النقراشي باشا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
النقراشي

بقلم: هدى أباظة


تقديم

على الرغم من أن رسالة علمية للدكتور سيد عبد الرازق يوسف عبد الله قد عالجت دور رئيس الوزراء المصري السابق محمود فهمي النقراشي في السياسة المصرية وحل جماعة الإخوان المسلمين , ثم صدرت في كتاب عن دار نشر مدبولى عام 1995 , وعلى الرغم من أن رسالة علمية أخرى تحت عنوان الهيئة السعدية , والتي وضعها عبد العليم خلاف , وتم نشرها عام 1999 , قد تعرضت للجانب السياسي من حياة رئيس الوزراء المصري الأسبق محمود النقراشي باشا , فقد آثرنا في سلسلة " التاريخ – الوجه الآخر " أن نصدر عددا عن الرجل لا نتوخى فيه مجرد تسجيل سيرة هذه الشخصية , وإنما نبحث عن الجانب غير المتداول في حياته.

شجعنا على ذلك أن وجدنا حفيدة للرجل , وتعمل في ا لحقل الأكاديمي , وإن لم يكن في فرع التاريخ , وهى الدكتورة هدى شامل أباظة , أستاذ الأدب الفرنسي بكلية الآداب – جامعة عين شمس , والتي أبدت استعدادها لتقديم تاريخ جدها من منظور مختلف , كما شجعنا أكثر ما علمناه من أن الأسرة تملك في نفس الوقت بعض ما خلفه من أوراق , مما يساعد على إجلاء هذا المنظور .

ومن حسن الحظ أن المؤلفة قد بذلت غاية جهدها لإتمام هذا العمل , مثلها في ذلك مثل أي محترف في الكتابة , مستعينة في ذلك بإرشادات ونصائح زملائها في قسم التاريخ بالكلية التي تعمل بها , متبنية – طول الوقت – طبيعة العلاقة التي تربطها بالشخصية محل الدراسة , مما دفعها إلى الحرص - - بقدر ما وسعها الجهد – على ألا تنحرف في الدفاع عنه إلى الحد الذي يفقد مؤلفها قيمته العلمية .

وبالطبع لأنها ليست من الملائكة , فإنها انحازت بالضرورة بين الحين والآخر لجدها الراحل , ولكن إلى الحد الذي لم يفقد معه هذا العمل قيمته العلمية .

وقد تسامحنا في سلسلة "التاريخ- الوجه الآخر " مع هذه الدرجة من الانحياز المحدود , خاصة أن الحياد المطلق أمر يكاد يكون مستحيلا في العلوم الإنسانية عموما , وفى الدراسات التاريخية على وجه الخصوص .

ثم أنه كان لهذا التسامح أسبابه الموضوعية , إذ لم يتعرض في التاريخ المصري أحد الزعماء للنقد , بقدر ما تعرض له النقراشي باشا , فأغلب من كتب عنه كان يحمل للرجل رأيا مسبقا , ولم يكن وديا على أي الأحوال

- فالكتاب الذين أرخوا للحركة الوطنية , وجسدوها في حزب الوفد , لم ينسوا للرجل أبدا أنه قد أحدث أكبر الانشقاقات في هذه الحركة , بعد خروجه مع الدكتور أحمد ماهر من الحزب الكبير , وتشكيلهما للهيئة السعدية عام 1938 , التي أصبحت أقوى منافسي الوفد .

- والكتاب الذين أرخوا للإخوان المسلمين نسوا أن أحد هؤلاء هو الذي قام باغتيال الرجل , ولكنهم لم ينسوا أبدا أنه أول من قدم على حل الهيئة وحولها إلى " جماعة محظورة " وهى اللعبة التي ما زالت تلعبها الحكومات مع الجماعة حتى يومنا هذا .

- فضلا عن ذلك فإن أغلب من أرخوا للقضية الفلسطينية , قد أخذوا على النقراشي باشا انصياعه للملك فاروق , وقبوله خوض حرب 1948 , دون استعداد كاف بكل ما ترتب على ذلك من بدء سلسلة الكوارث التي أحدقت بمصر من الشرق بعد هذه الحرب .

أدى كل ذلك إلى أن تترسخ صورة غير حقيقة في الوجدان الوطني العام للمصريين لهذه الشخصية , الأمر الذي يتطلب البحث في " الوجه الآخر " منها , وهو ما أخذته هذه السلسلة على عاتقها , ولقد وجدنا أنه ليس أفضل من حفيدة الرجل لتقدم لنا هذا الجهد , خاصة أنها قد التزمت ما وسعها الجهد بالمنهج الأكاديمي كما سبق التنويه .

ومن ثم فنحن نقدم في هذا العمل الجانب الآخر لزعيم مصري , هو محمود فهمي النقراشي , والذي طمسته المنافسة السياسية , آملين أن نكون قد سلكنا الطريق الصائب , وعلى الله قصد السبيل .

رئيس التحرير
دكتور يونان لبيب رزق

مقدمة

ترجع قصتي مع موضوع هذا الكتاب إلى زمن بعيد , منذ تفتح وعيي على الدنيا , فلازمني طيف النقراشي .. فذكراه كانت موضع إحياء دائم في بيتنا بين أم افتقدت في النقراشي أباها الحنون منذ نعومة أظافرها , فهي دائما ما تستعيد ذكريات أيامها الخوالي , وبين أب معجب بتاريخ متتبع له , وبين جدة طالما حدثتني عن الزوج الذي اقترنت به في عمر متأخر من حياتها وحياته , فكان عونا لها على صروف الدهر , وهى التي طالما عانت من صروف هذا الدهر ومآسيه .. كانت تحدثني عن النقراشي بأسلوبها المتميز الذي كان ائتلافا فريدا من الواقعية والشاعرية والاعتزاز .. وأخيرا وليس آخر فقد عرفت النقراشي من خلال صديقه المقرب , إبراهيم باشا عبد الهادي , الذي اتصلت حبال المودة والتقدير المتبادل بين أسرته الكريمة وأسرتنا .

وقد استثارني عندما كنت تلميذة بالإعدادية , ما ورد بكتاب التاريخ المقرر من ذكر النقراشي , مقرونا بحادثة كوبري عباس , وكأن تاريخ الرجل اختزل في هذه الحادثة , التي شابها الكثير من الخلط المتعمد وغير المتعمد , حتى أصبحت أقرب للأسطورة منها إلى الواقعة التاريخية , ولقد انتابني مزيج من الشعور بالظلم والعجز , لإحساسي بأنني لا أملك القدرة على دفع ما رأيته تجنيا على سيرة الرجل , وعلى التاريخ بصفة عامة .

ومرت السنون , ثم فوجئت بمقرر تاريخ الإعدادية الذي كنت أستذكره مع ابنتي وقد احتوى على نفس المعلومات المبتسرة المغرضة , وكأن الزمن ظل جامدا كما هو لا يتقدم كما هالني هذا الجمود , هالني هذا العزوف البين عن البحث وعن التطوير , ولكنى هذه المرة رفعت خطاب احتجاج إلى وزير التربية و التعليم , وكان آنذاك الدكتور حسين بهاء الدين , إلا أن الحجج التي قدمتها لم تكن مدعمة بالأسانيد التاريخية , وعندما أتيح لي بعد ذلك ببضع سنوات الإطلاع على منهج التاريخ , تبينت أن هذه الواقعة قد رفعت منه , ولا أدرى إذا كان ذلك من قبيل المصادفة , آم استجابة كريمة لمناشدتي سيادة الوزير .

وقد تكرر في الآونة الأخيرة ذكر حادثة كوبري عباس في ا لصحف و في المحافل المختلفة , وقد اتفقت الروايات – وإن اختلفت – على أن حادثة كوبري عباس كانت مذبحة مروعة راح ضحيتها عدد كبير من الطلبة , حيث أن – وفق هذه الروايات – السلطة قد فتحت الكوبري , وقد احتشد عليه الطلبة الذين كانوا قد خرجوا من جامعة فؤاد الأول ينادون بالجلاء وينددون بالاستعمار .. وقد حرت في أمر هذه الواقعة , فقد كنت على ثقة من صدق رواية والدي , ولكن أنى لي أن أفرض هذه الثقة على غيري , أو أن أقنع الغير بصحيح الوقائع التاريخية فى الموضوع , حتى نصحني أبى بأن ألجأ إلى صاحب صفحة " الأهرام ديوان الحياة العصرية " الذي أتاح لي الاطلاع على عدد من الأهرام الصادر في 10 فبراير 1946 , أي في اليوم التالي للحادث , وهو العدد الذي قرأت فيه وصفا للحادث مغايرا تماما لما ورد بكتب التاريخ المدرسية , ولما تناقله الرأي العام بعد ذلك , ولقد كانت هذه المفارقة دليلا على السرعة والسهولة التي يتحول يهما التاريخ إلى أسطورة , عندما لا يعنى من يتناوله بتأصيل ما يقول , أو باستيفاء المعلومة من مصدرها أو مصادرها الموثقة , أو عندما تعبث به الأهواء وتخضعه للتوجهات السياسية المهيمنة , والتي كانت تعنى بتضخيم الموضوع عن قصد سيء يقترب من الافتراء والتزييف , فالجماعة التي اغتالت النقراشي عام 1948 تأبى إلا أن تعيد اغتياله مرة أخرى في سيرته وتاريخه .

وقد عرض على الدكتور يونان لبيب رزق مشكورا , أن أقوم بكتابة سيرة النقراشي على أن يتم نشرها في إطار مجموعة دار الشروق الجديدة " الشخصيات الخلافية في التاريخ " واعترف أن هذا العرض قد استهواني منذ اللحظة الأولى , ولكنني على الرغم من ذلك ترددت لسببين :

أولهما : أنني غير متخصصة مع يقيني أن للتاريخ قواعده وأصوله .

وثانيهما : أن النقراشي هو جدي الذي جبلت على توقيره , فأنى لي أن أكون موضوعية وأنا أتناول سيرته , بالأمانة والحرفية والصدق الواجب ؟

وفكرت مليا في الأمر , أليس هناك من بديل عن الحياد معيارا لجدية الباحث ؟

يقول فرويد في دراسته الهامة عن ليونارد دافنشى : إن الكاتب الذي يؤرخ لسيرة حياة إنما يكون مدفوعا عادة باعتبارات شخصية وعاطفية , فهو ينتقى شخصية بعينها لأنها محببة إلى قلبه , فيحاول من خلال تناوله لتلك الشخصية أن يبعث من جديد الصورة المثالية للأب , التي نسجتها واختزنتها مخيلته , وهو بذلك يوحى بأن " الحياد" في مجال العلوم الإنسانية لا يعدو أن يكون وهما , كما يؤكد عبد الرحمن الرافعي في نقاشه الثرى مع العقاد الذي نقله إلينا أنيس منصور في كتابه الممتع " في صالون العقاد " استحالة أن يكون المؤرخ على درجة كاملة من الموضوعية , فوفقا لما نقل إلينا من حديثه :

" .. أنا لا أستطيع إلا أن أكون وطنيا أخلاقيا .. وأنا حين أسجل تاريخ مصر , فأنا أكتب قصة حياة : أمي وأخوالي وأجدادي , ومستقبل أولادي .. ولابد أن أكون بارا بأمي , محبا لإخوتي , رحيما بأولادي .. ولا أستطيع أن أكون محايدا إذا رأيت دم أمي يسيل .. أو إذا رأيت من يتآمر عليها .. وقد تكون هذه هي النزاهة العلمية .. ولكن لا أستطيع أن أكون منزها عن الغضب والحب والخوف .. قد لا أفزع إذا رأيت أحدا يذبح خروفا .. ولكن كيف لا أفزع إذا رأيت أحدا يذبح طفلا أو شعبا .. إن هذه النزاهة العلمية هي بلادة حسية , وبلاهة قومية.. فما دمت أنت محبا مغرض , وما دمت وطنيا فأنت مغرض , ولكن غرضك هنا شريف "

وإنني هنا حينما أسجل قصة حياة النقراشي , جدي الذي لم أعرفه , والذي أحببته من خلال أمي , ومن خلال أبى ومن خلال جدتي وغيرهم .. والذي كان لي دوما مثلا أعلى أحاول جاهدة أن أحذو حذوه , فأنا بطبيعة الأمر غير محايدة , بل و "مغرضة" على النحو الذي يقرره مؤرخنا الكبير , ولكنني لا أملك غير قولة الحق , أي الحقيقة التي عايشتها في إطار الأسرة , والتي نقبت عنها بعد ذلك من مصادرها الثرية والمختلفة , فالنقراشي لا يستحق منى أدنى من الشهادة الأمينة , مع إدراكي الكامل أنني إذا ما حاولت أن أضفى على النقراشي ما ليس فيه من الصفات فقد هونت من شأنه , وهو الأمر البعيد كل البعد عن خاطري , كما أن مثل هذا العمل هو خيانة لأنفسنا وللتاريخ , وكما يقولون فإن " المدح ذام ما لم يكن في أهله "

ولعلى قد استعضت عن نقص خبرتنا بالتاريخ , بالذخيرة الثرية التي تلقى مزيدا من الضوء على الكثير من الموضوعات الخلافية , فلقد واتانا الحظ عند الرجوع إلى متعلقات النقراشي , أن نجد لدينا ذخيرة هائلة من المستندات والمذكرات , التي تلقى الضوء على العديد من الموضوعات التي لم يسبق الإلمام بدقائقها , مثل تفاصيل كوبري عباس , ومثل خطابات الملك عبد العزيز آل سعود الخاصة التي تحمل في طياتها إرهاصات حرب البترول , ومثل خطاب حسن البنا إلى الملك , ومذكرة عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية الخاصة بزيارة حسن البنا لمقر فوزي الخاصة بالتحضير لمجلس الأمن , وغيرها من الوثائق التي كان في الإطلاع عليها خير عون على إكمال هذه الدراسة .

كما كان لنا من خبرة الدكتور يونان لبيب رزق , وكذلك الدكتور أحمد زكريا الشلق والدكتور عادل غنيم , خير عون على المسار الذي سلكناه في كثير من مواضيع هذا الكتاب , كما أنهم قد تفضلوا بتزويدي بمراجع غاية في الأهمية .

ولقد هداني تفكيري إلى قبول العرض الكريم , وقد أكون غير متخصصة تخصصا بمعناه الضيق , إلا أن تكويني الأكاديمي قد أكسبني استعدادا طيبا للكتابة العلمية أي الكتابة التي تعتمد على المراجع والأسانيد , ثم على التحليل أيضا كما كان لي خير عون في الزملاء الذي كان في دورهم في جمع وترتيب المعلومات أبلغ الأثر .

أما أبى – الدكتور شامل أباظة – فالكلمات لا تسعفني لأوفيه حقه من الشكر والتقدير , فأكتفى بتنويه بسيط إلى مساهمته الفعالة في هذا العمل : من مراجعة , وحذف وإضافة , كما كانت ثقافته الواسعة وتجاربه الشخصية مراجع حيوية بالنسبة لي .

يبقى أن أقرر أن إعداد هذا العمل المتواضع , قد استلزم قراءات عديدة , وقد زادني هذا الإطلاع المكثف على المراجع والوثائق التاريخية فخرا واعتزازا بتاريخنا , وكذلك فقد مكن لي من التعرف على مجالات التشويه المتعمد , الذي خضع له ذلك التاريخ , فكم من صفحات مشرفة للنضال الوطني طواها الزمن وعبث بها النسيان , فحرم الأجيال من المصريين من التواصل مع تاريخهم الوطني , يستمدون منه إحساسهم بالانتماء و وبالاعتزاز في مواجهة الهجمة الشرسة للتضليل والضلال سواء بالتزييف المتعمد أو الجهل المتسرب .

القسم الأول: النقراشي طريد السلطة

الفصل الأول سنوات التكوين

من هو النقراشي ؟ ذلك الرجل الذي لازمني طيفه حياتي كلها , منذ تفتح وعيي على الدنيا , حدثني أبى عنه كثيرا , وهو من أشد المعجبين به , وأمي التي هي ابنته الوحيدة , وكذلك جدتي - رحمها الله – لذلك كنت أظن أنني أعرفه معرفة وثيقة , حتى أتاحت لى الكتابة عنه فرصة أن أقتفى أثره مثل القاص في تيه الزمن .

ولعل هذا الكتاب ليس عرضا لحياة النقراشي , بقدر ما هو استجلاء للنقاط الخلافية في تاريخه , أنى المواقف التحى كانت مثارا للجدل , لذلك فضلنا أن يقسم إلى موضوعات رأينا أن نتعرض لها في سياقها , وفى تسلسلها الزمني . وسوف نحاول أن نربطها قدر الإمكان ببعدها الانسانى , وفق ما تتيحه لنا معرفتنا النسبية بحياة النقراشي الخاصة .

وعلى الرغم من إعجابنا بالنقراشي , واعتزازنا بتاريخه آ إلا أننا سوف نحاول أن نتبع حياله قد الإمكان منهجا حياديا , فهو لا يستحق منا أدنى من قول الحق .

يصعب على الباحث شق طريقه , وسط زخم المعلومات بين الواقع والمبالغة , خاصة عندما تتعقد الأمور نتيجة لتدخل الأغراض والأهواء والأيديولوجيات المتضاربة , كل ينسج الصورة التي هي على هواه .

ومن أجل أن نخضع حياة هذا الرجل لدراسة منهجية , نتلمس بها طريقنا في شعب هذه الحياة الثرية , رأينا أن نلقط خيطا يعيننا , وهذا هو الانشقاق عن الوفد, الذي يمكن أن ننظر إليه باعتباره حدا فاصلا في تاريخ النقراشي , انتهج فيه نهجا مختلفا أطلق عليه الدكتور يونان لبيب رزق " سياسة العصا الغليظة " . ويعبر عن نفس هذا الذي لعب دورا كبيرا , اختلفت طبيعته وهو خارج السلطة عنه عندما اعترض لديه بشدة السفير البريطاني لنشر " قصة كفاح " لعبد الفتاح عنايت 1947 , وهو نفسه من كان له تاريخ طويل في الكفاح السري من قبل .

والواقع أن تاريخ النقراشي يعكس جزءا هاما من التطور الذي طرأ على تاريخ الوفد نفسه ؛ فلقد كان لاندلاع الثورة في مارس 1919 أثره على سعد زغلول ؛ إذ كان من شانها المراهنة على المقاومة الشعبية , وقدرتها على التاثير على مجريات الأمور , ففي رأي الدكتور عبد العظيم رمضان : " أن الخلاف بين سعد وبين المعتدلين لم يكن في جوهره إلا أن الانسلاخ الذي حدث فئ صفوف الوفد عام 1921 , والذي نتج 1925 مع تاسيس حزب الاتحاد , إلى جانب الانتخابات البرلمانية 1924 , التي فاز فيها الوفد فوزا ساحقا .. كل هذه الأحداث جعلت الوفد يجنح غالى الاعتدال , فلقد ادر انه قد دخل مرحلة جديدة , وتحول من تجمع شعبي ثورا يرى النضال الثوري خير وسيلة لتحقيق الاستقلال , غالى حزب برلمانا يتحرك في إطار الشرعية بما يلاءم عهد الديمقراطية ,ويرى أن أسلوب التفاوض أفضل وسيلة لاكتمال مسيرة الاستقلال ..

يبدو إذن من هذا المشهد انه في تاريخ كبل نضال , هناك فترة فوران وصدام حتمية , إلا أنه لابد أن يعقبها فترة نضج وتفاوض ؛ من اجل الوصول لأفضل النتائج الممكنة ؛ وإذ كانت المرحلة الاولى ضرورية للبرهة على الجدية وعلى مقدار التمسك بالقضية التي يراد الانتصار لها , إلا إنها بطبيعتها لا يمكن أن تستمر لفترة طويلة , ولابد لها إن تفسح الطريق لمرحلة أكثر وعيا ’, حيث توزن فيها الامور بحسابات عقلانية .

إلا انه يسبق هاتين المرحلتين مرحلة هامة , هي بمثابة مرحلة الأعداد التي تبلورت فيها الطبيعة التي ظلت تلازم كتابنا لحياته فإننا نجد أنفسنا إمام مراحل ثلاث متميزة من حياته ,فهو المدرس الوطني الجاد في بداية حياته , الذي اخلص لمهنته في التدريس أشد الإخلاص , ثم هو السياسي الشاب المتطرف , الذي يحارب الاحتلال بجيوشه وعتاده ودهائه , بما أوتى من وسائله البالغة الدقة والتنظيم , ثم هو بعد ذلك السياسي ذو المبادئ الجامدة التي لايحيد عنها , بل ولا يجد بين متاهات السياسية وغيومها من ناحية ووضوح المبادئ من جهة أخرى , ما يغريه بالتضحية بنقائه وعزوفه عن الصغائر ,ومحاولة استمالة المشاعر الشعبية بالوسائل الرخيصة والمبتذلة .

ولذلك فإننا سوف نتبنى فريضة انقسام تاريخ النقراشي إلى شقين واضحي الملامح , يفصل بينهما حدث بالغ الأهمية , بما كان له من تداعيات على حياته من ناحية , وعلى توازن القوى الوطنية على الساحة السياسية من أخرى , وهو الانشقاق عن الوفد , بناء عليها سوف ينقسم هذا العمل ثلاثة اجزاء رئيسية :

أولا : كفاح النقراشي في صدر شبابه .

ثانيا : الانشقاق عن الوفد بكل ما أثاره من أمور خلافية تدور حول : أـ مسالة الزعامة المقدسة , ب - النزاع حول مشروع سد أسوان , ج ـ موقفه من القمصان الزرقاء , وموقفه مما عرضه النحاس عليه من عضوية مجلس إدارة شركة قناة السويس

ثالثا : النقراشي في السلطة : أ ـ موقفه من الحرب العالمية الثانية , ب ـ موقفه من قضية الجلاء من مصر والسودان , ج ـ دوره في حرب فلسطين ؛ د ـ حل جماعة الإخوان المسلمين .

إلا أننا نعتقد انه ليس هناك اختلاف جوهرا بين المرحلتين ؛ والدليل على ذلك موقفه من مسالة ملحق الطلبة قبل الانشقاق عن الوفد , الذي سوف نتناوله في سياقه , وهو الموقف الذي يدل على أن التشدد سمة من سمات شخصية النقراشي التي غلبت عليها طبيعة المعلم .

وسوف نستهل الكتاب بمدخل نحاول فيه استجلاء العناصر البارزة في شخصية النقراشي والعوامل التي لعبت دورا حاسما في تاريخه الوطني .

العناصر البارزة في شخصية النقراشي

كانت تطالعني منه بين غيوم السنين , قسمات تتقاسمها الشدة واللين , ولكن قراءاتي , كذلك الحوارات أجريتها وسجلتها , أتاحت لي أن أرى الزوايا المختلفة , التي أسفرت عن وجهات نظر متباينة لهذه الشخصية , التي كتب لها شرف المساهمة في صياغة جزء من تاريخ مصر , وما هالني هو التناقض الشديد بين الوجه الذي نقلته لي شهادات المحيطين به , أو الذين خالطوه عن قرب وبين الوجه الآخر الذي يطالعنا من بين طيات سجله السياسي , أو الذي رصدته بعض كتابات المؤرخين .. ولعل إيثار الصمت الذي اشتهر به , لعب أيضا دوره في الغموض الذي أحاط بهذه الشخصية , فلقد صوره كاريكاتير العصر في شكل أبى الهول وقفل على فمه : قليل الكلام يكره اللغو والسفسطة .. ويبدو أنه عرف بأنه " رجل العمل الصامت " كما ورد في أحد القرارات التي أسفر عنها اجتماع عاصف بالنادي السعدي , في إطار النشاط المحموم الذي واكب الصراع الداخلي للوفد في هذه الفترة ( الأهرام 19-8-1937) ولاشك أن الصمت يشيع الغموض , ويطلق العنان للأقاويل .

فالغريب من أمر هذا الرجل أنه رغم ولائه لأسرته , وشريكة حياته فإنه لم يطلعها قط على ماضيه , أو حياته بالسجون , أو الدور الفعال الذي لعبه في ثورة 1919 وكانت هي لا تستطيع أن تتصور أي صلة لهذا الزوج الذي يبدو وديعا بالكفاح المسلح , وإن كانت قد حدثتني عن زوابع من الغضب تنم عن طبع حاد , متفجر , إلا أنها سرعان ما كانت تزول , وبعد وميض البرق , يتغلب الهدوء على مسلكه العام , ولكنها كانت تنكر بشدة وعن اقتناع تام , أي مسئولية له بحوادث الاغتيال , فهو بالنسبة إليها الرجل الثاني في الحزب السعدي , بعد أن كان عضوا بارزا في الوفد , وهو رجل الدولة الذي يعشق الانضباط والنظام .

ويبدو أنني لم أكن – حتى وقت قريب – أكثر حظا من جدتي معرفة بتاريخ النقراشي , رغم حرصي على تعقبه , إذ أنه " أحيانا تحجب الأشجار الغابة " كما تقول الحكمة الفرنسية القديمة , أي أن التفاصيل تحجب النظرة الشاملة , فلقد كان تاريخ النقراشي ينحصر بالنسبة لي في المناصب التي تولاها , وفى القرارات المصيرية التي اتخذها في هذه الفترة .

إلا أنه سرعان ما تبينت قصور هذه النظرة و ولمست حجم الدور الذي لعبه في الحياة السياسية المصرية , قبل أن يعتلى المناصب الرفيعة في الدولة , من خلال متابعة الصحف في الفترة التي واكبت خروجه من الوفد , وإلينا مقتطفات مما ورد في الأهرام في عددها الصادر يوم 21-8-1937 وهو نفس اليوم الذي نشر فيه خبر عن اجتماع وفدى كبير بميدان المحطة بالإسكندرية , خاض فيه رئيس الوفد في النزاع بين أعضاء الوفد , نقرأ خبرا مفاده اجتماع كبير بالجامع الأزهر عقب أداء صلاة الجمعة .

وحدث بعد الصلاة أن اعتلى المنبر أحد طلبة مدرسة الفنون والصناعات , وألقى كلمة في الوقت الحاضر و تخللتها تحية حماسية لمساعدة النقراشي باشا بعد أن حيا الخطيب رئيس الوفد " .

وتسوق الجريدة في 23-8-1937 خبر مغادرة النقراشي الإسكندرية حيث كان في توديعه حشد من الشبان وأعضاء اللجان والأصدقاء , وعند توقف القطار بمحطة طنطا قوبل مقابلة حماسية , اشترك فيها حضرات الشيوخ والنواب المحترمين وأعضاء اللجان الوفدية .. ويتكرر المشهد في 28-8 , حيث نرى في الصفحة التاسعة صورة لزحام شديد للجماهير التي احتشدت لتحية " سعادة النقراشي باشا " قبيل سفره إلى الإسكندرية .. وتتابع الجريدة سردها للخبر الذي قد يبدو في حد ذاته غير ذي أهمية بعد أن شق طريقه وسط الجمع وجلس في الصالون المعد له في القطار أقبل عليه عدد من أعضاء الهيئة الوفدية البرلمانية , وكذلك عدد من العلماء ومن المحامين فحيوه , قم ألقيت قصيدة تحية " بين مظاهر الحماسة البالغة " ولهذه المقتطفات دلالة بالغة الأهمية , حيث إن الوفد كان حزب الأغلبية , وكان الخروج عليه يقابل دائما بالاستهجان من الرأي العام , وكانت هذه الفترة تشهد الخلاف الذي فجره محمود غالب – وزير الحقانية – مع قيادات الوفد حول مشروع سد أسوان عندما نشر أول بياناته الشهيرة ( 11-8-1937) وهو ما سوف نتناوله فيما بعد , وقد وردت في أحد هذه البيانات إشارة إلى موقف ماهر والنقراشي المؤيد لوزير الحقانية , مما حفز جريدة " كوكب الشرق " الوفدية إلى المناداة بضرورة فصلهما , ولقد أعرب الدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته السياسية عن توقعاته , بما قد يجره خروج ماهر والنقراشي على النحاس من اتهام لهما بالخيانة , على غرار ما حدث للذين خالفوا النحاس عام 1931 ,وكذلك يقول باحث في دراسته التي عولنا عليها كثيرا :

" وقد توقعت الصحيفة الوفدية أن تجد دعوتها هذه ترحيبا وتأييدا من قبل الجماهير الوفدية , غير أن الجماهير خيبت ظن الصحيفة , إذ كان رد فعل هذه الدعوة مخالفا لكل ردود فعل الدعوات المماثلة في تاريخ الوفد , فلم تخرج الجماهير كعادتها ضد الوفديين المخالفين لرأى رئيس الوفد , كما فعلت ذلك في المرات السابقة , وذلك بسبب ثقل الوزن السياسي لكل من النقراشي وأحمد ماهر .. "

فلقد كان لكل منهما رصيد من الكفاح الوطني قبل وبعد الانخراط في صفوف الوفد , ولذلك فقد توافد تباعا إلى النادي السعدي , حشود من طلبة الجامعات المصرية والأزهرية , تهتف بحياة النقراشي وتنادى ببقاء كتلة الوفد سليمة .

وهذا مشهد آخر مسرحه السرادق الذي نصب للاحتفال بذكرى وفاة سعد زغلول , ثم دار النقراشي .. ينقل الدكتور الجيار إلى داره عقب حادث الاعتداء عليه في السرادق , ويمكث بمنزله يومين :

" وعند خروجه كان في حديقة دار سعادة النقراشي باشا جمع من حضرات الشيوخ والنواب والطلبة والعمال , فهتفوا بحياة النقراشي باشا ورددوا الهتاف " الأمة تشكرك " الأهرام في 26-8-1937 ).

" ثم تتقاطر وفود الطلبة وعمال النقل الميكانيكي إلى منزل النقراشي , وبعد فصله من الوفد , ويتحدث الخطباء معربين عن ثقتهم بالنقراشي باشا والدكتور ماهر " ( الأهرام في 17-9-1937)

وفى الواقع أنه من خلال الوثائق البريطانية , نستطيع أن نكون فكرة شاملة عن حقيقة النقراشي في نظر الانجليز , فهو " المدرس " أو " ناظر المدرسة " ضيق الأفق ( ولا أدرى لماذا تقرن الصفتان ) وهو كذلك الرجل العنيد , بل إن جدتي كانت دائما ما تلقى تبعة اغتياله على الانجليز أنفسهم , مهما اختلفت اليد التي أطلقت الرصاص , وأذكر أنها حدثتني عن نظرة التشفي التي لمستها في عين مسئول كبير بالسفارة البريطانية , عندما جاء يقدم تعازيه إليها , وإني لواثقة أن رأيها هذا لم يكن مجرد شعور أجوف لا تعززه القرائن , فهي سيدة واسعة الثقافة , بالغة الواقعية , لها تجاربها بحقائق الحياة .

ويبدو أن الحال ظل على ما هو عليه حتى وفاته , وإن تغير أسلوب النقراشي ومن يتتبع الوثائق البريطانية عام 1948 , وهو العام الذي قتل فيه النقراشي , يلمس شعورا متزايدا من التذمر نحو النقراشي , الذي يصفه الإنجليز بأنه شخص متعنت وغير متعاون , بل ونجد أن الإنجليز في حيرة من أمرهم معه , فهم يفكرون تارة في التخلص منه عن طريق الضغط على الملك , ثم يتراجعون تارة أخرى خوفا من استبداله بشخص آخر أقل كفاءة , فهو في نظرهم يتمتع بشخصية قوية ويمتاز بالتعقل , كم أن التخلص منه يحوله إلى بطل قومي أمام الرأي العام .

ولقد صدقت الوثائق في بعض ما قالت , حيث لازمت النقراشي طوال مشواره طبيعة المعلم , التي صكته بصكها الدامغ , ونلمس من خلال هذه القصة الطريفة , المدى الذي غلبت عليه هذه الطبيعة , ولقد قصها على الدكتور عبد الخالق علام – نائب رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة سابقا – الذي عقب بقوله " أتذكر هذه الواقعة التي دارت أحداثها عام 1945 وكأنه لم يمض عليها سوى أسبوع واحد , كنت آنذاك مدرسا للتربية الرياضية بمدرسة القبة النموذجية وفى ذات يوم وأنا جالس بمكتبي المطل على حوش المدرسة شاهدت هانئ النقراشي وقد كان تلميذا محببا إلى قلبي , لما لمست فيه من دماثة الخلق , وهو يضرب تلميذا من أقرانه , وكانت المدرسة النموذجية تتميز بمستوى التلاميذ الراقي , إلا أن التلميذ المعتدى عليه كان يبدو أنه من وسط متواضع بعض الشيء , انفعلت لهذا المشهد انفعالا شديدا ولا أدرى اليوم لماذا تملكني هذا القدر من الغضب , أسرعت إلى موقع المشادة , وضربت هانئا ضربا عنيفا , أجهش الصبي بالبكاء وتوجه على الفور إلى ناظر المدرسة وأنا أتبعه منفعلا , خرج من مكتبه الأستاذ طنطاوي وكيل المدرسة , وصاح قائلا " أتدرك ما فعلت يا مجنون ؟ أجبته : " هذا الولد يجب أن يفصل من المدرسة على الفور " قال :" بل يبقى " إما أنا أو هو , إذن هو . وعندما عدت إلى المنزل شعرت بتأنيب الضمير لانفعالي , وقررت تقديم استقالتي وذهبت اليوم التالي إلى المدرسة وقد حسمت أمري , وبينما أنا ألملم أوراقي أقبل الساعي يبلغني أن الناظر يطلب منى الحضور إلى مكتبه , وعندما دلفت إلى المكتب رأيته خلف مكتبه إلى يسار الباب وقد جلس أمامه على الأريكة والد التلميذ الذي كنت قد قمت بتأديبه بعنف البارحة , وقف النقراشي ومد يده مصافحا " لابد أنك الأستاذ علام , لقد روى لي ابني هانئ ما حدث بالتفصيل وبصدق و لذلك جئت لأشكرك " .

قد يرى البعض شيئا من التطرف في الانحياز إلى المعلم , الذي لجأ إلى العنف في تأديب التلميذ , إلا أن الوزير الذي غلبت عليه طبيعة المربى والمعلم لابد وأنه قدر أن انفعال المدرس , نابع بلا شك من تقييمه لمشهد ابن الباشا الذي يعتدي على من هو أقل حظا منه في المكانة الاجتماعية , كما لابد وأنه قدر شجاعة المدرس الشاب الذي لم تمنعه وظيفة الأب وسلطته من التدخل لحسم الموقف .

نعم , فلقد كان متطرفا في وطنيته وفى مصريته , مما لا لابد أن يكون قد أثار حفيظة الانجليز .

على الصعيد الشخصي روت لي جدتي أنها كانت قد اعتادت قراءة الصحف المصرية باللغة الفرنسية قبل زواجها , وكان قراره الحاسم " أنه من الآن فصاعدا تكون الصحف باللغة لعربية " واستجابت هي للمطلب , وظلت على العهد حتى آخر يوم في حياتها .

ورحم الله عهدا كان فيه الاعتزاز باللغة الأم إنما هو انعكاس مباشر للانتماء للوطن .

وإذا كانت الوثائق البريطانية قد رسمت في مجملها صورة تكاد تكون متجانسة للنقراشي , فقد اختلفت وجهات نظر المؤرخين والمراقبين في النقراشي وتباينت , فنجد الدكتور عبد العظيم رمضان يتبنى وجهة نظر النحاس في النقراشي , فيحاول أن يدعم بالبراهين ما ذهب إليه من اتهام النقراشي بالتواطؤ مع العرش , مما يترتب عليه أن الانشقاق عن الوفد قد تم عن تدبير بليل , وليس نتيجة مواقف شريفة قوامها مبادئ واضحة .. أما المستشار طارق البشري فيصمه بالضعف , ويتتبع موقف عند عرض قضية الجلاء عن مصر في مجلس الأمن , ليخلص إلى أن جل همه وشغله الشاغل هو محاولة استرضاء الرأي العام في مصر , دون النظر إلى أي اعتبار آخر .. على النقيض من ذلك يقف أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة , والمحامى الذي ترافع عن عدد من المتهمين في قضية اغتيال النقراشي فهو يتهمه بالبطش والتعسف , فهو على حد قوله في مرافعته عن عدد من المتهمين في قضية اغتيال النقراشي , قد حكم البلاد بالحديد والنار , وهو عند إصداره قرارا بحل جمعية الإخوان كان مفتقرا إلى الحكمة , فكان كمن يحاول إيقاف قطار مندفع والتباين في وجهات النظر التي سقناها على سبيل الاستدلال, يصل إلى حد الاختلاف الجذري , تتراوح شخصية النقراشي من خلالها بين النقيضين : فهي تارة شخصية ضعيفة مترددة , وتارة شخصية مراوغة , كما يصوره البعض كذلك في صورة الشخصية المتعسفة المندفعة .

أين يقف النقراشي من هذه الآراء المتضاربة ؟

مرة أخرى من هو النقراشي ؟ وما الذي دفع بهذا الرجل إلى قلب الأحداث , بل إلى المواقع التي تحتم اتخاذ القرارات المصيرية و في فترة دقيقة من تاريخ مصر ؟ ما الذي قذف به إلى الدفة عند وقت إبحار السفينة في بحر لجي ؟

من هو النقراشي الذي بدأ حياته مدرسا وأنهاها رئيسا للوزراء وليس في جيبه يوم فاضت روحه إلى بارئها سوى ثلاثة جنيهات ؟


النقراشي في صدر حياته

ولد النقراشي عام 1888 بالإسكندرية , ونشأ بها في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى من المجتمع , أي أنه ليس في ظروف نشأته بعيدا عن العاصمة في حد ذاتها ما ينبئ بتطور شخصيته إلى ما وصلت إليه , أو يفسر خط سيره الذي دفع به إلى الصفوف الأمامية , ثم إلى مصيره المحتوم يوم أودى بحياته رصاص القتلة .

كما لا نعلم للأسف ظروف نشأته , ولا طبيعة علاقاته مع أسرته المكونة من أبيه وأمه وأخويه محمد وحسين , وأخته فاطمة . وإن كنا يمكننا أن نستشف طبيعة عقته بشقيقه الأكبر حسن من خلال الخطابات القليلة التي في حوزتنا , والتي تكشف عن العلاقة الخاصة التي كانت تربط الشقيقين , وتشف هذه الخطابات عن مساندة حسن النقراشي لشقيقه مساندة كاملة , كما تكشف عن علاقة النقراشي الوثيقة بأخيه إلى جانب ما تشف عنه من توجهاته السياسية , فنجد أن النقراشي يرسل إلى أخيه خطابا بتاريخ 23 نوفمبر 1927 , يطلب فيه منه إرسال مبلغ خمسين جنيها , وهو المبلغ الذي اكتتب به كزملائه لتخليد ذكرى الرئيس الجليل ( يقصد سعد زغلول ) . حيث ظل النقراشي على ولائه الراسخ لزعيم حزب الوفد , كما كان دوما شديد الحرص على التبرع للمشاريع القومية , على الرغم من أنه لم يكن بالرجل الموسر , حيث اقتطع من معاشه في الفترة من أول أغسطس لغاية 31 ديسمبر 1937 مبلغ 4 جنيهات و 960 قرشا شهريا , نظير تبرعه لمشروع " الدفاع الوطني " كما يدل الخطاب الموجه من النحاس الذي كان يتولى الدفاع عن النقراشي , عندما قبض عليه في عام 1925 بعد اغتيال السردار لي ستاك إلى حسن النقراشي , اهتمام الأخير بمتابعة القضية التي اتهم فيها شقيقه الأصغر , فيطمئنه النحاس على صحة أخيه ثم يضيف " وقد أخبرته بأني أنا الذي استحسنت عدم حضورك يوم الأحد الماضي لزيارته " ثم نجد حسن النقراشي يبيع عن طيب نفس قطعة أرض كان يمتلكها من أجل مواجهة النفقات التي استلزمها اعتقال النقراشي وانقطاع مورد العيش .

إلا أننا نعتقد أن القوة الدافعة للنقراشي كانت تكمن في عدة جوانب :

أ- شخصية النقراشي

لعل أولها شخصية النقراشي , التي كانت مفتاحها مجموعة من العناصر : الالتزام والانضباط اللذان كانا أساس دوره في ثورة 1919 , حيث عرف بأنه العقل المنظم للثورة , كما دلت مضابط مجلسي الشيوخ والنواب , وقد دخل مرحلة أخرى من مشواره السياسي , على حرصه الشديد على حضور الجلسات .. هاتان الصفتان كانتا أيضا وراء السياسة التي انتهجها عند تولى الحكم , والتي وصفها البعض بسياسة " العصا الغليظة " فقد كان – كما وصفه الدكتور عزيز سعد الدين ابن زوجته – عاشقا للنظام , يكره أي إخلال به , وهاتان الصفتان هما أيضا من طبيعة المدرس , والواقع أن النقراشي ظل كما هو حتى آخر حياته , المدرس الذي لم يفقد طريقه في دهاليز السياسة , وقد يصل بعض المؤرخين إلى وصفه بالديكتاتورية وهو وصف في رأينا قد جانبه الصواب , حيث إن طبيعة العصر الذي عاشه ما كانت لتسمح بالوزير أو رئيس الوزراء الديكتاتور حتى ولو كانت نوازعه هي الديكتاتورية بعينها , فمصر في ذلك الوقت كانت ملكية , للملك فيها سلطات واسعة , فهو يملك ويحكم على خلاف النمط الانجليزي في الحكم الملكي , كما كانت مصر بلدا محتلا , ومع ذلك , بل وعلى الرغم من كل ذلك , فقد كانت الأحزاب المصرية على قدر كبير من القوة والتأثير على الراى العام برجالاتها الذين صنعوا ثورة 1919 وهى ثورة رائدة في تاريخ العالم , اعترف غاندي ونهرو بريادتها , وسبقها , كما كانت مصر تحظى بنظام برلماني على قدر كبير من النضوج , وصحافة عرفت حرية الراى وصحفيين من ذوى القامات الرفيعة , من أمثال لطفي السيد وهيكل والعقاد وطه حسين .

وقد يكون النقراشي متشددا في آرائه صلبا في مواقفه , إلا أنه كان كذلك كارها للديكتاتورية , التي رفضها في صورة عدائه للزعامة المقدسة , وكذلك لديكتاتورية الشارع , حينما رفضها في صورة القمصان الزرق والخضر , وكذلك الديكتاتورية المزعومة باسم الإسلام , رغم إدراكه الكامل لخطورة ما أقدم عليه .

ولا شك أن استعداء النقراشي لهذه الجبهات العريضة من الشعب , بما في ذلك الوفد والإخوان المسلمين قد ساهم بدوره في تحول كثير من الراى العام .

ولعل من أهم ما يميز النقراشي هو شعوره المرهف بالمسئولية فلقد وضع مسئوليته تجاه وطنه دائما نصب عينيه – بالمعنيين المجازى والحرفي – حيث كان بإمكانه كل يوم وهو يهبط بمنزله أن يقرأ اللوحة على الجدار المواجه ,مأثورة أحمد ماهر التي اتخذتها فيما بعد جريدة " الأساس " السعدية شعارا لها " الوطنية عدل وكرامة " كما أنه من السياسيين القلائل الذين انخرطوا في العمل الوطني , ولم تلههم الأمور الجسيمة التي يضطلعون بها عن مسئوليتهم تجاه محيطهم المباشر من الأسرة , فلقد تزوج عام 1934 وهو في السادسة والأربعين من عمره من أرملة لها من الأولاد أربعة , تتفاوت أعمارهم بين الثانية عشرة والثامنة عشرة وعاهد نفسه من اليوم الأول على تحمل مسئوليتهم , على الرغم مما تكبده من عنت في فترة حرجة من أعمار أبناء الزوجة , ومن مشواره السياسي , فلقد روى لي الدكتور عزيز سعد الدين " " كان يتابع تحصيلنا لدروسنا , ويعنفنا أحيانا " كما نستطيع أن نستشف من الكتيب الذي كان يدون فيه ملاحظاته عن تطور السعال الذي عانى منه لفترة ابنه هانئ , ويبدى فيه كذلك قلقه على صحة صفية , ويسجل فيه كذلك المواعيد المقررة للتطعيمات الدورية , مدى الجدية التي اتسم بها مسلكه في كافة مناحي الحياة واهتمامه العميق بحياته الأسرية .. ولعل احتفاء أسرته بذكراه لا يرجع فقط لاعتزازهم بتاريخه , بل أيضا ما يدينون به له من حب ورعاية .

ب- الزواج المتكافئ

وراء كل عظيم امرأة , وإن كانت هذه المقولة لا تنطبق إلا جزئيا على النقراشي فهو لم يتزوج كما قلنا من قبل إلا في سن السادسة والأربعين تزوج في عام 1934 وهو نفس العام الذي تزوج فيه النحاس , تزوج كلاهما وقد تخطى مرحلة الشباب إلا أنه على خلاف زواج النحاس غير المتكافئ من الناحية السنية والزى جر على صاحبه المتاعب , على النحو الذي رواه الدكتور لبيب رزق في إحدى حلقات دراسته الأسبوعية الشيقة بالأهرام ( 28-7-2005 ) فإن الأمر كان مختلفا بالنسبة للنقراشي الذي كان زواجه موفقا للطرفين .

فبداية كان سن الزوجين متقاربا , وكانت الزوجة زاهدة في هيلمان السلطة وبريقها تقول " آخر ساعة " في سياق الخبر الذي ساقته عن ظهور صاحبة العصمة حرم رئس الوزراء مع زوجها في حفلة العشاء التي أقامها دولته للمسيو بيدو وزير خارجية فرنسا السابق والسيدة قرينته " ... ومع أن زوجات رؤساء الوزارات في مصر اعتدن على الذهاب مع أزواجهن إلى المآدب الرسمية والحفلات , إلا أن حرم النقراشي لم تظهر مع زوجها أكثر من ثلاث مرات , برغم أن مدته في الرياسة بلغت ثلاث سنوات .. "

وتسارع الصحيفة لئلا يتبادر إلى ذهن القارئ انطباع سيء بتقرير أن :

" قرينة رئيس الوزراء مثقفة ثقافة عالية وتجيد اللغتين الفرنسية والانجليزية إجادة تامة ولكنها لا تتكلم مطلقا في السياسة وتعتقد أن رياسة الوزارة أكبر مصيبة في الدنيا .. "

والمجلة مصيبة في هذا المضمار , أما عن ثقافتها فإنني أتذكرها في وقت شارفت فيه على الثمانين عاما و وقد ضعف بصرها وهى تستعين بنظارة مكبرة لتطالع الصحف العالمية , وأتذكر أيضا ابنها هانئ , وهو يروى لي ضاحكا أو والته أذهلت المرشد الذي كان بصحبتها في متحف بواتر ببلجيكا أذهلته وهى تناقشه مناقشة جدلية في إنجازات نابليون .. أما عن رأيها في رياسة الوزارة فتعضده ملاحظة النقراشي ذات نفسه , في خطاب أرسله إلى الدكتور عزيز سعد الدين قبل شهر أو يزيد قليلا قبل اغتياله , فهو يبثه همومه عن استقالته التي أصبحت قريبة أكثر من أي وقت مضى , ثم يضيف فئ عجالة ( نستشفها من الخطأ اللغو " لم " بدلا من " لا " على آخر سطر من الخطاب , " لم تطلع ماما على هذا لأنه لو اطلعت لألحت فئ الاستقالة العاجلة " .

فلقد تزوج النقراشي حقا من امرأة من طراز فريد, فكان قد سبق لها الزواج من المهندس علي سعد الدين , الذي أنجبت منه ثلاثة من الأبناء وابنة واحدة , إلا أن هذا الزواج لم يدم طويلا حيث أصيب الزوج مرض السرطان , وتوفى بعد رحلة علاج مضنية تحملت علية زكى مسئولية أبنائها في ظروف شديدة القسوة معتمدة على معاش الزوج البسيط , فرغم أنها كانت تمتلك أرضا زراعية واسعة , إلا أنها كانت عرضة للسرقة والبوار بعد وفاة زوجها الأول , أما مصاغها فقد سبق أن اضطرت لبيعه قبل ذلك .

