثمرة، بل إن الإمام البنا (رحمه الله) تخطى كل هذا بتنبيه فقه التيسير في الفن، والأخذ بأيسر الآراء في ذلك.

3- عامل بيني:

والحق أن أهم عامل ساعد البنا في ذلك، هو طبيعة المجتمع المصري آنذاك، ولم يكن عهده من يشوش على مسيرته الفنية تشويشا يعيقه بصورة شديدة كما هو الآن، فأكبر الأمور التي يمكن تحدث وقتها أن يهاجمه كاتب في مقال، وينتهي عند هذا الحد، وليس كما نرى الآن تجهيز ترسانة علمية من الكتب، والمقالات، والمجلات، والمنشورات، والفضائيات ضد من يخالف بعض التوجيهات في رأي فقهي، فلو قارنا ذلك- مثلا- في حياة البنا الدعوية بفتوى واحدة للشيخ يوسف القرضاوي الذي قامت الدنيا وما قعدت لرأي ذكره يجيز فيه عمل المرأة بالتمثيل الذي وضع شروطا تضبط الأمر، كأن يكون اشتراكها ضروريا، وأن تظهر بلباس الإسلام، ولا تضع المساحيق، وأن يراعي المخرج والمصور عدم إبراز مفاتنها والتركيز عليها في التصوير، فقام عدد من كتاب الدعوة السلفية بمخالفته ومهاجمته كتابة، بل ومن كتاب الإخوان كذلك، وأفردت مجلة (المجتمع) الكويتية أعدادا لذلك.

فالبيئة العلمية والدعوية في عهد الأستاذ البنا نراها قد سبقت مهما في التطور الفكري، بدأ هذا التطور في الانحسار فيما بعد، فمثلا مما تستهجنه الساحة العلمية والدعوية الكتابة عن الأحياء، والإشادة بجهودهم، ومدحهم والثناء عليهم بما يستحقون، ولكن على عهد البنا كانت البيئة تسمح بذلك وتتقبله، كما رأينا من كتابات كتبن عن البنا في حياته، ككتاب (روح وريحان) لأستاذ أحمد أنس الحجاجي، وكتابة الأستاذ محب الدين الخطيب عن البنا في مجلة (الفتح) مقالا كاملا عنه بمناسبة مرور عشرين عاما على دعوة الإخوان، وكتاباته كذلك يشيد بالكاتبين الشابين، الشيخ محمد الغزالي، والأستاذ سيد قطب.

وفي عهد البنا صدرت مجلة (الإخوان المسلمون) النصف شهرية ثم الأسبوعية، وعلى غلافها صورة لعالم أزهري، تزين وجهه لحية سمراء، ويعلو أنفه نظارة طبية، وقد ارتدى الزى العسكري، وقد بدا في الصورة رابضا-كالأسد - على بطنه، ويده على الزناد، يتدرب على سلاح من أسلحة القتال، كان هذا الشيخ الأزهري هو الشيخ سيد سابق (عليه سحائب الرحمة والرضوان) ، وكان شابا آنذاك، وقد علقت المجلة بهذه العبارات تحت صورة الشيخ:

راهب وفارس..

فضيلة الأستاذ الشيخ سيد سابق فقيه الإخوان، ومن خيرة علماء الأزهر، ومحرر الصفحة الفقهية (أي بالمجلة) ومؤلف فقه السنة، أبى عليه فهمه الصحيح لدعوة الإخوان إلا أن يكون في طليعة المجاهدين بفلسطين.

هذا نموذج أردت أن أضربه لأبين للقارئ كيف كانت بيئة البنا ومناخه العلمي آنذاك من العوامل المساعدة لذلك، وهو ما انتفى عن طبيعة المناخ العلمي والدعوي فيما بعد.

كما أن الزمن وقتها كان يسمح بالفن الملتزم، ولا يرى حرجا من ذلك، كما رأينا من وضع البنا برنامجا لأي ضيف يأتي مصر من الخارج أن يصحب الضيف إلى الأوبرا، وقد حكى ذلك عنه أحد سكرتاريته الحاج محمود أبو رية، وقد ذكر أنهم ذهبوا مرة بأحد الضيوف، ولم يجدوا عددا من التذاكر يكفي لدخول الجميع، فطلب منهم الأستاذ البنا أن يدخلوا ويصحبوا معهم الضيف، وينتظرهم هو في مكان آخر على نهاية العرض.

فقد كان يذهب للأوبرا في هذا الوقت أيضا عدد من علماء الأزهر المبجلين، وكانوا يقيمون علاقات مع الفنانين من أصحاب الفن المحتشم، كالشيخ محمد مصطفى المراغي – شيخ الأزهر- الذي ذهب إلى الأوبرا، وحضر فيها بعض الاحتفاليات، والغريب أن الشيخ المراغي ذهب للأبرا في الثلاثينيات من القرن الماضي، ولم ينتقد هذا الصنيع أحد من علماء عصره، ثم جاءت مرحلة الثمانينيات لتكتب مجلة (التوحيد) ، التي تصدر عن جماعة أنصار السنة، لتنبش في ماضي الرجل، كاتبة هجوما حادا عليه، جاعلة عنوان المقال: عمائم في الأوبرا، مما اضطر ابن ه الدكتور إسماعيل المراغي أن يكتب توضيحا في الفرق بين أوبرا الماضي وأوبرا الحاضر، وأن أوبرا الماضي كانت تراعي البيئة والالتزام فيها، فكانت تقدم فنا غير مسف.

وهناك أيضا الشيخ مصطفى عبد الرازق- شيخ الأزهر- المعروف بعلاقته بالفنانين، وعلى رأسهم: محمد عبد الوهاب وأم كلثوم.

كما كان بين الفنانين من يحمل لقب الشيخ، ويباهي بذلك، ولا يجد حرجا فيه، ولا تستنكف الطبقة الفنية من ذلك، ولا تلفظه ولا ترفضه، كالشيخ سلامة حجازي، والشيخ زكريا أحمد، والشيخ إمام عيسى، إلى آخر مطرب من طبقة المشايخ الشيخ سيد مكاوي.

هذه البيئة وهذا المناخ- لا شك- كان له عامل كبير في نجاح تجربة البنا (رحمه الله) في الفن.

4- اعتماده على المختصين:

وقد ساعد البنا في نجاح تجربته الفنية، أنه ارتكز بشكل أساسي على المختصين في هذا الفن، فقد اعتمد على مختصين في كل شق فني، بداية بالكتابة المسرحية، فلم يأت بأي كاتب هاو للكتابة الأدبية، بل كتب معظم مسرحيات مسرح الإخوان آنذاك الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الأستاذ البنا، وهو أديب مطبوع، وكاتب مسرحي معروف بهذا التوجه.

كما اعتمد البنا على مختصين في أداء المسرحيات الفنية، فقد رأينا أعضاء فرقته- فيما بعد- من عمالقة الفن العربي، وقد ذكرنا عددا كبيرا من أسمائهم من قبل.

بل حتى في دعايته للمسرحيات، كان الأستاذ البنا يعتمد في ذلك على المختصين، ويقوم بالدعاية الكافية لذلك، التي تجلب الجمهور لمشاهدة فن فرقته.

5- تبني قضية الفن جماعيا:

ومن عوامل نجاح تجربة البنا فنيا، أنه تبنى قضية الفن، وجعل منها قضية أولاها اهتماما ورعاية وعناية، فقد كان الأستاذ البنا رغم أنه أوكل إدارة أمر الفرقة المسرحية لأخيه الأستاذ عبد الرحمن البنا، إلا أنه دعا لإنشاء فرق في معظم شعب الإخوان، وتمرين طلاب الثانوية والجامعة على التمثيل المسرحي، بل كان البنا يحضر بنفسه البروفات والإعداد للمسرحيات، ويولي ذلك اهتماما كبيرا، وكان العمل الفني عند البنا أشبه ما يكون بالعمل المؤسسي والمختص، لا من باب الهواية، أو على هامش الحياة، وهذا هو الفارق بين مسرح البنا، ومسرح الإسلاميين بعد البنا.

لماذا أخفقت التجربة بعد البنا؟

بقي أن ندرس هنا أمرا مهما، وهو " إذا نجحت التجربة الفنية في عهد الأستاذ البنا بهذا لنجاح المتميز، فلماذا لم تستمر التجربة بعده، وأخفقت فيما بعد؟ بل واختفى الفن في جماعة الإخوان المسلمين إلى فترات ليست بالقصيرة ، حتى بعد خروجهم من السجون في بداية السبعينيات، وحتى محاولاتهم الفنية التي تلت الفن عند الإسلاميين؟ أما عن أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق التجربة بعد الأستاذ البنا، فهي:

أولا، تأثر الخطاب الإخواني بالخطاب السلفي: فالخطاب الإخواني بعد حسن البنا تأثر تأثرا واضحا بالخطاب السلفي- وخاصة التيار السلفي المتشدد- وساعد في ذلك أمران:

1- سفر عدد من علماء ومفكري الإخوان إلى الخليج، وتأثرهم بهذا الجو العلمي، فنضح على كتاباتهم وأفكارهم.

2- انتعاش البلاد التي تتبنى المنهج السلفي انتعاشا اقتصاديا، مما جعل حركة توزيع الكتب المجانية التي تدعو للمنهج السلفي تغزو البلاد التي كانت في حالة خصام مع هذا المنهج كمصر وبلاد الشام وبلاد المغرب العربي، مما صنع هذه الأرضية لهذا الفكر.

وهو أمر نلمسه في كتابات عدد من مفكري الإخوان، حتى المعتدلين منهم، فلا أدري لماذا الإصرار عند عدد من كتاب الجماعة على تناول كثير من القضايا العلمية الشائكة التي بين الإخوان والسلفيين، يحاول الكثير منهم الوصول لنص لابن تيمية، كي تسكت الأصوات المعترضة، ومن هؤلاء من لهم ثقل لكلامه بدون حتى الاستشهاد بأحد، ولا أريد أن أذكر مؤلفين بعينهم، ولا مؤلفات بعينها، وليس معنى كلامي أني أبخسهم حقهم، بل أعجب من تنامي هذه الظاهرة عند كتاب ومنظري الإخوان.

فالصواب: أن يكتب المفكر أو العالم ما يكتب، مستدلا على ذلك بالكتاب والسنة، فهما الأصلان اللذان لا يختلف عليهما أحد، ولا ينبغي أن يعتمد على غيرهما وسيلة للإقناع، ومن لم يقتنع بالكتاب والسنة، فلا يبالي به صدقه أم كذبه، اقتنع بفكره أم لم يقتنع.

إنني اقدر عبقرية وعلم وجهاد شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكني لست مع هذه الهالة من التقديس لكلام الرجل، وهو نفسه (رحمه الله) كان ضد هذا الكلام، أو أن نعطي لكلام ابن تيمية قوة تعادل قوة النص الشرعي، بل أعلى منه، فهذا هو الخطأ، وما لا يقبل بحال من الأحوال، ولا نريد بذلك ترضية فريق على حساب الحقيقة العلمية، والدليل الشرعي.

ثانيا: انتشار مبدأ سد الذرائع:

فقد انتشر بين أبناء الحركة الإسلامية مبدأ: سد الذرائع ، على مبدأ: الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا أتى نص يدل على التحريم، أو بالمعنى العامي طغى مبدأ :" الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح" على مبدأ: المبادرة والجرأة في التجريب، أي إغلاق باب المباح، بدلا من فتحه، وذلك خوفا من ن يفتح بذلك باب للهجوم على الدعوة من خصومها، ولو كان ذلك على حساب ترك المباح، أو المختلف فيه، وما أباحه عدد من العلماء.

ثالثا: بعض حوادث العنف التي مارسها التنظيم الخاص:

والعامل الثالث، هو كم حوادث العنف والقتل التي مارسها التنظيم الخاص من خلف ظهر الأستاذ البنا، وضد أهداف الدعوة، بل وضد مصلحتها، فقد أفقدت بعض أعمال التنظيم الخاص- غير المبررة وغير المسئولة- أهم مساحتين في الدعوة العامة بين الناس والصفوة كذلك، وهما: فئة الفنانين ، وفئة المثقفين، فقد توقف هذا المشروع الفني العملاق، الذي لو قدر له الاستمرار لكان للدعوة بين الجماهير شأن آخر، وكذلك كانت هذه الأحداث المؤسفة سببا في قيام عدد من المثقفين الذين كانت علاقتهم بالإخوان علاقة ود وصداقة، ومحبة وتأييد، إلى علاقة عداء وحرب، وكانوا خنجرا في ظهر الإخوان وأفكارهم، فقد صدر أخطر كتاب يهاجم الفكرة الإسلامية- والإخوانية خاصة- في أهم ركن فيها، وهي أن الإسلام دين ودولة، فخرج كتاب الأستاذ خالد محمد خالد ( من هنا نبدأ) الذي أنكر فيه أن للإسلام دولة، وبين أنه دين فقط، وليس دينا ودولة، ولما عاد الأستاذ خالد عن فكرته هذه ، وبين خطأ فكرته القديمة بعد اعترافه في كتابه الجديد (الدولة في الإسلام) بأن الإسلام دين ودولة، بين أن السبب الذي جعله يجنح بعيدا عن التفسير الحقيقي للإسلام في هذه القضية هو أحداث التنظيم الخاص في نهاية الأربعينيات، يقول الأستاذ خالد محمد خالد ( رحمه الله) :" أما العامل الثاني الذي شكل تفكيري وموقفي من الحكومة الدينية فقد كان عاملا موقوتا بزمانه، ولكني جعلت منه قاعدة عامة بنيت عليها حكمي القديم.

ذلك أن الإخوان المسلمين كانوا قد بلغوا خلال الأربعينيات من الكثرة والقوة والنجاح مبلغا يكاد يكون منقطع النظير.

كانت دعوتهم تسري بين الناس كالضوء، وكان الشباب بصفة خاصة يقبلون عليها إقبال أسراب النحل على رحيق الزهور.

وذات يوم والجماعة في أوج مجدها الباهر، لا ندري: هل انبثق منها، أو أقحم عليها وتسلل إليها ما سمي بالتنظيم السري، وارتكب هذا الجهاز جرائم منكرة، وتوسل بالاغتيالات لفرض الدعوة، الدعوة التي كانت قد حققت بالإقناع والمنطق ما لم تحققه دعوة أخرى، والدعوة التي كانت لباقة مرشدها الأستاذ حسن البنا (رحمه الله) وإخلاصه يفتحان له الآذان الصم، والقلوب الغلف، ويسلسان له قيادة الجماهير كافتهم ومثقفيهم.

لفتت حوادث الاغتيال التي مارسها ذلك الجهاز السري انتباه الناس، وروعت أفئدتهم ، وكنت من الذين أقض مضجعهم هذا النذير، وقلت لنفسي: إذا كان هذا مسلك المتدينين وهم بعيدون عن الحكم، فكيف يكون مسلكهم حين يحكمون؟

كان هذا هو العامل الثاني الذي جنح بتفكيري إلى التحذير من قيام حكومة دينية باسم الإسلام.

وانقلب الكاتب الكبير عباس محمود العقد- الذي كانت علاقته بالأستاذ البنا علاقة طيبة- إلى خصم عنيد وشديد، وذلك بعد مقتل النقراشي، فالنقراشي كان صديقا عزيزا للعقاد، فلما قتل على يد بعض أفراد التنظيم الخاص، انبرى العقاد بقلمه وأسلوبه الحاد يهاجم الإخوان، ويتهم حسن البنا بأنه ماسوني، وكذلك قان بنفس الدور عدد من المثقفين بعد حادث المنشية، ومنهم من كان صديقا ودودا لدعوة الإخوان.

كل هذه الأحداث كانت كفيلة بإنهاء هذه التجربة الفنية لجماعة الإخوان، ثم كان من أحداث، وتغييب جماعة الإخوان خلف أسوار السجون لمدة بلغت العشرين عاما.

هذه بعض الأسباب التي منعت تجربة الإخوان الفنية من الاستمرار بنفس القوة التي بدأت بها، واستمرت لفترة امتدت لعشر سنوات أو أكثر.

التجربة الصحفية الرائدة للإمام الشهيد حسن البنا في دعوة الإخوان المسلمين

د. محمد فريد محمود عزت

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله.. وبعد.

فقد ولد الإمام الشهيد حسن البنا في شهر أكتوبر 1906 م بقرية المحمودية مديرية (محافظة) البحيرة، واستشهد (عليه رحمة الله ورضوانه) في 12 من فبراير 1949 م باغتياله بتحريض من القوى الظالمة الحاكمة في مصر حينئذ.

ويطيب لي- في مناسبة مئوية الإمام البنا- أن أقدم الشكر خالصا، والتقدير وفيرا، إلى (مركز الإعلام العربي) برئاسة الأستاذ صلاح عبد المقصود وزملائه الكرام، لتنظيمه هذه الذكرى العطرة لمئوية رائد غير مسبوق من رواد الدعوة الإسلامية في أوائل القرن العشرين، وكذلك لتوجيه الدعوة لي شخصيا ولغيري من الإخوة الأماجد، للمشاركة في هذه المناسبة الطيبة، سائلا المولى سبحانه وتعالى أن يجازي الجميع بخير الجزاء ويجزل لهم في العطاء.

ثم يسعدني أن أتقدم بهذه الورقة تحت عنوان " التجربة الصحفية الرائدة.. للإمام الشهيد حسن البنا في دعوة الإخوان المسلمين" للمساهمة بها في جانبي في هذه الذكرى االمباركة، وقد حاولت جهدي- وهو جهد المقل – فإن أصبت فبه، وللمجتهد إن اصب أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن جانبني الصواب، فحسبي أنني اجتهدت، وللمجتهد إن أخطأ أجر اجتهاده، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويهمني في هذا الصدد أن أذكر أن الاعتماد الأساس في إعداد هذه الورقة، كان على كتاب "مذكرات الدعوة والداعية" بقلم الإمام الشهيد حسن البنا- دار الشهاب- القاهرة 1966م" ، وكتاب " وسائل الإعلام المطبوعة في دعوة الإخوان المسلمين، إعداد: محمد فتحي على شعير- دار المجتمع للنشر والتوزيع،جدة، الطبعة الأولى 1985م" وكتاب " صحافة الإخوان المسلمين دراسة في النشأة والمضمون من 1933 إلى 1954- للدكتور شعيب الغباشي- دار التوزيع الإسلامية القاهرة عام 2000م " وكتاب " الصحافة الإسلامية في مصر بين عبد الناصر والسادات، للدكتور محمد منصور محمود هيبة- دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع- المنصورة، الطبعة الأولى 1990م" وكتاب " تاريخ الصحافة المصرية 1798- 2003م للدكتور محمد فريد محمود عزت، وله أيضا " القاموس الموسوعي للمصطلحات الإعلامية- إنجليزي/ عربي- القاهرة، العربي للنشر والتوزيع 2003م" إلى جانب عدد آخر من المراجع الفرعية، وهذا اعتراف مني بالخير لأهله، وإقرار بالفضل لذويه، وأسأل الله أن يجزينا جميعا خير الجزاء، ويجعل ذلك في ميزان حسناتنا، إنه سميع مجيب الدعاء" والله سبحانه وتعالى من وراء القصد، والهادي إلى سواء السبيل.

تمهيد

إن الإعلام في الدعوات يعتبر عاملا مهما وأساسيا، وله تأثير كبير في مدى انتشار تلك الدعوات، وتغلغلها في مختلف الأوساط والبيئات والدول، وفي هذا الصدد يقول فضيلة الأستاذ مصطفى مشهور- المرشد العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين (عليه رحمة الله ورضوانه) : إن الإعلام يثبت كل يوم دوره الفعال في الحياة عامة، وفي الجانب السياسي خاصة، وقد اهتم الإمام الشهيد حسن البنا بهذا لجانب رغم الظروف الصعبة اليومية، وأيضا من خلال المؤسسات الصحفية التي أولتها الجماعة اهتماما كبيرا، إضافة إلى دور النشر، ووكالات التوزيع، مع الحرص على استمرارية وتواصل الرسالة الإعلامية وسط ظروف الملاحقة، والمصادرة من قبل السلطات الرسمية.

وأصحاب الدعوات بالإضافة إلى كونهم دعاة، فهم أيضا رجال إعلام وليس العكس صحيحا دائما.. فالإعلام صورة من صور الدعوة والتبليغ، وهو مصدر الرسالة الإعلامية- في ضوء الإسلام- لابد أن تكون له سمات مميزة في مقدمتها: الالتزام بتطبيق المنهج الإسلامي، والصدق، وتحري الحقيقة، وقوة الحجة، وفنية الأسلوب، واتخاذ الفصحى للتعبير عن أفكاره وآرائه.

وقد اتصفت شخصية الإمام الشهيد حسن البنا بهذه السمات المميزة السابقة، إلى جانب سمات أخرى كونت شخصيته كصاحب دعوة، ووضعته في مقدمة رجال الإعلام الإسلامي المعاصرين، دون أي مبالغة أو مجافاة للحقيقة، فقد أجمع الذين كتبوا وتحدثوا عن الإمام الشهيد- مادحين أو قادحين- أنه كان ذا شخصية قوية، ومن أبرز مظاهر شخصيات : ذكاؤه الفطري، وذاكرته القوية، وبراعته الفائقة في معالجة المشكلات حسب مقتضى الأحوال، وسيطرته على أتباعه مع اختلافهم في البيئة والثقافة والمكانة الاجتماعية، ثم الثقة التي لا حدود لها بنفسه دون غرور ولا غفلة ولا عنجهية، بالإضافة إلى أنه رزق بنية كانت سندا له في دعوته، إذ لولاها ما احتمل مشاق الأسفار الكثيرة، وأعباء العمل المتواصل طوال النهار وأكثر الليل، وجهد الخطابة والكتابة، والاجتماعات المتواصلة، والاطلاع على جميع الأعمال في المركز العام والفروع، وفوق ذلك الصدمات المتوالية التي تزعزع الجسم وتوهنه.

وأجمعوا أيضا على أن الإمام الشهيد قد جمع إلى جانب ما سبق بين العبقرية الفذة، والبصرية النافذة، فالعمل الذي قام به يشهد له بعبقرية فذة، وبصيرة نافذة، وقد تجلت عبقريته الفذة في أنه استطاع أن يعرض الإسلام في صياغة جديدة جذابة مرنة سهلة مقنعة، وأعانه على ذلك في مجال الصياغة، عقلية ناضجة، وفكر ثاقب، وأفق واسع، وأعانه على ذلك أيضا في مجال الإقناع قدرته الفائقة على التعبير والتأثير والعطاء الإسلامي السخي، كذلك تجلت بصيرته النافذة، في أنه استطاع أن يشيد بناء جديدا للدعوة الإسلامية وأن يقدم صياغة جديدة للفكر الإسلامي، واستطاع أن يرد للمفاهيم الإسلامية الصحيحة اعتبارها بعد أن ظلت آمادا طويلة غائبة في أذهان المسلمين البسطاء، قابعة في أدمغة القلة من المسلمين المثقفين، لا تكاد تغادرها إلى ألسنتهم حتى عود إليها، كذلك استطاع أن يحول المعاني الإسلامية إلى أفعال، والزعيم المسلم وقائد الدعوة الدينية لابد أن يجمع بين كل هذه الصفات والسمات.

وقد أسس الإمام الشهيد حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية (شوال 1346هـ مارس 1928م)، بهدف الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، والعمل لع، وتطبيقه في جميع مجالات الحياة، وبعد خمس سنوات، وبالتحديد في جمادي الثانية عام 1351هـ- أكتوبر 1932م، انتقل الشيخ من الإسماعيلية إلى القاهرة، وانتقلت بذلك الدعوة إليها وواصلت المسيرة االمباركة منها، وانتهت فترة حياة الإمام الشهيد، القصيرة في مدتها، العريضة في تأثيرها (1368هـ - 1949م)، باغتياله بتحريض من القوى الظالمة الحاكمة في مصر وقتئذ ، وبالتحديد في يوم 12 من فبراير 1949م ( عليه رحمة الله ورضوانه)

الوسائل الإعلامية المتاحة

ونظرا لأهمية الإعلام ودوره الفعال في مجال انتشار الدعوات، واهتمام الإمام الشهيد البنا به، واقتناعه بفائدته، فقد تجلت عبقريته الفذة وبصيرته النافذة وإرادته القوية، في تمكين جماعة الإخوان المسلمين من استخدام كافة وسائل الإعلام المتاحة لهم، لنشر دعوتهم في حدود إمكانياتهم، وتواصلت بصفة خاصة في عهود المرشدين الثلاثة الأول (حسن البناحسن الهضيبي- عمر التلمساني) وفق الخط الذي رسمه الإمام البنا من البداية، بحيث يزيد اللاحق في البناء على السابق، ويعليه وينميه ويطوره، ويسير به إلى الأحسن.

وقد تمثلت هذه الوسائل الإعلامية المتاحة وفي حدود الإمكانيات، في نوعين أساسيين: النوع الأول ويضم الوسائل الإعلامية المطبوعة، وهي كل المطبوعات التي أصدرها المرشدون والإخوان المسلمون من كتبن ورسائل ونشرات، ومنشورات، وصحافة وهذه الأخيرة تمثل الجزء الأساس والعمود الفقري لهذه الورقة، وسنتكلم عنها فيما بعد" أما النوع الثاني الذي سنعرض له باختصار فقط في هذا التمهيد، فيشتمل على العديد من وسائل الإعلام غير المطبوعة، والتي أجاد الإخوان المسلمون استخدامها بقيادة مرشديهم وكبار دعاتهم، ومنها: وسائل المواجهة الجماهيرية عن طريق الخطابة والمحاضرات لإيصال الدعوة ونشرها في صفوف الشعب، وكان المسجد هو المكان الأساسي الذي تمارس فيه هذه الوسيلة، وابتداء من عام 1358هـ - 1939م كانت محاضرات أمسية الثلاثاء، وأحاديث الثلاثاء عبارة عن اجتماعات شعبية تعقد في المركز العام طيلة الوجود الرسمي للجماعة، تعززها محاضرات متخصصة في شتى أنحاء المعرفة في ليالي أخرى من الأسبوع، كذلك استخدم الإخوان المسلمون وسيلة الخطابة في المناسبات الشعبية المختلفة، وغالبا ما تقام في سرادقات وسط الأماكن الجماهيرية التي تجذب جمعا كبيرا من الناس علاوة على الإخوان أنفسهم.

كذلك استخدم الإخوان المسلمون مجال الرياضة كوسيلة للإعلام بالدعوة، خصوصا في صفوف الشباب الذين تستهويهم الرياضة في هذه السن، ومن منطلق إعداد الأخ المسلم الكامل الذي يمكنه تحمل تبعات الجهاد، وكانت الرحلات عند الإخوان المسلمين ذات أهداف متعددة، فهي بالنسبة للرحلات الجماعية تزيد الترابط بين أفراد الإخوان، وبالنسبة للدعاة فهي وسيلة إعلامية لنش الدعوة في الأماكن التي بالدعوة يتوجهون إليها، ومن وسائل الإعلام الرياضي أيضا استخدام الحركة الكشفية والجوالة والمعسكرات للإعلام.

واستخدم الإخوان المسلمون كذلك وسائل الإعلام التربوي لنشر دعوتهم وتثبيتها في صفوف الصغار والكبار، وتمثلت هذه الوسيلة في مجالين: الأول عام عن طريق المدارس بمختلف أنواعها ومراحلها، والتي أنشئوها منذ تكونت الجماعة في الإسماعيلية، أما المجال الثاني فهو مجال التربية الفردية، من خلال تنظيمات الجماعة الداخلية فيما عرف بنظام الكتائب ونظام الأسر.

كما استخدم الإخوان المسلمون الخدمات الصحية بشتى أنواعها كوسيلة الإعلام بالدعوة عن طريق المؤسسات والجهود التي يقومون بها في هذا المجال، وأيضا كانت الخدمات الاجتماعية التي يقومون بها تعتبر من وسائل الإعلام بالدعوة منذ نشأة الجماعة، بهدف إصلاح المجتمع أفرادا وأسرا وشعوبا، وحكومات، وكل شأن من شئونهم- كما يراه الإسلام، واستخدم الإخوان المسلمون كذلك المجال الاقتصادي كوسيلة من وسائلهم الإعلامية المتعددة لنشر الدعوة ، فبذلوا الجهود في ميادين المشروعات الصناعية والتجارية والنشاط العمالي.

وكانت هناك أيضا وسائل الإعلام السياسي التي استخدمها الإخوان المسلمون لنشر الدعوة، وتمثل ذلك في عقد المؤتمرات في المجالات المختلفة للتعبير عن آرائهم في الدفاع عن قضايا الإسلام، سواء في مصر والخارج، والكتابة إليهم لتوضيح فكر الإخوان المسلمين، ورأيهم فيما يعرض من خلال المجالس التشريعية، واستخدموا المظاهرات كوسيلة إعلامية سياسية أيضا للتعبير عن سخطهم، أو تسجيل مواقف بالنسبة لبعض القضايا المحلية والإسلامية، وأيضا كانت هناك وسائل أخرى استخدمها الإخوان المسلمون لتحقيق جوانب من أهداف دعوتهم والتعريف بهم،ومنها شعارات الإخوان كالشارات التي توضع على الصدر، أو الخاتم بالإصبع، والاتصال الشخصي مع الأفراد من مختلف طبقا للمجتمع، والقدوة الحسنة بين الناس، وإقبالهم على الجهاد في سبيل الله في فلسطين والقناة.

المطبوعات غير الصحفية

كان ما سبق عرضا لبعض ملامح وسائل الإعلام غير المطبوعة، التي اعتمد عليها الإخوان المسلمون- بتوجيه من الإمام الشهيد حسن البنا – واستخدموها على نطاق واسع كوسيلة إعلامية لنشر دعوتهم في مختلف المجالات. أما المطبوعات غير الصحفية التي اهتم بها الإخوان المسلمون كوسيلة إعلامية مهمة لبيان منهجهم، وتوضيح فقههم لدعوتهم، ونشرها والتعريف بها، فكانت تتمثل في المؤلفات التي صدرت عن الجماعة من الكتب والرسائل أثناء انعقادها القانوني، والبعض الآخر تم تأليفه رغم حل السلطات الحاكمة لهذه الجماعة، وما كان لرجال صهرتهم دعوة الإخوان المسمين ليتوقفوا عن التأليف مهما قست الظروف وتعقدت الأمور، وكذلك المؤلفات التي صدرت من الكتاب الإسلاميين الذين تأثروا في كتاباتهم بانتمائهم لجماعة الإخوان المسلمين كدعاة من دعاتها، فقد ألف الباحثون والمفكرون من الإخوان المسلمين الكتب في ميادين الاجتماع والأدب والتاريخ والتفسير والحرب والدعوة والسياسة والفقه والسيرة النبوية والقانون ومختلف جوانب الفكر الإسلامي، وانتشرت الكتب التي ألفها هؤلاء الكتاب، وكان لهذه المؤلفات الأثر الكبير في إثارة الشعور الإسلامي بين المسلمين، وارتفاع الوعي الإسلامي بينهم، الأمر الذي حاول الكثير من الشباب إلى أفرد حركيين آمنوا بالخط الإسلامي، وانتظموا في سلك جماعة الإخوان المسلمين، وفي الجماعات الإسلامية التي حذت حذوها.

ومما ساعد على نشر الكتاب الإسلامي كذلك تخصص بعض الشباب ممن انتسبوا على دعوة الإخوان المسلمين في مجال الطباعة والنشر، فأنشئوا دور النشر والتوزيع المختلفة، فأصبح الكتاب الإسلامي يجد له مجالا متسعا للنشر بعد أن كان مضيقا عليه من قبل، عندما كانت تسيطر على معظم دور النشر والتوزيع عناصر أقل ما يقال عنها أنها غير إسلامية، بالرغم من أن بعضها كن مملوكا لأفراد تسموا بأسماء إسلامية.

وقد توالت الرسائل التي صدرت عن الجماعة، وهي تلك الكتيبات الصغيرة القليلة الصفحات، والتي تشرح غالبا الفكرة أو تبين الدعوة بطريقة موجزة، والتي صدرت بصفة دورية أو غير دورية، ومنها ما يشير إلى أعمال الإخوان الاجتماعية، ومنها ما هو شرح لأهداف دعوتهم، ومنها ما هو توجيه للحكومات إلى الأخذ بتعاليم الإسلام، ومنها ما سبق نشره في مجلات الإخوان على هيئة حلقات وتم تجميعها في هذه الرسائل.. ومعظم ما صدر من تلك الرسائل، كان من تأليف المرشد العام الشيخ حسن البنا، وبعض المؤلفات تم طبعها في حياته، والبعض الآخر بعد استشهاده، ومنها رسائل :دعوتنا- إلى أي شئ ندعو الناس- نحو النور- إلى الشباب- الإخوان المسلمون تحت راية القرآن- دعوتنا في ور جديد- بين الأمس واليوم- مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي- رسالة الجهاد- نظام الأسر- رسالة التعاليم- العقائد- المأثورات- الوصايا العشر- الله في العقيدة الإسلامية- المناجاة- عقيدتنا- إلى إخوان الكتائب- المنهاج- المؤتمر الخامس- المؤتمر السادس- هل نحن قوم عمليون؟ - نظرات في كتاب الله- نظرات في السيرة- مقدمة في التفسير- مجموعة مقالات حسن البنا الجزء الأول)- أحاديث الجمعة- مذكرات الدعوة والداعية.

كما استخدم الإخوان المسلمون النشرات المطبوعة في بعض الفترات التي لم يكن لهم فيها جرائد أ مجلات تنطق باسمهم، وهذه لا تحتاج إلى ترخيص لإصدارها، وكانت توزع مجانا على أخبار المركز العام، ونشاط الأقسام، وسير الدعوة في الأقاليم، وتوجيهات من فضيلة المرشد العام ومن القسم، كما احتوت على البيانات والأحاديث الصحفية التي أدلى بها المرشد العام ولم يتسع صدر الصحف لنشرها، ويلاحظ على هذه النشرات صغر حجمها، وقلة عدد صفحتها، وتميزها بالأسلوب السهل والاختصار في سرد الأخبار والتعليمات.

المطبوعات الصحفية

وفيما يتعلق بالمطبوعات الصحفية- وهي العمود الفقري لهذه الورقة باعتبارها "التجربة الصحفية الرائدة للإمام الشهيد حسن البنا في دعوة الإخوان المسلمين – فيهمنا أن نؤكد أن صحافة الإخوان المسلمين في مراحلها المختلفة، كان من طبيعتها الوفاء، والالتزام بصدق التعبير، وأمانة الكلمة، والبعد عن مواطن الشبهات وتوخي الحقيقة على الدوام، كما كانت مثالا للنزاهة، فلم يثبت إلى اليوم- كما يقول محمد عبد الله الخطيب- أن صحيفة من صحف الإخوان أخذت مليما واحدا من أي جهة من الجهات، بل كانت – وما زالت- جيوب الإخوان هي الممول الوحيد، وهي المصدر الأول والأخير لكل أعمال الإخوان، وتدعيما لذلك وتأكيدا له فقد كتب الأستاذ أحمد أبو الفتح في جريدة الوفد في مقاله الأسبوعي يقول: من أراد أن يتعلم الصحافة والعمل الصحفي النزيه، فليتعلم من " مجلة الدعوة" – لسان حال الإخوان- وأشاد بهذا العمل الجدي الأمين، والعطاء الممتد، والأمانة الصحفية، والبعد عن كل مواطن الشبهات.

ونظرا لأهمية الإعلام وخطورته بوجه عام، والصحافة بوجه خاص نجد أن جماعة الإخوان المسلمين منذ أن ظهرت على الساحة الإسلامية في (شوال 1346هـ - مارس 1928م) بمدينة الإسماعيلية تنبهت إلى أهمية الدور الذي تقوم به الصحافة في التأثير والهيمنة، وتغيير الآراء والأفكار ومن هنا أينا الإمام الشهي حسن البنا- مؤسس الجماعة- قد وثق علاقته بالصحف الإسلامية التي كانت قائمة قبل أن تكون له صحف ينشر فيها آراءه وأفكاره، فصارت هذه الصحف منبرا عاما للإخوان المسلمين، تنشر لهم أخبارهم ومقالاتهم، إلى أن تمكن الإخوان من إصدار أول مجلة لهم بعد انتقال مركز الدعوة إلىالقاهرة، وهي " جريدة الإخوان المسلمين" الأسبوعية في يونيو 1933م، ومنذ هذا التاريخ وحتى مصادرة صحفهم، وحل جماعتهم على يد الرئيس السبق حمال عبد الناصر في عام 1954م، ثم قرار الرئيس السادات بإلغاء تراخيص الصحف في 5 سبتمبر 1981م، فقد أصدر الإخوان المسلمون 15 صحيفة ما بين مجلة وجريدة.

وكان الدافع وراء إصدار الإخوان المسلمين لهذا العدد من الجرائد والمجلات هو إحساسهم العميق بأهمية الدور الذي تقوم به الصحافة في نشر دعوتهم، وتحقيق أغراضهم، وتوصيل آرائهم، وتقديم مبادئهم للجماهير المؤمنة، وعندما صدرت مجلتهم الأسبوعية الأولى " جريدة الإخوان المسلمين" عام 1933م لم يكن قد مر على تأسيس الجماعة أكثر من أربع سنوات، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على فهم الإخوان المسلمين لمتطلبات الدعوة افسلامية، ومعرفتهم بأهمية الصحافة، وإدراكهم للدور الكبير الذي تقوم به في التأثير على المجتمع.

وصحافة الإخوان المسلمين يقصد بها تلك التي أصدرتها بصورة منتظمة وعلنية، أو قام باستئجارها أو غصدراها أحد أعضائها لتكون لسان حال الجماعة وتنطق باسمها، وتعبر عن آرائها واجاهاتها، وتوجيهاتها نحو القضايا والموضعات المختلفة، وقد تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من خلال صحفها، من ممارسة النشاط الصحفي لنشر الدعوة والتعريف بها، والذي بدأ من الصفر بعدم تملك أي جريدة أو مجلة، إلى أن أصبح لديهم 15 صحيفة بين جريدة ومجلة،وهي:

مجلة (جريدة الإخوان المسلمين من 15 من يونيو 1933م إلى 12 من فبراير 1938م،(

ومجلة النذير من 30 من مايو 1983م إلى 16 من أكتوبر 1939م)،

ومجلة (المنار- افصدار الجديد- حسن البنا من 18 من يوليو 1939م إلى سبتمبر 1940م) ،

ومجلة (التعارف من 2 من مارس 1940م إلى 31 من أغسطس 1940م

ومجلة (الإخوان المسلمون من 29 من أغسطس 1942م إلى 27 من توفمبر 1948م

وجريدة ( الإخوان المسلمون اليومية ن 5 من مايو 1946م ) ،

ومجلة (الشهاب من 14 من توفمبر 1947م إلى مارس 1948م

ومجلة (المباحث القضائية- افصدار الجديد من 30 من مايو 1950م إلى 23 من يناير 1951م)،

ومجلة (الدعوة من 30 من يناير 1951 إلى توفمبر م) ،

ومجلة ( المسلمون من 30 توفمبر 1951م إلى أغسطس 1954م، وبعد ذلك هاجرت إلى دمشق ، ثم سويسرا إلى أغسطس 1966م)،

ومجلة السيدات المسلمات من 21 من يونيو 1951م إلى يوليو 1957م

وجريدة (الإخوان المسلمون من 20 من مايو 1954م، إلى 5 أغسطس 1954م

ومجلة (الدعوة- الإصدار الثاني الجديد من يوليو 1976م إلى سبتمبر 1981م)،

وبعد ذلك مجلة (الدعوة المهاجرة من توفمبر 1981م، وغير معروف تاريخ توقفها عن الصدور، ومن فبراير 1982م صدرت لها طبعة باللغة الإنجليزية، وهي ترجمة للطبعة العربية وتصدر بعدها بأسبوعين.

يبقى لنا بعد ذلك الانتقال إلى إلقاء بعض الضوء على تاريخ تلك الصحف (جرائد ومجلات) من حيث النشأة والتطور والفعالية، باعتبار أنها كانت تجربة صحفية رائدة للإمام الشهيد حسنلبنا، وكان لها دور كبير ومهم في المساهمة في نشر دعوة الإخوان المسلمين والتعريف بها داخل مصر وخارجها.

صحف الإخوان المسلمين
أولا- مجلة "جريدة الإخوان المسلمين":

صدر العدد الأول منها في 15 من يونيو 1933م في 24 صفحة مقاس 28 سم في 20 سم، وأشارت إلى أنها " اسبوعية دينية إسلامية جامعة، ويحررها نخبة من أعضاء الإخوان المسلمين، وهي لسان حالهم، وتخدم كل هيئة تعمل لرفعة الإسلام وإعادة مجده" وقد تولى رئاسة تحريرها الشيخ طنطاوي جوهري، واستمر إلى العدد الحادي والعشرين من السنة الخامسة، ثم تولى رئاسة التحرير بعده أحد الإخوان ، وهو ( محمد الشافعي) حتى توقفت عن الصدور، وكان السيد محب الدين الخطيب مدير تحريرها،واستمر إلى نهاية السنة الثالثة، حيث تولى الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا (والد الشيخ حسن البنا) إدارتها لمدة عام، ثم تولى (محمد الشافعي) الإدارة ومسئولية التحرير معا.

وهي اول مجلة تصدرها الجماعة، ولم يكن لهم قبلها أية إصدرات صحفية، وقد سماها الشيخ حسن البنا " "جريدة الإخوان المسلمين" تفاؤلا بأن تكون يومية، وكان الغرض من إنشاء هذه المجلة ينحصر في أمرين أساسيين، وكل ما عداهما تابع لهما، وهذان الأمران هما:

1- إمداد الإخوان المسلمين بالمعلومات التي لابد لهم أن يدركوها في دعوتهم.

2- توثيق رابطة التعارف فيما بينهم، وظهرت المجلة تحمل هذا الطابع وتناضل في سبيل هذه الغاية.

ولم يكن الغرض من المجلة ربحا ماديا ولا تجارة مالية، والذي يقف على راس مال المجلة الذي بدأت به يعلم أنها عاشت على الكفاف، حيث بدأت بداية عجيبة، يتحدث عنها الإمام حسن البنا في مذكرات الدعوة والداعية، فيقول: رأى الإخوان إصدار مجلة أسبوعية تسمى "جريدة الإخوان المسلمين" تفاؤلا بأنها ستكون جريدة يومية. وعند إنفاذ هذا القرار لم يكن في خزينة الإخوان بالقاهرة رصيدها، ولكنه قرار ولابد من أن ينفذ، فماذا يصنعون؟ هذا هو الأخ الشيخ محمد رضوان، وف يجيبه جنيهان كاملان، وإذن فلنرصدهما وليكونا هما رأس مال هذه المجلة. وقد كان، وحملت الجنيهين، وذهبت بكل بساطة وإيمان إلى المكتبة السلفية، وقد كانت بباب الخلق خلف محكمة الاستئناف، وهناك تفاهمت مع ا لسيد محب الدين الخطيب- جزاه الله خيرا على كل شيء- أن يكون مديرا للمجلة، ولكن تطبع بالسلفية، وأن يكطون الجنيهان دفعة أولى، وما بقي بعد ذلك فعلى الله، وابتسم الرجل المؤمن المجاهد المحبوب، ووافق على ذلك هو الآخر بكل بساطة وإيمان، فصدر التصريح وبدأ الطبع.

ولما كانت المجلة لا تملك رصيدا ماليا ينفق عليها حتى تصل إلى سيد القارئ، فكان الإخوان يقومون بالتغليف والتوزيع والنشر ، وكانوا يحملونها بأنفسهم يوم صدورها وصبيحته ليوزعوها على المساجد والناس بأيديهم، وبرأس المال هذا " جنيهان سلفة" أنشئت مجلة عاشت أربع سنوات كاملة، وكان يرأس تحريرها الأستذ الشيخ طنطاوي جوهري- رحمه الله- سكرتير الإخوان حينذاك ، والأستاذ عبد الرحمن الساعاتي نائبها، والأستاذ نور الدين وغريهم.

وقد تم تأليف لجنة تسمى لجنة الجريدة بمكتب الإرشاد العام يختارها فضيلة الأستاذ المرشد العام، تكون مهمتها النظر في التحرير والإشراف العام على الإدارة والتوزيع ونحوها.. وقد ظل الإخان يشتركون في تحريرها، ولا يتقاضون على التحرير فيها أجرا، ولذلك كانت تكاليفها مقصورة على أجر طباعتها وثمن ورقها، وقد تعهدت كل دائرة من دوائر الإخوان المسلمين بأخذ عدد من الجريدة تدفع قيمته من صندوقها، وتتولى هي توزيعه بمعرفتها متى كانت تستطيع ذلك، حتى تكون بذلك قد اسهمت بقسط عملي مع مكتب الإرشاد العام في إنهاض الجريدة، كما تعمل على تنشيط حركة الاشتراكات في دوائر الإخوان.

وطريقة توزيع صحف الإخوان المسلمين على هذا النحو في الغالب، يؤيدها ما ذكره الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل- رئيس تحرير الأهرام الأسبق- في برنامجه على قناة "الجزيرة" القطرية ليلة الخميس 15 من يونيو 2006م، ونشرته جريدة الأسبوع في 19 من يونيو 2006م، وذلك في معرض كرمه عن لقائه مع فضيلة الإمام حسن البنا بحضور الأستاذ عبد الحليم الغمراوي- رئيس قسم الأخبار في الأهرام- وكان الإمام قد وجه إليه الدعوة للاشتراك في إصدار جريدة الإخوان، واعتذر هيكل ، فقد حدثه الإمام عن توزيع جريدة الإخوان المسلمين وخلاصة الحديث أن مصر بها أربعة آلاف قرية، وكل قرية فيها مكتب إرشاد( والصحيح شعبة، وليس مكتبا كما ذكر هيكل)، وكل مكتب به 12 عوا، وبالتالي يكون هناك ألف مشترك قبل القيام بأي جهد.

المطبعة أمل الإخوان المسلمين

وكان الإخوان المسلمون يقومون في البداية بطباعة الجلة في الممكتبة السلفية لصاحبها السيد محب الدين الخطيب، كما سبق ذكره، وذلك من عددها الأول إلى العدد الثامن من السنة الثانية، ثم راحوا يطبعونها في المطبعة الخاصة بالجماعة( الشركة التعاونية للإخوان المسلمين للطباعة والنشر) من العدد التاسع، وفي هذه المناسبة لم تنس المجلة أن تقدم شكرها لصاحب المكتبة السلفية، فكتبت تقول: وإن جماعة الإخان المسلمين لتقدم أجزل الشكر وأطيب الثناء إلى الأستاذ الكبير السيد محب الدين الخطيب، صاحب المطبعة السلفية، الذي لم يكن يوما من الأيام، إلا ركنا من أركان الجماعة، ولم تكن المطبعةالسلفية إلا مطبعتهم، فشكر الله له، وجزاه عن دينه وأمته أفضل الجزاء، وإذا كان هذا العدد طبع في مطبعة غير السلفية، فهو من مطبعتنا إلى مطبعتنا والفضل للمتقدم".

ولا شك أن المطبعة كانت أملا يراود الإخوان المسلمين ، لأنهم يعتقدون أن الذين يملكون الكلمة المطبوعة يستطيعون توجيه العقول والأفكار، وأن المطابع للجماعات التي تعمل لنشر فكرة عامة هي الدعامة التي ترتكز عليها في أعمالها ونشر دعايتها، وقد اهتم الإخوان المسلمون منذ وقت مبكر بأن تكون لهم مطبعة لقناعتهم بأنها من أهم وألزم وسائل الدعوة، وقد وجد الشيخ حسن البنا في أحد الإخوة ما يمكن أن يحقق فيه أمنيته لحاجة هذا الأخ إلى عمل، فاختار له محلا قريبا من المركز العام " واشترى له مطبعة وورقا. وحرر بثمن ذلك كله كمبيالات بضمانة الأستاذ المرشد، واختار له كتابا يعيد طبعه على ورق مصقول، وطبع من الكتاب عدة أجزاء، وأقبل الناس على شرائه.. وحقق الأخ ربحا، ولكن فجأة توقف صدور بقية الأجزاء وحتفى الأخ، مما اضطر الأستاذ المرشد على تسديد ثمن كل هذه الأشياء منجيبه الخاص، ولم يفرط الأستاذ المرشد في أدوات الطباعة إلا بالقدر الذي عجز عن سداد ثمنه، فاستبقى منه أكبر قدر يمكن استبقاؤه، حيث أبقى على الحروف التي سدت ثغرة كبيرة فيما بعد (محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ الجزء الأول ص 52)، ولم تبرح فكرة المطبعة خاطر الأستاذ المرشد للحظة من ليل أو نهار، على أنها أولى الوسائل المكملة لبناء الدعوة حتى حققها أخيا، فيمكا بعد على صورة أكبر.

فقد قرر مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين في انعقاده الأول بمدينة الإسماعيلية بتاريخ 15 من يونيو 1933م، إنشاء شركة تعاونية مساهمة للطباعة والنشر للإخوان المسلمين، وفي انعقاده الثاني بمدينة بور سعيد في 18 من يناير 1934م، ايد المجلس قرار الاجتماع السابق في إنشاء مطبعة للإخوان المسلمين وقرر أن تؤلف لذلك شركة مساهمة تعاونية رأس مالها ابتداء ثلاثمائة جنيه مصري تقسم إلى 1500 سهم، قيمة السهم الواحد عشرون قرشا، ولا يصح أن يسهم فيها إلا الإخوان المسلمون فقط، ووكل المجلس إلى مكتب الإرشاد أن يتفق مع بنك مصر على أن يتقبل قيمة الأسهم وتكون في عدته حتى يتم جمعها، وقرر المجتمعون كذلك أن يكون الدفع فورا من غير تقسيط، وأن للمكتب الحق في زيادة الاكتتاب إذا وجد الإقبال الذي يستدعي ذلك.

وكتب لمشروع " الشركة التعاوزنية للإخوان المسلمين للطباعة والنش النجاح والظهور، وتم تجهيزها بآلات الطباعة والمعدات اللازمة ، وبدأت في عملها، ولم يمض على فتح باب الاكتتاب أكثر من أربعة أشهر حتى طبع بها العدد التاسع من السنة الثانية للمجلة الأسبوعية " جريدة الإخوان المسلمين " في 28 من يونيو 1934م، واستمرت المطبعة في القيام بالمهام التي أنشئت من أجلها، واستمرت أيضا في طباعة المطبوعات التي تصدر عن الجماعة من رسائل ونشرات ومجلات وخلافه.

وظلت " جريدة الإخوان المسلمين" تصدر ناطقة بلسان الإخوان المسلنمين، ومعبرة عنهم إلى العدد الثالث والثلاثين من السنة الخامسة بتاريخ 12 من فبراير 1938م ثم توقفت، حيث أقصي صاحب امتيازها ( محمد الشافعي) من صفوف الإخوان المسلمين عندما نشب خلاف بينه وبين مسئولي الجماعة بسبب سياسته التحريرية البعيدة عن منهج الجماعة، فخرج منها ومعه المجلة ليواصل إصدارها تحت اسم آخر، وهو "الخلود" وبعد صدور عددين منها توقفت نهائيا في 4 من توفمبر 1938م.

ويشير الإمام الشهيد حسن البنا في مذكرات الدعوة والداعية (ص 144) إلى ذلك، فيقول : " حدث أن تسلل إلى التحرير أحد الذين يجيدون السبك والخديعة، ونمسك عن ذكر اسمه الآن، فأراد أن يتخذ من جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية الطهور سبيلا إلى مآربه، ولكن ا لدعوة تنفي خبثها، كما ينفي الكير خبث الحديد، نفته وأقصته إقصاء لا رجعة بعده، ولكنها في سبيل هذا الإقصاءفقد\ت ترخيص هذه الجريدة معه على أن يسميها باسم آخر، فاختار لها اسما أراد الله أن يكون من اسم الأضداد فدعاها هو "الخلود" وقضى الله عليها بالفناء، فلم يصدر منها إلا عدد أو عددان وانتهى أمرها، وكذلك الباطل لا بقاء له، والبغي مصرعه وخيم" ، ويرجع سبب توقف "الخلود" على هذا النحو السريع لانصراف الإخوان عن شرائها، وهم يمثلون القوة الشرائية العظمى لها.

ثانيا: مجلة " النذير":

بعد أن فقد الإخوان المسلمون مجلتهم الأولى "جريدة الإخوان المسلمين" الأسبوعية، حصلوا على ترخيص بإصدار مجلة "النذير" التي صدر عددها الأول في 30 من مايو 1938م وصاحب امتيازها ومدير تحريرها محمد أبو زيد المحامي، ورئيس التحرير المسئول صالح مصطفى عشماوي، وهي تصدر على مبادئ الإخوان المسلمين، وتنطق باسمهم ولسان حالهم وهي سياسية إسلامية أسبوعية، وكانت تصدر في 26 صفحة مقاس 28 في 20 سم، وظلت مجلة "النذير" ناطقة بلسان جماعة الإخوان المسلمين عامين إلى أن انفصل صاحب الامتياز عن الجماعة، وأصبحت ناطقة باسم "جماعة شباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم" وثم ذلك من العدد الصادر بتاريخ 16 من أكتوبر 1939م، ولم تعد ناطقة باسم جماعة الإخوانالمسلمين.

وعندما تحولت "النذير" عن الإخوان المسلمين، كان صالح عشماوي رئيس تحريرها على سفر لأداء فريضة الحج فلم عاد إلى مصر وجد أن المجلة وصاحبها خارج جماعة الإخوان المسلمين، وإن كانت المجلة م زالت تصدر معبرة عن جماعة أخرى، واسمه ما زال ينشر على أنه رئيس التحرير، فما كان منه إلا أن كتب استقالته ونشرها في مجلة "التعارف" وكان الإخوان المسلمون قد استأجروها لتصدر عنهم، وجاء في هذه الاستقالة " هالني أنكم نشرتم اسمي على صدر "النذير" كرئيس تحرير المجلة، مما يوهم القارئ أني أشارككم الراي، وأنحدر معكم إلى الهاوية التي اندفعتم إليها" ثم بعث بصورة من الاستقالة على إدارة المطبوعات لإجراء اللازم، وبعث أيضا بنص الاستقالة على مجلة "النذير" وطالبها بنشرها، وقال فيها:" ولما كان ظهور اسمي كرئيس للتحرير على صفحات النذير في الأعداد الأخيرة، مما يوهم القرئ أني وافقت، وأجزت نشر ما ظهر فيها، وهو ما يحدث لسفري خارج القطر، لذلك أرى أن من حقي أن تنشروا في مكان بارز نص هذه الاستقالة في أول عدد يصدر عن "النذير" دفعا لهذا اللبس، وتقريرا للواقع والحقيقة".

ثالثا- مجلة المنار (حسن البنا):

كانالشيخ محمد رشيد رضا قد أصدر مجلة"المنار" افسلامية في 15 من مارس 1898 بالقاهرة بعد قدومه إلى مصر من طرابلس الشام في 3 من يناير 1898م، وقد توقفت "المنار" بعد وفاة صاحبها في أغسطس 1935م بعد أن صدر منها الجزءان: الأول والثاني من مجلدها الخامس والثلاثين، واستأنفت نشاطها بصدور الجزء الثالث من هذا المجلد بعد إسناد تحريرها إلى عالم سوري هو الشيخ بهجة البيطار، وبعد صدور الجزء الرابع توقفت "المنار" عن الصدور مرة أخرى نحو ثلاث سنوات، وفي هذه الأثناء التي توقفت فيها المجلة عن الصدور طلبت أسرة الشيخ محمد رشيد رضا من الشيخ حسن البنا- مؤسس جماعة الإخوان المسلمين- أن يتولى مسئولية إصدار "المنار" إذ لم يكن الشيخ البنا غريبا على أسرة الشيخ محمد رشيد رضا ، وكان على صلة وثيقة بالشيخ منذ كان طالبا في دار العلوم، وظل الشيخ حسن البنا على اتصال بالشيخ رشيد رضا بعد أن أسس جماعة الإخوان المسلمين، وكان يستشيره في كثير من القضايا .. ولكن الشيخ حسن البنا تردد في قبول هذا الطلب لكثرة مشاغله بأمور الدعوة، وخوفه على "المنار" من المكائد التي يدبرها أعداء افسلام للدعوة، ومنها مصدرة صحفها وسحب تراخيصها.

وأمام إصرار أسرة الشيخ محمد رشيد رضا ، اضطر الشيخ حسن البنا إلى النزول على إرادتهم، بعد أن شرح لهم خطورة الأمر، وأصدر الشيخ البنا "المنار" وصار يحرر أكثر ما فيها بقلمه، وبدأ في التفسير حيث انتهى سلفه الشيخ البيطار، وخرجت المجلة تفسيرا وتحريرا في المستوى الرفيع الذي عتاده قراؤها في العالم الإسلامي أيام محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا ، فصدر الجزء الخامس من المجلد الخامس والثلاثين، وذلك في غرة جمادي الآخرة 1358هـ- 18 من يوليو 1939م، في ثمانين صفحة مقاس 22 في 15 سم، وذلك على شكل إصدارها من قبل، ويرأس تحريرها الشيخ حسن البنا.

وبعد أن صدر الجزء الخامس من "المنار" في إصدارها الجديد، تبعه الجزء السادس في رجب 1358هـ - أغسطس 1939م، ثم توقفت "المنار" لمدة ثمانية أشهر، وصدر الجزء السابع في ربيع الأول 1354هـ - أبريل 1940م، وتلام الجزء الثامن في ربيع الثاني 1359هـ - مايو 1940م، حيث صدر كل منهم في ثمان وأربعين صفحة. وحول سبب احتجاب "المنار" ، فقال : تأخر صدور المتار عن موعده هذهالشهور الماضية لأسباب رسمية كانت بيننا وبين وزارة الداخلية المصرية، وقد زالت – والحمد لله- وها هي المنار تعود إلى الظهور، لتقم بواجبها في ميدان الدفاع عن افسلام الحنيف والدعوة إليه، ولغلو الورق غلوا عظيما، وصل إلى أكثر منالضعف، اضطررنا على جعل العدد ثماني وأربعين صفحة بدلا من ثمانين، ونحن نأسف لهذا اسفا شديدا، ولكن للضرورة حكمها، وسيصدر العدد التاسع – إن شاء الله- في أوائل شهر جمادي الأولى، والعاشر في أوائل جمادي الثانية بحول الله وقوته، وبذلك يتم المجلد الخامس والثلاثون، ويبدأ السادس والثلاثون، والله الموفق والمستعان.

ولكن المضايقات الرسمية استمرت، فصدر العدد التاسع في جمادي الآخرة 1359هـ أغسطس 1940م، وصدر العدد العاشر في شعبان عام 1359هـ - سبتمبر 1940م، وكتب الشيخ حسن البنا عن تأخر المنار في الأعداد الماضية يقول:" هذا هو العدد العاشر من المجلد الخامس والثلاثين من المنار، وبه ينتهي هذا المجلد- والحمد لله- على كل حال، ولقد صادفنا عدة عقبات خلال هذه الشهور الفائتة اقتضت هذا الاضطراب والتخلف في الظهور، فنعتذر عن ذلك إلى حضرات القراء الكرام، وسنعمل- إن شاء الله- في المجلد القادم على أن تصدر الأعداد في أوائل كل شهر عربي، وسيكون موعد العدد الأول غرة ذي الحجة- إن شاء الله- ولقد كنا نأمل أن يظل صدور المنار في حجمها الكبير من ثمانين صفحة لولا غلاء الورق غلاء فاحشا زاد على خمسة أضعاف الثمن، مما جعلنا مضطرين على إصدار العدد في ثلاث ملازم، تشمل ثماني وأربعين صفحة، فنحن نعاني في الحصول على الورق اللازم لها ما نعاني والله المستعان".

ولكن لم يقدر للعدد الجديد أن يصدر، وتم مصادرة "المنار" وتوقفت عن الصدور وانطفأت شمعة أضاءها الإمام محمد عبده، والشيخ محمد رشد رضا، بعد أن أتم الشيخ حسن البنا مجلدها الخامس والثلاثين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

رابعا : مجلة "التعارف":

لم يعد للإخوان المسلمين صحيفة يملكون امتيازها ، بعد انفصال صاحب امتياز "النذير" عن الجماعة، على النحو السابق عرضه، لذلك لجأ الإخوان إلى استئجار مجلة كان يملكها أحد الإخوان المسلمين بالمنزلة دقهلية، وتسمى "التعرف" حيث إنهم كانوا في ذلك الوقت لا يستطيعون استصدار ترخيص باسمهم، نظرا لتوتر العلاقات بينهم وبين حكومة حسين سري.

وكانت "التعرف" قد\ صدر عددها الأول في 8 من أغسطس عام 1936م ناطقة بلسان "جمعية التعارف الإسلامي" اسبوعية، تعني بالتربية والآداب الإسلامية، وصاحبها ومديرها ورئيس تحريرها المسئول محمود عبد اللطيف، وظلت " التعارف" تصدر طيلة أربع سنوات على هذا الوضع، وفي السنة الخامسة لصدورها، وابتداء من العدد الثالث لتلك السنة الصادر في 2 من مارس 1940م، استأجرها الإخوانالمسلمون لتنطق بلسانهم، وتعبر عن حالهم.

واسندت مسئولية إدارة "التعرف" إلى جمال الدين البنا- الشقيق الأصغر للشيخ حسن البنا ، ولم يحدث أي تغيير في المسئولية بعد ذلك، و؟لت المجلة تصدر ناطقة باسمالإخوانالمسلمين حتى العدد (28)، والذي صدر في 31 منأغسطس 1940م، ثم صدر قرار المصادرة لها من حكومة حسين سري، وبذلك توقفت "التعارف" بعد أن قدمت للإخوانالمسلمين في هذا الوقت العصيب، خدمة صحفية جليلة، عز عليهم أن يجدوا مثلها حينئذ.

خامسا: مجلة "الإخوان المسلمون":

في فبراير عام 1942م أعلن عن حل المجلس النيابي وإجراء انتخابات جديدة، وهنا يرشح الشيخ حسنالبنا نفسه في دائرة الإسماعيلية، حيث ولدت جماعة الإخوان ونشأت فيها، ليمثل الإخوان وينطق بلسانهم، وذلك بناء على قرار كان قد اتخذه المؤتمر السادس للإخوان بالقاهرة في عام 1941م، ولكن مصطفى النحاس، رئيس الوزراء- وقتئذ- طلب منه أن ينسحب إيثارا للمصلحة الوطنية، حيث طلب الإنجليز ذلك صراحة منه، وبعد أخذ ورد وافق الشيخ حسن البنا على ذلك، على أن يسمح النحاس للإخوان المسلمين بحية مزاولة نشاطهم.

وبالفعل استأنف الإخوان المسلمون نشاطهم، فأصدروا مجلة "الإخوان المسلمون" النصف شهرية، وصدر العدد الاول منها في 29 من أغسطس 1942م ناطقة باسمالمركز لعامك للإخوان المسلمين ويرأس تحريرها صالح عشماوي، وقد تحولت إلى الصدور اسبوعية منذ العدد الخامس والستين منالسنة الثالثة، وفي العام السادس تولى عبده قاسم إدارة المجلة، واحتفظ صالح عشماوي برئاسة التحرير، ومنذ بداية افصدجار كانت المجلة تكتب أنه إسلامية اجتماعية تصدر نصف شهرية مؤقتا، ثم تغير ذلك من السنة الثالثة لتصبح سياسية أسبوعية لسان حال دعوة الحق والقوة والحرية، وفي السنة السادسة أصبحت تكتب مجلة الدعوة أفسلامية والنهضة الاجتماعية، يصدرها المركز العام للإخوانالمسلنين.

وظلت مجلة " الإخوان المسلمون" مستمرة في الصدور، حتى جاءت ساعة نهايتها على يد وزارة النقراشي، عندما صدر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين عام 1948م، ومصادرة جميع ممتلكاتها وأنشطتها، فكان آخر عدد صدر من المجلة في سنتها السادسة في 27 من توفمبر 1948م، وقد ظهرت بها أقلام جريئة مثل: محمد الغزالي، وسيد سابق، ولبيب البوهي، وأنور الجندي، وسعيد رمضان، ومحمود أبو السعود، وأحمد عبد الرحجمن الساعاتي، وفريد عبد الخالق، وغيرهم من أصحاب الأقلام الإسلامية.

سادسا: جريدة "الإخوان المسلمون" اليومية:

منذ أن قرر الإخوانالمسلمون أن تكون لهم صحافة تنطق باسمهم، فكروا في أن تكون لهم جريدة يومية، الأمر الذي جعل الشيخ حسن البنا يسمي مجلته الأولى الأسبوعية "جريدة الإخوان المسلمين" تفاؤلا بأنها ستكون جريدة يومية، كما سبق ذكره، وأسسوا في عام 1946م شركتين: الأولى( دار الإخوان للصحافة) ، والثانية (دار الإخوان للطباعة) وذلك لإصدار جريدة يومية تنطق باسمهم.

ومن باب الاستعداد لتنفيذ مشروع الجريدة اليومية استقال الشيخ حسن البنا- المرشدالعام، وأحمد الكري، الوكيل العام للجماعة- من وظيفتهما في الحكومة، ليتفرعا لأعمال الدعوة وإصدار الجريدة اليومية، وفي يوم 5 من مايو 1946م صدر العدد الأول من جريدة " الإخوان المسلمون" اليومية، لتكون بذلك أول جريدة إسلامية يومية، وقد صدرت في الحجم الكبير للصحف اليومية( مقاس 60 في 45 سم) في اربع صفحات، وكانت تصدر في بعض الأيام في ست صفحات، وكانت تطبع في مطابع البلاغة، ومدير الإدارة أحمد السكري (وكيل الجماعة)، ورئيس التحرير المسئول زكريا خورشيد، وكان السيد محب الدين الخطيب، سكرتير التحرير- وقد ظل زكريا خورشيد- رئيسا للتحرير- على العدد (180) ثم عين خلفا له محمد على قطب الشريف، حتى تولى صالح عشماوي رئاسة التحرير ابتداء من العدد (373) من السنة الثانية، بتاريخ 20 من يوليو 1947م، ثم تولى في ذلك الحين عبد الحليم الوشاحي منصب مدير إدارة الجريدة، وأمين إسماعيل سكرتيرية التحرير، ولم تنشر الجريدة أسباب هذه التغييرات.

ومن الجدير بالذكر أنالشيخ حسن البنا كان يحاول ضم صحفيين مهنيين من غير الإخوان المسلمين ليكونوا من بين هيئة تحرير الجريدة. وعلى سبيل المثال: أنه حاول استقطاب محمد حسنين هيكل، الذي قال في برنامجه على قناة "الجزيرة" القطرية مساء الخميس 15 من يونيو 2006م، ونشرته جريدة الأسبوع في 19 من يونيو 2006م، قال هيكل: لحسم الحظ أن المقادير مبكرا جدا في عام 1946م أعطتني الفرصة حتى أتعرف على الأستاذ حسن البنا عندما كنت مديرا لتحرير مجلة آخر ساعة، والمناسبة كانت غريبة جدا، لأنها لم تكن في تخطيطي في الواقع، حيث إن زميلنا عبد الحليمالغمراوي- رئيس قسم الأخبار بالأهرام- اقترح على الشيخ حسن البنا الاستعانة بي في جريدة "الإخوان المسلمون" أبلغه أن هناك صحفيا شابا هو في تقدير الأستاذ الفمرواي ليس لهارتباطات عقائدية لا وفدية ولا شيوعية، ولكنه مخبر صحفي، لذا فمن الممكن الاستعانة به، وبالتالي رتب لي موعدا للقاء الأستاذ حسنالبنا، وموعدي معه كان يوم جمعة، بعد صلاة الجمعة بناء على اختياره، وفي أواخر أبريل 1946م، وقال الشيخ حسن البنا إلى هيكل: إن الأستاذ الغمرغاوي حدثني كثيرا عنك مادحا وإننا بصدد إصدار صحيفة (الإخوان المسلمون)، وقد اعتذر هيكل عن قبول هذاالعرض لارتباطه بأخبار اليوم.

وتحت عنوان " مطلع الفجر" كتب الشيخ حسن البنا افتتاحية العدد الأول حول سياسة الجريدة وأهدافها، وقد جاء فيه: جريدة الإخوان ، وإن كانت صحيفة إخوانية، فلن تكون خاصة بهم أو وقفا عليهم، بل هي ترجو أن تكون المنبر العام للهيئات الإسلامية والجماعات الإصلاحية على اختلاف ألوانها وبلدانها، وترحب بكل ما يقدم إليها ما دام متوافقا مع خطتها ومناهجها.. وسنحاول ما استطعنا ألا تكون جريدة الإخوان مقصورة على لون واحد من ألوان الغذاء الفكري والروحي، فسيكون فيها دنيا ودين، وعلم وفن وأدب ورياضة، وقصص وفكاهة، القلوب تمل، كما تمل الأبدان، فالتمسوا لها طرائف الحكمة.." وقد أبدت الجريدة اهتماما ببعض القضايا السياسية، وخاصة قضية فلسطين، وبطولات المجاهدين، كما أضفت طابعها الإسلامي على كل ما كانت تنشره.

وقد قابلت جريدة " الإخوان المسلمون" اليومية العديد من العقبات والمصادرات والتعطيل، ومع ذلك ظلت مستمرة في الصدور، ولكن مع مرور الأيام وزيادة المشكلات صارت الجريدة تعاني إرهاقا ماديا، وذلك على وجه الخصوص بسبب عدم حصولها على الورق المدعوم من الحكومة، التي وقفت هذا الورق على الصحف الموالية لها، وكذلك لقلة الإعلانات المنشورة بها، ولكن مع ذلك واصلت الجريدة الصدور إلى أن صدر أمر عسكري بإلغاء رخصتها، وكان آخر عدد صدر منها بتاريخ 3 من ديسمبر 1948م وهو العدد رقم 794، وذلك قبل إصدار قرار حل جماعة الإخوان في 8 ديسمبر من نفس العام، ليضع بذلكنهاية لأول وآخر جريدة إسلامية يومية تصدر في مصر، بل في العالم العربي وافسلامي.

سادسا- مجلة "الكشكول الجديد":

صدر العدد الأول في 8 سبتمبر 1947م، واستمرت تصدر حتى العدد رقم (59) بتاريخ 27 من توفمبر 1948م، وتعتبر هذه المجلة رافدا من روافد صحافة الإخوان المسلمين، وقد أصدرها مجموعة من شبابا الإخوان الذين استقالوا من الجماعة، وعلى راسهم أمين إسماعيل، ومحمود عساف، وقالوا في خطاب الاستقالة الذي قدموه من الجماعة، وعلى راسهم أمين إسماعيل، ومحمود عساف. وقالوا في خطاب الاستقالة الذي قدموه إلىالشيخ حسن البنا:" فقد انتوينا إصدار مجلة (الكشكول الجديد) بروح قد لا تتفق مع أسلوب الدعوة في محاربة الحزبية، وحتى نتحمل تبعة عملنا- وحدنا- أام الله، وأما أنفسنا، وأمام الرأي العام".

وكان انفصال هؤلاء الشباب ليس انفصال عقيدة عن الإخوان المسلمين، وإنما اختلاف في الوسائل التي تحقق غاية متفق عليها، إلى جانب أنه كان من بين كتابها الشيخ حسنالبنا- المرشد العامللإخوان المسلمين نفسه- وصالح عشماوي، ومحمد فرغلي، ومحمد الغزالي، وجميعهم قيادات إخوانية كما كانت الجريدة دائمة الدفاع عن الإخوان المسلمين، وخاصة ما يتصل بالشيخ حسن البنا.

وصاحب امتياز مجلة " الكشكول الجديد" ومدير الإدارة محمود عساف، ومدير التحرير والسياسة أمين إسماعيل ، ورئيس التحرير المسئول محمد شاهين الجوهري، الذي حل محله بعد العددالأول مباشرة محمد على أبو طالب، وظل على أن حل محله أيضا علوي عساف المحامي من العدد الخامس والأربعين إلى أن توقفت المجلة عن الصدور.

وقد مرت "الكشكول الجديد" بثلاث مراحل: الأولى: هي مرحلة (الابتداء) ، والثانية: (الانتقال) مجلة مستقلة تحارب الحزبية بكل ضراوة. ولم تكن في هاتين المرحلتين تعبر عن الإخوان المسلمين، وإن دافعت عنهم، وحملت لهم كل معاني الطاعة والولاء، والمرحلة تالثالثة: هي مرحلة (الالتحاق) حيث كانت لسان حال الإخوان المسلمين وتنسب إليهم، ولكن هذه المرحلة لم تستمر طويلا، إذ توقفت عن الصدور في عامها الثاني في 27 من توفمبر 1948م، كما سبق ذكره، وبذلك توقفت هذهالمجلة ذات الأسلوب الساخر اللاذع، والتي لم يشهد تاريخ الإخوان المسلمين الصحفي جريدة أو مجلة مننظيرها.

ثامنا- مجلة "الشهاب":

شهرية إسلامية جامعة، تصدر مع غرة كل شهر عربي، سنتها عشرة أعداد، وصاحب الامتياز ورئيس التحرير الشيخ حسن البنا، ومدير الإدارة سعيد رمضان المحامي، وتصدر في مائة صفحة مقاس 17 في 24 سم، وصدر العدد الأول منها في 14 من نوفمب 1947م، وقد أصدرها الشيخ حسن البنا على غرار "المنار" التي كان يصدرها بعد وفاة صاحبها الشيخ محمد رشيد رضا كما سبق عرضه.

ومن بين دوافع غصدار مجلة " الشهاب" أن تكون مصدر كسب للشيخ حسن البنا، بعد أن استقال من وظيفته في الحكومة، وتفرغ تفرغا كاملا للعمل الإسلامي والدعوي، وبعد أن رفض الراتب الذي قدره له مجلس إدارة شركة الصحافة الخاصة بالإخوان المسلمين، ويبلغ مائة جنيه لتبقى للدار مواردها.

ولم يصدر من مجلة "الشهاب" سوى خمسة أعداد فقط، كان آخرها بتاريخ مارس 1948م، ثم تعطلت عن الصدور بعد قرار حل جماعة الإخوان المسلمين واغتيال مرشدها الإمام الشهيد حسن البنا، وكانت المجلة طوال أعدادها مصدرا للثقافة الإسلامية العالية، وتفسح صفحاتها للمفكرين الإسلاميين، لعرض أفكارهم وآرائهم بما يحقق أهداف الدعوة افسلامية.

تاسعا- مجلة "المباحث القضائية":

صدر العدد الأول منها في 30 من مايو 1950م لتنطق باسم الإخوانالمسلمين، بعد أن فقدوا صحفهم، ومرشدهم العام، ووجودهم القانوني بعد حل الجماعة، واستأجر الإخوان المجلة من صاحب امتيازها حسني الحسيني، على أن يتولى صالح عشماوي- وكيل الجماعة- غصدارها وافشراف عليها، لتكون لسان حال جماعة الإخوان المسلمين في وضعهم الجديد، وهويتها " غسلامية عربية اجتماعية ثقافية".

ولم يصدر من مجلة "المباحث القضائية" تعلن عن قرب صدور مجلة أخرى، وفي آخر عدد صدر منها رقم (34) بتاريخ 23 من يناير 1951م كتبت تحت عنوان (وداع) : " والآن نحن نودع (المباحث) بعد ن أدت مهمتها لنستقبل (الدعوة) في عهدها الجديد، لا يسعنا إلا أن نشكر إخواننا جميعا، ونرى من الواجب أن نتقدم بالشكر للزميل الفاضل صاحب المباحث- جزاه الله عنا أحسن الجزاء". وقد صدرت مجلة "الدعوة" بالفعل في 30 من يناير 1951م، كما سيأتي بيانه فيما بعد.

وهكذا ودعت "المباحث القضائية" قراءها، ولعلها المرة الأولى في تاريخ الصحف التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين أن تودع صحيفة نفسها إلى القراء، وتعلن عن توقفها باختيارها لأن بقية أخواتها كان دائما يأتي توقفها قسرا أو إلغاء وشطبا عن طريق القرارات العسكرية من قبل الحكومات المتعاقبة.

عاشرا- جريدة "الدعوة":

في عام 1950م فاز حزب الوفد في الانتخابات البرلمانية بالأغلبية، وقد ساعدهم فيها الإخوان المسلمون وتم تشكيل حكومة وفدية برئاسة مصطفى النحاس، الذي قام بالإفراج عن المعتقلين من الإخوان المسلمين بعد أحداث عام 1948م، وسمح لهم باستئجار مجلة "المباحث القضائية" السابق الحديث عنها لتنطق باسمهم، حيث ودعت القراء وأعلنت قرب صدور جريدة باسم الدعوة" فقد تقدم الإخوان المسلمون بعد الإفراج عنهم يطلبون التصريح لهم بإصدار جريدة أو مجلة باسم "الغرباء" فاعترض فؤاد سراج الدين وزير الداخلية وقتئذ، واستطاع صالح عشماوي بعد ذلك الحصول على امتياز إصدار جريدة أسبوعية جامعة باسم " الدعوة" وتولى هو رئاسة تحريرها.. وتولى أمين إسماعيل منصب مدير التحرير، وسعد الدين الوليلي منصب مدير إدارتها.

وصدر العدد الأول من جريدة "الدعوة" في 30 من يناير 1951م في ستة عشر صفحة من القطع لنصفي (التابلويد)، وتصدر الصفحة الأولى مقال بعنوان "السفير الإنجليزي يأمر.. والنقراشي يطيع، والإخوان تحل"، ويدو موضوع المقال حول الوثيقة الدالة على طلب سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا من محمود فهمي النقراشي -رئيس وزراء مصر- بحل جماعة الإخوان المسلمين، واستجابة النقراشي لمطلبهم بإصدار أمر عسكري بحل الجماعة، ومصادرة ممتلكاتها عام 1948م.

وقد اهتمت جريدة "الدعوة" بنشر أهم الشئون الجارية والخارجية، وخاصة ما يتعلق منها بالعالم لعربي والعالم الإسلامي، وتتناولها كلها من وجهة النظر الإسلامية، وقد واصلت "الدعوة" مسيرتها غير ناطقة باسم الإخوان المسلمين، بعد فصل صاحبها من الجماعة في توفمبر 1953م، ومن هذا التاريخ تبدأ "الدعوة" مرحلة أخرى من حياتها تستمر أكثر من عشرين عاما تعبر عن رأس صاحبها صالح عشماوي، وتوالى صدورها نصف شهرية، ثم كل ثلاثة أسابيع أو كل شهر، وتعثر صدورها نهاية الخمسينيات لتصدر كلا ثلاثة أشهر في أربع صفحات، ليحتفظ صاحبها بالترخيص، وتظل تصدر حتى خرج الإخوان من السجون في السبعينيات على يد الرئيس أنور السادات، وكان قد تم حل الجماعة ومصادرة صحفهم على يد الرئيس حمال عبد الناصر بعد حادث المنشية في عام 1954م، وتنجو "الدعوة" من هذه المصادرة لانفصال صاحبها ع الإخوان، كما سبق ذكره.

حادي عشر: مجلة "المسلمون":

صدر العدد الأول منها في 30 من توفمبر 1951م، وهي مجلة إسلامية جامعة تصدر ممع غرة كل شهر عربي، وسنتها عشرة أعداد. وصاحب الامتياز ورئيس التحرير سعيد رمضان.

ومجلة "المسلمون" كانت أشبه بالكتاب من المجلة العادية، من حيث الشكل والمضمون والحجم الذي كان (مقاس 23 في 15سم) وصفحاتها تكتب مثل صفحات الكتاب، وغير مقسمة إلى أعمدة، وعدد صفحاتها (104 صفحات) تنشر بها مقالات حول قصص القرآن ، والشريعة الإسلامية ، والتاريخ الإسلامي، والفكر الاقتصادي، وقصائد الشعر، والتربية، والأخلاق والحضارة ، وأحوال العالم والبلاد العربية والإسلامية، والصحة البدنية، والفلسفة والعقيدة الإسلامية.

وتجاوبت قيادة جماعة الإخوان المسلمين مع المجلة بشكل معلن وواضح وكتبت فيها مقالات عديدة، ثم توقفت "المسلمون" عن الصدور في القاهرة مع نهاية سنتها الثالثة في أغسطس عام 1954م لتهاجر إلى دمشق، فتصدر هناك ويتولى مسئوليتها مصطفى السباعي مسئول الإخوان المسلمين، ثم تترك "المسلمون" دمشق لتهاجر إلى سويسرا ، لتصدر هناك حتى توقفت عن الصدور نهائيا في أغسطس 1966م.

ثاني عشر: مجلة "السيدات المسلمات":

أصدرتها السيدة زينب الغزالي – رئيسة جمعية السيدات المسلمات- في 21 من يونيو 1951م مجلة أسبوعية دينية سياسية اجتماعية، وهي صاحبة الامتياز وتولى رئاسة التحرير أيضا، وتولى أمين إسماعيل منصب مدير التحرير، وسيف الغزالي مدير الإدارة واستمرت الجلة أسبوعية إلى مارس 1953م، حيث بدأت تصدر شهريا مؤقتا، وتعرضت المجلة لمصادرات عديدة، أحيانا قبل التوزيع، وأحيانا يصادر العدد بعد توزيعه.

وكانت مجلة "السيدات المسلمات" متنوعة الأبواب، والموضوعات والاهتمامات، وتحرص في كل كتاباتها على ألا تخرج عن متطلبات قرائها من السيدات والرجال، مع مراعاة أن الأساس هو التوجه على المرأة المسلمة، من خلال النظرة الإسلامية إليها كزوجة، وربة بيت ومسئولية عن بيتها وراعية له، وتدرك حقوقها وواجباتها نحو زوجها وأبنائها..إلخ.

وظلت مجلة " السيدات المسلمات" تصدر إلى أن تم مصادرة عددها الأخير بتاريخ يوليو 1957 م ، ولم تعد للصدور بعد ذلك مرة أخرى.

ثالث عشر: جريدة "الإخوان المسلمون":

صدر العدد الأول في 20 من مايو 1954م عن المركز العام للإخوان المسلمين وكان مكتب الإرشاد للجماعة قد قرر في ديسمبر 1953م إصدار هذه الجريدة لتنطق بلسانهم، وذلك في الشهر التالي مباشرة لقرار فصل صالح عشماوي – صاحب جريدة "الدعوة" – من الجماعة في توفمبر 1953م، واعتبار جريدته لا تعبر عن الإخوان المسلمين، ولا تنطق بلسانهم، وقد ظهرت جريدة "الإخوان المسلمون" في شكل الصحف النصفية (تابلويد) من عشرين صفحة. وأسندت رئاسة تحريرها إلى سيد قطب، وتولي رجاء مكاوي سكرتارية التحرير.

وقدم الأستاذ حسن الهضيبي- المرشد العام للإخوان المسلمين- لهذه الجريدة بمقدمة في عددها الأول تحت عنوان :" هذه الصحيفة" قال فيها: " اليوم تصدر جريدة "الإخوان المسلمين" أو تعود إلى الظهور بعد أن تعطلت منذ عام 1948م بفعل الطغاة من الحاكمين أو بسببهم، وانطلاقا من ذلك يعتبر بع خبراء صحافة الإخوان المسلمين (الدكتور محمد فتحي على شعير، والدكتور شعيب الغباشي) أن جريدة "الإخوان المسلمون" الجديدة هي بمثابة الإصدار الثالث، على اعتبار أن مجلة " جريدة الإخوان المسلمين" الأسبوعية ، والتي كانت قد صدرت في 1933م، وتوقفت عام 1938م هي الإصدار الأول، ومجلة "الإخوان المسلمون" النصف شهرية، والتي كانت قد صدرت في عام 1942م وتوقفت عام 1948م هي الإصدار الثاني كما سبق إيضاحه.

ويعلق الدكتور شعيب الغباشي على هذا الإصدار الجديد قائلا:" صحيفة "الإخوان المسلمون"، وإن كان صدورها في عهد الأستاذ الهضيبي ، إلا أنها أعلنت منذ عددها الأول أنها امتداد للصحيفة التي كانت تصدر في فترة الإمام حسن البنا ، مما يؤكد تواصل العهدين، بل إن الصحيفة تحرص على أن تنشر في صدر صفحتها الأولى من العدد الأول وصية الإمام البنا إلى الإخوان المسلمين، مما يوحي أن الصحيفة على التزامها بالخط الذي رسمه حسن البنا، ويؤكد انتماءها لفكر الجماعة، وترجمة معبرة لفهم الإخوان المسلمين للدين والحياة، كما أنها تمثل ما وصلت إليه صحافة الإخوان المسلمين شكلا ومضمونا، وقد تعمق فيها الخط الذي رسمه حسن البنا، وكان لثقافة سيد قطب- رئيس تحريرها- الواسعة أكبر الأثر في هذا الجانب.

ولكن جريدة "الإخوان المسلمون" هذه لم تعمر طويلا، إذ لم يصدر منها سوى اثنى عشر عددا فقط، ثم جاءت الأحداث العاصفة التي جرت بين الإخوان وحمال عبد الناصر في 1954م، والتي عصفت بالجماعة كلها، ومن بينها جريدة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية، وكان آخر عدد صدر منه في 5 من أغسطس 1954م.