تفجرت لدى هذه الأرملة الشابة التي لم تعرف قبل هذه المحن من الحياة إلا أطيبها وأترفها و طاقات غريبة للتحدي والصبر على الصعاب و فأخذت تبحث عن كل الوسائل الممكنة للحد من النفقات , اعتمدت على نفسها في حياكة بعض ملابس أولادها , استغنت عن السائق واعتمدت على نفسها في قيادة السيارة , وهو كما نعلم جميعا وضع غريب في مجتمع الثلاثينيات من القرن الماضي , بل لجأت إلى بيع بعض مستلزمات البيت مثل الفرن توفير السعر الغاز , كما اضطرت أخيرا لبيع فيلتها الفخمة التي كانت محملة بالديون , إلا أن هذه الوسائل التي لجأت إليها كانت مجرد مسكنات لم تجد نفعا أمام استفحال الأزمة , وهنا تدخلت ابنة عمها صفية زغلول " أم المصريين " ورتبت لها زواجها من النقراشي الذي رشحته زوجا لها , حيث كان من رجالات سعد زغلول المقربين , وقد خبرت إخلاصه ونزاهته , ولقد أعجب في أول لقاء لهما بالأسلوب الذي عرضت به عليه وضعها بلا مواربة و فكان هو خير عون لها في هذه الظروف الحالكة , كما أحسن إدارة أملاكها , إلا أنه كان حريصا على الحياة معها في حدود إمكاناته المالية المحدودة , كما عاشت أسرته الجديدة في بيته القديم بمصر الجديدة , أما هي فلقد منحته استقرارا رطب حياته الجافة التي كان قد وهبها كلية للكفاح , كما أنها فتحت له آفاقا أوسع في ا لمجتمع وتوطدت كذلك علاقته بصفية زغلول , ولقد جمعت بينهم صفات مشتركة كالالتزام والجدية , والصبر على الشدائد , وحب النظام كما جمع بينهما أيضا حب من نوع خاص قوامه الاحترام , والإعجاب المتبادلان .

ونعتقد أن هذا الاستقرار قد منح النقراشي من القوة ما ساعده على مواصلة الكفاح في فترة دقيقة من تاريخ بلاده , ويبدو أن الحياة الأسرية التي نعم بها النقراشي في مرحلة متأخرة من حياته , قد ساهمت في التلطف من حدة الطباع المعهودة فيه من قبل .

ولا نجد هنا صورة للعلاقة الراقية التي جمعت بينهما أبلغ مما كتبه لجاذبية سعد الدين ابنة زوجته , في الخطاب الذي أرسله لها وهو في نيويورك يستعد لعرض قضية الجلاء على مجلس الأمن , إلا أنه وسط المشاغل والهموم التي ينوء بها كاهله يكاد يعتب على نفسه , لأنه ليس بجوارها يواسيها لوفاة شقيقها :

" أكتب إليك هذا وأنا أنتظر الاتصال تليفونيا معكم , لأعزى مما في وفاة خالك محمد على بك , فأنى لم أعرف بوفاته إلا البارحة ولست أعرف ظروف وفاته وهكذا قضت الظروف أن ماما تستقبل هذه الحوادث المؤلمة .. أثناء غيبتي وأرجو عند وصول خطابي هذا أن يكون خف من نفس ماما الحزن والألم على وفاة أخيها رحمة الله عليه " .

ج- المجتمع

وترجع القوة الدافعة كذلك إلى ديناميكية المجتمع في هذا العصر , التي كانت تسمح للنابهين المجتهدين من مختلف طبقات الشعب بالارتقاء إلى المناصب التي تؤهلهم لها مقوماتهم وطاقاتهم , ويبدو أن نقطة انطلاقه الأولى تكمن في تفوقه الدراسي , حيث يقول الدكتور سيد عبد الله في رسالته الهامة عن النقراشي : إن ترتيب النقراشي في الشهادة الابتدائية كان الأول , وبعد أن أتم دراسته بمدرسة رأس التين الثانوية عام 1906 , انتقل إلى مدرسة المعلمين العليا بالقاهرة , ولقد لاحظ سعد زغلول تميزه وهو يتفقد مدرسة المعلمين العليا عام 1907 , فكان ممن وقع عليهم اختياره للسفر في بعثة دراسية , إلا أن هذه البعثة كانت لدراسة العلوم , ولذلك عارض النقراشي مدير البعثة في لندن وطلب أن يدرس التربية .

فكتب مدير البعثة في لندن إلى نظارة المعارف بالقاهرة في مايو 1908 خطابا أوضح فيه أنه رفض تلبية طلب النقراشي لدراسة التربية , ولكن الطالب النقراشي أصر على أن يرفع طلبه أيضا إلى الوزارة ولعلنا نوضح ما جاء فيه :

" إني ما فضلت القسم الأدبي إلا لأني أكثر استعدادا وأشد ميلا إليه و وخصوصا وأنى لم أتمكن فيه من دراسة التربية دراسة تامة , وأنني أرى إن البلاد في احتياج شديد إلى أفراد درسوا التربية كاملة ليضعوا نظام التعليم على أساس ثابت , وأن البعثة للترفيه عن المبعوثين , وإنما يجب أن يكون هدفها الأول مصلحة البلاد والتعليم لا تحتاج نظمه إلى إصلاح فقط و بل يحتاج إلى أسس ثابتة " .

ورفضت نظارة المعارف طلبه , ولم يعبأ بالرفض ,ولم يكن ذلك بالأمر الصعب المنال عليه , بل مضى يدرس في التربية , مستقلا فوق ما كلف به من دروس بعثته حريصا على أن ينهل منها و ودأب على العمل , وواصل ليله بنهاره في سبيل العلم والتحصيل .

نخلص مما سبق إلى عدة ملاحظات: أولها إن شابا يافعا ليس لديه ما يميزه على أقرانه من الناحية الاجتماعية , لو يولد , كما يقولون , وفى فمه ملعقة ذهبية , يقبل على الحياة , مدفوعا بيقينه أنه يمكنه أن يشارك بمجهوده المتواضع في نهضة وطنه , ولا يفوتنا هنا أن المجتمع لابد وأن ساهم في غرس أو تنمية هذه القناعة , فها هو سعد زغلول يتفقد المدرسة ويحرص على انتقاء النابهين بها , ليخلق جيلا جديرا بتحمل مسئولية الاستقلال , وإذا كان هذا هو أول اتصال للنقراشي بسعد زغلول كما قال هو بنفسه في مذكراته فلنا أن ندرك الأثر العميق الذي لابد وأن يتركه الزعيم في نفس الطالب الصغير .. يقول النقراشي في مذكراته التي نشرتها أخبار اليوم :

" إنني هنا مدين لسعد باشا منذ كنت تلميذا إلى أن أصبحت رجلا , وقد كان لي في جميع أدوار حياتي مربيا , وقائدا , بل كان لي والدا تلقيت عنه دروس الجهاد , والتضحية والوطنية والشجاعة في الحق , واحتمال الشدائد , والتمسك بحقوق البلاد " تبرز هذه الواقعة أيضا قوة عزيمة النقراشي , بل وعناده ولكن من العناد أحيانا ما هو مفتاح النجاح , بما يستتبعه من مثابرة دءوبة , نلمس أيضا اهتمامه المبكر بالقضايا الوطنية وبقضية التعليم , فهو على عكس العديد من رجالات السياسة في ذلك العهد الذي كانت فيه دراسة الحقوق هي المؤهل الأساسي لرجال السياسة في مصر , كان له طابعه الخاص الذي عرف به , والذي غلب عليه , وصكه بصكه الدامغ حتى لقد ضاق به الملك فاروق , الذي رأى في النقراشي طبيعة المدرس الناصح , وطلب من إبراهيم باشا عبد الهادي رئيس الديوان الملكي أن ينبه النقراشي – رئيس الوزراء آنذاك – أنه ملك مصر , وأن النقراشي رئيس وزرائه , وليس ناظر مدرسة .

نود هنا أن نعقب مرة أخرى على مرونة المجتمع المصري في بدايات القرن العشرين , التي هي كانت أحد عوامل صعود نجم بعض عناصر من الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا , بل وأحيانا الشعبية أمثال النقراشي , والنحاس , وأحمد حسنين , العقاد .. ونعتقد أن هذه المرونة تتمثل في " مجتمعين " هامين : الجامعة والعمل الوطني أو " الحركة الوطنية " فعلى الرغم من أن الجامعة المصرية لم تكن مجانية , إلا أنه يبدو أن تكاليف الدراسة لم تحل دون أن تلتحق بها شرائح عدة من المجتمع , تمثل البنية الاجتماعية للشعب المصري , وقد التقت هذه العناصر في الجامعة , وتفاعلت تفاعلا فكريا ووجدانيا , فنجد أن النقراشي وأحمد ماهر يلتقيان بمدرسة التجارة التي قام كل منهما بالتدريس بها لفترة من الزمن , وقد توثقت صلة كل منهما بالآخر من خلال عملهما المشترك في الجهاز السري لثورة 1919 ,وقد جمعت بينهما علاقة من نوع فريد , حيث نجد أن أحمد ماهر يؤازر النقراشي بعد فصله من الوفد , ويقرر أنه لا يعتبره منفصلا و بمعنى أنه سيداوم على إطلاعه على كل ما يدور في اجتماعات الهيئة العليا للوفد , ثم يرتضى النقراشي لنفسه دور الرجل الثاني في الهيئة السعدية فور إعلان نشأتها , ولقد كانت صداقة النقراشي بأحمد ماهر لا يدانيها حد من الولاء والإخلاص حرصا على نزاهة الحكم وسمعة رئي الوزراء لدرجة قد تتسم بالغلو والتشدد , ولنا مثل على ذلك , غذ إن أصدقاء ومعارف أحمد ماهر من المترددين على كلوب محمد على في ذلك الوقت كانوا قد سمحوا لأنفسهم بتكثيف زياراتهم لمقر رئاسة الحكومة, عندما تولى أحمد ماهر الوزارة لأول مرة في عام 1944 , وذلك بغير موعد أو استئذان , واتخذوا من هذا المقر ملتقى لهم , وهو الأمر الذي قد يثير من الشبهات ما لا تحمد عقباه .

وبعد أيام من هذه الحال فوجئت هذه الشلة بالنقراشي يقتحم عليهم اللقاءات وعصاه في يده مرفوعة , وهو يهدد ويتوعد : " من يريد لقاء أحمد ماهر فعليه بكلوب محمد على , وأما من أراه منكم هنا فسيكون حسابه عسيرا " وقد روى إبراهيم عبد الهادي هذه الواقعة لوالدي الدكتور شامل أباظة , كما روى له أن أحمد ماهر هو الذي أعاد على مسامعه هذه الواقعة , وهو بالغ التأثير من أنه لا يستطيع أن يستقبل أصدقاء بمكتبه , ولكن أحمد ماهر مع ذلك كان يدرك تماما مدى ولاء النقراشي له , كما كان يدرك نبل دوافعه .

أما عن معرفة النقراشي بإبراهيم عبد الهادي , فقد كانت بدايتها مدرسة العباسية بالإسكندرية التي كان النقراشي مدرسا بها و وإبراهيم عبد الهادي تلميذا ثم تطورت هذه العلاقة عند بداية الحركة الوطنية , ليصبح أحمد ماهر والنقراشي وإبراهيم عبد الهادي هم الثلاثي البالغ الصداقة والتفاهم والولاء فأولهم , كما يقولون , هو عقل الثورة , وثانيهم هو ضمير الثورة , أما الثالث فهو لسان الثورة .

ولقد كان للنقراشي صداقات واسعة , بمجموعات من مختلف التيارات الوطنية والأوساط الاجتماعية , وقد روى لوالدي أنه في بداية الحركة الوطنية كانت تربطه , بأبيه إبراهيم دسوقي أباظة صداقة عميقة , لدرجة التلازم , ولدرجة أن الوجبة الوحيدة التي كانا يأكلانها منفردين هي وجبة الإفطار , وظلا على تلك الحال إلى أن نشأ الخلاف المعروف بين سعد زغلول وعدلي يكن , حيث ضم النقراشي لسعد كما انضم دسوقي أباظة لعدلي يكن , وكما ذكر النقراشي لوالدي , أن السياسة التي جمعتهما هي أيضا التي فرقت فيما بعد بينهما , وإن ظلت ذكرى هذه الصداقة الجميلة كامنة في النفوس في انتظار أولى الإشارات و وقد جمعت مدرسة البنات الأمريكية والدتي صفية النقراشي , بعمتي كوثر أباظة كريمة جدي دسوقي أباظة وسرعان ما نشأت بينهما صداقة , وتبادلتا الزيارات و ثم اتبعت زيارات الابنتين بتبادل الدعوات بين أسرتي النقراشي وأباظة , ثم انتهت بعد وفاة الصديقين بزواج كريمة الأول بنجل الثاني.

وكذلك جمعت الحركة الوطنية بين النقراشي , وبين المؤرخ المعروف عبد الرحمن الرافعي , في أعقاب الحرب العالمية الأولى , كما توطدت علاقته بالعقاد على النحو الذي سوف نعرض له في سياقه .

وهكذا يتضح لنا أن المجتمع المصري قبل ثورة 1952 , لم يكن مجتمعا يتكون من جزر منفصلة , لم يكن هو المجتمع " الإقطاعي " , " الطبقي " الذي صورته لجيلنا كتب التاريخ المدرسية بعد ثورة 1952 , بل أنه كان مجتمعا له القيم والثقافة والأهداف التي كانت تسمح بصعود ذوى الكفاءات .

ونعود مرة أخرى إلى رحلة النقراشي مع التعليم , وهو المجال الذي بدأ من خلاله مشواره السياسي , فبعد الحصول على دبلوم جامعة نوتنجهام عام 1907 , عاد إلى مصر وعين مدرسا للرياضيات في مدرسة رأس التين الثانوية , ويبدو أن كفاءته رشحته للتدرج السريع في السلم الوظيفي , فينطبق عليه ما يقرره الدكتور أحمد زكريا الشلق بخصوص , العناصر المثقفة والفنية التي تستند قوتها بشكل أساسي إلى المهارات التي اكسبها التعليم الحديث إياها والتي قدمت نفسها للمجتمع من خلال تلك المهارات المهنية .

فما لبث النقراشي أن عين ناظرا للمدرسة الأولية الراقية للبنين بالقاهرة , وقد أصاب النقراشي في تلك الوظيفة شهرة واسعة ( ... ) حتى سميت هذه المدرسة بين رجال المعارف بمدرسة النقراشي نسبة إليه و كما يقرر الدكتور سيد عبد الله.

وتم نقله بعد أحداث ثورة 1919 إلى القاهرة , ناظرا لمدرسة القاهرة الأميرية , ثم إلى أسيوط حيث عين مديرا للتعليم بمجلس المديرية بناء على طلب تقدمت به تلك المديرية لوزارة المعارف العمومية , بتاريخ 24 أكتوبر 1919 , ولقد كان للتعيين خارج القاهرة سبب سياسي , هو مشاركته في إضراب الموظفين , احتجاجا على خطبة اللورد كيرزون في مجلس اللوردات .

أكد فيها – والكلام هنا للنقراشي – أن الأنباء الواردة منها ( أي مصر ) أقل خطورة وتجنى فيها على الثورة المصرية , فزعم أنها أقرب إلى السلب والنهب منها إلى السياسة والوطنية , وأثنى على موظفا الحكومة المصرية , ورجال البوليس والجيش المصري , وأشاد بحسن سلوكهم أثناء الاضطرابات واستدل بسلوكهم على أن عقلاء الأمة لم يشتركوا في الثورة , وبدا من خطبته أن الحكومة البريطانية لا تنوى العدول عن خطتها في تثبيت الحماية وتأييدها , وأنها تنفك دائبة في تشويه الحركة الوطنية , كما أنها تريد مصانعة الموظفين , الأمر الذي استاء له الموظفون جميعا , خصوصا وقد جعلتهم هذه الخطبة في مركز حرج أمام الرأي العام , وصورتهم بالانحياز إلى جانب الاحتلال والمحتلين , فتألفت لجنة وطنية اشترك فيها مندوبون من جميع الوزارات والمصالح , وكنت أنا مندوب وزارة المعارف في هذه اللجنة , وكتبنا عريضة احتجاج على خطبة كيرزون ورفعناها إلى جلالة السلطان أحمد فؤاد , وأرسلناها إلى المندوب السامي البريطاني وسائر معتمدي الدول الأجنبية , وأعلنا فيها الإضراب من أول إبريل .. وقد صار الإضراب عاما في جميع الوزارات والمصالح وكان من المقرر أن يقتصر على ثلاثة أيام , ولكنه استمر حتى يطلق سراح المعتقلين , وعلى رأسهم سعد زغلول باشا ( سيرة النقراشي الذاتية التي سجلها طاهر الطناحى بالمصور بعد اغتيال النقراشي في ديسمبر 1948)

ولقد سارعت السلطات البريطانية بتعيين اللورد اللنبى مندوبا ساميا في مصر و الذي قرر الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه , وتألفت في هذه الظروف المضطربة وزارة حسين رشدي باشا الرابعة , ودخلت مع ممثلي الموظفين في مفاوضات باءت بالفشل , وبذلك رأى اللورد اللنبى نفسه مضطرا للجوء إلى الشدة في اليوم التالي, لإصدار المنشور بأن يحذف اسمه من كشف موظفي الحكومة , كما هدد كل شخص يحاول أن يمنع شخصا آخر من العودة إلى عمله بالقبض عليه ومحاكمته محاكمة عسكرية , وقد آتى هذا التهديد ثماره , إذ عادت الغالبية العظمة من الموظفين إلى أعمالهم , بينما أصر النقراشي , هو وستة آخرون من الموظفين على موقفهم , فقبض عليهم في 24 إبريل 1919, وتم ترحيل النقراشي إلى رفح ثم نقل منها إلى ثكنات قصر النيل , ومكث هناك حتى أفرج عنه محمد سعيد باشا في 29 مايو 1919 بعد تأليف وزارته إثر استقالة وزارة رشدي باشا .

نخلص مما سبق إلى أن الدور الذي لعبه النقراشي في الحياة السياسية المصرية في الفترة من عام 1918إلى عام 1948 أي حوالي ثلاثين عاما من البذل والعطاء لم يكن وليد الصدفة ولم يأت من فراغ , وإنما نبع من عدة عناصر تضافرت , فكانت بمثابة المقدمات لهذا المشوار الثرى , وقد حصرنا هذه العناصر في شخصية النقراشي نفسه , وطبيعة المجتمع الذي نشأ فيه , وكذلك الزواج الموفق الذي ضاعف من قدرته على البذل والتضحية.. ونود أن نضيف هنا أننا نظرنا إلى شخصية النقراشي كمنظومة متكاملة مفتاحها طبيعة المعلم أو المدرس أو الناظر التي لازمته طوال حياته غير أن هناك سمة واحدة شذت عن هذه المنظومة , حيث إن النقراشي جمع إلى جانب رقى الإنسان المثقف " جدعنة " ابن البلد الأصيل , ونستدل على ذلك بواقعة طريفة رواها شاهد عيان , هو عبد اللطيف أفندي , وقد كان موظفا بال" مكتب " الذي كان قد استأجره النقراشي فور فصله من الوفد , وقد ظل عبد اللطيف أفندي وثيق الصلة بالأسرة بعد ذلك , فحدثنا عن المظاهرة الغاضبة لشباب وفدى خرج يطالب ب " رأس النقراشي " لخروجه على الوفد , وقد كان النقراشي بمكتبه , وكان عبد اللطيف أفندي يتابع أولا بأول مسار هذه المظاهرة , ويحث النقراشي على مغادرة المكان خوفا من مغبة الأمر , إلا أن النقراشي أصر بهدوء على البقاء بمكانه , حتى وصلت حشود الطلبة أمام المكتب , فخرج وسط هذه الحشود وبيده عصاه التي أخذ يحركها ذات اليمين وذات اليسار قائلا " وسع يا ولد , أنت وهو " وانصرف وقد ألجمت الدهشة الشباب الغاضب .

كما أن الدور الذي لعبه النقراشي في الجهاز السري لثورة 1919 , وإن كان يتناقض مع دوره في السلطة إلا أنه كان بمثابة "المطبخ السياسي " الذي خلق من النقراشي سياسيا ملما بخبايا الأمور , ولعلنا هنا نستبدل لفظ " الثورة " بلفظ أكثر دقة , حيث إن الثورة لم تنطلق تلقائيا كما يتصور الكثيرون , وإنما جاءت ثمرة لحركة خضعت لتنظيم وإعداد بالغي الدقة , ولفلسفة بعيدة النظر راهنت على ضرورة تكاتف كل القوى الوطنية في المجتمع , وهى الوحدة التي كان رمزها البليغ الهلال والصليب , وقد كانت الفكرة العميقة استجابة لمطلب الأقباط أنفسهم بالمشاركة في الحركة الوطنية , الذي وجد أذنا صاغية عند سعد زغلول .

الفصل الثاني: دور النقراشي في الجهاز السري لثورة 1919

ألف أعضاء الوفد لجنة مركزية قبل سفرهم غالى مالطة في 11 إبريل 1919 , للحاق بسعد زغلول , ثم التوجه إلى باريس بعد ذلك , من اجل الدعاية للقضية المصرية إمام مؤتمر الصلح المعقد في العاصمة الفرنسية , وكانت مهمة هذه اللجنة في الأصل جمع التبرعات لتغطية احتياجات الوفد في باريس , إلى جانب موافاته بمعلومات عن الموقف في مصر ؛ ليتسنى له استخدامها للدعاية للقضية الوطنية ..

وكان رئيس هذه اللجنة محمود سليمان باشا (والد محمد محمود باشا القطب الدستوري المعروف ) , ووكيلها وأمين صندوقها إبراهيم سعيد باشا , إلا أن رئيسها الفعلي كان عبد الرحمن فهمي .. يقول الدكتور محمد أنيس : "لقد كان عبد الرحمن فهمي منظما ثوريا من الدرجة الأولى " حرص على أن يظل على اتصال دائم بالطلبة والعمال , يوجه نشاطهم وفق ما تقتضيه الإحداث , ولقد تحول نشاط اللجنة المركزية إلى الكفاح السري , بعد أن قررت السلطات البريطانية إيفاد اللجنة التي عرفت باسم "لجنة ملنر " (milner) للتحقيق في الإضرابات في مصر , وأجمعت الآراء على مقاطعة هذه اللجنة , وكان قد أعقب استقالة حسين رشدي باشا سلسلة من الوزارات " عرفت "بالوزارات الإدارية " كما ورد في نفس المصدر .. والواقع أن الاستقالة أو "استعفاء " حسين رشدي باشا وعدلي يكن باشا السباب عديدة لايتسع المجال للخوض فيها , إلا أن احد هذه الأسباب يتصل بموضوعنا ؛ إذ ابدي حسين رشدي باشا استياءه من عدم الاستماع لنصحه بالسماح لمن أسماهم " وفودا من أعضاء الهيئات النيابية في البلاد " , وكان يقصد الوفد طبعا , [..............] بالسفر إلى لندن ليدافعوا عن مصلحة البلاد , كما ورد بكتاب الدكتور يونان لبيب رزق " فؤاد الأول .. المعلوم والمجهول " .

وبذلك كان في استقالة الرجلين إحراج شديد للسلطان فؤاد ولسلطات الحماية , وكان من الطبيعي إذن أن يستقبل الراى العام تشكيل وزارة محمد سعيد باشا في 21 مارس 1919 بعد ثلاثين يوما من" استعفاء " الوزارة السابقة بالاستهجان والاستنكار , ولذلك قرر الجهاز السري قتل محمد سعيد باشا ؛ لأنه خالف قرار سعد زغلول الذي نص على أن : "لايجوز لمصري إن يؤلف الوزارة في ظل الحماية " .. ولا نعرف على وجه التحديد متى انضم النقراشي إلى الجهاز السري , ألا أننا نركن إلى أقوال شفيق منصور من باب الاستدلال فقط ؛ حيث انه أدلى بها في مرحلة دقيقة من حياته , بعد أن حكم عليه بالإعدام ؛ بتهمة قتل السردار , وبعد أن منى بوعد تخفيف الحكم .. يقول شفيق منصور في الذي قدمه إلى البوليس في 13 إبريل 1920 :

" أن المرحوم عبد اللطيف الصوفاني بك وأحمد ماهر وعبد الرحمن الرافع بك ومصطفى فندى حمدي وشفيق منصور كانوا أعضاء اللجنة الرئيسية في سنة 1919 , واستمروا في إعمالهم كانوا ضد الوزراء المصريين وبعدئذ انضم إليهم النقراشي بك " . نسوقها على سبيل الاستدلال حيث يؤيدها ما في مذكرات محمد محمد خليفة التجار بكفر الزيات :

" عند قيام ثورة 1919 تعرفت بأحمد ماهر , والنقراشي , وحسن كامل الشيشيني , والدكتور سيد باشا , ويوسف العبد وعبد الرءوف العبد , وهؤلاء يكونون خلايا الجهاز الثرى .. " إلا أنه من الراجح انه كان ناشطا سياسيا قبل ذلك بفترة ؛ حيث يقول إبراهيم عبد الهادي باشا صديق العمر أن النقراشي درس له في مدرسة العباسية , التي عين بها من مايو 1911 إلى سبتمبر 1912 , وعند سؤاله إذا كان قد لاحظ أن للنقراشي نشاطا سياسيا في هذه الفترة ؟ أجاب أن ذلك لم يفلت نظره وقتئذ ,إلا انه تبين بعد ذلك أن عددا من الطلبة المجندين بالجهاز السري كانوا من طلبة النقراشي .. ومن الواضح إن هذا التاريخ يسبق بفترة ليست بالقصيرة إحداث ثورة 1919 , إلا إن ما ورد بأحد هوامش كتاب [[محمد أنيس] يدعم هذا الافتراض : " كتب الأستاذ حسن سلامة المستشار السابق إلى جريدة الأهرام عقب مقال لي في هذا الموضوع ( فبراير 1963 ) يقول :

" وكان للطلبة إذ ذاك لجان منتظمة أحسن تنظيم , وكان اتصالهم ببيت الأمة (منزل سعد زغلول ) بل وبقاء البعض دائما فيه معروفا للجميع , وكانت اجتماعات الطوائف فيه لا تنقطع ولما تأسست لجنة الوفد المركزية كان المرحوم عبد الرحمن فهمي قلبها النابض وأمين سرها المخلص الأمين ".

يتضح مما سبق أن هذه الاجتماعات والتجمعات الطلابية سابقة على تأسيس اللجنة المركزية عقب نفى سعد زغلول مباشرة .

بل يقرر الدكتور سيد عبد الله أن النقراشي كان قد انضم منذ عام 1910 إلى " جمعية التضامن الأخرى السرية " إلا أنه كما يبدو انه لم يكن له دور يذكر في سلسلة الاغتيالات التحى تمت بين عامي 1910 و 1915 , وإن كان قد شارك في نشاط الجمعية الزى اتجه إلى مساعدة أهالي طرابلس في حربهم ضد الاستعمار , مساعدة فعلية تتمثل في توصيل السلاح عبر السلوم إلى طرابلس .. يلقى إذن الدور الذي لعبه النقراشي في صدر شبابه عن عمر لا يتعدى الاثنين والعشرين عاما – والزى أبرزه الدكتور سيد عبد الله – الضوء على نزعته القومية التي ظهرت مبكرا .

ونعود إلى محاولة قتل محمد سعيد باشا التي باءت بالفشل , وتكررت بعدها المحاولة التي عرفت نفس المصير , ولذلك يبدو من تكرار مثل هذه المحاولات الفاشلة أن القصد كان إرهاب من تسول لهم نفوسهم قبول التعاون مع الانجليز , ومن يقبلون أن يحذوا حذوهم , ويؤيد حديثنا ما قاله النقراشي نفسه لمصطفى أمين , عندما عرض عليه مذكرات الشيخ سيد علي محمد الذي قام بإحدى محاولات اغتيال محمد سعيد باشا :

" إن قيادة ثورة 1919 قررت قبل التنفيذ بأيام أن المقصود ليس قتل محمد سعيد باشا رئيس الوزراء , وإنما إرهابه لأنه خالف قرار سعد زغلول بأنه لا يجوز لمصري أن يؤلف الوزارة إلى أن تلغى الحماية البريطانية , وأنه لوحظ في طريقة حشو القنبلة قبل تسليمها للشيخ سيد و أن تحدث انفجارا هائلا مخيفا , ولا تقتل أحدا .. "

إلا أن محاولة اغتيال محمد سعيد باشا لم تكن إلا باكورة أعمال الجهاز السري فلقد تكررت محاولات الاغتيال : إسماعيل سري باشا وزير الأشغال ثم محمد شفيق باشا وزير الزراعة , يليها حسين سري باشا وزير الأوقاف وجميعهم قد أفلتوا من الاغتيال .

وينبغي لنا هنا أن نتوقف قليلا .. إن الاعتداء على الجنود الانجليز لا يدخل في إطار الدفاع عن النفس , والمقاومة المشروعة ضد قوات احتلال غاشم وحسب , وإنما ينبغي لنا أن ننظر له من منظور التضحية وبذل النفس , يقدم عليها فرد من أجل أن تحيا المجموعة

إلا أننا اليوم ربما ننظر بشيء من عدم الارتياح , عندما تمتد عمليات الاعتداء إلى مصريين , خاصة أن مثل هذه الاعتداءات امتدت لتشمل رموزا غير مشكوك في وطنيتها , مثل عبد الخالق ثروت باشا , فما هذه السلطة التي تملك تصنيف فئة من المصريين على أنهم الخونة ؟ ومن ذا الذي يملك حق إصدار حكم بإعدام شخص ؟ ويبدو أن هذا الشعور بعدم الارتياح ليس وليد اليوم , فلقد سبق أن أشرنا إلى علاقة النقراشي وإبراهيم دسوقي أباظة الوطيدة , إلا أنه وفقا للأستاذ ثروت أباظة , كان أحد الأسباب التي أدت إلى أن تفرقت بينهما السبل هو اختلاف الرؤى في اغتيالات المصريين ؛ نحن إذا بصدد مسألة خلافية , ويجب علينا – حتى يتسنى لنا أن نحكم على الأمور حكما أقرب ما يكون إلى العدل والموضوعية – أن ننظر إلى المسألة في إطارها التاريخي , فعلينا أن نحاول استحضار حماسة ثورة 1919 من خلال من عاشوا هذه الأحداث الجليلة التي سجلها مصطفى أمين في كتابه " الممنوع"

فها هو الشيخ سيد الأزهري الفقير يستعد للقيام بالمهمة التي عاهد الجهاز السري على القيام بها , فهو يتجول في شوارع الإسكندرية منتظرا وصول القنبلة التي نقلها إليه النقراشي , متصورا أنه سوف يلقى حتفه وهو يفجر القنبلة في سيارة رئيس الوزراء , ويبتهج عندما يبشره صديقه بقدوم القنبلة , ويعقب على ذلك قائلا :

" إذا عجبتم لهذا الفرح الذي أصابني لوصول الآلة التي سأموت بها نسفا أو شنقا , فاذكروا الروح الوطنية في 1919 "

وها هو والده الذي استقدمته النيابة لإقناعه بالاعتراف , يحثه على تحمل مسئولية عمله وحده , وكذلك نحمد موقف محمد سعيد باشا نفسه , الذي استدعى للشهادة أمام المحكمة , وهو المستهدف بالمحاولة , يحثها على الرأفة حيث إن " المتهم معذور في عمله هذا , هو متأثر بالرأي العام الذي كان ضدي تقريبا " . ولعله من الطريف أن نضيف هنا أن نجل محمد سعيد , حسين سعيد شقيق الفنان المعروف محمود سعيد , ظل حريصا طوال حياته على الاحتفاء بذكرى النقراشي , حيث كان يرسل في يوم الذكرى السنوية لوفاته باقة زهور إلى الضريح الذي كان يرقد فيه جثمان الفقيد الكبير بجوار صديق العمر , زميل الكفاح أحمد ماهر .

بيد أن أبلغ دليل على إجماع الأمة هو موقف الأقباط من يوسف وهبة باشا ؛ فبعد استقالة وزارة محمد سعيد باشا , كلف الملك فؤاد – ولعل ذلك تم بإيعاز من اللورد اللنبي – يوسف وهبة باشا بتأليف الوزارة ؛ وكان يرمي من وراء ذلك إلى الثورة في مقتل , بفصم تحالف عنصري الأمة ومسلمين وأقباطا , وهو ما يعد بحق أحد أهم مكاسب ثورة 1919 , وهو الأسلوب الاستراتيجي الاستعماري القديم الجديد الذي نشهده حتى اليوم , إلا أن الأقباط أظهروا من اليقظة والفطنة ما أفشل دسائس المستعمر , فلقد عبروا عن استيائهم الشديد من قبول يوسف وهبة باشا الوزارة , فما كان من عبد الرحمن فهمي إزاء هذا الموقف المشرف إلا أن اختار قبطيا ليسند له مركز وكيل اللجنة المركزية , رادا بذلك " كيد المسلطين في نحرهم " على حد التعبير الذي استخدمه عبد الرحمن فهمي مخاطبا سعد زغلول , كما سارع باتخاذ الكنيسة المرقصية مركزا من مراكز الثورة 0 وعندما قررت اللجنة اغتيال يوسف وهبة باشا ,واقترعت على التنفيذ , كان من نصيب أحد الأعضاء المسلمين القيام بعملية الاغتيال , إلا أن عريان يوسف سعد – وهو عضو باللجنة – اعترض على الاقتراع حرصا منه على سلامة العملية , وحتى لا يساء استغلالها بدعوى اغتيال أحد المسلمين لرئيس الوزراء القبطي , وقد فشلت المحاولة وتم القبض على عريان سعد طالب الطالب الذي فقد بذلك مستقبله , وإن ظل على أوثق صلة بزملائه من ثوار 1919 الذين أصبحوا رؤساء للوزارات , وقد رفض بكل إباء أية ميزة أو تعويض حتى نهاية حياته , وقد لمسنا بأنفسنا العلاقة الفريدة بين إبراهيم باشا عبد الهادي وأسرة عريان يوسف سعد .

ولكن يبدو أن يقين النقراشي كان راسخا فيما يخص عمليات الاغتيالات في هذه الفترة , فلقد أظهرت اعترافات شفيق منصور , وكذلك المذكرات التي دونها عبد الفتاح عنايت – أحد الأعضاء المؤسسين لجمعية أولاد عنايت – أن النقراشي كان منضما مع أحمد ماهر وحسن كامل الشيشيني وعبد الحليم لبيب فئ المجلس الأعلى للاغتيالات , كما أنه يتضح من مذكرات الشيخ سيد و التي نشرها مصطفى أمين أنه شارك مشاركة فعلية في إحدى هذه العمليات على الأقل , فلقد قام بنفسه بتصنيع القنابل التي استخدمت للاعتداء على محمد سعيد باشا , مستفيدا من دراسته للكيمياء , ثم إنه في أول محاولة للاغتيال كان يقف في شارع الشيخ ريحان , ويشير إشارة متفقا عليها لحظة مرور سيارة رئيس الوزراء , ثم هو بعد ذلك يحرص على أن يسلم للشيخ سيد بنفسه القنبلة في الإسكندرية , بعد أن فشلت أولى المحاولات .

كما يبرز دور النقراشي في الجهاز الثرى وجها آخر , يتضح فئ التدابير التي اتخذها من أجل ضمان سرية ومن ثم نجاح العمليات , بما يسمح بتكرارها فهو يطلب ألا يتم نقل القنبلة التحى قام بنفسه بتصنيعها وفى بيته بالحلمية الجديدة لقتل محمد سعيد باشا , إلا في وقت المغرب , حيث يكون الجميع مشتغلين بالإفطار , وكان ذلك في شهر رمضان وعندما تكررت المحاولة لا يفوته أن يشير على محمد محمد خليفة بأن يقوم بشراء المواد اللازمة لتصنيع القنبلة من أجزخانات مختلفة في القاهرة وطنطا , والأدهى من ذلك هي الاحتياطات التي اتخذها من أجل إبعاد الشبهات عن نفسه , إذ إنه بعد القبض عليه إثر اغتيال السردار لى ستاك وجهت إليه مع ستة آخرين هم محمد فهمي علي ومحمود عثمان مصطفى وأحمد جاد الله وأحمد ماهر وحسن كامل الشيشيني وعبد الحليم البيلي تهمة الشروع في قتل دولة يوسف وهبة باشا في 15 ديسمبر 1919 ثم الشروع في قتل معالي إسماعيل سري باشا في 28 يناير 1920 , ومحمد شفيق باشا , ومعالي حسين درويش باشا , ومحمد توفيق باشا , ودولة عبد الخالق ثروت باشا , وقتل السير الفريد براون , وقتل البكباشي كيف , والشروع في قتل الكولونيل بيجوت , وقتل حسن باشا عبد الرازق وحسين بك زهدي في 6 نوفمبر 1922 ,أخيرا الحادث الأليم ( كذا ) حادث مقتل السير لى ستاك في 19 فبراير 1924 .

( كما ورد في مرافعة النيابة العامة ) .

وكان أحد الدلائل المادية التي استند عليها النحاس في مرافعته دفاعا عنه , هو وجوده خارج القاهرة خلال هذه الأحداث , فلقد كان بالفعل عقب إضراب الموظفين , مبعدا في القاهرة , ثم في أسيوط كما سبق أن أشرنا .. ويقول النحاس في مرافعته :

" يمكن الرجوع إلى بيان وزارة المعارف الثابت فيه أن النقراشي كان ناظرا لمدرسة القاهرة من أول سبتمبر 1919 ( .. ) لغاية 10 ديسمبر 1919 ثم نقل إلى أسيوط مديرا للتعليم بمجلس المديرية من 11 ديسمبر سنة 1919 لغاية 20 يونيه سنة 1920 "

والدليل يبدو بديهيا , إلا أن الواقع كان مغايرا للبديهة , فبينما كان سعد زغلول منشغلا بمتابعة القضية مع المحامين المكلفين بالدفاع عن ماهر والنقراشي , إذ تصله رسالة من النقراشي يقول فيها :

" احتطت لكل هذا أثناء الثورة , ولهذا سجلت نفسي موجودا في عملي خارج القاهرة طوال الحوادث , فكنت احضر من القاهرة كل ليلة إلى القاهرة وأعود بعد الاجتماعات إلى القاهرة , لأباشر عملي في اليوم التالي , وتعودت طوال الثورة أن أنام في سيارة تاكسي أو في قطار السكة الحديد أو قطار البضاعة , وهذا نفس ما كنت أفعله عندما نقلت إلى أسيوط في المدة من أول سبتمبر 1919 إلى 30 يونيه 1920 (" النقراشي يتذكر" مقال منشور في ا لمصور ضمن سلسلة مقالات تحت عنوان " شاهد عيان على الحياة المصرية " بقلم جمال بدوي)

الفصل الثالث: النقراشي في الوفد

فإذا كنا عرضنا في عجالة لحياة النقراشي , كمدرس شغوف بمهنته كل الشغف منذ عودته من نوتنجهام , وحتى عمل كناظر للمدرسة الأولية للبنين التي أصبحت تعرف بمدرسة النقراشي لتميز أدائه بها .

وإذا كنا قد عرضنا كذلك للفترة التي كان فيها النقراشي المنظم والمدبر للحركات السرية مع عبد الرحمن فهمي وأحمد ماهر , وهى حركة كانت على صلة وثيقة بسعد زغلول الذي كان يطلع على أدق تفاصيلها , ونجد أن سعد باشا قبل منفاه إلى سيشل يرفض انضمام النقراشي إلى لجنة الوفد المركزية , كما يرفض أن يكون النقراشي من الموقعين على قرارات الحزب , وفى نفس الوقت فهو يفوضه مع أحمد ماهر في اختيار أعضاء الوفد , وفقا للقائمة التي سبق إعدادها عن طبقات الوفد المختلفة التي تختلف إحداهما الأخرى عند الضرورة كالقبض أو النفي ..

ويبدو أن سعدا كان يريد له ولزميل كفاحه أحمد ماهر أن يعملا بعيدا عن الأضواء , حتى أن النقراشي لم ينضم رسميا إلى الوفد إلا في 18 سبتمبر 1927 , ولم يقدر للنقراشي أن يشهد جلسة الوفد برئاسة سعد زغلول , حيث إنه توفى عقب إصدار موافقته بانضمام النقراشي إلى هيئة الوفد مباشرة ويعتبر بذلك النقراشي آخر من انضم إلى الوفد من المحاربين القدامى بعد أحمد ماهر .

إلا أنه بعد أن ألف سعد زغلول أول وزارة شعبية , عين النقراشي وكيلا لمحافظ القاهرة في يونيو 1924 , كما عهد إلى أحمد ماهر بوزارة المعارف خلفا لمحمد سعيد في 25 أكتوبر 1924 , ويرجح أن تعيين النقراشي وكيلا لوزارة الداخلية في أكتوبر 1924 , تم بإيعاز من سعد زغلول الذي جاء قراره بإسناد مناصب سياسية للرجلين , إيذانا ببداية مرحلة جديدة في حياتيهما , تحولا فيها من قوة ضاربة تعمل في الخفاء إلى عالم السياسة الرحب , الذي حتم عليهما اصطناع أدوات جديدة للسعي وراء الحرية المسلوبة , والمطالبة باستقلال الوطن , ولقد جاء التصفيق الحاد الذرى قوبل به النقراشي عندما جلس لأول مرة تحت قبة البرلمان بعد انتخابه عن دائرة الجمرك في أول سبتمبر 1926 , تتويجا وتحية لتاريخه الحافل , ويرى مصطفى أمين أن هذا التحول الخطير قد قضى على الجهاز السري , أو أفقده فاعليته على حد قوله , فبدخول من كان نشاطهم قد قضى على الجهاز السري , أو أفقده فاعليته على حد قوله , فبدخول من كان نشاطهم تحت الأرض منبر البرلمان " انقطع التيار الكهربائي الذي كان يربط القاعدة بالقيادة "

إلا أن النقراشي لم يتخل على ما يبدو عن الطبيعة الثورية التي اكسبها إياه كفاحه السري ضد الانجليز , حيث يقول الدكتور يونان لبيب رزق إنه كان يقود في البرلمان مع أحمد ماهر الجناح الذي أطلقت عليه صحيفة التايمز البريطانية صفة الجناح الأيسر المتطرف , مما استدلت منه هذه الصحيفة على أن زغلول باشا فقد كل سلطة على الجناح .

كما ظلت طبيعة المعلم تلازمه أيضا و حيث نجد أنه ظل وثيق الصلة بالطلبة من خلال اللجان الفرعية والتنفيذية , وهو النشاط الذي كانت ترصده أعين البوليس , ويسجل الدكتور سيد عبد الله أنه عندما صدر عن وزارة المعارف قرار بمنع الاشتغال بالسياسة للطلبة , استمر في عقد الاجتماعات في النادي السعدي متحديا بذلك قرار الوزارة .

انضم إذن النقراشي إلى الوفد في وقت كان حزب الأغلبية بمنعطف خطير , لمن تؤول السلطة من يمسك بزمام الأمور بعد غياب الزعيم ؟ ولقد برز بقوة اسم النحاس في قائمة المرشحين لخلافة سعد , التي ضمت عمر طوسون وفتح الله بركات وعلي الشمسي و زكى أبو السعود , بيد أنه يبدو أن المنافسة الأشد كانت بين النحاس وفتح الله بركات , وقد أخذ النقراشي يعمل بجد وحماس للدعاية للنحاس .

ولقد كانت علاقة سعد زغلول بعائلته من ضمن الجذور والأسباب التي حدت بالنقراشي إلى مؤازرة النحاس في الخلافة على زعامة الوفد , وترجع في هذه الخصوصية إلى مذكرات سعد زغلول نفسه , ومدى كراهيته لابن شقيقه فتح الله باشا بركات الذي نافسه النحاس على زعامة الوفد بتشجيع من أحمد ماهر والنقراشي , وكذلك صفية هانم زغلول التي تعتقد أن فتح الله بركا " كسر قلب خاله " وأنه سبق أن زوج ابنه بهي الدين باشا بركات بالسيدة هدية هانم عفيفي , كريمة عطا بك عفيفي , دون استشارة خاله سعد باشا , رغم علمه بكراهية سعد لهذا الزواج إلى درجة أنه خاصم كل من حضر أو ساهم في إتمام هذه الزيجة .

ولغرابة الموضوع فإننا ننقل بعض ما جاء بمذكرات سعد , اكتفاء بأقل القليل مما ورد بها .

فهو يقول عن عميد عائلة فتح الله باشا في المجلد السابع من مذكراته :

" لا محل لاستغراب ما وقع من عائلة بركات , أما عميدها فلحداثة عهده بالنعمة , وشدة تشوقه للظهور , وتوهمه أن اتصاله بمثلى الآن يمنع من ظهوره بالمظهر الذي يحبه لنفسه .. الخ "

ثم ينتقل إلى نجل الله باشا فيقول :

" أما نجله ففتى مفتون بنفسه , مملوء من الإعجاب بها , سريع الانفعال للغاية تربى على الاستخفاف بكرامات الناس , والتهجم على حركاتهم , و قد ورث عن أبيه التملق والطمع والخداع وأخذ عن عمه قله الأدب وخلط الكبر بعزة النفس , والوقاحة بالحرية .. الخ "

إلى أن يقول إنه " لا يجلس إلا على كرسي كبير ( يقصد في حضرته ) ثم إذا جلس يعبث بسلسلة ساعته الذهبية .. الخ "

والحديث السابق الإشارة إليه يشير على مدى حنق سعد باشا على فتح الله بركات , وكل ما يمت إليه بصلة , وهذه الكراهية دفعت صفية هانم بعد وفاة زوجها إلى محاربته بكل قوة ووضوح , واستنصار كل أبناء سعد من الوفديين إلى تعضيد النحاس .

ويعلم الجميع أيضا أنه من أسباب غضب سعد زغلول على عبد الرحمن فهمي رئيس جهاز التنظيم السري , هو تعيين فتح الله بركات رئيسا للجنة من لجان الوفد , أثناء نفى سعد زغلول بالخارج , وحينما أخذه سعد زغلول مؤاخذة شديدة في هذا الأمر , اعتذر عنها عبد الرحمن فهمي , بأنه كان يرمى من وراء هذا التعيين إلى قطع الطريق على مداخلات فتح الله بركات , وهجومه الشديد على خاله سعد زغلول إلى حد قوله " إن خالي هذا لا أأتمنه على دجاجة " ولقد بلغت الخصوصية بين سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي إلى حد استقالة الأخير من الوفد .

وهكذا كانت الخصومة بين سعد وابن شقيقته منفذا لتكتل رجال سعد حول النحاس بمباركة أم المصريين , رغم ما كان لفتح الله بركات من سابقة العهد بالوفد وتقدمه من ناحية المركز الاجتماعي والثراء وعمق الشخصية وفخامة المظهر .

ولا شك أيضا أن مناصرة أحمد ماهر والنقراشي لم يكن انحيازا لصفية هانم , وانتصار لسعد باشا فقط , ولقد ظل تأثير صفية هانم فاعلا في قرارات الوفد بعد وفاة سعد زغلول , وظل بين الأمة ملتقى لأقطاب الوفد , ومركزا للمقابلات الهامة لدرجة أن إسماعيل باشا صدقي في نوفمبر 1932 أرسل إلى صفية زغلول خطابا يهدد فيه باتخاذ إجراءات حاسمة , إذا استمرت في استقبال الشخصيات السياسية المناوئة للحكم , وقد ورد هذا الخطاب بمجلة أسبوعية للصحفي السوري فيكتور آدم , كما ورد نص صفية زغلول تحت عنوان " مداخلات جحا " ( مرفق باللغة الفرنسية )

وكذلك فلقد وجد أحمد ماهر والنقراشي في النحاس الضالة التي ينشدانها, رغم ما يعلمان فيه من تسرع واندفاع و وقد خيل إليهما أنه هو الرجل الذي سيسهل قياده وأنه سوف يقدر لهما مساندتهما له .

وكان من ضمن الأسباب التي ساهمت في إيثار ماهر والنقراشي مناصرة النحاس بخلاف تأثير صفية هانم الشديد , أنهما كانا لا يريدان لزعامة الوفد أن تتميز بالأرستقراطية بعد أن كان الوفد يفخر بأنه حزب الجلاليب الزرقاء , كما كانا لا يريدان أن تكون الوراثة هي وسيلة الارتقاء للزعامة , ولعلهما كانا يأملان أيضا أن يحفظ لهما النحاس الجميل في نجاحه , وبذلك يسير الحزب على نفس الدرب والاتجاه القديم لسعد زغلول و ويبدو أن اسم النحاس , فور توليه زعامة الحزب الكبير قد اقترن في الراى العام باسم النقراشي , حيث عثرنا في محفظة عابدين رقم 216 على مقال عنيف تحت عنوان " لماذا نحتفل بالنحاس ؟ " وهو بلا تاريخ وموقع باسم " محجوب " وينتهي بهذين السطرين " إن الشعب أكبر من أن يساق للنحاس والنقراشي سوق الأغنام .. " اللذين يستدل منهما على سطوة الشخصين المذكورين واتفاقهما في المسلك .

إلا أنه كما يقول المتنبي :

ما كل ما يتمناه المرء يدركه

تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن

فسرعان ما دخلت علاقة النقراشي بالنحاس طورا جديدا , حيث كون النحاس بطانة خاصة له , ومن شخوص بعضها تدور حوله الشكوك مثل أمين عثمان , الذي عرف بتقربه الشديد للانجليز , وكذلك مكرم عبيد الذي لم يكن له ما لماهر والنقراشي من سابق عهد بالوفد , أو الجهاد في نظرهما .

وكانت خطابات مكرم تناشد النحاس ب " الزعيم المعبود " ومن جهة أخرى يخاطبه ب " مكرم المحسود " كما كان النحاس يؤمن بمسئوليته أمام الأمة التي زعمته , وليس أمام الهيئة العليا للوفد أو التشكيل البرلماني الوفدي .

ولقد ازدادت عزلة رجال الوفد أمام إصرار النحاس على اصطفاء مكرم وأمين عثمان وحدهما , وهو ما أفضى به النحاس نفسه للسفير البريطاني , وفقا لما ورد في برقية السفير , مستر لامبسون رقم 7 بتاريخ 30 يوليو 1937 وفيها يذكر أن النحاس أشاد بمكرم عبيد بحرارة وطلب إليه ( أي مستر لامبسون ) ألا يفضى إلى أحد من الوفد بأية إخبار تتسم بالأهمية والسرية إلا له شخصيا أو مكرم أو أمين عثمان ,وأن يحدد الاتصال بهذه الدائرة وتأليفها الضيقة , كما أخبره بعزمه على إخراج النقراشي من وزارته بعد استقالة الوزارة وتأليفها من جديد , عند ارتقاء الملك فاروق إلى سدة الملك لبلوغه ثمانية عشر عاما , وكان ذلك قبل التشاور مع النقراشي أو السراي كما قال النحاس أيضا ردا على سؤال السفير عن احتمال خروج أحمد ماهر من الوفد , تضامنا مع النقراشي , بأن ذلك مما يخشاه ويقرر أن خروج ماهر خسارة كبيرة , ولكنها تضحية تهون في سبيل التخلص من النقراشي .

وفى خطاب آخر لمستر كيلى موجه على مستر إيدن تحت رقم 32 بتاريخ 15 سبتمبر يتضح منه أن الدوائر الانجليزية تدرك تمام الإدراك ما في أصدقائها المصريين من ضعف , كما تدرك المزايا التي يتمتع بها أعداؤها فوفقا لهذه البرقية يقول المفوض البريطاني إن مكرم عبيد رجل يتمتع بالذكاء , إلا أنه يفتقر إلى المقدرة الإدارية وأن الوضع القائم بعد خروج ماهر والنقراشي سيفضى إلى قيام ديكتاتورية من صغار البرجوازيين وخروج العناصر شبه الأرستقراطية من طبقة المفكرين .

وقد تم بالفعل ما كان يتمناه النحاس من التخلص من النقراشي وهو الأمر الذي أعقبه خروج أحمد ماهر من الوفد .

الفصل الرابع: الانشقاق عن الوفد

تطالعنا الأهرام في عددها الصادر 14-9-1937 بخبر مفاده " اعتبار سعادة النقراشي باشا منفصلا عن الوفد " ونود هنا أن نعرض لأسباب هذا الفصل أو الانفصال , واللفظ هنا له دلالته حيث إنه عندما احتد النزاع بين النحاس والنقراشي , وعقد الوفد اجتماعا لبحث أسباب النزاع , اقترح أحمد ماهر اعتبار النقراشي مستقيلا وليس مفصولا , اعترافا بدوره في الكفاح الذي خاضه الوفد , إلا أن النحاس أصر على قرار الفصل .. ولكن ما أسباب المواجهة والصدام بين رجلين جمعت بينهما رحلة كفاح مشترك , تولى خلالها النحاس الدفاع عن النقراشي فئ قضية اغتيال السردار ؟ لقد بسط النقراشي في بيان له بالأهرام بتاريخ 7-9-1937 – أي أسبوع قبل قرار الفصل – أسباب استيائه واعتراضه على تصرفات الوفد ممثلا في زعيمه , أما النحاس فيخصص جزءا من خطابه السياسي في بني سويف لإيضاح أسبابا الفصل , ونلاحظ في كلا النصين قاسما مشتركا , وهو لفظ " الصبر " الزى يوحى بأن الضجر والضيق قد بلغا حدهما , فهو وإن كان قد ورد مرة واحدة في بيان النقراشي , إلا أنه يثير الانتباه لمكانه المميز في صدر البيان الذي يبدأ بهذه الكلمات " صبرت طوال هذه المدة على حملة خطابية وصحفية جائرة .. " ( الأهرام في 7-9-1937 ) أما خطاب النحاس فقد ورد في أكثر من موضع , ولفظ الصبر يقترن ببعد زمني فهو يدل على أن هذه المشاحنات ليست وليدة أزمة بعينها , ولكنها كانت النتيجة الحتمية لسلسلة من الأسباب أو لسوء تفاهم جوهري .

بدأت الخلافات بعد فترة وجيزة من وفاة سعد زغلول , وانتخاب مصطفى النحاس خليفة له , وذلك على الرغم من أن ماهر والنقراشي قد كان لهما دور فعال فى ترجيح كفته , على حساب فتح الله بركات كما أوضحنا من قبل , غير أن انتخاب مكرم عبيد سكرتيرا للحزب أثار استياء ماهر والنقراشي , حيث كانا يريان أن أحدهما أحق بهذا المنصب لعلاقتهما الوثيقة بسعد , ولما كان لكل منهما من رصيد طويل من النضال فى صفوف الوفد يؤهلهما للمناصب القيادية به .

ويبدو أنه السبب نفسه الزى جعلهما ينظران بعد الارتياح للسياسة الجديدة , التي انتهجها النحاس , والتي اعتمدت على ضم عدد كبير من كبار ملاك الأراضي الزراعية للوفد من أجل إيجاد مصادر تمويل للحزب .

وكانت العلاقة بين مكرم والنحاس قد توطدت منذ أن كانا معا فئ المنفى بسيشيل في ديسمبر 1922 مع سعد زغلول , وقد دأب النحاس على استشارة مكرم في العديد من القرارات التي يتخذها , فشعر ماهر والنقراشي أن مكانتهما في الوفد قد تزعزعت , خاصة أن مكرم والنحاس قد أهملا الاجتماع بالهيئة الوفدية .

وإلى جانب الخصومة الشخصية اختلف ماهر والنقراشي من ناحية , والنحاس ومكرم من ناحية أخرى , حول تقييمهم لمعاهدة 1936 , حيث نظر إليها ثنائي ماهر والنقراشي على أنها مجرد خطوة – وإن كانت خطوة هامة – يجب أن تتبعها خطوات أخرى , من أجل تحقيق الاستقلال , بينما اعتبرها النحاس نصرا يستحق الاحتفاء والتبجيل , فهي معاهدة الشرف والاستقلال " حسب تعبيره .

بيد أن هناك ملابسات محددة هوى التحى فجرت الخلافات الدفينة , إذ أنه بعد اعتلاء الملك فاروق العرش . عقب وفاة أبيه قدمت الوزارة التي كان يرأسها النحاس استقالتها , وقام النحاس بتشكيل وزارة جديدة بعد استبعاد محمود فهمي النقراشي , ومحمود غالب , ومحمد صفوت وعلي فهمي , وعلى الرغم من أن النحاس في خطاب سابق له بميدان المحطة بالإسكندرية ( 20-8-1937( قد حرص على التأكيد على أن هذا التغيير تم بعد التفاهم مع الأشخاص الذين استبعدوا " حرصا على استدامة الصداقة بيننا وبينهم " ( الأهرام في 21 -8-1937 ) ولكن مما يثير الريب في نوايا النحاس , ما تحمله الوثائق البريطانية من إطلاع السفير البريطاني على نية التخلص من النقراشي واستبعاده , حتى لو أدى ذلك إلى خروج أحمد ماهر اعتراضا على هذا القرار ( تلغراف من السير لامبسون على مستر غيدن بتاريخ 30-7-1937 )

إلا أنه في خطابه ببني سويف يقرر أن استبعاد النقراشي , كان لاستحالة التفاهم معه , حيث إنه ظل يتلقى منه الاستقالات عن عضوية حزب الوفد , الوحدة تلو الأخرى , حتى بات مشغولا بحل المشكلات التي يثيرها النقراشي بدلا من أن يتفرغ لمصلحة البلاد العليا .

وقد اعتبر النحاس أن إصرار النقراشي على عدم حضور اجتماعات الوفد التي دعي إليها , بمثابة استقالة هي في عداد السابعة في سلسلة الاستقالات .

ونجد النحاس حريصا على أن يسفه من أسباب الاستقالات , بحيث يبدو الأمر وكأن النقراشي إنسان متعسف ضيق الأفق .

وهو الأسلوب الذي من شأنه التهوين من صاحب الرأي المخالف , ولعل هذا الأسلوب الذي استحق عليه صفة " الديماجوجية " التي نعتت بها في الوثائق البريطانية , إذ يقول المستر كيلى في خطابه المؤرخ بالواحد والثلاثين من شهر أغسطس إلى مستر إيدن : إن النحاس سوف يختفي إلى الأبد في حالة إذا ما فقد أصوات الأغلبية , حيث إنه في الأساس شخص " ديماجوجى " أنى أنه من وجهة النظر البريطانية , يعتمد في المقام الأول على موهبته الخطابية , أو بمعنى آخر على مقدرته على تحريك المشاعر عن طريق التلاعب بالكلام , وما يتمتع به من الكاريزما الشخصية .

وسوف نعرض سريعا سبب استقالة النقراشي الأولى من الوفد , لأنه من ناحية توطدت على أثرها علاقة النقراشي بواحد من أعظم المفكرين المصريين في القرن العشرين , هو عباس محمود العقاد ولأن من ناحية أخرى هذا الحادث ينم عن منحى معين فئ التفكير يجدر إلقاء الضوء عليه , إذ إنه على عهد وزارة محمد توفيق نسيم الثالثة ( 14نوفمبر 1934-30يناير 1936 ) نشب خلاف بين أقطاب الوفد إزاء موقف الحزب من وزارة نسيم , حيث إن الوزارة كانت قد ألغت العمل بدستور 1930 الذي فرضه إسماعيل صدقي , والذي يخول الملك سلطات أوسع , وإذا كانت نفس الوزارة قد حلت كذلك مجلسي النواب والشورى اللذين تشكلا على أساسه إلا أنها دأبت على تأخير العمل بدستور 1923 والى ثلاثة عشر شهرا , فاتخذ المتطرف من الوفد وقتئذ في ماهر والنقراشي موقفا عدائيا من هذه الوزارة , وساندا الحملة التي شنها العقاد ضد وزارة نسيم من خلال جريدة " روز اليوسف " لسان حال الوفد في ذلك الوقت , وقد بلغ من عنف هجوم العقاد على وزارة نسيم أن اتهمها بالتواطؤ مع الانجليز , مما دفع النحاس إلى محاولة طرده من الوفد ,غير أن ماهر والنقراشي تصديا له .

وراح النحاس يؤكد في أكثر من مناسبة مساندته لوزارة نسيم ويعلن ثقته التامة بها , وانتهت الأزمة بقرار صادر من كل من النحاس ومكرم عبيد , باعتبار جريدة " روز اليوسف " اليومية لا تمثل الوفد , مما كان يعنى ضمنيا اعتبار العقاد مفصولا من صفوف الوفد و وهو القرار الذي أعقبه تقديم النقراشي لاستقالته .

فبينما رأى النحاس أن هجوم العقاد يعتبر خروجا على خطة الوفد وسياسته , رأى النقراشي أن فصل العقاد إنما هو مصادرة لحرية الراى في أمر لا يتعلق بالوفد بصورة مباشرة وبالتالي لا يعد خروجا على مبادئه ولقد توطدت على أثر هذه الأزمة صداقة النقراشي والعقاد , وهى صداقة مبنية على التقدير المتبادل و نجد في قصائد العقاد في رثاء النقراشي أكبر دليل على هذا التقدير والإعزاز الذي كان يكنه له . ونحن ننقل للقارئ الكريم تصديره لبعض كتبه للنقراشي :

" إلى الزعيم الصادع بالحق صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا , سيرة رجل صدع بالحق وحمد عليه في 5 أكتوبر 1945 بهذه الكلمات أهدى العقاد كتابه تداعى السماء بلال بن رباح مؤذن الرسول إلى النقراشي , أما كتابه أبو الشهداء الحسين بن على فهو يقدمه إليه بهذه الكلمات البليغة :

" إلى الرجل الذي عرف التضحية والاستشهاد , الأستاذ محمود فهما النقراشي باشا , أقدم ذكرى أبى الشهداء (في 18 سبتمبر 1944 )

وقد بلغ من حب العقاد للنقراشي أن قال في أحد الحوارات التي أجراها في التليفزيون المصري – مع السيدة أماني ناشد على ما أظن – إنه قد أصيب بالمرض بعد وفاة أخته , ولكن اشتد عليه المرض عقب اغتيال النقراشي .

ولقد رأينا أن نتعرض كذلك بشيء من الإسهاب إلى أحدى استقالات النقراشي العديدة التي يشير إليها النحاس في خطابه , حيث إنها تتصل بموضوع حيوي بالنسبة لمن يعمل – مثلنا – بحق التعليم , وتنيب لنا أن موضوع الاستقالة شديد التعقيد , على الرغم من التبسيط الذي عرضه به النحاس بعد أن قدم له بكلمات توح باستهانته بسبب الاستقالة : " لعلها أغرب استقالاته وادعاها للعجب " فيحكى بعد هذه الديباجة أن النقراشي .

اعترض بشدة على تقرير ملحق الطلبة في المواد التي يرسبون فيها بعد أن اعترض على تخفي المجموع إلى 50 في المائة , وكانت حجته أو حججه في ذلك , أن مستوى التعليم قد انخفض وسينخفض وأن الطلبة في الوقت الحاضر ليسوا مثل زملائهم في الماضي , فهم غير جديرين بعطف الوزارة أو تساهلها معهم .

( الأهرام في 18-9-1937 ) . ويتهم النحاس النقراشي بالتشبث برأيه وهو " وزير غير مختص " في مواجهة الجهة المختصة " وزير المعارف ورجال المعارف " نسى النحاس أو تناسى أن النقراشي – وإن كان وقتئذ وزير للمواصلات – إلا أنه في المقام الأول من رجال التعليم , وأنه عندما أوفد إلى نوتنجهام قد عكف على دراسة التربية , على الرغم من أنه كان قد أوفد أساسا لدراسة العلوم , فالنقراشي المعلم والسياسي يرفض تسييس التعليم , ويبدو أن خطورة هذه المسألة لم تفت سلطات الاحتلال , حيث ينوه السير لامبسون في تلغراف بعث به إلى سير إيدن بتاريخ 27 يوليو 1937 بالأسلوب غير الحاسم الذي عالج به النحاس موضوع " امتحان الطلبة " كما نقل إلى نفس المراسل في تلغراف آخر مؤرخ بتاريخ 28 يوليو رأى أحمد ماهر حول أما فيما يخص الطلبة , فلقد كان الراى الذي عبر عنه الدكتور أحمد ماهر هو أن النحاس قد فوت فرصة سانحة لاتخاذ موقف إزاء مسألة الامتحان وأن هذا الضعف سوف يفضى إلى مزيد من الاضطرابات ..

ثم يتناول فى موضع آخر من التلغراف الأول عوامل الفوضى التي تهدد أمن واستقرار مصر , أول هذه العوامل في رأيه هو التخبط الزى يعانى منه نظام التعليم في مصر , حيث يتسرب خارج نظام التعليم المئات من الشباب , ينخرطون في العمل السياسة .

ولا شك في أن من يتابع الصحف الصادرة في ذلك الوقت يستطيع أن يتبين صدق هذه الملاحظة , من اجتماعات للطلبة في النادي السعدي مواكبة للمتغيرات فئ الساحة السياسية , أو انتظام في صفوف القمصان الزرقاء أو الخضراء أو فئ المعسكرات الكشفية للإخوان المسلمين أو مظاهرات منددة بالاحتلال .

كل هذا الزخم إن دل على حماسة الشباب آنذاك وعلى وعيهم السياسي وسعيهم للمساهمة بطريقة أو بأخرى في تحرير الوطن أو في التأثير على مجريات الأمور , إلا أنه لابد وأنه قد جاء على حساب الدراسة والتحصيل فا ظل الظروف المضطربة التحى تشهدها البلاد فا هذه الفترة , ولا شك أن أي تغيير يطرأ على نظام التعليم فئ هذه الظروف ويسير فا اتجاه التيسير لابد وأن يكون على حساب الجودة , ولا شك أيضا وأنه لابد وأن يقابل بالترحيب من جانب الطلبة الذين لا تعنيهم كثيرا وهم في هذه المرحلة من عمرهم , عاقبة مثل هذه القرارات والإجراءات .

وتشهد مضابط مجلس النواب أن للنقراشي باعا طويلا في هذه المسألة الحيوية التي تتصل بما نطلق عليه اليوم " جودة التعليم " وتبنى مداخلة النقراشي الطويلة في جلسة البرلمان بتاريخ 4 سبتمبر 1926 وهو المشهود له بالاقتضاب الشديد في الكلام , ببالغ اهتمامه بمسألة ملحق طلبة مدرسة الهندسة الملكية , التي أثيرت فئ هذه الجلسة , وهى القضية التي انبرى مكرم عبيد للدفاع عنها بحماس شديد نافيا في ذات الوقت أنه إنما يسعى من وراء موقفه هذا إلى تصفيق الطلبة ويتضح من إجابات النقراشي على تساؤلات النحاس في هذه الجلسة أنه ملم تماما بأبعاد المسالة , ويعرض بإسهاب من غير إطالة الموضوع برمته , ثم يبسط أسباب اعتراضه على الملحق المقترح , حيث يقول إن التساهل في إعطاء الدرجات هو " الطامة الكبرى " ويتحدث عن فلسفة التعليم والامتحان من وجهة نظره فيقول :

" .. الواجب أن نحض الراسبين على انتهاز فرصة إعادة الدراسة , لينالوا أعلى الدرجات وأن لا يسعوا وراء الملاحق التي تدعوهم بطبيعة الحال إلى الاكتفاء بدرجات النهايات الصغرى , وفى هذا إضعاف لنشاطهم وهممهم ورجولتهم , لأن هؤلاء الشبان سيكونون في يوم من الأيام أصحاب مسئوليات هامة جدا , وهذه الملاحق تضعف فيهم الكفاح والمنافسة , والواجب علينا أن ندعهم يحصلون على أكبر قسط من العلوم لا أن نكتفي بإعطائهم فرصة المرور في الامتحانات وحسب "

أ- مفهوم الزعامة الجديد:

إذا ما كان النحاس يرى أن هناك أسباب متعددة وراء خروج النقراشي عن الوفد , فالنقراشي يحمل أسباب استيائه في عنصر واحد , هو مفهوم الزعامة الجديد , وهو في رأيه يفسر استبعاد الوزراء الذين كانت لهم مواقف مناوئة في الوزارة السابقة , فالعلل التي تعلل بها النحاس لإقصاء بعض العناصر من أول وزارة شكلت بعد تسلم الملك فاروق مهامه الدستورية – وإن كان الغرض منها فا ظاهره هو تأليف وزارة منسجمة – إنما ينذر في واقع الأمر باتجاه خطير في سياسة الوفد , وهو أنه لا صوت يعلو فوق صوت الزعيم ولقد عضد هذا الاتجاه الجديد بالقوة تعضيدا عن طريق فرق القمصان الزرق التي تهوى عصاهم على رؤوس من يخالفون الرئيس وإذا تعددت استقالات النقراشي عن الوفد الواحدة تلو الأخرى إلا أنها من وجهة نظر النقراشي لا تتجزأ في جوهرها , فلقد ختم بيانه الشهير بهذه الكلمات :

" إن ذخيرة البلاد لحاضرها ومستقبلها و رجالها ذوو الشجاعة والرأي الناضج , وإن ما يراد اليوم هو فرض جو على البلاد لا يسمع فيه صوت يخالف صوت الزعيم , ولا رأى بغير مشيئته , ومثل هذا الجو لا يعيش فيه إلا الإمعات ولا تترعرع فيه المواهب الصالحة .. " ( الأهرام في 8-9-1937)

والواقع أن سعد زغلول هو الذي أرسى مفهوم الزعامة الجديد في أول خلاف نشب بينه وبين أعضاء الوفد حول الموقف الذي ينبغي الالتزام به إزاء مشروع ملنر والذي خرج على أثره المعتدلون من الوفد , فلقد تقدم الغالبية من الوفد باقتراح إلى سعد زغلول أن تتولى المفاوضة مع الانجليز " وزارة الثقة " على رأسها عدلي يكن باشا , رئيس الوزراء في ذلك الوقت وحليف سعد الأسبق , لما حظي به من تقدير واحترام من جانب المصريين والبريطانيين على حد سواء , وقد رفض سعد زغلول التوقيع على البيان معلنا " المسألة ليست مسالة أغلبية وإنما مسألة توكيل " ويبدو أن النقراشي قد قبل هذا المبدأ , وأنه قد تشيع لسعد زغلول تشيعا مطلقا , الأمر الذي يمكن أن نلمسه من خلال شهادة أحمد أمين كما نقلها ابنه حسين أحمد أمين في مقال بجريدة الحياة , ففي سياق حديثه عن محاولة النقراشي ربط والده بالحزب السعدي , قال إنه أوفد إليه إبراهيم عبد الهادي باشا لمحاولة إقناعه بقبول رئاسة تحرير صحيفة الحزب الجديدة " الأساس " إلا أن أحمد أمين رفض العرض رغم المرتب المغرى , لعدة أسباب ننقل منها تلك التحى تتصل بقضيتنا حيث يقول :

" ... والسبب الثاني أن مزاجا مزاج علمي لا سياسي , ولهذا كنت أختلف عن كثير من زملائي السياسيين كمحمود فهما النقراشي وصبري أبوعلم فهم كانوا يؤمنون بسعد زغلول كل الإيمان و ويعتقدون صحة كل ما ذهب إليه وارتآه , ويؤولون ما يصدر عنه من خطأ ويتلمسون الحجج لتبريره , ولم أكن على هذا المذهب .. "

كما يقول أحد التقارير التي استعانت بها السفارة البريطانية عندما تولى النقراشي رئاسة الوزارة " ويصل إعجابه بسعد زغلول باشا إلى درجة أسطورية "

وإذا كانت شخصية زعيم ثورة 1919 وهيبته يبرزان هذا التطرف في التشيع إلى جانب شعور العرفان الذي ظل النقراشي يدين به له كما أشرنا من قبل , وكذلك فارق السن الذي لابد وأنه لعب دوره في مجتمع يحترم فيه السن الأكبر , إلا أن النقراشي لم يكن على استعداد لأن يمنح النحاس هذه الثقة الغالية , لما بدا له من مآخذ في سياسته , وفى منحاه كما يبدو من رواية مصطفى أمين التي ينقلها لنا محسن محمد :

عين توفيق نسيك باشا عام 1935 أبناء شقيقة النحاس من موظفين في البرلمان , والبرلمان لا يتقيد باللوائح المالية للدولة , ومن ثم يستطيع منح غير المؤهلين مرتبات عالية , ورأت قرينة النحاس تعيين أشقائها وأقاربها أيضا .

ومن البرلمان انتقلت الاستثناءات لوظائف الدولة .

ومن أشقاء قرينة النحاس إلى أقارب زوجات الوزراء .

واحتج محمود فهمي النقراشي داخل مجلس الوزراء فقال النحاس  :

إن سعد زغلول أعطى استثناءات للوفديين وأراد تعيين أقاربه , وقال إنه كان يتمنى أن تكون الحكومة كلها " زغلولية " .

رد النقراشي :

سعد زغلول أراد تعويض ثوار عام 1919 , الذين سجنوا والذين حرموا من التعليم , أو منعوا من استكمال دراستهم بسبب الاعتقالات والمحاكمات , أما تعيين الوزراء وأقارب زوجات الوزراء فلا أوافق عليه .

وجدير بالذكر أن الدكتور عبد العليم خلاف قد أورد الواقعة بحذافيرها , في سياق حديثه عن سياسة الاستثناءات التي انتهجها الوفد , غير أنه نقل عن كتاب عبد الرحمن الرافعي في أعقاب الثورة المصرية هذه المقولة المنسوبة إلى سعد زغلول :

" إني لآسف كل الأسف لأن أقاربا غير أكفاء , وإلا لكنت عينت منهم في كل مكان , ولكان عندنا حينئذ إدارة زغلولية بكل معنى الكلمة اسما ومعنى ودما , وإني عازم عند تعادل الكفايات والمقدرة أن أوثر دائما قريبا لي و لأنا حتما أكبر ثقة به لإنفاذ سياستي والعمل في الإدارة حسب آرائي " .

ونرى النقراشي في الخطبة التي ألقاها في الإسكندرية يبسط مفهومه للمحسوبية وأبعادها الخطيرة : " ضرر المحسوبية لا يقتصر على حرمان المستحق , بل هو اشد خطورة من ذلك , لأن فيها قتل الكفاية في الأكفاء , وهذا هو الخطر الشديد من المحسوبية لأن البلاد ترقى برجالها الأكفاء , والحكم الصالح هو الذي يعطى الفرصة لأبناء الوطن لتولى الأعمال ذات المسئوليات الجسام , وبمثل هذا تظهر الكفاءات وتبرز الشخصيات "

ويتضح على كل حال من الروايات السابقة إحجام النقراشي عن السير على درب زعيم الوفد الجديد .

وإذا كان سعد زغلول هو الذي ابتدع مفهوم " التوكيل " الزى بنيت على أساسه نظرية " الزعامة المقدسة " فإن مكرم عبيد كان أكبر المروجين لها , المدافعين عنها :" لقد كنا نحن أعضاء الوفد , مصطفى , وماهر , والنقراشي , وأنا , وغيرنا فا طليعة العاملين على أن نبنى الأمة موحدة فا زعيم واحد هو سعد , فلما جاور سعد ربه اتفقت كلمتنا وأقسمنا جهد أيماننا على أن لا يكون للأمة زعيم غير مصطفى , وقد كنت وزملائي متفقين على أننا إذا اختلفنا يوما مع النحاس ولم نجد إلى التفاهم سبيلا , فلن يعرف أحد من هذا الخلاف شيئا بل نقبع في بيوتنا وندعو الله له بالنجاح والتوفيق في كل ما يعمله وفى كل ما يبذله في سبيل البلاد " ( خطبة مكرم عبيد بميدان المحطة بالإسكندرية في 20-8-1937) .

ولقد حرص كل من أحمد ماهر والنقراشي كل الحرص على مقاومة بريق الزعامة عقب خروجهما من الوفد ,والتفاف أنصارهما خلفهما , وتأسيس الهيئة السعدية , حيث رفض أحمد ماهر بشدة النزول على رغبة بعض الأعضاء السعديين في إسناد الرئاسة إليه مدى الحياة وأصر على أن تتم عملية انتخاب الرئيس كل عام , إلا أن النقراشي اقترح أن تتم كل ثلاث سنوات , تمشيا مع الأعراف الحزبية الدستورية في البلاد الأوربية .

ومن المعروف عنه أن غاية ما كان يصبو إليه هو اعتزال الحياة السياسية عقب بلوغه الستين , وهو ما أفصح عنه أكثر من مرة لأسرته وللصحف , وهذا هو ما يشهد به أحد التقارير التي وردت إلى السفارة البريطانية عندما أسندت إليه رئاسة الوزارة لأول مرة " .. لم يجل بخاطره يوما أن يصبح رئيسا للوزراء , وقرر التقاعد عن العمل السياسي عندما يبلغ الستين ويبرر النقراشي تراجعه عن التقاعد بأنه تلقى تشجيعا معنويا كبيرا من فاروق عن طريق تأكيد صاحب الجلالة بأنه يرى في النقراشي حارسا للمثاليات المصرية "

ب- مسألة القمصان الزرقاء :

ولهذه المسألة اتصال وثيق بالقضية الأولى كما أسلفنا يقول الدكتور عبد العليم خلاف :" .. اختار النقراشي قضيتين هامتين لتدور حولهما المعركة بينه وبين النحاس هما قضية الزعامة المقدسة وقضية القمصان الزرقاء .

وكان اختيار النقراشي لهاتين القضيتين اختيارا موفقا , لأنهما تتعلقان بحرية الرأي , وبالديمقراطية عماد الوفد وأساسا شعبيته , ومن ثم وجد النقراشي لآرائه آذانا صاغية من أنصار الوفد الذين لا يكتمون تبرمهم من مفهوم الزعامة الجديدة ووجوب قداستها وطاعتها , لما فيها من معنى الخنوع والاستسلام لكل ما يراه الزعيم خطأ أو صوابا , مما يتنافى مع النظم الديمقراطية التي قام على أساسها الحزب الكبير , وكانت أحد مصادر شعبيته "

من هم أصحاب القمصان الزرقاء ؟

لقد أفرد لهم الدكتور يونان لبيب دراسة تحت عنوان " أصحاب القمصان الملونة " هي من المراجع الأساسية امن يتعرضون لهذا الموضوع , نستدل من عنوان الدراسة على وجود أكثر من تشكيل واحد لهذا النوع من الفرق , وسوف نعتمد على الدراسة التي نشرها مؤرخنا فا سلسلة " الأهرام ديوان الحياة العصرية " في 16 يونيو 2055 والتي أرادها استكمالا للدراسة الأولى حول نفس الموضوع التي كان قد نشرها بالمجلة التاريخية المصرية عام 1974 وكذلك على ما ذكره كل من الدكتور عبد العليم خلاف والدكتور عبد العظيم رمضان .

ولقد ظهرت هذه الفرق بين عامي 1933 و 1937 , أما التاريخ الأول ( منتصف شهر يوليو ) فهو يرتبط بمقاومة استبداد وزارة إسماعيل صدقي , وقد توقف نشاطها بسقوط هذه الوزرة ثم عاد إلى النشاط مع ظهور فرق القمصان الخضراء التابعة لجمعية مصر الفتاة , وتوافق ظهورها مع " التغيرات السياسية العالمية " كما يقول الدكتور يونان لبيب , فنجاح أصحاب القمصان السوداء الذين زحفوا على روما عام 1922 في تمكين الحزب الفاشي من الاستيلاء على السلطة في العشرينات من القرن الماضي , ثم نجاح تنظيمات الشباب النازي التي مهدت الطريق إلى السلطة كان له بى شك تأثيره على الشباب المصري الذي نفذ صبره والمتأجج حماسة حيث أغراه بفكرة أن الخروج من محنة الوطن إنما يتحقق بقوة السواعد وبأنهم يمكن أن يكونوا أداة ضغط في يد الحزب الزى ينتمون له .

" إن منشأ الفكرة قال بلال أفندي أحداث نوفمبر 1935 التحى حفلت بالمظاهر الشبابية المطالبة بالدستور , حيث كانت حركات الطلاب لا تختلف كثيرا عن الحركات النظامية , فقد كنا نسير فئ صفوف تملأ الشوارع على اتساعها , ويرأس كل صف ضابط , فلم تنته الثورة حتى تمخضت عن ذلك القميص الأزرق يرتديه الطالب والعامل " .

عن المتطوعين بهذه الفرق , قال قائدها إن لبس القميص الأزرق رمز للوحدة والمساواة بين الشباب غنيا كان أو فقيرا , كبيرا أو صغيرا , متعلما أو غير متعلم .

ويبدو أن تنظيمات الشباب الوفدية قد حلت محل جهازه السري بعد تفتت الجبهة الداخلية , حيث إن أول فرقتين للشباب الوفدي اللتين ألفهما أحمد بلال وكان طالبا بكلية الطب , قد أطلق عليهما اسم فرقة عبد الكريم الجراحي وفرقة طه عفيفا , وهما كما يقول الدكتور عبد العظيم رمضان , اسما الشهيدين اللذين لقيا حتفهما في أحداث ثورة 1919 .

إلا أنه قد تبين فور المشادات العنيفة التي وقعت بين فرق القمصان الزرقاء والخضراء أن هذه التنظيمات ما هي إلا أداة يضرب بها كل حزب خصومه , ولقد أورد حسين باشا هيكل في الجزء الثاني من مذكراته حادث الاعتداء على الجريدة البلاغ " التي انقلبت تعارض الحكومة بعد أن كانت تؤيدها , فجعلت تنشر من أنباء الحكم المستقاة من مصادر صحيحة ما يزعج , وجعل الأستاذ عبد القادر حمزة يعلق في مقالاته على ما يحدث تعليقات تظهر مجاوزته أحكام القانون والدستور , فجاءته مظاهرة حطمت جريدة البلاغ وحاولت تحطيم مطبعتها , وأنزلت بها من الخسائر الشيء الجسيم " .

كما روى حادث الاعتداء على دار محمد باشا محمود , وما كان من إبطاء الحكومة المتعمد فئ التدخل .

ولقد تطور الأمر مع إرهاصات الانقسام الذي بين صفوف الوفد .

وقع أول صدام بين أنصار النحاس وأنصار النقراشي بالإسكندرية 20-8-1937 , ويبدو أن الشغب الزى كانت تتسبب فيه هذه الفرق كان منذ البداية محل استهجان من الجماهير الوفدية نفسها , كما نستدله من الاستنكار الزى نشرته الأهرام في 8 سبتمبر من نفس العام , إذ نقل هذا العدد خبر اجتماع بالمنيرة الشرقية أسفر عن " برقية تهنئة لجلالة الملك والثقة بصاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا الزعيم الأمين , واستنكار الحادث الذي وقع بمعسكر الشبان ذوى القمصان الزرقاء .. "

وتلا حادث الاشتباك الأول الصدام في السرادق الذي أقيم لإحياء ذكرى سعد زغلول العاشرة , ويشمل هذا الاحتفال زيارة ضريح سعد في بيت الأمة , ثم التوجه إلى السرادق المنصوب إلى جواره , وفى مساء ذلك اليوم عاد النقراشي إلى السرادق .

فهتفت الجماهير بحياته طويلا وصفقوا له بضع دقائق و ثم وصل النحاس بعده ببضع دقائق فتعالى الهتاف بحياة الزعيم , وتجاوبت أصداء التصفيق في جنيات السرادق ولما رأى الزعيم سعادة النقراشي باشا اتجه نحوه وصافحه فاشتد دوى التصفيق و وكانت الحالة في هذه اللحظة مبعث ارتياح تام "

إلا أن الحالة تطورت عندما اختلفت الهتافات , وشوهد الجيار واقفا يهتف بحياة النقراشي , فهاجمه خليط من الجمهور وذوى القمصان الزرقاء .

نضيف إلى تقرير الأهرام في عددها الصادر 24-8-1937 رواية شاهد عيان , هو خالد محمد خالد , الذي كان جالسا على مقربة من المنصة مما أتاح له أن ينقل لنا المشهد الآتي : حدث انفلات في هذا المجتمع المتآلف أثناء خطبة مكرم عبيد التي شجب فيها موقف النقراشي بكلمات نارية , وما إن أتى هذا الموضع من خطبته :

" إن مكرم يصوغ الكلمات باقتدار ومهارة .. إذن – إياك أعنى , اسمعي يا جارة " ونترك خالد محمد خالد ( عن " قصة حياة " لخالد محمد خالد – الحلقة الرابعة عشرة – المصور ) يسرد علينا الأحداث بأسلوبه الأخاذ وكأنما كانت هذه كلمة السر المتفق عليها .

فما هو إلا أن انفرجت عنها شفتاه حتى تعالت الصياح .

فلتستقر يا جارة .. الخروج على الوفد خيانة .. يسقط الخارجون والتحمت بهذه الكلمات المتشنجة هتافات أخرى .. اكتفت بترديد اسم النقراشي صائحة : النقراشي .. النقراشي ..

وجابهتها الأعداد الهائلة صائحة :

النحاس .. النحاس

ورأيت الدكتور حلمي الجيار- رحمه الله – وكان من أنصار النقراشي – يقف صائحا في مكرم عبيد : يعجبك كده يا باشا .. الفتنة نائمة ,لعن الله من أيقظها .. فيبتسم مكرم عبيد ابتسامته الساخرة والماكرة

لكن حلمي الجيار يسترسل في صياحه : جارة إيه , وهباب إيه ؟؟ كن رسول سلام , لا مثير خصام , وعادت الصيحات المجنونة :

النحاس .. النحاس

وأخرى : النقراشي .. النقراشي ..

وقف النحاس منفعلا , محاولا وضع حد للفوضى التي سادت المكان , إلا أن " كلماته الرشيدة " ضاعت سدى .

ويستطرد خالد محمد خالد :

" وهرولت نحو باب السرادق , لأشهد بعيني مصرع النقراشي ( هكذا فى الأصل ) فما كان من ذلك بد في هذه الهيجاء .. وإذا النقراشي يبزغ من بين الزحام .. أقسم بالله إني أصف هذه اللحظات وكأنني أراها رأى العين .

وكل الذين كانوا في طريقه إلى باب السرادق أزاحوا مقاعدهم من طريقه .. وسار حاملا نصيره في خطوات ثابتة , رافعا رأسه , وعزمه جميع .. وروحه شامخة .

أأقول : كأنه أسد ؟ لا .. فقد كان في أعين من يرونه ساعتئذ أعظم وأقوى وأرسخ من الأسد .

وعند باب السرادق أمر من ينادى على عربته .. وحين وصلت أنام في مقعدها الخلفي حامى الجيار , وجلس هو بجوار السائق .. وانطلق به إلى المستشفى " .

ولذلك كان من الطبيعي أن يدلى النقراشي في 26-8-1937 بتصريح لمندوب شركة رويتر يشجب فيه أصحاب القمصان الزرقاء .

ويقر الدكتور عبد العظيم رمضان أنه في إطار الصدام بين زعيم الوفد والنقراشي كانت قضية القمصان الزرقاء أضعف نقطة في دفاع حكومة الوفد .

إلا أنه يبدو أن بيان النقراشي الذي ذكر فيه أنه قاوم فرق القمصان الزرقاء منذ نشأتها , هو الذي فتح عليه أبواب جهنم , حيث إنه كان في الواقع قد ساهم من قبل في تنظيم هذه الفرق , لذلك عرض نفسه لهجوم عنيف من قبل خصومه الذين وجدوا الفرصة سانحة لينالوا منه متعللين بتناقضه الواضح .. يقول الدكتور عبد العليم خلاف :

" يبدو أن تفسير هذا التناقض يرتبط بالتغيير الذي طرأ على الفرق , فبعد أن كان من مهامها العمل على تعويد شباب الوفد على النظام والطاعة والإقدام وإنماء الروح الرياضية فيهم وحمايتهم من الوقوع تحت تأثير الأحزاب الأخرى , فضلا عن تأكيد التضامن الداخلي للوفد ودعم القواعد التي تقوم عليها لجانه المختلفة , لم تلبث أن تغيرت هذه المهام وتحولت عن مقصدها السليم , فأصبحت هذه الفرق تمثل أداة سياسية لإرهاب خصوم الوفد السياسيين , وأخذت تتسلح بالعصي والخناجر , وتعتدي على اجتماعات وأشخاص وصحف المعارضين , وقد استشرى ضررها بعد أن شايعها عدد كبير من الدهماء [ .... ]

ولعل هذا التغيير الذي بدا على فرق القمصان الزرقاء , هو الذي حدا بالنقراشي لأن يغير من موقفه تجاه هذه الفرق , فبعد أن كان مؤيدا لها , صار من أشد المعترضين عليها وقد طالب بحلها وحل مثيلاتها من ذوي القمصان الخضراء ... "

نضيف إلى ذلك إعلاءه لقيمة النظام والانضباط , الذي لعله لعب دوره في افتتانه بمثل هذه التشكيلات , التي كانت شائعة في ذلك العصر .

إلا أن الواقع أنه انزلق إلى زلة لسان قاده لها انفعاله الشديد , واستياؤه البالغ من الفوضى التي أشاعتها مثل هذه الفرق . والانفعال له ما يبرره وحادث الاعتداء على نصيره حلمي الجيار الذي وقع قبل ذلك ببضعة أيام ما زال حاضرا بالذاكرة .

فلعلنا يمكن أن نحاسبه على ما قرره في سياق إدانته لممارسات القمصان الزرقاء بأنه قاومها منذ نشأتها , أما التناقض الذي حوسب من أجله حسابا عسيرا , فهو تغير في الموقف يبرره , بل يقتضيه خروج هذه الفرق عن الغرض الذي أنشئت من أجله وهو يحسب له لا عليه , فهو إنما يدل على ضمير حي يراجع مواقفه على ضوء المتغيرات .

ويمكن أن نقارن هذا الموقف مع موقفه من الإخوان المسلمين , فلقد اتهمت الحكومة التي كان يرأسها من جانب خصومها , بأنها انقلبت فجأة على الإخوان المسلمين بعد أن كانت قد بسطت عليهم حمايتها , وسوف نناقش هذه النقطة بإسهاب في حينها .

ج – مشروع توليد الكهرباء من خزان أسوان

ونرى في هذا المجال أن نعتمد بشكل أساسي على ما ورد بيان محمود غالب المنشور في الأهرام 12 / 8 / 1937 , والمدعم بالتواريخ ؛ لننقل في تسلسلها الزمني الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية , من أجل أن يري هذا المشروع النور , وذلك بعد استبعاد رؤيته الخاصة , وتفسيره لبعض التصرفات ( أي تدخله في سرد الوقائع ) .

بدأ التفكير في توليد الكهرباء من مساقط المياه بخزان أسوان يتخذ شكلا عمليا , بعد التعلية الثانية للسد إلى سنة 1912 ؛ وبعد أحداث الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى تعطيل التنفيذ , كانت أول محاولة جادة في هذا الاتجاه المشروع الذي تقدم به الدكتور عبد العزيز أحمد بك مدير مصلحة الميكانيكا والكهرباء , فاعتمدته الحكومة سنة 1932 , وأعلنته في الجريدة الرسمية بتاريخ 14 نوفمبر 1932 للمناقصة الدولية , إلا أنه أوقف لأسباب " خفية " على حد قول محمود غالب , تقدمت على أثر ذلك خمس شركات بمشروعاتها , فقرر مجلس الوزراء في جلسته بتاريخ 13 فبراير سنة 1935 تشكيل لجنة لبحثها برياسة وزير المالية أحمد عبد الوهاب باشا , بيد أن هذه اللجنة لم تشتمل على أخصائي واحد في الميكانيكا والكهرباء , ثم قرر مجلس الوزراء بتاريخ 29 مايو سنة 1935 الترخيص للجنة المذكورة , بالمفاوضة مع أصحاب الطلبات حسب ترتيبها الخ 00 وكان التفكير قد اتجه إلى أن يقرن توليد الكهرباء من السد بصناعة السماد ؛ لكن اللجنة لم تفاوض مع سوى الشركة الكهربائية الإنجليزية وحدها على الرغم من أن ثمن طن السماد في مشروعها أعلى من ثمنه في مشروع شركة أخرى تقدمت به في المناقصة 0 وبعد أن تمكن عبد العزيز أحمد بك من إقناع نسيم باشا ثم ماهر باشا بإيقاف مشروع الشركة الإنجليزية , أحيل على المعاش بقرار من مجلس الوزراء , وفي سبتمبر 1936 استعرضت اللجنة المالية بمجلس الوزراء هذا المشروع في إطار البحث في ميزانية وزارة الأشغال لسنة 36- 37 وقارنت مشروع الشركة بمشروع عبد العزيز أحمد بك ؛ ففضلت الأخير ووافقها مجلس النواب بالإجماع , إلا أن وزيري المالية والأشغال عاودا التفاوض مع الشركة 0 وفي 17 مارس سنة 1937 ألقى وزير المالية بيان بمجلس النواب عن ميزانية 37 – 38 ضمنه كلمة عن مشروع اعترف فيها بأن البحث لم يتم فيها بعد , ووعد بعرضه على المجلس الاقتصادي لأخذ رأيه فيه 0 وبعد أن تبين لمحمود غالب من خلال المذكرة المقدمة من عبد العزيز بك أحمد أنه على خلاف الحال مع مشروع الشركة الإنجليزية فإنه ليس في مشروعه ما يحول دون طرحه بأجمعه في المناقصة العامة ,أطلع زملاءه – أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي ومحمد صفوت وعلي فهمي

على ذلك , فتمسكوا جميعا بألا يبيت المجلس في المشروع قبل استقدام خبراء عالميين ( لا خبيرا إنجليزيا واحدا كما جاء بمذكرة وزيري المالية والأشغال ) ليستشيرهم فيه وفى مشروع عبد العزيز أحمد بك وغيرهما .

وجدير بالذكر أن محمد محمود باشا زعيم المعارضة في مجلس النواب قد أثار هذه المسألة فئ كتاب دفع به إلى رئيس المجلس , طالبا أن يعرض مشروع استنباط الكهرباء في مناقصة عالمية .

إلا أن وزيري المالية والأشغال أصرا على ضرورة الموافقة على مشروع الشركة قبل السفر إلى مونترو لحضور مؤتمر إلغاء الامتيازات الأجنبية وتدخل رئيس الوزراء لصالحهما مما كان له أثره في فوزهما بأغلبية الأصوات فهدد محمود غالب وزملاؤه بالاستقالة .

وتدخل حينئذ أحمد ماهر للتقريب بين وجهات النظر وأثمر مسعاه عن اتفاق على إرسال خطاب إلى الشركة يكون أساسه عدم الارتباط معها قبل استشارة الخبراء العالميين وقبل تصديق البرلمان . ولما كان مكرم عبيد يريد استعجال المجلس للبت في الموضوع قبل السفر إلى مونترو , رأى المجلس ضرورة التأني من أجل استشارة خبراء عالميين متخصصين , حيث إنه لم يضم بينه إخصائى كهرباء أو ميكانيكا أو كيمياء ولذلك اكتفى بالتالي بالنظر في النواحي المالية للمشروع .

فتخطى مكرم عبيد المجلس الاقتصادي وتقدم بالمشروع إلى مجلس الوزراء مباشرة قبل ميعاد السفر إلى مونترو بيومين .

وتفجر الخلاف مرة أخرى عندما أراد مكرم عبيد تعجل استصدار موافقة مجلس الوزراء على عرض المشروع على المجلس الاقتصاد .

وفى واقع الأمر فقد انتصر في النهاية الاتجاه الذي تبناه النقراشي , حيث إنه نتيجة لهذا الخلاف فقد ظل المشروع في ركود إلى أن قرر مجلس الوزراء في يونيو 1945 , فئ عهد وزارة النقراشي الأولى , الشروع في تنفيذه بعد طرحه فئ مناقصة دولية , وقد أسندت رئاسة اللجنة المكلفة بتنفيذه على عبد العزيز أحمد .

ولعله جدير بالذكر أنه في شهر يوليو من نفس العام رفع السفير البريطاني اللورد كيلرن خطابا إلى النقراشي يعبر فيه عن مدى حنقه على القرار الذي توصل إله مجلس الوزراء حيث يقول :

" بالإشارة إلى كتاب دولتكم المؤرخ 4 يونيو والمتضمن صورة من قرار مجلس الوزراء المصري بتاريخ 2 يونيو سنة 1945 في شأن مشروع كهربة خزان أسوان واستخراج السماد , أخذت علما بقرار الحكومة المصرية من أن هذا المشروع سينفذ عن طريق المناقصة العامة الدولية , إزاء هذا فإني شديد الأسف إذ إن الحكومة المصرية لم تقبل ما عرضته حكومتي من توريد الآلات اللازمة للمشروع , وضمان الأولوية لصناعتها وإنتاجها " .

ويحذر النقراشي من مغبة الأمر , حيث عن قبول مشروع البيوت الإنجليزية والموافقة عليه يمكن من المشروع في العمل فورا , لما يلقاه هذا المشروع من دعم من قبل الحكومة البريطانية , بينما لا يؤدى إحجام الحكومة المصرية عن إقراره – وفقا لكلام السفير البريطاني – سوى إلى إهدار في الوقت وإضاعة فرص العمل لآلاف من العمال المصريين .

ولا شك أن مبرر هذا الضيق الشديد هو شعور اللورد كيلرن بأن النقراشي إنما يحاول الإفلات من قبضة بريطانيا في مجال حيوي من مجالات الاقتصاد المصري .

ثم وافق مجلس الوزراء سنة 1947 , وفى عهد وزارة النقراشي الثانية , على انتداب ثلاثة خبراء عالميين أحدهم أمريكي , والثاني سويسري , والثالث سويدي للاشتراك فئ فحص العطاءات التحى قدمت , ثم وافق على تقريرهم الذي أوصى بإسناد المشروع لوزارة الأشغال .

وفى 19 مارس 1947 وضع الملك حجر الأساس في محطة توليد الكهرباء من خزان أسوان .