رابع عشر: مجلة "الدعوة" الإصدار الثاني الجديد:

مجلة إسلامية جامعة أصدرها الإخوان المسلمون في القاهرة في إصدارها الثاني في شكل جديد، من العدد (375) في أول السنة الخامسة والعشرين، بتاريخ رجب 1396هـ- يوليو 1976م في ستين صفحة مقاس (34 في 24) وكان يديرها ويشرف عليها الأستاذ عمر التلمساني – المرشد العام الثالث للإخوان المسلمين- والذي توفي يوم 22 من مايو 1986م، ويرأس تحريرها صالح عشماوي، وهو صاحب امتيازها منذ صدرت في 30 من يناير 1952م، وكان في الإصدار الأول أسبوعية، وصدر منها (374) عددا طوال 26 عاما على فترات متقطعة، كما سبق.

وتصدر الصفحة لأولى من العدد الأول لمجلة "الدعوة" في إصدارها الثاني الجديد تقديم للمجلة تحت عنوان "أخي القارئ" جاء فيه:" أربعة وعشرون عاما مضت من عمر هذه الصحيفة (الدعوة) وهي تنادي بتطبيق الشريعة الغراء، التي نراها خير ما تبنى الأمة عليها نهضتها، وتعالج بها جميع مشكلاتها، في وقت انهارت فيه الأخلاق، وشاع الفساد، وتفشت الإباحية، وتغلغلت المبادئ الهدامة والتيارات الإلحادية( ورسخ في الأفهام كل ما هو سيء وبغيض)، لقد حيل بين صاحب هذا القلم الحر وبين قرائه زمنا طويلا، جرت فيه أحداث، ووقعت خلاله أهوال تجعل الولدان شيبا ، ولئن ظن الحاقدون أننا لن نلتقي، وفرقوا بيننا ما وسعتهم الحيلة، فقد خاب اليوم أملهم، ورد الله كيدهم في نحورهم، وليموتوا بغيظهم، فها نحن نلتقي من جديد ، فيا له من لقاء له في نفوس لوعة، وله أيضا في قلوب روعة، وباسم الله وعلى بركته نبدأ خطونا الجديد، في ركاب الحق، وعلى درب الدعوة، ونحن أقو ما نكون اعتزازا بعقيدتنا، وإيمانا بمبادئنا، مجددين العهد على أن تظل (الدعوة) لسان فكرة تدعو للحق، وتؤمن بالقوة، وتنادي بالعدالة والحرية، والله نسأل أن يتقبلها منا عملا خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعلها للإسلام صوتا مدويا، إن الله على كل شيء قدير،.. ومنه نستمد العون.. وبه التوفيق".

وقد صدرت مجلة "الدعوة" في هذا الإصدار الثاني الجديد، بعد أن اصدر الرئيس السادات قراراته الخاصة بإغلاق المعتقلات والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ومن بينهم المعتقلين من جماعة الإخوان المسلمين ، سواء كانوا معتقلين منذ حادث المنشية في أكتوبر 1954م، أو على اثر الصدام الثاني مع مال عبد الناصر في عام 1965م، حيث دخل الرئيس السادات في معارك سياسية مع الاتجاهات اليسارية، ولذلك اتجه إلى القوى اليمنية، وخاصة الدينية، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمين، الذين سعى إلى التحالف معهم ليكونوا عونا له في معاركه مع اليسار.

وظلت مجلة "الدعوة" في إصدارها الثاني الجديد تصدر شهريا (مؤقتا) بانتظام إلى السنة الحادية والثلاثين (العدد منذ صدروها، ورقم 65 في الإصدار الثاني)، والذي صدر في ذي القعدة 1401هـ- سبتمبر 1981م، وهو العدد الذي صادرته السلطات الحاكمة، ولكن أعيد طبعه في الخارج بعد أن تسربت نسخة منه. وتصدر غلاف هذا العدد عنوان يقول:" لماذا اقتحم رجال الداخلية مجلة "الدعوة" وتكلم الأستاذ عمر التلمساني في افتتاحية العدد تحت نفس العنوان، وتناول فيه حادث اقتحام مباحث أمن الدولة لمقر مجلة "الدعوة" وما فعله رجال الشرطة بالدار، وذكر في مقاله بأن " محاربة الله في شخص دعاته جهد ضائع ومحاولة فاشلة، لأن الله الذي تعهد بحفظ دعوته لن يحفظها هباء يطير في الفضاء، ولكنه يحفظها برجال يعدهم لحملها مهما لاقوا في سبيلها" واختتم مقاله قائلا:" صادروا المجلة إن شئتم، فكلمة الله لن تتوقف، لأن كل ألسنة المسلمين مجلات، وأغلقوا الدار إن أردتم، فكل قلوب المسلمين دور لدعوة الله، وافعلوا بالدعاة إلى الله ما حلا لكم، فالدعوة ليست دعوتهم، ولكنها دعوة ملك الملوك، الجبار الذي ر يقهر، والقوي الذي لا يغلب ، والباطش الذي لا يهن ولا يدحر " إن بطش ربك لشديد ، إنه هو يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد" (البروج: 12- 16)، إني أكبت جماح القلم كبتا، فما فعلتم لا تتسع الصحف لنقده، ولا أنهار الدنيا لمحو آثاره، والسلام على من اتبع الهدى، وراقب ربه ثم اتقى" وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين" (المؤمنون: 118).

خامس عشر : مجلة "الدعوة" المهاجرة:

صدرت عن المركز الثقافي الإسلامي في فيينا بالنمسا، صدر العدد الأول منها استمرارا لأعداد مجلة "الدعوة" العدد (66) بتاريخ المحرم 1402هـ- توفمبر 1981م في السنة الحادية والثلاثين، في أربعين صفحة من الحجم الصغير مقاس (23في 17) ، والمقالات التي نشرت بها لم توقع بأسماء كاتبيها، ما عدا مقالات الشيخ حسن البنا، والأستاذ عمر التلمساني.

وقد ذكرت المجلة أن "هذه الرسالة ليست بديلة عن مجلة "الدعوة" فهي لا تريد ذلك ولا تستطيعه، إنما هي محاولة من أصدقاء "الدعوة" وتلاميذها من أجل استمرار أداء رسالتها الإسلامية المتميزة، ومنهجيتها الصادقة المنزلة، بعد أن حالت الأحداث الأخيرة التي شهدتها مصر دون صدور "الدعوة" واضطربت الساحة الإسلامية بسيل من التضليل والتزوير والاتهام.

وصدرت طبعة جديدة من هذه المجلة المهاجرة باللغة الإنجليزية من العدد (69) للسنة الثانية والثلاثين في ربيع الآخر 1402ه، - فبراير 1982م، وهي ترجمة للطبعة العربية وتصدر بعدها بأسبوعين، ثم توقفت المجلة المهاجرة بعد ذلك عن الصدور.. ونأسف لعدم تمكننا من معرفة تاريخ التوقف عن الصدور.

وفي الختام .. وعند هذا الحد، نكون قد وصلنا – بحمد الله وتوفيقه- إلى محطة النهاية، في مسيرة تلك " التجربة الصحفية الرائدة للإمام الشهيد حسن البنا في دعوة الإخوان المسلمين" والتي انتظمت في عقدها في عدي المرشدين العامين: الثاني والثالث لجماعة الإخوان المسلمين (الإمامين : حسن الهضيبي، وعمر التلمساني.. عليهما رحمة الله ورضوانه) ، إلا أن تلك الصحف جميعها في العهود الثلاثة الأولى للجماعة، جاءت كلها – دون تفرقة- بمثابة حلقات متينة، مضيئة، متجانسة، ومترابطة في سلسلة هذه " التجربة الصحفية الرائدة.." كما كانت كلها ترجمة معبرة بصراحة وعلانية، عن فهم الإخوان المسلمين للدين والحياة، مع الالتزام التام بالخط الذي رسمه الإمام الشهيد حسن البنا، منذ بداية تأسيس الدعوة، وأكدت أيضا تواصل وترابط صحف تلك العهود الثلاثة الأولى، لأنها استقت جميعا من نبع واحد صاف، مؤسس على الأصول التي قامت عليها رسالات الأنبياء من جهة، وعلى ما أبدعه العقل البشري في هذا المجال من جهة أخرى، وأوضحت تلك المسيرة الصحفية الرائدة، اهتمام الإخوان المسلمين المبكر بالصحافة باعتبارها أهم وسائل الإعلام تأثيرا في المجتمع، وهذا الاهتمام يرجع بالدرجة الأولى- دون شك- إلى طبيعة مؤسس الجماعة الإمام الشهيد حسن البنا الذي أظهر اهتمامه بالصحافة مبكرا، حتى قبل أن يؤسس جماعته ويصدر صحفها.

فقد تأثرت صحافة الإخوان المسلمين- على امتداد مسيرتها- بصورة واضحة في معالجتها لمختلف القضايا الدينية والدنيوية، بفكر الإمام حسن البنا وآرائه المرتكزة على الإسلام الذي قامت عليه دعوة جماعة الإخوان المسلمين، فقد كان فكر الإمام البنا هو الرافد الأول لصحافة الجماعة، وهذا أمر طبيعي يتناسب مع الظروف التي نشأت فيها الجماعة ، وظهرت فيها صحفهم، إذ كان الإمام حسن البنا دائما هو صاحب المبادرة والرأي، فكان بحق هو المنظر الأول لجماعة الإخوان المسلمين وصحافتهم، والتي كانت بحق تجربة صحفية رائدة قاد مسيرتها الإمام الشهيد في أحضان دعوته االمباركة، التي نستعيد عبير أمجادها الآن، في احتفالنا بالذكرى المئوية لميلاد الإمام البنا، الذي ينظمه " مركز الإعلام العربي" برئاسة الأستاذ صلاح عبد المقصود وأصحابه الكرام.

ولئن كانت دعوة الإخوان المسلمين في الوقت الحاضر ليس لها صحافة ولا دار- لظروف قاهرة معروفة للجميع- فلا أجد أمامي أفضل من أن أكرر وأردد نص ما قاله فضيلة الأستاذ عمر التلمساني (عليه رحمة الله ورضوانه) في مقاله بالعدد الأخير من مجلة الدعوة التي صادرته السلطات الحاكمة في سبتمبر 1981م، قال فضيلته:" صادروا المجلة إن شئتم، فكلمة الله لن تتوقف، لأنكل ألسنة المسلمين مجلات.. وأغلقوا الدار إن أردتم، فكل قلوب المسلمين دور لدعوة الله. وافعلوا بالدعاة إلى الله ما حلا لكم ، فالدعوة ليست دعوتهم، ولكنها دعوة ملك الملوك، الجبار الذي لا يقهر، والقوي الذي لا يغلب، والباطش الذي لا يهن ولا يدحر.. ".

مشروع البنا.. أفق استشرافي

في مئوية الميلاد.. مستقبل رسالة البنا

د. رفيق حبيب

كيف بنى حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين ؟

د. عمرو الشوبكي

في مئوية الميلاد.. مستقبل رسالة البنا

د. رفيق حبيب

في ذكرى مرور مائة عام على ميلاد الإمام حسن البنا ، ومرور ثمانية وسبعين عاما على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، يتبادر إلى الذهن العديد من التساؤلات حول مستقبل جماعة الإخوان المسلمين، ومستقبل رسالة الإمام الشهيد حسن البنا.

وربما يتساءل البعض عن العلاقة بين مستقبل الرسالة ومستقبل الجماعة، وحتى الآن سنجد أن الرسالة ارتبطت بالجماعة، ولكنه لم تقف عند حدودها، بل ظلت الرسالة أوسع مدى، وأكثر انتشارا، ولكن الجماعة بقين كأهم تنظيم يحمل هذه الرسالة، وأكثر التنظيمات استمرارا، وأكثرها انتشارا.

وفي البداية نرى أن مستقبل رسالة البنا، يرتبط بمستقبل الجماعة، من حيث إنها جماعة محورية تعمل في قلب التيار الحامل لرسالة البنا.

حتى أننا نتصور أن درجة تواجد التيار الذي مثله الإمام البنا، يرتبط بدرجة تواجد جماعة ألإخوان المسلمين، وهنا نؤكد على أن اختفاء الجماعة أو تقلصها أو حتى نهايتها،لا يعني انتهاء لرسالة البنا أو لفكرته، وهي ليست فكرة قاصرة عليه، بل لها تواجدها وجذورها، فإذا اختفت الجماعة ستبقى الفكرة تبحث عمن يتبناها، ولكنها ستمر بمرحلة تراجع واضح، وكأنها تنهي مرحلة من تاريخ الفكرة، لتبدأ مرحلة أخرى، لا نعرف على وجه الدقة كيف ستكون.

يعني هذا أن الجماعة تمثل الرافع الرئيس للفكرة، وأنها محورها وعمودها الأساس، وهي لذلك تمثل الفكرة تمثيلا مركزيا واضحا، وتجعل الفكرة حاضرة في البلاد العربية والإسلامية، حضور الجماعة نفسها.

والجماعة ترى أنها الجماعة الأم، وهي كذلك من حيث الدور الريادي، والتاريخ الطويل، والانتشار والاستمرار، وهذا لا يعني أنها الجماعة الوحيدة التي تعمل من أجل الفكرة التي تبناها الإمام البنا، ولكن يعني أنها تمثل الجماعة المركزية، صاحبة الدور الأكبر تاريخيا في العمل من أجل رسالتها، ورسالة الإمام الشهيد.

وتلك في الواقع مسألة مركزية في فهم مستقبل الرسالة ومستقبل الجماعة، فلا الجماعة تملك الفكرة، ولا هي حكر عليها، ولكنها تمثل ركيزة للفكرة، تؤثر عليها تأثيرا كبيرا، فتراجع الجماعة يؤثر على الفكرة أكثر من تراجع أية رموز، أو كيانات أخرى تحملها، وتقدم الجماعة يؤثر على مكانة الفكرة أكثر من أي تقدم تحققه جماعات أخرى.

والأمر الأخير أن الجماعة هي صاحبة التاريخ الطويل والمستمر في الدفاع عن فكرتها ، وغيرها من الجماعات والرموز، تظهر وتختفي، ولم يحقق أي منها القدرة على الاستمرار التاريخي الطويل.

تلك في الواقع علاقة تفاعلية بين الفكرة والجماعة، تجعل على الجماعة مسئولية مركبة، فإذا حاولت احتكار الفكرة، تضر بها، وإذا تراجع دورها تضر بالفكرة أيضا، وفي نفس الوقت سنجد أن الفكرة تحتاج للعديد من الجماعات والرموز التي تتبناها حتى تتحقق، ولا يكفي أن تتبناها جماعة واحدة، لأن الجماعة مهما اتسعت وانتشرت لن تكون الأمة، بل ستظل جماعة من الأمة.

وكأن الطريق أمام جماعة الإخوان المسلمين محدد بالعديد من التحديات، التي تتطلب توازنا في دور الجماعة، حتى تستطيع أن تحمي فكرتها، وتستمر في نشر دعوتها، وفي نفس الوقت تظل هي الحامي الرئيس للفكرة، دون أن تكون محتكرة لها، فتسمح بتمدد الفكرة داخلها وخارجها، وفي تنفس الوقت تظل هي القوى الرئيسة التي تعيد تواجد الفكرة كلما تراجعت.

وكأننا نقول: إن الجماعة هي الجماعة الأم للفكرة، لا تتركها ولا تحتكرها، والفكرة لن تكون بدونها، ولكنها لن تكون بها فقط، تلك هي أول الإشكاليات وبداية التحديات.

فما الفكرة والرسالة؟

البداية الحقيقية لفهم رسالة البنا ودوره التاريخي، وفهم الدور التاريخي لجماعة الإخوان المسلمين هي البحث عن الفكرة المركزية التي دارت حولها رسالة البنا، ودور الجماعة من بعده.

وتلك الفكرة هي سبب رئيس في الاستمرار، كما أنها سبب رئيس في المحن والمواجهات التي تمر بها الجماعة.

والفكرة بسيطة في منطقها المركزي، وهي استعادة دور الإسلام في حياة المسلمين، والدور هنا مقصود به الدور الشامل، الذي يشمل مختلف جوانب الحياة، وحول تلك الفكرة دارت رسالة البنا، ورسالة جماعة الإخوان المسلمين، من هذه الفكرة تتفرع أفكار أخرى، حول إصلاح مسار الممارسة الدينية لدى المسلمين، وحول البدع والخرافات، وغيرها من السلبيات التي تمر بها أي جماعة دينية، ولكن المرتكز الرئيس لرسالة البنا، كان محاولة استعادة الدور الذي لعبه الإسلام في حياة الأمة الإسلامية، بعدما تراجع هذا الدور، خاصة في الحياة العامة.

لذا كانت الرسالة في جوهرها حول تطبيق الدين في الحياة، بجانب تعظيم الممارسة الدينية والتمسك بالعقيدة والعبادة، ولكن مختلف الجوانب الدينية التي ركزت عليها رسالة البنا، كانت تمثل موضوعا لعديد من الجماعات والحركات، ولكن الفكرة الأساسية التي ميزت رسالته عن غيرها من المحاولات والرسائل والحركات الدينية، أنه ركز أساسا على تطبيق الدين في الحياة، وعلى أهمية استرجاع دور الإسلام في الحياة العامة، بما فيه المجال السياسي والمجال التشريعي.

وهنا واجه البنا حالة تاريخية بدأت من قبله، واستمرت من بعده، ولكنه سجل لها تقدما هائلا من وجهة نظره في اللحظة التي فكر فيها في إنشاء الجماعة، تعني بذلك تراجع مرجعية النظام العام والنظام السياسي عن الأساس الدينية والحضاري للأمة، ولقد مثلت حادثة إلغاء الخلافة الإسلامية حدثا رمزيا في هذا المجال، وأصبحت تؤرخ للحظة التاريخية التي أعلن فيها عن استيراد مرجعيات سياسية جديدة للأمة.

إذن فكرة البنا ورسالته، ترتبط باللحظة التاريخية، ولهذا في ترتبط بتلك المرحلة التاريخية التي واكبت انهيار الأمة وتراجعها وتراجع دولتها، وبداية عملية الاغتراب السياسي والفكري والقانوني الشامل.

وفي اللحظة التي بدا فيها أن الأمة تخرج من أصولها الحضارية والدينية بدأت رسالة البنا، والتي تميزت عن رسالات من جاء قبله، مثل جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده ، في أن من سبق الإمام البنا كان يحاول إصلاح الأمة من داخلها ومن داخل دولته، لأن الانفصال الكامل بين الدولة والأمة لم يكن تم بالفعل على أرض الواقع، بالدرجة التي تم بها بعد ذلك، فبعد محاولات إحياء الأمة من داخل دولة الخلافة، أو محاولات إحياء دولة الخلافة، أصبح التحدي الراهن هو في وجود الدولة المعبرة عن الأمة، والمعبرة عن مرجعيتها الحضارية والدينية.

وأمام ذلك التحدي، كانت فكرة البنا هي استعادة دور الإسلام ، واستعادة الدولة المعبرة عن الأمة العربية والإسلامية.

وهذه الفكرة في طبيعته فكرة محورية ومركزية، وليس فكرة تفصيلية، أي أنها مركز للحركة والموقف السياسي والاجتماعي والثقافي والديني، وليست مجرد موقف مسألة سياسية أو اجتماعية، وشمولية الفكرة تمثل مركزا رئيسا في طبيعتها، وطبيعة الرسالة، بل إن شمولية الفكرة مثلت أساسا لتاريخها وتاريخ التحديات التي واجهتها، فالدولة في ذلك الوقت، وتحت الاحتلال الأجنبي، تنتمي لمرجعية مختلفة عن مرجعية الأمة، وتخرج من الرجعية الدينية للأمة، والحياة الثقافية والسياسية، أيضا ، تخرج من مرجعية الأمة، ويظهر فيها العديد من محاولات التقليد والاستلاب للغرب.

ومع ظهور التغريب كحالة واقعة وحقيقية، ومع بداية وصول الأفكار المستوردة لمرحلة أن تكون مرجعية الدولة والأحزاب السياسية، مع هذه البدايات، نفهم رسالة البنا، فهو يقول: علينا العودة لمرجعيتنا، وإعادة دور الإسلام كمنظم أعلى في حياة المسلمين.

والفكرة واضحة وبسيطة، وليست فكرة مركبة أو معقدة، وهي فكرة يمكن أن تصل للناس جميعا، فلا توجد عوائق بينها وبين الناس، ولا يوجد لها بيئة اجتماعية مناسبة، وبيئة أخرى غير مناسبة.

هي إذن فكرة لكل الناس ، ويمكن أن يقبلها أي من الذين تصل إليهم، ولكنها في الواقع فكرة ضد من يملك السلطة، وفي مواجهة النظام الحاكم، وفي مواجهة المرجعية السياسية الجديدة المستمدة من المشروع السياسي الغربي.

وهي فكرة ضد كل محاولة لاحتلال البلاد العربية والإسلامية ، أي أنها بطبيعتها ضد كل هيمنة خارجية، وضد التغريب، وضد النخب المتغربة، وضد كل محاولات الهيمنة للنخب المتغربة على عقول الجماهير.

هي فكرة محددة، يسهل الاستدلال عليها، وتقديم الأدلة المؤكدة لها، وهي فكرة جماهيرية بطبعها، فهي عندما تصل للناس تكلمهم عن أهمية احتكامهم للإسلام في حياتهم، وهذا هو التوجه الطبيعي للمتدين، فالمسلم يحتكم للإسلام في حياته، فإذا جاء من يوضح له أنه لا يحتكم للإسلام في كل جوانب حياته، فمن السهل إقناع هذا الإنسان المتدين بأهمية أن يكون لدينه الدور المركزي في كل جوانب حياته.

فلم يكن هناك أي عائق حضاري أو ديني أو ثقافي بين الفكرة وبين المستمع إليها، ولكنها في النهاية كانت تصل لمن يريد العمل من أجل هذه الفكرة، كمن تصل لمن يؤمن بها، ولكن لا يريد العمل من أجل الفكرة، بل يعيش بالفكرة ويمارس الحياة العادية، فمن الناس من يحب الانتماء لتنظيم له دوره الدعوي والعام، ومنهم من لا يحب الانتماء لتنظيم، ويفضل ممارسة حياته العادية، أي من لا يفضل القيام بدور عام.

الفكرة بالطبع لم تقنع كل الناس، ولكن الإقبال على الفكرة، وعلى التنظيم كان مذهلا، حتى وصلت الجماعة لعدد من العضوية في فترة صغيرة نسبيا، وهو عدد يمثل ظاهرة في حد ذاته، وقد كان أما الذين يميلون للنشاط العام العديد من البدائل، ومنهم من اختار اليسار، ومنهم من اختار الحزب الوطني، ومصر الفتاة، ومنهم من اختار جماعة الإخوان.

وكانت كل القوى الوطنية تعمل من اجل الاستقلال، ولكن جماعة الإخوان كانت ترى الاستقلال بصورة شاملة، فلم تكن تراه في الاستقلال العسكري فقط، بل كانت تراه في الاستقلال الحضاري الشامل، والعودة للأصول الحضارية والدينية للأمة، وإعادة بناء نظامها الاجتماعي والسياسي على أسس من القواعد الدينية الحاكمة، وكان هذا الاختلاف بين جماعة الإخوان وغيرها من الحركات السياسية، سببا في وصول الجماعة إلى مختلف أرجاء البيئة الاجتماعية المصرية، وسببا في تشعبها داخل البنية الاجتماعية المصرية، فالجماعة منذ بدايتها تمثل بنية اجتماعية متشعبة ومترابطة، وهي متداخلة بصورة كبيرة داخل باء الجماعة المصرية.

أسباب النجاح والاستمرار

حتى نعرف مستقبل الرسالة والجماعة، علينا معرفة أسباب استمرار الجماعة ورسالتها حتى الآن، والفكرة هي السبب الأول في الاستمرار، لذلك نقول: إن الفكرة لا تحتكرها الجماعة أو مؤسسها، فهي فكرة أصيلة في الفكر الإسلامي الديني والحضاري، وهي فكرة لها جذورها التاريخية في التاريخ العربي والإسلامي، فمسألة المرجعية الدينية والحضارية للأمة، هي جزء من تاريخ نهضتها ، ومسألة أن الدين هو المنظم الأساس للحياة بكل جوانبها، هي واقع تاريخي محقق في حياة الأمة العربية والإسلامية وعبر القرون العديدة.

ومعنى هذا أن الوعي الجمعي لم تغب عنه تلك الحقائق، ومن قم فإن الدعوة لاستعادة الأمة لمرجعيتها، ليست فكرة جديدة أو اختراعا جديدا، ولكنها كانت واقعا في تاريخ الأمة، ما زال الوعي ا لجمعي يدركه، وما زالت كتب التاريخ تحفظه.

من ثم كان الإمام البنا يدعو الناس لأصل في تاريخهم ابتعدوا عنه، وهو يناديهم بالرجوع إليه، وكان عليه أن يحدد أسبابه لذلك، ولكنه كان يأخذ من ذاكرة الأمة وتاريخها الجمعي، ويعيد رسم الفكرة أمامها ، ويحدد الطريق لتحقيق الفكرة، وبهذا أصبحت الفكرة تنبع من لناس ، وتعود إليهم، ولم تكن غريبة عنهم، ومن هنا تحقق الأساس الأول لنجاح الفكرة واستمرارها، لأنها فكرة من الناس وإليهم، وهذا في تصورنا السبب الرئيس لبقاء جماعة الإخوان المسلمين وانتشارها.

ولكن هناك بالطبع أسبابا أخرى، جعلت الجماعة تستمر، رغم أن غيرها من الجماعات لم يستمر، حتى مع اشتراكهم في نفس الفكرة، وهنا علينا التمييز بين استمرار جماعة الإخوان المسلمين، واستمرار أي تنظيم أهلي آخر، كالجمعيات الأهلية مثلا.

فالعديد من الجمعيات الأهلية مرت عليها عقود عديدة، وبعضها قارب القرن من الزمان، ولكن ا لحديث عن الجمعيات الأهلية أمر آخر، فهو حديث عن منظمة اجتماعية أهلية، تقوم بدورها، ويعد استمرارها نتاجا لتواصل العمل بين الأجيال المتعاقبة عليها، ولكن عندما نتكلم عن جماعة تحمل رسالة التغيير والإصلاح، فنحن في الواقع نتكلم عن حركة اجتماعية وسياسية، وبالتالي تكون أسباب استمرارها أو أسباب فشلها مرتبطة أساسا بوضعها داخل حلبة الصراع والمواجهات السياسية، مع القوى السياسية الأخرى، ومع نظام الحكم نفسه، ومع القوى الخارجية المتدخلة في الشأن الداخلي، أو المعتدية على الأمة، أو تلك التي تحاول فرض هيمنتها على الأمة.

التنظيم والسمع والطاعة

هنا نحن نتكلم عن أسباب الاستمرار رغم المواجهات، ومحاولات تدمير الجماعة والقضاء عليها، وبالتالي نحن بصدد الحديث عن كيفية استمرار جماعة في القيام بدورها النضالي، التغيري والإصلاحي، رغم كثرة القوى النافذة المعادية لها.

وإذا أردنا الوقوف على العامل الأول المسئول عن استمرار الجماعة، فسنجد أننا نتحدث عن لتنظيم، فقد كانت فكرة البنا منذ اللحظة الأولى هي تكوين تنظيم يحمل الرسالة، وتلك الرؤية في الواقع كان لها دور كبير سلبيا، والحقيقة أن التنظيم في حياة جماعة الإخوان المسلمين، مثل عنصرا إيجابيا بالأساس، وكان له في ذات الوقت جوانب سلبية، وفي هذه النقطة كما في غيرها، سنجد أن نقاط القوة في حياة جماعة الإخوان المسلمين، تكون أحيانا هي نقاط الضعف.

وحتى تتضح الصورة، علينا النظر إلى دور التنظيم في بناء جماعة الإخوان المسلمين، فهو ليس مجرد جانب من الجوانب، أو وسيلة من الوسائل، ولكنه الوسيلة الرئيسة لتحقيق الغاية.

فقد رأى البنا أن وجود تنظيم قوي، يمثل نخبة حركية نشطة، تتبنى الفكرة والرسالة، هو الوسيلة الرئيسة لتحقيق الرسالة، فعندما يوجد للفكرة جنود مستعدون للتضحية من أجل الفكرة ومن أجل نشرها، عندئذ يمكن الاستمرار في نشر الفكرة حتى تتحقق الغاية، وتتحقق الفكرة على أرض الواقع.

لهذا لم يبن البنا تنظيما أهليا عاديا، ولم يبن تنظيما سياسيا عاديا، بل أقام تنظيما له خصوصيته الواضحة من اليوم الأول، وحتى الآن، فهو تنظيم مترابط أشد الترابط، ولدرجة تجعل ترابطه شاملا لمختلف الجوانب الحياتية لأعضاء التنظيم، فكل عضو في التنظيم ينتمي حياتيا للتنظيم في مختلف جوانب حياتهن بمعنى أن العضو لا يعيش حياته العادية، ثم يشترك مع التنظيم في بعض الأنشطة الدعوية والحياتية، ولكنه ينتمي للتنظيم ، ويعيش كل جوانب حياته، وكل لحظات حياته مع التنظيم.

وتلك الخاصية جعلت التنظيم مترابطا، لأنه يقوم بكل الأدوار في حياة الأعضاء، فيكون له أثره على حياتهم الاجتماعية، والدينية، والسياسية، والثقافية، والعملية المهنية.

وما دام الفرد يعيش كل حياته في التنظيم، فهو مكرس تماما لهذا التنظيم، يعيش له وبه، وتلك الرابطة الحياتية،كان وما زال لها دور رئيس في تماسك التنظيم.

ومن هنا نلمح أن التنظيم متماسك اجتماعيا، وكأنه وحدة اجتماعية واحدة، أي كأنه عائلة كبيرة، وهذه الخصيصة تجعل كل انتماءات الفرد الحياتية مرتبطة بالتنظيم، وتجعله لا يستطيع أن يستغني عن التنظيم.

ولم يكن التنظيم عاديا، بل كان متميزا منذ أيام الإمام حسن البنا ، فقد بنى للتنظيم على قواعد داخلية، منها قواعد البيعة والطاعة، وهي في الواقع قواعد مؤسسية متميزة، مثلت قوة حقيقية للتنظيم، وما زالت تمثل أحد أبرز مناطق قوة التنظيم، والتي تظهر في العديد من المناسبات، حيث يرى الملاحظ الخارجي أن التنظيم يتحرك وكأنه رجل واحد وشخص واحد، في تناغم وتناسق وتعاون، نادرا ما يتحقق داخل أي تنظيم.

وهنا نصل للعلاقة بين الإيجابيات والسلبيات، فالتنظيم القوي الدقيق، يفرض العديد من القواعد على الأفراد، والملاحظ الخارجي يرى أن التنظيم يقوم على درجة عالية من السمع والطاعة، ولكن تلك القواعد هي التي جعلت التنظيم قادرا على الاستمرار والبقاء رغم كل المحن.

وهنا نرى إشكالية مهمة، هي كذلك من وجهة نظر المراقب الخارجي، وبعض ناقدي الجماعة، وبعض من خرج منها أو عليها، ولكنها ليست إشكالية بهذا المعنى من وجهة نظر القائمين على أمر الجماعة، وحتى المنتمين لها، والذين يتبعون قواعد السمع والطاعة.

فالواقع داخل الجماعة يؤكد على أن الانتماء لها هو انتماء لفكرة ورسالة، والسمع والطاعة هو الجانب الإداري التنفيذي من قبل الأعضاء لقرارات القيادات، والتي يجب أن يحركها دافع واحد وهو تحقيق الهدف من الجماعة، أي تحقيق رسالتها.

والعضو المنتمي للجماعة يمارس السمع والطاعة إيمانا منه بأنه ينفذ الدور المطلوب منه لتحقيق الهدف الذي آمن به، وهنا تأتي العلاقة بين الشورى والسمع والطاعة، ففي مؤسسات الجماعة وأجهزتها المختلفة، مراتب مؤسسية للشورى، وأخرى للسمع والطاعة، أي بداخلها جهاز تشريعي يقوم على الشورى، ثم جهاز تنفيذي يقوم على السمع والطاعة.

فالواقع داخل الجماعة يؤكد على أن الانتماء لها هو لفكرة ورسالة، والسمع والطاعة هو الجانب الإداري التنفيذي من قبل الأعضاء لقرارات القيادات، والتي يجب أن يحركها دافع واحد هو تحقيق الهدف من الجماعة، أي تحقيق رسالتها.

والعضو المنتمي للجماعة يمارس السمع والطاعة إيمانا منه بأنه ينفذ الدور المطلوب منه لتحقيق الهدف الذي آمن به، وهنا تأتي العلاقة بين الشورى والسمع والطاعة، ففي مؤسسات الجماعة وأجهزتها المختلفة، مراتب مؤسسية للشورى، وأخرى للسمع والطاعة، أي بداخلها جهاز تشريعي يقوم على الشورى، ثم جهاز تنفيذي يقوم على السمع والطاعة.

وفي كل المؤسسات أيا كان نوعها، هناك جهاز يقوم على الشورى أو الديمقراطية، أي يقوم على عدد الأصوات، وهو الجهاز القائد، ثم الجهاز الإداري الذي يقوم على السمع والطاعة، والواقع أن كل المؤسسات في شقها الإداري تقوم على السمع والطاعة، فلا يمكن بناء جهاز إداري تنفيذي، لا ينفذ فيه كل فرد دوره المطلوب منه، وكأن أمر تنفيذ الأعمال والخطط يمكن أن يكون متروكا للتوافق في كل خطوات التنفيذ.

ولكن جماعة الإخوان المسلمين أعطت مساحة واسعة للسمع والطاعة، سواء في بعض الأعمال أو بعض المراحل التاريخية.

والحقيقة أنها أعطت للتنظيم في بعض المراحل دورا ومكانة واسعة، وكأننا بصدد لحظات يتحول فيها التنظيم لغاية، ويتحول مبدأ السمع والطاعة لقاعدة تتجاوز قاعدة الشورى، والوقائع على الأرض تؤكد أن الجماعة كانت تتجه إلى التركيز على التنظيم، وقواعد السمع والطاعة في مراحل المحن، أي المراحل التي تواجه فيها حصارا خارجيا وضربات أمنية.

ومن المفهوم أن أي جماعة عندما تواجه مخاطر خارجية تحاول حماية نفسها، ولكن الخط الفاصل بين أهمية الجوانب التنظيمية والارتكان عليها، هو خط دقيق، والملاحظ بشكل عام أن الجماعة في بعض مراحلها فضلت الحفاظ على بقائها بصورة أدت إلى تقليص دورها، وبالتالي تأجل قيامها بتحقيق رسالتها للحفاظ على البقاء، وحماية الجماعة من التعرض لحملات تقضي عليها.

وهنا يبرز سبب من أسباب البقاء، وهو اهتمام الجماعة ببقاء التنظيم، فهي ترى أن الرسالة لن تتحقق بدون التنظيم، وهي نفس رؤية الإمام البنا، ولكن الوقائع تؤكد أيضا أن عملية التوازن بين حماية التنظيم لحماية الرسالة، من العمليات الصعبة، ونستطيع القول، بأن دور الجماعة يتراجع أحيانا بسبب حمايتها للتنظيم، فتكسب بقاء التنظيم كي تبقى الرسالة، ولكن ا لرسالة قد يتأخر تحقيقها.

بنفس هذا المنطق، نجد أن الجماعة في بعض المراحل تعطي أولوية لمبدأ السمع والطاعة، وتؤجل نسبيا عمل مبدأ الشورى، لحماية التنظيم، وهي بهذا تحمي التنظيم بالفعل، ولكنها تعطل تطور ونمو التنظيم كأدوات وأفكار.

وبهذا نصل إلى نفس المعنى، فالجماعة تحمي التنظيم بدرجة قد تؤجل دورها، ويصبح الاختيار بين قدر من تحمل المخاطرة لتحقيق الأهداف، أو قدر أكبر من الحذر للتأكد من بقاء التنظيم وعدم المغامرة به.

وهذا السؤال الحائر يبقى مهما، وهو في مئوية الميلاد للإمام البنا، أكثر أهمية، وهو في هذه المرحلة التاريخية التي تمر بها الجماعة المصرية، وتمر بها الأمة العربية والإسلامية، يصبح أكثر إلحاحا.

فالجماعة عليها دور رئيس في مصر والعديد من البلاد العربية والإسلامية، بحكم رسالتها، وما وعدت به جماهيرها، ولكن أمامها العديد من القوى المتربصة بها، وعليها أن توازن وتحسب حركتها، فهل تؤجل دورها للحفاظ على بقاء التنظيم، أم تغامر بالتنظيم نفسه؟ والسؤال صعب على الجميع، على قيادات الجماعة، وحتى على المراقب الخارجي الموضوعي.

ولعلنا في مناسبة مئوية الميلاد، وعير هذا التاريخ الطويل لجماعة الإخوان المسلمين، يمكم أن نرى أن هناك لحظات معينة، جاءت أو ستأتي، سيكون على الجماعة حساب الفرصة التي تواجهها، حتى لا تفوت فرصة قد لا تتكرر، دون أن تغامر وراء وهم غير موجود على أرض الواقع.

ولعل قدرة الجماعة من خلال مؤسساتها التنظيمية، ومن خلال تفعيل مبدأ الشورى، على اتخاذ القار المناسب للتحرك والحفاظ على استمرار التنظيم، سيكون لها أبلغ الأثر في كتابة الصفحات التالية من تاريخ الجماعة.

التربية عماد التنظيم

الحديث عن التنظيم وأهميته في حياة الجماعة، يجعلنا نصل سريعا لمسألة التربية، فالجماعة تقوم على مناهج تربية داخلية، تعد من خلالها العضو، وتؤهله للقيام بدوره في الجماعة، ودوره في مجتمعه، ودوره تجاه رسالة الجماعة.

وليس كل التنظيمات تعتمد على مناهج التربية، ولكن الغالب في التنظيمات السياسية مثلا الاعتماد على اللوائح الداخلية التنظيمية، وتحديد أدوار الأفراد، ولكن جماعة الإخوان المسلمين تختلف عن ذلك تماما، وهي في الواقع تختلف عن معظم التنظيمات السياسية، لدرجة تسمح لنا بالقول أنها ليست تنظيما سياسيا بالمعنى المتعارف عليه.

وهنا نرى أهمية فهم هذه النقطة، التي جعلت العديد من المراقبين الخارجيين لا يحسنون فهم الجماعة، ويرون في طبيعتها وتركيبها أمرا غريبا عليهم، وسنجد أيضا العديد من القوى السياسية ، التي لم تفهم أسباب المواقف السياسية للجماعة، لأنهم تعاملوا معها بوصفها تنظيما سياسيا، وهي ليست كذلك.

فهي جماعة عضوية، كما قلنا، الترابط الداخلي بها عضوي واجتماعي وتلاحمي وتراحمي، وهي في نفس الوقت جماعة فكرية ، يتربى العضو بداخلها على الانتماء لفكرة معينة، وهي فكرة شاملة عن الحياة، وفي نفس الوقت، يتربى العضو في جماعة الإخوان على نمط حياتي محدد، ويصبح له نموذج حياتي وقدوة يقتدي بها، وبهذا المعنى نحن أمام جماعة عقائدية، تهتم أول ما تهتم بالرسالة التي تنادي بها، وتحاول بناء الفرد المؤمن بهذه الرسالة ، كي يدعو هو بدوره الأفراد الآخرين للإيمان بالرسالة التي آمن بها.

ومناهج التربية الداخلية تخلق عضوا له صفات محددة، فهو جندي يعمل من أحجل رسالته، ويؤمن بها، ويحاول أن يفديها بكل ما لديه، وهنا يبرز دور التضحية، فالجماعة مبنية أساسا على التضحية، لا على تحقيق منافع لأعضائها.

وعندما نسأل عن سبب استمرارها، سيكون علينا الاعتراف بأن الاستمرار كان بحجم القدرة على التضحية لدى أعضاء وقيادات الجماعة، فالجماعة استمرت، والأعضاء والقيادات استمروا، رغم الثمن الباهظ الذي دفع من الجميع، ومناهج التربية، بل وعملية التربية نفسها، مسئولة إلى حد كبير عن زرع روح التضحية للدرجة التي مكنت الجماعة من مواجهة كل الضربات التي وجهت إليها.

والتربية تشرح العلاقة بين التنظيم ومبدأ السمع والطاعة، فهي الرابط الحقيقي، أو القناعة الحقيقية التي يتحقق من خلالها التنظيم، ويتحقق من خلالها مبدأ السمع والطاعة، فقوة التنظيم ليست في بنائه الإداري، بقدر ما هي في المبادئ الحاكمة لحركة التنظيم، والقواعد المحددة للأدوار والوظائف داخل التنظيم، وهي القواعد التي تشرح مبدأ السمع والطاعة، وإجمالا سنجد أن عضو الجماعة يتربى على الالتزام أولا، وبأن يكون نموذجا لما يقوله، وينفذ ما يدعو إليه قبل أن يدعو الآخرين، ويقدم ما يملك بروح تقوم على التضحية، وينفذ ما يطلب منه لتحقيق رسالة الجماعة، متجاوزا ذاته وتحيزه، ليذوب الفرد في الجماعة.

من تلك العناصر تشكلت قوة التنظيم، وهي عناصر تحتاج دائما لتفعيل مؤسسات الجماعة، والاحتكام للشورى في وضع السياسات والخطط، حتى يكون التنفيذ مبنيا على الرأي الجماعي، وتصبح مرحلة السمع والطاعة مرحلة تالية لمرحلة الشورى، وهنا تكتسب الجماعة قوتها الحقيقية، القوة التي تسمح لها بالحراك الفاعل، وتسمح لها أيضا بالحفاظ على التنظيم، فمبدأ السمع والطاعة يحافظ على القدرة التنظيمية للجماعة، ويحافظ على تماسك حركتها وتوجهها، ولكن مبدأ الشورى هو الذي يفتح المجال واسعا أمام وضع التصورات والحسابات السليمة لحركة الجماعة، والميل لجانب دون الآخر، سوف يؤثر على مستقبل الجماعة بمعنى أن الميل للتركيز على مبدأ السمع والطاعة يمكن أن يحافظ على وجود الجماعة، ولكنه لن يحافظ على دورها، والتوازن بين مبدأ الشورى ومبدأ السمع والطاعة، هو الذي يحاف على التنظيم وعلى دوره في الوقت نفسه.