ولا شك أن موضوع مشروع سد أسوان , كما نستطيع أن نلمسه من العرض السابق موضوع شائك , شديد التعقيد , لأنه من ناحية امتد على فترة زمنية ليست بالقصيرة , وزارة توفيق نسيم , فوزارة علي ماهر , تليهما وزارة النحاس الثانية والثالثة , وهى فترة طرأت فيها متغيرات عديدة أثرت على مجريات الأمور , ولأن النزاع من ناحية أخرى تفرع إلى موضوعات قد تبدو هامشية , مثل عرض عضوية مجلس إدارة شركة قناة السويس على النقراشي , وموقفه من هذا العرض , إلا أنها كانت ذات أبعاد خطيرة بالإضافة إلى أنها تتصل بموضوعنا اتصالا مباشرا .

فموضوع سد أسوان له طابع فني واقتصادي لا يمكن البت فيه لغير المتخصصين , إلا أنه يتصل بنزاهة الحكم , ولذلك اختاره محمود غالب وزير الحقانية محورا أساسيا لخلافه مع قيادات الوفد .

ولقد سبق أن أشرنا إلى تشعب هذه القضية لذلك سوف يلاحظ القارئ الملم بملابسات هذه المناظرة , أننا قد أسقطنا بعض الجوانب الهامة منها , حيث نجد في بداية هذه المناوشة أن لكل حجة ما يقابلها من حجج على الجانب الآخر .

ولكوى نطلق حكما عادلا في هذه القضية , فقد كان يجب علينا سبر أغوار بعض النقاط التي وردت في البيانات المتبادلة , مثل طبيعة ومميزات مشروع عبد العزيز أحمد بك الذي ورد ذكره أكثر من مرة , ولذلك كان يؤيده وزير الحقانية , ويغلب كفته على كفة مشروع الشركة الانجليزية , وكذلك حقيقة موقف أحمد ماهر حيث يدعى مكرم عبيد أنه كان من المؤيدين لوزيري المالية والأشغال , بينما يقول محمود غالب في آخر بيان له إنه لم يوافق على مشروع الشركة الانجليزية إلا بعد أن أوحى مكرم عبيد إلى أعضاء اللجنة التي تشكلت برئاسته أنه قد تم الارتباط فعلا مع الشركة المذكورة , وأنه قد انتهى الأمر , فرأى أحمد ماهر أنه لا طائل من الاستمرار في المعارضة . وقد يكون من الواجب علينا – إحقاقا للحق – أن نتتبع القضية في وثائقها ولكننا خشينا أن نستدرج معنا القارئ في طريق وعر طويل ر يتصل بموضوعنا إلا اتصالا واهيا .

إلا أننا نأخذ على مؤرخ بحجم عبد العظيم رمضان أنه في تحيزه الواضح للوفد لا يتبنى فحسب وجهة نظر مكرم عبيد , وإنما يقتصر في عرضه لهذا الموضوع على الرؤية التي بسطها الأخير في بيانه الأول , رغم البيانات المتعاقبة المتبادلة بين مكرم عبيد ومحمود غالب , بل ويستخلص من هذا العرض ما يستخلصه مكرم عبيد بغير زيادة أو نقصان حيث نجده يخلص إلى النتيجة التالية :

" ومن هذا يتبين أن الخلاف داخل مجلس الوزراء كان حول عدد الخبراء فقط ( يقصد المكلفين بفحص مشروع سد أسوان من حيث سلامة نفسه ) , وكذلك تكاليف المشروع " .

وسوف نتبين أن القضية أكثر تعقيدا من ذلك , وأن مسرحها لم يكن مجلس الوزراء وحسب , كما أنه يسوق على لسان محمود غالب كلاما لم يرد في أي من بياناته , وإنما ورد في بيان من بيانات مكرم عبيد , فيقول : ومما نشره محمود غالب من المستندات والمكاتبات والمراسلات تتضح النقاط التالية :

إن الأدوار الأولى لمشروع توليد الكهرباء من سد أسوان لم تتم فى عهد الوزارة الوفدية , وإنما تمت في عهد وزارة نسيم باشا , عندما تقدمت خمس شركات بمشروعاتها , فقرر مجلس الوزراء بتاريخ 13 فبراير 1935 تشكيل لجنة فنية لفحصها , برئاسة وزير المالية أحمد عبد الوهاب باشا , وقرر بتاريخ 25 مايو 1935 الترخيص للحنة المذكورة بالمفاوضة مع أصحاب الطلبات المذكورة حسب ترتيبها , ثم فرض للجنة أن تقتصر على التفاوض مع الشركة الكهربائية البريطانية , ( التي كانت في أول الترتيب ) إذا وصلت إلى اتفاق معها .

بيد أنه بالرجوع للمرجع الذي يستشهد به الدكتور عبد العظيم رمضان , يتضح أن الحديث عن ضرورة اقتصار المفاوضة على شركة بعينها لم يرد على لسان محمود غالب , الذي يضيف بعد أن ذكر نصا قرار اللجنة " ولكن اللجنة لم تفاوض إلا الشركة الانجليزية وحدها " ومن البديهي أن يختلف المعنى تماما من نسق إلى آخر , ويتضح كذلك أن هناك أكثر من مسألة خلافية واحدة حول مشروع سد أسوان .

فمحمود غالب يصر أنه لم يكن ثمة ارتباط مسبق مع الشركة الانجليزية في عهد الوزارة النسيمية , خاصة أن القرارات التي توصلت إليها حكومة توفيق نسيم , كانت تتعلق بتوليد الكهرباء فقط , أما مشروع صنع السماد , فقد رأت اللجنة المختصة أن تقوم الحكومة ببحثه ودرسه وعرض نتيجة البحث على المجلس قبل أن ترتبط في تنفيذه بسياسة أو قرار معين .

وبدأت المساجلة الطويلة بين طرفي النزاع : محمود غالب ومكرم عبيد , ببيان للأول فجر فيه الخلاف الدفين بين أقطاب الوفد , ولقد أعقبه عدد من البيانات حول القضية إلى مناظرة يتابعها جمهور عريض من قراء الأهرام وجاء رد مكرم عبيد يعتب عليه إفشاء سر مداولات مجلس الوزراء , كذلك تدخله بين أفراد الهيئة الواحدة ( يقصد النحاس والنقراشي ) تدخلا من شأنه أن يزيد الخلاف الذي نشب بينهما اشتعالا , كما يعزو موقف محمود غالب إلى تضرره من إقصائه من منصبه بغية أن يصبغ مطالب محمود غالب بصبغة شخصية فيبدو في صورة من يريد أن ينتقم لنفسه .

وجاء في رد محمود غالب انه لم يكن في البيان الأول , إفشاء للأسرار حيث إن ما أذاعه ليس من أسرار الدولة السياسية التي قد يترتب على إذاعتها ضرر لها , بل هو خاص بمشروع اقتصادي ليس من الأمانة إخفاء أمره على الأمة , حتى تصبح أمام الأمر الواقع مع ما قد يكون من أخطار وأضرار .

ولعل أهم ما جاء في رد مكرم عبيد على البيان الثاني لمحمود غالب هو التذرع بموافقة أحمد ماهر على سياسة وزارة المالية الخاصة بالمشروع .

ولقد رأينا أن نقتصر على الملاحظات التي يستطيع أن يستخلصها كل من يقرأ البيانات المتبادلة بشيء من الاهتمام :

أ- إن مكرم عبيد يلجأ في بياناته إلى التجريح , فهو مثلا يتهم خصمه بأنه من المستورين , كما يتهمه بالكذب , أو إذا شئنا قلنا تخفيفا يتهمه بعدم الصدق وهو يعول كثيرا على أسلوبه الساخر اللاذع الذي ذاع صيته , فهو يسخر من محمود غالب , عندما يعاتبه على ما رماه به من الدس والتدخل فيما لا يعنيه , فيخبره بأن النقراشي زاره في منزله , وأنه وافق على كل ما جاء في بيانه ( أي محمود غالب ) فيقول :

" أما أنى أخجل لأنني لم أعرف ما دار بينك وبين النقراشي سرا , وأنه زارك في منزلك واطلع على بيانك ووافقك عليه , فسبحان علام الغيوب يا سيدي الباشا , وما ادعيت لنفسي يوما مقدرة روحية على استطلاع الخفايا , بل ولا مقدرة بوليسية من النوع المعروف عن شرلوك هولمز , حتى لأخجل أنى لم أنفذ ببصري أو بصيرتي إلى ما وراء جدران المنازل أو خافية الصدور "

كما يلجأ إلى الاختزال الذي يؤدى إلى تسطيح الأمور , ولعلنا نلاحظ أنه نفس النهج الذي انتهجه النحاس في هجومه على النقراشي , فتقرأ مثلا في صدر بيان مكرم عبيد :

" وقد قرأت رد غالب باشا فإذا به يستفتحه بالإشارة إلى ما تضمنه بياني من لغو وتهويش وبعد عن الأدب والصدق "

ولكن بالرجوع إلى النص نفسه لا نجد سوى " قرأت رد معالي مكرم باشا , وسأناقشه فقرة فقرة متخطيا ما فيه من لغو وتهويش "

ب- أما محمود غالب فنجد اهتمامه ينصب في المقام الأول على مقارعة الحجة بالحجة , وكذلك نجد أنه يؤثر لغة الإشارة فيما يخص المواضيع الشخصية البحتة , فهو يلمح إلى ما أومأ به النحاس , بما قد يترتب على إقصاء النقراشي من نتائج خطيرة , دون أن يفصح عن طبيعة هذا الإقصاء وقد اكتفى بالقول أن النقراشي قد أبدى له عدم رضاه عن هذا العرض , بينما نجد مكرم عبيد يخوض في هذا الموضوع بإسهاب , ولسوف نعرض لهذا الموضوع الذي يتصل أيضا اتصالا وثيقا بنزاهة الحكم في حينه , إلا أنه في آخر بيان له " الكلمة الحاسمة " يخرج عن نهجه ويلجأ هو الآخر إلى التجريح والسخرية :

" مسكين مكرم باشا , ولكن مصر مسكينة به وهى أولى منه بالشفقة والرحمة والرثاء " .

والواقع أن هذا النزاع كان أخطر وأكثر تعقيدا مما يوحى به تهوين مكرم عبيد من شأنه , ولقد امتدت المناظرة خلال الفترة من 11-26 أغسطس 1937 .

ولقد سبق أن قلنا إنه من الصعب على الباحث اليوم إطلاق الحكم فيه , حيث إن لكل حجة حجة تقارعها , بيد أنه تمخضت عن هذه المناظرة تساؤلات هي من الخطورة بمكان :

أولا : لماذا تم استبعاد مشروع عبد العزيز أحمد , رغم أنه ليس فيه ما يحول دون طرحه بأكمله في المناقصة العامة , في الوقت الذي يخرج فيه من مشروع الشركة الانجليزية جزء تبلغ نحو مليونين من الجنيهات , بدعوى تعذر المناقصة في هذا الجزء لأسباب فنية ؟

ثانيا لماذا : أحيل عبد العزيز أحمد إلى المعاش بقرار من مجلس الوزراء ؟ ولماذا تم تقديمه إلى المحكمة التأديبية العليا , التي حكمت ببراءته بإجماع الآراء ؟ ولماذا رغما عن ذلك ظل مقصى عن منصبه ؟ ولماذا استبعد عن اللجنة التي شكلت برئاسة وزير المالية ؟ خاصة وأن هذه اللجنة لم تضم أخصائيا واحدا في الميكانيكا أو الكهرباء ؟

ولعله من الواجب هنا التعريف بأحمد عبد العزيز بك الذرى كان عميدا لكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول سنة 1925 , ثم أصبح مدير مصلحة الميكانيكا والكهرباء مدة ثماني سنوات من 1930 إلى 1938 , ثم عمل بعد ذلك كمدير عام للقوى الكهربائية والمائية بوزارة الأشغال , أما علمه وكفاءته فيشهد يهما لجوء حكومة الثورة إلى خبرته بعد ذلك في مشروع السد العالي , ولقد جاء رأيه مخالفا لما أزمعت الحكومة اتخاذه من قرارات سياسية بشأنه , فاضطر الرجل أن يبحث لنفسه عن مأوى بعيدا عن سطوة الحاكم .

ثالثا : ما هو السبب الحقيقي الذي تنازلت الشركة الانجليزية من أجله عن مبلغ 167000 جنيه مصري ؟ يزعم مكرم عبيد , وفق ما ورد في رده على بيان محمود غالب الأول المنشور بجريدة الأهرام , أنه نحج في إقناع الشركة بالتنازل عن هذا المبلغ الذي هو عبارة عن الفرق في زيادة الأسعار بين الوقت الحالي والوقت الذي عقد فيه الاتفاق المبدئي في عهد وزارة نسيم باشا , ويرى وزير الحقانية الذي يرفض بإصرار فرضية الارتباط المسبق , أن الشركة لا يمكن أن تكون قد تنازلت عن هذا المبلغ الضخم إلا إذا كانت ستربح من الصفقة أضعافا مضاعفة .

رابعا : أثار محمود غالب تساؤلا عن علاقة وزير الأشغال عثمان محرم بالشركة :

" إما يكون الأحرى به أن يبتعد عن مواطن الشبهات خصوصا بعد أن شاعت الإشاعات بأنه مندوب هذه الشركة بمصر أو أنه كان مندوبها "؟

ونلاحظ هنا الحرص البالغ على انتقاء الألفاظ , فغالب باشا لا يصدر اتهاما إلا مغلفا بما يصونه من الجنوح , ثم يضيف :

" أما كان الأولى به وبزملائه أن يرفضوا المأدبة التي دعتهم إليها الشركة في أغسطس 1936 وهم يتفاوضون في المعاهدة كما علمت أخيرا من ثقة مطلع " ؟

خامسا : لماذا هذه العجلة التي أبداها وزير المالية والأشغال , يعضدها رئيس الوزراء للبت في المشروع قبل السفر إلى مونترو؟ يرى محمود غالب أنه لا يمكن التذرع للاستعجال بارتفاع الأسعار , لأنه إذا كان الارتفاع محتملا فإن نزول الأسعار محتمل أيضا .

ويضيف في موضع آخر من نفس البيان أنه علم مؤخرا أن هذا المبلغ ليس فرق أسعار , وإنما هو مقابل جزء من العملة استغنى عنه ( كذا ) ثم لماذا اتهام أصحاب الراى المعارض بأنهم إنما أرادوا أن يضعوهم في مأزق ويفوتوا عليهم – بل وعلى وطنهم – فرصة إلغاء الامتيازات ؟ وهو الأمر الذرى ر شك فيه استعداء الراى العام عليهم .

وجدير بالذكر أن ماهر والنقراشي قد نأيا بنفسيهما عن هذه المناظرة , إلا فيما نسب إليهما من أقوال , كما أنهما لم يتدخلا بشكل مباشر لتأييده أو تفنيده , فلقد قال محمود غالب إن ماهر والنقراشي قد اطلعا على بيانه الأول , وأنهما أقرا ما جاء فيه , كما قال إن النقراشي غير راض عن العرض الذي عرض عليه ( عضوية مجلس إدارة شركة قناة السويس ) وأنه لن يقبله ويرد مكرم عبيد بأم ماهر وافق على المشروع المقدم من الشركة الانجليزية , وبأن النقراشي موافق على مبدأ تعيينه عضوا في مجلس إدارة شركة قناة السويس , مما لا يتفق مع الموقف المعرض الذي اتخذه إزاء قرار مجلس الوزراء , إلا أن مكرم عبيد فضل الإيحاء بهذا المعنى بأسلوبه الساخر :

" .. ظننت – وسوء الظن إثم – أن النقراشي باشا إذا كان قد ارتضى أن يهاجم الرئيس وزملاءه في صدق خدمتهم للبلاد , وفى حرصهم على مصالحها فلعله قد يكون قد عدل عن قبول هذا العرض الجميل الزى عرضته عليه الوزارة , والزى يؤدى إلى ثروة قد تبلغ مئات الألوف من الجنيهات "

والهدف من هذا الإيحاء واضح وهو إظهار النقراشي في صورة الرجل غير الأمين , المتناقض مع نفسه , ونلاحظ مرة أخرى عدم تحرى الدقة في القول : فموقف النقراشي المؤيد لمحمود غالب الذي كان يعترض على مشروع الشركة الانجليزية – على النحو الذي أوضحناه من قبل – لم يكن معارضا لزعيم الوفد , وإنما لوزيري المالية والأشغال , وإقحام الرئيس هنا فيه استعداء له , كما أن الحديث عن المكاسب المادية لهذا المنصب يجعل الموضوع يبدو برمته كما لو كان صفقة .

والسؤال الذي يفرض نفسه بداهة في هذا السياق هو : لماذا هذا الحرص البالغ على تعيين النقراشي ؟ إذ يبدو أن مكرم عبيد قد تكبد مشقة كبيرة وسعى سعيا حثيثا في هذا الموضوع على النحو الذي يرويه هو بنفسه :

" .. كلفني الرئيس أن أعرض رسميا على جناب مندوب شركة القنال فا مصر تعيين النقراشي باشا عضوا في مجلس الإدارة فأخطرت جنابه تليفونيا بنية الحكومة في هذا الصدد , ثم تفضل جنابه فزارني في مكتبا في الإسكندرية , فكررن عليه م أخبرته به من قبل بصدد تعيين النقراشي باشا , وتكلمت معه طويلا في تسهيل هذا التعيين وتذليل ما يقوم في سبيله من عقبات , ثم حدث أن قرأت في بعض الصحف رواية نسبتها إلى النقراشي باشا من أنه أعلن زائريه بعدم قبوله التعيين , فانتهزت فرصة اجتماعي بالنقراشي باشا في حفلة شاي أقامها سمو الأمير الجليل عمر طوسون , تكريما للحسيب النسيب السيد عبد الرحمن المهدي , وأخطرته بالإجراءات التي اتخذتها مع مندوب الشركة تمهيدا لتعيينه , فشكرنا وتحدثنا معا فئ العمل في توفير الشرائط المالية التي تشترط من كل من يعين عضوا بمجلس الدارة فوعد بالعمل على تذليلها من جهته ووعدته كذلك بالعمل على تذليلها من جهتي "

ويزداد الأمر غرابة عندما يشير محمود غالب إشارة سريعة إلى عرض رفضه , ويبدو أنه نفس العرض الذي تلقاه النقراشي , حيث إنه ورد تلميحا – بنفس الأسلوب الذي عهدناه في بيانات وزير الحقانية – في سياق الحديث عنه :

" ألم يقل لك الرئيس أنى بعد أن حذرته من خروج النقراشي باشا قلت له : " أما أنا فأمري هين لأني حديث معكم ويمكنكم تعويضي بكثير غيري " – ألم يقل لك أنى رفضت ما عرضه على رفضا باتا قائلا إن ضميري لا يسمح لي بقبوله وأنى بحمد الله غير محتاج إليه ؟ "

وفى ختام الفصل فإننا نجمل الأسباب التي من أجلها قرر النقراشي عدم التعاون مع النحاس و التي أدت إلى إقالته من حزب الوفد , ولعل أول هذه الأسباب هو ما طرأ على النحاس من أعراض الزعامة المقدسة , والانفراد مع صفوته المختارة بالقرارات بمعزل عن رجال الحزب , والادعاء بأنه مفوض من قبل الشعب , ولا سلطان عليه إلا إجماع الأمة , وهو الادعاء الذي وجد صداه عن مكرم عبيد , وكذلك الخلاف على مشروع سد أسوان , وإصرار النقراشي على حل فرق القمصان الزرقاء , وهو أسلوب منقول عن النظم الديكتاتورية سواء في ألمانيا الهتلرية , أو في إيطاليا في عهد موسولنى , وقد لجأ الوفد إلى هذا التشكيل لضرب خصومه , وكذلك – كما يقول الدكتور يونان لبيب رزق – لمقاومة استقطاب الشباب داخل جماعة القمصان الخضراء التي أسستها جمعية مصر الفتاة آنذاك .

ومن هذه الأسباب أيضا الاختلاف في تركيب الزعيمين , ومدى تفكيرهم في كثير من أمور الدولة والحكم , وديمقراطية اتخاذ القرار وكذلك فإن النقراشي أدرك أن النحاس رجل يسهل احتواؤه والتأثير عليه .

ولعل أهم الوثائق التي تفصح عن الأسباب الحقيقية في انفصال ماهر والنقراشي عن الوفد هو البيان الذي تقدم به أحمد ماهر والنقراشي وحامد محمود إلى الأمة المصرية الكريمة وهو البيان الذي صدر عنهم بتاريخ 4 يناير 1938 , ونشر في كل من عددي الأهرام الصادرين في 5 يناير 1938 ( مرفق نص البيان )

كما يتبين لنا من خلال الوثائق البريطانية أن النحاس قد ابدي استعداده للتعاون مع الحكومة البريطانية على حساب ماهر والنقراشي , حيث يقول سير لامبسون في نفس الخطاب الذي أشرنا إليه من قبل " .. رئيس الوزراء يشعر أن استبقاء عناصر نشاز في وزارته بات يهدد سياسة التعاون الأساسية معنا .. " ويمكن ترجيح أن النقراشي قد استشعر هذا التواطؤ مع الانجليز , وخطط لنفسه الخروج على خليفة سعد , ويبدو أن هذا الشعور بخيبة الأمل إزاء ممارسات زعماء الوفد غداة وفاة سعد قد اعترى أكثر من واحد , فها هو محمود باشا غالب يقول في سياق أحد بياناته التي صاغها إيضاحا لموقفه من مشروع سد أسوان إن مكرم عبيد إنما أراد وضع البرلمان أمام الأمر الواقع , أي الارتباط بالشركة الانجليزية للكهرباء اعتمادا على تلك الثقة الغالية التي كانت عمياء , لأحد لها فغدت تفتح عينيها وتحدد مداها , وفق ما ورد في بيانه المنشور بالأهرام 22-8-1937 .

غير أن النقراشي لم يوغل في الخصومة على نحو ما فعل مكرم عبيد , عندما تمرد على زعامة النحاس , رافضا ظاهرة الاستثناءات التي كانت قد استشرت , وهو الوضع الذي انتهى بالقرار الخاص بفصل كل من مكرم عبيد وراغب حنا في عام 1942 .

فنجد مرة أخرى أن طبيعة المربى المعلم كانت دائما ما تحدو بالنقراشي إلى أن يضرب ارفع الأمثلة في سلوكه مع خصومه , حيث تروى لي ابنته أنها همت مرة بإبداء ملاحظة ساخرة عن النحاس في حضرته , ولابد وقد استشعرت ما بين أبيها وبينه من خصومة رغم حداثة سنها , إلا أنه أومأ إليها بإشارة منه أن ذلك مما لا يليق أن تفعله , فهو ملتزم في بيته بما كان ملتزم به أمام الآخرين .

ولا يفوتنا هنا الواقعة التحى رواها بتفاصيلها الكاتب خالد محمد خالد , وقد كان من أشد المؤيدين للنقراشي , وفى إطار قصته مع الحياة التي نشرها فا آخر ساعة , تدور أحداث هذه الواقعة في مكتب النقراشي في الأيام من استقلاله بالعمل السياسي عقب خروجه من الوفد , أي في مرحلة دقيقة من حياته , كان في أشد الحاجة فيها إلى نصير , وقد قدم إليه وفد من القليوبية يعلن تأييده له , وكان مع الوفد الشيخ العزازى , وقد كان زميلا لخالد محمد خالد في الدراسة الثانوية , وقد رد على استفسار زميله بأنه يعتزم إلقاء قصيدة للنقراشي , وفعلا بدأ الرجل ينشد النقراشي قصيدته عندما استقر في جلسته مع الوفد المبايع , وكان النقراشي يهش للشاعر , وتبدو عليه أمارات السرور والرضا , حتى وصل الشاعر التعس إلى بيت مطلعه : " لكن زينب .. " هنا انتفض النقراشي صارخا " اخرس يا ابن الكلب " ثم استدرك بعد أن استعاد هدوءه :

ليه يا بني كده؟؟ أنت كنت ماشى كويس .. شعر رصين , وألفاظ عفيفة .. إيه إللى دخل زينب فا الموضوع ؟

د- موقف النقراشي من عرض عضوية مجلس إدارة شركة قناة السويس :

لقد رأينا من خلال ما سبق كيف لاذ النقراشي بالصمت بينما خاض الخصمان غالب ومكرم في أمر حقيقة موقفه من العرض الذي عرضه عليه النحاس , وهو عضوية مجلس إدارة شركة قناة السويس , بل لقد أدلت الصحف بدلوها في هذا الموضوع , حيث نشرت مجلة " آخر ساعة " الوفدية الخبر يوم 8 أغسطس 1937 , وتبعتها " الأهرام " بعد يومين , ثم جاء دور جريدة " روز اليوسف " الأسبوعية في عددها الصادر بتاريخ 16 أغسطس 1937 فشنت هجوما عنيفا على العرض الذي اعتبرته " رشوة واضحة الأركان "

كل ذلك والنقراشي لا يخرج عن صمته .

ويروى شاهد عيان , وهو الدكتور عزيز سعد الدين ابن زوجة النقراشي , ملابسات هذا العرض عن قرب , فيقول : قدم ضيف انجليزي إلى بيت النقراشي بمصر الجديدة , ودخل الرجلان حجرة المكتب , وكان في إغلاق الباب وراءهما ما يدل على أن الموضوع الذي قدم من أجله الضيف من الأهمية بمكان , ولذلك كان من الطبيعي عند انصراف الضيف , أن يبادر الصبي زوج والدته بالسؤال عما دار في هذا اللقاء الذي أثار فضوله . أجابه النقراشي : إن هذا الرجل محام إنجليزي , جاء ليعرض عليه عضوية مجلس إدارة شركة قناة السويس , ابتهج الصبي عندما شرح له المزايا المادية العديدة لهذه العضوية , استبشارا بمستقبل تنعم فيه الأسرة بالرغد من العيش , وكان تعليق زوج الأم أنه بإزاء عملية شراء الذمة إذا قبلها أحرق مستقبله السياسي . يتضح إذن أن هذه الحقيقة لم تغب أبدا عن ذهنه إزاء هذا العرض . إلا أنه – كما نقل الدكتور عزيز سعد الدين – طلب من المحامى مهلة للتفكير فا الموضوع .

مرة أخرى يلوذ بالصمت لماذا ؟

لقد أطلق هذا الصمت العنان للشائعات وللتكهنات حول حقيقة موقفه .

ولم يخرج النقراشي عن صمته سوى في 20 أغسطس 1937 , ليبلغ وزارة المالية رسميا برفضه لـ" العرض الجميل " الزى أشار إليه مكرم عبيد في بيانه الثاني .

إلا أن هذا الرد القاطع لم يضع حدا للجدل , فنجد أن " روز اليوسف " تؤكد في عددها الصادر في 23 أغسطس 1937 أن النقراشي كان قد قبل العرض فا بداية الأمر , كما نجد جريدة " البلاغ " في عددها الصادر يوم 23 من نفس الشهر نشرت خبرا تحت عنوان " ترشيح النقراشي باشا للعضوية في شركة قناة السويس وهل كان عملا جديا أو عملا صوريا " قالت فيه : " إن الاتفاق الزى تم مع الشركة يشتمل على خطاب من مديرها إلى رئيس الحكومة , إذ ذاك صاحب الدولة علي ماهر باشا , وتاريخ هذا الخطاب 30 إبريل 1936 وقد جاء فيه :

" أما مجلس الإدارة سيقترح على الجمعية العمومية تعيين عضو مصري يشغل الكرسي الخالي الآن في المجلس ,وعضو ثان مصري يشغل أول كرسي يخلو بعد الكرسي الشاغر الآن "

وقال الجريدة إنه يتضح من ذلك أنه لا يوجد الآن غير كرسي واحد خال في مجلس إدارة الشركة مخصص لمصر , أما الكسرى الثاني فلا وجود له في الوقت الحاضر , وليس لمصر الحق إلا بعد أن يخلو "

ثم اتهمت الجريدة الحكومة بأنها كانت تعرف أن ترشيحها للنقراشي باشا لم يكن سوى عمل صوري , يراد منه أن ترد الشركة بعد ذلك فتقول بما لها من حق اختيار العضو المصري اختارت شريف باشا وأبلغته هذا الاختيار , وأما النقراشي باشا فلا محل له الآن وسننظر في أمره عندما يخلو أول كرسي "

وقد ردت وزارة المالية ببيان نشرته الأهرام في اليوم التالي " وزارة المالية تأسف لأن الجريدة المذكورة فيما تنشر من آراء مكذوبة لا تتحرى الحقيقة حتى فيما تستنتجه من الوقائع الصحيحة " فلا جدال في أن خطاب 30 إبريل سنة 1936 قد تضمن إشارة إلى أن هناك كرسيا واحدا خاليا , ولكن فات الجريدة أننا الآن في أغسطس سنة 1937 , أنى أنه قد مرت سنة وبضعة شهور على هذا الخطاب , وأن الحكومة وقد عرضت كرسيا آخر على سعادة النقراشي باشا وتخابرت مع الشركة على ذلك , فلابد أن يكون قد خلا كرسي آخر.

هذا الاستنتاج البديهة الطبيعي قد تهربت منه الجريدة إلى استنتاج مزر غير معقول رغبة منها في الطعن والدس , وفى الواقع وحقيقة الأمر أنه قد خلا كرسي آخر منذ الاتفاق الأول وهو الذي عرضته الحكومة على سعادة النقراشي باشا عرضا جديا لا صوريا كما تزعم هذه الجريدة " .

ويعتقد الدكتور عبد العظيم رمضان أن النقراشي لم يتراجع عن العرض السخي على حد قوله إلا تحت ضغط الراى العام , يؤيده في هذا الراى الدكتور سيد عبد الله حيث يقول " .. النقراشي عندما قبل هذا المنصب في البداية وظل صامتا , قامت ضده ضجة كبيرة في دوائر المعارضة بسبب قبوله لهذا المنصب , الذي اعتبره بعض الباحثين بمثابة رشوة , وأحس النقراشي على الفور كأنما قصد بدفع الخبر إلى الصحف الوفدية لإحراجه والانتقاص من شأنه "

ونحن نحتفل مع الباحثين , مع اعترافنا بأهمية دراستيهما , ونحن لا نعول هنا على ما شاع من نزاهة النقراشي , بقدر ما نعول على التفاعل بين تركيب شخصية النقراشي وتسلسل الأحداث .

فالواقع أن اعتبار هذا المنصب بمثابة رشوة إنما هو من الحقائق البديهية التي لا سبيل للجدال فيها , وليس رأى " بعض الباحثين " وحسب , ولقد أدرك ذلك على الفور محمود غالب عندما قرن بين " إقصاء " النقراشي والعرض الذي عرضه عليه النحاس فهو يومئ بلغة الإشارة التي لمسناها فا معالجته للقضية محل النزاع إلى أن هذا العرض وسيلة للقضاء على مستقبل النقراشي السياسة , تماما كما أدرك النقراشي مغزى العرض , وكما فسرته " روز اليوسف " .. فالواقع أن هذا العرض في مثل هذا الوقت العصيب – وقد أخذت العلاقات بين زعماء الوفد منعطفا ينذر بتطورات خطيرة – إنما يدعو للريبة والحذر .

تؤكد الوثائق البريطانية المريبة لهذا العرض حيث يتناول المستر كيلى هذا الموضوع في التقرير الذي رفعه إلى هاليفاكس بتاريخ 18-8-1937 فيقول :

" إن مكرم قد عبر في حديث له مع السكرتير الشرقي عن سخطه على قبول النقراشي هدية قناة السويس ثم تآمره علانية ضد الحكومة وقال إن دى بنوا غير متحمس للنقراشي على الانطلاق , وأومأ إلى أنه سياسي بشكل يتنافر مع مثل هذا المنصب , إلا أن مكرم قد اخبر المستشار الشرقي بأنه يراوده بعض الأمل في أن ترفض باريس تعيين النقراشي , ومن المحتمل أن يسعى للوصول إلى هذه النتيجة عن طريق الإيعاز المناسب لدى بنوا" فالعرض الذي عرض على النقراشي لم يكن في جوهره عرضا حقيقيا كما أكد بيان وزارة المالية , ومن الصعب لمن تابع تاريخ النقراشي التصور أنه قد غفل تماما عما يدبر له في الخفاء , أليس من الغريب أن يقبل على " العرض الجميل " غير مدرك لما يجره عليه من وبال و والخصومة التي بينه وبين مكرم عبيد على أشدها ؟ فهو الرجل المتمرس المحنك , وهو المتآمر الذي دوخ سلطات الاحتلال موظفا ملتزما بالنهار , متآمرا من مهندسي المقاومة عندما يسدل الليل ستاره , والذي إذا كانت السلطات البريطانية قبضت عليه أكثر من مرة , فقد اضطرت آسفة أن تطلق سراحه لافتقاده الأدلة لإدانته .

فنجده هنا يتصرف وفقا لطبيعته الكتومة , بل يتمادى فا الصمت ليكشف مكيدة الذين يغزلون له غزلهم ويمد لهم في سعيهم , فيفضح أمرهم , ,أليس الراشي شأنه شأن المرتشي كلاهما ملعون ؟

ويبدو نفس هذا الحرص والقدرة الهائلة على التخطيط في الأسلوب الذي انتهجه المنشقون عن الوفد , أحمد ماهر والنقراشي – وهو أول المنشقين – وحامد محمود وإبراهيم عبد الهادي , في تشكيل الهيئة السعدية .

يؤكد الدكتور عبد لعليم خلاف أن فكرة تأسيس حزب جديد لم تتطرق إلى ذهن أحد منهم , حيث إنهم اعتبروا أنفسهم الخلفاء الحقيقيين لسعد , الذين ساروا على الدرب , ولم ينحرفوا عن جادة الطريق , ويستدل على ذلك بحديث أدلى به أحمد ماهر إلى مجلة " روزا ليوسف " في 17 يناير 1938 , ينفى فيه فكرة تأسيس حزب جديد , لأنه وزملاءه لا يزالون أعضاء في حزب الوفد , وقد حرص كل منهم في أول بيان أصدره للأمة المصرية أن يقرن توقيعه بصفة " عضو في الوفد المصري " إلا أن المكتب الذي افتتحه النقراشي بشارع المدابغ ( شريف حاليا ) غداة فصله من الوفد ليقابل فيه أنصاره إنما يدل في رأينا على أن فكرة تأسيس كيان حزبا جديد كانت تراوده , وقد يتفق الرأيان إذا أقررنا أن السعديين اعتبروا أنفسهم عم الأصل الذي حادت عنه زعامة الوفد , أي أنهم ليسوا منشقين , ولعل لفظ الهيئة بدلا من الحزب يحمل في طياته هذا المعنى , وقد أعلنت الهيئة السعدية عن نشأتها فا يوم 4 يناير 1938 .

القسم الثاني: النقراشي في السلطة

الفصل الخامس: النقراشي والحرب العالمية الثانية

ولقد اتسمت سياسة الهيئة السعدية – ورجالاتها بصفة عامة – بسعة الأفق وعزوفهم التام عن الدعاية لأنفسهم , فنجد مثلا أحمد ماهر وهو وزير للمالية في وزارة محمد محمود الرابعة ( 24 يونيه1938 – 18 أغسطس 1938 ) يضع كادرا جديدا للموظفين يتضمن تخفيضات كبيرة في مرتبات الموظفين , بما فيها مرتبات الوزراء , وهو الإجراء الزى كان من شأنه توفير نحو مليونين من الجنيهات في ميزانية الدولة , في نفس الوقت الذي أثار فيه حفيظة قطاع عريض من الموظفين – ولم يفت السفير البريطاني فا القاهرة أن ينوه بجرأة الخطوة التي أقدم عليها أحمد ماهر, حيث إن الموظفين يمثلون وفق ما ورد فا خطاب لامبسون إلى هاليفاكس في 16 يناير 1939 قوة تخشاها جميع الحكومات التي عجزت عن إيجاد علاج مناسب لمشكلة تضخم المرتبات التي تستنزف موارد الدولة المالية وتستحوذ على لب جميع المثقفين المتطلعين إلى الوظائف .

وهو الأمر الذي يعرفه النقراشي جيدا , وهو الذي أشترك في إضراب الموظفين عام 1919 . كما تبنى كل من أحمد ماهر والنقراشي سياسة واعية رمت إلى تحرير الاقتصاد المصري من التبعية الأجنبية , وبخاصة البريطانية و وهى السياسة التي انبثقت عن سياسة التمصير التي انتهجاها , فنجد السفير البريطاني يصف النقراشي على النحو التالي في رسالته إلى مستر إيدن في 28 يونيو 1938 :

" والنقراشي دون شك يخفى وراء أسلوبه الناعم الخلاب رغبة متحرقة للتخلص من كل موظف انجليزي في خدمة الحكومة المصرية "

وقد تجلت هذه السياسة في مجال إدارات ومرافق الوزارة .

ولقد كان من الطبيعي , والسعديون يضمون بين صفوفهم صفوة من رجال التعليم على رأسهم النقراشي وأحمد ماهر والسنهوري , أن يولوا التعليم عناية خاصة , فنجد النقراشي تراوده أحلامه القديمة بالارتقاء بمستوى التعليم , وتوجيهه الوجهة التي يراها الأفضل من وجهة نظره , فيقرر – وهو وزير للمعارف – أن تكون مجانية التعليم لأكثر الطلبة تفوقا , وليس لأكثرهم فقرا . ( وفق ما ورد فا دراسة الدكتور عبد العليم خلاف ) .

ولقد تجلت الصفات التي ميزت السعديين في أوضح صورها في موقفهم من الحرب العالمية الثانية والذي اتسم بالاتساق مع النفس و والثبات على المبدأ , ووضوح الرؤية , بحيث إنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة الراى العام والدوائر السياسية على اختلاف مشاربها , وكذلك السراي بنفوره المعروف من البريطانيين . وقد تذبذب الموقف المصري تذبذبا كبيرا تبعا لتتابع الأحداث العالمية منذ اندلاع الحرب في أول سبتمبر 1939 باجتياح ألمانيا الأراضي البولندية التي كانت أعطتها بريطانيا ثم فرنسا , ضمانا بتقديم المساعدة لها ضد أي عدوان خارجي , وهو الهجوم الذي كانت نتيجته الحتمية إعلان كل من الدولتين الحرب على ألمانيا فا 3 سبتمبر 1939 . وإزاء انتصارات الألمان , وتفوقهم في أول الأمر بدا لبعض الساسة المصريين أنه من الأفضل أن يراهنوا على الجواد الرابح , إلا أنه مع تطورات الأحداث بات واضحا أن المصلحة تقتضى ترجيح كفة الحلفاء .

والسبب الثاني وراء هذا التذبذب في الموقف الرسمي المصري هو اختلاف وجهات النظر فا الأعباء التي تفرضها معاهدة 1936 على مصر حيال بريطانيا , فقد نصت المعاهدة على أنه في حالة الحرب أو خطرا لحرب أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها تقدم مصر إلى بريطانيا المساعدة داخل حدود الأراضي المصرية , وفق ما ورد في البيان الذي ألقاه النحاس فا جلسة مجلس النواب فا 2 نوفمبر 1936 , حيث إنه لم ينشر لهذه المعاهدة محاضر , ولقد أثارت تلك الفقرة هواجس محمد محمود باشا , كما لم يرتح إليها محمد على باشا علوبة , الذي رأى فيها – وخاصة في عبارة حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها – انتكاسا عن القيود التي أرادت بريطانيا فرضها على مصر في مشروع معاهدة 1930 , ( أنى مفوضات النحاس – هنرسون ) .

وجدير بالذكر أن هذه المعاهدة أبرمت في جو ملبد بالغيوم , من ظهور الديكتاتوريات في ألمانيا وشروعها في تفويض التسوية التي تمت في أعقاب الحرب العالمية الأولى , واعتداء إيطاليا على الحبشة , وأثره على الموقف في مصر حتى بات واضحا للرأي العام المصر أن نذر الخطر الوشيك بدأت تتجمع في الأفق .

وقد سادت في بادئ الأمر فكرة أن المعاهدة تلزم مصر بتقديم المساعدات إلى الحليفة , ولكنها لا تلزمها بدخول الحرب إلى جانبها , إلا أنه سرعان أن الواقع أكثر تعقيدا كما أوضح مؤلفو دراسة مصر والحرب العالمية الثانية :

" فالدول المشتبكة في حرب مع بريطانيا لن تقبل هذا الموقف من مصر ..وستعتبر مساعداتها لبريطانيا عملا عدائيا رغم عدم إعلانها الحرب .. وقد اختلفت الاتجاهات لمواجهة هذا الموقف .. والتوفيق بين ذلك وبين التزامات المعاهدة " .

واستقر الراى على قيام مصر بالدفاع عن نفسها لو وقع اعتداء على أراضيها مع الالتزام بمساعدة الحليفة , إلا أن الآراء قد اختلفت حول تحديد هذه الالتزامات , وتشبعت في اتجاهات ثلاثة : اتجاه يرى ضرورة التزام الحياد في صراع دولي لا يمس مصر بشكل مباشر واتجاه يذهب إلى أن مصر يجب عليها – وفاء بالتزاماتها تجاه الحليفة – أن تدخل الحرب إلى جانبها , واتجاه بين بين يدعو إلى أن تفي مصر حرفيا بالالتزامات التحى نصت عليها المعاهدة دون زيات أو نقصان .

وقد تذبذب رأى الأغلبية تبعا للتطورات السريعة التي طرأت على الموقف الدولي , فإذا كان الاتجاه هو السائد في بادئ الأمر فإن أزمة سبتمبر ( اجتياح بولندا وإعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا ) غلبت الاتجاه الثاني .

وتعقدت الأمور بما أشيع عن سعى إيطاليا للحصول على ممر عبر السودان يصل ليبيا بالحبشة , وكذلك أن يكون لها نصيب من الإشراف على قناة السويس ذلك الشريان الحيوي الذي يربطها بمستعمراتها في شرق أفريقيا , وبلغت الحشود العسكرية الإيطالية في ليبيا مائة ألف جندي , وكان من الطبيعي أن يستشعر المصريون الخطر الذي يهدد أمنهم وسيادة أراضيهم .

وشرعت بريطانيا ممثلة في سفيرها سير مايلز لامبسون في الضغط على رئيس الوزراء المصريعلي ماهر – لإعلان حالة الحرب في ذات الوقت الذي تعلن فيه بريطانيا الحرب على ألمانيا , فعقدت جلسة طارئة لمجلس الوزراء لبحث الموضوع . وقد حضر هذه الجلسة عبد الحميد بدوي باشا بصفته رئيس لجنة قضايا الحكومة , وأدلى برأيه الذي يفيد بأن نصوص المعاهدة تلزم بدخول الحرب إلى جانب بريطانيا , في مواجهة الراى المخالف بأن المعاهدة لا تلزم مصر بدخول الحرب , وأنها قدمت ما يتجاوز التزاماتها بمقتضاها .

وقد حاول علي ماهر – بإيعاز من عبد الرحمن عزام – انتزاع تنازلات من بريطانيا في مقابل إعلان الحرب , ولكن سرعان ما اتضح له أن مصر لن تجنى شيئا بالمغامرة العسكرية , فتراجع عن إعلان الحرب , وقد اتسم موقفه بصفة عامة بالمراوغة حيث صدر عن مجلس الوزراء ما بين 1 و 9 سبتمبر أربعة قرارات متضاربة , بدأت بالموافقة على إعلان الحرب وانتهت برفض ذلك الفاعلان , ففي الاجتماع الثاني لمجلس الوزراء أجمعت الأغلبية على إعلان حالة الحرب , وقد تزعم النقراشي في المجلس الفريق المؤيد لإعلان الحرب , وجاء موقفه هذا متسقا مع سياسة حزبه وبالأخص زعيم الحزب , أحمد ماهر , وقد كان من أشد المتحمسين لفكرة دخول الحرب إلى جانب بريطانيا , والأكثر نشاطا في الدعاية إلى فكرته التي كانت تدعمها عدد من الحجج , أهمها أن في إحجام مصر عن إعلان الحرب اعترافا منها بالحماية , وهو الموقف الذي لابد أن تأباه أمة معتزة بكرامتها , حريصة على استقلالها , كما كان مقتنعا بأنه بإعلان التعبئة العامة تكون مصر قد برهنت للحليفة على حسن نواياها , مما لابد وأن يؤتى ثماره عندما تضع الحرب أوزارها , ويقوى من مركزها في مفاوضات ما بعد الحرب وراح كذلك يثير مخاوف المصريين من أطماع موسولينى , وكان أحمد ماهر والسعديون يراهنون على ضرورة أن يكون النصر في جانب الحلفاء , لما للدول التي في المعسكر من مقومات , فمن ناحية بريطانيا لها موارد اقتصادية هائلة , ومن ناحية أخرى فتى لديها أسطول يضمن لها السيادة في البحر , وكان أحمد ماهر بصفة عامة مؤمنا بـ " انتصار قضية الديمقراطية " .

كما كان أحمد ماهر يبدى تخوفه كذلك من انضمام قوى الصهيونية لمعسكر الحلفاء , وبذلك هم يكتسبون قوة ضاربة من حيث التنظيم والاستعداد العسكري , ناظرا ببعد نظره إلى المشكلة الفلسطينية كما كان يأمل باشتراك مصر في الحرب إلى جانب الحلفاء في تدريب الجيش المصري وتسليحه .

وعندما أفضى الاجتماع الثاني للمجلس إلى الموافقة هدد عبد الرحمن عزام بالاستقالة , مما أزعج علي ماهر حيث استشعر الحرج الذي يمكن أن تسببه له مثل هذه الاستقالة , في الوقت الذي لا يتمتع به رئيس الوزراء بالأغلبية في البرلمان , كما تعقدت الأمور عندما تعهدت إيطاليا بالحيدة إزاء مصر , مما ساعد بلا شك على ترجيح كفة المعسكر المنادى بعدم دخول حرب " لا ناقة لنا فيها ولا جمل " , على حد التعبير الذي استخدمه الشيخ المراعى من أعلى منبر الأزهر , إلى جانب ما كانت تذيعه الإذاعة الألمانية من أن ألمانيا تقدر موقف مصر الخاص , ولا تعتبر ما تقدمه لانجلترا من معاونة في حدود المعاهدة عملا عدائيا , كما نقل الدكتور حسين هيكل في مذكراته وانتهى الأمر بقرار بالإحجام عن إعلان حالة الحرب .

وفى الواقع كانت هناك عدة عوامل لعب كل منها دورا لا يمكن إغفاله في تشكيل الراى العام المصري : الدعاية الإيطالية التي نشط فيها أفراد المفوضية الإيطالية , وكان اثنان منهم من أعضاء الحزب الفاشستي وكذلك الجالية الإيطالية وقد كانت كبيرة العدد , والمدارس الإيطالية , وقد كانت مجانية وضمت والى 400 طالب مصري , كما كان القصر واقعا تحت تأثير الحاشية الإيطالية .

العامل الثاني كان الدعاية الألمانية , وهو وإن كان تأثيرها أضعف بكثير , إلا أنها كانت تسير في نفس الاتجاه

ولقد ساهمت أيضا السياسة ذات الطابع الإسلامى التي تبنتها مصر في هذه الفترة في تأزم العلاقات المصرية – البريطانية , فقد اتبع الملك فاروق , بإيعاز من الشيخ محمد مصطفى المراغي , سياسة ذات طابع إسلامي لزيادة شعبيته , وقد واكبت الدعاية الإسلامية التي راح يروج لها عدد من المفكرين , والحزب الوطني بخاصة , أحداث فلسطين التي لعب فيها الجانب البريطاني دوره المعروف .

كما كانت هناك بعض الأمور أكثر خصوصية , أي أنها كانت رهن الساعة جعلت موقف مصر حرجا من أهمها : احتجاز المصريين في ألأماني , والخوف على الملاحة المصرية فا البحر المتوسط , وعلى تجارة مصر مع أوروبا , إلى جانب مخاوف المصريين من عدم كفاية القوات البريطانية الرابضة في مصر , مع ما يقابلها من حشود إيطالية كبيرة في ليبيا , وهو الشعور الزى نقله محمد محمود إلى لامبسون , مما يعنى تخوف مصر من إمكانية وجدية بريطانيا في حالة رجحان كفة الجيوش الألمانية على إغراق الدلتا أمام الألمان لتعطيل زحفهم نحو الجبهات الشرقية

وتزامن مع سيادة هذا الاتجاه محاولة على الصعيد الدبلوماسي لاقتناع الجانب البريطاني بأن مصر كدولة غير محاربة يمكن أن تفيد منه بريطانيا فا شراء المواد الحربية من الولايات المتحدة الأمريكية عن طريقها , ولقد وجد هذا المطلب آذانا صاغية في وزارة الخارجية البريطانية , وعموما انتهى الأمر بأن أعلنت لوزارة حرصها على تنفيذ المعاهدة في أضيق حدودها , وتعهدها بإعادة النظر فا حالة إذا ما دخلت بريطانيا الحرب , أو أصبحت بريطانيا أحد ميادينها .