بهذا يكون على مناهج التربية التجاوب مع التحديات التي تمر بها الجماعة، ومن الضروري أن تكون تلك المناهج متوازنة من حيث القيم التي تركز عليها، فمثلا من الضروري أن تكون تلك المناهج قائمة على تأكيد مبدأ الشورى في التخطيط، ومبدأ الطاعة في التنفيذ .

فإذا كانت المناهج التربوية تركز على مبدأ الطاعة في التنفيذ، دون تركيز على أهمية مبدأ الشورى، فستكون تلك المناهج داعمة للحفاظ على استمرار الجماعة، ولكنها لن تساعد في تحقيق دور الجماعة على أرض الواقع، يتناسب مع رسالتها.

منهج التدرج الإصلاحي

منهج جماعة الإخوان المسلمين منذ بدايتها، يعتمد على المنهج الإصلاحي، وتلك ميزة مهمة في تاريخ الجماعة، وترتبط بما حققه وما ستحققه، فالمنهج الإصلاحي سيقوم أساسا على محاولة تغيير الواقع تدريجيا، ومن هنا تأتي أهمية فكرة التدرج.

والمنهج الإصلاحي يقوم أيضا على العمل الدعوي، وتلك الخاصية ترتبط بشدة بمسألة التدرج، فالفكرة الأساسية لدى الإمام حسن البنا، هي إعادة دور الدين الشامل في حياة المؤمنين به، وتلك العملية تستلزم في تصوره دعوة المسلمين إلى الفهم الشامل للإسلام.

ولأن العمل الدعوي يقوم على الإقناع، كان من المهم التدرج في دعوة الناس، والتدرج في العمل "الدعوي" وهنا يصبح التدرج منهجا للعملية الدعوية، ومنهجا لخطط جماعة الإخوان المسلمين، ويكتسب منهج التدرج دورا مهما في تاريخ الجماعة، خاصة في اللحظات التي مرت فيها بتجارب الصدام مع أنظمة الحكم، فالأساس أن الجماعة لا تريد استعجال دورها، ولا تريد استعجال قطف الثمار، ولكنها في الوقت نفسه كانت تحاول الحفاظ على دورها، وحماية الجماعة والعمل الدعوي الذي تقوم به.

لهذا نعتبر مراحل الصدام مع النظام الحاكم، سواء في العهد الملكي أو العهد الناصري، خروجا على نهج التدرج الذي تعتمده الجماعة.

لهذا نجد الجماعة تعود لنهجها في التدرج الدعوي والإصلاحي، رغم الصدامات التي حدثت مع أنظمة الحكم، وكان يبدو للناظر أن الجماعة اختارت التعجيل لتحقيق أهدافها، خاصة عندما تحالفت مع حركة الضباط الأحرار، ولكن تجربة التحالف علمت الجماعة العودة لمنهج التدرج مرة أخرى، وإذا عدنا للإمام حسن البنا، سنجد أنه أدرك منذ البداية أن الرسالة النهائية التي يريد تحقيقها تعتمد أساسا على عدد من يؤمنون بها، فإذا أصبحت الفكرة عامة وسائدة بين الناس، أصبح الوقت مناسبا لتحقيق الرسالة على المستوى العام، ومن ذلك تحقيقها على المستوى السياسي.

والسؤال المهم الذي يواجه الجماعة، هو تعريف الوقت المناسب، فبعد ما حدث من صدمات، وبعدما استطاعت الجماعة إعادة تكوين تنظيمها، بعد كل مرة تلقت فيها ضربات من النظام الحاكم، تعود الجماعة لمنهجها الأساس في التدرج في الدعوة والعمل السياسي والاجتماعي والديني.

ولقد أصبح من الواضح صعوبة تحديد النقطة التي يكتمل فيها نشر الرسالة، ويأتي وقت تطبيقها العملي على المستوى السياسي، ولكن الشواهد تؤكد على أن الخبرات المريرة التي مرت بها الجماعة غيرت من تصوراتها عن لحظة التمكين، فأصبحت تلك اللحظة أيضا لحظة متدرجة، ولن تحدث فجأة

وكأن التصور الغالب الآن، يدور حول نشر الفكرة حتى تأتي لحظة يصبح عندها انتشار الفكرة من التوسع بصورة تسمح تلقائيا بتحقيق الفكرة، أي شمولية الرسالة الإسلامية على المستوى السياسي والقانوني والدستوري.

وهذا التصور يفتح المجال أمام تأجيل التحقيق الكامل للفكرة، حتى تنتشر بين أغلبية الناس، فيناصرها أغلبية المسلمين، ولكن الأمر لا يأتي من خلال مدى نشر الفكرة، لأن العائق أمام نشر الفكرة، لا يأتي من الناس أساسا ، بل يأتي من النظم الحاكمة والقوى الخارجية المهيمنة.

ولهذا فتحقق الرسالة لن يحدث بدون تغيير سياسي في النظام السائد، وهذا التغيير إما أن يكون بتحقيق الحرية السياسية الكاملة، مما يسمح للجماعة وغيرها من القوى السياسية بالاحتكام لجمهور الناس، أو بمواجهة النظام الحاكم ومحاولة إسقاطه.

والواقع يؤكد أن تحقيق الحرية السياسية الكاملة، يحتاج لمواجهة النظام الحاكم، فحتى يتحقق للجماعة المصرية، أو غيرها من الجماعات الحرية السياسية الكاملة في اختيار الحاكم، يجب مواجهة السلطات المستبدة الحاكمة لتغييرها.

وهنا نصبح أمام إحدى أهم المشكلات التي تواجه الجماعة، فهي لا تريد مواجهة النظام الحاكم مواجهة شاملة، إلا إذا تحقق لها التمكين.

والتمكين من وجهة نظرها هو : تحقيق الانتشار الواسع لفكرتها بين الجماهير، والتدرج هو منهج الدعوة ومنهج الانتشار، بهذا نجد الجماعة تدور حول فكرة البحث عن معيار للتمكين، يكون معيارا جيدا، وفي نفس الوقت عدم التسرع لتحقيق الهدف بدون أن تكون الجماعة مستعدة لمواجهة النظام الحاكم.

والهدف النهائي للجماعة هو: تحقيق الاحتكام للإسلام في حياة المسلمين، بعد إقناع أغلبية المسلمين بذلك، لذا فحجم الجماهير المؤيدة للجماعة أو لفكرتها، يصبح محكا مهما، وهذا الحجم له علاقة بالتمكين، أي تحقيق التمكين للرسالة في عقول الناس.

لهذا نرى أ الجماعة ترى التدرج هو المنهج الأساس، حتى تحين لحظة المواجهة مع النظام الحاكم المستبد، ليطلق حرية العمل السياسي، فتستطيع مثل غيرها من القوى السياسية أن تمارس دورها وصولا للحكم، ولكن منهج التدرج، والخوف من المواجهة في توقيت غير مناسب، يتحولان في لحظة ما إلى قيد على حركة الجماعة، مما يجعلها لا تريد مواجهة النظام، حتى وإن كانت قدرتها تمكنها من ذلك، وستظل تلك الحالة مؤثرة على تاريخ الجماعة، بقدر ما يكون الخوف من تكرار المواجهة والصدام حائلا دون اتخاذ قرار المواجهة، خاصة وأنه لا توجد مواجهة مضمونة النتائج.

والأمر الآخر المهم هو: أن أي تنظيم مهما انتشر لا يمكن أن يصل لدرجة أن يكون أغلب الناس أعضاء فيه، ولهذا سيظل حجم الجماعة أقل من أن يشمل أغلبية المسلمين، وعليه قد تبقى الجماعة تؤجل مرحلة الصدام.

ولكن من جانب آخر، نجد أن الجماعة يغلب عليها في أوقات كثيرة التركيز على نشر الرسالة التي تؤمن بها، وهنا تغلب الديني والاجتماعي على السياسي، بأن يكون دورها هو نشر فكرتها بين الناس، وأن نشر الفكرة له الأولوية على تنفيذ الفكرة سياسيا ومن خلال الجماعة نفسها.

والواقع أن هذا تصور آخر، يجعل الجماعة دعوية واجتماعية في الأساس، وليست جماعة سياسية، وهناك فرق بين من يريد نشر فكرة بين الناس، وبين من يرى أن عليه تطبيقها في المجال السياسي بنفسه.

ونظن أن هناك حيرة داخل الجماعة، ومنذ أيام الإمام حسن البنا تدور حول الدور السياسي للجماعة، ومتى يكون عليها التحول إلى نخبة سياسية بديلة، وتحكم بنفسها؟ وهل يمكن للجماعة أن تساند قوى سياسية تؤمن بفكرتها، دون أن تصل للحكم بنفسها؟

وهذه الحيرة تمتد أيضا لمفهوم التمكين، أي: ما المرحلة التي تصبح فيها الجماعة مؤهلة للوصول للحكم؟ وما المرحلة التي يمكن للجماعة فيها مواجهة النظام الحاكم، وفرض تداول السلطة السلمي عليه؟ وتلك الحيرة هي في واقع حيرة واقعية، فلا أحد يستطيع تحديد تلك المعايير بدقة متناهية، ولا أحد يستطيع تحديد كيفية تغيير النظام السياسي، وفرض الحرية والتداول السلمي للسلطة على نظام مستبد، ولا يمكن لأحد وضع حسابات دقيقة عن النتائج.

وهنا علينا التأكيد على أن دور الجماعة في تحقيق التحرر السياسي للأمة، مما يمكنها ويمكن غيرها من عرض رؤيتهم على الناس، والوصول للحكم من خلال انتخابات نزيهة، هو مسألة محورية في مستقبل الجماعة وسيكون لها دور بارز في تحديد مسار المستقبل

وهنا تبرز إشكالية الحسابات المعقدة، والتي يمكن أن تخطئ فتفوت على جماعة الإخوان المسلين اللحظة المناسبة لقيادة حركة التغيير والإصلاح، وتفوت على الجماعة المصرية لحظة يمكن أن تتحرر فيها، ويمكن لهذه الحسابات أن تصيب فتجنب جماعة الإخوان المسلمين تصرفا قد يؤدي إلى سحق الجماعة من قبل النظام، وتجنب الجماعة المصرية فقد إحدى أهم قواها السياسية.

ولكن السؤال يبقى: هل تأتي اللحظة المتناسبة، وتصيب الحسابات، وتقود الجماعة حركة التحرير السياسي للجماعة المصرية، وتكون بالفعل قادرة على ذلك؟

بين الديني الاجتماعي والسياسي

منذ البداية تعددت أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في العديد من المجالات، وكان الإمام حسن البنا مدركا ضرورة تعدد أنشطة الجماعة، وظل هناك ترابط بين فكرة شمولية الإسلام، وشمولية أنشطة الجماعة، ولكن فكرة الشمولية لا تقود بالضرورة لشمولية نشاط الحركة، فقد كان من الممكن أن تكتفي لجماعة بالدعوة لفكرتها، دون ممارسة النشاط الاجتماعي والاقتصادي، ثم النشا السياسي، ولكن من الواضح أن البنا اختار منذ البداية تكوين جماعة متكاملة، لها دورها الديني الدعوي، كما لها دورها الاجتماعي والاقتصادي، ثم يأتي بعد ذلك الدور السياسي.

ونفهم من تكاملية دور الجماعة، أنها تحاول تقديم نموذج تطبيقي لفكرتها عن شمولية الإسلام، وهي في ذلك تحاول تحقيق نماذج متميزة لما تراه نظاما للقيم الحياتية ينبع من المرجعية الدينية والحضارية للأمة.

وهذا النهج كان له دوره الأساس في استمرار دور الجماعة، رغم ما واجهت من مصاعب أو ضربا، فالمنهج التكاملي في العمل والنشاط أدى إلى تكوين جماعة حاضنة لأعضائها، وحاضنة لمختلف أنشطة الأعضاء، وبالتالي أصبحت تحقق الإشباع للأعضاء في مختلف النواحي، وبغض النظر عن العلاقة بين شمولية الجماعة وشمولية الفكرة، أو شمولية الإسلام، فإن تعدد أنشطة الجماعة أدى إلى تكون حركة اجتماعية متميزة.

فقد أصبحت الجماعة منذ بدايتها كيانا اجتماعيا متكاملا، ينخرط في البنية الاجتماعية للمجتمع المصري، ولهذا أصبحت الجماعة كيانا حياتيا، وجزءا من التركيبات والأبنية الاجتماعية للجماعة المصرية، وهذا الأمر جعلها كيانا عميق الجذور في التربة المصرية، ويصعب القضاء عليه.

وعندما نقارن بين العمل الديني والاجتماعي للجماعة، وعملها السياسي سنجد أن الجماعة مارست العمل الديني والاجتماعي بصورة منظمة ومستمرة وتصاعدية، وكانت دائما في مراحلها المختلفة تبني بنيتها الاجتماعية والدعوية بنجاح واضح، ولكن دور الجماعة السياسي مثل مسارا آخر غير المسار الديني والاجتماعي،وشهد تقدما وتراجعا ومراجعات، كما شهد الصدمات والصراعات مع النخب الحاكمة، وربما كان دور الجماعة السياسي من الأمور التي لم تكن واضحة منذ البداية، ولم يتم تحديدها بشكل دقيق، فكانت لجماعة تتراوح بين الدخول مباشرة في حلبة العمل السياسي، وبين تأييد إحدى القوى الموجودة على الساحة السياسية، حتى أيدت في النهاية حركة الضباط الأحرار، ولكنها اكتشفت أن الحركة لن تطبق فهم الجماعة لدور الإسلام في السياسة، ولن تسمح للجماعة بأن تكون شريكا لها.

ومن هذه الخبرة، أصبحت الجماعة تميل للقيام بالدور السياسي بنفسها، خاصة بعد تجاربها المتكررة في الانتخابات في الجامعات والنقابات والمجالس التشريعية.

ولكن على صعيد آخر، كان لدى الجماعة موقف ملتبس نسبيا من مسألة حماية الدعوة، وهي المهمة التي أوكلها الإمام حسن البنا إلى التنظيم الخاص، ولكنه لم يحدد لهذا التنظيم كيفية حماية الدعوة، والقيود والقواعد التي يجب الالتزام بها، وعندما واجهت الجماعة محنة الحل الأولى، تحرك النظام الخاص لحماية الدعوة، بصورة لم ترض قيادات الجماعة، وعلى رأسهم الإمام حسن البنا نفسه.

وظل دور النظام الخاص مسارا للاختلاف داخل الجماعة، حتى مرحلة الصدام مع النظام الناصري، حيث تبين أن النظام الخاص، والذي قام بدور وطني مشرف في الحرب في فلسطين، لم يستطع حماية الدعوة، بقدر ما سبب لها العديد من المشكلات، وأدخلها في مواجهات دامية مع النظام الحاكم، وهنا قررت الجماعة حل النظام الخاص، وانتهت بذلك فكرة حماية الدعوة من محاولات تصفيتها، وأصبحت عملية حماية الجماعة من التصفية تدار من خلال العمل السياسي، واعتمادا على القواعد الجماهيرية الواسعة للجماعة، ومن خلال تجنب الصدام مع النظام.

وهذه الآليات جميعا كانت سببا مباشرا في تعقيد القرار السياسي للجماعة، خاصة قرار التصعيد في مواجهة النظام الحاكم.

وهنا يمكننا أن نتصور مدى تعقد عملية اتخاذ قرار في مواجهة استبداد النظام السياسي المصري، ومحاولته المستمرة لإقصاء جماعة الإخوان المسلمين سياسيا، فالجماعة تريد الحفاظ على كيانها، وفي نفس الوقت الاستمرار في دورها الديني والاجتماعي، مع استمرار تأثيرها السياسي، ودون الدخول في مرحلة يصبح فيها النظام مضطرا لمحاولة حل الجماعة أو فك تنظيمها.

وفي نفس الوقت تعلم الجماعة أن النظام لن يحاول تفكيك الجماعة لصعوبة وخطورة ذلك، حيث إنها كيان متغلغل في البيئة الاجتماعية المصرية، وبهذا تقف الجماعة أمام النظام في محاولة للضغط عليه، دون جعله في مرحلة يصبح فيها مضطرا للمواجهة الشاملة مع الجماعة، والنظام المصري أيضا يقف في وجه الجماعة، ويحاول الحد من تأثيرها السياسي، دون أن يجعلها مضطرة للتصعيد مع النظام دفاعا عن بقائها.

بهذا يمكننا أن نعرف حجم المشكلة التي تواجه الجماعة في القرار السياسي، خاصة وأن القرار السياسي كثيرا ما يتعارض مع الدور الديني والاجتماعي للجماعة، من حيث إن القرار السياسي يمكن أن يحد من قدرة الجماعة على ممارسة نشاطها الديني والاجتماعي، أو يعرض هذا النشاط للخطر، وهنا تحاول الجماعة عمل توازن بين أدوارها، فتعطي لدورها الديني الأولوية، ثم تعطي لكيانها الاجتماعي الأهمية الخاصة له، وتحاول أن تمارس تأثيرها السياسي بدون تعريض الجانب الديني الدعوي، أو الجانب الاجتماعي للخطر.

ولكن الواقع يؤكد على أن النشاط الديني والاجتماعي للجماعة يتعرض لحصار واضح، بسبب نشاطها السياسي، مما يجعل البعض يتساءل أحيانا عن جدوى النشاط السياسي، والذي يحد ن حركة الجماعة في المجال الدعوي والاجتماعي، وكأن المشكلة تتلخص في ثمن النشاط السياسي، ومدى جدوى دفع هذا الثمن، أو إلى أي حد يمكن دفع ثمن النشاط السياسي، وهل يصل ذلك إلى حد المخاطرة بمستقبل الجماعة؟

مرة أخرى نجد أنفسنا أمام نفس السؤال، حول دور الجماعة في عملية التحرر السياسي، خاصة وأن استمرار الاستبداد، يعني في التحليل الأخير منع الجماعة من تحقيق رسالتها في المجال السياسي، أي منعها من تطبيق شمولية الإسلام، والتي لا يمكن أن تكتمل حسب رؤية الجماعة، إلا بالتطبيق في المجال السياسي.

تطور الحركة وتطور الفكر

تمثل قضية الخطاب الدعوي والسياسي لجماعة الإخوان المسلمين واحدة من القضايا التي يدور حولها الجدل والخلاف، فالغالب على الجماعة محافظتها على إطارها الفكري، أو الخطابي، بدون تغير، وتحرص الجماعة على تطوير خطابها، دون الخروج على الإطار الأساسي، مما يعني أن الجماعة ترى أن خطابها الأساسي متا زال صالحا، وهو خطاب البنا، لكن الواقع يطرح العديد من التحديات، فالواقع في الخطاب السياسي للجماعة، يؤكد على أنها غيرت من رؤية الإمام حسن البنا السياسية، ولكنها لا تقول: إنها راجعت فكر البنا واختلفت معه، ولا تقول، إنها خرجت عنه، ولكنها تحاول دائما التأكيد على أنها مستمرة حسب رؤية البنا، ولكنها تطور فيها ولا تخرج عنها.

والواقع يؤكد على أن هناك رغبة في الحفاظ على إطار واحد مستمر لرؤية الجماعة، لدرجة تجعلها تركز على الربط المستمر بين رؤيتها الحالية وإطارها المرجعي، وهناك رغبة في البعد عن فكرة المراجعة، وما تعنيه من ترك القديم لصالح الجديد، وهناك أيضا رغبة حقيقية في عدم نقد فكر الإمام البنا، بل نسبة هذا الفكر إلى زمنه، مما يعني أن التغيير في خطاب الجماعة ليس راجعا لخطأ التفكير الأول، بل إلى تغير الظروف مما يتبعه تغير الرؤية، وكان الإمام البنا، لو قدر له معايشة الظروف الراهنة التي تعايشها الجماعة، لوصل إلى نفس الخلاصة في الرؤية السياسية.

وهنا نلمح بوضوح التركيز على وحدة الخطاب واستمراره، والبعد عن التغير الجذري، أو الانتقال الكامل من خطاب إلى آخر، وأول ما نفهمه من ذلك أن الجماعة تطور خطابها من خلال منهج التدرج، وأن الخطاب السياسي لديها يتدرج في التطور والتغير، ولا ينتقل مرة واحدة من فكرة على أخرى.

ويبدو أن السبب في ذلك يرجع إلى محاولة الجماعة للحفاظ على وحدة وتماسك التنظيم، كما يرجع السبب في ذلك إلى طبيعة تطور الفكر، أو الخطاب الدعوي والسياسي داخل الجماعة، والتي تعتمد على التفاعل مع الفكرة الجديدة على مستوى الجدل والحركة لفترة زمنية، قبل أن يتم استيعاب تلك الفكرة.

وهناك أيضا علاقة تفاعلية مستمرة بين الاتجاهات المختلفة في الجماعة، حيث نجد عملية تنظيمية مركبة يتم من خلالها النقاش المؤسسي حول أي فكرة جديدة، بصورة تفاعلية وحركية، وكأن الفكرة تناقش وتجرب، ويتم اختبارها في معمل حركي، ثم يتم بعد ذلك تبنيها أو رفضها.

وهنا تبرز أهمية الخبرة الحركية، حيث يبدو أن الجماعة لا تطور فكرها بعيدا عن مسار تطور خبرتها الحركية، بل تعتمد أساسا على خبرتها الحركية لتطوير فكرها.

وهنا سنلاحظ ارتباط مسار العمل العام للجماعة، وما فيه من خبرات مع مسار تطور خطابها السياسي، وعليه يمكن أن نلمح علاقة بين مدى تطور الخطاب السياسي للجماعة، ومد الخبرات الحركية والإنجازات الواقعية، التي تحققها الجماعة.

بالطبع هناك اختلاف بين الخطاب السياسي والخطاب الديني الدعوي، حيث إن الخطاب الدعوي، وكذلك الخطاب الاجتماعي، في حالة تفاعل مستمر مع الواقع، أي في حالة تحقق مستمر.

أما الخطاب السياسي فيرتبط بمدى ما تستطيع الجماعة تحقيقه من فعل سياسي، في ظل الحصار الأمني المضروب حولها، ولعل المراقب يلاحظ أن الرؤية الجديدة للجماعة والتي ظهرت في عام 1994م، حول عدد من القضايا المهمة، ومنها المرأة والأقباط والتعددية والشورى والديمقراطية، لم ينلها الكثير من التطوير، حتى عام 2004م حينما أصدرت الجماعة مبادرتها للإصلاح، وخلال عقد كامل كانت الجماعة تعاني من الحصار الأمني، والاعتقالات، والمحاكمات العسكرية، ومع تراجع دورها الحركي السياسي ، توقف خطابها السياسي.

وعندما عادت الجماعة إلى القيام بدور سياسي مشهود في عامي 2004 و 2005م وما بعدهما وجدنا تطورا لرؤيتها التي بدأت ببيان عام 1994م، مما جعل الرؤية أكثر وضوحا واكتمالا.

على كل حال نرى أن الخطاب يرتبط بالحركة لدى الجماعة، مما يجعلها تبتعد عن التنظير المستقبلي الفكري، أي وضع تصور فكري يتجاوز الوضع السياسي الراهن، ويحدد موقفها السياسي المستقبلي، وتلك الخاصية ترتبط بطبيعة الجماعة كتنظيم حركي، وهنا نلمح العديد من الملاحظات المهمة، منها: تركيز الجماعة على الفكرة البسيطة، وعلى القناعات المباشرة والتفسيرات المحددة، فهي لا تترك مساحة للجدل والغموض.

وقد يكون الجدل الفكري، أو غموض التصورات مرحليا، أمرا لا يناسب الجماعة الحركية، وربما تكتسب الجماعة قدرا مهما من تماسكها من بساطة أفكارها واعتمادها على الأفكار المباشرة، ومحاولتها لقفل باب الجدل الذي ينتج عنه الحيرة، أو الجدل الذي يؤدي إلى الغموض.

ونعتقد أن الجماعة في الواقع كونت لنفسها خطابا داخليا، بجانب خطابها الدعوي العام، يمكنها من توصيل تصوراتها للناس بسهولة ويسر، كما أنها كونت خطابا داخليا يميل لتحقيق اليقين لأعضائها، ويمنع حالات البلبلة والتشكك، وكل هذه الأمور ساعدت الجماعة على الاستمرار، وعلى البقاء، وعلى تجنب الجدل الداخلي السلبي، والذي يمكن أن يؤدي إلى خلخلة بناء الجماعة وتماسكها.

ولكن بسبب هذه المواقف والاختيارات، لم تستطع الجماعة القيام بدور فاعل في تطوير خطاب المشروع الإسلامي، والذي تحمل لواءه بالصرة التي تستجيب للتحديات المعاصرة، وأصبح لدى الجماعة العديد من الأسئلة المؤجلة، وكأنها تريد التركيز على المبدأ العام، حتى يحين وقت التطبيق، عندئذ تحدد برامجها التطبيقية، خاصة في المجال السياسي، ولكن مع الوقت أصبحت الجماعة أميل إلى توضيح موقفها السياسي، ولكن خطابها السياسي ظل خطابا موجها إلى خارج الجماعة، خاصة وأن العامة لم تبد اهتماما بذلك الخطاب قدر اهتمامها بالخطاب الدعوي للجماعة.

وهنا نلمح جزءا من الموقف الملتبس، فالكثير من المفكرين يتركون الجماعة، والكثير من التطوير الفكري للمشروع الحضاري الإسلامي يأتي من خارج الجماعة، والجماعة لا تستطيع التفاعل المرن مع الفكر الموجود خارجها، وإن كانت تستوعب بعضه أحيانا.

وهذا الموقف الحذر على مستوى خطاب الجماعة، ظهر في موقفها من خطاب سيد قطب، فقد حددت ما ترفضه من هذا الفكر، ولكنها لم تستطع إعادة إنتاج خطاب سيد قطب داخل إطارها الفكري، وأيضا لم تحاول الجماعة إنتاج خطاب جديد، وتأسيس مرحلة جديدة، بعد مرحلة التأسيس، التي وضعها الإمام البنا.

الصورة في مجملها تؤكد على أن الجماعة تركز على الخطاب البسيط والمباشر، وهو وضع أسسه الإمام حسن البنا، ولا تحاول قطع التواصل والاستمرار في خطبها، وتركز على التطور التدريجي، وتبتعد عن القضايا الخلافية، وتحاصر الجدل الذي قد يؤثر على وحدتها، وفي النهاية لا ترى الجماعة أنها مكلفة بتطوير الفكر الحضاري والديني الإسلامي، قدر ما ترى أنها معنية بنشر أسس الرؤية الإسلامية الشاملة.

ويمكن أن يكون اختيار الجماعة صائبا، خاصة وأنها تركز على ما يساعدها على البقاء والاستمرار، والكثير من الأمور التي يراها المراقب أمورا سلبية، قد تكون من أسباب قوة الجماعة وأسباب استمرارها، ولكن أي مشرع يحتاج إلى تصور فكري متكامل يؤسس له، ويحدد سبل تطبيقه وبرامجه، وكل رؤية فكرية تحتاج إلى تنظيم يقوم بالدعوة لها والعمل على تطبيقها، والعلاقة بين الرؤى الفكرية وتنظيم الإخوان المسلمين ليست علاقة تفاعلية، بلا علاقة ملاحظة ومتابعة، فالجماعة تتابع الفكر المطروح، ولكنها لا تدخل طرفا في تطويره، رغم أنها تملك الخبرة الحركية، والتي يمكن أن تساعد في تطوير الرؤى النظرية.

ويلاحظ أيضا أن الجماعة لا تميل إلى التركيز على المقولات الفكرية، والتي لا يكون لها رصيد جماهيري، أو لا تجذب الجماهير، فالجماعة ليست نخبة، وإن كانت طليعة للأمة، فهي تنشر فكرا يفهمه الناس جميعا، ويقبلون عليه، مما يجعلها تعزف عن التمعن في التصورات التي يحتاجها المتخصص، أكثر من الجمهور العادي.

ورغم أن مسألة التطور الفكري والخطابي مسألة معقدة، إلا أن المستقبل بكل تحدياته يحتاج إلى تصورات سياسية تتعامل مع معطيات الواقع، بصورة تناسب ما تطرحه الجماعة مع غيرها من القوى المؤمنة بالاستقلال الحضاري للأمة والمنادية بالاحتكام للدين بوصفه المنظم الأعلى، فالتحديات الراهنة تحتاج إلى تصورات تتعامل مع الواقع دون أن تتنازل عن المبادئ، وتلك العملية تحتاج لجهد في التصور وطرح الرؤى، مما يجعلنا نرى أهمية أن يكون الخطاب ممهدا للحركة، ولا يكفي أن يكون موازيا للحركة أو يأتي بعدها.

فقدر من التصور المستقبلي يعالج تحديات الأمة، قد يكون مناسبا لتعميق المشروع الحركي للجماعة، بتحويله إلى تصورات تؤسس لبرامج، حتى نصل إلى مسارات واقعية لنهضة الأمة، فالتحديات التي تواجه الأمة لا يكفي معها الوقوف ضد كل عدوان على الأمة، أو ضد كل محاولة لضرب قيم الأمة وثوابتها، ولكن الأمر يحتاج أيضا إلى تصورات وبرامج قادرة على تغيير واقع الأمة، وتحويل تراجعها الحضاري إلى نهضة، وتحويل عجزها أمام العدوان عليها إلى منهج مقاومة متكامل الأبعد.

كل هذا لا يجعل الجماعة تتحول إلى منتدى فكري، بل يجعلها في تفاعل أعمق مع التصورات المطروحة، والرؤى المختلفة، حتى يمكنها تحويل ما يطرح من تصورات إلى برامج حركية، بحيث تنتخب من تلك التصورات ما يتكامل معها، ومن خلال خبرتها الحركية، تستطيع تنقية تلك التصورات، لتجعل منها برامج حركية متكاملة، سواء منها البرامج التي يمكن تنفيذها الآن، أو منها البرامج المستقبلية، وهذا يعمق دور الجماعة، ليجعلها الوعاء الحركي الذي يستوعب التصورات الحضارية والدينية التي تعبر عن الأمة وتنتشر بينها.

مراجعة تاريخ الجماعة

في عهد المؤسس مرت الجماعة بأكثر من مرحلة، وهي مرحلة التأسيس، ثم مرحلة التكوين، ومع المؤتمر الخامس بدأت الجماعة على يد مؤسسها المرحلة السياسية، ولكن كل هذا تم في زمن قصير، وجاء اغتيال حسن البنا بعد عقدين من تأسيس الجماعة، ونستطيع القول بأن فترة الإمام المؤسس لم تشهد مراجعات أو تحولات، ولكنها شهدت تطورا عبر مراحل متتالية، وجاء دور النظام الخاص في بعض عمليات العنف، ومنها مقتل النقراشي، ليبدأ مرحلة تحتاج لمراجعة، خاصة عن دور النظام الخاص.

ومن الواضح أن الإمام حسن البنا لم تتح له الفرصة للمراجعة، ولكن من الواضح أيضا أنه لم يكن راضيا عن دور النظام الخاص في حماية الدعوة، وغالبا ما رأى حسن البنا أن النظام الخاص ورط الجماعة، وعرضها للخطر أكثر منه حماها.

وبالنسبة للنظام الخاص، سنجد أنه ارتبط بالمرشد المؤسس أكثر من ارتباطه بأجهزة ومؤسسات الجماعة الأخرى، بما فيها مكتب الإرشاد، وكان هدف النظام الخاص هو مقاومة الاحتلال، وأيضا حماية الدعوة، ولكن الهدف الثاني لم يكن واضحا لدى قيادات النظام الخاص، بمعنى أنه لم تكن هناك أسس محددة لكيفية حماية الدعوة أو حماية الجماعة، وكان النظام الخاص بعيدا عن التنظيم العلني، ويرتبط بالمرشد العام، ولكنه في أحداث المواجهة تصرف بتلقائية وبمبادرات ذاتية دون الرجوع للمرشد العام.

هذا في تصورنا سبب الالتباس حول الأحداث التي اشترك فيها النظام الخاص، ومنها مقتل النقراشي ومقتل الخازندار.

ورد فعل الإمام حسن البنا يؤكد على أن النظام الخاص انفرد بالقرار، وأنه لم ير تلك القرارات الصائبة، بل رأى أنها تعرض الجماعة لمزيد من المخاطر.

ومع رحيل البنا، كان على الجماعة تقييم الوضع بالنسبة للجهاز الخاص، وهو ما تأخر حتى مرحلة الصدام مع النظام الناصري، ثم قررت الجماعة حل النظام الخاص، ولم يعد مرة أخرى، وطويت صفحة هذا النظام، ولكن الجماعة حاولت تبرير ما حدث دون نقده أو إدانته، واكتفت بما صدر من إدانة من الإمام المؤسس لما قام به النظام الخص في حياته.

وهنا تبرز مشكلة النقد الذاتي والمراجعة، فالجماعة في الواقع تقوم بالنقد الذاتي والمراجعة على مستو القيادات، وينتج عن ذلك تغيير في منهج عمل الجماعة، ولكنها لا تتوسع في عملية النقد بحيث تشمل قواعد الجماعة، كما أنها تفضل أن يكون النقد داخليا ولا يعلن أمام الرأي العام.

وهنا نلمح بوضوح طريقة عمل الجماعة للحفاظ على وحدتها وتماسكها، فمن الواضح أن لدى قيادات الجماعة مخاوف من فتح باب النقاش حول ما مر في تاريخها من أحداث، سواء على مستوى القواعد أو على مستوى الرأي العام.

وهناك الكثير من الجدل الدائر حول محاولة اغتيال حمال عبد الناصر، ورغم أن المحاولة شابها التباس ما، إلا أن العديد من قيادات الجماعة تعلم الكثير عن التفاصيل، ولكن قيادات الجماعة تحاول غلق ملف هذه القضية لتجنب الجدل حول موقفها منها، أو من غيرها من القضايا.

وفي محاولة اغتيال حمال عبد الناصر، كان من الواضح وجود مخطط لذلك من قبل جناح داخل النظام الخاص، بعد أن حدثت فرقة بين النظام الخاص وبين المرشد العام حسن الهضيبي، وبعد حدوث نوع من الانشقاقات داخل النظام الخاص نفسه، خاصة بسبب اختراق حمال عبد الناصر للنظام الخاص، ومحاولات إيقاع الفرقة داخل الجماعة، وقد كان عضوا فيها، وعالما بالتوجهات المتنوعة بداخلها.

ولكن الجماعة مالت في النهاية لغلق الملف، ويلاحظ من بعض التصريحات أو الذكريات التي يعلنها الآن عدد من القيادات التاريخية للجماعة، أن هناك الكثير من الأسرار والمعلومات التي لم تكتشف بعد.

إذا عدنا لموقف الإمام حسن البنا من حادثة اغتيال النقراشي، سنجد أن الإمام مال إلى النقد الذاتي العلني، وهو ما لا ترحب به الجماعة حاليا، وغالبا ما يفسر موقف الجماعة بأنه نتاج حالة الحصار الأمني والإعلامي التي تواجهها الجماعة، ومنذ قرار حلها الأول في عام 1948م، ولكن هنالك أهمية لفكرة المراجعة والنقد الذاتي، سواء داخل الجماعة وعلى كل مستوياتها الداخلية، أو أمام الرأي العام، فتاريخ الجماعة حافل وممتد، والتجارب الثرية لا تخلو من الأخطاء والإنجازات، لهذا تحتج مثل هذه التجارب للتقييم المستمر، وعملية التقييم العلني تساعد على بلورة موقف الجماعة الحالي في مواجهة مواقفها الماضية، وتسمح للمتابع والمراقب والمهتم، بل تسمح أيضا لعضو الجماعة بمعرفة طبيعة الموقف الراهن للجماعة على وجه الدقة، فمن فوائد عملية المراجعة حسم القضايا المعلقة والملتبسة.

والمراجعة لا تعني أن الجماعة سلكت طريقا خطأ، ثم عدلت عن هذا لطريق آخر، فالأمر لا يكون عادة بهذه الحدة، ولكن المراجعة تعني تقويم منهج العمل، وتحديد الأسس التي يبنى عليها منهج العمل الجديد، وأيضا تقويم الخطاب السياسي والدعوي للجماعة، وتحديد التطور الحادث فيه.

ولكن جماعة الإخوان المسلمين تنهج طريقا مختلفا، فهي تراجع وتطور مواقفها ، في نطاق يحصر الأمر بين القيادات، أو نطاق معين من كوادر الجماعة، وكأننا أمام توقع بأن فتح باب أمام عمليات واسعة للنقد الذاتي، يمكن أن يؤدي إلى فتنة داخلية.

على أية حال، قد يكون موقف الجماعة مبررا في الماضي، ولكن بعد الأحداث التاريخية، ودخول الجماعة إلى مراحل جديدة من تاريخها، يسمح في تصورنا بإجراء عملية تأريخ نقدي للمراحل الماضية، مما يساعد على تأسيس مراحل جديدة، فكل جماعة ممتدة على مدار تاريخ طويل مثل جماعة الإخوان المسلمين، تحتاج من وقت لآخر، وحسب الظروف المحيطة، لنوع من إعادة التأسيس، وقد تكون اللحظة الراهنة، ومع توسع الدور السياسي للجماعة، بجانب دورها الاجتماعي والدعوي، هي اللحظة المناسبة للتأسيس الجديد، سواء لخطاب الجماعة أو منهجها، والتأسيس الجديد لا يمكن أن يقوم إلا على مراجعة نقدية لتاريخ الجماعة.

وماذا عن المستقبل؟

عند النظر إلى مستقبل جماعة الإخوان المسلمين بعد مئوية الميلاد للقائد المؤسس الإمام حسن البنا ، سنلاحظ أو انتشار الجماعة عبر العديد من الأقطار، مما يجعلها ممتدة عبر المكان والزمان.

ونرى أن رسالة الإخوان تقدم رؤية للإسلام له شعبيتها الواضحة، وهي رؤية تقوم على الأساسيات ولا تنزلق إلى الفروع والخلافات المذهبية، ومن الواضح أن فكرة شمول الإسلام، له أنصار عبر العديد من الأقطار، وفي الوقت نفسه فإن الاحتكام للدين جزء من الإيمان والتدين، ليس في الإسلام فقط، بل في الأديان الأخرى أيضا.

معنى هذا أن فكرة استعادة دور الدين كمرجعية في الحياة، لها رصيد فكري وثقافي وإيماني، نقصد من هذا أن فكرة الجماعة منتشرة بالفعل، وربما تنتشر خارج الجماعة وفي المحيط المؤيد لها، أو حتى المحيط المؤيد للفكرة دون تأييد الجماعة.

لهذا نرى أن النشاط الديني والاجتماعي للجماعة مستمر، ولا نتصور له نهاية محددة، بل هو عمل مستمر عبر مختلف المراحل التاريخية، فهو في النهاية تجسيد لرؤية ورسالة دينية، لها دورها في حياة الناس، ولكن سؤال المستقبل يدور في الواقع حول النشاط السياسي للجماعة.

وهذا النشاط يختلف عن نشاطها الديني والاجتماعي، لأنه يواجه الأنظمة السياسية الحاكمة في البلاد العربية خاصة، وكذلك في البلاد الإسلامية، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالنشاط السياسي للجماعة، والذي يقوم على الاستقلال السياسي والحضاري للأمة العربية والإسلامية، يصطدم أيضا بالمخططات الخارجية، وما يحدث من عدوان خارجي على الأمة العربية والإسلامية.

لهذا يمثل النشاط السياسي تحديا مهما أمام الجماعة، خاصة إذا كان هدف الجماعة هو تطبيق رؤيتها الشاملة للإسلام في المجال السياسي والقانوني والدستوري، كغيرها من المجالات، ففي هذه الحالة تكون الجماعة بصدد تغيير الأنظمة السياسية السائدة في البلاد العربية والإسلامية، والتي تقوم في معظمها على أنظمة مستبدة تستورد أنظمتها من الغرب، وتلقى دعما من قوى الهيمنة الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

ولعل النتائج التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية المصرية، حيث فازت بخمس مقاعد مجلس الشعب، في ظل تدخلات أمنية سافرة، والنتائج التي حققتها حركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، والتي فازت بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، مثلت تحديا مزدوجا لجماعات الإخوان المسلمين.

حيث تحقق من هذه النتائج مساندة شعبية واضحة لمشروع الجماعة، ولكن في الوقت نفسه أصبحت الجماعة تواجه تحديا من الأنظمة الحاكمة والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فقد بات واضحا أن جماعات الإخوان المسلمين ، على الأقل في بعض الدول العربية، تمثل البديل السياسي الجماهيري، والذي يمكن أن يصل للحكم حال تطبيق الديمقراطية ونزاهة الانتخابات، والأنظمة العربية ترى أن الجماعة تمثل خطرا على استمرارها في السلطة واحتكارها لها، والدول الغربية، خاصة الإدارة الأمريكية، ترى أن الجماعة تشكل تيارا سياسيا بعيدا عن هيمنتها، ولا يحقق مصلحتها، لذا نرى حجم التوافق بين الأنظمة العربية والإدارة الأمريكية في حصار جماعة الإخوان المسلمين في الدول العربية، على الأقل من الناحية السياسية.

هنا تبرز الأسئلة الأهم في تاريخ الجماعة، وهي كيف تواجه هذا التحدي؟ وهل ترضى بحصا نشاطها السياسي أو منعه، أم تقوم هذا الوضع؟ وإلى أي حد يمكنها مقاومة هذا الحصار؟ وهل تدخل في صدام مع السلطة ؟ وهل تحاول إسقاط الأنظمة الحاكمة من خلال شكل من أشكال العصيان المدني؟ وهل تقدر على القيام بهذا العمل، أم تستمر الجماعة في نشاطها، وتحاول تقليل أثر الحصار قدر الإمكان؟

يمكننا إضافة عشرات الأسئلة، وكلها تدور حول الموقف السياسي لجماعات الإخوان المسلمين، وهناك العديد من الصور المعقدة، مثل موقف الإخوان في العراق، وقبولهم للمشاركة في العملية السياسية، وموقف الإخوان في سوريا وقبولهم التحالف مع رمز سابق من رموز الحكم.

ويضاف إلى ذلك موقف جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي تواجه محاولة لحصار نشاطها السياسي والقضاء عليه.

وفي المقابل علينا أن نسأل عن جدوى المواجهة السياسية، فقد يكون من المهم استمرار الجماعة في نشر فكرها واكتساب الأتباع، وعدم الدخول في أي مواجهة سياسية، فقد ترى الجماعة أن هدفها الرئيس هو نشر رؤيتها ورسالتها، قبل أن يكون هدفها هو تحقيق رؤيتها في الجانب السياسي بنفسها، وهنا يصبح تركيز الجماعة على نشر الرسالة، حتى تصبح رسالتهم ممثلة لموقف الغالبية من جمهور الأمة العربية والإسلامية.