ويتغير الموقف في مصر مرة أخرى عقب اجتياح ألمانيا لفرنسا , وإعلان باريس مدينة مفتوحة , إذ رأت إيطاليا الفرصة سانحة لدخول الحرب من أجل أن تظفر بنصيبها من الغنائم عند عقد الصلح , فأعلنت دخولها الحرب في 10 يونيو 1940 . وتوجهت بعض القوات الإيطالية الرابضة في ليبيا إلى مصر , معلنة أنها اضطرت إلى هذا التحرك من أجل إخراج انجلترا من مصر , وأعلن علي ماهر أن مصر ستقف موقف المدافع عن أراضيها , إلا أن ذلك القرار لم يكن ليرضى الانجليز الذين لم يكن ليطمئنوا إلى تصريحات علي ماهر , إلى جانب تخوفهم من تأثير الدعاية الإيطالية والألمانية .

وكان لابد لوزارة علي ماهر من أن تقدم استقالتها بعد أن وصلت العلاقة بينها وبين السفير إلى طريق مسدود , وكان من الطبيعي في الظروف الراهنة أن يأتي رئيس وزراء تربطه ببريطانيا علاقة ودية , ولذلك عهد إلى حسن صبرا برياسة الوزارة وأثيرت مسألة الحرب في أول اجتماع لمجلس الوزراء بعد اجتماعه التقليدي الأول , واستقر الراى , كما يقول القطب الدستوري الدكتور حسين هيكل على أن تحارب مصر الطليان إلى مرسى مطروح , أول مرفأ مصري محصن على البحر ألبيض المتوسط , وأول مركز للقوات المصرية المسلحة في صحراء مصر الغربية .

وقد اكتفى المجلس بهذا القدر , حيث إن الايطاليين قد اكتفوا ببعض المناوشات على الحدود .

وكان حسن صبري قد اسند وزارة الداخلية إلى النقراشي , وهو الاختيار الزى أثار حفيظة الأحرار الدستوريين , لما لوزير الداخلية من سلطات واسعة , وخصوصا في الانتخابات البرلمانية , فلجأ حسن صبري إلى مناورة , بمباركة القصر الذي أغضبه موقف السعديين من الحرب , إذ بادر بتقديم استقالة الوزارة , وأعاد تشكيل وزارة جديدة , تولى هو نفسه وزارة الداخلية مسندا وزارة المالية إلى النقراشي .

وكانت الأمور على حدود مصر تتطور في هذه الثناء , ومع تكثيف إيطاليا حشودها طالب الوزراء السعديون مرارا بإعادة فتح باب المناقشات في موقف مصر من إعلان الحرب على إيطاليا , ولكن دون مجيب , على اعتبار أن هذا الموضوع كان قد طرح من قبل , وكان قد تم بالفعل اتخاذ قرار بشأنه على أنه عقب تقدم القوات الايطالية 60 ميلا داخل الأراضي المصرية , حتى السلوم وسيدي برانى دعا حسن صبري المجلس إلى الانعقاد في 19 سبتمبر 1940 .

وكان رأى السعديين صريحا في أن مصر لها أن تعلن الحرب دفاعا عن أراضيها , ولكن الأطراف الأخرى أحجمت عن قرار يورط مصر في الحرب , وكان الراى العام غير مهيأ لهذه الخطوة , خاصة أن الإذاعة الايطالية راحت تعلن أن المراكز المصرية لن تقصف طالما لم تشترك مصر في الحرب , وعندئذ أعلن حسن صبري رأيه القاطع بعدم إعلان الحرب حتى لو أن الايطاليين بلغوا القاهرة .

وعند التصويت ظهر بوضوح أن السعديين وحدهم هم المتمسكون بإعلان الحرب , وساد الاتجاه القائل بتجنيب مصر ويلات الحرب وكان لابد للسعديين أن يواجهوا الموقف بالاستقالة , وقد أدلى النقراشي إلى الأهرام بالتصريح التالي في 23 سبتمبر 1940 :

شاء دولة رئيس مجلس الوزراء أن يبرز فا كتاب قبول استقالتنا معنيين :

الأول أن الخطة التي اتخذناها لم تكن وليدة الحذر والأناة وتقدير العواقب , بل كانت علاجا أملته الخفة .. والواقع أن هذه الخطة , وهى الدفاع عن البلاد إذا اعتدى عليها , خطة قديمة أعلنتها وزارتان متعاقبتان وأقرهما عليها البرلمان : فليس التفكير ابن ساعته ولا وليد يومه , ولم يكن فيما اقترحنا إلا تنفيذ هذه الخطة المقررة باعتبار أن أسبابها قد تحققت على وجه لا يدع مجالا لإنكار فكيف والحال ما شرحت , تصح نسبة الخفة إلى قرارنا ؟

والمعنى الثاني الذي شاء سعادته أن يبرزه أنه لم يجد في جو الحوادث ما يحفز إلى هذا القرار ولا يدعو إليه , بحيث يرى دولته أن قرارنا انبنى على التطير , وكان الأخلق حين البت في مصائر البلاد وأقدارها أن نتريث حتى تنكشف خفايا النيات وتتأكد بوادر الغايات .

ونرى من جانبنا أن توغل جيش أجنبي في أراضينا المصرية والى مائة كيلو متر ومحاولته تثبيت أقدامه وتحصين مواقعه فيها أمر قاطع في الدلالة على إرادة الغزو لا تخفى معه نيات ولا تبهم غايات .

على أننا حين طلبنا إلى مجلس الوزراء أن يأخذ باقتراحنا طلبنا إليه كذلك أن يدعو البرلمان ويعرضه عليه , فلم يوافق دولة رئيس مجلس الوزراء على ذلك بل إنه لم يكن يرى في اجتياح هذا القدر من الأراضي المصرية ما يسوغ عقد مجلس الوزراء ليتداول فا الأمر , ولم يدع مجلس الوزراء لذلك إلا بعد إلحاح شديد .. وإن رغبتنا فأعرض الأمر على البرلمان لتؤكد أننا لم نطلب أن نزج فورا البلاد , ولكنا أردنا أن يوضع القرار أولا أمام البرلمان لنظره وتمحيصه

إن الأمر خطير والواجب أن يدعى البرلمان لعرض الموقف عليه عرضا كاملا , وليبدى رأيه في أخطر الحوادث وأشدها أثرا في مستقبل البلاد "

وكان الغرض من هذا التصريح هو درء محاولة تأليب الراى العام على السعديين باتهامهم بالخفة , أي الاستهتار , مع ما في هذا الاتهام من تجن على الحقيقة في رأى السعديين , حيث أن – كما يظهر من العرض السابق – موقف السعديين ظل ثابتا لم يتغير منذ بدأ الموقف العالمي في التدهور , كما أن لموقفهم هذا فلسفته التي قد يتفق أو يختلف معها البعض , ولكن لا يمكن بحال من الأحوال التسفيه منها , أو الاستهانة بها .

وعلى الرغم من أن الأحرار الدستوريين كانوا في مجموعهم قد تبنوا فكرة تجنيب مصر ويلات الحرب , إلا أنه يبدو , نقلا عن الدكتور حسين هيكل , أن محمد محمود وكان قد اعتزل الحياة السياسية في هذه الفترة لظروفه الصحية , كان يتفق في الراى مع أحمد ماهر الذي كان كثير التردد عليه في تلك الفترة .

وقد سار حسين سري خليفة صبري , الذي وافته المنية وهو يلقى خطاب العرش , على درب سلفه , على الرغم من أنه كان من المؤيدين لقرار دخول الحرب من قبل . وقد منح أعضاء البرلمان الثقة لوزارته , وعلقت جريدة الدستور المعروفة بميولها السعدية على ذلك بأن السعديين لا يزالون عند نفس موقفهم من مسألة إعلان الحرب .

وعلى الصعيد الدولي تطورت الأحداث تطورا سريعا و وبدأت كفة الحلفاء ترجح مع انتصار بريطانيا على القوات الايطالية , وإجبارها على التقهقر خلف الحدود الليبية , ولم يتمكن زحف روميل من الغرب , وانتصاره على القوات البريطانية في الصحراء الليبية من قلب ميزان الأمور , غذ أنه ما لبثت القوات البريطانية أن حققت انتصارا ساحقا على الألمان في معركة العلمين الشهيرة ( أكتوبرنوفمبر 1942 ) وخرجت إيطاليا من الحرب عام 1943 .

وفى هذه الأجواء الجديدة عقد الحلفاء مؤتمر القرم في يالتا ( من 3 إلى 11 نوفمبر 1945 ) وقرروا عقد مؤتمر دولي في مدينة سان فرانسيسكو في 2 إبريل 1945 , لإعداد ميثاق المنظمة الدولية التحى استقر الرؤى على تكوينها بعد ما أثبتت الحرب فشل عصبة الأمم فا القيام بالدور المسند إليها .

أما في مصر فقد تشكلت وزارة أحمد ماهر الأولى في 8 أكتوبر 1944 , عقب الأزمة التي أطاحت بوزارة النحاس , وبذلك أصبح لأول مرة وزير سعدي على رأس السلطة التنفيذية , وقد انتهز هذه الفرصة لتفعيل السياسة التي انتهجتها الهيئة السعدية منذ المناوشات الأولى للحرب العالمية الثانية , إلا أنه آثر ألا ينفرد برأيه , فعرض الأمر على البرلمان , كما شكل هيئة استشارية من ذوى الراى ضمت النقراشي إلى جانب أحمد لطفي السيد , وبهي الدين بركات , وإسماعيل صدقي , وعلي ماهر , وإبراهيم عبد الهادي , وحافظ عفيفي , وعلي الشمسي , ومحمد حسين هيكل , ومكرم عبيد , وعبد الحميد بدوي , وغيرهم . ونلاحظ هنا الحرص على أن تضم اللجنة كل الاتجاهات والمشارب ففيها علي ماهر الذي رفض إجابة مطلب الانجليز بدخول الحرب , ومكرم عبيد على الرغم من الخصومة القديمة بين الرجلين , بل وبين مؤسسا الهيئة السعدية وبينه , مما يدل على الحرص البالغ في إبعاد أي شبهة للتحيز في انتقاء أعضاء هذه اللجنة , حتى تطمئن الأمة اطمئنانا تاما على موضوعية القرار الذي تتوصل إليه اللجنة وذلك على الرغم من إيمان أحمد ماهر إيمانا لم يتزعزع مع تطورات الأحداث بضرورة دخول الحرب إلى جانب بريطانيا .

وقد ارتأت الهيئة الاستشارية ضرورة إعلان مصر الحرب على دولتي المحور , ألمانيا واليابان , من أجل أن يتسنى لها المشاركة في أعمال مؤتمر سان فرانسيسكو مما يجعلها من الأعضاء المؤسسين للمنظمة الدولية , خاصة وقد اشترط الحلفاء أن تقتصر الدعوة لحضور المؤتمر على الدول التي تكون قد أعلنت الحرب على المحور في تاريخ أقصاه أول مارس 1945 .

ولا شك أن الظروف أصبحت مهيأة لتبنى الموقف الذي ننادى به السعديون وكافحوا من أجله .

وكان من الطبيعي أن يقرر مجلس الوزراء قرار اللجنة الاستشارية , ولم يتبق لأحمد ماره سوى الحصول على تأييد البرلمان , إلا أنه بعد البيان الذي ألقاه في جلسة سرية لمجلس النواب عارضا قرار اللجنة , وهو البيان الذي انتزع تصفيقا حادا من الأعضاء , سقط أحمد ماهر مضرجا بدمائه , وهو يتنقل من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ , وكان القاتل هو محمود عيسى الذي كان مدفوعا باقتناعه بأن أحمد ماهر إنما يزج بمصر فا حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل , وأوضحت التحقيقات فيما بعد أن محمود عيسوي كان عضوا في الحزب الوطني بعد أن كان عضوا بمصر الفتاة , كما كان من المعجبين بأفكار المرشد العام للإخوان المسلمين , أي أنه كانت له علاقة بصورة أو بأخرى بالقوى السياسية المعارضة لفكرة دخول الحرب , كما أنه لا شك في أن دعاية الوفد المضادة , وهو الحزب ذو الشعبية الكبرى , قد أوغرت النفوس , وجعلتها غير مهيأة لتقبل الفكرة , وإذا ما كان دخول مصر الحرب بعد أن تأكد انتصار الحلفاء هو من قبيل المسائل الشكلية لتأكيد أحقية مصر في المشاركة الدولية فا مؤتمر سان فرانسيسكو , فإن قتل أحمد ماهر كان نتاج الإثارة المبنية على الجهل أو التجهيل , وانتصار قوى الظلام , وتغييب الفكر والتعقل , وقد كان هذا بداية لعصر الإرهاب والتعصب الأعمى .

ونخلص من هذا العرض الزى ربما نكون قد أسهبنا فيه بعض الشيء إلى أن النقراشي في هذه المرحلة من مشواره السياسي والتي تزامنت مع الخطى الأولى التي يخطوها الحزب السعدي في الحياة السياسية , لم تنبع قراراته ومواقفه عن قناعة شخصية منفردة , وإنما جاءت متسقة تمام الاتساق مع الكيان الحزب الذي ينتمي إليه , وإن اختلف فا مرحلة منها مع وزير سعدا آخر هو محمود غالب .

ونود أن نشير هنا إلى أننا لم نقصد من وراء هذا العرض إلى البرهنة على صحة موقف السعديين دون غيرهم من القوى السياسية , خاصة أن حماسة أحمد ماهر قد قادته أحيانا إلى الإفصاح عن آراء فيها شاء من المبالغة , كالقول أن بريطانيا ليس لها أطماع اقتصادية في مصر , حيث إن الانجليز ليسوا في حاجة إلى منافسة الشعب المصري فا أرزاقه , كما أن لديهم من المبادئ الإنسانية ما يدفعهم إلى احترام مبادئ الغير وأنظمته , ويتركون له الحرية في القيام على شئونه , واختيار نظام الحكم الزى يريده .

كما قال فا خطاب له ألقاه فا ننادى الهيئة السعدية بالإسكندرية :

" .. لو لم تكن انجلترا حليفتنا لاضطررنا , ونحن ضعاف , أن نختار لنا حليفا , ولو خيرنا لما وجدنا خيرا من انجلترا .. "

والطريف أن راية هذا إنما هو نفس الراى الذي أفصح عنه النحاس , في معرض حديثه عن مزايا معاهدة 1936 في مجلس النواب , والذي جر عليه انتقادا حادا من الدستور في 8-2-1948 , لسان حال السعديين , فلا شك أن الاتجاه الداعي إلى تجنيب المصريين ويلات الحرب كان له وجاهته , حيث كان يرى الكثيرون أن دخول مصر حربا لا تعنيها سوف يجر عليها الكثير من الخسائر والتضحيات , لا لسبب إلا لإرضاء بريطانيا " العدو الأول للأمانة الوطنية " .

إنما أردنا أن نبز حقيقة نعتقد أنها اتضحت من خلال عرضنا للموضوع , وهى أن السعديين كانوا مدفوعين إلى موقفهم هذا , بواعز من حرصهم على المصلحة الوطنية , غير عابئين بالرأي العام في مصر , والذي لم يكن مواتيا للفكرة التحى راحوا يدعون إليها بحماسة لا تكل , كما أنهم كانت لهم رؤيتهم الواضحة التي عبروا عنها مرارا وتكرارا : إن اشتراك مصر في الحرب إلى جانب الحلفاء بدلا من وقوفها على الحياد سوف يقوى مركزها في مفاوضات ما بعد الحرب إزاء بريطانيا , ويدعم من مطالبها بالحصول على الاستقلال التام , هذا فضلا عما يتسنى لمصر ’ باشتراكها فا الحرب , من أن تصبح قوة عسكرية وأن يكون لها جيش وطني مدرب , تستطيع به أن تفرض إرادتها الوطنية , وكذلك أن تكسر شوكة الصهيونية في فلسطين , وأن تفرض نفسها في مؤتمر الصلح عندما ينتهي القتال .. نقرر ذلك على الرغم من وجهة النظر التي تنقلها المصادر البريطانية , والتي أوردها الدكتور يونان لبيب رزق في كتابه " تاريخ الوزارات المصرية " والتي مفادها أن أحمد ماهر كان يرمى من وراء هذه الدعاية إلى أن ينال رضا البريطانيين , مما يمكن أن يكون من شأنه إسناد الوزارة إليه , إلا أن النظرة الفاحصة للواقع المعاصر إنما تدل على قصور هذه النظرة , إذ لا يمكن لعقل أن يتصور أن السعديين لم يدركوا أن موقفهم هذا ليس هو الطريق الذي يمكن أن يفضى بهم على الحكم , وذلك لأسباب بديهية :

أولا : عزوف الراى العام تماما عن فكرتهم , مما لم يكلفهم فقط الإقصاء عن السلطة وشعبيتهم الجماهيرية أيضا .

ثانيا : ميول القصر المحورية وبالتالي استياؤه من دعاية السعديين ,

ثالثا : غلبة الاتجاه الداعي إلى تجنيب مصر ويلات الحرب في البرلمان .

إذن فكل القوى المؤثرة في مصر لم تكن لتنتصر للسعديين في الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم والذي تحملوا الكثير لإيمانهم به , بل وقد كل زعيمهم حياته نفسها , فكيف بهم إزاء هذه الملابسات أن يساورهم مجرد الأمل فا اعتلاء السلطة ؟ إلى جانب أن موقف البريطانيين أنفسهم كان قد تغير وأصبحت منذ عام 1940 السياسة المقررة للحكومة البريطانية هو " بقاء مصر دولة غير محاربة " حيث إنهم اصطبحوا يخشون إذا أعلنت مصر الحرب على إيطاليا أن يقصف الطيران الإيطالي – الزى كان متفوقا في العدد على الطيران الانجليز – القواعد الجوية في قناة السويس , كما كانوا يخشون من أطماع مصر في الجلاء والاستقلال إذا ما شاركت في الحرب .

ونعتقد أن هذه السمة الغالبة للحزب السعد , على الأقل حتى قيام ثورة 1952 ومطالبتها الأحزاب بتطهير نفسها , وذلك على الرغم مما ابرز أحداث فلسطين فيما بعد من محاولة للتوافق مع الراى العام , ولا غرابة في هذه النزعة لدى حزب يتولى زمام زمرة من المثقفين أو الانتلجنتسيا , وهى تلك العناصر التي يتحدث عنها الدكتور أحمد زكريا الشلق في دراسته القيمة عن البني الاجتماعية للأحزاب المصرية , والتي تستند قوتها بشكل أساسي إلى المهارات التي أكسبها التعليم إياها والتي قدمت نفسها للمجتمع من خلال تلك المهارات المهنية , أكثر منه من خلال الثروة أو الملكية أو العلاقات الشخصية .


الفصل السادس : النقراشي والمسألة المصرية

لقد كان من الطبيعي عندما دب الخلاف الذي تحدثنا عنه طويلا بين النحاس والنقراشي , والوفد ما له من شعبية وانتشار , أن تنظر بعض الدوائر السياسية بعين الارتياح إلى الانشقاق الزى تم بين صفوفه , وهوا لشعور الذي عبر عنه القطب الدس تورى الكبير الدكتور حسين هيكل فا مذكراته , كما سعى القصر ممثلا في أحد مستشاريه ليؤجج الخلاف , فلقد طرح الشيخ مصطفى المراعى اقتراحا بأن يخلف النواب وقتئذ .

لأن الدكتور ماهر يؤيد النقراشي باشا وغالب باشا في موقفهما من النحاس باشا ومكرم باشا , ولأن توليه الوزارة يؤدى إلى انقسام الوفد وضعفه .

ومن هذا المنطلق نعم حزب الهيئة السعدية في بواكير نشأته بعطف القصر , ويرى البعض أن هناك تطورا خطيرا قد طرأ على موقف النقراشي من السلطة منذ ذلك التاريخ , وهو يعزون هذا التحول إلى الرغبة في ممالاة القصر المناصر للحزب الوليد الذي كان النقراشي يقف في مقدمة صفوفه .

إلا أن الواقع يشير إلى أن علاقة النقراشي بالقصر كانت دوما علاقة طيبة , تعود إلى زمن بعيد منذ تولى وزارة المواصلات لأول مرة في 1-1- 1930 , حيث إنه كان يحرص على تسجيل اسمه في دفاتر التشريفات بقصر عابدين في كل المناسبات الخاصة بالملك , كعيد ميلاده على سبيل المثال , جريا على العادة المتبعة في ذلك الوقت .كما روت والدتي هذه القصة الطريفة ذات الدلالة : طلب من التلميذات في فصل اللغة العربية , لمدرسة التي كانت مقيدة بها كتابة موضوع عنوانه " اسعد يوم في حياتي " فتبادر على الفور إلى ذهن الفتاة الصغيرة ذكرى اليوم الذي قابلت فيه الملك لأول مرة , حيث إنه بينما النقراشي يقوم بالنزهة المحببة إلى قلبه على كورنيش الإسكندرية مع أفراد أسرته , في المرات القليلة التي كان يستطيع فيها الفكاك من مسئولياته , فإذا بالملك الذي تصادف مروره يوقف سيارته وينزل ليصافح رئيس وزرائه و وتعقب أمي قائلة : لقد تصرفت بشكل تلقائي يتنافى تماما مع طبيعتي الخجولة , إذ اندفعنا , أخي وأنا فأمسكنا بيد الملك لتقبلها , ولم نكن قد جبلنا على عادة تقبيل الأيادي إلا في حالة واحدة , هي صفية هانم زغلول ( وهى ابنة عم والدتهما ) .

ونستشف من هذه لقصة أن الابنين قد نشآ في بيت لا يذكر فيه اسم الملك إلا محاطا بعلامات التبجيل والاحترام , ويبدو أن هذا الولاء مبعثه إيمان النقراشي بالنظام الملكي , وهو ما كررته جدتي على مسامع أكثر من مرة .

إلا أنه لا يمكن الجدال فا أنه بعد الانشقاق عن الوفد بدأت مرحلة جديدة في مشوار النقراشي السياسي , تولى فيها الوزارة أكثر من مرة :

ولعلنا نستعير هنا ما قاله محمد شفيق غربال في معرض حديثه عن المفاوضات المصرية – البريطانية " .. إن معركة الاستقلال المصرية ابتدأت بعمل حكومي وعمل شعبي " غير أنه في تاريخ النقراشي فإن العمل الشعبي قد سبق العمل الحكومي , ولا شك أن شعبية الرجل التي كان قد اكتسبها من خلال انخراطه فئ العمل الثوري , على نحو ما أسلفنا , قد بدأت في الانحسار نتيجة للقرارات المصيرية التي اتخذها وهو يمسك بزمام الحكم , ولابد أنه أدرك آن العمل الحكومة يحتم عليه مسئوليات جديدة , كما أنه يفرض أدوات جديدة من أجل تحقيق الأمان الوطنية التي كان يسلك قبل ذلك الصدام لتحقيقها .

والأداة الجديدة التحى فرضها عليه المسئولية الثقيلة التحى ألقيت على كاهله عندما تولى رئاسة الوزارة خلفا لصديقه الذي سقط على الدرب , هي المفاوضة , والمفاوضة اخذ وعطاء , إذ كان يجب على المفاوض المصر وهو يتفاوض مع الخصم واضعا نصب عينيه هدفين أساسيين , هما بريطانيا فئ مصر والسودان , بالقدر الذي لا يتنافى مع جوهر الاستقلال , ولاشك أن هذه الممارسة الجديدة فجرت في النقراشي طاقات جديدة , لعل ينطبق عليه ما قاله شفيق غربال عن رجالات مص الذين تعاقبوا في تاريخ زغلول , حسين رشدي , عدلي يكن , عبد الخالق ثروت , إسماعيل صدقي , محمد محمود , أحمد ماهر , محمود فهمي النقراشي , عبد العزيز فهمي ..

هؤلاء رجال كانوا من طراز لن تعرفه قبل حقبة المفاوضات , فإن هذه الحقبة خلقت رجال السياسة , وخلقت الأمة المشتغلة بالسياسة .

وليس أدل على ذلك من التصريح الذي أدلى به إلى جريدة " الكتلة " في 6-2-1946 , والذي يتناقض تناقضا واضحا مع الوصف الذي ورد عنه فى الوثائق البريطانية مفاده أنه " وطني متطرف " أو مدرس ضيق الأفق , والذي نستطيع على أساسه قياس الوثبة الكبيرة التي اضطره إليها موقعه الجديد في السلطة , منذ أن كان يمثل مع أحمد ماهر الجناح الأكثر تطرفا من الوفد المناوئ لمفاوضات ثروت – تشمبرلين , حيث نجده يقول " إنني لا أستطيع أن أنكر أن لنا فى السودان مصالح كما أن للانجليز فيه مصالح , ولا استطيع أن أقول لهم اتركوا مصالحكم فى السودان "ولا شك أن من تسند له السلطة , ويقبلها بمحض إرادته عليه أن ينهض بالتبعات والمسئوليات التي تستتبعها , تلك المسئولية التي يتحدث عنها سعد زغلول فى خطبة العرش التي ألقاها بعد أن كلف بتأليف وزارته فى 28 يناير 1924 :

" يمكن لكاتب فى جريدة أن يكتب ما يريد , لأنه غير مسئول , يستطيع أن يكتب ما يجعله اشد وطنية منى ومنكم , وانه لا يطلب للبلاد السودان وحده وإنما يطالب بما وراء السودان , ولكن نائبا فى مجلس النواب المصري , يدعو إلى أمر , ويحمل إخوانه عليه , يجب أن يذكر أنه مسئول هو وإخوانه إذا قبلوه , وإذا كان فى رأيه خطر على البلاد , كان هو وإخوانه مصدر الخطر وعليهم تقع نتائجه "

وهى الكلمات التي نجد صدى لها فى رد النقراشي على نائب من النواب أثناء إحدى مداولات مجلس النواب , حيث يقول هذا النائب ما معناه إنه يمكن أن يقول ما بدا له و لأنه ليس وزيرا ليس مسئولا , فيجيب النقراشي : " أنت مسئول على كل حال , لأنك نائب " ( فى 25-2-1946 ) ولا شك أن هذه الكلمات تعبر عن تطور هام فى موقف النقراشي من السلطة منذ دخل البرلمان , وشكل مع زميله أحمد ماهر جناح المعارضة الجامع .

وقد لحق النقراشي بركب المفاوضين العظام الذين سبقوه على طريق المفاوضات الوعر , فى هامتين من مشواره السياسي وهو طريق غالبا ما كان يجر على من يسلكه حملة شعواء من الاتهامات والتجريح , فنجد النقراشي يقول فى أحد لقاءاته مع السفير البريطاني ( فى 13-1-1947) " أنا ضحية مماطلة السياسة البريطانية " المحطة الأولى فى عام 1936 , عندما شارك مع وفد برئاسة النحاس فى المفاوضات التي انتهت بإبرام معاهدة 1936 , ثم بعد ذلك عندما بعث إلى السلطات البريطانية بمذكرة لطلب فتح باب المفاوضات , من أجل تعديل معاهدة 1936 على أسس جديدة , بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية , وهى المفاوضات ( سنة 1946 وسنة 1947 ) التي لم تسفر عن نتيجة مرضه , انتهت بتدويل القضية المصرية .

ويعود تاريخ المفاوضات المصرية – البريطانية إلى عام 1919 , حيث أوفدت بريطانيا فى أعقاب الثورة المصرية لجنة تحقيق , هي لجنة ملنر للوقوف على أسباب السخط والتذمر فى مصر , فتوصلت هذه اللجنة إلى نتيجة هامة هي :

أن كل حل تفرضه بريطانيا على مصر فرضا لا يرضى ولا يفي بالغرض , وأن الحكمة تقضى بالتماس حل يتفق عليه الطرفان , أي بعقد معاهدة بين البلدين ..

لا شك إذن أن عنصر الثورة , الذي لم يدخله الساسة البريطانيون فى حساباتهم قد أرغم السلطات البريطانية على مراجعة موقفها من مصر , بعد أن كانت اطمأنت إلى وضعها عقب بسط الحماية عليها , مما مهد لأول مفاوضات مصرية – بريطانية بين سعد زغلول وزملائه ولجنة ملنر ( يونيوأغسطس 1920 ) التي أخرجت مسألة السودان برمتها من دائرة الاتفاق المزمع عقده بين الدولتين .

ولا يجب أن يغيب عن ذهننا ونحن نتابع هذه الشريحة من تاريخنا , أن المفاوض المصري نازل خصمه بعقلية قانونية , كما أشار الأستاذ حسين هيكل فى أحد أحاديثه على قناة الجزيرة ( الأسبوع , عدد 3-10-2005 ) , بينما كان المفاوض البريطاني وهو ما أفصح عنه النقراشي فى خطابه أما مجلس الأمن : " .. قبضة بريطانيا على مصر والسودان إنما سندها القوة لا الحق " – كما علينا هنا أن نضع فى الميزان العقلية الاستعمارية التي كانت تتعامل مع المصريين باعتبارات فوقية نستشفها من تعليمات ماكدونالد الصادرة لألينبى :

إن مركز بريطانيا العظمى فى مصر - مهما قال المصريون – شرعي تماما من كل الوجوه الدولية والقانونية ,وكانت مصر – من حيث القانون ومن حيث الواقع – تحت الحماية البريطانية , إلى أن عدلت حكومة صاحب الجلالة حالتها هذه بمحض إرادتها ولأسباب ارتأتها , فمنحت مصر قدرا من الاستقلال , ولم يكن يستطيع إجراء ذلك التعديل أو له الحق فى منح الاستقلال سوى حكومة صاحب الجلالة واستقلال مصر – أو القدر القائم منه – هو إذن من إنشاء حكومة صاحب الجلالة ..

كان يجب إذن على المفاوض المصري أن ينتزع حقا له , ينظر له الطرف الآخر , من هذا المنظور المتعالي , على أنه هبة أو منة .

وقد ظلت مسألة السودان هي حجر العثرة الذي تحطمت عليه كل المفاوضات المصرية فى جميع أطوارها , حتى أن معاهدة 1936 لم يكتب لها الوجود إلا بنبذ مسألة وحدة وادي النيل جانبا , مع الاحتفاظ بحق تعديل اتفاقيتي 1899 فى المستقبل .

وقد اكتفى المفاوض المصري بمادة واحدة خاصة بالسودان إلى جانب ملحق الغرض منه التخفيف من غلواء بريطانيا , فى العقوبات التحى فرضها على مصر عقب اغتيال السردار لى ستاك قائد الجيش المصري فى السودان والحاكم العام للسودان , والتي كان من شأنها فرض الحظر على العلاقات المصريةالسودانية .

وكانت النقاط إثارة للجدل والخلاف فى هذه المفاوضات , ومفهوم " القوة العسكرية " الذي يعنى فى المقام الأول القوة العسكرية البريطانية يشمل " الهدف من وجودها وأوضاعها وقوة مصر العسكرية "

وفى الفترة ما بين 19191924 كانت السلطات البريطانية قد تنبهت إلى خطورة أن يمتد تأثير ثورة 1919 إلى السودان وإلى ضرورة فصل السودان عن مصر و بل إلى أهمية فصل شمال السودان عن جنوبه , ليتسنى لها تحقيق أطماعها بلا منازع , فتبنت برنامج " إخراج مصر نهائيا من السودان " وهى السياسة التي حرص النقراشي على فضحها فى خطابه الأول الهام بساحة مجلس الأمن , حيث تحدث عن حادثة اغتيال السير لى ستاك – سردار الجيش المصري , وهو الحادث الذي اتهم فيه هو شخصيا , مبينا كيف استثمر البريطانيون هذا الحادث لصالحهم , فطالبوا – كما قرر فى خطابه –

بمزايا جوهرية , هي تعويض قدره نصف مليون من الجنيهات وسحب جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصر البحت من السودان فى خلال أربع وعشرين ساعة وإطلاق يدها فى مياه النيل خلافا لكل اتفاق سابق .

ولقد حاول بعد ذلك عبد الخالق ثروت ( وزير الخارجية فى وزارة عدلي يكن التي تشكلت عقب استقالة وزارة زيور ) فى مباحثاته مع السير أوستن تشمبرلين , وزير الخارجية البريطاني أن يخفف من غلواء بريطانيا

والواقع أن هذه المباحثات , وإن لم تثمر عن اتفاق بين البلدين , قد اعتبرت أساسا للمفاوضات التالية فى أدوارها المختلفة على حد قول محمد شفيق غربال , فقد تميز دون غيرها من المفاوضات بأنها أول مرة فى تاريخ المفوضات المصرية – البريطانية , يقترح فيها المصريون تعديل صورة الإشراف البريطاني على الجيش المصري إلى إنشاء بعثة عسكرية بريطانية على غرار تلك الموجودة فى ذلك الوقت فى اليونان وتشيكوسلوفاكيا .

كما تميزت المفاوضات التي تلتها ,وهى مباحثات محمود – هندرسون وزير الخارجية البريطاني ( بالربط بين وجود الجيش البريطاني ومقدرة الجيش المصر على دفع العدوان إلى حين وصول المدد , أنى الاتفاق على أن الوجود العسكري البريطاني رهن أهلية الجيش المصر , وقدرته فى الدفاع عن أراضيه , وعلى منطقة قناة السويس بخاصة .

وقد تبع هذا الدور من المباحثات , المفاوضات التي انتهت إلى معاهدة 1936 , وترجع بداية هذه المفاوضات إلى عهد وزارة توفيق نسيم الثالثة , حيث طالبت الجبهة الوطنية التي تألفت من الأحرار الدستوريين والوفد , المندوب السامي بالشروع فى المفاوضات لعقد المعاهدة , وكانت الأزمة الدولية التي نشأت هذا العام ( 1935 ) عن نزاع إيطاليا والحبشة قد أدت إلى ازدياد المصريين يقينا بضرورة الإسراع بعقد معاهدة , وتم تشكيل هيئة مفاوضة برئاسة النحاس , وقد كان النقراشي أحد أعضائها إلى جانب محمد محمود وإسماعيل صدقي وعبد الفتاح يحيى وواصف بطرس غالي وأحمد عفيفي وعلي الشمسي وعثمان محرم ومحمد حلمي عيسى ومكرم عبيد وحافظ عفيفي وأحمد حمدي سيف النصر .. وقد بدأت هذه الجولة من المفاوضات من حيث انتهت مباحثات 1930 .

وعل الرغم من أن النقراشي وماهر قد شاركا فى المفاوضات ووقعا على المعاهدة فى 26 أغسطس 1936 , إلا أنهما ما فتئا يكرران أن المعاهدة خطوة فى سبيل الاستقلال , ولكنها لا تحقق الاستقلال المنشود .. يقول أحد التقارير البريطانية التي أعدت عندما تولى النقراشي الوزارة لأول مرة , والتي أوردها محسن محمد بكتابه " من قتل حسن البنا " ؟ أن النقراشي :

" رفض بشدة عدة مقترحات لتوقيع المعاهدة , فإنه رأى انطفاء شعلة الحماس المقدس عند النحاس باشا

وأجبرت الضجة التي صاحبت موسولينى النقراشي على قبول المعاهدة عام 1936 ولكن دون مبالغة " وأوغر موقف ماهر والنقراشي عليهما صدر زعيم الوفد الذي بالغ فى الإشادة بمزايا المعاهدة إلى حد القول إنها معاهدة الشرف ولاستقلال , على نحو ما أسلفنا , وكان أحد أسباب النزاع بين أقطاب الوفد الذي أفضى إلىخروج النقراشي .. ويبدو أن النقراشي ظل على رأيه فى المعاهدة , الذي أفصح عنه أكثر من مرة , بحيث نجده يقول فى موضوعين من مذكراته الخاصة بمباحثات عام 1947 مع بيفن بوساطة كامبل السفير البريطاني :

" لا تنتظر يا جناب السفير أن ألتزم بما جرى به العمل فى الماضي وإنكم تعلمون رأيي فى معاهدة 1936 , فكل ما يمكنني الامتناع عن القيام به سأمتنع عن عمله .. ( (5 إبريل )

ويعود مرة أخرى فى خلال مقابلته مع تشابمان أندروز نائب السفير البريطاني , إلى رابه " المعروف " فى المعاهدة فى معرض رده على ما ورد فى مذكرة الأخير بخصوص المعاهدات التي بين بريطانيا وبين مصر وشرق الأردن والتي بمقتضاها تكفل بريطانيا سلامة مصر وأمنها فيقول .

" .. وأنى أود أن أذكرك برأيي فى معاهدة 1936 , وإنني متمسك بهذا الرأي , وأن القول بأن بريطانيا هي التحى تكفل تحقيق سلامة مصر وأمنها قول غير مقبول , لأننا نريد أن نتولى نحن تحقيق سلامتنا وأمننا , لا أن يتولاه الغير عنا .. " ( مذكرة بتاريخ 28-9-1948 ) .

والواقع أن المعاهدة قد حققت الكثير مما عجزت المفاوضات السابقة عن تحقيقه , فقد نصت المادة الأولى على " انتهاء احتلال مصر عسكريا بواسطة قوات صاحب الجلالة الملك والامبراطور " وارتفاع مستوى التمثيل السياسي بين مصر وبريطانيا إلى مستوى " سفراء " بعد أن كان ممثل بريطانيا يحمل لقب " المندوب السامي " وترتب على الوضع الجديد التزام بريطانيا بتعضيد أي طلب تتقدم به الحكومة المصرية للانضمام لعصبة الأمم , بصفتها دولة مستقلة ذات سيادة , ولقد أوصت معاهدة 1936 كذلك بوجوب إلغاء نظام الامتيازات دون إبطاء , وقد تمت التسوية النهائية فى مؤتمر مونترو فى العام التالي , مما اخضع الأجانب فى مصر للنظام الضريبي المصري , بعد أن كانوا ينعمون بالإعفاء من الضرائب , كما ألزمهم كذلك بالتشريع المصري .

إلا أن هذه المعاهدة قد كبلت مصر بقيود عسكرية ثقيلة, أولها : ربط جلاء القوات البريطانية جلاء تاما عن مصر بأهلية وكفاءة الجيش المصري , إلى الدرجة التي تمكنه من أن يقوم بمفرده بالدفاع عن حرية الملاحة فى القناة وسلامتها , فى تناقض سافر مع معاهدة الآستانة 1888 التي نصت على حدة القناة وعلى مسئولية مصر فى الدفاع عنها , كما انتهزت بريطانيا الحالة الدولية المتأزمة فرفعت عدد قواتها المرابطة فى مصر إلى عشرة آلاف جندي , بعد أن كان عددها المنصوص عليه فى مشروع 1930 ثمانية آلاف , كما تم الاتفاق بين الطرفين بموجب المعاهدة على بقاء القوات البريطانية مرابطة فى منطقة القناة لمدة عشرين سنة كاملة , بل وألزمت مصر ببناء الثكنات الجديدة التي تنتقل إليها القوات فور انسحابها من المدن الكبرى , إلى جانب النفقات , على أن تقتصر مساهمة الحكومة البريطانية على الربع, إلا أن حكومة محمد محمود نجحت فيما بعد , وبالتحديد فى 27 سبتمبر 1938 فى تعديل هذه المادة , حيث اتفق على أن تقوم الحكومة البريطانية بزيادة الحصة المقررة لها فى تكاليف إقامة القوات البريطانية فى منطقة القناة إلى النصف بدلا من الربع

وأباحت كذلك المعاهدة المجال الجوى المصري للطيران الحربي البريطاني , وهو الأمر الذي أرادت بريطانيا استغلاله للطيران المدني , إلا أن حكومة النقراشي وانطلاقا من التطور الذي طرأ على الاتفاقات والمعاهدات الدولية , أرجأت الاقتراح البريطاني بتيسير رحلات منتظمة إلى العواصم التي لا تصل إليها شركة مصر للطيران , إلا أنه سرعان ما أدرك النقراشي , على الرغم من إصراره فى هذه المسألة , وتمسكه بموقفه طوال وزارته الأولى والثانية , أنه قد دخل فى معركة خاسرة وكما ورد بكتاب " سنة من عمر مصر "

ولعل فى هذه البنود المتعلقة بالمسألة العسكرية , ما يفسر اهتمام السعديين البالغ بالدعوة إلى دخول مصر الحرب , إلى جانب بريطانيا حتى يتسنى تسليح وتدريب الجيش المصري , ويفسر كذلك العناية الخاصة التي أولتها , حكومة علي ماهر ثم حكومة النقراشي لمسألة الجيش والتجنيد , فلقد استصدر النقراشي قانونا خاصا بالخدمة العسكرية و الذي فرض هذه الخدمة إجباريا على كل المصريين وكان النظام المعمول به من قبل هو نظام البدل النقدي الذي كان يسمح بالحصول على الإعفاء مقابل مبلغ عشرين جنيها , وقد رمى هذا القانون إلىزيادة عدد المجندين , كما أصبح الجيش يضم بين صفوفه عددا من المتعلمين ,ومن اليسير أن نستشف أن الغرض من هذا القانون هو درء ادعاءات بريطانيا التي كانت تتذرع بضعف الجيش لتبرير وجودها فى مصر , دفاعا عن مصالحها فى الشرق الأوسط وبادر النقراشي كذلك فور انتهاء الحرب العالمية الثانية بإرسال رسالة إلى السفير البريطاني يطالب فيها بضرورة إنهاء خدمة البعثة العسكرية البريطانية إلى السفير البريطاني يطالب فيها بضرورة إنهاء خدمة البعثة العسكرية البريطانية بالتدريج , محددا مهلة ستة أشهر لإنهاء هذه الخدمة, حيث إنه أدرك أن المراد من هذه الخدمة ,فى واقع الأمر هو السيطرة على تقدم الجيش المصري والتحكم فى قوته وحركته ( نقلا عن رسالة الدكتور عبد العليم خلاف )

فمما يميز وزارة النقراشي الأولى بحق هو السياسة التي انتهجها على الصعيد العسكري, حيث شهد عام 1945 بداية حجب الحكومة المصرية مشروعاتها فى التوسع فى الجيش المصري عن البعثة العسكرية البريطانية أن أول من أثار قضية الأعداد المتزايدة لأفراد البعثة العسكرية البريطانية فى الجيش المصري ومستواهم من حيث الكفاية , هو السيد سليم والنقراشي والسيد سليم قد تولى وزارة الدفاع فى وزارتي أحمد ماهر الأولى والثانية , وفى وزارة النقراشي الأولى , وقد دعمه النقراشي , كما يقرر الدكتور عبد الوهاب بكر محمد , فى السياسة التي اتبعها مع السلطات العسكرية البريطانية , والتا بلغت حد الرد على رئيس البعثة العسكرية البريطانية بأن يهتم بشئونه الخاصة , وبأن خطة الجيش المصر ليست من اختصاصه .

بالإضافة إلى البنود السابقة فمعاهدة 1936 هي أيضا تلك المحالفة التحى وصفها النحاس بأنها " محالفة الند للند على قدم المساواة الحقيقية" ولكنها تفرض على مصر مساعدة الحليفة فى ثلاث حالات , اثنتان منها نص عليهما فى مشروع معاهدة سنة 1930 وهما حالة الحرب, وحالة خطر الحرب , وزيدت ثالثة فى هذه المعاهدة , وهى قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها , ولقد وضع هذا البند مصر فى وضع حرج عند نشوب الحرب العالمية , واختلفت فى تفسيرها الآراء وتباينت كما أسلفنا .

أما فيما يخص السودان , فقد تم الاتفاق على عدم المساس باتفاقيتي 1899 , مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة فى المستقبل لتعديلهما ,وبموجبها تم التوصل إلأى الاتفاق على تفعيل هاتين الاتفاقيتين ,عن طريق الإقرار بعودة الجيش المصري إلى السودان , وتعيين المصريين مثلهم مثل الانجليز فى الوظائف التي لا يوجد لها سودانيون أكفاء , وكذلك بتخويل مفتش الري فى السودان – الذي تم الاتفاق على أن يكون مصريا – حق الجلوس بمجلس الحاكم العام عند النظر فى الشئون المتعلقة بمهام وظيفته , وإن ظلت سلطة تعيين وترقية الموظفين العسكريين والمدنيين مخولة للحاكم العام .

ولقد تركت معاهدة 1936 أثرا سيئا على نفوس الوطنيين السودانيين ,حيث سجل أحد تقارير المخابرات السودانية ( نقلا عن دراسة الدكتور يونان لبيب رزق ) أنه " ليس هناك من شك أن غالبية الوطنيين السودانيين ساخطون على الاتجاه المصري الجديد نحو السودان , مما تضمنته المعاهدة , وقد تمثل فى تحول الوطنيين المصريين من المطالبة باستقلال كل وادي النيل _ موحدا وبدون تجزئة ) إلى المطالبة بمشاركة البريطانيين , وتحقيق سيادة مساوية لهؤلاء , ولو من الناحية النظرية على الأقل " .

وهكذا يتضح أن المواد الخاصة بالسودان فى تلك المعاهدة سارت فى نفس الاتجاه الزى رسمته لنفسها السياسة البريطانية فى السودان ,منذ أحداث العنف فى عام 1924 الرامية إلى فصل السودان عن مصر بطرق شتى نذكر منها :

1- تشجيع الحركات الإقليمية والدينية ولعل اشترها المهدية .
2- إيجاد نوع من التنافس فى هذا المجال بين المصريين والسودانيين عن طريق الاستغناء عن زيادة الأزهر كمؤسسة دينية وتعليمية , وإحلال جامع أم درمان مكانه .
3- تشجيع الاتجاه القتلى الذي يحول دون انخراط السودانيين فى وحدة مع مصر .

ولقد فطن المصريون إلى هذه السياسة وسوف نقتصر هنا على ما يتصل بموضوعنا اتصالا مباشرا , مكتفين لإشارة إلى الجهود الواعية المبذولة فى سبيل إفشال تلك السياسة ,والتي أوردها الدكتور يونان لبيب رزق فى دراسته القيمة حول قضية وحدة وأدى النيل .. ولقد ساهمت حكومة النقراشي بقدح فى هذه السياسة الرشيدة , ففا عهد وزارتي النقراشي الأولى والثانية تم الاتصال التليفوني بين القاهرة والخرطوم , وأجريت الدراسات الفنية اللازمة حول مشروع امتداد خط حديدا من الشلال حتى مدينة حلفا , تسهيلا للانتقال بين السودان ومصر , وأعلنت حكومة النقراشي كذلك فى مجلس النواب أن المعاملات التجارية بين مصر والسودان لا تخضع لأية قيود , بناء على التصريح استثنى ممدوح رياض – وزير التجارة والصناعة السعد- السودان من قرار حظر تصدير أية كميات من السكر والزيت إلى الخارج لاشتداد حاجة السوق المحلية غليها فى أوائل عام 1948 , كما شرع النقراشي فى عهد وزارته الثانية فى بناء مسجد كبير بمدينة الخرطوم . كما أوضح الدكتور عبد العليم خلاف فى دراسته التي أشرنا إليها أكثر من مرة .

والواقع أن لفيفا من الساسة المصريين , على رأسهم إسماعيل صدقي , ومحمد محمود ,وأحمد ماهر , والنقراشي لم يقبلوا معاهدة 1936 إلا على مضض , فتى وإن كانت لها مزايا لا يمكن إغفالها ,إلا أنها من وجهة نظرهم لا تحقق إلا استقلالا منقوصا , حيث إنها أبرمت فى ظروف حالكة , مصحوبة بتهديد لا يكاد يخفى وجهه السافر , بإعادة فرض الحماية على مصر , مثلما كانت الحال فى الحرب العالمية الأولى , كما قبلوها على أمل تعديلها فى أقرب وقت ممكن .

ولقد رأوا الفرصة سانحة بعد انتهاء الحرب العالمية , واعتمادا على ما قدمت مصر من مساعدات وتضحيات تؤهلها من وجهة النظر المصرية للحصول على حقوقها .

إلا أنه سرعان ما خاب ظن الوطنيين المصريين , ويصور لنا هذا الشعور خير تصوير ذلك الاحتجاج الذي رفعته الحكومة المصرية للحكومة البريطانية , لتجاهل الحكومة المصرية المؤتمرين اللذين عقدا بموسكو ثم لندن , لمفاوضات الصلح مع جميع الدول الأوربية التابعة لألمانيا .