وهنا تدور الأسئلة حول مرحلة التمكين، وتعريف هذه المرحلة، كما تدور حول أهمية الحفاظ على التنظيم، والأهم هو الحفاظ على الرسالة، وهذا النوع من الأسئلة ليس بسيطا، بل معقدا ومركبا، لأنه يقوم أساسا على حساب التفاعلات بين الجماعة والأنظمة الحاكمة والقوى الخارجية، وإذا كانت الحسابات خاطئة، فكانت مثلا- حذرة للغاية، فستفقد الجماعة فرصا يمكن أن تقود فيها التغيير، وإذا كانت الحسابات متهورة، يمكن أن تتعرض الجماعة لمواجهات قد تقضي عليها، أو تعيد التنظيم إلى نقطة الصفر.

ولكن ليس كل التحديات التي تواجه الجماعة ترتبط بالمواجهة السياسية فقط، فهناك تحدي تجديد خطاب الإخوان في ضوء التطورات السياسية والاجتماعية والحياتية الحادثة، أي قدرتهم على التعبير عن الأجيال الجديدة من أبناء الأمة العربية والإسلامية، وتحدي التجديد والتطور يرتبط بنشاط الجماعة الديني والاجتماعي، كما يرتبط بنشاطها السياسي وغيره من الأنشطة.

والمستقبل سيكون نتاج التفاعل بين مواقف الجماعة، ومواقف القوى المحيطة بها والأنظمة السياسية والقوى الخارجية، ولكنه في الأساس سيكون نتاج التفاعل بين الجماعة والجماهير، فإذا عدنا للإمام المؤسس، سنجد أنه وضع معادلة الحركة السياسية والاجتماعية للجماعة، وهي المعادلة التي تجعل دور الجماعة وتجديد هذا الخطاب ليناسب الجماهير ومتغيرات العصر، وكلما استطاعت الجماعة تعبئة الجماهير وقيادتها، والتعبير عن احتياجاتها الاجتماعية والسياسية، وكلما استطاعت الجماعة معرفة اللحظة التي تطالبها الجماهير فيها بمواجهة الحاكم، لتصبح حسابات الجماعة هي نتاج حسابات الوعي الجماهيري المؤيد لها، كلما استطاعت الجماعة تحقيق ذلك، والتعبير عن حسابات الجماهير لا حسابات التنظيم، كلما بقت الجماعة فاعلة تقوم بدورها الذي اختاره لها الإمام المؤسس.

كيف بنى حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين؟

من تراث الماضي إلى أفق جديد للمستقبل

د. عمرو الشوبكي

مقدمة

ينتسب حسن أحمد عبد الرحمن البنا على أسرة ريفية بسيطة كانت تعمل بالزراعة في إحدى قرى الدلتا، وكان جده فلاحا من صغار الملاك، ولم تكن الأسرة من أعيان القرية، ولكنها أيضا لم تكن من المعدمين، أما والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا فكان يعمل ساعاتي وقد تقلب في هذه المهنة من قرية مغمورة في دلتا النيل إلى مدينة صغيرة، ثم إلى أحياء شعبية بالقاهرة.

وقد ولد البنا في 14 من أكتوبر 1906م بقرية المحمودية الملاصقة لمدينة الإسماعيلية الواقعة على قناة السويس، وكن هو أكبر إخوانه السبعة، والتحق بمدرسة خاصة هي مدرسة "الرشادة الدينية" في الفترة ما بين الثامنة إلى الثانية عشرة من عمره، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدرسة الإعدادية وصار رئيسا لجمعية "الأخلاق الأدبية" التي قامت أساسا لتهذيب أخلاق التلاميذ وتلقينهم دروسا عملية في هذا المجال.

وكانت الثورة المصرية التي انطلقت بزعامة سعد زغلول باشا في 1919 م لمواجهة الاحتلال البريطاني أكبر الأحداث التي شهدتها البلاد في تلك الفترة وشهدها حسن البنا أثناء دراسته في المدرسة الإعدادية بالمحمودية، وكذلك عندما التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور، وكان آنذاك بين الرابعة والسابعة عشرة من عمره، ويروي في مذكراته بهذا الخصوص أنه شارك في مظاهرات الثورة، وأنه كان يصغى إلى أحاديث الناس حول قضية الوطن وتطوراته.

وقد اعتبر إبراهيم البيومي غانم في رسالة الماجستير المنشورة:" الفكر السياسي للإمام حسن البنا" أن الرجل قبل انتقاله إلى القاهرة كانت مؤثرات المحيط الاجتماعي وتطورات الحياة السياسية العامة في مصر تتسرب إلى وعيه، وتبدو منه استجابات تدل على انفعاله بها، وحين قدر له أن ينتقل إلى القاهرة كانت بعض نتائج الثورة قد أخذت في الظهور، متمثلة في دستور 1923م وإجراء أول انتخابات برلمانية سنة 1924م.

وتناولت قراءات حسن البنا معظم مجالات الفكر الإنساني بدء من القرآن وما يتصل به من علوم دينية على التنوير والصنائع والحرف، مرورا بعلوم اللغة وآدابها، والتاريخ وقضايا السياسة والنهضة، ولم يقتصر هذا التنوع على القراءات الفكرية، وإنما امتد إلى التأثر والتفاعل بحركات سياسية ودينية كان من الصعب أن نجد بين بعضها أي روابط أو تلاق.

وتأثر الرجل بتراث التصوف مما جعله ينضم في بداية حياته إلى إحدى الجمعيات الصوفية، وهو ما أشار إليه في مذكراته: "وفي المسجد الصغير رأيت الإخوان الحصافية يذكرون الله- تعالى- عقب صلاة العشاء من كل ليلة، وكنت مواظبا على حضور درس الشيخ زهران (رحمه الله) بين المغرب والعشاء، فاجتذبتني حلقة الذكر بأصواتها المنسقة، ونشيدها الجميل، وروحانياتها الفياضة، وسماحة هؤلاء الذاكرين من شيوخ فضلاء وشباب صالحين، وتواضعهم لهؤلاء الصبية الصغار الذين اقتحموا عليهم مجلسهم ليشركوهم ذكر الله، فواظبت عليها هي الأخرى".

ويضيف في موضع آخر:" وفي هذه الأثناء بدا لنا أن نؤسس في المحمودية جمعية إصلاحية هي جمعية الحصافية الخيرية، واختير أحمد افندي السكري رئيسا لها، وانتخبت سكرتيرا لها، وزاولت الجمعية عملها في ميدانين مهمين: الأول نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، والثاني مقاومة الإرسالية الإنجيلية التبشيرية التي هبطت إلى البلد واستقرت فيها".

ويلاحظ أن كل خطوة خطاها " حسن البنا" في محيطه الاجتماعي بدءا من كتاب " مدرسة الرشاد، وصولا إلى القاهرة حيث دار المعلمين، ثم الإسماعيلية التي عمل بها مدرسا لأول مرة، وكاد يتعرض لصدمة اجتماعية ناتجة عن اختلاف البيئة الجديدة التي انتقل إليها عن بيئته لسابقة، وفي كل منها كان يبادر بعمل إيجابي جماعي في مواجهة الوضع الجديد، مما جعله دائم الاتصال بمحيطه الاجتماعي، منخرطا في قضاياه، وبالإمكان ذكر أكثر من عمل له يقوم كشاهد يؤكد ذلك.

وبعيدا عن تقييم تلك الأعمال، إلا أن تنوع هذه البيئات الاجتماعية التي أحاطت به أسهمت ضمن عوامل أخرى في إثراء شخصية الرجل، ولعل هذا التداخل من البداية بين نشاط البنا السياسي والمهني وتكوينه الديني والصوفي، جعله أكثر هدوءا وأكثر قدرة على الموائمة السياسية والتنظيمية من غيره من قادة الجماعة الذين لم يحصلوا على نفس هذا التكوين. وأسهم استقرار حسن البنا الأسري والعائلي في اعتداله- إلى حد كبير- وأسهم تنقله ما بين الريف والحضر في قدرته على فهم واستيعاب الفروقات بين الاثنين، بل وفي الانتماء إلى كليهما في بعض الأحيان أو – بالحد الأدنى- عدم الاغتراب عنهما.

القسم الأول: كيف بنى حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين؟ التأسيس الأول للجماعة

أولا- تنوع المصادر الفكرية والدينية للإمام المؤسس

عرف حسن البنا مجموعة من الخبرات الدينية والاجتماعية المتنوعة التي أسهمت في صياغة كثير من رؤاه الفقهية ومواقفه الفكرية والتنظيمية، ورغم انخراطه في بداية حياته في إحدى الجماعات الصوفية، إلا أن هذا لم يحل دون تأثره بتراث علماء دين، وحركات سياسية ودينية أخرى تختلف في منطلقاتها الفكرية والسياسية عن الطرق الصوفية.

فقد تأثر البنا بتراث جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده اللذان يعدان من رموز الاستنارة في الفكر الإسلامي الحديث، كما تأثر أيضا بفكر رشيد رضا الأكثر محافظة من سابقيه، ولكن الأكثر سياسة وتقدما من تراث الطرق الصوفية.

وقد تفاعل أيضا مع بعض مؤسسي الجمعيات الإسلامية وزعماء التحرر ضد الاستعمار، فكان منهم في مصر مصطفى كامل( 1874: 1008م)- زعيم الحزب الوطني- وهو الذي أطلق طوال الثلاثينيات والأربعينيات مقولته الشهيرة: لا تفاوض مع الاحتلال قبل الجلاء، كما تفاعل أيضا مع الأمير عبد الكريم الخطابي- زعيم ثورة الريف في المغرب، وعمر المختار في ليبيا ( 1858: 1932م).

ولم يمنع هذا التفاعل مع الحركات الإصلاحية والثورية من قيام البنا وإخوانه بممارسة شعائر ذات طابع صوفي، فاهتمامه بنشاط علماء الدين ورجال الثورة لم يمنعه من الاهتمام أيضا بقبور " الأولياء الصالحين" حيث يقول في مذكراته : " وكنا في كثير من أيام الجمع التي يتصادف أن نقضيها في مدينة دمنهور، نقترح رحلة لزيارة أحد الأولياء الأقربين من هناك، فكنا أحيانا نزور دسوق، فنمشي على أقدامنا بعد صلاة الصبح مباشرة، حيث نصل حوالي الثامنة صباحا، فنقطع المسافة في ثلاث ساعات، وهي نحو عشرين كيلو مترا، ونزور ونصلي الجمعة".

ويضيف تحت عنوان "أيام الصمت والعزلة" ، " وكانت لنا أيام ننذر فيها الصمت والبعد عن الناس، فلا يتكلم احدنا إلا بذكر – أدعية وأحاديث محببة لدى الله- أو قرآن، وكان الطلبة على عاداتهم ينتهزونها فرصة للمعاكسة فيتقدمون إلى الناظر أو الأستاذ مبلغين أن فلانا الطالب قد أصيب في لسانه، ويأتي الأستاذ ليستوضح الأمر، فكنا نجيبه بآية من القرآن فيتصرف".

وقد أسهمت تلك التوليفة الخاصة من تفاعلات حسن البنا مع محيطه الديني والاجتماعي في خلق شخصية ثرية ومتنوعة، وقادرة في نفس الوقت على التفاعل مع أفكار متباينة دون الشعور بأي تناقض.

وقد امتدت هذه الطريقة إلى نظرة حسن البنا إلى الأشخاص، فها هو يشيد في مذكراته بأحد كبار علماء الدين، وهو الشيخ أحمد الشرقاوي الهوريني، باعتباره مثالا للعلم والأخلاق، ويمثل قدوة ونموذجا أمام الطلبة الأزهريين، وفي الصفحة المقابلة يبدي إعجابه بالشيخ صاوي دراز، الشاب الفلاح، الذي لم يتعلم أكثر من التعليم الأولي في القرية، ولكنه كان نادرا في الذكاء ودقة الفهم.

وهكذا سنجد أن التكوين الأول لشخصية حسن البنا قد عرف منذ البداية قدرا كبيرا من التنوع، كما أن الخبرات الأولى التي اكتسبها كانت أيضا متنوعة، وأسهمت بعد ذلك في إكسابه قدرة كبيرة على إدارة الخلافات بين التيارات والأجنحة المختلفة داخل جماعة الإخوان المسلمين، وأيضا إلى التوفيق بينها، والميل إلى عدم المواجهة إلا في الحالات الحاسمة والحرجة.

وانعكس هذا التكوين على علاقة حسن البنا بأنصاره، فقد وصف أحد الباحثين الماركسيين، وهو رفعت السعيد، شخصية حسن البنا بصورة فيها قدر من المبالغة، ولكن لا تخلو من دلالة فقال: ماذا يمكن أن يحدث عندما ينصهر في بوتقة واحدة ولاء الصوفي لشيخه، وبيعة المريد لإمامه، ووفاء السياسي لزعيمه؟ الإجابة: يحدث ذلك النوع الغريب من الحب الذي ربط كل إخواني بالشيخ حسن البنا. " أرم بنا حيث شئت، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك" هذا حدثه أحد أتباعه.

ورغم أن علاقته بقيادات الجماعة لم تكن بتلك الصورة من الخضوع المطلق، إلا أنها حملت في كل الأحوال قدرا عاليا من الولاء شبه المطلق، فقد نجحت شخصية البنا في أن تحتوي داخل عباءتها شخصيات متباينة في التكوين وطريقة التفكير. وقد اتضحت هذه الصورة في الكتاب الذي قدمه أحد كبار كتاب الإخوان، وهو جابر رزق عن "الإمام الشهيد حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه"، حيث تحدث كثير من قادة الجماعة بإعجاب شديد عن حسن البنا، وكان اختيار كل منهما لما رآه مبهرا في شخصيته انعكاسا لطريقته هو في التفكير.

وقد اتضح ذلك في حديث الزعماء المعتدلين والمتشددين في تاريخ الجماعة، والذي نجح حسن البنا في الحفاظ على ولائهم، رغم ما بينهم من خلاف، فقد أبدى المرشد الثاني للجماعة، حسن الهضيبي، إعجابه بالبنا لأن كلامه يخرج من القلب إلى القلب"، ولأنه لم يسمع منه كلمة فيها غمز في عرض أحد، أو دين أحد، حتى أولئك الذين تناولوه بالإيذاء والتجريح.

وقد أضاف المرشد الثالث في تاريخ الجماعة، عمر التلمساني، المعروف باعتداله لشديد، وميله على عدم المواجهة السياسية لصالح الارتباط بالخطاب الأخلاقي والديني، مشيرا بإعزاز شديد إلى تنفيذ البنا لقرار نقله من عمله في القاهرة إلى مدينة قنا في صعيد مصر على خلاف رأي أعضاء مكتب الإرشاد الذين دعوه إلى عدم تنفيذ قرار النقل، " هكذا كان يعالج المشاكل في هدوء وسلام".

أما " شيخ المتشددين" الراحل سيد قطب، فقد ركز على الجانب العقائدي والبنائي في خبرة حسن البنا، حيث اعتبر أن العقيدة الإسلامية عرفت كثيرا من الدعاة، ولكن الداعية غير البناء، وما كان كل داعية يملك أن يكون بناء، وما كل بناء يوهب العبقرية الضخمة في البناء.

ويضيف قطب:" هذا البناء الضخم.. الإخوان المسلمون.. إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات، إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس، خاطب الداعية مشاعرهم ووجدانهم، فالتفوا حول عقيدة ، إن عبقرية البناء تبدو في كل خطوة من خطوات التنظيم، من الأسرة إلى الشعبة، إلى المنطقة، إلى المركز الإداري، إلى الهيئة التأسيسية، على مكتب الإرشاد.

وفي النهاية هذه الاستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة التي تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل النفس قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظما.

كما أكد قطب من جانب آخر على اللون الواحد واللغة الواحدة التي نجح البنا في نسجها حول خطاب الجماعة، فعبقرية البناء عند المرشد العام تتمثل في تجميع الأنماط والنفوس والعقليات والأعمار والبيات في بناء واحد، كما تتجمع النغمات في اللحن العبقري، وقد نجح في طبع هذه التوليفة بطابع واحد ودفعها في اتجاه واحد على تباين المشاعر والإدراكات والأعمار والأوساط في ربع قرن من الزمان.

وهكذا نجح البنا في أن يحظى، ليس فقط بقبول واسع لدى مختلف اتجاهات الجماعة، وإنما في أن يجد فيه أيضا كل اتجاه من هذه الاتجاهات المتعارضة أحيانا معبرا أمينا عن جانب من أفكاره.

ثانيا- البناء العقدي المركب للإخوان المسلمين

لعل الهاجس الأساسي الذي حكم البناء العقائدي والهيكل التنظيمي للإخوان تمثل- من ناحية- في تلك الرغبة في بناء واسع وسلمي لا يمارس العنف، وبين قناعة الإخوان من ناحية أخرى بأن عملية الإصلاح ربما قد تؤدي إلى مواجهة بين الإخوان والسلطة قد تؤدي على استخدام العنف.

هذه المواجهة القادمة أو "المتخيلة" وضعت البناء العقدي الإخواني في مأزق، وجعلت بالتوازي مع فكرة الإصلاح الديني والأخلاقي التي تمثل عصب فكر الجماعة خطا آخر عرف بالتنظيم السري أو الخاص، يهيئ كادر الجماعة إلى احتمالات المواجهة مع النظام من خلال بناء عقائدي فرعي يحث على مفاهيم الجهاد.

ومن هنا سنجد أن الإخوان المسلمين قد شيدوا داخل بنائهم العقدي مستويين من الفهم الأول الأصلي الذي يعبر عن جوهر الرسالة الإخوانية السلمية المنسجمة مع طبيعة الواقع المعاش، والتي تدعو إلى أسلمة المجتمع من خلال الدعوة السلمية لجموع الشعب بالالتزام بتعاليم الإسلام ومبدئه:

1- البناء الداخلي والهيكل التنظيمي:

من الصعب أن نجد تنظيما مماثلا لتنظيم الإخوان المسلمين في خلق بنية تنظيمية تحمل في داخلها أكثر من بناء فرعي مثل الإخوان. فقد عبر هذا البناء- إلى حد كبير- عن تكوين عقائدي مركب ومتنوع عرفه كادر الإخوان، وأيضا عن نموذج خاص للتنشئة الاجتماعية والدينية.

وجاءت تجربة الإخوان التنظيمية والعقائدية لتعبر- إلى حد كبير- عن هذه التجربة السابقة، فالتكوين العقائدي لكادر الإخوان تميز بالتنوع والتدرج، كما تميز أيضا بالقدرة- أو على الأقل الرغبة- على احتواء التناقضات الداخلية من خلال صيغة توازنية فضفاضة ومرنة.

وعبر حسن البنا عن إعجابه الشديد بهذا النموذج المركب للكادر الإخواني، حيث وصف في "رسالة إلى الشباب" صورة معبرة تماما عن هذه المعاني فقال: " فقد يرى الناس الأخ المسلم في المحراب خاشعا يبكي ويتذلل ، وبعد قليل يكون هو بعينه واعظا مدرسا يقرع الآذان بالوعظ، وبعد قليل تراه نفسه رياضيا أنيقا يرمي بالكرة أو يدرب على العدو، أو يمارس السباحة، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو محله يزاول صناعته في أمان وفي إخلاص.

وقد شيد الإخوان المسلمون بناء تنظيميا مركبا حرصوا فيه على أن تتم عملية التجنيد على أكثر من مستوى، وهو ما أعلنه البنا بشكل أوضح، حين أشار إلى ضرورة أن تعني المكاتب والهيئات الرئيسية لدوائر الإخوان بتربية الأعضاء تربية نفسية صالحة مع مبادئهم، وتحقيقا لهذه الغاية يكون الانضمام لعضوية الإخوان على ثلاث درجات:

أ‌- الانضمام العام: وهو من حق كل مسلم توافق على قبوله إدارة الدائرة، ويعلن استعداده للصلاح ويوقع استمارة التعارف، ويسمى أخا مساعدا.

ب‌- الانضمام الأخوي: وهو من حق كل مسلم توافق على قبوله إدارة لدائرة، وواجباته- فضلا عن الواجبات السابقة- حفظ العقيدة" والتعهد بالطاعة، ويسمى الأخ في هذه المرتبة أخا منتسبا.

ج‌- الانضمام العملي: وهو من حق كل مسلم توافق إدارة الدائرة على قبوله، وتكون واجبات الأخ فيه- فضلا عن الواجبات السابقة- إعطاء البيانات الكافية عن شخصه، ودراسة شرح عقيدة الإخوان، وحضور مجالس القرآن الأسبوعية، ومجالس الدائرة، والتزام التحدث باللغة العربية الفصحى بقدر المستطاع، والعمل على تثقيف نفسه في الشئون الاجتماعي العامة- وليس السياسية- والاجتهاد في حفظ 40 حديثا نبويا، ويسمى الأخ في الدرجة من درجات الانضمام أخا عاملا.

وهناك درجة رابعة لم يضعها الشيخ المؤسس مع الدرجات السابقة، وأسماها درجة الانضمام الجهادي: وهي ليست عامة، بل هي من حق الأخ العامل الذي يثبت لمكتب الإرشاد محافظته على واجباته السابقة، أما واجبات هذا الأخ في المرتبة، فهي- فضلا عما سبق- تحري السنة النبوية، والصلاة في الليل، والعزوف عن مظاهر المتع الفانية، والبعد عما هو غير إسلامي في العبادات والمعاملات، والاشتراك لمالي في مكتب الإرشاد وصندوق الدعوة، والوصية بجزء من تركته لجماعة الإخوان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل المصحف ليذكره بواجبه نحو القرآن، وأخيرا الاستعداد لقضاء مدة التربية الخاصة بمكتب الإرشاد، ويسمى الأخ في هذه المرتبة مجاهدا.

وقد بدا هذا التنوع في مستويات التجنيد داخل الإخوان ذا دلالة، فالفارق يبدو هائلا بين تكوين الأخ المساعد، والأخ العامل، وبين نظيره الجهادي، من جهة أخرى حتى لو أعلن الاثنان ولائهم لمرجعية سلمية واحدة.

ومن هنا، فرغم أننا يمكن أن نعتبر أن البناء العقائدي للإخوان المسلمين كان بأساس بناء سلميا، وأن دعوة الإخوان كانت أيضا دعوة سلمية، إلا أن هناك مستوى رابعا مثل الخلفية الفكرية والتنظيمية لما عرف بعد ذلك بالتنظيم الخاص أو السري، والذي نما دوره التاريخي أثناء حرب فلسطين، وانتهى بعد ما عرف بمحاولة اغتيال عبد الناصر عام 1954م، وحملة الاعتقالات التي أعقبتها، وأسفرت عن إعدام سيد قطب، والتي انتهى في أعقابها عمليا التنظيم الخاص.

2- التكوين العقائدي:

أحاط الإمام المؤسس خطاب الإخوان العقائدي بمستويين من البناء: الأول تمثل في المقولات العامة وغير المحددة للإخوان، والثاني تمثل في التأكيد على ضرورة طاعة الأعضاء لقيادة الجماعة ووقوفهم خلفها كصف واحد.

فيما يتعلق بالشق الأول سنجد البنا حاول منذ البداية أن ينسج خطابا دينيا وأيديولوجيا مفرطا في عموميته، ركز فيه على شمولية الإسلام ونقائه دون أن يتورط في مناقشة أي تفصيلات.

وقد بدا هذا الخطاب متماسكا في أوقات السكون والاستقرار، وعاجزا عن الفعل الموحد والمتماسك في أوقات الأزمات والمواجهة.

ففي البداية يؤكد البنا على تلك المعاني العامة حين يشير مثلا إلى " أنه لا توجد نظم ولا تعاليم تكفل سعادة هذه النفوس البشرية، وتهدي الناس على هذه السعادة كتعاليم الإسلام الحنيف الفطرية والواضحة". ويؤكد في موضع آخر تحت عنوان "إسلام الإخوان" على أن: أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شئون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي، مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف.

أما بالنسبة للبعد الثاني الذي أحاط بعملية البناء المركبة هذه، فقد تمثل في "خطاب السمع والطاعة" داخل الجماعة، وذلك في محاولة للحفاظ على وحدة الجماعة وتماسكها أمام هذا البناء التنظيمي المركب، والتكوين العقائدي المتنوع.

وقد أشار حسن البنا في مذكراته إلى أن الجماعة " لم تعرف إلا الوحدة الكاملة، والاندماج التام، فرأي أحدهم هو رأيهم جميعهم"

ويضيف في أحد رسائله، وهي رسالة التعاليم، أن أركان بيعتنا عشرة: الفهم، الإخلاص، العمل، الجهاد، التضحية، الطاعة، الثبات، التجرد، الأخوة، الثقة.

أما على عبد الحليم محمود- أحد كبار قادة الإخوان- فيقول:" إن شعار نظام الكتائب داخل الإخوان المسلمين هو: " كل وأنت شبعان، ونم وأنت مستيقظ" ، ومعنى هذا الشعار: الطاعة التامة، والالتزام الكامل بالنظام المقرر.

ورغم كل تلك "الاحتياطات" الدينية والعقائدية التي تعضد من قيم الوحدة والتماسك داخل الجماعة، سواء تلك المتمثلة في عموميات الخطاب الإخواني المعلن، أو خطاب السمع والطاعة، إلا أن ذلك لم يحل- في بعض الأحيان- دون تفجر الخلافات داخل الجماعة، وبصورة عجز معها هذا البناء في منعها، بل ربما كان أحد الأسباب وراء تفجرها.

وأكد البنا بنفسه في أكثر من موضع على تلك التوجهات السلمية للدعوة الإخوانية، وذلك في سياق حديثه عن ضرورة التأني في مجال الدعوة، فاعتبر أن دعامة النهضة هي "التربية" حيث قال: يجب أن تربى أمة أولا، وتربى أساسا على الإيمان، أي: يجب أن تدرس منهاج نهضتنا درسا نظريا وعمليا وروحيا، واعتبر أن ذلك يستدعي وقتا طويلا، لأنه منهج دراسة يدرس لأمة، فلابد أن تتذرع الأمة بالصبر والكفاح الطويل،وكل أمة تحاول تخطي حواجز الطبيعة يكون نصيبها الحرمان، وقد أدت سياسة النفس الطويل هذه إلى رهان الإخوان على تكوين مهمته الأساسية إحداث هذا التغيير السلمي على ضوء قواعد الإسلام.

" فغاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها، ووسيلتهم في ذلك تنحصر في تغيير العرف وتربية أنصار الدعوة على هذه التعاليم، حتى يكونوا قدوة لغيرهم في التمسك بها، والحرص عليها والنزول على حكمها.

وقد تواكب مع هذا البعد السلمي في الدعوة الإخوانية بعد آخر تمثل في تدرجها. ففي رسالة البنا إلى الشباب طالب أولا ببناء الرجل المسلم، ثم البيت المسلم، فالشعب المسلم القادر أخيرا على بناء الحكومة المسلمة، ولم يكتف ببناء الحكومة المسلمة، وإنما اعتبر أن هناك ضرورة إلى أن تقوم تلك الحكومة بضم " كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة، حتى تعود راية الله خفاقة على تلك البقاع".

وقد اعتبر البنا في رسالة أخرى، وهي: دعوتنا في طور جديد، أن اليقظة الروحية ستعمل عملها في الفرد، فإذا به نموذج قائم لما يريده الإسلام في الأفراد، مما سيجعل للإصلاح الفردي أثره في الأسرة، وإذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة.

ورغم أن هذا النسق السلمي والأداء المتدرج قد احتل مساحة كبيرة في البناء العقائدي للإخوان المسلمين، إلا أنه قد توازى معه مفهوم آخر احتل مساحة أقل، إلا أنه ظل موجودا يحض على استخدام "القوة" ، وإن كان يرفض بشكل قاطع مفهوم " الثورة".

واعتبر حسن البنا أن القوة شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، وأن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية، حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون بأنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة.

أما ا لثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أول الأمر في إصلاح عاجل للمشاكل ، فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان، ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف.

ثالثا- عنصر الإخوان : نشاط متنوع وخبرة خاصة

غذي البناء العقائدي المركب للإخوان، وساعد على تشكله، خبرة خاصة اكتسبها عضو الجماعة في حركته اليومية، وكان الفضل للشيخ المؤسس في وضع خطوطها العريضة، ومتابعة إنجازها على أرض الواقع.

1- النشاط العام:

إذا أخذنا برنامج النشاط الشهري والأسبوعي للإخوان، والذي أشار إليه المؤتمر العام الخامس الذي عقد في عام 1938م فسنجده عبر- إلى حد كبير- عن تلك الرؤية المتنوعة والمركبة للبناء العقائدي لكادر الإخوان، فقد اقترح مكتب الإرشاد أن يحدد الإخوان لأنفسهم أياما معينة من كل شهر لتنفيذ البرنامج الآتي:

1- يوم النصيحة، ويقومون فيه بتوجيه النصيحة لجيرانهم بالتي هي أحسن ، وينهونهم عن المنكر ويدعونهم للخير.

2- يوم الآخرة، الذي يزور فيه الإخوان المقابر للعظة وتذكر الآخرة.

3- يوم العيادة، يزورون فيه مرضى المسلمين.

4- يوم التعارف، لزيادة أواصر الصداقة بين الإخوان.

وقد تواكب مع هذا النشاط السلمي ذي الطابع الأخلاقي نشاط آخر مواز أكثر حدة واعتمادا على مفهوم "القوة" السابق، وتمثل في الأعمدة الثلاثة لنشاط الإخوان الأسبوعي وهي:

1- ليلة الدرس، ويخصص الاستعداد لتحمل المشقة، ومقاومة النفس في سبيل الله.

2- يوم المعسكر، أي : الجندي، التدريب، الاستعداد للجهاد المقدس، ذلك هو ما يعني به الإخوان المسلمون كل العناية، فبه يتكون الجيش الإسلامي، وبه يستطيع أن يحقق الأمل.

ولم يكتف منشور مكتب الإرشاد بم سبق، إنما أضاف معلقا على هذا اليوم:" نرجو أن يكون لهذه الناحية أكبر قسط من اهتمام الإخوان، فيعطون لأنفسهم كل أسبوع عرضا عسكريا يتدربون فيه، أو رحلة يزورون فيها البلدان المجاورة فيثابون، ويكونون نموذجا حسنا للناس.

وقد انعكس هذا البناء العقائدي المركب على المواقف السياسية التي اتخذها الإخوان المسلمون في ذلك الوقت، والتي تميزت هي الأخرى بقدر عال من "التركيب" وأحيانا عدم الوضوح، فهم تيار غير سياسي، ولكنهم ليسوا ضد السياسة، أو كما ذكر حسن البنا في رسالته " على أي شيء ندعو الناس" ويقول قوم آخرون، إن الإخوان المسلمون قوم سياسيون، ودعوتهم دعوة سياسية، ولهم من وراء ذلك مآرب أخرى، ولا ندري إلى متى تتبادل أمتنا التهم والظنون، وتترك يقينا يؤيده الواقع في سبيل ظن توحيه الشكوك؟ ويضيف : يا قومنا، إننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنة في شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم، فهذه سياستنا، وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيا، فنحن أعرق الناس، والحمد لله في السياسة.

وكان الإمام الراحل ضد الأحزاب، واعتبر أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر.

ورغم هذا الموقف القاطع الذي اتخذه الرجل من الأحزاب والحزبية، إلا أنه دعا الإخوان المسلمين،إلى ألا يخاصموا حزبا ولا هيئة، وألا ينضموا إليهم كذلك.

ولم يكن للإخوان المسلمين كذلك أي موقف عقائدي في صالح الملكية في مصر، ومع ذلك فقد حرصوا من حين إلى آخر على تأييد الملك " لأن لنا في جلالة الملك المسلم- أيده الله- أملا محققا، وهم أيضا تيار يرفض السعي نحو السلطة والحكم، ولكن إذا اضطروا إلى ذلك فسيكون ذلك ليس حبا في السلطة، ولكن من أجل تطبيق شرع الله.

" إن الإخوان المسلمين لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره، وإن لم يجدوا فسيعلمون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله، وعلى هذا فالإخوان أعقل من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس هذه الأمة على هذا الحال، فلابد من فترة تنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

وقد حافظ الإخوان على هذا الموقف المركب طوال العهد الملكي، ورغم أنهم لم يغيروا كثيرا من عقليتهم المركبة طوال عهدي السادات ومبارك، إلا أن مكونات هذا الخطاب وأبنيته الفرعية قد تغيرت بعض الشيء، وظهرت أولويات جديدة مركبة أيضا، ولكنها مختلفة جزئيا عن تلك التي راجت إبان مرحلة التأسيس.

3- معضلة البناء الخاص:

شكل البناء التنظيمي والتكوين العقائدي لكادر الإخوان بهذا الشكل السابق تربة صالحة لنمو مفهومين/ معضلتين للعمل التنظيمي والسياسي لإخوان التأسيس، هما: العام والخاص.

ونجحت الجماعة في استيعاب أعضاء التنظيم الخاص، رغم تكوينهم العقائدي الصلب والمخالف لتكوين معظم أعضاء الجماعة، على مدار ما يقرب من ثماني سنوات، وإذا اعتمدنا رواية محمود عبد الحليم- أحد مؤسسي التنظيم الخاص- والتي أعلن فيها أن التنظيم قد تقرر إنشاؤه عام 1940م ، إلا أن تغير البيئة الاجتماعية والسياسية في الداخل ، وتحول البيئة الإقليمية باندلاع حرب فلسطين قد أدى- كما سنوضح- إلى تفجر الخلافات داخل صفوف الجماعة بين الكادر الخاص والكادر العام.

وقد أرجع أحد الأعضاء البارزين في التنظيم الخاص، وهو أحمد كمال، نشأته إلى عام 1938م حين قال الإخوان في مصر بعملية جمع التبرعات لتمويل إخواننا الفلسطينيين الذين يقاتلون من أجل دينهم ومن أجل إسلام ديارهم، وكان ذلك عام 1938م ولكن مفتي فلسطين أفاد الأستاذ البنا بأن الذي يعوزهم ليس المال، ولكنه السلاح.

وراح الإخوان يجوبون مصر لجمع السلاح ليمدوا به إخوانهم المسلمين في فلسطين، ولم يكن الإخلاص وحده يكفي، فنتج عن عدم الخبرة بالسلاح أن كانت بين ما جمع الإخوان قطع غير صالحة، وهنا فكر عبد الرحمن السندي لأول مرة في إنشاء نظام خاص لاستيفاء هذه المهمة.. اليوم لفلسطين وغدا لمصر ولسوريا وللعراق. وهكذا نشأ النظام الخاص مجموعات محدودة لمدة طويلة قبل أن يبدأ في الزيادة والانتشار حوالي 1945م.

وقد اختلفت قصة نشأة التنظيم الخاص في كتاب أحمد كمال عن أخرى- على ما يبدو أكثر دقة- ذكرها محمود عبد الحليم، حيث اعتبر أن قضية فلسطين كانت هي الدافع وراء إنشاء التنظيم الخاص، ولكنه يروي رواية مختلفة عن كيفية بناء التنظيم الخاص بعيدة عن مسألة الكشف عن صلاحية السلاح التي رواها من قبل أحمد كمال.

حيث أشار أن :" الأستاذ المرشد قد أدرك أن قضية فلسطين هي قضية الإخوان المسلمين، وأن الإنجليز بتواطئهم مع اليهود لن يعدلوا عن خطتهم ويسلموا البلاد لأهلها إلا مكرهين، وعلم الأستاذ المرشد أن الإنجليز يسلحون عصابات اليهود، وأنه لابد من معركة فاصلة بين الإخوان المسلمين وبين هذه العابات ما دام الإخوان مصرين على تحرير هذه البلاد وإنقاذ المسجد الأقصى الذي هو هدف اليهود الأصيل.

وأدرك الأستاذ المرشد أن الحكومة المصرية والحكومات العربية حكومات ضعيفة هازلة متخاذلة، بل متواطئة، وأنه ليس في البلاد العربية جيوش سوى الجيش المصري، ولكن هذا الجيش من الهزل والجهل وعدم الخبرة، بحيث لا يقوى على مواجهة عصابات اليهود المدربة المسلحة بأحدث أسبحة الإنجليز والأمريكان، والتي تحارب عن عقيدة مستمدة من دينهم، أدرك الأستاذ المرشد هذا أيضا،، فكان ذلك حافزا على سرعة الاستعداد بتكوين النظام الخاص"

وقد قال محمود عبد الحليم: إن البنا قد دعا في عام 1940م خمسة منا هم: صالح عشماوي، وحسين كمال الدين، وحامد شربت، وعبد العزيز أحمد ومحمود عبد الحليم، وعرض علينا الدواعي التي رآها تقتضي الاستعداد وإنشاء نظام خاص تواجه الدعوة به مسئولياتها في المستقبل، واقتنعنا برأيه، فكون منا نحن الخمسة قيادة هذا النظام وعهد إلينا بإنشائه وتدريبه، على أن يكون على أساس من العسكرية الإسلامية القوية النظيفة، وعلى أن يحاط بالسرية المطلقة، بحيث لا يعرف عنه أحد شيئا إلا أعضاؤه، وعلى أن يكون تمويله من جيوب أعضائه، لأن علامة الجد فيمن يقدم للتضحية بروحه أن يضحى بماله".

أما بالنسبة للباحث الأمريكي ريتشارد ميتشيل ، فقد اعتبر أنه في أواخر 1942م، أو أوائل 1943م خرجت إلى الوجود الوحدة التي عرفت داخل الجماعة باسم "النظام الخاص"، وعرفت خارجها باسم " الجهاز السري" ويشير هذا التاريخ، وهو الأرجح بين كل التواريخ الأخرى، على بدء تأسيس الوحدة، وليس بداية للتفكير في إنشائها.

واعتبر ميتشيل في موضع آخر أن "التنظيم السري داخل الجماعة- نتيجة لبزوغه كفكرة في المرحلة الأولى تحت تأثير مفهوم " الجهاد" – تم تشكيله بعد ذلك تحت ضغط الحماس الوطني الجارف، وينظر إليه على أنه أداة للدفاع عن الإسلام، وفي 1943م بدأ الجهاز يلعب دور المدافع عن الحركة ضد البوليس والحكومات المصرية.

أما بالنسبة لعملية الإعلان عن وجود التنظيم الخاص، فهنا يمكن الإشارة على دور المتغيرات الداخلية والإقليمية التي عجلت بظهور نشاط التنظيم الخاص على سطح الحياة السياسية بشكل واضح، وأحيانا مؤثر خاصة حرب فلسطين التي شارك فيها أعضاء التنظيم بفاعلية واضحة.

رابعا: برنامج التربية الاجتماعية والدينية : خصوصية دعوة المرشد المؤسس

وضع حسن البنا برنامج التربية الاجتماعية كأحد المرتكزات الرئيسية في حركة الجماعة التي ساعدت على انتشار دعوتها بصورة ميزتها عن باقي القوى السياسية الأخرى التي تحركت فقط على مستوى البرنامج والأفكار السياسية دون أن يحتل النشاط الاجتماعي والديني حيزا يذكر في نشاطها.

ومن هنا، فإننا يمكن أن نعتبر أن جماعة الإخوان المسلمين كان لها رؤيتها الفكرية الخاصة التي تشكلت في الحقيقة من بعدين رئيسيين، الأول يتمثل في هذا الولاء المطلق للعام والكلي المستمد أساسا من النص الديني الإسلامي، والثاني حاول في الحقيقة أن يملأ هذا الفراغ الذي نتج عن "الانسحاب" الإخواني من الفعل السياسي المباشر، وذلك " بملئه" بخطاب التربية والتنشئة الدينية لعنصر الجماعة في محاولة الإحلال هذا "النمط الجزئي" في الفعل الاجتماعي محل النمط الجزئي الآخر- الغائب- المتمثل في وجود البرنامج السياسي.

ونجح الإخوان في جعل عملية التفاعل الاجتماعي والديني الذي يضمنها" برنامج التربية" بين أعضاء الجماعة عنصر جذب واستقطاب للعناصر الجديدة وذلك بديلا عن البرنامج السياسي الحزبي الذي لم تعرفه.

هذه الرؤية الأيديولوجية الخاصة أثارت معضلات كثيرة في الممارسة العملية، إلا أنه في كل الأحوال كان من الصعب علينا أن نفهمها إذا كنا ظللنا أسرى إسقاط الرؤى الأيديولوجية للتيارات السياسية الأخرى على خطاب الإخوان وممارساتهم العملية.

وقد عبر ما ذكره حسن البنا في افتتاحية العدد الأول من مجلة "النذير" الإخوانية عن المعضلة الأساسية التي واجهت "إخوان التأسيس" على مدار ما يقرب من ربع قرن، وتمثلت في تداخل معالجة الإخوان الكلية لعد من القضايا الاجتماعية والسياسية مع "خطاب التربية والتنشئة" الاجتماعية والدينية كبديل عن غياب البرنامج السياسي التفصيلي.

وأكد " القائد المؤسس" في مقاله هذا المنشور في مايو 1938م على ولائه للتقاليد الكلية في خطاب الجماعة بقوله: وكانت مصر يوم أن نبتت هذه الدعوة المجددة لا تملك من أمر نفسها قليلا ولا كثيرا، يحكمها الغاصبون ويستبد بأمورها المستعمرون، وأبناؤها يجاهدون في سبيل استرداد حريتها والمطالبة باستقلالها.

ثم عاد ليؤكد ولاءه لـ " خطاب التنشئة" فقال: وقد انصرف رجال الدعوة إلى ميدان مثمر منتج هو ميدان تربية الأمة، وتنبيه الشعب، وتغيير العرف العام، وتزكية النفوس، وتطهير الأرواح، وإذاعة مبتدئ الحق والجهاد، والعمل والفضيلة بين الناس، وأعتقد أنهم نجحوا في ذلك إلى مدى يحمدون الله عليه ويسألونه المزيد منه، فقد أصبح للإخوان المسلمين دار في كل مكان، ودعوة عل كل لسان، وأكثر من ثلاثمائة شعبة تعمل للفكرة وتقود إلى الخير، وأصبح في مصر شعور إسلامي قوي يأمل الجميع في ثمراته.