وتعول المذكرة المرفوعة فى هذا الشأن على المجهود الجربى الزى ساهمت به مصر , والزى كان قد لعب دورا كبيرا فى تطور الحرب , وتعول كذلك على ما لها من مصالح فى ممتلكات إيطاليا الإفريقية ,خاصة أن إيطاليا كانت قد اغتصبت منذ عام 1885 مصوع ومناطق أخرى وشيدت منها مستعمرة إريتريا التحى كانت تقتضى طبيعة الأمور إلحاقها بالسودان ,كما أضيرت المواني المصرية من جراء الغارات الجوية الإيطالية .

ولذلك ازدادت الانتقادات الموجهة للمعاهدة حدة وضراوة , عقب انتهاء الحرب , حتى لنجد في آخر ساعة ( في 10-9-1947 ) مقالا عنيفا وقعه كامل الشناوي , يفصح عنوانه عن فحواه " كلمة الساعة : جريمة المعاهدة ... تكلموا أيها المرقعون " إلا أن الواقع أن المعاهدة لم تكن من صنع الموقعين وحدهم , حيث شاركهم المسئولية أعضاء مجلسي النواب والشيوخ , فلقد أقر البرلمان المصري هذا الاتفاق في يوليه 1937 , بأغلبية 202 من الأصوات ضد 11 صوتا في مجلس النواب وبأغلبية 109 أصوات من 116 في مجلس الشيوخ .

وقد وردت أول إشارة رسمية إلى الرغبة في التحلل من قيود معاهدة 1936 في خطبة الملك في يوم 18 يناير 1945 , وقد عزز أحمد ماهر المطلب في خطبة له في البرلمان .

وتولى النقراشي الوزارة لأول مرة في 24 فبراير 1945 , عقب اغتيال أحمد ماهر , فاستكمل المشوار الذي كان قد قطعه سلفه , مناديا بدخول مصر الحرب إلى جانب بريطانيا – كما أسلفنا- فأعلن دخول مصر الحرب ضد ألمانيا واليابان . وقد ألغى النقراشي الأحكام العرفية في 7 أكتوبر من نفس العام , حيث انتفت الحاجة إليها , وبذلك لم يعد حاكما عسكريا عاما .

ثم كان عليه – وقد وضعت الحرب أوزارها – أن ينزل بدوره إلى حلبة المفاوضات , وكانت أول خطوة له في هذا الاتجاه هي المذكرة التحى رفعها إلى السفير البريطاني في 20 ديسمبر 1945 لطلب تحديد أقرب موعد لفتح باب المفاوضات , وقد تضمنت المذكرة ضرورة معالجة مسألة السودان , وقد انتقد البعض " تلكؤ " و" تشاغل " النقراشي , إلا أنه في الواقع كان قد سبق تقديم هذه المذكرة عدة خطوات , حيث إنه عين الدكتور عبد الحميد بدوي رئيسا للوفد الزى سوف يمثل مصر في مؤتمر سان فرانسيسكو , ولقد كان عبد الحميد بدوي معروفا في الدوائر البريطانية بنزعته الوطنية " المتطرفة " أما بالنسبة للساسة المصريين فلقد كان " فقيه مصر الكبير " على حد تعبير الدكتور حسين هيكل .

أثار بدوى مسألة تعديل المعاهدة في إحدى جلسات المؤتمر ( 28-4-1945 ) مناشدا المؤتمر بتشريع المبادئ التي يمكن على أساسها تعديل المعاهدة التي تتنافى مع الواقع العالمي المستجد , والتي يمكن أن تشكل مصدر للنزاع , وبالتالي تهديدا للسلام العالمي وفى 26 يوليو تولى حزب العمال السلطة , فكرس النقراشي – الذي رأى في هذا الصعود فرصة سانحة لتعديل المعاهدة – جلسة مجلس الوزراء يوم أول أغسطس لمناقشة العلاقات المصرية – البريطانية .

إلا أنه وفقا لرحمن صاحب كتاب (... ) حث الملك النقراشي بألا يتسرع , خوفا من أن يؤدى الفشل في المفاوضات إلى صعود الوفد مرة أخرى , وهو ما كان يريد الملك أن يتفاداه بلى ثمن لما كان يكنه للنحاس من بغض منذ حادثة 4 فبراير 1942 , ومن ناحية أخرى كان هذا التوجه من القصر والحكومة متمشيا مع خطة الخارجية البريطانية , حيث كانت تتقرب التقرير الذي كان يعده الفنيون العسكريون عن متطلبات بريطانيا العسكرية في المنطقة , قبل الخوض في مباحثات جديدة لتعديل المعاهدة .

واضطر النقراشي لمواجهة التذمر المتصاعد بين جموع الشعب , الذي كانت تداعبه الآمال العريضة للتخلص من الوجود العسكري الاستعماري , والذي كان من ناحية أخرى تعبث به أيد خفية , كما كان النقراشي يعانى كذلك من الأزمة التي سببتها العناصر المناوئة في وزارته الائتلافية , التي كان قد ورثها عن سلفه دون إجراء أي تعديل بها , فلقد استقال حافظ رمضان وزير العدل الذي كان ينتمي إلى الحزب الوطني , صاحب شعار " لا مفاوضة إلا بعد الجلاء " وعلى النقيض من ذلك , هدد مكرم عبيد وزير المالية بانسحاب الوزراء الذين كانوا ينتمون إلى الكتلة الوفدية , إذا لم يتم اتخاذ خطوات حاسمة في سبيل تعديل المعاهدة . ولقد شاب العلاقة بين مكرم والنقراشي الكثير من التوتر , حيث إنه كان الأول قد قبل على مضض العمل مع أحمد ماهر , إلا أنه كان دائم التبرم من النقراشي ,وقد أخذ الدكتور حسين هيكل على النقراشي عدم اتخاذه موقفا حاسما إزاء تهديد مكرم المستمر بالاستقالة .

ومن ناحية أخرى فلقد اضطرت حكومة النقراشي , شأنها في ذلك شأن الوزارات المصرية كلها التي تشكلت في ظل الاحتلال , والتي حاولت جاهدة تفعيل واستثمار حيز الحرية الضيق المتاح لها في هذه الظروف , اضطرت لمواجهة عدد من المتاعب والصعاب , يصعب على أي مراقب أن يدركها على وجهها الصحيح .

ونسوق على ذلك مثالا بسيطا من واقع خطاب للدكتور عبد الحميد بدوي موجه إلى النقراشي بتاريخ 21 ديسمبر 1945 , حيث يشكو الأخير من تعنت الانجليز خلال اجتماعات اللجنة التحضيرية , التي أنيط بها البت في أمر المقر الدائم لهيئة الأمم المتحدة , وهو الأمر الذي علقت عليه الحكومة البريطانية اهتماما كبيرا , لأنها رأت في اختيار أمريكا مقرا لهذه الهيئة انتقاصا من نفوذها , ولقد حاول الوفد البريطاني برئاسة نويل بيكر أن يحمل الوفد المصري على التصويت لصالح أوروبا , وهو الأمر الذي لم يرق للجانب المصري لأنه " دفاع عن هذه القارة دون تحديد أي مكان منها ضد أمريكا إطلاقا " على حد قول عبد الحميد بدوي , لذلك فهو لم يتعهد بأي شيء قبل الوفد البريطاني , وعند التصويت اختلط الأمر على ممثل مصر لسوء ترتيب الأسئلة موضوع الاقتراع , وصوت بحسن نية تامة ضد أوروبا ثم لأمريكا بعد ذلك , فما كان لبيكر إلا أن اعتذر عن غداء كان قد دعاه له عبد الحميد بدوي من قبل , وكانت الدعوة إليه على شرفه , كما كان هو الذي اختار موعدها , وذلك لأنهم " يريدوننا أن نفهم وقد تفضلوا بالكلام معنا في أمر , وجبت علينا مجاراتهم فيه " أو " لتأديب من حدثته نفسه أن يكون رأيا خاصا " قد ترتب على وقاحة بيكر أن اضطر عبد الحميد بدوي للاعتذار عن دعوة غداء رتبت من أجل أن يقابل الأخير .

ويختم عبد الحميد بدوي ما سرده من أحداث بقوله إنه وقد تأزمت الأمور بهذا الشكل فإنه يضع استقالته رهن تصرف النقراشي , خوفا من أن يكون لوجوده في الحكومة ما يؤثر على المفاوضات المقبلة , خاصة وقد غلب في الوقت الراهن الصفاء على العلاقات بين حكومة النقراشي والحكومة البريطانية .

نلمس من هذه الواقعة الصلف والغطرسة البريطانية المعهودة التي تنم عن العقلية الاستعمارية , التي كان على الوطنيين التعامل معها , محاولين تحقيق المعادلة الصعبة بين اعتبارات العزة الوطنية وبين الحذر , الذي تمليه عليهم المصالح العليا للبلاد , ونلمس كذلك تجرد الساسة المصريين من أهوائهم الشخصية , وكذلك قلق بريطانيا من النفوذ الأمريكي المتزايد.

فلقد كان العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية, قد دخل عصرا جديدا تتنازعه أطماع قوتين عظميين , وكان على بريطانيا إزاء الواقع الجديد أن تعدل من إستراتيجيتها في الشرق الأوسط تعديلا جوهريا , تواجه به المد الشيوعي من ناحية والنفوذ الأمريكي المتزايد من ناحية أخرى , حيث اقترح بيفن تبنى سياسة اقتصادية واجتماعية مبنية على الشراكة الاقتصادية بين بريطانيا ودول الشرق الأوسط , وأفصح عما كان ما يتمناه بأن يؤدى هذا التعاون إلى منع التغلغل الأمريكي في أسواق كانت بريطانيا تهيمن عليها من قبل , بينما تقدم باجيت القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط بتصور آخر , يقوم على أساس اتحاد فيدرالي يضم بريطانيا ودول الشرق الأوسط , وعلى رأسهم مصر .

بمعنى آخر بدأت فكرة الدفاع المشترك تقترن بضرورة إنهاء الاحتلال العسكري التقليدي , وذلك حتى يتسنى لبريطانيا الاحتفاظ بقواعد عسكرية في الشرق الأوسط , وبالأخص في مصر نظرا للأهمية الحيوية لقناة السويس , ولذلك نجد المفاوض البريطاني يطرح نفس السؤال على صدقي وعلى النقراشي , هل تستطيع مصر إرسال قوات إلى العراق مثلا إذا ما تعرض هذا البلد العربي للخطر ؟ على اعتبار أنها البلد العربي القريبة حدوده من حدود الاتحاد السوفيتي الذي أصبح يمثل أكبر مصدر للخطر للمصالح الغربية والبريطانية في الشرق الأوسط ؟

ويسجل النقراشي في المذكرات السياسية التحى لدينا الحديث الذي دار بينه وبين باجيت في 23 أكتوبر 1945 , وكذلك في يوم 30 من نفس الشهر بحضور آلنبروك الذي كان قد حضر إلى القاهرة في اليوم السابق ليقف على مشاكل الدفاع في الشرق الأوسط , في المرة الأولى يطرح باجيت فكرة الاتحاد الفيدرالي متعللا بأن " المسألة الآن لم تعد مسألة قنال القاهرة بل مسألأة المنطقة كلها ورفاهية أهلها " ويحذر النقراشي بأنه " في هذه الحالة سوف تسود الفكرة بأن الدول الكبرى توزع العالم إلى مناطق نفوذ تختص بريطانيا بالشرق الأوسط " ويرد بخصوص القواعد والتجهيزات التي تريد بريطانيا الاحتفاظ بها في مصر ليتسنى لها الدفاع عنها بأن " عندهم فلسطين يضعون فيها قواعدهم " أما مصر فتعتزم زيادة قواتها , ويقرر القاعدة التي لا يقبل أن يحيد عنها , وهى أن الصداقة بين مصر وبريطانيا لا تتوطد ولا تنمو إلا إذا كانت مصر مستقلة حرة في تصرفاتها حيث إنه " ليس من المتيسر الآن تسيير أمة ضد إرادتها

وفى اللقاء الثاني يتحدث المارشال آلنبروك عن وسيلة الاشتراك في الدفاع عن الشرق الأوسط , فيستبدل النقراشي كلمة " اشتراك " بكلمة " محالفة" متعللا بأن تلك هي الوسيلة المثلى لتنظيم الدفاع عن المنطقة , ويكرر نفس القاعدة التي أرساها في لقائه الأول مع باجيت , مضيفا تهديدا خفيا بأنه في حالة الحرب يهتم العدو أيضا بحالة القلق السياسي في البلاد التي يريد أن يغزوها , وعندما نسب باجيت كلام النقراشي إلى " وطأة الجيوش الانجليزية " نظرا لكثرتها أمام ناظري المصريين , أجاب النقراشي بأن العبرة ليست في وجود الجنود الانجليز في القاهرة أو في غيرها من المدن المصرية , بل في مغزى هذا التواجد العسكري الأجنبي في البلاد , إذ إنه عندما رؤى استعراض الجيش الانجليزي في شوارع القاهرة في 1939-1938 قوبل بالتصفيق من رجل الشارع المصري , لشعوره بأن هذا الجيش سوف يذود عن مصر إلى جانب الجيش المصري , إذا مال تعرضت لهجوم , أما في الوقت الحاضر فإن هذا الوجود لا يعنى إلا السيطرة وعدم الثقة .

ونخلص من هذا العرض لأهم ما ورد بالمذكرتين إلى عدة ملاحظات :

1- الوضوح التام الذي ميز حديث النقراشي مع المسئولين البريطانيين , وحرصه في نفس الوقت على توخي الدقة في التعبير , وعدم الانتقال من نقطة إلى أخرى إلا بعد أن يتم الاتفاق التام على المواد , حتى لا يترك ثغرة في كلامه يمكن الاستفادة منها في المستقبل .
2 – الالتزام بمبدأ التحالف في مقابل الدفاع المشترك , مما يدل على النظرة الواقعية للعلاقات المصرية – البريطانية , أي الإدراك بأن مطالبة دولة بحجم بريطانيا بما لها من جيش وعتاد بالجلاء غير المشروط , وهو من قبيل السفسطة والمزايدة .

وفى توجه جديد للسياسة المصرية مواكب لظهور نجم قوة جديدة تنافس الإمبراطورية البريطانية التي بدأت تغيب عنها الشمس , نتابع جنبا إلى جنب مع المباحثات الجارية مع السلطات البريطانية , مباحثات أخرى مع وزير الولايات المتحدة الأمريكية , المستر تاك , في 29 يناير 1945 , الذي يسأل رئيس الوزراء المصري إذا كان الوقت مناسبا لعقد معاهدة صداقة مع الحكومة المصرية , تشمل المسائل التجارية والإقامة وغيرها , فيجيب النقراشي السؤال بسؤال ذي مغزى حول الزاوية التي ينظر بها الأمريكيون على مصر : هل يزمعون التعامل معها في ضوء العلاقة الخاصة التي تربطها ببريطانيا بمقتضى معاهدة 1936 , أم بصفتها دولة مستقلة ذات سيادة تسعى إلى تحرير نفسها من القيود التي فرضتها عليها المعاهدة ويجيب المستر تاك بأن المعاهدة من النوع النمطي يقترح عقدها على غرار تلك التي عقدت مع إيران , والمجارى الاتفاق عليها مع كل من سوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية , فيفطن النقراشي إلى مغزى هذا الرد , حيث يجيب بأن هذه البلاد تعتبر مناطق نفوذ , وأنه يطمع أن تكون المعاهدة مع مصر على غرار تلك التي عقدت مع هولندا وبلجيكا مثلا .

ويتعرض الطرفان , في تسلسل للحديث يدل على الوعي التام بأنهما إنما يتحركان في إطار من القيود مفروضة فرضا على مصر , لوضع الوزير الأمريكي المفوض الذي رفض اقتراح حكومته برفعه إلى رتبة سفير , لأن ذلك على حد قوله , مكن شأنه أن يخلق وضعا غير مقبول بالنسبة للولايات المتحدة , التي يكون سفير بريطانيا مقدما على سفيرها بمقتضى المعاهدة المصرية – البريطانية المبرمة مع مصر , فيصرح النقراشي بأن مسألة تقدم السفير البريطاني هي من المسائل التي سوف تطرح قريبا في المباحثات مع الجانب البريطاني .

الفصل السابع: حادثة كوبري عباس

تأخر الرد البريطاني على المذكرة المصرية المرفوعة إلى الحكومة البريطانية حوالي شهر , فلم يصدر عن وزارة الخارجية سوى 26 يناير 1946 وقوبل بالاستهجان من الرأي العام , حيث إنه أقر المبادئ الأساسية التي قامت عليها معاهدة 1936 , كما أنه وضع مصر في مصاف " مجموعة الأمم البريطانية والإمبراطورية " مما يتنافى مع الكرامة الوطنية , فاندلعت المظاهرات الصاخبة في الجامعة , وتصدت لها حكومة النقراشي , ونجم من المواجهة بين الطلبة وبين قوات البوليس الواقعة التي عرفت في التاريخ باسم " كوبري عباس " ولقد تجمعت عدة عوامل حولت هذه الحادثة إلى أسطورة بعيدة عن الواقع , منها الجهل بملابسات الحادث ودوافعه , وبعده عن الرصد المحايد الذي نشرته " الأهرام " أو الشهيدة التي أرخ لها المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي .

لم يكن ذلك الجنوح وقلب الحقائق إلا من قبيل الاستغلال السياسي للحادث لأغراض خاصة من قبل عدد كبير من الأحزاب والجماعات والأفراد . كما اختلطت أحداث كوبري عباس في عهد النقراشي بتاريخ 9 فبراير 1946 , بالأحداث الأخرى التي جرت في ذات المسرح بتاريخ 14 نوفمبر في عهد وزارة توفيق نسيم الثالثة .

وبفعل هذه العوامل أصبحت أسطورة كوبري عباس , أما ما يدعونها بمذبحة كوبري عباس في 9 فبراير 1946 , وكأنها حقيقة تاريخية ولد كانت للمصالح السياسية المختلفة أسبابها التعدية إذكاء وإضفاء الغطاء على الأكاذيب التي أحاطت بحقيقة الموضوع حتى رسخت في مخيلة الشعب , دون أن يعنى أحد بتتبع الأحداث الحقيقية واستجلاء بواعثها , اكتفاء بالادعاءات التي تصور هذه الاضطرابات على أنها كانت محاولات سلمية من جانب الطلبة , للتعبير عن آرائهم في الرد البريطاني المتعنت على المذكرة المصرية .

فنجد أن مكرم عبيد وزير المالية في حكومة النقراشي الأولى يلعب دورا سابقا للأحداث وإن كان ساهم بقدح في اضطراب الموقف وإشعال الفتنة ,فهو يسرب إلى جريدة الكتلة المشروع الحكومي لطلب الجلاء في 15 ديسمبر 1945 قبل إبلاغ وزارة الخارجية البريطانية بفحواه , وهو أمر لا يتفق وأصول الحكم من وزير مسئول , الأمر الذي دعا وزارة الخارجية البريطانية أن تبدى امتعاضها الشديد واحتجاجها على مثل هذا السلوك الذي يخرج عن الأعراف الدبلوماسية , وهو ما أبلغه اللورد كيلرن للنقراشي إلى الإسراع بتغيير صيغة المذكرة المصرية .

ثم يعاود مكرم عبيد محاولاته في تخريب المساعي المصرية في بدء التفاوض بإعادة تسريب صورة من الرد البريطاني على المذكرة المصرية في أول فبراير 1946 , ليقطع الطريق أمام النقراشي في الاستمرار في المفاوضات , وخلق جو من التوتر بين الحكومتين , ومن المتناقضات أن يتولى مكرم عبيد شخصيا الدفاع عن موقف الحكومة في هذا الشأن في جلسة مجلس الشيوخ بتاريخ 5 فبراير 1946 , ثم يقام له حفل تكريم في 9 فبراير عند بدء إضرابات الجامعة , فينتهز الفرصة لمهاجمة الحكومة التي ما يزال عضوا فيها , بعد أن عدل عن استقالته التي قدمها في 26 يناير بناء على نصيحة الملك , ثم هو يعاود تقديم الاستقالة من جديد مع زميليه من وزراء حزب كتلة الوفد , طه باشا السباعي والسيد سليم في 14 فبراير , كما يساهم طلبة الكتلة على ندرتهم في إضراب كوبري عباس بزعامة زكريا لطفي جمعة , الطالب بالحقوق , على الرغم من أن مكرم عبيد زعيم الحزب ما زال شريكا في الوزارة ولقد عبر الدكتور حسين هيكل في كتابه " مذكرات في السياسة المصرية " ( الجزء الثاني ) عن رأيه في مناورات مكرم عبيد , وحملها المسئولية الكبرى في إضعاف الوزارة في تشجيع المعارضة .

ولقد عثرنا أخيرا في حقائب النقراشي على مذكرة وزارة الداخلية – إدارة الأمن العام – وهى تتناول وقائع ثابتة يمكن الرجوع إليها , كما تحتوى على أحداث مشهودة وشخصيات محددة ترتبط بالواقع الزمني والمكاني والتاريخي . ولا شك أن وثائق وزارة الداخلية الخاصة بكوبري عباس لابد وأن تكون محفوظة على الرغم من مرور ستين عاما على الحادث , وكذلك المحاضر الرسمية والسجلات ودفاتر الأقسام لما يصوره الحادث من أهمية بالغة .

فمذكرة وزارة الداخلية التي تم العثور عليها والمرفوعة من إدارة الأمن العام في فبراير سنة 1946 إلى وزير الداخلية دولة النقراشي باشا تؤكد أن حادث كوبري عباس لم يكن عفو الخاطر أو مجرد إضراب سلمى , بل إنها كانت مؤامرة واسعة النطاق على مستوى القطر كله , لها ما وراءها من سبق التدبير والمقاصد التي لم تكن خافية على الوزارة منذ البداية ,فهم يرصدون ما يدور في جماعة الإخوان المسلمين , ومصر الفتاة والحزب الوطني , وكذلك حزب الوفد .

بل إننا نجد قبل اندلاع المظاهرة التي اقترن اسمها بكوبري عباس أن البوليس السياسي يرصد اجتماعا يدور في منزل النحاس في 1-2-1946 من أشخاص محددين من لجان الوفد المختلفة , مثل الدكتور محمد بلال ( الذي كان قد كلف بتأليف أول فرقتين للقمصان الزرق ) وكمال عبد المطلب , ومحمد شحاتة مصطفى , وهو يعرضون عليه القيام بثورة , ويبدو من رد النحاس أنه لا يعترض عليها بقوله أن " من يريد أن يثور لا يتكلم " كما زاره في يوم 6 فبراير رئيس اتحاد طلبة الأزهر ومعه بعض الطلبة , وعاهدوه على قيام حركة الأزهر ابتداء من 9 فبراير " خالصة للوطن " على حد قولهم .

وتتوالى الاجتماعات التي يرصدها البوليس في حزب مصر الفتاة بقيادة أحمد حسين , وكان آخرها قبل حادث الكوبري بيوم واحد, أي بتاريخ 8 كما يرصد البوليس اجتماعا بتاريخ 6 فبراير يقرر فيه المكتب العام للإخوان المسلمين اعتبار الأسبوع الذي يبدأ من 9 فبراير " أسبوع الجهاد " وقد أطلق عليه " أسبوع الوطن " ولا نطيل في ذكر عمليات الرصد , فهي مفصلة تفصيلا دقيقا بالمذكرة سابقة الذكر .

وهكذا فنحن أمام تواطؤ المنظمات والجماعات والأحزاب المختلفة على إشعال نار الفتنة , رغم أنهم هم الفرقاء الذين يختلفون في المذاهب والرأي والأهداف كل الاختلاف .

ولم يكن غريبا والأمر كذلك أن يسبق الإضراب اجتماع ممثلي هذه الفرق المختلفة معا مثل أبو شادي الكيلاني (حقوق وفدى ) , عز الدين إبراهيم ( آداب إخوان ) , إبراهيم زيدان ( حقوق إخوان ) , عبد المحسن حمودة ( هندسة وفدى ) ماهر محمد علي ( حقوق وطني ) ,عبد الرءوف سرحان ( حقوق وفدى ) , صبري أبو المجد ( حقوق وفدى ) , إبراهيم رشدي ( حقوق جهاد وطني) , زكريا لطفي جمعة ( حقوق كتلة الوفد ) , مصطفى مؤمن ( هندسة إخوان ) وذلك لتحريك الاضطراب وقيادة الطلبة .

وأغرب ما أوده التقرير سابق الذكر رصد الزير الفدى السابق عبد الحميد عبد الحق , وهو يتابع المسيرة لكوبري عباس من سيارته , ثم يطل عليها هاتفا " لا مفاوضة إلا بعد الجلاء " وهو شعار لا علاقة له بمبادىء الوفد , بل هو متعارض معه كل التعارض .

وهكذا سار المتظاهرون أو سيروا نحو كوبري عباس , سعيا لقلب مدينة القاهرة , إلا أنهم وجدوا الكوبري مغلقا للمشاة , فما كان من بعض طلبة كلية الهندسة إلا أنهم ركبوا الزوارق وأرغموا المهندس المقيم بالكوبري على فتحه عنوة للمرور بين شاطئ الجيزة وشاطئ الروضة .

وحينما أمرهم ضباط بوليس مصر المرابطون في نهاية الكوبري جهة النيل بالتفرق لم يذعنوا , فذهب إليهم وكيلا حكمدار بوليس مصر ونصحاهم بالتفرق فلم يذعنوا أيضا , بل إنهم قذفوا البوليس بالطوب , وأصيب بعض أفراد البوليس بإصابات من الطوب والعصي , بلغت إصابة الطلبة والأهالي 36 شخصا ,وعدد من أصيب من البوليس 15

وعند تراجع الطلبة ناحية الجيزة استمرت إعمال الشغب ,فانجلى الحادث في مجمله عن إصابة 89 من الطلبة والأهالي , كما أصيب 31 آخرون من رجال البوليس .

ولم تسفر واقعة كوبري عباس عن حالة وفاة واحدة, اللهم إلا حادث لاحق اعتدى فيه بعض الطلبة على سيارة نقل رقم 26572 مصر , يقودها السائق شفيق حسب الله , وحينما أرغمت على تغيير اتجاهها سقط تحت عجلاتها طالب يدعى محمد على محمد من كلية التجارة , وعندما ذهب وكيل النيابة الأستاذ فؤاد رشدي لضبط الواقعة منعه الطلبة , وحاولوا الاعتداء عليه , فعاد أدراجه إلى النيابة , ويتفق ما يمكن استنتاجه من هذه المذكرة مع الرأي الذي أبداه عبد الرحمن الرافعي على الرغم من المآخذ التي سجلها على بعض تصرفات حكومة النقراشي ,’ منها على سبيل المثال منع الطلبة من التوجه إلى قصر عابدين , والاعتداء عليهم بالضرب حيث يقول :

" بالغ الرواة في تصوير ( هذه الحادثة) إذ جعلوا منها فيما بعد دعاية سياسية ضد وزارة النقراشي ,وزعموا أن بعض الطلبة قتلوا فيها , وأن بعضهم غرقوا في النيل من أعلى الكوبري , وقد تحققنا أنه ل يقتل أحد في هذه الواقعة بالذات "

بل ولقد أيدت رواية الرافع شهادة أحمد عادل كمال في كتابه " النقط فوق الحروف – الإخوان المسلمون والنظام الخاص " وهو أحد أعضاء الجهاز السري لجماعة الإخوان المسلمين ,رغم التناقض الواضح بين الألفاظ المنتقاة فهو يقرر أن :

" أحدا لم يقتل يومها رغم أن كثيرين ألقوا بأنفسهم من فوق الكوبري إلى النيل أو إلى الضفة الطينية من جهة الجيزة ولكنها على أي حال كانت مذبحة أسفرت عن مئات من الجرحى " .

ونخلص من واقع التقرير الرسمي أن حادث كوبري عباس كان عبارة عن ثورة مدبرة سق الإعداد لها على مستوى القطر كله فتى تمتد من القاهرة والجيزة إلى الإسكندرية والشرقية والدقهلية والمنوفية وكذلك البحيرة وقد شارك في هذه المؤامرة واسعة النطاق أطراف عديدة .

وقد يؤخذ على هذا التقرير نقل حديث عن النحاس في منزله , بما قد يعنى تجسس البوليس السياسي , إلا أن منزل النحاس في ذلك الوقت كان أقرب إلى المنتدى العام , الذي دائما ما يحفل بالزائرين والوفود , كما كان النحاس سخيا في تصريحاته , بل وكثيرا ما كان يطيب له أن يقوم خطيبا في هذه الوفود , مهما انحصر عددهم في قلة قليلة و وبذلك فإن هذا المصدر من المعلومات كان بالغ الأهمية سواء كانت هنالك آذان وأعين البوليس السياسي , أو من يتطوع بذلك , و " يأتيك بالأخبار من لم تزود " .

كما أنه من الأهمية بمكان أن نولى تقرير الداخلية سابق الذكر , ما يستحقه من اهتمام لما عرف عن النقراشي من حرص بالغ في اختيار معاونيه في وزارة الداخلية , كما كانت له خبرة واسعة بخبايا العمل في وزارة الداخلية حيث عين وكيلا للداخلية عام 1924 , وتوالت بعد ذلك ولايته وزيرا للداخلية في عهود شتى إلى أن انتهى الأمر به إلى الجمع بين رئاسة الوزارة ووزارة الداخلية في فبراير سنة 1945 .

وبذلك إذا ما سلمنا بخطورة هذا التقرير فلنا هنا أن نعجب :

- ماذا كان ينبغي على وزير الداخلية أن يقوم به إزاء هذا الإضراب الذي اندست فيه وحركته عناصر سبق الإشارة إليها , هدفها الأول هو قلقلة النظام , بل إن منهم من كان مسئولا عن حريق القاهرة فيما بعد ؟

- ماذا كان ينبغي على وزير الداخلية فعله إزاء تعرض رجال الأمن للضرب بالعصي والطوب , حتى بلغ عدد المصابين منهم 46 في حادث كوبري عباس ؟

وإذا رجعنا إلى مشاهداتنا للممارسات المتبعة في الوقت الحالي بالدول الغربية التحى تكفل حق التظاهر , وجدنا أن البوليس يتعامل بحزم بالغ مع المتظاهرين عند أول بادرة للإخلال بالأمن .

وحتى لا يغيب عن القارئ الجانب الآخر من واقعة كوبري عباس , فإننا ننقل بعض ما ورد في مذكرات محمد شوقي الفنجري , وهو طالب الحقوق الذي أصيب في الحادث إصابة بالغة , إثر ضربة بعصا البوليس في رأسه أحدثت كسرا في عظام الجمجمة , كما أحدثت شللا بساقه اليمنى , ورواية الدكتور الفنجرى إنما تدل على تواجد عناصر شاركت في الإضراب بدافع الحماسة , كما تدل كذلك على قسوة البوليس في التعامل مع الطلبة , ورغم ذلك فإن الدكتور الفنجرى ينفى عن النقراشي مسئولية حادث كوبري عباس , وينسبها إلى حكمدار القاهرة راسل باشا , وكذلك إلى حكمدار الجيزة فيتز باترك باشا , اللذين أضمرا حصار طلبة جامعة القاهرة فوق كوبري عباس بحيث لا يفلت طالب من الاعتداء , بعد أن أدخلوا في روع الطلبة أن أحدا لن يعترض سيرهم , إذ تركوهم يسيرون في هيئة مظاهرة , ولمسافة طويلة حتى عبروا كوبر عباس .

ورغم تعاطفنا الشديد مع المأساة التي عاشها الدكتور الفنجرى ,والتي تتمثل في رحلة علاج مضنية من جراء ما أصابه , إلا أننا لا نملك أيضا إلا أن نتوقف عند الثغرات الكثيرة التي تشوب تصويره للحادث منها:

أولا : إن الكوبري كان مغلقا للمشاة , مفتوحا لمرور المراكب الشراعية , إلا أن بعض الطلبة نزلوا في قوارب وأغلقوا الكوبري عنوة , ليكون صالحا لمرور الإضراب بعد تهديد المهندس المسئول , بل وتشير الأحداث إلى أن إغلاق الكوبري تم بطريقي غير سليمة .

ثانيا : إن الدكتور الفنجرى في مذكرة له بعد الحادث بثلاثين عاما , أي في 25 يناير 1976 يقول " إن كوبري عباس مذبحة مثلها في التاريخ الحديث , إذ أصيب فيها ألفا طالب بإصابات جسيمة " ومثل هذا الرقم مبالغ فيه مبالغة كبيرة طبقا لما سجله المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي في كتابه " في أعقاب الثورة المصرية " ( الجزء الثالث) كما يتعارض التقدير بشدة مع مذكرة الأمن التي سبق ذكرها , وهو التقدير الزى يفترض فيه الدقة ,. لما عرف عن النقراشي من الشدة والجدية معا , حيث حدد عدد المصابين من الطلبة والأهالي الذين اندسوا في الإضراب بـ 125 شخصا فقط , مقابل إصابة 46 من رجال البوليس , كما أن أحد المتظاهرين قام برجم الأمباشى الانجليزي " هولمان " بحجر في جبينه , وقد ضبط وفى جيبه قطع من الزلط , كما لم يستعمل البوليس الرصاص , وأن أحدا لم يقتل في هذه المظاهرة . ويتضح من المذكرة أن البوليس لم يطلق الأعيرة النارية سوى في الإسكندرية في الهواء على سبيل الإرهاب , وذلك ردا على ما قام بع بعض الطلبة من قذف رجال البوليس بنيران مشتعلة .

ثالثا : فتح الكوبري عنوة لمسيرة الإضراب ,وكذلك الاعتداء على البوليس ينفى فكرة المؤامرة من جانب البوليس واستدراج الطلبة وحصارهم فوق الكوبري , كما جاء في رواية الدكتور الفنجرى

رابعا : إن الدكتور الفنجرى يشكك في شهادة الرافعي مع تسليمه بأنه مرجع أساسي في التاريخ الحديث , بدعوى أنه كان صديقا للنقراشي من جاب , وعدوا لدودا للوفد , رغم أن عداوته للوفد لا علاقة لها بصميم الموضوع , كما أنها تجعل من الدكتور الفنجرى نفسه متحيزا للوفد بدوره , وبأنه طرف في الإضراب .

ثم يعود الدكتور الفنجرى ليقرر " براءة النقراشي من مذبحة أبنائه طلاب الجامعة براءة الذئب من دم يوسف ابن يعقوب " على حد قوله ,ويلقى التبعة كلها على الضباط الانجليز , بما يوحى أنها مؤامرة بريطانية

وعلى وجه العموم فإن البوليس قد استعمل غاية الشدة في قمع المظاهرات , ومن العسير علينا تصور لجوئه إلى هذه الأساليب , دون أن يستثار من الطلبة والدهماء الذين اندسوا بينهم , وكذلك لعلم البوليس المسبق بالتدبير والتخطيط لهذه المظاهرة من قبل الجماعات والأحزاب لإحداث ثورة في ربوع القطر كله . ولقد دعمت الوثائق البريطانية ما ورد بمذكرة الأمن , حيث ذكرت إحداها أن الوفد والإخوان المسلمين قد لعبوا دورا كبيرا في اندلاع مظاهرات أوائل شهر فبراير .

وأخيرا فإننا إذا رجعنا لبيان النقراشي في مجلس النواب في 12 فبراير 1946 , لوجدنا إشارة إلى استغلال الإضراب من الأحزاب المعارضة , وإلى أن الحكومة لم يسبق لها التصريح بالمظاهرات , وقد أعلنت مرارا أنها ممنوعة , وقد كان للوزارة ما يبرر هذا المنع خاصة بعد رفع الأحكام العرفية, وينقل النقراشي محتوى المذكرة التي رفعت إليه نقلا دقيقا ويعقب قائلا :

" .. هل يرى بعضهم أن الطلبة أبناؤنا , وأن رجال البوليس وركاب الترام والسابلة وأصحاب الحوانيت ليسوا أبناء الأمة ؟ يجب أن نضع المسألة وضعها الصحيح فإذا كان هؤلاء أبناءكم فهم أبنائي أيضا , وإنني باسم الأمة يجب أن أقوم بواجبي كاملا وإلا كنت مقصرا , ولا يمكن لحكومة تحترم نفسها أن تترك متظاهرين يعبثون بالأمن , وقد أريقت دماء نتيجة للتحريض "

ولعلنا أطلنا على القارئ الكريم , ولكننا رأينا أنه من الأهمية بمكان إعادة صفحة طويت من التاريخ , حيث إنه بالنسبة لجيلنا فقد انحصر تاريخ النقراشي كله في حادثة كوبري عباس , الأمر الذي رأينا معه أن إعادة فتح هذا الملف تفرضها الأمانة التاريخية من قبيل واجب الإنصاف نحو هذا الرجل من الظلم البين الذي لحق به .


الفصل الثامن: دور النقراشي في مفاوضات صدقي – بيفن

ووجد النقراشي نفسه مضطرا لتقديم استقالته للملك في 15 فبراير 1946 , ليعهد الملك لصدقي بتأليف وزارة جديدة , وأعلن صدقي أن حكومته ستسير في طريق المفاوضات لتحقيق أماني البلاد فئ مطالبها القومية , وقام صدقي على الفور بتأليف وفد المفاوضات برئاسته في 7 مارس 1946 , وقد كان النقراشي ضمن هذا الوفد, وأعلن في حديث صحفي أن الهيئة السعدية التي كانت قد حجبت ثقتها عن وزارة إسماعيل صدقي لن تدخر جهدا في مساندته , بعد أم كشف عن خطته السياسية ,وألعن اعتزامه تحقيق مطالب البلاد القومية .

واندلعت المظاهرات مرة أخرى , فتصدى لها جنود الاحتلال , وأسفر هذا الصدام عن موت وإصابة الكثيرين , وعلى أثره رفعت الحكومة البريطانية احتجاجا شديد اللهجة أدانت فيه ما اعتبرته تقاعسا من الحكومة , فما كان من النقراشي إزاء هذه الأزمة التي تهدد الحكومة في سياستها التي تهدف إلى صيانة حقوق البلاد , وندد باعتداء الجنود البريطانيين على المتظاهرين من الطلبة والعمال يوم 21 فبراير , واعتبر ما قام به الانجليز في هذا اليوم أعمالا تتنافى مع ما تسعى إليه مصر من إقامة علاقات من المودة والتعاون مع مصر , وقد يعزو البعض هذا الموقف لسعى القصر لدعم حكومة صدقي , عن طريق أحزاب الأقليات , غير أن من ينظر إلى تاريخ النقراشي يدرك أنه على الرغم من ولائه للنظام الدستوري القائم فإنه لم يتقاعس أبدا عن تقديم استقالته ,أو التهديد بتقديمها عندما كان يتنافى ما يطلبه منه الملك مع ضميره الوطني اليقظ , أي أنه حتى إذا ما سلمنا بهذا الرأي إلا أنه يجب علينا أن نسلم أيضا بأن النقراشي لم يكن لينصاع إلا للتوجهات التي تتفق مع المصلحة العليا للبلاد .

وشرع صدقي بمفرده في محادثات تمهيدية لاستئناف المفاوضات , وتم الاتفاق على إجراء مفاوضات على أساس سحب جميع القوات البرية والبحرية والجوية البريطانية , وأبدى النقراشي ارتياحه للتصريح البريطاني في 8 مايو على لسان السفير البريطاني في القاهرة 1946 , الذي جاء فيه وفق ما ورد في كتاب إسماعيل صدقي " مذكراتي " :

إن السياسة المقررة لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة هي توطيد محالفتها مع مصر , على أساس المساواة بين أمتين تجمع بينهما مصالح مشتركة , وعملا بهذه السياسة بدأت المفاوضات في جو من المودة وحسن النية , فعرضت الحكومة البريطانية أن تسحب جميع قواتها البحرية والبرية والجوية من الأراضي المصرية , وأن يتقرر بالمفاوضات تحديد مراحل جلائها , والموعد الذي يتم فيه , والتدابير التي تتخذها الحكومة المصرية لتحقيق التعاون في حالة الحرب , أو خطر الحرب وشيك الوقوع طبقا للمحالفة " . في الوقت الذي بدا فيه الأمر كأن بريطانيا تريد امتصاص الغضب الشبعى المتزايد , إذا استدعت سفيرها اللورد كيلرن , الذ ى اقترن اسمه بالتدخل البريطاني السافر في شئون مصر الداخلية ليحل مكانه رونالد كامبل وقد بدأت المفاوضات المصرية – البريطانية الرسمية في 5 مايو سنة 1946 , إلا أنها تعثرت مرة أخرى للامتيازات العسكرية التي كان يصر البريطانيون على الحفاظ عليها في مصر , وكذلك بسبب السودان , فغادر صدقي القاهرة إلى لندن مصطحبا معه وزير الخارجية السعدي إبراهيم باشا عبد الهادي , ليفاوض المستر بيفن وزير الخارجية البريطاني وكان الاقتراح الزى طرحه صدقي في أول الأمر هو أن يسافر معه إلى لندن النقراشي وهيكل , باعتبارها يرأسان كلا من الحزبين المشتركين في الحكومة ,وصاحبا الأغلبية في البرلمان , إلا أن هيئة المفاوضة رأت أنه من الأفضل أن يكتفي صدقي باصطحاب وزير الخارجية,حتى يوضع الأمر في إطاره الصحيح , وهو أن حكومة صدقي لا تمثل أحزابا بعينها , ولكنها لها صفة قومية ,أي تمثل الأمة بأسرها , ومرة أخرى نجد أن المصلحة العليا للبلاد تسمو على أي اعتبار آخر .

وبعد أسبوع من المفاوضات نجح صدقي في أن ينتزع من المفاوض البرطانى مشروع اتفاقية وقع عليها المشاركون في المفاوضات بالأحرف الأولى في 25 أكتوبر , تنص على انسحاب القوات البريطانية من القاهرة والإسكندرية والدلتا في تاريخ أقصاه 31 مارس 1949 , في المقابل وافق صدقي على فكرة الدفاع المشترك بعد أن رسمت لها حدود بالغة التحديد والضيق , إلا أنه تمسك برفض مصر بقاء قواعد عسكرية على أرضها , وكذلك برفض عودة القوات البريطانية إلى مصر في حالة الحرب أو خطر الحرب , سواء كان هذا الخطر يهدد مصر أو منطقة أخرى في الشرق الأوسط .

أما فيما يخص السودان فلقد أصر صدقي كذلك على رفض الإقرار بحق السودانيين في تقرير مصيرهم , ومبدأ حق إقرار المصير هو الواقع حق أريد به باطل , حيث إن البريطانيين كانوا يسعون سعيا حثيثا لإقرار هذا المبدأ حتى يتسنى لهم فصل السودان عن مصر , ومن ثم الاستئثار بالسودان بدعوى مساعدة السودانيين على الحصول على استقلالهم , ولقد اعترفت بريطانيا لأول مرة بمقتضى البرتوكول الجديد بوحدة مصر والسودان تحت تاج مصر .

وقد أدلى صدقي لدى عودته إلى أرض الوطن بتصريح مفاده أنه قد نجح في مهمته , وأعاد السودان إلى مصر " ذلك أن الوحدة بين مصر والسودان قد تقررت بصفة نهائية " وقد أغضب هذا التصريح إلى رئيس الحكومة البريطانية الذي بادر بتكذيبه , قائلا إنه تصريح مبتسر , حيث إنه لم يتقرر في هذا الشأن، شيء نهائي , وأن تلك كانت مباحثات شخصية لا تقيد أيا من الحكومتين , كما أنها ما زالت سرية ,لم يتفق بعد على إذاعتها , ولعل الحكومة البريطانية وجدت في التصريح الذي أدلى به صدقي فرصة سانحة من مشروع اتفاقية تلقى أشد المقاومة من جانب حزب المحافظين , إلى حد تصريح تشرشل

إن ذلك العمل العظيم الذي قمنا به في تلك البلاد ( يقصد مصر ) خلال ستين سنة من الدبلوماسية والإدارة ,. قد ألقى به كثير من الخزي والهوس "

وعلى صعيد آخر أثارت مفاوضات صدقي – بيفن الرأي العام فاندلعت المظاهرات العارمة تندد بالمشروع , حيث رأت الجماهير في فكرة الدفاع المشترك صورة مقنعة للحماية البريطانية , كما اعترض سبعة من هيئة المفاوضة المصرية على المشروع , وخطب النحاس في 13 نوفمبر منددا بالمشروع ,كذلك ظل مكرم عبيد على دأبه في إثارة المتاعب والانقسامات مع وفد المفاوضات حتى أطلقت عليه جريدة " السياسة " الناطقة باسم الأحرار الدستوريين هذا الوصف " الظل الدائم للأزمات والفشل " ووسط هذه الحملة المكثفة من التنديد والاحتجاج يرتفع صوت النقراشي ليدافع عن المشروع في اجتماع للهيئة السعدية بنادي سعد زغلول فى13نوفمبر , وكذلك في الجلسة السرية التي عقدها مجلس النواب في 26 من نفس الشهر وهكذا نجد أن المصالح الوطنية لدى النقراشي تسبق الدواعي الشخصية الحزبية , فتأييد النقراشي لصدقي رغم فتور العلاقات بين الرجلين إنما يعنى أنه يساهم في إنجاح مفاوضات لم يكتب له شخصيا التوفيق فيها .

وقد ظل تأييد النقراشي لصدقي كاملا , وهو ما أشاد به في مذكراته , حتى أصبح تراجع الجانب البريطاني عن وعوده السابقة وتفسيره لما سبق الاتفاق عليه ,خاصة فيما يتعلق بالسودان وإنكاره حق مصر في وحدة وادي النيل , كما أفصح عن حق السودان في الاستقلال الكامل متى طلب ذلك مستقبلا , كذلك حق هذا البلد في الانضمام للتاج البريطاني إذا ماأراد , وهو تفسير يختلف تماما عما سبق لصدقي أن أطلع مجلس النواب عليه , وعما سبق أن دافع عنه النقراشي في المجلس وحاز بشأنه الموافقة على الاستمرار في المفاوضات .

وقد يقال إن المسألة التي اختلف على تفسيرها في المشروع , وهو السودان بوجه خاص , هي من الأمور الخلافية التي كان من الممكن عرضها على محكمة العدل الدولية مع الاستمرار في المفاوضات في الأمور الأخرى , إلا أن الجانب المصري لم يعد يرى أملا في الاستمرار أو الجدوى العملية لأي تفسير منتظر من الحالة لمحكمة العدل , وإلا فما جدوى تفسير مشروع غير ملزم ؟ وإذا ما افترضنا أن محكمة العدل كشفت عن وجه التفسير الصحيح للمشروع إذا ما جاء مخالفا لوجهة النظر البريطانية والذي يقول به صدقي , فإنه من المؤكد أن الحكومة البريطانية سوف لا تقبله , والعكس صحيح, إذ إن مصر لن تقبل بوجهة النظر البريطانية , إذا ما جاء قرار المحكمة الدولية في غير صالحها , ولذلك كان من العبث التعلق بمشروع هو مرفوض من الطرفين . وهكذا أصبحت المفاوضات عقيمة بعد أن اصطدمت بكثير من العقبات التي لايمكن تجاوزها ,وبعد أن تحالفت على إسقاطها المعارضة العنيفة داخل بريطانيا ذاتها من جانب حزب المحافظين , وكذلك المعارضة الداخلية في مصر التي لم تكن تخلو من الأطماع وسوء الفهم ومزايدات الزعماء والمتزعمين .

قدر إذن لهذا المشروع أن يفشل فشلا ذريعا وقد حوصر بين نارين , وفى ذلك الوقت زادت تصريحات هدلستون الحاكم العام للسودان الموقف اشتعالا , حيث أذاع خطابا لأتلى ينسب فيه إلى صدقي إقراره بحق السودان في الانفصال عن مصر , وأصبح التغيير الوزاري حتميا . وفى تقليد غير مسبوق استشير صدقي فيمن يخلفه فأشار بالنقراشي ,وهكذا التقت واقعية صدقي بثورية النقراشي في نهاية مشوار نستطيع أن نقول إنه قد غلب عليه سوء الفهم والجفوة على المسار الشخصي والحزبي , منذ أن كان النقراشي من أنصار سياسة التشدد , ومن دعاة الاستمرار في مقاومة وزارة صدقي الأولى ( 19 يونيه 1930 - 4 يناير 1933 ) من أجل إسقاط هذه الوزارة التي جاء بها الملك بعد إقالة وزارة النحاس الثانية , ولذلك كان من الطبيعي عند تأليف وزارة صدقا الثانية في أعقاب استقالة وزارة النقراشي الأولى , أن يرفض النقراشي إجابة صدقي إلى طلبه إشراك السعديين في الحكومة وقد أدلى بتصريح يوضح فيه أسباب هذا الرفض جاء فيه :

" .. أظنكم تعلمون أن هناك من اختلاف الخطة والأسلوب بيننا وبين دولته في الأعمال العامة ما لا يسمح لنا بأن نتعاون معا "

إلا أن بوادر قد بدأت تلوح في الأفق عندما شرع صدقي في مفاوضاته مع الانجليز على نحو ما أسلفنا .