ولعل هذا الولاء لكل من النص الكلي وبرنامج التنشئة " الاجتماعية اللذين تبلورا في خطاب الجماعة، جاء منسجما مع تبني الجماعة لمفهوم التوسع الكمي في عضويتها، والبعد عن أي صدام مباشر مع السلطة، فالخطاب "اليقيني" والكلي مثل إغراء كبيرا لقطاع واسع من الجمهور لكي ينخرطوا في الجماعة على قاعدة الولاء لفكرة ملهمة وحالمة في نفس الوقت (بناء الفرد المسلم على طريق الدولة الإسلامية) وغياب البرنامج السياسي مثل بدوره محاولة لتلافي الخلاف حول التفاصيل، وبالتالي ضمان انضمام أكبر قد رممكن من الأعضاء على قاعدة " خطاب التربية" ذي الطابع العام أيضا، حتى لو تعرض للتفاصيل، فهي في النهاية تفاصيل داخل الحيز الاجتماعي والأخلاقي الذي لا يثير خلافات حادة مثل نظيره السياسي.

وكان لاهتمام الإخوان بالتربية الدينية ذات الطابع الشعائري والاجتماعي على السواء دور كبير في تقديم مغريات بديلة تجاوزت في تأثيرها بريق أي شعار في برنامج سياسي آخر. فنظام الأسر في " فقه" جماعة الإخوان المسلمين يمثل اللبنة الأولى في بناء الجماعة وتكوينها، كما أنها أساس تكوين الأفراد، وأمثل الأساليب لتربيتهم تربية متكاملة تتناول كل جوانب شخصياتهم، وتصوغ الشخصية صياغة إسلامية وفق كتاب الله وسنة رسوله.

وقد ملأ الإخوان نظام الأسر بكم هائل من النشاط الاجتماعي والديني عبر في الحقيقة عن اهتمام بدأ أحينا مبالغا فيه بأدق تفاصيل العمل الأسبوعي والنشاط اليومي، فهناك الاجتماع الأسبوعي، وهناك اللقاء في الأماكن الخلوية والصحراوية، بجانب اللقاء في المسجد القريب، وهناك زيارة بعض القدامى من أعضاء الجماعة، وأخيرا هناك العمل على توسيع دائرة الأسرة بضم عائلات الأعضاء.

كما كان هناك نظام الكتيبة الذي كان عبارة عن " تجمع أكبر لمجموعة أسر تلتقي وفق منهج خاص".

وكان هناك أيضا نظام الجوالة الأكثر صرامة وقوة والذي شكل النواة الرئيسية التي شيد على أساسها التنظيم الخاص.

وقد عرف الإخوان التربية على أنها الأسلوب الأمثل في التعامل مع الفطرة البشرية توجيها مباشرا بالكلمة، وغير مباشر بالقدوة، وفقد منهج خاص ووسائل خاصة لإحداث تغيير في الإنسان نحو الأحسن، أما التربية الإسلامية فقد عرفها الإخوان لأنها تعد الإنسان الصالح بأن يكون متوازنا في طاقاته وأهدافه ووسائله وأقواله وأعماله.. متوازنا في كل شيء، وقد حدد الإخوان أهداف التربية الإسلامية في عبادة الله وخلافته في الأرض، والعمل على التعارف بين الناس، كما اعتبروا أن مجالها يمتد ليشمل الفرد، وكل ما يتصل ببناء شخصيته، والبيت والمجتمع وحتى الأمة وأنظمة الدولة.

واعتبر البنا أن التربية وسيلة أساسية في عملية التغيير ، سواء على المستوى الفردي، أو الأسري، أو على مستوى المجتمع ككل، وقدم تصورا تفصيلية لبرنامج إعادة التربية والإصلاح على أسس إسلامية بدءا من "المنزل" ثم "المدرسة" ثم " البيئة الاجتماعية".

وهكذا يصبح من الصعب قسر المفهوم الإخواني للتربية على المعاني الدينية الأخلاقية فقط، فمفهوم يعمل على رصد " المتغيرات الاجتماعية" ويسعى إلى إحداث تغيير شامل في المجتمع، يستحيل النظر إليه باعتباره وسيلة للتربية الروحية والأخلاقية فقط بقدر ما أننا أمام تصور شامل لدور "التربية" في الخطاب الإخواني يدمج الأخلاقي/ الديني مع الاجتماعي في بوتقة واحدة.

وعمل البنا على أن يحل هذا الدور محل دور البرنامج السياسي شبه الغائب في خطاب الإخوان في ذلك الوقت، فاهتموا بأدق تفاصيل عملية التربية بمعناها السابق، وأصبحت في حد ذاتها تمثل إغراء لانضمام كثير من العناصر الجديدة داخل الإخوان، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المرشد العام قد طالب شبابه بضرورة البعد عن مواطن الخلاف وعن الأحزاب، وضرورة إيثار الناحية العملية والإنتاجية على الدعاية والإعلانات.

ورغم أن هذه النقاط تمثل أجزاء أساسية في أي برنامج سياسي، إلا أن البنا طالب شباب الإخوان بأن ينتشروا في القرى والبلاد، رغم غياب هذه الأدوات، لثقته الكبيرة- على ما يبدو- بدور التربية وبريقها، ليس فقط في بناء كادر الجماعة، وإنما أيضا في استقطاب عناصر جديدة.

ويمكن أن نعتبر أن حسن البنا وإخوانه امتلكوا بالفعل برنامجا من نوع خاص تراجعت عنه السياسة لصالح " برنامج الأخلاق" والنشاط الاجتماعي، وأن هذا الوضع قد تغير في الثمانينيات حين دخل الإخوان معترك السياسة، وتحالفوا مع قوى سياسية بعينها، ونجح منهم نواب في مجلس الشعب وأعضاء في مجالس النقابات المهنية، دون أن يتخلوا عن الجانب الدعوي والديني.

القسم الثاني: الإخوان المسلمون في عصر جديد، أو نحو تأسيس ثان للجماعة

عرفت جماعة الإخوان المسلمين تحولات كثيرة في العقود الثلاثة الأخيرة، حافظت خلالها على جوهر الرسالة التي ناد\ى بها الإمام المؤسس، خاصة ما يتعلق بربط الدعوي بالسياسي، والتأكيد على شمولية دعوة الإخوان لتتضمن كل نواحي الحياة الاجتماعية والروحية والسياسية والثقافية، على اعتبار أن الإسلام هو دين شامل اعتبره الإمام وإخوانه هو المرجع الذي على أساساه يمكن إحداث النهضة داخل هذه الأمة.

وتغير العالم وبقيت دعوة الإخوان قريبة من الأفكار التي طرحها الإمام المؤسس، وإن كانت قد أبدت قبولها بالتعددية الحزبية، وأعلنت إيمانها بالديمقراطية كوسيلة للمنافسة بين القوى السياسية المختلفة، إلا أنها ظلت مؤمنة بهذا التزاوج بين الجماعة الدعوية الدينية، وبين العمل السياسي.

أولا- تحولات عصر جديد وحدود

إن رحلة الإخوان المسلمين التاريخية، هي أيضا رحلة مع النظم السياسية المصرية، فالإخوان نشأوا كتنظيم في ظل الملكية والحقبة شبه الليبرالية، واصطدموا بالسلطة الناصرية وتعايشوا مع نظام السادات، وتأرجحوا في علاقاتهم بالرئيس مبارك، وإن ظلت قائمة على الاستعباد الجزئي لا الشامل، وبقي الوضع الحالي متفردا عن المراحل الأخرى بأنه غائب عنه التعامل السياسي من الأساس، سواء مع الإخوان أو غيرهم من القوى السياسية الجادة.

ويمكن اعتبار أن علاقة الإخوان المسلمين بالسلطة السياسية هي علاقة شائكة منذ تأسيس الجماعة على يد الراحل حسن البنا عام 1928م وحتى الآن، وعرفت مراحل هدوء ومواجهة، وسلم وعنف، وبقي كلاهما مستمرين، لا الإخوان اختفوا ولا السلطة سقطت، وصار من المهم البحث عن " حل سياسي" لمعضلة الإخوان والنظام القائم، يمكن البناء عليه في عصر آخر قادر على بناء مجال مدني للمنافسة السياسية يحل محل المواجهة الأمنية الرائجة حاليا.

وعاشت الجماعة عمرا مديدا اقترب من 80 عاما، وعرفت حياة داخلية مليئة بالتنوع الجيلي والفكري، وكثير من الجدل داخلها وحولها، ودخلت في صدام قاس مع السلطة الناصرية، وعانى أعضاؤها من ويلات السجون والمعتقلات، كما فرضوا على أنفسهم سياجا من العزلة والانسحاب عن المشاركة في الحياة السياسية طوال عهد الرئيس السادات الذي أفرج عنهم في بداية حكمه وعاد واعتقلهم في نهايته.

وقد وضع الإمام البنا مرجعية فكرية وسياسية مرنة سمحت لها أن تمتلك تصورا شاملا وعاما للإسلام يسمح للإخوان أن يكونوا سياسيين إذا أرادوا، وأن يكونوا دعاة للأخلاق الحميدة إذا أحبوا، وأن يكونوا شيوخا على منابر المساجد، أو نوابا تحت قبة البرلمان، وأن يكونوا صوفيين، وان يكونوا أحيانا ثورا، وأن يكون بين قادتهم القاضي المحافظ حسن الهضيبي، والمناضل الراديكالي سيد قطب.

وكثيرا ما أبدى البعض دهشتهم من الأسباب التي أدت إلى بقاء الإخوان المسلمين طوال تلك الفترة متماسكين ومحافظين على بنائهم التنظيمي، وكثيرا ما أبدى البعض دهشتهم أيضا من قدرة الإخوان المعاصرين على أن يتعايشوا معا، رغم وجود هذا القدر الكبير من التباين الفكري والجيلي بينهم.

وقد حافظ الإخوان المسلمون على بنائهم التنظيمي لأسباب كثيرة أبرزها يرجع لطبيعة البناء الذي شيده الإخوان المؤسسون بقيادة البنا في عام 1928م ، وبقي صامدا ما يقرب من 80 عاما رغم اغتيال الشيخ المؤسس منذ أكثر من نصف قرن، إلا أن هذا الغياب لم يؤد إلى غياب مواز لفكرة الجماعة الدينية الاجتماعية ذات البعد السياسي التي هي ليست حزبا سياسيا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي جماعة دعوية أو هيئة إسلامية، وظل هذا المفهوم مهيمنا على بناء الجماعة في مراحلها الأولى، وتراجع جزئيا في المراحل الأخيرة لصالح تصاعد العقل السياسي الذي لم يلغ الثقافة والبنية الدعوية داخل الجماعة، وإنما شاركها في تشكيل صورتها في العصر الحالي.

وصار من الصعب أن نجد الآن حدثا كبيرا أو صغيرتا يحدث على الساحة العربية أو الإسلامية إلا وكان الإخوان حاضرين فيه بالرأي أو " بالفتوى" كما من الصعب أن نجد نشاطا نقابيا، أو سياسيا، أو طلابيا، إلا وكانوا من بين المشاركين فيه، بل حتى الجدل حول كثير من القضايا الأخلاقية من مشاهد سينمائية اعتبرت إباحية، أو كتب اعتبرت لا تحترم الدين، كان فيها أيضا الإخوان من بين الحاضرين في التعليق، وأخيرا فإن الإخوان كانوا أكثر التنظيمات السياسية تعرضا للملاحقة الأمنية عبر تاريخهم في التعليق، وأخيرا فإن الإخوان كانوا أكثر التنظيمات السياسية تعرضا للملاحقة الأمنية عبر تاريخهم الممتد، صحيح أنها بلغت أقصى مراحلها في الستينات، إلا أن هذا لم يمنع تعرضهم الدائم للملاحقة الأمنية وللمحاكمات العسكرية طوال الفترات التالية.

واقتحم الإخوان منذ بداية الثمانينيات الحقل النقابي والبرلماني من أوسع أبوابه، وخاضوا انتخابات 1984م، 1987م التشريعية، وحققوا نتائج طيبة، كما نجحوا ديمقراطيا في السيطرة على أكثر من نقابة مهنية طوال عقد الثمانينيات وعادوا مع بداية الألفية الثالثة، وحصلوا على 17 مقعدا في انتخابات عام 2000م التشريعية، ثم قفز عدد نوابهم إلى 88 نائبا في انتخابات 2005م.

وظل الإخوان يعتبرون هذا الجانب الديني هو عنصر تمايزهم فهم أكثر احتراما في إدارة أي صراع سياسي مقارنة بكثير من القوى السياسية الأخرى، دون أن يعني أنهم لا يخطئون كما أن التربية الدينية لعنصر الجماعة جعلته أكثر استقامة من "التربية السياسية" لكادر الحزب الوطني، وساعدت في أن تكون إدارته لجماعته أكثر نزاهة وتنظيما من فوضى وعبث أحزاب المعارضة وحزب الحكومة على السواء.

ثانيا- معنى التأسيس الثاني للجماعة

يمكن الإشارة إلى ثلاثة تحديات رئيسية ستواجه جماعة الإخوان المسلمين في المستقبل المنظور، وستفرض عليها ما يمكن تسميته "بالتأسيس الثاني للجماعة" الذي ظلت على الآن داخل – تقريبا- نفس مفاهيم التأسيس الأول الذي أرسى دعائمه المرشد الأول حسن البنا:

1- يمكن اعتبار جماعة الإخوان المسلمين على امتداد الساحة العربية جماعة معارضة وليست جماعة حكم، بكل ما يمثله ذلك من تحديات ومعان، فعنصر الإخوان الذي رباه الإمام حسن البنا على الزهد وعلى المبادئ والقيم الدينية من الوارد أن يبقى في ظللا هذه المبادئ، طالما بقي في المعارضة، تؤثر فيه، وتسهم في صياغة جانب كبير من مواقفه وسلوكياته، ولكنها في كل الأحوال لن تؤثر كثيرا في حال وصول الإخوان للسلطة بما تمثله من "غواية" وبريق وسطوة، بحيث لا يمكن أن يكون للعامل الديني أو الأخلاقي الدور الوحيد أو الأساسي في الحفظ على نزاهة الحكام، إنما في وجود نظام ديمقراطي قادر على القيام برقابة قانونية ودستورية على عمل السلطة القائمة.

ويمكن القول: إن القيم الداخلية التي تربى عليها إخوان التأسيس الأول للجماعة، ظلت فعالة ومؤثرة خارج السلطة، وأنها لن تكون كذلك بعد الوصول إلى السلطة، ولا يمكنها أن تصلح في إدارة الحكم وزفهم طبيعة التحديات الدولية والإقليمية، على أساس أن الرادع الديني قادر على الاستمرار بنفس الفاعلية والتأثير عقب الوصول إلى السلطة في حال غابت الضمانات الحديثة التي يعرفها العالم المتقدم والديمقراطي في الرقابة على السلطة.

وتبقى كل التفسيرات التي يقدمها الإخوان وغيرهم من الفصائل الإسلامية حول المؤامرة الدولية والأمريكية ضد الإسلام والمسلمين والحركات الإسلامية، لا تدخل في مجال صراع القوى وتوازناتها كما يقدمه علم السياسة، فالقول: إن تجربة حماس قد تعثرت نتيجة الحصار الدولي، ونتيجة المعايير المزدوجة، هو قول يعكس قراءة غير سياسية للبيئة الدولية والإقليمية، لأن هذا لا يعكس اكتشافا جديدا لأن المفروض أن تجيب الحركات الإسلامية عن سؤال: كيف ستواجه بنجاح هذه البيئة الدولية المنحازة؟ وكيف يمكن أن تجد الحركات الإسلامية المعتدلة، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، مكانا تحت ا لشمس وتصبح جزءا من العالم يؤثر فيه ويتأثر به؟

2- المعضلة الثانية أو التحدي الجديد الذي سيواجه جماعة الإخوان المسلمين ، وسيتطلب ما أسميناه بالتأسيس الثاني للجماعة، يتعلق بالتحول الذي شهده العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، ويقوم على الانتقال من عصر الأيديولوجيات الكبرى والشاملة إلى عصر الأيديولوجيات الجزئية والناعمة، التي لديها حساسية أو ميل نحو نسق أيديولوجي كبير، ولكنها لا تحكم به، كما فعلت الماركسية والبعثية الصدامية وغيرها من الاتجاهات التي استندت على أيديولوجيات كبرى سعت إلى بناء الإنسان وتكوين الفرد الثوري أو الاشتراكي، وهندسة المجتمع والأفراد داخل قوالب جامدة سابقة الصنع، انهارت جميعها وانهار معها هذا النمط من التفكير قبل أن تنهار خيارات هذه الأيديولوجيات نفسها.

ومن المؤكد أن الإخوان المسلمين ينتمون إلى هذا النوع من الأيديولوجيات الشاملة والكلية التي اعتبروها لفترات طويلة مختلفة عن الأيديولوجيات الأخرى، لأنهم يستندون إلى الدين والعقيدة الإسلامية المقدسة، ولكن في الواقع السياسي يتحول هذا الاستناد إلى فكر وممارسات سياسية، وليس إلى نصوص مقدسة، وهو الأمر الذي يستلزم تأسيسا ثانيا للجماعة يجعلها تعي أن الانتماء الفكري والتربية العقائدية على أساس الإيمان بالإسلام الشامل، لا تصلح بمفردها لبناء نهضة أمة وأوطان حديثة.

وهنا تأتي أهمية وعي الإخوان بالعصر الجديد، وأنهم يتحركون في عصر أعلى من قيم الديمقراطية ومبادئها، وهو الأمر الذي لم يكن مطروحا بنفس الدرجة في عصر التحرر الوطني والقومي في الستينات، وصار أمامهم فرصة تاريخية لأن ينفتحوا على ما يعرف بالأيديولوجيات الناعمة التي تعني- بمرونة- بتفاصيل الواقع المعاش وفق رؤية نسبية، وتفرض قواعد المحاسبة والشفافية والمنافسة بين مختلف أطياف النخبة السياسية.

لا توجد أسباب هيكلية أو " جينية " تحول دون إيمان الإخوان المسلمين بالديمقراطية، ولكنها ستفرض عليهم تحديات من نوع جديد، معظمها يتعلق بمدى جدية النظم العربية في إطلاق مسيرة الإصلاح السياسي والديمقراطي المعطلة، والقادرة على فرض احترام قواعد الديمقراطية على مختلف فرقاء الساحة السياسية، وبعضها يخص خطاب الإخوان باعتباره خطابا شاملا وكليا، وبالتالي اعتمد لفترة طويلة- كما هو حال كثير من الخطابات السياسية التي تنتمي إلى نفس الطريقة- على سطوة وبريق النص، فيكفي أن تكون إسلاميا مؤمنا بعقيدتك الأيديولوجية والدينية لتقود الأمة وتصلحها، دون الحاجة إلى الاهتمام بالإدارة وبالعلم وبفنون السياسية وبالديمقراطية والمنافسة والشفافية، فقد بقيت هذه القيم لا يعارضها الإخوان، ولكنهم لم يعترفوا جميعا بأن وجودها سيضع العالم العربي في مصاف الدول المتقدمة، وغيابها سيكرس تخلفه وفقره واستبداد حكامه حتى لو طبق الإسلاميون في السودان الشريعة الإسلامية أو خاض جند الله في أفغانستان المعركة الغلط بتعبير الأستاذ فهمي هويدي.

وهنا يصبح الإخوان أصحاب العقيدة الكلية والشاملة أمام تحدي بناء رؤى سياسية قادرة على التعامل مع القضايا الجزئية ، ولغة الأرقام، ومهارة التفاعل النقدي مع العالم، وهي كلها تنتمي إلى عصر جديد لم تعتد كل القوى العقائدية الكبرى في العالم العربي التعامل معه- قوميين وإسلاميين وماركسيين، وحتى كثيرا من الليبراليين.

3- أما التحدي الثالث فيتعلق بتأسيس حزب سياسي مدني للجماعة، وإشكالية هذا التحدي مركبة يتعلق جانب منها بالإخوان، وجانب آخر بالسلطة.

والمؤكد أن تراث التأسيس الأول للجماعة لم يكن يعرفها كحزب، ولم يكن محبذا للنظام الحزبي، فنجد الإمام المؤسس حسن البنا يصنف جماعة الإخوان المسلمين في إطار وصف عام من الصعب إمساكه، حين قال: أيها الإخوان أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا، ولا هيئة موضوعة لأغراض محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديدة تسري في قلب هذه الأمة فتحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول، ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس.

أما الحزبية فرفضها البنا متأثرا بأوضاع الأحزاب وصراعاتها في الفترة التي سبقت ثورة يوليو 1952م واعتبر أن الإسلام لا يقر التعددية الحزبية، حيث قال:" أعتقد أيها السادة أن الإسلام- وهو دين الوحدة في كل شيء وهو دين سلامة الصدور ونقاء القلوب والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا، فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد- لا يقر نظام الحزبية، ولا يرضاه ولا يوافق عليه، والقرآن الكريم يقول: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" (آل عمران: 103).

والمؤكد أن الملمح الغالب لنشاط الإخوان المسلمين طوال الفترة الممتدة من عام 1928م، وحتى اندلاع حرب فلسطين عام 1948م كان هو النشاط الدعوي ذا الطابع الاجتماعي والديني، وكان البعد السياسي بالمعنى الذي نشاهده الآن متراجعا في خطاب الجماعة وحركتها، التي شهدت انتشارا هائلا في محافظات مصر المختلفة منذ تاريخ تأسيسها، وحتى حرب فلسطين عام 1948م ولكن شهدت أيضا ضعفا سياسيا كبيرا، وبصورة غير مناسبة مع حجم الجماعة وانتشارها، حيث غابت عن البرلمان المصري طوال الفترة شبه الليبرالية، ولم يكن لها نائب واحد قبل ثورة يوليو 1952م.

والمؤكد أن أحد أسباب هذا الغياب عن المسرح السياسي قبل ثورة يوليو كان يرجع في جانب لطبيعة بناء الجماعة والأولويات الفكرية التي وضعتها لنفسها، كما لم تكن الساحة السياسية من جانب آخر فارغة، كما هي الآن، حيث كان المشروع الليبرالي لحزب الوفد مصدر إلهام لشرائح واسعة من الطبقة الوسطى المصرية، وكان مهيمنا بدرجة كبيرة على الشرع السياسي الذي كان يناضل في ظلال مشروعه، من أجل الاستقلال الوطني والدستور المدني.

ورغم النجاح الذي حققته ثنائيات الإخوان في تقديم بنية تنظيمية مغرية يمكن أن تنال رضا العناصر المتشددة والإصلاحية على السواء، وتلك ذات التكوين الصوفي والثوري، وتستقطب عناصر لخدمة الدعوة والدين مع من يمارس العمل السياسي، وانتمى إليها من يدعو إلى مكارم الأخلاق وينشط فقط في المجال الاجتماعي، مع من سعى لإسقاط النظم الحاكمة بالقوة، وعلى الرغم من نجاح "بوتقة" الإخوان في جمع كل هذه الثنائيات داخل بناء تنظيمي وخطاب سياسي واحد في لحظات الهدوء والسكينة، كما حدث طوال الفترة من 1928م حتى 1948م، أي على مدار ما يقرب من عقدين من الزمان ، إلا أنه مع الظروف السياسية الصعبة والمعقدة، ارتبك تنظيم الإخوان وعجز عن الأداء بالكفاءة السابقة، وخاصة في مراحل المواجهة مع السلطة، حيث عجزت تلك الثنائيات التوفيقية على أن تحافظ على وحدة الجماعة وتماسكها.

وجاء عقد الثمانينات، ومثل بداية مرحلة جديدة في تاريخ تطور الجماعة، حيث بدأت في خوض تجربة الانتخابات البرلمانية، وشاركت بفعالية في الانتخابات النقابية بجانب دورهم المتواصل منذ السبعينيات في اتحادات طلاب الجامعات المصرية.

ولعل تجربة "الإخوان الجدد" في النقابات المهنية وفي البرلمان طوال عقد الثمانينيات، تعد مؤشرا واضحا على حجم التطور والانفتاح الديمقراطي الذي شهده أحد أبرز فصائل الإسلام السياسي على امتداد الوطن العربي، ولكنه ظل حذرا في الإعلان عن تأسيس حزب سياسي مدني للجماعة، إلى أن جاء الأسبوع الأخير من العام الماضي ليحمل إعلان نواب الجماعة عن نيتهم تأسيس حزب سياسي مدني ذي مرجعية إسلامية، وهي الخطوة التي تمثل تحولا هائلا في تاريخ الجماعة وفي طريقة أدائها وعملها، ستضطرهم إلى التمييز بين المجال الدعوي/ الديني والسياسي.

وقد انفتح "الإخوان الجدد" في الفترة الأخيرة على قضايا الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والأقليات، إلا انه من الصعب القول إنها تحولت نحو الفصل بين الحيز السياسي والديني، بلا استمرت في الاحتفاظ بالحيزين في إطار لغة عامة عادة ما تتميز بالبعد عن الدخول في التفاصيل كما حدث في الانتخابات الأخيرة مع شعار" الإسلام هو الحل" الذي رفعته الجماعة في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

ويبدو أن هذا النقد الذي كثيرا ما وجه إلى الجماعة حول غياب البرنامج السياسي التفصيلي، بدا حاميا لها من الانشقاق على اعتبار أن الدخول في التفاصيل سيعني مزيدا من الخلافات، وحرصت الجماعة على أن تحافظ على خطاب العموميات، في ظل غياب أي رؤية سياسية للحكومة التشريعية الأخيرة.

ويبدو أن هذا النقد الذي كثيرا ما وجه إلى الجماعة حول غياب البرنامج السياسي التفصيلي بدا حلا لها من الانشقاق على اعتبار أن الدخول في التفاصيل سيعني مزيدا من الخلافات، وحرصت الجماعة على أن تحافظ على خطاب العموميات، في غياب أي رؤية سياسية للحكومة في التعاطي مع ملف الإخوان.

وبدا حرصهم على استمرار هذا التداخل بين الحيز الديني والسياسي، وكأنه نوع من "الحماية" الإخوانية للذات، بتصوير أي ملاحقة لهم، و:انها أحيانا اعتداء على الإسلام، وفي أحيان أخرى اعتداء على المسلمين المتدينين"، خاصة أن آلة التجنيد الإخوانية لا زالت تعمل على أساس الدعوة إلى الدين والسياسة معا، فلا يمكن أن يقبل مواطن مسيحي كعضو داخل جماعة الإخوان المسلمين، لأن هناك معايير وشروطا دينية لانضمام أي مواطن إلى الجماعة.

ومع ذلك ظلت الإشكالية الرئيسية التي تواجه حركة الإخوان المسلمين، تتمثل في هذا التداخل بين المقدس والمدني، والسياسي والأخلاقي، بصورة تجعل من الصعب النظر إلى الجماعة، باعتبارها بالكامل حركة سياسية.

ومن هنا، فإن تجاوز هذا الخلط بين الحيز الديني والحيز السياسي لا يعني بالضرورة غياب أي ارتباط فكري وسياسي بالإسلام، أو تخلي الإخوان عما يسمونه "بالمرجعية الإسلامية" بقدر ما يعني قبولهم بأن هذا الاختيار هو اختيار سياسي يمثل فهم الإخوان للدين وليس الدين نفسه، وبالتالي من الوارد الاختلاف عليه ورفضه والاحتكام إلى تصويت المواطنين في الحكم عليه دون النظر إلى معارضيه، باعتبارهم مختلفين مع الإسلام، حتى لو كانوا هم الأكثر اقترابا من تعاليمه.

وقد دعم من هذا التردد أنه لا توجد فرصة لكي تقبل الدولة في ظل حكم مبارك حزبا سياسيا إسلاميا مدنيا وديمقراطيا، كما أن الأحزاب السياسية الشرعية تعاني من الانهيار الداخلي والعزلة شبه الكاملة عن الجماهير، وبالتالي يصبح البقاء داخل الجماعة والحفاظ على وحدتها لا يرجع فقط لقناعة داخلية، وإنما يعكس قراءة للواقع السياسي الخارجي الذي يتميز بالجمود التام، والعجز عن دمج الفصائل الليبرالية واليسارية المنتمية لنفس هذا الجيل داخل العملية السياسية، وهو ما ينسحب أيضا وبصورة أقصى على جيل الوسط الإخواني الذي يمتلك قدرات حقيقية للفعل والمبادرة تستلزم نظاما ديمقراطيا، حتى يستطيع أن يوظف تلك القدرات لصالح نهضة المجتمع، ويكون قادرا أيضا على أن يدمجها في عملية التطور الديمقراطي.

وعليه تظل" الإشكالية الكبرى" لإخوان الألفية الثالثة في ترددهم في الفصل بين الحيز الديني والسياسي، بصورة تعتبرهم تنظيما سياسيا مدنيا يسعى بشكل سلمي للوصول إلى السلطة وفق القواعد الديمقراطية وليس جماعة هدفها إصلاح الناس ودعوتهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام.

والمؤكد أن هناك ثمنا كبيرا ستدفعه الجماعة من وحدتها وطريقة عملها، إذا سمح لها بحزب سياسي مجني، وبقيت الجماعة- مثل مئات الجماعات الدينية الدعوية الإسلامية والمسيحية- تدعو المجتمع وليس فقط عناصر الإخوان للالتزام بتعاليم الدين وبقيمه وروحه، أي تحاول أن تكون بمثابة مرجعية أخلاقية وقيمية لكل المصريين، وليس فقط لأعضاء الجماعة.

بالمقابل هناك ثمن ربما أكبر ستدفعه السلطة في حال قبولها بحزب سياسي مدني للإخوان المسلمين يحترم الدستور والنظام الجمهوري، ويؤمن نظريا وعمليا بالمواطنة لأن هذا سيتطلب حكومة قوية تضم سياسيين وتنجح بالانتخاب الحر الديمقراطي وقادرة على منافسة أي تنظيم سياسي جاد، سواء الإخوان أو غيرهم لا أن تضم موظفين يعيشون على دعم الأجهزة الإدارية والأمنية، ولا يمكنهم منافسة إلا حزب التكافل أو حزب الطرابيش (أي حزب الأمة) وغيرهما من الأحزاب الوهمية، وبالتالي ستظل حكومتنا حريصة حتى النهاية على التمسك بالحل الأمني لمشكلة الإخوان لأنها غير قادرة على ثمن الحل السياسي.

والمؤكد أن القبول بالحزب السياسي المدني للإخوان المسلمين لن يكون في عصر الرئيس مبارك، إنما في عصر آخر قد يأتي يحمل نخبة سياسية إصلاحية تتفاعل نديا مع الخارجي، ولا تكون معزول عنه ولا ذيلا له، وقادرة على أن تبني نظاما ديمقراطية كفئا في مجال الاقتصاد والسياسية، وبالتالي يكون قادرا على دمج الإخوان في العملية السياسية كحزب مدني، لأن مستقبل الإصلاح الحقيقي في مصر لن يكون بالتعديل الثاني للمادة 76 أو غيرها من مواد الدستور إنما بدمج الإخوان في المعادلة السياسية وحل مشكلة التيارات الإسلامية" حلا سياسيا.

لا يمكن لمصر أن تبني نظاما ديمقراطيا ، إلا إذا تعاملت بشكل سياسي مع ملف حركات الإسلام السياسي السلمي، بل إن ما يعتبره البعض "فزاعة" لتعطيل عملية الإصلاح السياسي والدستوري، يعتبر الشرط الوحيد لنجاحها، أي دمج الإخوان المسلمين في المعادلة السياسية كحزب مدني شرعي لا كجماعة محظورة تواجه بالبطش والاعتقالات، وهو ثمن لن تقدر على دفعه الحكومة الحالية، في حين أن الإخوان قادرون على دفع ثمن الحزب السياسي، بشرط أن يعوا أنهم مقبلون على تأسيس ثان للجماعة يستفيد من تراثها السابق، ولكنه بالتأكيد سيمثل "ثورة" تنظيمية وفكرية، وتحديات وأسئلة جديدة لم يواجهوها من قبل.

شهادات ورؤى

أولا- شهادات عربية وإسلامية

الرجل الذي أتعب من بعده

أ‌. فريد عبد الخالق

مولد العملاق.. الرجل الذي جمع الناس على المصحف

أ. أنور الجندي

ثانيا: شهادات ورؤى غربية

لمحات من شخصية حسن البنا.. من منظور الوثائق البريطانية

أ.د. صلاح عبد المتعال

الإخوان المسلمون: أول حركة اجتماعية مصرية

إيفيزا لوبن

شهادات عربية وإسلامية
الرجل الذي أتعب من بعده

أ/ فريد عبد الخالق

في حوار عن الذكريات وما تختزنه من مشاهد وأحداث ورؤى وأفكار، التقينا بالأستاذ فريد عبد الخالق، أحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين ، وواحد ممن صاحبوا الإمام البنا عن كثب، فقد رافقه كثيرا في حله وترحاله وكان قريبا منه في أوقات الشدائد والمحن، ويعرف الكثيرون ممن قرءوا تاريخ البنا ودعوته، أو ممن شهدوا تلك التجربة كم كان الأستاذ فريد عبد الخالق مقربا من الإمام، والرجل فوق هذا مشهود له بالعدالة- فهو – وبلا مبالغة- من رجال العمل الإسلامي الثقات، وشهوده العدل، الذين يقدمون المبادئ على الحركات والأشخاص، والأفكار على الأعراف البالية والتعصب المقيت، كل تلك السجايا والصفات تجعل من مسألة الإبحار مع الأستاذ فريد عبد الخالق سياحة بالغة المتعة للقارئ، سيتمنى لو طالت رحلته، وطالت صحبته لذلك الحادي الذي لا يمل.

ما هي قسمات ومعالم الرؤية الإسلامية التي استقيتها من مصاحبتك للإمام البنا واطلاعك على أدبياته وأفكاره؟

- لا يمكن حصر الإسلام في نطاق ما، أو الحيلولة دون أن يعايش الواقع الذي يحيا فيه، فمن يفعل ذلك فإنما يخالف الإسلام في أصل من أصوله الكبرى، وأفكاري في هذا الشأن ليست إضافة مني، أو طارئة علي لكنها مرتبطة بأصول الإسلام، وتعيش في داخلي ولها جذورها في نفسي.

والمسلم الذي ينشغل بهمه الخص، ويترك الهم العام فليس ما، ولست من أقول ذلك، بل النبي صلى الله عليه وسلم: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".

والإسلام ليس دين الفردية، ومم صلى وزكي وصام وحج فليس كافيا، فالمؤمن يجب أن يسعى لإقرار الحق، وإلا فإنه خاسر، وهذا ما نص عليه المولى( عز وجل) في كتابه الحكيم حيث يقول في سورة العصر :" والعصر، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" (العصر: 1-3).

فالمسلم يجب أن يعمل لأمته ويغير واقعه، وأن يكون متجاوبا مع الواقع، ولذلك فالخطاب الديني في التيار الإسلامي يجب أن يكون متماشيا مع ذلك، فهناك سوء فهم عن جهل بالإسلام، فهو لا يريد دولة دينية (ثيوقراطية) ، بل يريد دولة مدنية، وقد نادى فيها بالمواطنة والمجتمع المدني، وأن الجميع يتساوى فيها في الحقوق والواجبات، لكن بعض التيارات الإسلامية لا يستوعب ذلك، ويقف عن ظاهر النص، والقرآن لم ينزل للحفظ وهو أمر محمود ومطلوب، ولكن للتدبر ، وهو أمر مفروض، والإسلام يريد المضمون لا الشكل" يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" (الأنفال: 24)، ومقصد الصلاة والزكاة والعبادات عموما هو الحياة، وإحياء الناس، وقدرتهم على التغيير، ومواجهة الاستبداد، وليس مجرد ارتداء جلباب قصير، كما يعتقد البعض، فالإسلام لا يتلخص في زي وشكل، وإنما إحياء بكل أنواعه ومستوياته، وإحياء للفرد والمجتمع، ومؤسسات المجتمع المدني، وإنتاج إنسان قادر على التغيير، فأداء الفرائض ليس كافيا، ومن انكفأ على الظاهر لم ينل من إسلامه شيء، فقصد الإسلام تحقيق رسالة أعظم من أن تختزل في زي أو طقوس خاوية من كل معنى وقيم.

ومن خصائص الإسلام أيضا الشمولية، وهذا لا يعني خصوصية التنفيذ، فليس شرطا أن تقوم جهود واحدة بكل شيء، مهام الدعوة والسياسة وغيره، فكل فرع له أهله، والإمام البنا في سنة 1945م عندما صدر قانون الجمعيات الأهلية للتضييق على جماعة الإخوان لم يقف ضده، تلك الإشكالية والعقبة، وقال للإخوان: سنجعل كل ما يتعلق بنشاط البر والتكافل تابعا لوزارة الشئون الاجتماعية، فليس لدينا ما نخفيه، ولا نريد الانغلاق على أنفسنا. وكان قد أسس "هيئة المركز العام لشئون البر" فقال للمسئولين بالوزارة : " تفضلوا استلموها" وسألهم: لماذا لا تدرجون أمور الدعوة ضمن أنشطتكم، وأيضا مقاومة المحتل؟ - وهي أنشطة كان يقوم بها الإخوان- فقالوا له: ليس لنا علاقة بهذه الأنشطة.

وهذا يؤكد قدرة الرجل على احتواء الآخر، والتفاهم معه دون الصدام.

القرآن دلنا على أدب الحوار، ورسولنا الكريم تكلم بأدب ولباقة مع الكفار" وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" (سبأ:24)، وهذا اعتراف بالآخر وقيمه، ولذلك يجب أن نعرف إسلامنا الحقيقي قبل أن نعرفه للغرب، فهو يريد عقلية مستنيرة، وقدرة على التنظيم، والتيار الإسلامي والمسلمون كلهم بحاجة لتفعيل المحاسبة والمراجعة. من جملة المعاني الرائعة في التصور الإسلامي، والتي كان حرص الإمام البنا على غرسها في نفوس أبناء الأمة، وتثبيتها كرائد ومحدد يضبط سلوكياتهم : التوافق والائتلاف، والبعد عن كل مظاهر التناحر والاحتراب، ونبذ التعصب المذهبي والطائفي، وهنا نشير إلى ضرورة تنقية الأجزاء السائدة من كل دخن مذهبي، وما يحدث بين السنة والشيعة يجب تجاوزه، وإثارة هذه الخلافات جريمة يجب التصدي لها، فالأمة أحوج ما تكون للتآزر والتلاقي تحت مظلة رسالة الإسلام، حتى تتمكن من مجابهة ما يحيق بها من خطر داهم يستهدفها في هويتها ومقومات وجودها.

  • ما نقل عن الإمام البنا في مجال رحابة الصدر، والاستماع للرأي الآخر والإفادة منه، يؤكد على روحية سمحة للرجل في هذا الأمر، ماذا تحفظ ذاكرتك في هذا السياق؟

- كنت في صميم حركة الإخوان عضوا في هيئتها التأسيسية، ورئيسا لقسم الطلبة، وتوليت رئاسة تحرير جريدة الإخوان آنذاك، وفي عام 1949م جمعنا الإمام البنا مع محرري الصحيفة، وأذكر منهم محب الدين الخطيب، وصالح عشماوي، وقال لنا : إن الجريدة تحتاج لدماء جديدة، وسياسة تحريرية جديدة، وطلب من الأستاذ محب الدين الخطيب بأن يطلعني على مواد الجريدة قبل نشرها، وقد كنت في ذلك الوقت صغيرا في العمر قياسا لعمر وخبرة الأستاذ محب الدين الخطيب،كان الإمام متواصلا م الشباب، ويريبنا على ذلك، ففي نظام الكتائب، وفي قسم الطلبة كانت تثار كافة القضايا مع المرشد العام، وكان هناك تواصل فكري وحركي إلى أبعد درجة.

وأذكر واقعة طريفة في هذا الشأن، ففي ذات مرة في إحدى الكتائب، وكنا ننتظر الإمام البنا لمشاركتنا، ذهب أحد الإخوة لشراء طعام من مطعم في الحلمية الجديدة، وأحضر لنا ساندويتشات الفول، وتأخر المرشد، ولما جاء لم يجد طعاما، وقد انتهت الكمية الموجودة في المطعم المجاور، فاشترى له ساندويتش لحمة، ولكن الدكتور حسان حتحوت- وكان مسئولا لهذا اللقاء- تدخل وقال: إننا أكلنا فولا، فكيف يأكل المرشد لحما؟ ولم يتناول الرجل ذلك الطعام، ولم يغضب أو يضيق صدره، فقد كان قريبا من إخوانه، واسع الصدر والأفق.

وحدث ذات مرة شجار بين طلاب الإخوان والشيوعيين في الجامعة، وكان التيار الشيوعي قويا، وضاق الإخوان بذلك، لأن الشيوعيين أفسدوا على الإخوان أنشطتهم ومؤتمراتهم فأعطوهم "علقة" فغضب الأستاذ البنا من هذا الصنيع، وقال " كل حزب بما لديهم فرحون" المؤمنون: 53)، وأضاف: إن الفكر يواجه الفكر، وهذا الأسلوب لا يقبله الإسلام، وطلب دعوتهم للاعتذار إليهم، وتناول معهم الشاي، واعتذر لهم، وقال: إننا يجب أن نطلع على أفكار بعضنا البعض، وكل منا حر في تبني ما يشاء من أفكار ورؤى، لكن يجب التعاون، فأنتم ستتحملون مسئولية هذا البلد في المستقبل، ولا يليق بطليعة الشباب أن يكونوا على هذه الحالة من التباعد والتناحر، ونتيجة أسلوبه المقنع انضم عدد منهم للإخوان، وخرجوا مسرورين بعدان عاينوا بأنفسهم سعة صدر الأستاذ البنا وتسامحه.

لم يكن الأستاذ البنا يفرض رأيه ويتجاوز اللوائح المنظمة لعمل الحركة، وأذكر في هذا الصدر واقعة لها دلالتها البالغة: ففي اجتماع لمكتب الإرشاد بحضور كمال خليفة وآخرين- وكنت أمين سر المكتب- قمت بسرد جدول الأعمال، وعلى رأسه قضية بحث إمكانية التعاون مع الحزب الوطني وسبل ذلك، ولم يكن هذا الأمر مدرجا على جدول الأعمال، وقبل أن نبدأ مناقشة القضايا التي يضمها جدول الأعمال طلبت التحدث وقلت: سأطرح قضية خاصة بالشكل والإجراءات تخص قضية التعاون مع الحزب الوطني، ووجهت كلامي له قائلا: هل اتخذت خطوات فعلية؟ أم أنك تطرح الموضوع الآن فقط للتداول بشأنه؟ فأحس بالخطأ، وقال : اشطب الموضوع من المضبطة، فقد كان البنا يحترم الشورى.

الإسلام أوصى بالرفق، وعلمنا كيف نتعامل مع الآخرين دون ازدواجية أو صدام، والتيار الآخر أيا كان ليس كله معاديا للإسلام، والتعميم أمر خاطئ، فمثلا العلماني من الممكن أن نلتقي معه على قواسم مشتركة، والغرب ذاته لا يمكن أن نصوغ علاقتنا معه على قاعدة العداء المطلق، ولا التبعية والتقليد كما دعا البعض إلى تقليد العرب والنقل عنه من خيره وشره، فالعلاقة يجب أن تتأسس على قاعدة التناظر والندية والالتقاء على كل ما يخدم البشر، هذه هي رسالة الإسلام.