الفصل التاسع: النقراشي رئيسا للوزارة مرة ثانية

وهكذا عاد النقراشي ليتولى رئاسة الوزارة مرة أخرى ولم تكد تمضى سنة على حادثة كوبري عباس , وبادر النقراشي بالاحتجاج على الخطاب الذي ألقاه هدلستون بالخرطوم , حيث اتهم الأخير بتشجيع الحركة الانفصالية في السودان . وتعقدت الأمور أكثر من ذي قبل عندما عين هدلستون قاضيا سودانيا , خلفا لقاضى القضاة المصري الذي كانت قد انتهت مدة خدمته . وتكمن أهمية هذا المنصب في أنه كان الصلة الإدارية الأكثر ثقلا بين مصر والسودان . عندئذ استدعى النقراشي السفير البريطاني كامبل ليبلغه بأن تداعيات قرار هدلستون في مصر سوف تكون كارثية وعلى الرغم من تظاهر أتلى وبيفن وكامبل بالضيق من هذه التصرفات التي توقعوا أن تجر العلاقات المصرية – البريطانية إلى منعطف خطير , فإن النقراشي كان مقتنعا بأن هدلستون إنما يتحرك بإيعاز من الحكومة البريطانية ,فتقدم بمطلبين للخروج من الطريق المسدود :

1- أن تصدر الحكومة البريطانية تصريحا تؤكد بمقتضاه أنها ليست لها النية لتشجيع السودانيين على الانفصال .
2- أن تتعهد بريطانيا بألا تثير العقبات في حالة إذا ما اختار السودانيون الوحدة مع مصر .

وينقل كامبل رسالة النقراشي إلى الحكومة البريطانية دون تعقيب , وتثير خطبة هدلستون في 22 ديسمبر زوبعة جديدة , فهو يعلن أن السودانيين أحرار في تقرير مصيرهم ويعلن كذلك أنه لن يسمح بالدعاية المصرية , مما دفع النقراشي لأن يدين حاكم السودان في مجلس النواب , مطالبا الحكومة البريطانية بتحديد نواياهم تجاه السودان .

وقد اتهم المستشار طارق البشري بأنه إنما استثمر هذه الأزمة ليصرف الأنظار عن المطالب الوطنية الأساسية , كما أنه تم استدراجه من قبل الحكومة البريطانية المراوغة لنفس هذا الغرض الذي لم يفطن له . إلا أنه يؤخذ على مثل هذه الانتقادات ما يؤخذ على غيرها من القراءات المبتسرة للتاريخ النظرة الضيقة للشخصيات السياسية , حيث يتم تقييمها في مرحلة من مراحل مشوارها التاريخي , وكأن هذه المرحلة جزيرة منعزلة عن سائر الأطوار , وكأن الشخصية الفاعلة على المسرح السياسي لا ماضي لها , ولا جذور لها يمكن الرجوع إليها لتفسير ما التبس من تصرفاتها , كما أن المستشار طارق البشري يخضع قراءته للتاريخ لمنظور واحد , هو المواجهة بين ماأسماه " القوى الوطنية " و" الرجعية " دونما تعريف دقيق لما تعنيه هذه الألفاظ القائم قبل الثورة , أي ما يقابل مصطلح ( .. ) باللغة الفرنسية , فنحن نتساءل إذا كان من الممكن أن نطلق لفظ الرجعية على عواهنه على نظام قائم على الحياة الحزبية , وإن شاب ما شاب هذا النظام من متناقضات الصراع والتشدد والتعصب للحزب أحيانا , بالمقارنة مع النظام الاشتراكي التقدمي الذي يرتكز على هيمنة حزب واحد ومن ثم فكر واحد أوحد ؟

لا شك أن النقراشي قد صرح هو شخصيا بأنه ارتضى لنفسه دور الرجل الثاني في الحزب , وفق تصريح له نشر بـ " آخر ساعة " و " الخلود " ونقله لنا الدكتور عبد العليم خلاف , وذلك على الرغم من أنه كان له سبق الانفصال عن الحزب الكبير زى الشعبية الجارفة , والشروع في تأليف حزب جديد على نحو ما رأينا , وعلى الرغم من القدرة التي برهن عليها أكثر من ذي مرة على اتخاذ قرارات حاسمة ,بل ومصيرية , لعل أبرزها قرار حل جماعة الإخوان المسلمين , ولكن ما من شك أيضا – ومن واقع تاريخيه – من أنه ليس ممن يزايدون على غيرهم في القضايا الوطنية , لعله كان ممن يتهيبون مواقع صنع القرار , لشعوره المرهف بالمسئولية , ولعلنا نجد رغم صلابة النقراشي برأيه في كثير من الأحيان , إلا أنه دائما ما كان يستعين بأهل الرأي والخبرة البارزين أمثال الدكتور عبد الحميد بدوي , والدكتور محمود فوزي ,وغيرهما من أساطين السياسة والقانون والدبلوماسية , بل إننا لا نجد بين مستشاريه منهم بعيدون عن الثقة والاعتبار ,ولم يكن ذلك وليد الصدفة , فالبطانة التي تحيط بالزعامات هي المقياس الحقيقي لمعادن هذه الزعامة , إذ إنه كما يقول ميكافللى في كتابه الشهير " الأمير " يمكن الحكم على عقلية الأمير ( أو الحاكم ) من خلال البطانة التي يحيط نفسه بها , حيث إن كفاءتها وإخلاصها مرآة صادقة لحكمة من انتقاها , وليس أدل على ذلك مما رواه الدكتور حسين هيكل في مذكراته في السياسة المصرية وهو ممن لا يمكن اتهامهم بالعطف على النقراشي , فهو يتحدث عن تأليف وفد من أكابر الساسة المصريين حتى تكون أسماؤهم ذات وزن إلى جانب الوفود الأخرى التي تمثل مصر في مؤتمر سان فرانسيسكو , وذلك عقب تولى النقراشي رئاسة الوزارة لأول مرة , وتم الاتفاق على أن تسند رئاسة الوفد إلى رئيس الوزراء , ولكن الدكتور حسين هيكل رأى أن غياب كبار الساسة عن مصر في هذه المرحلة من الخطورة بمكان , وأفضى بمخاوفه إلى النقراشي , مقترحا أن يرأس الدكتور عبد الحميد بدوي الوفد , فما كان من النقراشي إلا أن أجاب هيكل على الفور قائلا :

" أنني من هذا الرأي , وقد خشيت أن أبادئك به وأنت عضو في الوفد مخافة أن تدور في نفسك مظنة أيا تكون , أما وقد انتهيت أنت إليه , فإنني موافق تمام الموافقة عليه "

ويقول الأستاذ حسين هيكل كذلك , في أحد أحاديثه بقناة الجزيرة الذي نقلته "الأسبوع " بتاريخ 3/10 /2005 إن النقراشي قد انتقى هيئة استشارية رفيعة المستوى لهيئة التفاوض , وعقب قائلا أن ذلك كان عملا غير مسبوق في التاريخ المصري ونستطيع أن نلمس أن حسن اختيار هيئة المفاوضين , وكذلك المستشارين يمنح موقفه قوة وصلابة في مداولاته مع كامبل , حيث يقول له إن العرض الذي تقدم به حول نقطة حرية السودانيين في تقرير مصيرهم " غير متعارض مع مبادئ هيئة الأمم المتحدة وفق ما قاله المستشارين " ؛ وعندما يتردد السفير البريطاني في التسليم بذلك يستطرد النقراشي قائلا : " إن مستشاري القانونيين يؤكدون ذلك , فالمسألة التي يتمسك بها مستر بيفن هي مسألة السياسة البريطانية لا مسألة مبادئ الأمم المتحدة " ( مذكرة مخطوطة بيد النقراشي بتاريخ 21 يناير 1947 ) ؛ فهو يوحي لمحدثه من ناحية أن العرض الذي يتقدم به له سند من القانون , ومن ناحية آخري أنه لا ينفرد بالرأي .

ولقد جاء رد فعل القصر أكثر عنفا من النقراشي , حيث طالب رئيس الديوان الملكي بإقالة الحاكم العام للسودان , أو سحب التصريحات التي أدلى بها , وهنا تدخل بيفن الذي كلف كامبل بنقل عرض جديد إلى النقراشي وضعه أمام خيارين لا ثالث لهما :

1- التوقيع على مشروع الاتفاقية على أن تجنب مسألة السودان , بحيث تظل اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899 , وكذلك المادة 11 لمعاهدة 1936 سارية . ويتم تناول هذه المسألة في مباحثات لاحقة يمثل فيه السودان إلى جانب مصر وبريطانيا .
2- أو التوقيع على مشروع الاتفاقية برمته مشروعا بالإقرار بحق السودانيين في تقرير بلا قيد أو شرط .

وكان لا مناص للنقراشي من رفض كلا الخيارين اللذين تقدم على أثرهما بمشروع جديد , ينص على إجراء مباحثات بدون مشاركة السودان , ودون أن تشمل على الإقرار بحق السودانيين في الانفصال عن مصر , على أن يتعهد الطرفان المتعاقدان بإعداد السودانيين للحكم الذاتي في إطارا لوحدة مع مصر , ونستطيع أن نتابع المداولات بين رئيس الوزراء والسفير البريطاني من واقع المذكرات التي دونها النقراشي لتسجيل تلك اللقاءات التي كانت تمتد أحيانا إلى ساعات متأخرة من الليل .

وتبين أن هذا المداولات تدور في مجملها حول مسألة السودان , وأن الخلاف حول نقطة حق السودانيين في الاختيار التي تمسك بها بيفن , ورفضها بإصرار النقراشي , استنادا على أن الوحدة قائمة بالفعل منذ عام 1980 , ولم يعبث بها أحد – في تلميح واضح إلى المحاولات البريطانية الرامية إلى فصل السودان عن مصر – فضلا عن أنها " مستمدة من مشيئة أهل البلدين " كما أن السودان هو بمثابة خط الحياة بالنسبة لمصر , ويلح النقراشي على ضرورة استدار تصريح من جانب الحكومة البريطانية تعلن بموجبه أنها لا تشجع السودانيين على الانفصال , ونجده يعدد النتائج الوخيمة لفشل المفاوضات , أو بطئها , وفى مقدمتها :

1- نفاد صبر الرأي العام .
2- تشجيع المعارضين للاتفاق .

ويلوح بأنه فئ حالة الفشل فئ الوصول إلى حل لهذا المأزق عن طريق المفاوضات الثنائية فإن مصر سوف تجد نفسها مضطرة للالتجاء إلى مجلس الأمن .

ولم تكن قضية السودان وحدها هي التي تشغل النقراشي في مفاوضاته مع الانجليز , وإنما كان مهتما أيضا بالنقطة الخلافية الثانية التي كانت تثير أكبر قدر من الخلاف في المفاوضات المصرية – البريطانية فى أدوارها المختلفة ,وهى كما سبق أن أشرنا , مسألة " القوة العسكرية " ففي 2 مارس 1947 أرسل النقراشي إلى السفير البريطاني خطابا يبلغه فيه أن الحكومة المصرية قد قررت أن تنهى خدمات البعثة العسكرية البريطانية على مرحلتين : أولاهما في 30 يونيو , والثانية في 21 ديسمبر 1947 حيث يكون الوجود البريطاني في الجيش المصري قد انتهى تماما . وقد أبرق رونالد كامبل على الفور لوزارة الخارجية البريطانية مبينا العوامل التي يتعين مراعاتها عند مقابلة تحرك النقراشي الأخير . وانتهى السفير إلى أن الحكومة البريطانية قد تضطر إلى إعادة النظر في الجلاء الذي اقترحه في المفاوضات التي تعثرت باعتبار أن هذا الجلاء كان مقترنا باستمرار التعاون الحربي بين مصر وبريطانيا , حيث إن الحكومة البريطانية لا يمكن أن تسمح لأمن قناة السويس أن يتعرض للخطر بهذا العمل المنفرد من جانب ويظهر بجلاء لمن يتابع تطور المباحثات من خلال المذكرات التي حرص النقراشي كل الحرص على تدوينها , أنها تسير في طريق مسدود , حيث يشكو كل من الطرفين أنه وثب وثبة كبيرة , وأنه قدم بلا طائل تنازلات كبيرة , حتى نطالع بتاريخ 25 يناير 1947 قرار مجلس الوزراء :

" لقد ذهبت الحكومة المصرية في سبيل الاتفاق مع الحكومة البريطانية إلى أبعد حد ممكن , وبرغم ذلك لم تجد في جميع الاقتراحات والعروض التي جاء بها الجانب البريطاني ما يرضى حقوقنا الوطنية "

ولذلك يقرر مجلس الوزراء عرض قضية البلاد على مجلس الأمن .

ونلاحظ كذلك نفاد صبر النقراشي تدريجيا , وهو الذي حرص في بادئ الأمر على أن يتحلى بسعة الصدر , فنجد أن في المقابلتين المدونتين بتاريخ 5 و 23 إبريل مع السفير البريطاني يرفض النقراشي كل طلب خاص بالجيش البريطاني يتقدم به السفير , بل ولا يحاول التلطيف مع حدة الرفض , وبعبر في نفس الوقت من تبرمه بمعاهدة 1936 . ولقد تعرضت حكومة النقراشي لأزمة في 18 يناير 1946 , أي قبل صدور قرار مجلس الوزراء , بسبب تصريح الدكتور عبد الحميد بدوي وزير الخارجية ,ومفاده أنه ليس لمجلس الأمن حق النظر في أية مسألة تتعلق بمصر , أو بالعالم العربي , لأن مشاكلهم ليست مما تمخضت عنها الحرب , فقوبل هذا التصريح بالاستهجان العام , حتى أن صحيفة " الكتلة"الناطقة باسم زعيمها ووزير المالية في نفس الوقت وصفت التصريح بأنه " فضيحة وعار " بل وشنت هجوما على الحكومة بأكملها , ويزداد الموقف تأزما باستقالة الوزير السعدي محمود غالب . ويحاصر النقراشي في مجلسي النواب والشيوخ بالأسئلة , ولكنه يرفض – كعادته في التأني – الإدلاء بأي تصريح حتى يقف على المعلومات كاملة .

والثابت أن تصريح الدكتور عبد الحميد بدوي قد حرف عن مقصده الصحيح , حيث إن التصريح الذي أدلى به يفيد أن وزير الخارجية المصرية لا يعتقد أن موقف بريطانيا العظمى من المطالب القومية سيؤدى إلى قيام الحالة التي تضطر مصر فيها إلى الالتجاء لمجلس الأمن , الأمر الذي لن تتردد مصر عن المضي فيه إذا لم توفق إلى اتفاق يحقق جلاء جميع القوات الأجنبية عن الأراضي المصرية ( من واقع أوراق النقراشي وبخط يده ) .

وتعرض كذلك بيان النقراشي بقطع المفاوضة والاتجاه مجلس الأمن لهجوم الخصوم المتربصين به , حيث رأت بعض دوائر المعارضة أن هذا البيان كان يجب أن يتضمن إعلانا بإلغاء معاهدة 1936 , وبالتحلل من مشروع صدقي – بيفن , واتفاقيتي عام 1899 بيد أنه – كما ورد في مذكرة مرفوعة إلى النقراشي من أحد مستشاريه – أنه مجرد رضاء إنجلترا بالدخول في مفاوضات مع مصر يعنى اتفاقا ضمنيا من الجانبين على إعادة النظر في كل الاتفاقيات السابقة ومن ناحية أخرى كيف يمكن التصور بأن يطالب رئيس الوزراء بالتحلل من مشروع تولى هو نفسه الدفاع عنه في مجلس النواب , وقد بلغ اقتناعه التام به إلى حد أنه يبدو أنه قد أعد مشروعا لخطبته يشير إلى " ما يمكن أن يكون لمشروع صدقي – بيفن من موقع في نفس بيانه بمجلس الأمن ؟ بل ولقد ذهب برأيه إلى ضرورة الاستفادة مما ورد في هذا المشروع بخصوص الدفاع المشترك , الذي استندت فكرته على نموذج لجنة الدفاع المشترك بين كندا والولايات المتحدة , والتي إنما أنشئت لتحقيق التعاون بين البلدين ,ونحن على ثقة بأنه لو قام بنبذ هذا المشروع لاتهم بازدواجية المعايير .

الفصل العاشر: تدويل القضية المصرية

واتفق رأى الأحزاب والجماعات كلها على اختلاف مذاهبها ومشاربها مع قرار مجلس الوزراء , كما أقره البرلمان بعد يومين من صدوره , إلا أن التوقيت لم يكن في صالح القضية المصرية , حيث إنه في أوائل عام 1947 كانت قد تغيرت وتبدلت الظروف الدولية التي كانت مواتية قبل ذلك لتدويل القضية المصرية , كما أوضح طارق البشري في كتابه " الحركة السياسية فئ مصر " :

فلقد كانت بريطانيا تعانى في أوائل عام 1946 أزمة اقتصادية طاحنة من جراء الحرب , كما كانت تحاول التخلص من النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط , بالإضافة إلى أنها وجدت في الولايات المتحدة الأمريكية منافسا قويا – كما سبق أن أشرنا – خاصة وقد تزامنت هذه الفترة مع اكتشاف البترول في المملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج , وكانت بريطانيا كذلك في موقف الدفاع عن نفسها إزاء المد الثوري الذي بات يهدد نفوذها في إيران ومصر وفلسطين , وفى الهند وأندونسيا واليونان .

إلا أنه سرعان ما تمكنت من أن تتخطى الأزمة الاقتصادية , ومن أن تحاصر نطاق الحركات الثورية , واستطاعت أن تتخلص تقريبا من النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط , وأن تنسق سياستها مع الولايات المتحدة , وهو ما انعكس سلبا على موقف الولايات المتحدة من مصر عند عرض قضيتها على مجلس الأمن رغم الآمال المعقودة على الولايات المتحدة لما كان يتشدق به رؤساؤها – وفى مقدمتهم ويلسون – من مساندة لمبادئ الحرية والعدالة .

وفضلا عن ذلك كانت مشكلة فلسطين قد بدأت تفرض نفسها بقوة على الساحة وتستقطب اهتمام وجهود الدول .

وتم تشكيل الوفد المزمع سفره إلى نيويورك – مقر مجلس الأمن – من الحزبين الحاكمين : السعديين والأحرار الدستوريين, وقد أسندت رئاسته إلى النقراشي , وتألف من كل من الدكتور عبد الرازق السنهوري وزير المعارف ومحمود رياض وزير التجارة والصناعة , وعبد المجيد صالح وزير الأشغال , وأحمد رمزي عضو مجلس الشيوخ , على أن ينضم إليه في الولايات المتحدة محمود حسن سفير مصر في واشنطن , والدكتور محمود فوزي الوزير المفوض لدى الأمم المتحدة , وكدأب حكومة النقراشي رافقت الوفد هيئة استشارية , وقد ألحق النقراشي بالوفد كذلك خبيرا أمريكيا للدعاية , مستر مورد , الذي رشحه له محمود فوزي .

وقد أثار بالطبع هذا التشكيل غضب الأحزاب المعارضة , وعلى رأسها الوفد والكتلة الوفدية , اللذان طالبا بتشكيل وفد قوما لعرض القضية .

ومن ناحية أخرى لعب عامل آخر دوره في البطء الذي نسب إلى النقراشي والذي هوجم من أجله , حيث انقضت ستة أشهر منذ قطع المفاوضات حتى عرض القضية المصرية على مجلس الأمن , فلقد أجرت السلطات البريطانية اتصالات واسعة مع عدد من زعماء البلدان العربية للضغط على النقراشي , وقد حاول بالفعل كل من نوري السعيد رئيس العراق الأسبق , وكذلك فاضل الجمالي وزير خارجية العراق وسمير الرفاعى رئيس وزراء الأردن والرئيس السوري شكري القوتلى و وغيرهم أن يثنوا النقراشي عن عزمه , على نحو ما جاء بكتاب " رؤساء وزارات بالوثائق السرية البريطانية والأمريكية " .

ولكن النقراشي مضى قدما في تنفيذ سياسته , غير عابئ بالمعارضة , غير عابئ بالضغوط التي مورست عليه , فذهب في 22 يوليو 1947 إلى نيويورك , مودعا بآمال كبيرة وحماسة بالغة , والواقع أن هذا القرار المصير – الالتجاء إلى مجلس الأمن وتدويل القضية المصرية – قد جاء تتويجا لعدة خطوات , بداية من الدعوة إلى دخول مصر إلى جانب بريطانيا التي كان أحد دوافعها كما رأينا من قبل هو أن يتسنى لمصر المشاركة في أعمال مؤتمر سان فرانسيسكو , مما يجعلها من الأعضاء المؤسسين للمنظمة الدولية , خاصة وقد اشترط الحلفاء أن توجه الدعوة لحضور المؤتمر إلى الدول التي تكون قد أعلنت الحرب على المحور في تاريخ أقصاه أول مارس 1945 , وانتهاء بالعناية الفائقة التي أولتها وزارة النقراشي الأولى لمسألة المشاركة في مؤتمر سان فرانسيسكو , ولقد نقلنا المداولات الخاصة بتأليف الوفد المزمع سفره إلى هذا المحفل الهام , وهى المداولات التي استقر الرأي فيها على إسناد رئاسة الوفد إلى الدكتور عبد الحميد بدوي , " فقيه مصر الكبير " على حد قول الدكتور حسين هيكل الذي اقترح أيضا أن " يستصحب من رجال القانون أكثر ما يستصحب من رجال السياسة " ولقد سافر هذا الوفد إلى سان فرانسيسكو في النصف الأول من شهر إبريل 1945 . وكان حافظ باشا رمضان قد سافر قبل تأليف الوفد إلى نيويورك لحضور اللجنة التي تنظر أصول التشريع الدولي , وكان مما عنى به أن تكون الشريعة الإسلامية من أصول هذا التشريع , وبذل الوفد المصري جهودا واعية على هامش المؤتمر للاتصال بسائر الدول العربية , وكذلك بدول أمريكا اللاتينية من أجل توحيد الصفوف مع الدول الصغرى في مواجهة الدول الكبرى .

ولنا أن نتساءل إذن ونحن نستعرض هذه المجهودات المضنية المبذولة أين هو ذلك التسويف الذي اتهم به البعض حكومة النقراشي ؟ وأين هذا الإهمال والتقاعس عن الدعاية للقضية المصرية التي ادعوها ؟ ولنا هنا أن ندرك ما في هذا الهجوم من تجن , خاصة عندما نطلع على التقرير الذي يرفعه الدكتور محمود فوزي للنقراشي بتاريخ 8 فبراير ( أنى بعد شهرين من تشكيل وزارة النقراشي الثانية , وبعد أقل من أسبوعين من صدور قرار مجلس الوزراء بقطع المفاوضات مع الانجليز ) , والذي يسرد فيه محصلة المقابلات التي أجراها مع مندوبي الدول المختلفة في الأمم المتحدة , من أجل عرض القضية المصرية , والتعرف على وجهات النظر المختلفة

ويبدو أنه كانت تداعب خيال النقراشي آمال عريضة , بأن تتبوأ مصر مكانها بين الأمم قاطبة ,وهو ما نلمسه بوضوح في مداولات مجلس النواب بتاريخ 25 فبراير 1946 , حول مساهمة مصر في إعمار اليونان أسوة بالدول الأخرى المشاركة في مؤتمر الصلح , حيث انقسم الرأي إزاء هذه المسألة بين معارض ومؤيد , فالرأي المعارض وعلى رأسه فكرى أباظة يرى أن هذه المساهمة تثقل كاهل مصر بنفقات لا مبرر لها , أما النقراشي فنجده يدافع بحماسة عن ضرورة إقرار هذه المساهمة , استنادا إلى مبدأ التضامن الانسانى , ثم ينتقل من هذا الاعتبار الانسانى إلى اعتبارات أخرى تتعلق بأهمية تواجد مصر كعضو فاعل في المجتمع الدولي , حتى يتسنى لها أن تطالب بحقوقها , فهو بعد أن يطلب من وزير الخارجية أن يتلو بيانا بالمبالغ التحى تبرعت بها الدول الأخرى ,حيث إنه لا يستطيع أن يتكلم إلا بالأرقام , كما يقول ,يخلص إلى أن المبلغ المقترح أن تتبرع به مصر أقل مما تدفعه الأغلبية الساحقة لهذه الدول ويضيف قائلا :

" حضرات النواب المحترمين , لقد حمنا الله حين أصبحت مصر دولة من أعضاء مجلس الأمن الدولي , وأصبحت لها هذه المكانة الدولية ,ونحن الآن نتنافس في هذا المجلس لننتفع بكل الحقوق التي تخولها لنا هذه الهيئة الدولية التي أصبحت مصر عضوا فيها ..

إن هذا العمل يا حضرات النواب المحترمين له قيمته الإنسانية الكبرى , إذ أن الواجب علينا كدولة أن نمد المعونة إلى الدول المنكوبة , ولهذا العمل فوق قيمته الإنسانية ,قيمة مادية لا يمكن أن نغفلها , وهى أن مصر لا يمكن أن تعيش منعزلة عن العالم .. وأعتقد أنه لو قصرنا في هذا الواجب لحلت بنا في النهاية خسارة كبرى . نعم سنحرم من معاملتنا لهذه الدول , ولا أخالك تشكون لحظة أن هذه خسارة اقتصادية كبيرة ,لأننا في مسيس الحاجة إلى تصريف منتجاتنا في الخارج , واستيراد ما نحتاج إليه منه "

كما يرد على النائب الذي يقترح عدم مشاركة مصر في مؤتمر الصلح حتى لا يضطرها الحرج إلى التبرع بمساهمة مالية :

" .. القول باعتزال العالم لم يقل به مصري إلى الآن , وفيه عار كبير علينا وخسارة كبرى , ولو أخذنا به ما استطعنا أن نتوجه إلى العالم كعضو عامل بين أعضائه بعد تقصيرنا عن القيام بواجباتنا نحوه .. أقول إننا لا يمكننا أن نطالب بحقوقنا في حالة كهذه , لذلك أرى وأرجو وأكرر الرجاء بصفتي مصريا ووطنيا أن تقبلوا هذا الإنفاق , حتى لا تتعرض سمعة مصر إلى ما لا نحبه لها "

ويبدو بجلاء من تكرار الرجاء تشبثه بهذا المبدأ , ويبدو كذلك أن الدعوة للقضية المصرية في المحافل الدولية توجه مدروس , خضع لتخطيط بعيد المدى , إلا أنه يظهر من واقع الوثائق التي عثرنا عليها في حقيبة النقراشي أنه كانت قد تجمعت لديه عدد من التقارير ومن الاقتراحات , حول هذه المسألة يمكن أن نستشف منها نقطتين مهمتين :

1- الإدراك أن فرصة نجاح مصر في انتزاع التأييد من دول العالم المختلفة , خاصة الولايات المتحدة لم تكن كبيرة .
2- الإدراك العميق أن قضية السودان تواجه ردود أفعال مخالفة وشديدة مما يستدعى بالغ الاهتمام بدراستها موضوعيا .. من اليسير إذن أن نتبين ما في الاتهام الذي وجه للنقراشي بمحاولة استثمار الأزمة التي فجرتها تصريحات هدلستون لصالحه من مجافاة للحقيقة , حتى أن البعض ذهب إلى أنه إنما استغلها لصرف الانتباه عن القضية الأساسية ,وهو مطلب جلاء القوات البريطانية عن مصر .

وفى 8 يوليو 1947 قدم سفير مصر لدى الولايات المتحدة الأمريكية خطاب رئيس وزراء مصر ووزير خارجيتها الموجه إلى السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة يطلب منه فيه إدراج النزاع المصري – الانجليزي في جدول أعمال مجلس الأمن , وتحديد جلسة لنظره , توطئة لاستصدار توصية من مجلس الأمن بجلاء القوات البريطانية من مصر والسودان جلاء تاما ناجزا , وإنهاء النظام الادارى الحالي القائم في السودان .

وانطلقت خطبة النقراشي الأولى في مجلس الأمن في 5 أغسطس سنة 1947 من مبدأ المساواة التي يقررها ميثاق الأمم المتحدة بين الدول الأعضاء في عصبة الأمم , وينتقل إلى فكرة أن النزاع بين مصر وبريطانيا يتناول مصالح غير متكافئة , فالمسألة بالنسبة لبريطانيا , لا تعدو أن تكون مصالح متعلقة بصيانة إمبراطوريتها المترامية الأطراف , بينما هي بالنسبة لمصر مسألة كيان , ثم يمضى فيقول إن هذا النزاع من شأنه أن يزعزع السلم والأمن الدوليين , ويستند الخطاب الأول في مجمله على الحجج الآتية :

  • استنفاد كل وسائل التفاوض مع البريطانيين الذين لم يلتزموا بالوعد الذي قطعوه على أنفسهم في 7 مايو 1946 بجلاء قواتهم عن مصر , وفشل مفاوضات صدقي – بيفن , بسبب إصرار بريطانيا على ضمان استمرار النظام الادارى للسودان الذي أقيم في سنة 1899 .
  • الاعتماد على الأمم المتحدة في تأكيد انتهاء القرن التاسع عشر الاستعمار , وبداية عهد جديد .

ويسرد النقراشي بعد ذلك تاريخ الاستعمار البريطاني في مصر ابتداء بالاحتلال السافر عام 1882 , وانتهاء بمعاهدة 1936 , مع التأكيد على أن هذه المعاهدة لم تبرم إلا في ظروف معينة , وعلى أنها بالتالي قد استنفدت أغراضها مع زوال هذه الظروف .

فلقد كان هذا الاحتلال و فقا لما ورد في خطاب النقراشي , نتيجة طبيعية لحملة بونابرت التي نبهت بريطانيا إلى أهمية موقع مصر الجغرافي , ثم لحفر قناة السويس , وهو ما حفز بريطانيا لفرض سيطرتها على هذا الطريق الملاحي الذي يمكنها من إحكام قبضتها على مستعمراتها , ولقد وجدت بريطانيا ضالتها بعد ذلك في تدهور حالة الخديوي المالية التي أتاحت لها فرصة التذرع بحماية مصالح حاملي السندات من الأجانب .

كما أتاحت فاشودة للانجليز في عام 1898 , فرصة التدخل في شئون السودان , متذرعين لحقوق مصر في وادي النيل وتفصيل ذلك أن حملة فرنسية كانت قد احتلت مدينة فاشودة ورفع قائدها الكولونيل مارشان علم فرنسا عليها , ولم يقبل بإنزاله إلا عندما أعلن كتشنر القائد البريطاني الذي قاد جيشا مصريا إلى السودان بعد تفكك هذا الجيش هناك أنه تلقى أوامر من الحكومة البريطانية بإعادة السيادة المصرية على مدينة فاشودة ,ويعلق النقراشي على هذه الواقعة قائلا " والواقع أن بريطانيا كانت تتذرع بحقوق مصر في وأدى النيل كلما اصطدمت في أفريقيا بغيرها من الدول الأوربية " ومنذ ذلك التاريخ أصبحت القضية المصرية أكثر تعقيدا , لارتباطها بالمسألة السودانية, حيث تم توقيع بروتوكول بين الحكومة المصرية برئاسة مصطفى فهمي باشا وبين قنصل بريطانيا العام في سنة 1899 وقد حرص الجانب البريطاني على استخدام تعبير " الحكم الثنائي " راميا بذلك إلى الإيهام بأنهم يشاركون مصر في السيادة على السودان وفقا لما ورد في خطاب النقراشي .

وقد حرص على أن يضمن خطابه سوابق مجلس الأمن ذاته , الذي تدخل لإيجاد حل لقضية إيران , قضية اليونان ,وقضية سوريا ولبنان , وقد استند على توصية الجمعية العامة الصادرة في هذا الشأن في 14 ديسمبر 1946 , والتي تنص على أن " تسحب بغير إبطاء القوات المرابطة في أراضى الدول الأعضاء بغير رضائها الصادر عن حرية وفى صورة علنية تشمله معاهدات أو اتفاقات متلائمة مع أحكام الميثاق وغير متناقضة لاتفاقات دولية " ليقرر أم معاهدة 1936 لم تصدر عن إرادة الأمة الحرة , كما بين أن المعاهدة تتعارض مع اتفاقية قناة السويس المعقودة في الآستانة ومع أحكام ميثاق الأمم المتحدة .

ثم ينتقل بعد ذلك النقراشي إلى مسألة السودان , فيعدد الروابط الطبيعية والتاريخية والثقافية التي تربط الشعبين المصري والسوداني , ويتناول مساعي البريطانيين الدءوبة لتشجيع الحركات الانفصالية , ويلوح بنفاد صبر الشعب المصري , مما ينذر بأن الزمام قد يفلت من أيدي أولى الأمر .

وفى نفس اليوم ألقى السير الكسندر كادوجان مندوب المملكة المتحدة خطابه الأول ردا على عريضة مصر , وتتابع السجال بين النقراشي وبينه حتى يوم 13 أغسطس 1947 وهو نفس اليوم الذي بدأ فيه مندوبو الدول المختلفة يتقدمون بمقترحاتهم لحل النزاع المصري – البريطاني , وتعاقبت الاقتراحات التي تخللها تعقيب كل من النقراشي وكادوجان , أو أحدهما , مع التصويت على الاقتراحات المختلفة . ولم تكن حصيلة الموقف في مجلس الأمن في صالح مصر , ولقد ظهر بجلاء كما كان متوقعا , أن مسألة السودان كانت أضعف نقطة في الدفاع المصري , حيث حرص الجانب البريطاني على أن يظهر بمظهر المدافع عن حقوق السودانيين ضد أطماع المصريين في السودان , كما نجح في إقناع الرأي العام العالمي بأن المصريين يأبون على السودانيين ما يطالبون به لأنفسهم , وأظهر التصويت بصفة عامة أنه إذا كانت معظم الدول تؤيد مصر في مطلبها بجلاء القوات البريطانية , فإنها أشارت بضرورة عزل مسألة السودان عن مسألة مصر والواقع أن مواقف الدول الكبرى ورغم الإطار الشرعي الذي دارت فيه المداولات , أملتها فى مجملها حسابات المصالح الاستعمارية العليا , أو بمعنى آخر القرصنة التي عبرت عنه صرخة النقراشي المدوية في نهاية مداولات مجلس الأمن , والتي جاءت إيذانا باندثار الآمال المعقودة على الهيئة الدولية الكبرى " اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة " فنجد أن فرنسا وقفت ضد مصر حرصا على مصالحها في شمال إفريقيا أما الولايات المتحدة الأمريكية فلقد وقفت موقفا مائعا , فهي من ناحية لم تكن على استعداد لإعلان العداوة لبريطانيا , في الوقت الذي كانت تتمنى فيه جلاء قواتها عن هذه المنطقة الحيوية في العالم , كما كانت تخشى إذا هي أيدت المصريين في مطلبهم الخاص بأن يتولوا بأنفسهم الدفاع عن قناة السويس أن تشجع اتجاها ليس في مصلحتها بالنسبة لقناة بنما ,’ التي كانت تسيطر عليها , وبذلك خذلت الحكومة المصرية التي كانت قد بذلت جهدا كبيرا لاسترضاء الإدارة الأمريكية , حتى أن مراسل " اللندن تايمز " يكتب فئ هذه الجريدة بتاريخ 3 سبتمبر 1947 :

" يصبو رئيس الوزراء المصري إلى بناء جيش كبير , وإلى رفع كفاءته في أسرع وقت ممكن إلى الحد الذي يمكنه من أن يتولى الدفاع عن قناة السويس بدلا من الانجليز وهذا المطلب يفرض على الولايات المتحدة اتخاذ قرار هام بالنسبة لسياستها في الشرق الأوسط . والسياسة الأمريكية كما يبدو من حالة اليونان قد أصبحت أكثر اهتماما بالشرق الأوسط منذ انتهاء الحرب ويجب على الإدارة الأمريكية أن تحدد أهدافها بالنسبة لهذه المنطقة , إذ كانت بريطانيا تعتبر حتى الآن المدافع الأساسي عن قناة السويس , فإنه لمن المشكوك فيه أن تنظر الولايات المتحدة بعين العطف إلى فكرة أن يتولى المصريون بأنفسهم الدفاع عن القناة , فإنه من المحتمل أن توافق الإدارة الأمريكية على مهمة تدريب الجيش المصري التي كان يتولاها من قبل الانجليز , ولكن دون أن يستتبع ذلك الموافقة على أن يقوم المصريون بمفردهم بالدفاع عن القناة , حيث إنه من المرجح أنها تؤثر ألا توجد بهذه الموافقة سابقة من السوابق تشجع قوات بنما المسلحة على الاعتقاد أنهم هم أيضا يمكنهم القيام بالدفاع عن قناة بنما بمفردهم "

أما الاتحاد السوفيتي فلقد أبدى استعدادا طيبا لتأييد القضية المصرية , إلا أن الوفد المصري , حرصا منه على إرضاء الأمريكيين , رفض أن يراهن على هذا الفرس و يرى البعض أنه فوت بذلك على نفسه وعلى مصر فرصة ذهبية ,خاصة أنه كما اتضح قد عول على جواد جامح . غير أنه لا يجب أن يغيب عن ذهننا أن أخشى ما كان يخشاه الساسة المصريون في ذلك الوقت هوخطر الشيوعية الذي بدأ يتسلل على البلاد العربية , بل وأصبح محدقا مع عدوان روسيا على إيران , ومنذ بات واضحا أنها بدأت ترنوا إلى منطقة البحر المتوسط , حيث طالب السوفييت في مؤتمر بوتسدام أن توضع منطقة طرابلس الليبية تحت وصياتهم .

ولا شك في أن البرقية التي أرسلها زعيم الوفد إلى رئيس مجلس الأمن , وإلى سكرتير هيئة الأمم المتحدة في ليك سكسس بتاريخ 17 يوليو 1947 قبل عرض القضية المصرية , يعلن فيها أن النقراشي لا يمثل على اى وجه شعب وادي النيل الذي يؤيد أغلبيته الساحقة الوفد المصري , قد أضعفت من موقف النقراشي كما سارت في اتجاه السياسة البريطانية , وشجعت الانجليز على استثمار فكرة أن النقراشي لا يمثل حزب الأغلبية متغاضين عن أنه – بصفته رئيسا للوزراء – لا يمثل حزبا بعينه , ولقد كان الانجليز كما نعلم بارعين في سياسة " فرق تسد " حيث إنهم مثلما لعبوا على وتر حقوق الأقليات التي نصبوا أنفسهم حماة لها بموجب تصريح 1922 ,فإنهم أيضا تشدقوا بمبدأ حق السودانيين في تقرير مصيرهم وكذلك بالدفاع عن الديمقراطية في مصر , حيث نجد بيفن يعلن في مجلس العموم البريطاني فئ يناير 1947 :

" إذا استطعنا أن نعالج الأمر مع حكومة أكمل تمثيلا ونجنب مفاوضاتنا تأثير السياسة الحزبية المصرية كان احتمال سيرها إلى نتيجة موفقة بروح قويمة يزداد أيما زيادة "

وفى هذا التصريح إشارة مستترة إلى سياسة الملك فاروق الذي كان يعارض بشدة , وبكل ما أوتى من وسائل , عودة الوفد إلى الحكم وهو البيان الذي أثار احتجاج الحكومة المصرية حيث نجد عبد الفتاح باشا عمرو سفير مصر في لندن يقول لبيفن في أول مقابلة مع وزير الخارجية البريطاني بعد هذا البيان :

" .. إن بيانك قد سمم الجو وقد زاد تشكك الناس في حسن نوايا السياسة البريطانية , إذ رأوا فيه عودة السياسي القديمة , سياسة التدخل .. " ( خطاب إلى النقراشي بتاريخ 17 فبراير 1947 ) وهو يحث الوزير البريطاني على الاعتذار إلى النقراشي علانية , فيعد الوزير في أن يفكر في وسيلة لسحب ما قاله بخصوص " حكومة الأقلية " في مجلس العموم .

وفى النهاية أصدر مجلس الأمن في 10 سبتمبر قراره بتأجيل نظر المشكلة إلى أجل غير مسمى مع إدراجها في جدول أعماله , وبذلك طويت هذه الصفحة المصيرية من تاريخ مصر بلا نصر أو هزيمة , غير أن بقاء القضية في جدول أعمال مجلس الأمن يمكن أن يعتبر نصرا في حد ذاته , حيث إنه يعنى أن هناك خطأ ما من جانب الحكومة البريطانية .

وعاد النقراشي إلى مصر , وأرسل الملك عربة إلى المطار , أقلت رئيس الوزراء إلى القصر , فقابله وأصدر إليه نطقا ملكيا بأن أحدا لم يخدم مصر كما خدمها هو , وفقا لرواية الدكتور حسين هيكل .

الفصل الحادي عشر: الأرصدة الإسترلينية وحكومة النقراشي

ولقد حاول كادوجان جاهدا أن يستصدر قرارا من مجلس الأمن , بشطب النزاع من جدول أعماله , والعودة إلى المفاوضات الثنائية , غير أنه من ناحية اصطدم بمعارضة الولايات المتحدة , ومن ناحية أخرى كان البريطانيون أنفسهم يتحسبون لما قد يؤدى إليه مثل هذا القرار من اشتعال الموقف المصري . والواقع أيضا أنه كما يقول الدكتور محمد فهمي لهيطة :

" من يتتبع تاريخ المفاوضات المتعددة يرى كيف كان البريطانيون ينزلون شيئا فشيئا من غلوائهم من الشئون السياسية , بينما يتزايدون من سلطانهم في الشئون المالية حتى سنة 1947 "

وظهر هذا التوجه بوضوح أكبر مع صعود بيفن إلى الحكم , وهو السياسي البريطاني الذي يعول على الاقتصاد كعامل أساسي في أية مفاوضات إلا أن هذا البلد إنما كان مدعوما بالقوة العسكرية , ولقد اتخذ أشكالا عدة انتقينا منها ما يتصل بموضوعنا , وهو التسويف والمماطلة التي اتخذت شكل البلطجة في سداد ما تراكم لدى بريطانيا من ديون لمصر من جراء الحرب , وهو ما نشير إليه بقضية الأرصدة الإسترلينية حينما نعرض لمشكلة الأرصدة الإسترلينية التي تورط البنك الأهلي في تفاقمها , وتجاوز اختصاصاته وفقا للسياسات المنظمة لإصدار البنكنوت , يطيب لنا أن نستعرض بإيجاز موقف الحكومة البريطانية إزاء الأرصدة , التي وصلت إلى حد التهديد بتجميدها , بينما يعبر السير ساندرسون عضو الوفد البريطاني في المؤتمر البرلماني الدولي بتاريخ 12 إبريل 1947 " إن بريطانيا لن تتأخر عن سداد مليم واحد لحاملي الأرصدة الإسترلينية من الأفراد " كما سبق أن عبر اللورد كينز عن هذا المعنى بقوله " إن دينا اقترضته انجلترا بالشرف سوف ترده إلى أصحابه بالشرف" ,إلا أن هذا اللورد البالغ الشهرة في عالم الاقتصاد على مستوى العالم يفصح عن حكمته في طبائع الأمور فيقول " إنه إذا كان عليك لبنك ما ألف جنيه فإنك تكون تحت رحمته , وأما إذا كان عليك لهذا البنك مليون جنيه فالبنك في هذه الحالة يكون تحت رحمتك " وهكذا فإننا نقترب من المعنى الذي عبر عنه زعيمك إحدى الدول النامية , حينما كان يهدد بالتوقف عن سداد الديون المستحقة على بلاده بقوله " إن المدين أقوى من الدائن " وقد فاته أن المدين الضعيف يحتاج إلى عضلات وحسابات أخرى لفرض هذه القرصنة , بينما تدأب الدول الكبرى على هذه الهيمنة بعد تغليفها بثوب أنيق من دبلوماسية القوة والسفسطة السياسية .

ونجدان بريطانيا العظمى في ذلك الوقت استطاعت أن تصل إلى أغراضها , وأن تفرض شروطها , وأن تمارس سيطرتها على البنك الأهلي المصري , سواء بغفلة الحكومات المصرية المتتالية , أو بتواطؤ محافظ البنك الأهلي البريطاني الجنسية , فبعد أن خرجت مصر عن قاعدة الذهب عام 1931 , وافقت الحكومة المصرية على أن ينتقل رصيدها الذهبي القانوني إلى بنك انجلترا , كما صدر قرار من وزارة المالية يجيز للبنك الأهلي أن يتخذ من أذونات الخزانة البريطانية غطاء للبنكنوت المصري بدلا من الذهب , كما وافقت الوزارة على سعر صرف ثابت بين الجنيه المصري والاسترلينى , هو 97 ونصف أي أن الجنيه المصري كان مقوما بما يزيد عن قيمة الجنية الاسترلينى بقرشين ونصف القرش وقد ساعد هذا النظام جيوش الحلفاء على تمويل تكاليف الحرب مقابل الأذونات والسندات البريطانية , ونتج عن ذلك أن تراكم لمصر أرصدة لدى بريطانيا بلغت حوالي 440 مليونا من الجنيهات , تشمل غطاء ورق النقد المصدر , وهو يبلغ 144 مليونا ومعظمه سندات على الحكومة البريطانية , كما قدر مجموع ما في ذمة البنوك بنحو 250 مليونا , أما الباقي وقدره 46 مليونا فهو ديون للأفراد لا يصح المساس بها , تمتلكه طبقة محدودة من الأثرياء والعملاء والمضاربين , وذلك مقابل ما قدمته مصر إلى جيوش الحلفاء من سلع وخدمات , كما دأبت بريطانيا , بموجب قانون النقد أثناء الحرب , على الاستيلاء على العملات الحرة كالدولار والفرنك السوي سرى وكانت الأرصدة الدولارية لدى مصر تبلغ عشرات الملايين سنويا , وهى قيمة وحدات الجيش الأمريكي المقيم في مصر .

ونظرا لثبات سعر التعادل بين الجنيه المصري والاسترلينى عند مستوى 97 ونصف قرش فقد خسرت مصر كثيرا , نظرا لتراجع القيمة الحقيقية للجنيه الاسترلينى بسبب نفقات الحرب وتخريب الاقتصاد البريطاني , كما تضاعفت الأرصدة الإسترلينية المستحقة لمصر , نتيجة للخدمات والإمدادات التي كانت تقدمها مصر , وكذلك الإيداعات التحى كان يودعها التجار من أثرياء الحرب في البنوك البريطانية كمحصلة لنشاطهم في التعامل مع متطلبات الحرب , والخدمات التي يقدمونها لجيوش الحلفاء , وكذلك فإن كثيرا من المصريين قد اضطروا لاستثمار أموالهم في سندات الحكومة البريطانية بعد أن ضاقت يهم سبل الاستثمار في مصر , بسبب ظروف الحرب .

وواقع الأمر أن جيوش الحلفاء قد استنفدت المخزون المصري من كافة السلع والأغذية أثناء الحرب بأسعار ما قبل الحرب , الأمر الزى اضطرت معه مصر إلى استعاضة هذا المخزون بأسعار مضاعفة فيما بعد , مما أدى إلى خسائر فادحة للاقتصاد المصري , كما خسرت مصر رؤوس أموال طائلة في غياب سياسة للتجديد والإحلال للسلع الرأسمالية ووسائل النقل والسكك الحديدية , بعد أن استهلكت أثناء الحرب وبسببها مقابل أسعار وتعريفات بالغة الانخفاض , مساهمة منها في المجهود الحربي لصالح الحلفاء , كما انتقلت إلى مصر كل مظاهر الضعف والشيخوخة التي حلت بالاقتصاد البريطاني , نتيجة لربط مقوماتها وأسعار عملتها ببريطانيا .

وكدأب المدين ساء السمعة فقد تلاعب بريطانيا باقتصاديات الدول التحى تدور في فلكها بشتى الأساليب , فتى تتهرب من التصدير إلى الدول الدائنة لها خوفا من أن يسفر التعامل عن إجراء الخصم من ألأرصدة المدينة لديها , فهي تحيل هذه الطلبات إلى الدول الأخرى من كتلة الاسترلينى والتي تدور في فلكها , ثم تضع يدها على العملات الحرة الناجمة عن هذا التعامل . وكان عدد الدول ذات العملات الحرة في ذلك الوقت خمسا , هي الولايات المتحدة وكندا وسويسرا والبرتغال والسويد , كما عمدت انجلترا أيضا إلى عدم تمكين دول منطقة الاسترلينى من استيراد متطلباتها من دول العملات الحرة , إلا بالقدر المحدود الذي تفرج عنه من العملات لصالح هذا التعامل ,مما كان يضطر هذه الدول إلى الاستيراد من الأسواق البريطانية بأسعار أعلى من مثيلاتها , وبذلك صار وضع بريطانيا بالنسبة لدول منطقة الاسترلينى هو وضع المحتكر , وبعد أن كان الميزان التجاري لمصر قبل الحرب يسفر عن فائض فقد انقلب الوضع إلى عجز مستمر في ميزانها التجاري , مما كان يضطرها إلى استجداء حقوقها لدى الحكومة البريطانية لتحرير جزء من ديونها المتراكمة في بنوك انجلترا , وهى سياسة كانت تعكس ضعف وغفلة الحكومات المصرية المتتالية , وتواطؤ البنك الأهلي الذي تجاوز اختصاصاته كل التجاوز لصالح المحتلين .