· يحرضنا هذا الفكر اللامع على طرح السؤال القديم الجديد الذي يشغل أذهان الكثيرين، هل ثمة مكان للعلماني في ظل نظام حكم إسلامي؟

- المجتمع الذي أقامه الرسول (صلى الله عليه وسلم ) كان به أفكار وأديان مختلفة، واستوعبها كلها تحت لافتة إقامة العدل ورفض الظلم، والمساواة بين السيد والعبد، فالإسلام يركز على الأصول وينطلق من مبدأ " ولقد كرمنا بني آدم" ( الإسراء)، ولم يقل: ( ولقد كرمنا المؤمن أو المسلم)، فأيا كانت ملته، فالإسلام كرم الإنسان وجعل من مصارف الزكاة عتق الرقاب، وإطعام الأسير، ولذلك يجب أن نعرف مقاصد الإسلام الحقيقية.

· كثير من اللغط يثور حول طروحات الإمام البنا بشأن الأحزاب ومشروعية تأسيسها.. فهل كان الرجل يعارض فعلا فكرة تأسيس الأحزاب السياسية؟

- الأستاذ البنا لم يعارض فكرة التعددية الحزبية في أصولها المبدئية، فقد انصبت اعتراضاته على الأحزاب القائمة في زمنه، لأنها كانت غير وطنية، وكلها تابعة للملك أو المحتل، ولم يكن لها برنامج أو قدرة على الاستقلال، لكنه لم يرفض المبدأ ، وتحدث معي شخصيا عام 1947م في هذا الأمر ، حيث طلب مني مرافقته لتهنئة شقيق نفيس حمدي، أحد القيادات الطلابية بمناسبة عرسه، وقال لي ونحن في الطريق: يا أخ فريد، يشغلني أننا في مجال الدعوة قد حققنا نجاحا شعبيا كبيرا، ولكن ليس لدينا كوادر سياسية، وهناك بعض الأحزاب نظيفة، وليس لديهم قدرة على الحركة، لكنهم يمتلكون الكوادر، فلماذا لا نتكامل ونتعاون معهم. وهذا تأكيد على عدم معارضته للتعددية الحزبية بشكل مطلق، وأنا أشهد الله على صدق ما أقول: إن البنا كان يرفض الأحزاب الضعيفة العميلة، لكنه لم يرفض المبدأ، ولم يأب الاستفادة من آلية موجودة مثل:" الحزب" وقال : إن الديمقراطية هي أفضل شيء لنا، وأسس الديمقراطية هي مبادئ في الإسلام، لكن بعض الناس ما زالوا يرونها رجسا، لقد كان ذا بصيرة نافذة، فمكان واعيا بصحيح الإسلام وحقيقته.

وذات مرة قال لي: " عندي فكرة، وهي أن نكون الغيتون" . وهو حزب بريطاني (العمل حاليا) كان مؤمنا بالفكر الاشتراكي ولكوادرهم، وهو ما يعني أن البنا كان يفكر ويتحرك بناء على قاعدة علمية ومعلوماتية، وأيضا كان واقعيا، ومستشرفا للمستقبل، وقد قال في مذكراته :" يأتي يوم للإخوان تتاح لهم الفرصة" . واليوم لهم 88 نائبا في برلمان مصر، وغدا ربما يكون هناك شيء آخر.

النظام الخاص

· هناك من يقول إن البنا أسس النم الخاص لأغراض انقلابية، وأنه كان مسئولا عن أعمال العنف التي قام بها هذا الجهاز؟

- البنا هو من أسس النظام الخاص لمواجهة الإنجليز، ووقف عربدتهم ضد المصريين، وأيضا لمواجهة الصهاينة في فلسطين، وعندما قوي النظام الخاص طلبت بعض قياداته الاستيلاء على الحكم، فقال لهم الأستاذ البنا: إننا لا نعتمد الثورة طريقا للتغيير، بل نعمل على تربية الشعب حتى يحدث التغيير لمجتمع أفضل، ومنهج الدعوة غير منهج الثورة.

أما عن مقتل الخازندار، فقد قتله رجال النظام الخاص، وأنا أعود بالذاكرة للوراء وأستعيد ما دار في هذا اليوم، فعقب سماع الأستاذ البنا بالخبر أرسل لي ابنه " سيف الإسلام" يستقدمني بسرعة لأمر مهم، فلما وصلت قال لي: اقرأ ما نشر ف الصحف، وسألني: هل أعطيت تعليمات بذلك؟ فقلت له: كيف ,أنت المرشد العام، ولا يحق لي أن أتخطاك واصدر أمرا بهذا الشأن، فخرج عن شعوره وقال:" الذي أبنيه يهدمونه، لماذا يقتلون قاضيا، ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" وقلت ذلك في برنامج " شاهد على العصر" وليس للإخوان الآن إلا العمل الدعوي المعلن فقط، والسياسة جزء من العمل الدعوي، التنظيم وسيلة وليس غاية، والجميع يحتاج لمراجعات، وأن يتعاون الجميع لما فيه خير الوطن والأمة دون تعصب أو انغلاق.

· هل هيمنت أفكار الأستاذ سيد قطب على توجهات الإخوان في فترات سابقة؟

- لم تهيمن أفكرا قطب على الإخوان، فقد كانت لي حرية الحركة والاتصال، حيث أن الهضيبي قيد الإقامة الجيرية في بيته، وقلت له: كتاب " معالم في الطريق" حمال أوجه عدة، وقد يدفع ببعض الشباب في اتجاه العنف، لكن سيد قطب كان يرى غير ذلك.

وأذكر أن وهبة الفيشاوي التقى بي وقال لي: إن هناك تنظيما ما عرف بـ 65 يريد تنفيذ انقلاب، وطلب مني الجلوس معهم، ومع على عشماوي وعبد الفتاح إسماعيل وقد قابلتهم وقلت لهم: هذا تهور ويجب وقفه. وذهبت للمرشد وأخبرته وأبدى رفضه، ولم يكن على علم بذلك، وأتحمل مسئولية ما أقول أمام الله والتاريخ، وقال لي: " أوقف ذلك" ، وذهبت إليهم وأقنعتهم أن الأمر برمته خطأ، ثم جاء سيد قطب فأخبرته أن المرشد غير موافق على ذلك، وأن هذا التوجه لا يتوافق ونهج الحركة وأدبياتها التي تقوم على فكريات الأستاذ البنا، التي لا تؤمن بالعنف والانقلاب طريقا للتغيير، وقد قضيت وقتا طويلا في تلك الليلة مع سيد قطب، وقد أومأ لي في نهاية حديثنا بما يشير إلى موافقته وقناعته بصوابية طرحي، والتقينا بعد ذلك في ساحة السجن الحربي، والتقت عيناي بعيني قطب وهو خارج مكتب شمس بدران وقد أعدم بعد ذلك.

أما عن الأوضاع الحالية، فهي تحتاج لجهد كبير ومنظم، تتضافر فيه جهود كل المخلصين من أجل وضع الأمة على أعتاب الطريق الصحيح للاستنهاض، وحركة الإخوان يجب أن تتسم بالنفس الطويل، وتعمل على تبصير الناس بحقائق الإسلام دون استعجال، وما فهمته من البنا أننا أمام مراحل تطول، ويجب ألا تستفزنا الظروف، فالشعب وحتى النخب الفكرية لم تفهم حقيقة المشروع الإسلامي بعد، ويجب الاهتمام بالتربية أكثر من ذلك، حتى تخرج عناصر قوية وصلبة، فالبنا لم يؤمن أبدا بالانقلاب والثورة، وقال : لا أؤمن بنتائجها، وبقدر كبير من الصراحة أقول: إن أفكار الأستاذ البنا تختلف اختلافا جذريا عن أفكار الأستاذ سيد قطب ، فقد كان قطب ينظر للمجتمع على أنه مجتمع جاهلي، وأن حالنا يشبه الواقع الذي كانت عليه الدعوة في المرحلة المكية "مكة" وقد أوقعه هذا في تناقض كبير، فكيف نكون في مرحلة الاستضعاف ونطالب بالاشتباك والتغيير العنيف؟ هذا مع اعتراضنا المبدئي على أفكار التجهيل والعنف.

وأقول: إن الإخوان لم يتعرضوا لأفكار الأستاذ سيد قطب بالنقد الموضوعي المطلوب والصريح، فالبنا كان يرفض التغيير بالقوة، وحقا لم يكن الرجل مجرد واعظا أو رجل سياسة، بل كان مصلحا سلميا، ونحن نعيش عصر ليست لغته الانقلاب، بل الانتخابات وها نحن نرى حماس وما أنجزته، وما تحققه الحركات الإسلامية في واقع وأماكن عديدة، وهناك بالفعل تيار إسلامي معتدل زاحف سيملأ الفراغ الموجود، وسيضطر الغرب للتعامل معه، فسيدرك الغرب- ولو بعد حين- أن مصلحته لا تكمن في محاربة المشروع الإسلامي وإعاقة مشاريع التغيير الحقيقية في بلدان العالم الإسلامي.

ما الذي تستحضره بشأن رية البنا للعلاقة مع الأقباط؟ وهل تصلح هذه الرؤية كأساس لبناء مفهوم للمواطنة؟

- نحن نعيش تحت سقف واحد، وفي وطن واحد، ويقتضي ذلك تفعيل التعاون بيننا، وآليات ذلك تتطور حسب معطيات كل عصر، ويجب تجنب العنصرية وعدم احترام الآخر. أنا لا أوفق على تقسيم العالم إلى فسطاطين، وقسمة دار الإسلام ودار الحرب، فاليوم يعيش ملايين من المسلمين في أوربا، وهذه المصطلحات انتهى زمانها. الجزية بدورها مصطلح يرتبط بمعطيات تاريخية لم يعد لها حضور في واقعنا المعاصر، فالجزية كانت موجودة ضمن أوضاع معينة، وقد تغيرت تلك الأوضاع الآن، فالقبطي يدافع عن بلده مثل أي مواطن آخر، وما أجزم به أن الأستاذ البنا كان يرى في الجزية ما عرضته حولها سلفا.

على مستوى العلاقة مع الأقباط، الكل يعرف أن هذه العلاقة كانت إيجابية، وتتسم بالتعاون والتفاهم، وقد كان هناك أربعة أقباط في لجنة سياسية شكلها البنا للقيام بمراجعات سياسية ووطنية، ولم يكن عند البنا أي عنصرية في هذا الأمر، بل على العكس كان متواصلا معهم، وسار مكرم عبيد في جنازته بجانب أسرته فقط، والأقباط أهل خبرة واشتغال بالسياسة، ولست مع ما صرح به ميلاد حنا بعد فوز الإخوان " أنه سيرحل عن مصر إذا جاء الإخوان للحكم" وهذا سوء فهم.

البنا .. مواقف مؤثرة

في كتيبة من الكتائب، وكان الإمام البنا يشارك أفرادها ويلقي كلمته عليهم، جاءه أحد الإخوة، وهمس في أذنه بشيء ما وذهب، فسألت عن الأمر، فعرفت أن من همسه في أذنه قد أبلغه بموت ابنهن والعجيب أن الرجل أكمل الكتيبة ، ولم يترك إخوانه، ثم ذهب لتشييع ابنه، فكان بحق يعيش لدعوته، ويصدق عليه قول الله " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" (التوبة: 111).

وفي درس الثلاثاء كان يتحدث عن الذنوب " وآخرون اعترفوا بذنوبهم" (التوبة: 102)، فقال : " زي حالتي" ، وكان بالفعل منكسرا أمام الله، صادقا، فقيرا إليه، يرى أن توفيقه من فضل يبحان وتعالى.

وأذكر أنه ذات مرة تمت دعوتنا من آل عبد الرازق لزيارة شعبة في بني مزار بالمنيا، فذهبت معه، والتقينا بحسين عبد الرازق، والتقى الإمام بالفلاحين، وشرح لهم دعوته بأسلوب بسيط وسلس، وضرب لهم أمثلة من واقع حياتهم، وأعمالهم الزراعية توضح لهم طريق الدعوة وأهدافها.

· فكرة السمع والطاعة عند الجماعة ما زالت تثير جدلا في أوساط العمل الإسلامي وخارجه. ماذا تقول تجربة البنا في هذا السياق؟

- لم تكن عند البنا حساسيات في هذا الشأن ، وكان الفلاح يأتي من أقصى الريف للمكتب العام لمقابلة البنا، ومناقشته في مواقف الإخوان في هذا وذاك، ولماذا فعلوا وقالوا ذلك، ولم تكن هناك أدنى مشكلة.

· هل حادت الجماعة عن مشروع البنا؟ أم ما زالت على نفس المسار؟

- البنا تكلم في كافة النواحي، ورأيه في الاقتصاد والاجتماع والسياسة معروف، ولقد وضع أسسا ، ولا زال ينقصنا مشروع مكتوب يتعامل مع الواقع الحالي، ويتفهم ظروفنا الحالية، ولن يكون هذا المشروع أبديا، بل يتطور باختلاف الظروف والأحوال، ولا أستطيع تقييم أحوال الجماعة الآن، ومن الظلم أن أقيمها دون أن أحيط علما بكل أمور الجماعة، وتظل الإجابة على هذا التساؤل صعبة، ولا شك أن فوزهم في البرلمان مؤشر جيد، وقراءة تدل على النجاح، مع الأخذ في الحسبان الضغوط الأمنية التي يتعرضون لها، وحملات الاعتقال المستمرة ضدهم، فهم يعانون من الحظر الحكومي لجماعتهم، فالمناخ غير طبيعي والحريات مفقودة، وأنصحهم بمزيد من الفهم للأهداف وللواقع الذي نعيشه داخليا وخارجيا، حتى يمكنهم خدمة الإسلام.

  • كنت وثيق الصلة بالإمام البنا تصاحبه في غدوه ورواحه، مما جعلك الأقدر على الاحتفاظ بعديد من المواقف الإنسانية اللافتة للأستاذ البنا. بماذا يمكن أن تحدثنا في هذا الإطار؟

- كان بسيطا في حياته، وكنت أرافقه كثيرا، وأذهب إليه، فيقول لي: هيا نتناول الغداء، ونأكل في طبق واحد طعاما غاية في البساطة دون أي كلفة بيننا، وذات مرة ذهبنا إلى الإسكندرية لحضور انتخابات في المكتب الإداري للمحافظة، كان هناك مرشح جديد لكنه ليس من الإخوان، وكان الأستاذ البنا يرجح اختياره، لأن مكاسب الدعوة أهم من النظرة الضيقة، وبدأنا الاستعداد للوضوء والصلاة، فخلع حذاءه وجوربه، واستوقفني وجود ثقوب في جوربه، فعز علي أن هذا الرجل الشامخ لا يرتدي ما يليق به وبمكانته، فذهبت بسرعة واشتريت جوربا له، ووضعته مكان جوربه القديم.

وخرج ليرتدي جوربه فوجده تغير، ولا أنسى نظرته في تلك اللحظة، وكأنه يشكرني وأيضا يعاتبني، وكنه يقول لي: " لم تتعب نفسك؟ واندهشت كيف عرف أنني من فعلت ذلك.

- وذات مرة كنا في ضيافة الدكتور خميس حميدة في الدقهلية، وكان رئيس المكتب الإداري للإخوان هناك، وتناولنا الغداء عنده، وكان يجلس معنا على المائدة رجل يبعد عنا أمتارا قليلة، وفوجئت به يطلب مني هامسا أن أذهب لهذا الأخ وأعطيه طبقا من الشوربة، وفعلت ذلك وفوجئت بأن الرجل كفيف، والغريب أنه لاحظه، مع أن من دعانا للغداء وكل الحضور لم يلتفت أحد منهم لهذا الأمر، وقلت للرجل:" حسن البنا أرسل لك هذا" ولا أنسى هذا الموقف.

- وأذكر ونحن في زيارة للصعيد طلب مرافقتي، وقال لي: اقطع تذكرتين لأسوان درجة ثالثة. وكنت حديث عهد بالدعوة، وكنت أظن أننا سنركب درجة أولى، ووجدت الرجل زاهدا ومتقشفا، وركبنا الدرجة الثالثة وسط الزحام، وكنت أشرب السجائر (اكستربك) وأرتدي ثيابا فاخرة، ولم أكن تعمقت في الدعوة بشكل كبير، ولم يكلمني بشكل جاف أو يعاتبني، وبعد فترة قال لي:" هل تحب تغيير مكانك؟" فوافقت، فقال لي ضاحكا، أين الثبات على المبدأ؟ وكأنه يريد أن يعلمني شيئا بأسلوب بسيط، وبعد فترة قال لي: إن الطريق الذي تسير فيه سيوصلك إلى الاعتقال، ويجب أن تعد نفسك، ولا تجعل هذه السيجارة تتحكم فيك، أو تكون سببا في إذلالك ، فرميت علبتي من شباط القطار، وتوقفت عن التدخين من تلك اللحظة ولم أعد إليه أبدا، لقد جعلني أقلع عن التدخين دون أن يعنفني بالقول، أو يثقل على، ودون أن يقول لي: هذا الأمر حرام أو غير ذلك، بل جعلني أنظر للأمر بشكل مختلف.

- وبعد أن وصلنا لـ " ابو تيج" – إحدى مدة محافظة أسيوط بصعيد مصر- استضافونا في غرفة مجاورة لمحطة القطار، وآخر الليل اختلف الإخوان حول من سنبيت عنده، فقال لهم: اذهبوا. وقرر المبيت في هذه الغرفة، وكأنه أراد أن يلفتهم عبر الإصرار على المبيت في تلك الغرفة على خطورة التنازع . ثم قمنا بصف الكراسي الموجودة بالغرفة واستعملناها كأسرة للنوم، وبعد دقائق سألني: هل ما زلت مستيقظا؟ وكانت حشرة "البق" قد نالت منا في هذه الليلة، وقال لي : يا أخ فريد، أنت عامل زي "البساريا" فجسمي كان صغيرا، ولم أكن أريد إزعاجه، فنادى على للمرة الثالثة، فنويت عدم الرد عليه حتى يستريح ويأخذ قسطا من النوم، فقام من نومه وجدد وضوءه وأخذ يصلي، ولا زلت أذكر صوته وهو يتلو القرآن ومناجاته لله بدموع الصوفي المتبتل، وهو متعب منهك بعد رحلة عناء من السفر، وهذا كان سر قوته وإخلاصه وعلاقته بالله، وما زلت احلم به واراه في منمي ونتحدث في أمور الدعوة، فقد كان فلتة زمانه، وفاهما لدينه ودعوته بشكل علمي، وقاد الحركة في ظروف صعبة حتى خرجت كل هذه الأجيال، وهي غرس طيب من رجل طيب، وأنا على يقين أن هذه الدعوة سيكون لها دور كبير ليس لمصر فقط، ولكن للعالم كله.

- أذكر واقعة طلب مني ألا أحدث أحدا عنها، فذات مرة كنا في طنطا وكان على المنصة في مؤتمر، وجاء رجل ريفي وحدثه هامسا، فخرج معه دون أن يلقي كلمته، ولما عاد بعد نصف ساعة سألته ، فقال : إن هذا الرجل أصيبت زوجته بمرض غريب، وتتحدث كلاما غير مفهوم بصوت آخر غير صوتها، وتتكشف عورتها، وتعاني زوجته معاناة كبيرة، وفشل الأطباء في علاجها، فذهبت معه وقرأت عليها أورادا من القرآن حتى رد علي جني، وقال:" امسك وإلا احترقت" فقلت له: هل أنت مسلم؟ فقال: نعم، فقال: وكيف لمسلم أن يؤذي مسلمة؟ فأكملت قراءة القرآن، فقال: أتعهد بالخروج وعدم العودة إليها. والحمد لله شفيت هذه المرأة، ولم تعد إلى هذه الحالة وطلب مني الإمام ألا أفصح عن ذلك، حتى لا يحمل الناس الأمر فوق ما يحتمل، ويظنون أنه شيخ صوفي له كرامات أو أشياء من هذا القبيل، وقال: أنا أريد أن يعرفوني بفكري ودعوتي.

· كيف كان حديث الأستاذ البنا عن الموت؟ وكيف تلقيت خبر استشهاده؟

- كان عند البنا هاجس أنه لن يعيش كثيرا، وذات مرة وهو خارج معي بعد اجتماع تقرر فيه فصل السكري بسبب صلاته بحكومة الوفد، وأسباب أخرى، ودافع عنه البنا وقال:" لا تنسوا ا لفضل بينكم" (البقرة: 237)، وقال لي ونحن في الطريق : يا أخ فريد، أشكر الله أن هذه المشكلة تعرضتم لها قبل أن أموت، لأنها كانت من الممكن أن تتسبب في فتنة، فقلت له: لا تفكر في هذا الأمر، ولكن هذا الهاجس كان عنده، وقد استشهد وهو في الثانية والأربعين من عمره.

- تلقيت خبر اغتياله وأنا في السجن (الهايكستب)، وحزب الإخوان حزنا شديدا، فهو مؤسس الجماعة، وفقدانه لم يكن سهلا، وكان مقتله طعنة للدعوة، لكن شاء الله أن يمد في عمرها، ويقوى نبتها، وهناك نجاح آخر مواز لحركة الإخوان، فهناك تيار إسلامي منتشر بدون صاحب، وحركة تدين واسعة في المجتمع، وانتشار للحجاب، وهو خط لا أنسبه لأي تنظيم.

البنا مجدد القرنين

د‌. عبدالصبور شاهين

لقاءات / صلاح رشيد

حسن البنا هو مجدد القرنين العشرين والحادي والعشرين، فلم يمر بتاريخنا المعاصر داعية وصل إلى ما وصل إليه حسن البنا من اجتماع كل ميزات الداعية في شخصه الواحد. كما كان رضي الله عنه آية في الذكاء، وفي العلم، وفي القدرة على الأداء، وعلى فهم الآخرين، والتغلغل في أعماق النفس الإنسانية، كما كان آية في القدرة على تجميع الرجال، وجذبهم إلى دعوته، وحشدهم في سبيل بلوغ الهدف، وهو بعث الأمة الإسلامية من سباتهاـ وتحريك طاقاتها في اتجاه لدعوة والوحدة الإسلامية، لقد سبق حسن البنا جيله والأجيال السابقة عليه، بقدرته على قيادة الجموع، وتحريك الهمم، وهو ما لا نجده في تاريخ داعية من الدعاة، الذين سبقوه أو الذين لحقوا به.

ولو مضت دعوة الإمام حسن البنا إلى غايتها لكان للمسلمين الآن شأن: أي شأن ولكن إرادة الله غالبة " إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" (الأعراف: 34)، وفقدت الأمة أعظم الدعاة شأنا، وأعلاهم همة، وأقدرهم على تشخيص الفكرة الإسلامية، وقيادة الجموع من أجل الرؤية المستقبلية.

ولقد كان حسن البنا شخصية نادرة في قدرته على مخاطبة الجماهير، بكل مستوياتها العقلية فإذا تحدث إلى العلماء بهرهم بعلمه، وإذا تحدث إلى البسطاء استولى عليهم ببساطته، وما أظن أن هذا القدر من المواهب قد اجتمع في شخصية داعية من دعاة القرن، فضلا عن سائر القرون الماضية.

وكنت أجلس مع الأستاذ البنا (رحمه الله) في مناسبة معينة، لم يكن معنا إلا حضور الله تبارك وتعلى، وكان حديثه معي يتميز بالشفافية والقدرة على احتواء كل أفكاري، وتوجيهي إلى الرؤية المستقبلية، وكان حديثه معي أشبه بحديث عالم النفس، الذي يقصد إلى تحليل العوامل النفسية داخل الشباب، ولذلك فأنا أعتبره صاحب الفضل الأول في تكويني كداعية، بل إنه صاحب الفضل الأول في اتجاهي إلى إتقان اللغة الفرنسية حتى استطعت أن أترجم منها لكثير من المؤلفات، فضلا عن اتجاهي في التخصص على ما يخدم كتاب الله تعالى، وما يساعد على فهم المشكلات التي مر بها الأقدمون مرور الكرام، ولهذا فأنا أعتبر الأستاذ الإمام حسن البنا صاحب الفضل الأول في تكوين الجيل الذي أنتمي إليه، وأسال الله سبحانه أن يجزيه بقدر ما أحسن إلى جيلنا في التعليم والتوجيه والتربية، وإبراز القدوة الصالحة.

البنا صاحب التأثير العميق

د. عثمان اوزتورك

في الحقيقة هناك تأثيرات عميقة للشهيد حسن البنا في العالم الإسلامي، وفي نفوس المسلمين، وكما تعرفون فإن الشهيد البنا لم يكن عالما مدققا ومتخصصا في المجالات العلمية (الأكاديمية) ولكن كان رجلا صالحا، ومعلما عاملا، ومؤمنا خالصا، وصادقا بإيمانه، وكانت أ‘ماله مطابقة لأفكاره، وما كان يلتفت أبدا إلى زخارف الدنيا، فلقد رسم الشهيد حسن البنا طريقا واضحا ومعتدلا، وسلك سلوكا مستقيما، لا عوج له، وكان عابدا وزاهدا في حياته الفردية، وكان مرشدا وقائدا في حياته الاجتماعية، كما ترك لنا ميراثا بارعا له قيمة عظيمة، ولا ريب أن الأجيال القادمة ستظل تردد اسمه بالاحترام والدعاء بالخير، فرحمه اله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، اللهم آمين.

أعاد للإسلام مفهومه الشمولي

د. حسن المراني

إذا نظرنا إلى دعوة الإمام الشهيد حسن تلبنا رحمه الله) وإلى امتدادات هذه الدعوة صح أن نقول : إنه مجدد القرن، باعتبار أنه الداعية الذي أعاد إلى الإسلام مفهومه الشمولي لمتوازن، الذي لا يطغى فيه جانب على جانب، والذي عرف كيف يوازن بين الحق والقوة الجمال، وبعد مرور ما يزيد على سبعين سنة على هذه الدعوة االمباركة، وأمام ما يعيشه العالم الإسلامي من تحديات داخلية وخارجية، وأمام ما طرأ على مفاهيم الإسلام، إما من انفلات، وإما من غلو، فإننا نحس بأننا بحاجة على دعوة روح الدعوة كما فهمه حسن البنا بمنهج الحسنى واليسر والحكمة الموعظة الحسنة، ولعل هذا المنهج الوحيد الذي يستطيع أن يخرجنا من أزمتنا المعاصرة، وأن تجتمع حوله كل الحركات الإسلامية باعتبار دعوته تمثل قاسما مشتركا بين الناس.

المجدد العملاق

د. أحمد أبو الشباب

كان الشهيد المرحوم حسن البنا عملاقا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهو بلا شك من المجدين حقيقة، حيث ينسحب عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " يأتي على رأس كل قرن من يجدد للأمة دينها" وفي تقديري أن الإمام البنا استطاع بناء جيل قوي من الشباب المسلم، الذي يفهم أمور دينه، كما أنه لا ينسحب على فئة أو طائفة ما، وكنه صاحب حضور وعليه لدى أوساط التيار الإسلامي كافة، من هنا فسيبقى كره وتعليمه وتجديده خالدا أبد الدهر لأنه كان يصدر عن كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وتبرز في دعوته معالم السماحة والفهم والاستيعاب التام لأركان ومقومات الدعوة الإسلامية ومهما تكلمنا عن الإمام حسن البنا فلن نوفيه حقه. وعمله وتضحياته.. عنصران لم يقدمهما مسلم في زمانه هذا، وأجزم أن الكلمان تقف خجلي عند العبير عن منهجه وفكره وإصلاحه، وأقل شيء يمكن أن يقال عنه: إنه كان أمة وحده.

أعظم الشخصيات في القرن العشرين

د. محمد اجتباء الندوي

يعد الإمام حسن البنا من أعظم الشخصيات الإسلامية في القرن العشرين، حيث ترك بصماته في الحركة الإصلاحية التجديدية، ليس في البلاد العربية وحدها، بل في العالم الإسلامي والإنساني كله.

عاش في بيئة علمية ودينية، وتربى بين أحضان العلم والفكر الإسلامي الصالح، ثم ربى أجيالا أدت على الدرب القويم، واستفادت وأفادت كثيرا جدا.

ظاهرة إسلامية فريدة

الشهيد حسن البنا ظاهرة إسلامية لا يمكن التقليل من قيمتها، وقد اتسم الرجل بالإخلاص الشديد، وبالعمل الدءوب، وأنا أعلم أنه كان لا ينام إلا أربع ساعات تقريبا، وبهذين نجح المسلمون في صدر الدعوة، وينجح بهما كل داعية إلى الله، وقد نجح الشيخ حسن البنا، فنحن في أمس الحاجة إلى الإيمان العميق والإخلاص لهذا الدين من جانب، وإلى العمل الدءوب بحكمة وأناة، معتمدين على صلة متينة بالله، كما كان الشيخ في مأثوراته، وعلى منهج تربي يم، وهو ما كان الشيخ يحر عليه، وأنا من لم يلتقوا الشهيد حسن البنا، لكن أشعر كأنني عشت معه ورأيته، انطلاقا من أحاديث تلامذته المباشرين عنه، وهي أحاديث تنضح حبا وصدقا، وعلى رأس هؤلاء أستاذي الشيخ ممد الغزالي، الذي كانت تدمع عينه أحيانا عند تذكره الشيخ حسن البنا، ويقص صورا من الإلهام الرباني الذي كان يمنحه الله له، وكيف أنه كان سريع الخبرة بالنفس التي تتعامل معه، فلقد عرف- مثلا- بنبوغ الشيخ لغزالي مبكرا، وتبناه ووقف معه ضد الذين ينفسون عليه مكانته، وهو صغير، وفي رأيهم أنه لا يستحق هذه المكانة، ما رأيت الشيخ الغزالي يوما يتحدث عن الشيخ البنا إلا وهو يتأوه، ويخرج زفرات تدل على عمق العاطفة بينه وبين الشهيد، وهذا في حد ذاته يطلعنا على قيمة الشيخ الشهيد البنا، لأن قيمة الإنسان تتجلى في تأثيره القلبي والوجداني في الآخرين، ولا تتجلى في تأثيره العقلي، فكثير من المفكرين كالعقاد تركوا فكرا رائعا من الناحية العقلية، لكنهم لم يستطيعوا أن يكونوا تلامذة أو حملة للراية الإصلاحية من بعدهم. بل كان الفكر عندهم للفكر. أما الشهيد البنا فكان الفكر عنده بالعمل والتربية، ولتغيير صياغة الحياة، وكما وصفه الأستاذ محمد عبد الله السمان.. كان رجلا قرآنيا بحق، لقد كانت لي تجربة عابرة، مع أنني لا أنتمي لحركة الإخوان المسلمين ، لكنني اختلطت بالرجل العظيم عمر التلمساني، فرأيت فيه الألق نفسه، والخلق نفسه، الذي كان عليه الشهيد حسن البنا حسبما عرفته من تلميذه الغزالي، ومن غيره والحق أن التلمساني كان النموذج الثاني الذي قدم لجيلنا أخلاق حسن البنا.

لقد كان (رحمه الله) واسع الصدر ، يتبن من يستحقون التبني والتشجيع دون نظر لانتمائهم لحركة الإخوان، المهم أن ينتموا للإسلام، وبالتالي نجحت مجلة الدعوة في عده ليصل توزيعها إلى (100) ألف نسخة، والأهم أنه كان محبوبا من كل من حوله، رحم الله الشهيد البنا، ورزق المسلمين دعاة على هذا النحو مستفيدين من تطور الزمان، وتطور الآليات، ومن أخطاء القرن المنصرم، وبالتالي قادرين على أن يحسنوا تقديم الإسلام للعالم.

مربي الرجال

د. يوسف القرضاوي

يقول فقيه العصر "العلامة" الدكتور يوسف القرضاوي عن أستاذه وشيخه الإمام حسن البنا ، ل يكن حسن البنا مجرد رئيس جماعة، ولو كان كذلك لأمكن بسهولة أن تستبدل الجماعة رئيسا برئيس، ولكن علاقته بأنصار دعوته، علاقة الأستاذ بتلاميذه من الناحية العقلية، وعلاقة الشيخ بمريديه من الناحية الروحية وعلاقة الأب بأبنائه من الناحية العاطفية، وعلاقة القائد بجنده من الناحية التنظيمية.

وهو الذي بذر البذرة، وتعهدها بالرعاية، حتى نمت وأرقت وأزهرت، وامتدت جذورها في الأرض، وفروعها في السماء، وكان المرجو أن يمد الله في حياته، حتى تؤتي أكلها بإذن ربها.. كان حسن البنا من الأفراد القلائل الذين يمن بهم القدر على الأمم في فترات وهنها وهوانها، لتنهض من كبوة، وتصحو من غفوة، وتبعث من همود، وتتحرك من جمود، وتقوم من قعود. جاء حسن البنا ، وأمتنا الكبرى هكذا، فنفخ فيها من روحه لتحيا، وصدع فيها بأعلى صوته لتستيقظ ، وسقى شجرتها بدمه لتنمو وتمتد. وقد جمع الله فيه من المواهب والفضائل ما تفرق ي كثيرين، فهو العالم الداعية المربي السياسي المصلح المجمع المنظم، كما قيل كل الصيد في جوف الفرا.. لم تأته الفرصة ليؤلف كتبا علمية كبيرة، ولكنه" ألف" رجالا كبارا، ملأوا الدنيا بالكتب والعلم النافع، حسبه هؤلاء الرجال في أقطار شتى، وحسبه الدعوة العالمية التي جعلها تمتد شرا وغربا، شمالا وجنوبا وحسبه الذكر أحسن الذي أضاف إلى عمره أعمارا. كان حسن البنا شخصية فذة، أو قل: كان عدة شخصيات في رجل واحد، فهو العالم والداعية والمربي والمصلح والمجاهد والسياسي، وقد وفقه الله تعالى ليقوم بدور كبير في زمن يسير، وأن يخلف وراءه كتائب ن الرجال تحمل رسالة الإسلام إلى الأجيال، وأشهد أن عيني لم تر مثل حسن البنا في شمول شخصيته، وتعدد مواهبه، والبركة في آثاره، وأني انتفعت به انتفاعا كبيرا، برغم محدودية المرات التي لقيته أو استمعت إليه فيها، لقد كانت شخصية حسن البنا جديدة على الناس.. عجب لها كل من رآها واتصل بها، كان فيه من الساسة دهاؤهم،ومن القادة قوتهم، ومن العلماء حججهم، ومن الصوفية إيمانهم، ومن الرياضيين حماستهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم، ومن الكتاب رصانتهم، ولم يكن الغرب ليقف مكتوف الأيدي أمام مثل هذا الرجل الذي أعلى كلمة الإسلام على نحو جديد، وكشف لرجل الشارع حقيقة وجوده ومصيره، وجمع الناس على كلمة الله، وخفت بدعوته ريح التغريب والجنس، ونزعات القومية الضيقة ، واعتدلت لهجات الكتاب، وبدأ بعضهم يجري في ركب " الريح الإسلامية".

وجملة القول في الرجل القرآني : إنه يفهم الإسلام فهما واضحا سهلا يسيرا، كما جاء في حديثه معي، على الطريقة التي فهم بها محمد الإسلام، إنه قريب في نظري من أبي حنيفة الذي أصر على رفض القضاء، ومالك الذي أفتى في البيعة، وابن حنبل الذي أريد على هوى فلم يرد.

كان الناس يرونه غريبا في محيط الزعماء بطابعه وطبيعته، فلما مات كان غريبا غاية الغرابة في موته ودفنه، فلم يصل عليه في المسجد غير والده، وحملت جثمانه النساء، ولم يمش خلف موكبه لأحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملأون الدنيا، لسبب بسيط هو أنهم كنوا وراء الأسوار.

إنه يدهش الناس، في كل لحظات حياته، فلابد أن يدهش الأجيال بختام حياته، إن الألوف المؤلفة قد سارت في ركب الذين صنع لهم الشرق بطولات زائفة، أفلا يكون حسن البنا قد رفض هذا التقليد الذي لا ينم على غير النفاق ؟

إن هناك فارقا أزليا بين الذين خدعوا التاريخ، وبين الذين نصحوا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الختام العجيب سيظل مدى الأجيال يوقد في نفوس رجال الفكر النور والضياء، ويبعث في قلوب الذين آمنوا معه ما بعثه الحق في نفوس أهله حتى يمكنوا له.

وعنه يقول الشيخ القرضاوي مخاطبا الإمام البنا في تصديره لديوانه "السلمون قادمون":

لك يا إمامي يا أعز معلم

يا حامل المصباح في العصر العمي

يا مرشد الدنيا لنهج محمد

يا نفحة من جيل دار الأرقم

شيدت للإسلام صرحا لم يكن

لبنائه غير الشباب المسلم

وكتبت للدنيا وثيقة نصره

وأبيت إلا أن توقع بالدم

حسبوك مت وأنت فينا حاضر

ما مات غير المستبد المجرم

حسبوك غبت وأنت فينا شاهد

نجلو بنهجك كل درب معتم

نم في جوار زعيمك الهادي، فما

شيدت يا بناء لم يتهدم

سيظل حبك في القلوب مسطرا

وسناك في الألباب واسمك في الفم
الرجل الذي يتبعه نصف المليون

الأستاذ إحسان عبد القدوس

اركب أي سيارة أجرة وقل للسائق:" الإخوان المسلمين يا أسطى" ولا تزد، ولن يلتفت إليك السائق ليسألك ماذا تقصد بالإخوان المسلمين، ولا أين تقع هذه الدار التي يطلق عليها هذا الاسم، بل سيقودك إلى هناك دون سؤال، بعد أن يرحب لك بابتسامة ما لم تتعود أن تراها على وجوه سائقي سيارات الأجرة، وقد يرفض أن يتناول منك أجرا .

ولا شك أنه سيحملك سلامه- قبل أن تغادره- إلى فضيلة الأستاذ حسن البنا- المرشد العام للإخوان المسلمين- وستمر في طريقك داخل الدار بمخازن الذخيرة التي يمتلكها الإخوان: وهي الشباب،شباب امتلأت بهم حجرات الدار على سعتها، ترى على وجوههم نور التقوى والإيمان، وفي عيونهم حماسة الجهاد، وبين شفاههم ابتسامة تدعو إلى المحبة والإخاء، وفي يد كل منهم مسبحة انحنى عليها بروحه يذك راسم الله.

وهم مع كل ذلك شبان (مودرن) ، لا تحس فيهم الجمود الذي امتاز به رجال الدين وأتباعهم، ولا تسمع في أحاديثهم التعاويذ الجوفاء التي اعتدنا أن نسخر منها، بل إنهم واقعيون يحدثونك حديث الحياة لا حديث الموت، قلوبهم في السماء، ولكن أقدامهم على الأرض، يسعون بها بين مرافقها، ويناقشون مشاكلها، ويحسون بأفراحها وأحزانها، وقد تسمع فيهم من "ينكت" ومن يحدثك في الاقتصاد، والقانون، والهندسة، والطب.

إنهم ذخيرة، وستنطلق عن الإشارة الأولى، فاحذروا ويستقبلك الأستاذ حسن البنا بابتسامة واسعة، وآية من آيات القرآن الكريم، يعقبها بيتان من الشعر، يختمهما بضحكة كلها بشر وحياة.

والرجل ليس فيه شيء غير عادي، ولو قابلته في الطريق لما استرعى نظرك، اللهم إلا بنحافة جسمه ولحيته السوداء التي تتلاءم كثيرا مع زيه الإفرنجي، وطربوشه الأحمر الغامق.

ولن تملك منع نفسك عن التساؤل : كيف استطاع الرجل أن يجمع حوله كل هؤلاء الإخوان؟ وكيف استطاع أن ينظمهم كل هذا التنظيم ، بحيث إذا عطس فضيلته في القاهرة، صاح رئيس شعبة الإخوان في أسوان، " يرحمكم الله؟".

ولكنك لا تلبث قليلا حتى تقتنع بأن قوة الرجل في حديثه، وفي أسلوبه الهادئ الرزين، وفي تسلسل أفكاره التي يعبر عنها تسلسلا منطقيا.

وربما كان أغرب ما في حديثه أنه يحس بما يقوم في نفسك من اعتراضات، فيجيبك عنها، ويفندها لك قبل أن يترك لك الفرصة لتصدمه بها.

وهو لبق يستطيع أن يحلل شخصيتك، ويدرس نفسيتك من النظرة الأولى ، وربما أحس أني دخلت إليه وتحت لساني مائة تهمة أستطيع أن أوجهها إليه، فكان من لباقته أن عرض علي قبل أن أغادره تقريرا عن الحسابات المالية لجماعته.

وفي هذا التقرير تقرأ عجبا:

فهذا "أخ" أراد أن يسهم في شراء دار الإخوان، ولم يملك، مالا، فباع أرضه وخصص ثمن أربعمائة متر منها للجمعية، وصورة العقد والتخصيص منشورة بالزنكوغراف ضمن التقرير.

وهذه زوجة لم تجد لديها مالا لتقدمه فوهبن قرطها الذهبي- وكان حليتها الوحيدة- للإخوان، وصورة القرط منشورة أيضا ضمن التقرير.

وهذا رجل من مسلمي بومباي في الهند تبرع بفتح اكتتاب بين أبناء بلده للمساهمة في بناء الدار.

وهذا زوج اختلف مع زوجته، فهو يريد أن يتبرع للجمعية بجنيه واحد، وهي تريده أن يتبرع بثلاثة جنيهات، وجاءا ليحتكما إلى الأستاذ البنا، فحكم بينهما بأن يتبرعا بجنيهين اثنين حسما للنزاع.

وهذا رجل من العراق يرسل تبرعه عن طريق سعادة عبد الرحمن عزام باشا، وآخر يتعهد بكل ماله لتغطية ما تحتاجه الجماعة مكن مال.. و.. و.. وبين أسماء المتبرعين أعضاء في مجلس النواب وشخصيات كثيرة، وشباب لامع لم أكن أحسب أنهم يدخلون ضمن نصف المليون، الذي يؤمن بالأستاذ حسن البنا.

نصف مليون وأكثر انتظموا في كثر من ألف وخمسمائة شعبة انبثت في كل قرية وكل كفر، بينها مائتان وخمسون شعبة في القاهرة وحدها، وهناك شعب في باريس ولندن وجنيف قبل قيام الحرب.

وحدثني فضيلته عن فكرة الإخوان، وكيف نبتت، وكيف تحققت. لقد وجد القائمين على أمر الإسلام قد عجزوا عن تطبيقه تطبيقا صحيحا، فالإسلام ليس دينا فحسب ولكنه نظام سياسي واقتصادي واجتماعي.

وقد وجد مصر من حوله ينقصها الخلق، وينقصها الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولم يقصر تفكيره في الإصلاح على ناحية واحدة من هذه النواحي، كما فعلت الأحزاب فقصرت جهودها على الناحية السياسية، أو كما فعلت الشيوعية فقصرت جهودها على الناحية الاقتصادية، إنما أراد أن يصلح كل نواحي النقص الذي تعانيه مصر، ويعانيه الشرق، فلم يجد نظاما شاملا جامعا يستطيع أن يلجأ إليه سوى الإسلام، وقانونه الأساس :القرآن.

وهو يسعى أولا إلى إفهام المسلمين دينهم فهما صحيحا لا تشوبه الخزعبلات، وإلى إيجاد المحبة والأخوة بينهم، ثم تطبق النظم الاجتماعية والاقتصادية التي جاءت في الدين عليهم.

وهو يعتقد أن مصر- كبقية بلدان الشرق- حساسة من ناحية الدين، وأنه ما من حرك صالحة أو خطوة خطتها إلا كانت باسم الدين دائما ، فأنت تستطيع أن تجعلهم- أي المصريين- يحبون وطنهم باسم الدين، ويحبون بعضهم بعضا باسم الدين، ويجاهدون وينتظمون باسم الدين، وكل دعوة قامت في مصر، ولم تكن على أساسا من الدين فشلت.

قلت: ولكننا اليوم لا نستطيع أن نطبق الدين والقرآن على جميع مرافقنا، فهناك مثلا قوانين الملاحة والطيران كيف نستطيع أن نحل محلها القرآن ؟

وأزاح فضيلته طربوشه إلى مؤخرة رأسه وقال: إن القرآن وضع ليكون قانونا أبديا، ينطبق على كل عصر منذ انتهاء الجالية إلى قيام القيامة، ولو بحثت في القرآن لوجدت بين سطوره الكريمة صورة للقانون الذي تبحث عنه الدول العظمى الآن، لتحديد طريقة استعمال القنبلة الذرية في الحروب.

ونحن لا نقول: إن كل قانون سنحتاج إليه قد جاء بتفاصيله ومواده وحيثياته من القرآن، إنما يجب علينا أن نجتهد في وضع هذه القوانين في حدود المبادئ الأولية، والمثل العليا التي جاءت في الدين.

وقد انتشر اعتقاد الناس بقصور القرآن عن شمول كل مرافق الحياة للجمود الذي أحاط به منذ قفل باب الاجتهاد واستنباط القوانين من بين سطوره، وقد نكب الإسلام حقا منذ أغلق باب الاجتهاد في وجوه العلماء، والاجتهاد يتسع لكل فرض يخطر على بالك، وقد سئل أحد العلماء مرة: هل الخلوة الصحصحة في مسائل الزواج تثبت إذا كان مع الرجل المرأة كلب؟

وأجاب العالم: إن الخلوة تثبت إذا كان الكلب ملك المرأة، وتفسد ولا تعتبر صحيحة إذا كان الكلب ملك الرجل، لأن الكلب إذا كان للمرأة ولم تكن الخلوة بإرادتها ينبح ويتهجم على الرجل مدافعا عن سيدته، أما إذا سكت الكلب واستكان فدليل على أن الخلوة بإرادة المرأة، وإذن فهي خلوة صحصحة.

والفرض بعيد، ولكنه يدلك على أن الاجتهاد يعم كل مسألة تخطر لك.

قلت: ولكن هل تعتقد أن الأجانب المقيمين بيننا يرضون من ورائهم دولهم بتطبيق قوانين القرآن، كقطع يد السارق مثلا؟

وهنا خبط الأستاذ بيده على مكتبه في ثورة وقامت مناقشة حادة بينه وبين نائب وطبيب ومحام كانوا يشتركون معنا في الحديث، وقال: لو كان الإنجليز من المسلمين وطبقوا في بلادهم قوانين الإسلام لما قام واحد فيهم يسأل: هل يرضى الأجانب بقطع يد السارق أو لا يرضون؟ إنما هو ضعفنا وخنوعنا الذي ألجأ إلى هذا السؤال، وألجأنا إلى استعارة قوانين أوربا لتطبيقها على أنفسنا بدل الشريعة الإسلامية التي اعترف أخيرا مؤتمر محكمة العدل الدولية بأنها شريعة قابلة للتطور.

وقد حدث في شبه جزيرة العرب أن حكم على جندي أمريكي بقطع يده، لأنه سرق، فاحتج قائده، فاحتج قائده، فأبلغه الملك ابن السعود أنه إما أن ينفذ الحكم وإلا فلن يكون مسئولا عن أموال أمريكا في بلاده، فرضخت أمريكا ونفذ الحكم.

ثم استلم الملك من الرئيس روزفلت خطاب شكر لحرصه على سلامة أموال الدولة، ثم إن هذه الحدود- أي العقوبات- تنفيذها متروك لأمر القاضي، وتقديره، طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم:" ادرءوا الحدود بالشبهات" وهو يستطيع أن يتدرج فيها بين الشدة والتخفيف.

قلت: ألا تعتقد أن دعوتك دعوة جمعية قد تؤدي بنا إلى خلافات طائفية قد تستغلها إنجلترا للتدخل في شئوننا كما يحدث الآن في الهند؟

قال: إن الإسلام أوصى خيرا بأهل الكتاب، ونحن نشجع كل حركة تقوم على أساس الدين الصحيح، وجميع الأديان متفقة في أسسها ومثلها العليا، وعلاقتنا حتى اليوم علاقة طيبة مع كثير من مواطنينا من أصحاب الأديان الأخرى .

قلت : هل تسعون لتولي الوزارة ؟

قال: إننا نؤيد أي وزارة تنفذ برنامجا قائما على الدين الصحيح، سواء أكنا نحن الذين نتولاها بأنفسنا أم كان غيرنا، وفي الدستور الحالي سند لنا فيما أقول، لأنه ينص في ماديته على أن دين الدولة الإسلام ، ومعنى هذا أن تكون جميع نظمنها وقوانيننا وتصرفاتنا مبنية على قواعد الإسلام.

المرشد والرائد

محمد عبد الله السمان

حوار : زينب أبو غنيمة

· ماذا عن المرشد والرائد؟

يقول الأستاذ محمد عبد الله السمان: إن الرجل بعد زهاء نصف قرن على استشهاده ملء السمع والبصر، وما أكثر ما كتب عنه من دراسات له وعليه، ولا زلت أذكر، بل أحفظ ما سمعناه من الأستاذ محمد عبد الحميد – مدرس اللغة العربية (ليسانس لغة عربية من آداب القاهرة) ، وهو أول طالب جامعي ينضم إلى الجماعة، قال: كان والدي أحد العلماء، واستشرته في رغبتي في العمل الإسلامي ، فإلى أي جماعة انضم؟ قال : انتظر حتى نستأنس برأي العلامة الفيلسوف الشيخ طنطاوي جوهري، وكان صديق أبي وكثيرا ما كان يزورنا، فقال لي: يا بني عليك بجماعة الشيخ حسن البنا، فإن فيه شجاعة "علي" وذكاء "معاوية" فأسرعت أنضم وأبايع.

لقد أشار العالم الفيلسوف إلى مفتاح شخصية حسن البنا من خلال صفتين بارزتين فيه: الشجاعة والحكمة، والشجاعة بلا حكمة تهور، والحكمة بلا شجاعة عجز، وبهاتين القيمتين معا تكون العبقرية، إلا أن الكاتب الأمريكي (روبير جاكسون) الذي زار القاهرة للقاء المرشد، ثم كتب عنه تحت عنوان (حسن البنا.. الرجل القرآني) كان دقيقا في تحقيق شخصية الرجل.. وبالرغم من أنه لم يحظ بكل التفاصيل ، إلا أن ما قاله جدير بالتقدير، ومما قاله: " لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط ومظهره العادي، وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته، كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل على الزعامة الشعبية لا في مصر، بل في الشرق كله".

حصل الأستاذ عبد الله السمان على تقارير وافية عن الإمام حسن البنا وتاريخه وأهدافه وحياته، وقارن بينه وبين الزعماء والمصلحين، وأخذ يقارن بينه وبين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد أحمد المهدي، والسيد السنوسي، ومحمد عبد الوهاب، فوصل به البحث إلى أن الشيخ قد أفاد من هؤلاء جميعا، ومن تجاربهم، وأخذ خير ما عندهم، وأمكنه أن يتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء.. كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية، وقد استطاع حسن لبنا أن يدمج بين الوسيلتين معا، وأن يأخذ بهما جميعا، كما أنه وصل إلى ما لم يصلا إليه، وهو جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة على مذهب واحد وهدف محدد.

لكن حسن البنا كان يتفق مع الأفغاني في ضرورة العمل على إيقاظ الشعوب، ولكن اختلف معه في الوسيلة، كان حسن البنا يرى أن الظروف غير ملائمة للمواجهة المسلحة مع الأنظمة لأنه كان يحسب ألف حساب للنتائج، وما حدث من مواجهات محدودة فرضت على الإخوان فرضا- بعد قرار الحل- ذهب إليه بعض الشباب المتحمسون لأخذ رأيه في المقاومة جهد الطاقة فشكر لهم حماسهم، لكنه في نفس الوقت لفت أنظارهم إلى مغبة الأمر في النهاية، وقال لهم: " إن الإنجليز هم أصحاب القرار بحل جماعة الإخوان، وما النقراشي باشا – رئيس الوزراء، ووزير الداخلية يومئذ- إلا أداة طيعة في يد الإنجليز الذين لم يصدروا قرار الحل إلا على أمل أن تحدث المواجهة بين الإخوان والحكومة، ويغتنم الإنجليز الفرصة للتدخل المباشر في شئون البلاد.. وتتجدد مأساة حركة عرابي"

· وماذا عن المقارنة مع الآخرين من المفكرين والمصلحين؟

- كان منهج الإمام محمد عبده يقوم على التربية عن طريق تصحيح المفاهيم لعودة إلى الإسلام في منابعه الصافية، بيد أن المرشد مع حفاظه على الصفوة نزل بأسلوب مناسب إلى رجل الشارع، لأن أية حركة إسلامية لا غنى لها عن القاعدة الشعبية، أما بالنسبة للحركة الوهابية التي اتسم منهجها بركيزتين: إحياء العقيدة السلفية، وتطبيق الشيعة الإسلامية فقد كان المرشد على وفاق من حيث الأساس والهدف والغاية، والخلاف كان على الأداة والأسلوب والوسيلة، كان منهج المرشد يتسم بكثير من الحرارة وسعة الأفق، ولا ننسى فارق الزمن بين الحركتين وتطور الحياة نفسها.

· هل تعتبر شخصية البنا شخصية فريدة؟

- اجل .. وبلا جدال ، فقد أثبتت الأحداث ذلك، وشهد به بعض المفكرين، وفي دنيا الفكر الإسلامي نقول: عقمت النساء أن يلدن مثل الإمام محمد عبده، وفي دنيا الحركات الإسلامية نقول: عقمت النساء أن يلدن مثل حسن البنا، وفي دنيا الأدب نقول: عقمن النساء أن يلدن مثل العقاد.

يقول العلامة أبو الحسن الندوي في رسالته "أريد أن أتحدث إلى الإخوان" كان حسن البنا شخصية فريدة يظهر من حياة صاحبها ونشأته أنه أعدت لهذا الأمر إعدادا، وكان يجمع بين الفهم والواسع والغيرة الملتهبة،عليه والنشاط الدائم والعمل المتواصل لإعلائه.

ويضيف السمان: كان الرجل يحمل هموم الأمة المسلمة برمتها على عاتقه، كانت آلام الأمة المسلمة برمتها ممتزجة بكل أحاسيسه ومشاعره، وكانت مشكلات الأمة المسلمة أمام عينيه لا تفارقهما.

انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال بسويسرا عام 1897 برئاسة هرتزل، وفي عام 1901م قام بجولة استكشاف في سيناء على أمل أنها سوف تكون ضمن ممتلكات دولة إسرائيل حين يقدر لها لأن تكون، وكم دهشت وأنا أقرأ هذا الكلام، لأن سيناء لم تغب عن ذهن حسن البنا، وكان صدقي باشا - رئيس الحكومة المصرية- يفاوض الإنجليز، وذلك عام 1946م أي قبل قدوم إسرائيل بعامين، وأثار المرشد عبارات جاءت على لسان صدقي باشا وصف فيها سيناء بأنها برية، (أرض قاحلة ليست فيها ماء ولا نبات)، إلا أربعة بلاد جعلت للتمرين وقت اللزوم.

كتب المرشد مقالا في جريدة الإخوان بتاريخ 18 من ذي القعدة عام 1365هـ يقول فيها: ( إن أرض سيناء تبلغ نصف أرض مصر المزروعة، وقد كشفت البحوث الفنية أنواعا من المعادن والكنوز فوق ما كان يتصور الناس، واكتشفت فيها بعض آبار البترول حديثا، ويذهب الخبراء في هذا الفن إلى أنه في الإمكان أن يستنبط من سيناء من البترول أكثر من آبار العراق الغالية النفيسة، وحرام أن تظن الحكومة بعد اليوم أو يتخيل أحد من الناس أن سيناء برية قاحلة، فهي فلذة كبد هذا الوطن ومجاله الحيوي، ومصدر الخير والبركة والثراء.. ونرجو أن يكون ذلك كله بأيدينا لا بأيدي غيرنا" هذا ما قاله حسن البنا منذ أكثر من خمسين عاما.

· وماذا عن توقيت احتياج الأمة له؟

- كان لوجود الشيخ حسن البنا في هذا الوقت حاجة ماسة، وكان يجب أن يكو لأن الأمة المسلمة مضيعة والشعوب المسلمة المغلوبة على أمرها كانت في أمس الحاجة إليه بعد رحيل آخر الموقظين جمال الدين الأفغاني بأكثر من ثلاثين عاما، وبعد رحيل آخر المصلحين الإمام محمد عبده بثلاثة وعشرين عاما كذلك.

وكان الرجل أيضا يجب أن يموت، لأنه مصدر قلق وفزع للاستعمار وأعوانه من الأنظمة العميلة، فالأفكار التي يحملها لم يكن متوقعا أن يحتملها أو يسكت عنه الاستعمار والأنظمة العميلة له، برغم أن هذه الأفكار مستمدة من منابع الإسلام الصافية، يقول المرشد:" يا قومنا إننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنة في شمالنا وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا".

ويعلق المفكر الفرنسي (أرنست رينان) – أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة السوربون، وهو حفيد الكاتب الفرنسي الذي دخل معه الإمام محمد عبد في حوار معروف ومنشور- يقول في تعليق له على عقيدة الإخوان:" إن هذه الكلمات عميقة البحث والقصد، وهي لا شك مستمدة من نفس المنهج الذي رسمه محمد عبده (صلوات الله عليه وسلامه) ، ونجح في تنفيذه وأسس به امة ودولة ودينا، وقد زيد فيها مما يناسب روح العصر مع التقيد بروح الإسلام، وفي اعتقادي أنه لا نجاح اليوم للمسلمين إلا باتباع نفس السبيل التي سلكها محمد وصحبه، غير أن تحقيق هذا على الحال التي عليها المسلمون بعيد، وليس معنى هذا القنوط والعقود عن العمل"

كان الخطر محدقا بحياة المرشد، رفضوا اعتقاله ليسهل عليهم اغتياله، فلم تخنه شجاعته، حتى بعد أن سمع هتف بعض الشباب الضائعين خلال تشييع جنازة النقراشي باشا: ( رأس البنا برأس النقراشي)، وذات يوم رأيت المرشد في سيارته، فكتبت إليه كلمات حملها إليه شقيقه الضابط عبد الباسط ، قلن له- والكلام لمحمد عبد الله السمان:" إن حياتك ليست ملكا لك ولا لذويك، بل هي ملك للإسلام والمسلمين" فجاء رده: " أينما تكونوا يدرككن الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" (النساء: 78).

أجل.. وكان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحول مجرى الطريق.. شهيدا.. كما مات عمر وعلي والحسين، فقد كان الرجل يقتفي خطواتهم، مات في عم الزهر النضير.. وفي نفس السن التي مات فيها كثير من العباقرة ورجال الفكر، وقضى وهو يسطع ويتألق، وعاش الرجل كل لحظة من حياته، بعد أن عجزت كل وسائل الإغراء في تحويله عن نقاء الفكرة وسلامة الهدف " لم يحن رأسه ولم يتراجع ولم يتردد أمام المثبطات ولا المهددات، وكان الرجل فذا في عيون بعض الناس، وحاول الكثيرون أن يقيدوا من القوة التي يسيطر عليها، فقال لهم: إن أنصاره ليسوا عصا في يد أحد، إنهم لله وحده، وحاول البعض أن يضموه إليهم فكانوا أصلب عودا من أن يخدع أو ينطوي".. هكذا قال روبير جاكسون.

غصن باسق في شجرة الخلود

الشيخ محمد الغزالي

في وحشة الليل، وصورة الغدر، ويقظة الجريمة، كان الباطل بما طبع عليه من غرور، وما جبل عليه من قسوة، وما مرد عليه من لؤم، كان مستخفيا ينساب في أحياء القاهرة الغافلة يجمع سلاحه، ويبث عيونه ويسوق أذنابه من الكبار والصغار، ويعد عدته لكي يغتال حسن البنا، مرشد الإخوان المسلمين.

وليس قتل الصديقين والصالحين في هذه الدنيا بالأمر أصعب.

إن القدر إذن بأن يعدو الرعاع قديما على أنبياء الله، فذبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة، أفكثير على من تلقفوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض، أن يردوا هذا المورد؟ لا ، ومن طلب عظيما خاطر بعظمته.

ومن هوان الدنيا على الله أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع مع المترفين، وأن ترك حملة الوحي فيها يهونون مع الوحي لا بأس سمع رسول الله رجلا يقول: اللهم آتني أفضل ما آتيته عبادك الصالحين فقال له: " إذن يعقر جوادك، ويراق دمك" حتى الجواد يقتل مع صاحبه، أصابه من الشهادة مسها القاني ولو كان مربوطا بعربة بضاعة لعاش دهرا.

وكذلك أبى ربك أن يسترجع المختارين من عباده- بعدما أدوا رسالتهم في الحياة- أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة، وجراحاتهم الغادرة، فمزق علج من المجوس أحشاء عمر، وعدا مأفوق غر على حياة هلي، وقتل يزيد الماجن الحسين- سبط الرسول، وتآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا، ولن تزال سلسلة الشهداء تطول حلقة حلقة ما بقي في الدنيا صراع بين الضياء والظلام.

عفاء على دار رحلت لغيرها

فليس بها للصالحين معرجا

كدأب على في المواطن قلبه

أبى حسن والغصن من حيث يخرج

لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أتفه شيء في ناظريه ماذا خرقت الرصاصات الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسدا أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود، خرقت جسدا غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة، رحلات طالما أصغى الملايين إليه فيها، وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفا ألوفا في ساحة الإسلام.

لقد عاد القرآن غضا طريا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله، ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادة الطاغية، وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبا للإسلام واستمساكا به.

وعرفت أوربا- البغي- أي خطر على بقائها في الشرق إذا بقي هذا الرجل الجليل، فأوحت إلى زبانيتها، فإذا بالإخوان في المعتقلات وإذا بإمامهم شهيد مدرج في دمه الزكي.

ما أخرقت الرصاصات من جسد هذا الرجل؟ خرقت العفاف الأبي المستكبر على الشهوات، المستعلي على نزوات الشباب الجامحة؟ لقد عاش على هذه الأرض الربعين عاما لم يبت في فراشه الوثير منها إلا ليالي معدودة، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة، والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام في عصر غفل المسلمون.

واستيقظ فيه الاستعمار ، ومن ورائه التعصب الصليبي، والعدوان الصهيوني، والسيل الأحمر فكان حسن البنا العملاق الذي ناوش أولئك جميعا حتى أقض مضاجعهم، وهدد في هذه الديار أمانيهم.

لقد عرفت التجرد للمبدأ في حياة هذا الرجل، وعرفت التمسك به إلى الرمق في مماته، عرفت خسة الغدر يوم قدر رفات الشهيد هدية للمترفين الناعمين، كما قدم – من قبل- دم على مهرا لامرأة.

عجبا لهذه الدنيا وتبا لكبرائها، وا رحمتاه لضحايا الإيمان في كل عصر ومص كذلك يقتل الرشاد المرشد؟

ودعا أيها الحفيان ذاك الشخـ

ـص ، إن الوداع أيسر زاد

واغسلاه بالدمع إن كان طهرا

وادفناه بين الحشى والفؤاد

وخذا الأكفان من ورق الصحـ

ـف كبرا عن أنفس الأبرار

أسف غير نافع واجتهاد

لا يؤدي إلى عناء واجتهاد
مع حسن البنا

المهندس عثمان أحمد عثمان

اتصلت نشأتي الدينية في البيت مع نشأتي الدينية في المدرسة، وكان ذلك على يدي الرجل الذي حمل لواء الدعوة الإسلامية، ومكن لها في عصرنا الحديث.

ولم أكن أتصور وقتها أن أستاذي الذي تولى تربيتي الدينية في المدرسة سيصبح صاحب مدرة كبيرة وضع أسسها وما تزال وستظل علامة رائدة يتجمع حولها كل من أراد أن يعتصم بحبل الله في كل أموره.

وكان حظى أن أتتلمذ على يدي المرحوم الشيخ حسن البنا الذي أكد عندي الخط الديني الذي نشأت عليه في منزلنا، حتى أصبح هذا الخط محورا لكل حياتي.

كان المرحوم حسن البنا مدرسا للغة العربية والدين في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية، وكان شابا في العشرينيات من عمره، وجدت عنده- رحمه الله- سعة صدر وعطفا، كان يحبنا فأحببناه، وتعلقنا به.

كان لا يكتفي بما كان يعلمه لتلاميذه ، داخل قاعة الدرس ولكن كان يطلب منا أن نحضر كل يوم إلى المدرسة قبل موعد الدراسة بساعة كاملة وعندما نحضر كان ينظمنا في شكل طابور، ويسير بنا إلى المسجد القريب من المدرسة، فيعلمنا الوضوء السليم، ثم نصلي فرض الصبح، ويعود بنا بعد ذلك إلى المدرسة مرة أخرى.

وأذكر أنني كنا أنام وأنا أحلم بذلك اللقاء اليومي الذي أحببته، وكنت أنتظره بفارغ الصبر، ولم يقتصر الأمر عند ذلك الحد، ولكن كان يكرر- رحمه الله- نفس الأمر مع موعد كل فسحة ، كان يطلب منا أن نعود مرة أخرى إلى المدرسة بعد أن نتناول غداءنا في منازلنا، وكنا نجده –رحمه الله- في انتظارنا فيصطحبنا إلى المسجد لكي نؤدي فرض صلاة الظهر، ونعود بعد ذلك لاستكمال حصص اليوم الدراسي.

وكان أن علمتنا أمي- رحمها الله- الصوم وشجعتنا عليه، وكان شقيقي المهندس حسين عثمان يتعلم الصوم لأول مرة، وكان ذلك في أول أيام شهر رمضان االمبارك، وجلس في الفصل، وأكثر من البصق في منديله، فلاحظ عليه ذلك، الأستاذ حسن البنا فسأله: ماذا بك يا حسين؟ فقال: إنني صائم، ولا أريد أن أبتلع ريقي حتى لا أفطر.

فضحك الأستاذ المرحوم حسن البنا كثيرا، وربت على كتفه، واستبدل بحصة الدرس الذي كان يشرحه لتلاميذه حصة في العبادات، راح يشرح فيه لتلاميذه عبادة الصوم.

وقد ارتبطنا نفسيا بالأستاذ حسن البنا- رحمه الله- وكان بمثابة الأب الروحي لنا نستمد من علمه ومعرفته على قدر ما نستطيع.

وانطبعت في أذهاننا أخلاقياته، وشدنا إليه حسن معاملته، وقدرته على أن يستحوذ على حب الناس له، وارتباطه بهم وربطهم به.

كان – رحمه الله- فلتة من فلتات المن، أعطاه الله- سبحانه وتعالى- من حسن الصفات، والتفقه في أمور الدين، والتمكن من دراسته وفهمه، واستيعابه وقدرته على أن يعلمه لكل من كان يستمع إليه، ويستمتع روحيا به.

كان يتمتع بقدرة فائقة على مخاطبة كل العقول، مهما اختلفت ثقافتها، كان مشوقا لا تمله في مجلسه ولا حديثه كان – رحمه الله- مدرسا كبيرا، وعالما جليلا وحجة في الدين.

وكان أن أبحر في علم ربه، فكان له ما ليس لغيره من أبناء جيله، فكان له أن يستحق رضا الله، فأرضى عنه كل الناس.

في ذكرى الإمام البنا

الدكتور أحمد أبو إسماعيل

كان الإمام حسن البنا رجلا عالما مؤمنا بفكرته، استطاع أن يجذب الناي إليه، بل ويقودهم وليس هذا إلا لبساطته وعمق إحساسه، فقد كان يحس بما تحس به الجماهير، ومن ثم كان إذا تكلم عبر عما كان يريد كل فرد منهم أن يقوله، وهكذا أرضاهم جميعا، وأصبح هناك رباط قلبي بينه وبينه، غير أن أهم شيء يجب أن نذكر به الإمام حسن البنا أنه قاد الناس إلى طاعة الله في أثناء الحرب الأخيرة وفي أعقابها، وهي فترة من أقسى الفترات التي مرت بها الشعوب، فقد طغى فيها سلطان المادة على كل سلطان، وبدا فيها الانحلال الخلقي ظاهرا في كثير من النواحي، وقد استطاع الإمام البنا في تلك الظروف المضطربة أن يحمل علم القوى المعنوية الإسلامية، وأن يقود الشباب خاصة إلى الطريق المستقيم، رحم الله الإمام وأجزل له في ثواب الآخرة.

في ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا

صلاح سالم

إن هذه الأخلاق العالية والصفات الحميدة قد اجتمعت وتمثلت في شخص أستاذ كبير، ورجل احترمه وأجله، واعترف بفضله العالم الإسلامي كله، وقد أحبه الجميع من أجل المثل العليا التي عمل لها، والتي سنسير عليها إلى أن يتحقق لنا ما نريده من مجد وكرامة في أخوة حقيقة، وإيمان أكيد ، رعاكم الله ووحد بين قلوبكم وجمع بينكم على الخير.

أنور السادات
الصدفة التي جمعتني بالمرحوم حسن البنا

الزمن، ليلة مولد الرسول من عام 1940م.

والمكان: سلاح الإشارة في المعادي، وكنت إذ ذاك ضابطا برتبة ملازم في هذا السلاح .

ومولد الرسول في مصر، موسم من مواسمها، يعرف الأطفال فيه عرائس الحلوى، والأحصنة الصغيرة الملونة يركبها فرسان العرب، وتعرف فيه البيوت والدواوين والمجالس النيابية ودوائر السياسة وقصور الأغنياء، الحلوى الحمصية والسمسمية، ثم لا شيء بعد ذلك.

وعلى هذا الوجه مرت بمصر هذه الليلة، كما مرت بها دائما، ولكنه لم تمر بي كذلك، فقد كانت – من حيث لا أدري- ليلة البدء لأحداث كثيرة متتابعة سمع المصريون أطرافا منها، بعضها خافت كالهمس، وبعضها مدو كالقنابل والمتفجرات.

الرجل ذو العباءة

كنا جلوسا في إحدى غرف السلاح، نتناول العشاء ونتكلم، وكان جنود هذا السلاح- وأغلبهم بطبيعة عملهم في سلاح الإشارة- فنيين متطوعين قد اعتادوا مني كثيرا أن أحاضرهم، واعتادوا مني دائما أن أتناول طعامي معهم، وأن أحدثهم بصراحة، وأن يحدثوني بمثلها.

ودخل علينا ونحن جلوس للعشاء في ليلة مولد النبي جندي من جنود السلاح الفنيين، لم يكن موجودا بيننا منذ بدء هذه الجلسة، وقدم إلينا صديقا له يلتحف بعباءة حمراء لا تكاد تظهر منه شيئا كثيرا.

لم أكن أعرف هذا الرجل إلى ذلك اليوم، ولم يثر دخوله ولا ملبسه اهتمامي، ولم يلفت نظري، وكل ما هناك أني صافحته ورحبت به، ودعوته إلى تناول العشاء معنا، فجلس وتناول العشاء.

وفرغنا من الطعام، ولم أعرف عن الضيف شيئا إلا بشاشة في وجهه، ورقة في حديثه وتواضعا في مظهره ولكني عرفت بعد ذلك عنه شيئا كثيرا.

فقد بدأ الرجل بعد العشاء حديثا طويلا عن ذكرى مولد الرسول ، كان هو اللقاء الحقيقي الأول بيني وبين هذا الرجل وبيني وبين هذه الذكرى.

كان في سمات هذا الرجل كثير مما يتسم به رجال الدين، عباءته، ولحيته، وتناوله شئون الدين بالحديث.

ولكنه بعد ذلك كان يختلف عنهم في كل شيء ، فليس حديثه هو وعظ المتدينين ، ليس الكلام المرتب، ولا العبارات المنمقة، ولا الحشو الكثير، ولا الاستشهاد المطروق ، ولا التزمت في الفكرة، ولا ادعاء العمق، ولا ضحالة الهدف، ولا الإحالة إلى التواريخ والسير والأخبار.

كان حديثه شيئا جديدا، كان حديث رجل يدخل إلى موضوعه من زوايا بسيطة، ويتجه إلى هدفه من طريق واضح ويصل إليه بسهولة أخاذة.

وكان هذا الرجل هو المرحوم الشيخ حسن البنا- مرشد الإخوان المسلمين.

الموعد الأول

وانتحى الرجل بي ناحية، وتجاذب معي حديثا قصيرا أنهاه بدعوتي إلى زيارته في دار جمعية الإخوان المسلمين قبل حديث الثلاثاء.

كانت الجمعية غذ ذاك لا تزال في دارها القديمة التي تشغلها الآن شعبة الجوالة التابعة لها.

عينان من بعيد

وذهبت الثلاثاء، ولم أكد أضع قدمي في مدخل الدار، حتى شعرت بكثير من الرهبة وكثير من الغموض.

دخلت من حجرة كبيرة جدا من هذه الحجرات التي عرفت بها الأبنية المصرية القديمة ، وقطعت هذه الحجرة بأكملها لأنفذ من باب صغير، ونفذت من هذا الباب لألقى أمامي شيئا كالحجرة، أو شيئا كالممر الطويل بين حجرات، ولم يكن هذا ممرا، وإنما كان مكتبا، كان صفوف طويلة من الأرفف المتقاربة الملتصقة بالحوائط، وقد صفت عليها مئات كثيرة من الكتب ملأت جو المكان برائحة الورق المخزون.

وعلى بعد كبير في آخر هذا الممر، كانت هناك عينان فقط ترسلان بريقا قويا، هما كل ما يظهر من الرجل الجالس خلف مكتبه، مرشد الإخوان.

وتحدثت م الرجل طويلا في ذلك اليوم، ولكنه لم يفتح لي كل نفسه، تحدث معي كثيرا، ولكنه لم يخرج عن دائرة الدين أبدا، وحصر نفسه في هذه الدائرة، ولكنه جعل يتسع بمحيطها شيئا فشيئا حتى أصبحت أفقا كبيرا مليئا بالمعاني، ورغم كل المحاولات التي بذلتها لأدفع به إلى حديث السياسة إلا أني قد فشلت.

ورغم كل ما تطرق إليه الحديث من شئون الجيش، إلا أن الرجل ظل ملتزما ناحية الدين، وإهمال الناس له، ورسالة الإيمان التي يجب أن يرتكز عليها جهادنا، ووجوب نشر هذه الرسالة في صفوف الجيش.

سؤال خطير

وتكررت زياراتي بعد ذلك للرجل، وبدأنا نتحدث في كثير من الشئون العامة، وبدأت أوقن أن الرجل يطوي صدره فعلا على مشاريع كبيرة وخطيرة، لا يريد أن يفصح عنها، كما أيقن الرجل أيضا أني لا أنتوي الانضمام إلى جمعيته، ولعله شعر أو أدرك أني أعمل شيئا، وأني لست أعمله وحدي.

ولم يرد الرجل أن يعرض علي الانضمام إلى جمعيته، كما أنه لم يحاول أن يسألني عن أية صلة بآخرين، ولكني فهمت أنه كان يريد أشياء كثيرة من الحقيقة في مناسبة جاءت بعد ذلك بأيام.

وفي يوم تقابلت معه، وكنت ثائرا مكتئبا تملؤني المرارة الألم، فقد صدرت الأوامر في ذلك اليوم بإعطاء الفريق عزيز المصر إجازة إجبارية من رياسة أركان حرب الجيش.

وكان معلوما لنا أن وراء هذه الفعلة أيدي الإنجليز، وكان مجرد العلم بهذا كافيا لإثارة نفوسنا، ودفعنا إلى أي عمل قد يراه الكثيرون- في مثل ظروفنا- من أ‘مال الجنون.

وجاءت الإجازة الإجبارية لعزيز المصري كناقوس كبير يدوي في آذاننا لكي نبدأ العمل.

واستحث هذا الحادث أمنيتنا الكبرى منذ وصلنا إلى القاهرة، أن نتصل بعزيز المصري، ونتعاون معه وكان الخوف من إثارة الشبهات حول جماعتنا الصغيرة، أو حول أي فرد منها لا يزال مسيطرا علينا.

ويبدو أني قلت ذلك للمرحوم حسن البنا أثناء حديثي معه في ذلك اليوم الخطير، وابتسم الرجل وسألني في بساطة:

هل تحب أن تلقى عزيز المصري؟

وفوجئت بالسؤال، فما تمالكت نفسي من القول:

- إنها أمنية

وعاد يسألني والابتسامة على شفتيه.

- وما يمنعك من تحقيقها؟

وأخذت ألقي إليه بمعلوماتي عن مراقبة المخابرات البريطانية للفريق عزيز المصري ،ومحاصرته له ولكل من يحاول الاتصال به، وأوشكت أن أفضي إليه بأني أخشى أن أحاول ذلك فلا تكون نتيجته أن ينكشف أمري أنا وحدي.

ولكن الرجل الذي كان يستمع ويبتسم، وكان قد أمسك ورقة صغيرة وأخذ يخط عليها بضع كلمات ، ثم مد يده إلي وقال لي:

- ستلقاه في هذا المكان غدا في المساء.

وأخذت الوريقة أقرؤها بشغف شديد.. بينما قال لي حسن البنا والابتسامة على شفتيه:

- واقطع تذكرة عند الدخول كما يفعل الداخلون

وخرجت من دار الإخوان المسلمين أخطو خطواتي الأولى إلى مستقبل مجهول.

حمال عبد الناصر

في ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا

إنني أذكر هذه السنين والآمال التي كنا نعمل من أجل تحقيقها، أذكرها وأرى بينكم من يستطيع أن يذكر معي هذا التاريخ وهذه الأيام، ويذكر في نفس الآمال العظام التي كنا نتوخاها ونعتبرها أحلاما بعيدة .

نعم أذكر في هذا الوقت، وفي هذا المكان كيف كان حسن البنا يلتقي مع الجميع ليعمل الجميع في سبيل المبادئ العالية، والأهداف السامية، لا في سبيل الأشخاص ولا الأفراد ولا الدنيا، ثم قال في نهاية كلمته، وأشهد الله أني أعمل- إن كنت أعمل- لتنفيذ هذه المبادئ وأفني فيها وأجاهد في سبيلها.

محمد نجيب رئيس الجمهورية في الذكرى الرابعة للإمام الشهيد

أيها المواطنون:

من الناس من يعيش لنفسه، لا يفكر إلا فيها و لا يعمل إلا لها، فإذا مات لم يأبه به أحد، ولم يحس بحرارة فقده مواطن، ومن الناس من يعيش لأمته واهبا لها حياته حاصرا فيها آماله، مضحيا في سبيلها بكل عزيز غال، وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون، وامتلأت بذكرهم القلوب، والإمام الشهيد حسن البنا أحد أولئك الذين لا يدرك البلى ذكراهم، ولا يرقى النسيان إلى منازلهم لأنه – رحمه الله- لم يعش لنفسه، بل عاش للناس ولم يعمل لصوالحه الخاصة ، بل عمل للصالح العام.

لقد كان حسن البنا صاحب عقيدة أخذت بزمام نفسه، وملكت عليه منافذ حسه، فعاش من أجلها أشق عيشة وأقساها، ومات في سبيلها أشرف ميتة واسماها وكان – رحمه الله- يؤمن بأن الدين هو الكفيل بإيجاد الأخلاق القومية في نفوس أبناء الوطن العزيز، فهي الوسيلة إلى حمل النفوس على الفداء والبذل من أجل الكرامة والحرية والعدل، وهي المعاني التي يأمر بها الدين ويريد إعلاء قدرها وتثبيت دعائمها بين الناس أجمعين.

ومن أجل ذلك راح- رحمه الله- يطوف بالقرى ويؤم المدن ويجالس الكبير والصغير ويناقش العالم والجاهل، ويربط مواطنيه بعضهم ببعض حتى تمكن من إنشاء جيل من الشباب المؤمن بوطنه ودينه إيمانا يدفعه إلى العمل، ويدعوه إلى البذل، ويحمله على استقبال الموت باسم الثغر ، رضي النفس ، مكتفيا بما عند الله من ثواب آجل عما في الدنيا من نفع عاجل.

ولست أنسى- ما حييت- هذا الشباب المؤمن القوي في معارك فلسكين، يقتحم على العدو أقوى الحصون، ويسلك إلى قتله أعصى السبل، ويتربص بقواته وجحافله كل طريق، ويحتمل في ذلك من المشاكل والصعاب ما لا يستطيع احتماله إلا من امتلأت نفسه بالخالق، ووجد قلبه حلاوة الإيمان.

ولقد كان حسن البنا- على قوة دينه وشدة إيمانه- يتحدث عن الإسلام في أفق واسع وفهم سمح كريم، حتى انتفع به العالم والجاهل، وكسب لدين الله أنصارا كانوا أبعد ما يكونون عن الدين.

وكان الجميع يحبونه أخلص ألحب، ويحترمونه أشد الاحترام، ولذلك لم تكن الفجيعة فيه فجيعة حياته ولا فجيعة طائفة، ولكنها كنت فجيعة أمة، بل أمم غزا قلوبها، وجمع على الأخوة أرواحها.

وكان –رحمه الله- حربا عوانا على الفساد والانحلال، على قدر ما كان حربا على الاحتلال.

وكان سلاحه الذي يحارب به ذا ثلاث شعب: الأولى: مكانة في نفوس الناس لا يبلغها غيره، والثاني: بيان رائع قوي يحرك ويوجه ويثير، والثالثة:قدرة على التجميع والتنظيم لم يصل إليها إلا الأقلون ممن تصدروا قيادة الأمم.

وقد أدرك أعداؤه وأعداء الوطن أن هذا السلاح في يده، لا يفل حديده، ولا يبلى جديده، ثم هو سلاح لا يقوم سلطانه، ولا يدنو من الهزيمة ميدانه، لذلك أجمع المجرمون أمرهم على قتله وحيدا لا حارس له وأعزل لا سلاح معه، وكانت القوة التي دبرت قتله ونفذته وأشرفت عليه هو القوة التي يلوذ بها الخائف فتمنحه الطمأنينة والأمن، ويحتمي بها المطارد لتسبغ عليه ظلال السكينة والسلام.

وقد ظن المجرمون الأنذال أن عين الله نائمة لا ترى، وأن يده مغلولة لا تبطش، وأن قدرته عاجزة لا تنال، وساء ما ظنوا فإن الله يمهل ولا يهمل وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" (هود: 102).

وكان اغتيال حسن البنا وعبد القادر طاهر، وغيرهما من أبناء مصر العزيزة هو الشعلة التي أوقدت النار في صدور المخلصين فأنقذوا البلاد من الظلم والطغيان، وطهروها من الفساد والانحلال، ثم آلوا على أنفسهم أن يضحوا في سبيلها بكل أثير عندهم حتى تحرر من الذل والاحتلال.

وما ضاع دم أسلم إلى المجد أمة، ولا مات ميت أعطى بلاده الحياة " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون" (البقرة: 154).

حسن البنا والسياسة البريطانية

الأستاذ عبد المنعم محمود فهمي

قضيت ردحا من الزمن بلندن طالبا بجامعة كمبردج، ثم موظفا بالقنصلية المصرية هناك ردحا من الزمن، وكنت إبان ذلك حريصا على أن أراقب سياسة إنجلترا نحو الحركة الإسلامية في مصر والشرق، والذي لا مرية فيه أن سياسة انجلترا تقوم على مبدأ فرق تسد، فسياستها لا تقف على التفريق بين العناصر في كل بلد شرقي، وإنما على التفريق أيضا بين الشعوب الشرقية ، وما كانت لتقر قيام الجامعة العربية إلا وهي موقنة بأن في استطاعتها تسخيرها لمصالحها.

ولما كانت حركة الإخوان المسلمين تسعى جاهدة إلى إيجاد اتحاد قوي وكتلة متراصة من الشعوب الإسلامية – فقد كانت بريطانيا ترقب حركتها ونشاطها وتجمعاتها بحذر وخوف، ولقد كنت أضحك ملء في وأنا أقرأ الصحف البريطانية تندد قبيل الحل بدعوة الإخوان ، وتتهمها بالرجعية والاستعصاء، وأن التفاهم معها عسير كل العسر، وكانت الصحف تعمد على هذا جاهدة لتنال من قدر هذه الدعوة، وتبذر بذور الدس والوقيعة بينها وبين الحكومات العربية الإقطاعية، وكأن حملتها لم تكن إلا توجيها للجالس على العرش وقتئذ وحكومته بحل جماعة الإخوان المسلمين ، أولئك الذي استجابوا للرغبة البريطانية وشقيقتها الأمريكية على السواء.

ولا أظن أن عقلية المستعمرين البريطانية هدأت هدوءها يوم نشرت الصحف البريطانية نبأ استشهاد الإمام حسن البنا، ولقد اعتقد هؤلاء الاستعماريون البريطانيون أن الرشق قد آن له أن يكون مطية ذلولا للاستعمار البريطاني، وأعتقد أن اعتقادهم أصبح من المؤكد خاطئا- وقل أن تخطئ عقيدة البريطانيين- هم يراقبون اليوم- من قرب ومن بعد- تطور دعوة الإخوان ونموها انتشارها هذا الانتشار الموفق السريع.