وعند نهاية الحرب العالمية الثانية أبرمت مصر ضمن خمس وثلاثين دولة اتفاقية بريتون – وودز في 27 ديسمبر سنة 1945 , كما انضمت لمؤتمر النقد الدولي , وأصبحت بذلك تشترك فعليا في إدارة صندوق النقد الدوى , ومن ضمن اختصاصات هذا الصندوق تحديد قيم التعادل لأسعار عملات الدول الأعضاء , وهى الاتفاقية التي كانت تمهد لانتهاء قيود المنطقة الإسترلينية , كما نصت الاتفاقية كذلك على تحديد تاريخ 15 يوليو 1947 لتصبح كل دولة حرة في مجال التصدير والاستيراد خارج نطاق الكتلة الإسترلينية .

وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة , والتي كانت تتطلع في ذلك في الوقت إلى وراثة الإمبراطورية البريطانية والحلول محلها في منطقة الشرق الأوسط , قد عمدت إلى تقديم عرض للمندوبين المصريين في مؤتمر النقد بزيتون – وودز في أن تحل محل بريطانيا , وأن تدفع لمصر الدين البريطاني في صورة دولارات وآلات وسلع رأسمالية ,مع تخفيض نسبى قليل مقابل خروج مصر من ارتباطها بالمنطقة الإسترلينية , ثم الارتباط بالدولار الأمريكي , وقد عرض الأمر على الحكومة المصرية , إلا أن الحكومة البريطانية قد اعترضت على هذه المحاولة بدعوى أن ديون مصر لا تستحق إلا عند الأجل المنصوص عليه , أي وفقا للقانون الدولي الذي ينص على الوفاء عند الحلول

وهكذا انتقلت مشاكل الأرصدة الإسترلينية إلى وزارة النقراشي الثانية ( 9 ديسمبر 1946 – 28 ديسمبر 1948 ) وفوجئ الرجل بمطالب بريطانيا بالتنازل عن بعض أرصدتها المدينة , بدعوى المساهمة في تكاليف الدفاع عن مصر , وهو الأمر الذي استطاعت حكومةالنقراشي الوقوف دونه بكل صلابة , رغم مساندة الولايات المتحدة للمطالب البريطانية بدعوى أن من بين هذه الأرصدة ما لا يتسم بطابع الديون التجارية العادية , وقد وافقت الولايات المتحدة بريطانيا في تمسكها بوجه الشبه بين ألأرصدة الإسترلينية المستحقة والديون التي كانت مستحقة لصالحها هي وفقا لمشروع الإعارة والتأجير والتي تنازلت عنها الولايات المتحدة باعتبارها مساهمة في تمويل الحرب .

وواقع الأمر أن مثل هذا الشبه المزعوم بين الأرصدة الإسترلينية من جانب , والدين المستحق للولايات المتحدة قبل بريطانيا وفقا لمشروع الإعارة والتأجير , من جانب آخر بعيد كل البعد عن واقع الحال , وأن الجزء الأغلب من الأرصدة الإسترلينية مستحق لأفراد ومودعين لدى البنوك البريطانية , والحكومة المصرية لا تملك التنازل عن أموال ليست لها , كما أن سمعتها المالية وسمعة بنوكها التقليدية في العالم . وقد يجوز أن تتنازل دولة بالغة الثراء كالولايات المتحدة عن ديونها لصالح بريطانيا , أما أن تتنازل دولة فقيرة كمصر لصالح بريطانيا العظمى , فهي من الأمور الشديدة التناقض , وهو من قبيل إفقار شعب لحساب شعب آخر بدون وجه حق .

وهنا نجد حكومة النقراشي تؤكد إصرارها عللا عدم قبول أي تخفيض لهذه الأرصدة ,تؤكد أنه ليس هنالك أية قوة تحول دون مواقفها المعلنة , رغم تهديد بريطانيا بتجميد الأرصدة , وموقف الولايات المتحدة المتعاطف مع الحكومة البريطانية .

ولقد استندت الوزارة المصرية على أن الديون الناجمة عن مشروع الإعارة والتأجير قد قدمت لبريطانيا , بمحض إرادة الدائن , وهى الحكومة الأمريكية , وكان تنازلها عنها كذلك بمحض إرادتها , بينما نشأت الأرصدة الإسترلينية في كثير من الحالات نتيجة عمليات تجارية للأفراد , وكذلك نتيجة لإيداعات من قبيل الاستثمار , كما نشأت كذلك بسبب القيود التي التزمت بها مصر بصفتها عضوا في كتلة الدول الإسترلينية بشكل إجباري ذاتي , وبسبب قوانين النقد , وليس طبقا لمعاهدة 1936 التي لا يوجد بها أية بنود تلزم مصر بتقديم مساعدات مالية لبريطانيا في حالة الحرب .

ونجد أن حكومة النقراشي قد ابتعدت وظيفة وكالة وزارة ما بعد الحرب تتبع وزارة المالية , إلا أن رئيس الوزراء ارتأى أتباع هذا الوكالة لمجلس الوزراء ,وأسندها إلى شخصية بالغة الأهمية , هو محمود بك باشا الدرويش , ونجد ضمن أوراق النقراشي مسودات لرسائل متبادلة مع محمود الدرويش رأينا أن ننقل خطابا من بينها يعبر عن العناية التي أولاها لهذا الموضوع , ومتابعته له , وهذا الخطاب مؤرخ بتاريخ 29 مايو 1947 .

عزيز محمود بك الدرويش : لقد فكرت في الموضوعين اللذين أردت منى أن أبلغك ما يستقر عليه الرأي بشأنها وهما :

1- تأميم البنك الأهلي

2- الأرصدة الإسترلينية .

أما فيما يتعلق بتأميم البنك الأهلي فإنك يمكنك أن تعتبر أن الحكومة المصرية ماضية في تأميم البنك الأهل , ولذلك عند المفاوضة في أمر الأرصدة الإسترلينية تتحدث على اعتبار أن الحكومة المصرية ستعمل على تأميم هذا البنك , أما فيما يتعلق بالأرصدة فإنني أخشى أن الحكومة البريطانية ستصر على تخفيضها وهى في هذا الموقف مؤيدة بأمريكا أيضا , إذ علمت أن السفير الأمريكي قال إن مستر واطسون وكيل المالية الأمريكية صرح بأنه يجب على الدائنين أن يخففوا عن انجلترا وقد أردت ذكر هذا حتى تدخل في حسابك أن انجلترا ستتمسك بالتخفيض , فيجب ألا يبدو منك تساهل ما قبل أن تعرف مدى تشددها .

أما فيما يتعلق بشرط الذهب , فإنك متفق معي على ضرورة التمسك به فيما يتعلق بغطاء البنكنوت , وكذلك اتفقنا على أنه ليس من المستساغ أن تتمسك بشرط الذهب للأرصدة المملوكة للأفراد .

بقيت مسألة الذهب للأرصدة الموجودة في الودائع , والتي تقدر بنحو 210 ملايين جنيه , وقد رأينا في جلستنا التي عقدناها قبل سفرك مباشرة أنه ينبغي لنا أن نحصل على :

1- غطاء للبنكنوت .

2- وقسط سنوي يقدر بمبلغ خمسة وعشرين مليون جنيه .

3- ومخلفات الجيش البريطاني .

4- والأسلحة التي سلمت للجيش المصري أو تسلم إليه .

5- ومصروفات الجيش البريطاني في مصر .

6- وأسهم قنال القاهرة .

7- وتسوية الدين المصري القديم .

8- وسكة حديد فلسطين .

فإذا حصلت الانجليز على المسائل المتقدمة أمكن التساهل في شرط الذهب بالنسبة للودائع , ويمكنني أيضا أن أقول أذا كان الاتفاق لا يمكن أن يتم إلا بتخفيض القسط السنوي إلى ثمانية عشر مليون جنيه أمكن ذلك التساهل إلى هذا المدى , إلا أنني أعود وأقول إني أخشى أن يحصلوا على هذا التساهل , ثم يعودون إلى التمسك بتخفيض الأرصدة , وهذا ما اتفقنا على أنه لا يمكن الاستمرار في المفاوضة على أساس التخفيض مطلقا .

هذا وإني أضيف إلى ما تقدم أنه في حالة الاستعداد للاتفاق يمكنك قبول تخفيض الفائدة إلى نصف في المائة وفى الختام أدعو لك بالتوفيق

المخلص / محمود فهمي النقراشي
إمضاء / رئيس مجلس الوزراء


وأود هنا أن أشير على الفقرة التحى يقرر فيها النقراشي عدم الاستمرار في المفاوضة على أساس التخفيض مطلقا , وكان لموقفه الحازم أثره في أن التزمت بريطانيا بالوفاء بالأرصدة كاملة , ويمكن الرجوع في هذا الشأن إلى اتفاق الأرصدة الإسترلينية المؤقتة في 30- 6- 1947 , والموقعة في لندن عن الحكومة الملكية المصرية , ويمثلها عبد الفتاح عمرو , سفير مصر في لندن , ومستر دلتون عن حكومة المملكة المتحدة .

وقد أعلن الدكتور دلتون في مجلس النواب البريطاني التصريح الخطير التالي :

" لقد رجوت مندوبي مصر أن يتقدموا بمقترحات بشأن التنازل عن كل أو جزء من دين الحرب الناشئ عن مجهودنا الحربي للدفاع عن مصر , ولكن الحكومة المصرية لم تجد نفسها قادرة حتى الآن على الاستجابة لهذا الرجاء "

وهكذا دفعت الأحداث النقراشي ضد رغبته إلى الصفوف الأمامية , حيث اضطر أن يجابه ويعالج قضايا شتى , ويتعامل بحسابات أخرى مع الخصم الذي كان بالأمس يتآمر ضده ,وهو مع ذلك يكن له نفس البغض , إلا أنه على ما يبدو نجح – في هذه المرحلة – بمظهره الدمث , أو ما يطلق عليه البعض " الدبلوماسي " في أن يخدع بعض الساسة البريطانيين , إذ يقول اللورد ستانسجيت في أحد تقاريره التي بعث بها إلى لندن :

" إن النقراشي باشا رجل جنتلمان متزن يرتاح الإنسان إليه كثيرا على غير ما أشيع وما رفع إلينا عنه من معلومات , ويظهر أن تاريخه الماضي غير تاريخه في الوقت الحاضر على خط مستقيم " ( 5-5-1946) ( وفق مذكرة أعدها البكباشي محمد وصفي بتاريخ 18-8-1946 , وقد كان قائد الحرس في قصر أنطونياس , مقر الورد ستانسجيت , وكان مكلفا كذلك من قبل وزارة الداخلية في وزارة صدقي , بمراقبة ونقل ما يدور فيه من أحداث وأحاديث )

وزلا شك أنها كانت فترة قاسية فئ مشواره السياسي تعرض فيها لحملة من النقد والهجوم , وقد ضاعف من هذا الهجوم إيثاره للصمت الذي أطلق العنان للتفسيرات المغرضة , وإننا نرى في الصورة التي نشرت في " آخر ساعة " في أكتوبر 1947 , ويبدو فيها النقراشي متجهمتا , شارد الذهن , وكذلك في التعليق المصاحب لهذه الصورة أبلغ تعبير عما قد يجيش في صدر رجل أثقلت كاهله الهموم العظام , يقول التعليق الطريف :

" بينما كان بعض مصوري الصحف يلتقطون صورا في حفلة الشاي التي أقامها دولة النقراشي باشا مساء الاثنين في منزله لأعضاء هيئة المفاوضة قال دولة صدقي باشا للنقراشي باشا : اضحك يا باشا , وسكت النقراشي باشا , وبعد دقيقة جاء مصور آخر فقال صدقي باشا ضاحكا : اضحك يا باشا , والتفت إليه النقراشي باشا باسما وقال : هو أنت شايفنى باعيط يا باشا ؟ "

ويؤيد ذلك الانطباع مقال لـ " جان لوجول " في جريدة " لا بور اجيبسين " بتاريخ 6 يناير 1947 , أي في نفس الفترة تقريبا , حيث يقول الكاتب إن النقراشي لم يتغير منذ المرة الأولى التي التقاه فيها غير أن شيئا ما في ملامح وجهه وباختصار في شخصه كله عن قدر مضاعف من الجدية .

الفصل الثاني عشر: النقراشي والقضية الفلسطينية

عاد النقراشي إلى أرض الوطن في 18 سبتمبر 1947 , وأعلن أنه لا يعتبر نفسه مقيدا بمطالب معاهدة 1936 , بل إنه في تحد سافر لما نصت عليه المعاهدة بوجوب أن تتولى بريطانيا دون غيرها من البلدان الأخرى تدريب وتسليح الجيش المصري , صرح بأنه سوف يعمل على تقوية الجيش المصري وتنويع مصادر تسليحه , والاستعانة بالخبراء والمستشارين اللازمين لذلك , كما أعلن أنه سيوجه جل اهتمامه إلى المشاكل الداخلية , خاصة أن مرض الكوليرا كات قد استفحل في هذه الفترة . كما أضرب ضباط البوليس , درع الدولة الواقي في 15 أكتوبر 1947 , وهو ما سوف نتأوله في حينه . وفى الواقع لم تكن هناك فسحة من الوقت يلتقط فيها النقراشي أنفاسه , بل قذفت به الأقدار في أتون جديد اسمه فلسطين , حيث صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في 29 نوفمبر سنة 1947 .

ولقد نشأت هذه القضية , أو ما تعارفنا على أن نطلق عليه مسمى " القضية الفلسطينية " منذ صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917 , إلا أن العرب بل الفلسطينيين أنفسهم لم يتنبهوا في باديي الأمر لخطورة ما يدبر لشعب فلسطين في الخفاء .

غير أننا لا نتحدث هنا سوى عن" القضية الفلسطينية في مصر " , حيث صاغت عدة عناصر خصوصية ومعالم تلك القضية في مصر , أبرزها الساسة المصريون , والقصر , والإنجليز , والقوى الأيديولوجية ( جمعية الشبان المسلمين التي أنشئت فروع لها في يافا والقدس وحيفا , وجماعة الإخوان المسلمين ) التي تزامن ظهورها مع المد الإسلامي , سواء تفاعلت معا هذه العناصر أو لعبت دورها منفردة في أدوار القضية الفلسطينية المختلفة .

فنجد أن الإضراب الكبير الذي حدث في فلسطين في إبريل 1936 , واستمر ستة أشهر وكان بداية لثورة 36 / 1939 لم يكن محور اهتمام الغالبية العظمى للساسة المصريين , وذلك إذا استثنينا قلة من الساسة أمثال محمد محمود ومحمد علي علوبة ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن عزام , ينتمي أغلبهم لحزب الأحرار الدستوريين , وإن كان قد حظي بعطف مصر الشعبية متمثلة في الجمعيات الإسلامية – مثل الشبان المسلمين والإخوان المسلمين – ورجال الدين وطلبة الجامعات والاتحادات النسائية غير أن الصحف المصرية وقفت موقفا سلبيا من أحداث فلسطين ويعزو الدكتور عادل غنيم هذا الموقف إلى عدة عوامل لعل أهمها :

تجنب إغضاب الإنجليز في الظروف الدقيقة التي كانت تمر بها مصر في ذلك الوقت , والمفاوضات جارية بين الجانب المصري والجانب البريطاني , أو لارتباطها مع شركة الإعلانات اليهودية لنشر إعلاناتها , أو خشيتها من منع دخول فلسطين

إلا أن " الأهرام " دأبت على نشر برنامج الإذاعة الخارجية لفلسطين . ولكي يتبين لنا بجلاء المناخ العام في ذلك الوقت , وموقف مصر من اليهود , ينبغي أن نذكر أنه كانت من الأمور المعتادة أن تنشر الصحف اليومية في تلك الفترة: " أخبارا عن حفلة تقيمها جمعية مدارس الطائفة الإسرائيلية بالإسكندرية تحت رعاية الأمير عمر طوسون مثلا . أو خبرا عن اجتماع الجمعية العمومية لنادي الاتحاد للإسرائيليين في العباسية ... "

أما على الصعيد الرسمي فلم يصدر خلال المرحلة الأولى للثورة التي استمرت ستة أشهر أي تصريح لسياسي مسئول , ولقد كان تصريح النحاس في مجلس الشيوخ أول بيان مصري رسمي , يعرب عن تأييده لعرب فلسطين ويتعهد بالعمل على نصرة قضيتهم .. ويبدو أن بريطانيا حرصت على إقصاء مصر عن القضية الفلسطينية , خاصة بعد أن تولى الوفد الحكم , وبعد ما لمست من اهتمام زعيمها بمشكلة فلسطين , فلقد خشيت أن ينعكس موقف الوفد – وهو الحزب ذو الثقل الجماهيري الكبير – على الرأي العام المصري .

ولقد أقلق هذا الحديث الذي طرأ على الساحة عن دولة يهودية عددا من المصريين , حيث رأوا فيه تهديدا لكيان مصر ؛ ومن هنا نشأت فكرة تأسيس اللجنة العربية المصرية للدفاع عن فلسطين , وفق ما ورد في إحدى حلقات الأهرام ديوان الحياة العصرية للدكتور يونان لبيب رزق . وقد تألفت هذه اللجنة برئاسة محمد علي علوبة باشا , بعد صدور إقرار وزارة المستعمرات البريطانية في 5 يناير 1938 لفكرة تقسيم فلسطين إلى مناطق ثلاث : منطقة عربية , وأخرى يهودية , ومنطقة ثالثة توضع تحت الانتداب البريطاني .. ولقد اقترن هذا الحرص على أمن وسلامة الوطن بأطماع الملك الشاب في الخلافة , وهو الطموح الزى حرص علي ماهر على تعزيزه , ففا أوائل حكم الملك فاروق وتمشيا مع التوجيهات العربية والإسلامية للملك الشاب , شجع القصر الدعوة لعقد المؤتمر الإسلامى العربي لنصرة فلسطين في أكتوبر 1938 , وهى الدعوة التي أطلقت شرارتها الأولى اللجنة العربية المصرية للدفاع عن فلسطين .

وعلى الرغم من هذه التوجيهات العربية التي نبعت من ناحية منت تعاطف لفيف من المصريين مع محنة إخوانهم في فلسطين , ومن ناحية أخرى من استشعارهم خطورة التواجد الصهيوني في دولة من دول الجوار العربي على أمن مصر , إلا أن مصر ظلت بوجه عام , بمنأى عن المد القومي العربي الذي كان قد نشأ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في بلاد الشام , وذلك نتيجة لخصوصية وضع مصر الداخلي , حيث تقول الدكتور عايدة سويلم فئ دراستها الممتعة عن قضية فلسطين مصر :

" إن فلسطين تعتبر أهم نقاط التحول الرئيسية في مسار الفكرة العربية في مصر , كما أنها كانت في ذات الوقت سببا في التراجع عن تلك الفكرة " .

فلقد كان يتجاذبها تياران : تيار الفكرة الإسلامية وتيار الوطنية المصرية , وينبغي هنا أن نؤكد ضرورة الفصل بين تيار القومية العربية والتيار الإسلامى , حيث إن التوجه الإسلامى في مصر كان سابقا على التوجه العربي , وقد تزامن مع فكرة الجامعة الإسلامية , التي طرحها جمال الدين الأفغاني , والتي كانت تدعو إلى توحيد الأقطار الإسلامية تحت لواء الدولة العثمانية , حتى يتسنى التصدي للغرب , وهى الدعوة التي تبناها في مصر مصطفى كامل في مطلع القرن العشرين , ثم أصبح التوجه الإسلامي سمة من سمات عهد الملك فؤاد الذي كان يحلم بالخلافة السلامية بعد إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924 , ولقد أتاحت معاهدة 1936 لمصر فرصة التواصل مع الأقطار العربية الشقيقة كنتيجة غير مباشرة لهامش الحرية الجديد , الذي أصبحت مصر تتمتع به بموجب هذا التحالف .. إلا أن التوجه العربي الفعلي قد تزامن مع نكبة فلسطين , حيث تبنى القصر الدعوة إلى عقد المؤتمر البرلماني العربي الإسلامى لنصرة قضية فلسطين في القاهرة في أكتوبر 1938 , على نحو ما أسلفنا .. وقد لعب علي ماهر , الذي ضمت وزارته الثانية ثلاثة من المدافعين عن العروبة والإسلام هم عبد الرحمن عزام , وصالح حرب , ومحمد علي علوبة ,دوره في تعزيز هذا التوجه وقد حرصت مصر على أن تمثل في مؤتمر فلسطين بلندن ( سبتمبر 1946 ) كما نبه ممثلها الدكتور عبد الرازق السنهوري إلى خطورة الكيان الصهيوني على الدول العربية المجاورة .

أما التيار الوطني المصري فلقد كان يدعو إلى تكرس مصر جل اهتمامها لحل القضية المصرية , وأن تيمم وجهها شطر وادي النيل . ونعتقد أن النقراشي يمكن أن يحسب على هذا التيار , حيث نجده يوضح في مؤتمر عالية في أكتوبر 1947 , أمام الوفود العربية المجتمعة , أسباب امتناع مصر عن خوض حرب نظامية في فلسطين , فيقرر أن " مصر في نزاع مع الحكومة البريطانية أولا , وهى لذلك لا يمكنها أن تشتبك في أية حرب "

كما تصفه إحدى الوثائق البريطانية بأنه شخص متعقل , إلا فيا يخص بعض المواضيع ( لابد أن المتحدث وهو كلاتون , يومئ إلى المسألة المصرية ) وهذه المواضيع لا تشمل على مسألة فلسطين . والواقع أنه قد تصاعدت شكوى البريطانيين في هذه الفترة من موقف النقراشي فئ المفاوضات الجارية , وهو الموقف الذي عدوه من قبل التعنت وضيق أفق ,فهذه العبارة إنما هي تعليق لكلاتون على برقية من بيلى بتاريخ 20 ديسمبر 1948 يعرب فيها عن الدهشة التي أثارها لديه إحجام النقراشي عن إلقاء اللوم على البريطانيين , بشأن ما أسماه " المجازفة المصرية في فلسطين " جريا على دأب النقراشي في إثارة القلاقل في وجه البريطانيين في الآونة الأخيرة .

ومن الشواهد الأخرى على موقف النقراشي من القضية الفلسطينية رده على عبد الرحمن عزام – الأمين العام لجامعة الدول العربية – الذي أرسل له خطابا يطالبه فيه ببعض المعدات التي تلزم لإعانة متطوعي فلسطين من مخلفات الجيوش الأمريكية , فأجل رئيس الوزراء البت في هذا الأمر حتى تستكمل وزارة الدفاع المصرية حاجتها أولا من هذه المعدات , كما نجد أن الدكتور محمود فوزي – وزير مصر المفوض لدى الأمم المتحدةيقول في رسالته للنقراشي المؤرخة بتاريخ 21 أكتوبر 1947 :

" وأكثر ما يشغل بالى قضيتا اليونان والجلاء عن بلادنا " ودلالة هذه الكلمات غنية عن التعليق , سواء كانت نابعة عن قناعة الوزير المفوض الشخصية أو عن معرفته بأولويات رئيس الوزراء , فترتيب القضية الفلسطينية في أجندة اهتمامات النقراشي وأعماله لا تأتى في المقام الأول , حيث ظلت القضية الوطنية حتى اليوم الذي لفظ فيه أنفاسه هي شغله الشاغل الذي سيطر بشكل كبير على تفكيره .

ولكي تكتمل الصورة التي نود أن ننقلها لهذه الشخصية بمختلف جوانبها , التي قد تبدو أحيانا متنافرة وبها الكثير من التضارب , يجب أن نضيف أن النقراشي لم يكن مع ذلك ليتنصل أبدا عن الالتزامات التي تفرضها عليه هويته العربية , فقد كان النقراشي يشارك في اجتماعات اللجنة التحضيرية لعقد ميثاق جامعة الدول العربية بصفته وزيرا للخارجية في وزارة أحمد ماهر . وبعد اغتيال أحمد ماهر , وفى أول اجتماع للجنة السياسة الفرعية برئاسة النقراشي , ثارت مناقشة طويلة حول اشتراك موسى العلمي ممثل فلسطين التي اعترض عليها وزير خارجية لبنان باعتبار أن فلسطين ليس دولة مستقلة , ولكن كان للجنة رأى آخر قوامه استثناء فلسطين من الأساس القانوني للكيان العربي الوليد , حيث إن لهذا البلد وضع خاص , نظرا لتعاطف الشعوب العربية مع محنة أهل فلسطين , وكان من الطبيعي أن يزعج هذا القرار بريطانيا التي كانت ترقب بحذر شديد سعى البلاد العربية للوحدة , ورأت بريطانيا أن يكتفي بالسماح لموسى العلمي بالاشتراك كمراقب , وليس بصفته عضوا أساسيا , وأرسلت وزارة الخارجية تعليمات بذلك للورد كيلرن لإبلاغ النقراشي وسائر ممثلي العرب قبل اجتماع اللجنة التحضيرية في 17 مارس , وكان رد النقراشي أن يترك " الأمر لعقلية الدكتور عبد الحميد بدوي في الوصول إلى صيغة مقبولة في هذا الشأن " وكذلك احتجت وزارة الخارجية البريطانية ممثلة في السكرتير الشرق للسفارة سمارت على اشتراك الدول العربية غير المستقلة في اجتماعات مجلس الجامعة , خوفا من أن يغضب هذا الأمر فرنسا التي تحتل دول المغرب العربي , كما أن بريطانيا تحتل برقة وطرابلس فئ ليبيا ولكن النقراشي لم يستجب للتحذيرات البريطانية , متعللا بأن لمصر مصالح مع جارتها ليبيا .

ونستشهد كذلك بموقفه من أحداث سوريا ولبنان في مايو 1945 التي تمثل أول أزمة حادة تواجه الجامعة العربي الوليدة , عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية , إذ قررت الحكومة السورية عدم تدريس أية لغة أجنبية في المدارس الابتدائية , واعتبرت فرنسا أنها المقصودة بهذا القرار , وجاء الرد بإلزام قوات سنغالية في ميناء بيروت ,واندلعت المظاهرات الصاخبة في سوريا ولبنان توقعا بتقدم هذه القوات إلى دمشق , إلا أن فرنسا تدخلت لقمع هذه المظاهرات ,وألقت قنابلها على دمشق يوم 29 مايو 1945 . وكان من أثر ذلك أن عقدت الجامعة العربية اجتماعا أيدت فيه سوريا ولبنان .

وطلب بنكنى تاك – الوزير الأمريكي المفوض – مقابلة رئيس وزراء مصر , ليستطلع موقف مصر , ثم بعث إلى واشنطن برقية يقول فيها :

" ذكر رئيس الوزراء النقراشي أنه بالنسبة لمصر ورد فعلها المشرق فإن مصر قطعت على نفسها عهدا خلال الاجتماع الأخير لجامعة الدول العربية بأنها مستعدة بإخلاص , لتنفيذ الالتزامات التي تم الاتفاق عليها في الاجتماع "

وقال إن فرنسا تخلق الاضطرابات لنفسها في منطقة الشرق الأدنى بأسرها , وقد تضطر الحكومة المصرية في النهاية , لاتخاذ إجراءات تستهدف المقاطعة الاقتصادية والثقافية لفرنسا و.. حتى قطع العلاقات الدبلوماسية , ( نقلا عن كتاب سنة عمر مصر ) .

فهو لا يكتفي بالشجب وإنما يلجأ للتهديد الصريح , ويبدو أن مصر المحتلة , كانت تملك إرادة حرة من خلال زمرة من الوطنيين الأمناء على مصالحها العليا .

كما أن الأولوية المطلقة التي يعطيها للقضية الوطنية لا تعنى أنه لا يأبه للخطر الذي بات يمثله الكيان الصهيوني لأهل فلسطين , وليس من زاوية أمن مصر فحسب , حيث نجده يقول في معرض حديثه مع شخصيات أمريكية رفيعة المستوى في 10 إبريل 1947 , وردا على ما أثاره الأمريكيون من إمكان الولايات المتحدة القيام بالمساعدة على تهجير عرب فلسطين بعد إقامة نظام ري على ضفاف دجلة والفرات يحول مساحات كبيرة إلى أرض صالحة للاستغلال .

لا تستهين ( كلمة غير واضحة ) أمريكا هذا الأمر فهي ستكون بمثابة حرب صليبية جديدة , وإذا نجحت فيها فستتحمل غضب العرب نتيجة هذا الاضطهاد الذي يفوق في أثره ونتائجه ما يشعر به اليهود من ألم الاضطهاد القديم الذي يزعمون أنه أصابهم .

ولقد أثار قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947 استنكارا رسميا وشعبيا في البلاد . وأذاعت الحكومات العربية بيانا باستنكار التقسيم في 17 ديسمبر من نفس العام . ولكن – وفق ما ذهبت إليه الغالبية العظمى من المؤرخين – لم تتبلور لدى الحكومة المصرية وقتئذ نية للدخول في حرب ضد الصهيونية , بيد أن الدكتور عادل غنيم يرى أن قرار دخول مصر الحرب كان مقدرا منذ البداية , وإن تأخر الإعلان الرسمي لهذا القرار , ويستند أستاذنا الجليل على عدة براهين من واقع الوثائق البريطانية , بل والأمريكية نذكر من بينها الملاحظتين اللتين خرج بهما السفير الأمريكي بعد مقابلته للملك فاروق في الثاني من شهر ديسمبر سنة 1947 , واللتين حرص على تدوينهما في رسالة لوزير الخارجية الأمريكي :

الأولى : أنه ليس هناك شك في أن مصر قررت بشكل واضح القيام بمشاركة كاملة في المواجهة العسكرية ضد اليهود في فلسطين .

الثانية : أنه من المحتمل أن يقوم الملك – من خلال عزام باشا والجامعة العربية – بدور قيادي في التنسيق لتنظيم المقاومة العربية ( نقلا عن الدكتور عادل غنيم )

وإن قرار الملك فاروق قرار منفردا لم يشرك فيه حكومته , فلقد وجد ملك مصر في أزمة فلسطين فرصة سانحة لتأكيد زعامته للبلاد العربية , فهو كان قد دعا ملوك الدول العربية ورؤساء جمهورياتها في أنشاص دون علم الوزارة التي كان يرأسها وقتئذ إسماعيل صدقي , ودون مشاركة وزير الخارجية المصري لطفي السيد ,ودام هذا الاجتماع يومين في 28 , 29 مايو سنة 1946 أسفر عن قرارات مصيرية منها ضرورة إنشاء كيان يبلور القومية العربية .

إلا أنه على الصعيد الرسمي المعلن فقد اقتصرت الحكومة المصرية فور صدور قرار التقسيم ,وتحسبا للقلاقل المتوقعة بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين يوم 15 مايو 1948 , على إنشاء قيادة عسكرية في العريش ألحقت بها كتيبة من المشاة معززة بمدافع الهاون , الهدف منها الحيلولة دون وصول الاضطرابات من فلسطين إلى حدود القطر المصري , أنى أن الحكومة كان يحدوها في البداية اعتبارات المصلحة المصرية البحتة . ولكن على عكس الرأي السائد بأن حرب فلسطين لم تسبقا استعدادات كافية وجادة , وأن القضية الفلسطينية لن تحظ بالاهتمام والعناية الواجبة من الدوائر السياسية المصرية , يذهب الدكتور عادل غنيم إلى أن الفترة التي تقع ما بل قرار التقسيم مباشرة وبين دخول الجيوش العربية أرض فلسطين قد شهدت نشاطا دبلوماسيا متميزا , حيث يقول فئ مقدمة كتابه " الدبلوماسية المصرية وقضية فلسطين " 1947-1948 :

" ولا أخفى على القارئ أنى لم أكن أتصور – قبل الاطلاع على هذه الوثائق ( يقصد الوثائق التي اهتدى إليها , والتي تخص الجهود الدبلوماسية في هذه الفترة ) نشاطا دبلوماسيا مصريا تجاه القضية الفلسطينية خلال تلك المرحلة بهذا العمق والتنظيم والايجابية "

ثم يقول في معرض حديثه :

" ويتضح من برقية مرسلة من وزير الخارجية المصرية إلى الدكتور محمود فوزي في 18 فبراير 1948 أن القضية الفلسطينية كانت تشغل وزارة الخارجية في ذلك الوقت , فهي لا تكتفي بالقيام بدور تقليدي وإنما تهتم بدراسة أفضل السبل لطرح القضية على المجتمع الدولي بما يقطع خط الرجعة على أية محاولات دولية لاستغلال موقف العرب أو الإساءة إليهم . وتعتبر البرقية نموذجا للدبلوماسية الواعية المدركة لأبعاد السياسة الدولية تجاه القضية " .

ويرى الدكتور عادل غنيم أن هذا النشاط واكب وعيا جديدا بهوية مصر العربية . ويبدو أن النقراشي لم يترك بصمته الواضحة على هذه الجهود الدبلوماسية , وإن كانت تلك الجهود قد بذلتها وزارة الخارجية في الحكومة التي كان يرأسها فئ ذلك الوقت , فلا يمكن إذن أن نتصور أنها كانت تجرى بمنأى عن رئاسة الوزارة

ولقد كانت خطة النقراشي المعلنة هي أن يقتصر التدخل المصري في فلسطين على فتح باب التطوع للحرب , دون اشتراك القوات النظامية , وبالفعل شاركت قوة من المتطوعين المصريين في الدفاع عن فلسطين فئ المرحلة الأولى من المواجهة بين العرب وبين الصهيونية , جنبا إلى جنب مع قوات جيش التحرير بقيادة فوزي القاوقجى , وقوة الجهاد المقدس الفلسطينية , وهى المرحلة التي أطلق عليها المؤرخون مرحلة الحرب غير الرسمية . وكانت حركة التطوع قد تمت بمباركة الحكومة , بدليل إنشاء معسكر للتدريب فئ معسكر الهايكستب , كما سمحت الحكومة لبعض الضباط أن يستقيلوا ويتطوعوا , كما ورد فئ بيان رئيس الوزراء أمام مجلس النواب فى12 مايو 1948 , على وعد منها بإعادة المتطوعين إلى وظائفهم حال انتهاء مهمتهم القتالية , كما أن تهريب الأسلحة إلى فلسطين عبر الصحراء كان لا يمكن أن يتم دون أن تغض الحكومة البصر عن هذا النشاط , فلقد كان النقراشي مقتنعا بأنه لا يجوز الزج بالجيش المصري في فلسطين , وفى ظهره القوات البريطانية المرابطة في قناة السويس , مما كان يهدد سلامة إمداد الجيش بالمؤن والعتاد , ويمكن أن نضيف من واقع البيان الذي أشرنا إليه أنه كان شديد الحرص على ألا تتعارض تصرفاتنا أنى الحكومة المصرية مع المركز الدولي لمصر , حيث كان يخشى على ما يبدو من تأليب الأمم المتحدة على مصر في الوقت الزى أسفر عنه عرض القضية المصرية على الهيئة الدولية , قرارا ببقاء القضية مدرجة في جدول أعمال مجلس الأمن , وهو الأمر الذي قد يدعو إلى الأمل , وإن كان واهيا بأن تنتصف هذه الهيئة لمصر .

ويرى الكاتبان الصحفيان دومينيك لابيير ولارى كولينز مؤلفا كتاب " وقدساه " الذي سجلا فيه مقدمات اندلاع حرب فلسطين الأولى , وأحداثها , أن النقراشي كان الوحيد بين زعماء الدول السبع التي كانت تتشكل منها الجامعة العربية في ذلك الوقت الذي ظل موقفه ثابتا لا يتزعزع , في الوقت الزى بلغت فيه الحماسة مداها , وتصاعدت الدعوة إلى دخول الحرب , فئ جو مشحون بالعاطفة ,وكذلك بالمزايدة , حيث كما يقول المؤلفان كانت كل دولة من الدول العربية الست الأخرى – وفى مقدمتها الأردن – تنظر إلى مشكلة فلسطين من زاوية مصلحتها الخاصة , فلقد كان الملك عبد الله , يطمع في ضم جزء من فلسطين إلى مملكته الصغيرة , بعد أن باء حلمه وحلم أبيه الحسين بن على شريف مكة وملك الحجاز بسوريا الكبرى بالفشل , لتراجع بريطانيا عن وعدها بوحدة الحجاز والبلاد السورية ( سوريا ولبنان وفلسطين والأردن ) والعراق فئ دولة واحدة, وقد حذر الملك عبد العزيز بن سعود ملك مصر ورئيس وزرائه أكثر من مرة من طموح الملك عبد الله الجارف ومن تواطئه مع الصهاينة , كما أرسل الملك عبد العزيز خطابا إلى النقراشي بصفته " من أكبر الأصدقاء لهذه البلاد ومن الذين له بهم ملء الثقة" بعد أن أبلغه مندوب المملكة السعودية وفى اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية بما عقد عليه العزم باستخدام سلاح البترول ,وبعد أن تحدث في هذه الرسالة عن أهمية البترول بالنسبة لهذه البلاد " البلاد القاحلة المجدبة" يقرر أنه " يستحيل عليه أن يأتي أمرا يكاد أن يكون فيه انتحار مالا لبلاده " ويطلب من النقراشي أن " يؤخذ هذا الأمر بعين الاعتبار فيما لو طرحت القضية على بساط البحث " ولابد أن هذه الرسالة التي تحمل فئ طياتها اعترافا ضمنيا بزعامة مصر , وتقدير لشخص النقراشي بخاصة , قد أصابت مصر بخيبة أمل كبيرة , حيث إن فاروق كان مقتنعا بأنه رغم المزايا المالية الضخمة التقى يستمدها ابن سعود من المشروعات الأمريكية فإنه لن يتراجع عن وعده حتى لو كلفه التضحية بآبار النفط .

أما العراق فلقد كان موقفه من القضية الفلسطينية يتسم بالازدواجية , فنجد رئيس وزرائه صالح جبر يعترض بشدة , عندما يشير النقراشي في أحد اجتماعات الجامعة العربية في ديسمبر 1947 إلى أمين الحسينا مفتى فلسطين , باعتباره الحاكم المنتظر للدولة العربية في فلسطين . كما يبدو بجلاء من الشواهد السابقة الفتى كانت تتكشف تباعا للساسة المصريين أنهم لابد أن أدركوا أن العبء الأكبر من هذه الحرب سوف يقع على مصر , خاصة أنها كانت علاوة على هذا الوضع الشائك تسهم بأكبر نصيب مالا للاستعدادات الحربية .

وظل النقراشي على رأيه وفى تجنب دخول الحرب , إلا أنه بين عشية وضحاها تغير رأيه فجأة وبدون مقدمات , فما سر هذا التحول الجذر الزى حير المراقبين المعاصرين والمؤرخين , والذين لجأوا فئ أغلب الأحيان إلى أبسط الاجابات لتفسيره ؟ والواقع أن هذا التحول كان ثمرة ضغوط نذكرها حسب ترتيب ظهورها :

1- أول هذه الضغوط كان الرؤى العام المصري , فقد اندلعت في طول البلاد وعرضها مظاهرات عارمة تنادى بالاشتراك في الحرب , وتردت فيها صيحات " أين السلاح يا عزام " و " أين السلاح يا نقراشى " وانهالت العرائض على المسئولين تناشدهم التدخل لإنقاذ إخوانهم في فلسطين كما عقد الطلبة مؤتمرا بحرم الجامعة يطالبون فيه الحكومة بالاستقالة بسبب ما اعتبروه تقاعسا عن أداء واجبها .
2- لقد سبق أن أشرنا بلسان الدكتور عادل غنيم إلى نية الملك المبيتة لخوض حرب نظامية في فلسطين , ولقد صدر من الملك أمر مباشر للقوات المسلحة للتحرك قبل استشارة الوزارة .
3- ولابد أنه مما عجل من قرار الملك هو إعلان الملك عبد الله أنه سيتحرك بجيوشه يوم 15 مايو بصرف النظر عما عقدت عليه العزم الدول العربية , وكان ملك الأردن قد قرر أن يحتل بجيوشه الجزء العربي من فلسطين , وهذا ما لم تستطع العراق وسوريا ولبنان أن تقبله , ولذا قررت الدخول بجيوشها إلى فلسطين في نفس اليوم , ولم يكن لمصر وهى تحتل مركز الصدارة في الأمة العربية أن تتخلف عن سائر الدول العربية .. ومن ناحية أخرى كانت علاقة الملك فاروق قد توطدت مع أمين الحسيني خلال الحرب العالمية الثانية , حيث لعب المفتى دور همزة الوصل بين ملك مصر والألمان .
4- كما فطن العرب إلى السياسة الجديدة التي انتهجتها بريطانيا في فلسطين لتفعيل قرار التقسيم , بحيث يجد العرب أنفسهم أمام الأمر الواقع , فدأبت قبل الموعد المحدد على إنهاء الانتداب على الانسحاب من بعض المدن والمواقع الإستراتيجية والمرافق العامة , وجاءت هذه السياسة لصالح اليهود الذين كانوا يحلون تباعا مكان القوات البريطانية .
5- لعب عبد الرحمن عزام دورا كبيرا في الدعوة إلى العمل المسلح , فقد كان أمين الجامعة العربية من أكثر أنصار العروبة تحمسا ونشاطا , ولكنه كان يرمى إلى التهديد بدخول الحرب أكثر منه الدخول الفعلي للجيوش العربية أرض فلسطين .
6- يضيف الدكتور حسين هيكل عاملا آخر نسوقه رغم عدم اقتناعنا به , لكن يبدو أنه رأى متواتر حيث وجدنا رأيا مماثلا في كتاب المستشار طارق البشري الذي أشرنا إليه أكثر من مرة , ولذلك وجب استجلاؤه من خلال المناقشة , حيث يعتقد القطب الدستوري أن الأوضاع الداخلية لعبت دورا في قرار النقراشي المفاجئ وهو يعنى بالأوضاع الداخلية إضراب البوليس الذي أشرنا إليه آنفا , فيقول :

" والالتجاء إلى الحرب لصرف الأنظار عن المشاكل الداخلية سياسة لجأت إليها الدول الديكتاتورية مرارا فئ التاريخ القديم والحديث "

وفى الواقع فإن النقراشي كان قد تولى مقاليد الحكم وسط أجواء مضطربة , فكان طبيعيا أن يتولى بالعناية الفائقة كل العناصر التي يمكن أن تحقق استتباب الأمن في البلاد , وفى مقدمتها البوليس , فاتخذ من الإجراءات ما يضمن حسن أداء البوليس للمهام المنوطة بهم , فطلب مثلا من وزارة المالية اعتماد مبلغ 3715 جنيها في ميزانية وزارة الداخلية لشراء كلاب بوليس , كما أصدر مشروع قانون خاص بتنظيم كلية البوليس , وشرع في تكوين فرق خاصة من رجال البوليس , أعد لها تدريبا ونظاما معينا وأنشأ إدارة خاصة لمكافحة المخدرات , وذلك خلاف اهتمامه بتمصير البوليس منذ أن كان وزير للداخلية في وزارة محمد محمود , جريا على السياسة التي اتبعها مع الجيش أيضا وفى الوظائف الحكومية ,ولكن من الواضح أن هذه الإجراءات النابعة من الحرص على المصلحة القومية لم تشمل الأوضاع المعيشية لرجال البوليس الذين طالبوا النقراشي منذ عهد وزارته الأولى بتحقيق بعض المطالب الخاصة بهم , مثل إنشاء صندوق الادخار وبناء مساكن لهم وتيسير سبل العلاج والتعليم لأسرهم , وكان النقراشي قد تعهد بأن يأخذ هذه المطالب بعين الاعتبار .

وفى عامي 1947 . 1948 شهدت البلاد سلسلة من الاضطرابات فجرتها قطاعات عريضة من الشعب كالمدرسين والممرضين والمهندسين وعمال النسيج وعمال السكة الحديد , فرأى ضباط البوليس أن الفرصة سانحة لكي يرفعوا مطالبهم للحكومة , وقد تمثلت هذه المطالب في زيادة المرتبات , وتعديل كادر البوليس , ومساواة العسكريين منهم برجال الجيش والإداريين برجال القضاء .. وقد بادر النقراشي بتشكيل لجنة من كبار القيادات المسئولة بوزارة الداخلية لدراسة هذه المطالب تمهيدا لتحقيق ما تراه للتنفيذ .

ولكن رجال البوليس لم يتريثوا , فرفعوا مطالبهم للملك مذيلة بتهديدهم بالقيام بعمل جماعي , لم يحددوا ماهيته في يوم 15 أكتوبر 1947 , وذلك في حالة إهمال مطالبهم , واجتمع بالفعل لفيف من الضباط بمقر ناديهم بالقاهرة يومين قبل التاريخ المحدد , وقرروا الإضراب عن العمل في يوم 15 أكتوبر 1947 , ما دامت الحكومة لم تستجب لمطالبهم , وحرص ضباط البوليس في نفس الوقت على إعلان ولائهم للملك حتى لا يتهموا بالعصيان . وكان رد فعل النقراشي رادعا وحاسما كعادته فأعاد من جديد حركة التنقلات بين رجال البوليس مثلما فعل في أول عهده بوزاراته الثانية كنتيجة للصدام الذي كان قد وقع بين الطلبة وبين البوليس في حادثة كوبري عباس , كما أحال النقراشي عددا من ضباط البوليس إلى الاستيداع وكان هذا الإجراء علاجا وقتيا للأزمة لم يشف غليل رجال البوليس , ولذلك قاموا بعد ذلك بحوالي ستة أشهر , وفى يوم 5 إبريل بالتحديد , بإضراب شامل عن العمل في القاهرة وفى الإسكندرية وفى الأقاليم . فاضطر النقراشي إلى أن يأمر قوات من الجيش للنزول إلى شوارع القاهرة لحفظ الأمن .

ولا نعتقد أن يكون مبرر النقراشي الذي ظل حتى أواخر شهر إبريل على اقل تقدير معارضا بشدة للمغامرة العسكرية في فلسطين هو محاولة لشغل الراى العام , بالإضافة إلى أننا نرى أن في الأسباب السابقة ما يغني من الالتجاء إلى مثل هذه القراءة للأحداث , ونعتقد أن في السبب الأخير الذي نسوقه على لسان حسين هيكل وكذلك مؤلفي كتاب "واقدساه ", ومن واقع الوثائق البريطانية ما يلقى ضوءا جديدا على ما التبس من تصرفات النقراشي في مواجهة أزمة فلسطين .. يقرر المؤرخون الثلاثة الذين ذكرناهم , نقلا عن مصادرهم , إن البريطانيين قد عقدوا صفقة مع النقراشي؛ وتجرى رواية الكاتبين الصحفيين على النحو الاتى : بعد أن أوفد الملك إلى النقراشي مبعوثين ينقلان إليه رغبة الملك في إعلان الحرب , حضر رونالد كامبل لزيارة النقراشي , واخبره بأنه في حالة إذا ما اعتقدت مصر العزم على دخول الحرب , فان بريطانيا لن تعترض , بل أنها سوف تتيح لها منفذ لمخازن الأسلحة , اى أنها بعبارة أخرى سوف تغض النظر عن الاستيلاء على محتوى المخازن , حيث إنها من الصعب أن تمد مصر بالسلاح وفق اتفاق سياسي محدد. لكنه طالبه بالسرية التامة .

وتفسر هذه الرواية التي تدعمها رواية مماثلة في كتاب حسين هيكل الوثائقي ما التبس علينا في مبادئ الأمر في إحدى الوثائق البريطانية التي ينقل فيها كامبل إلى بيفن وقائع الجلسة السرية لمجلس الشيوخ في 30 نوفمبر 1948 , وهي الجلسة التاريخية التي عقدت لتقييم الموقف السياسي والعسكري عقب الهدنة الثالثة . بقول لجنة الشئون الخارجية لمجلس الشيوخ في أواخر شهر مايو , حيث انه ـ وفق ما قرر فؤاد سراج الدين ـ قال بان بريطانيا لم تكتف بالموافقة على الخطوات التي اتخذتها الجيوش العربية لإعادة الأمن إلى ربوع فلسطين , بل أنها "شجعتهم " على ذلك .. ويبدو أن السؤال قد اخرج النقراشي ؛ بل حيث أجاب انه لايتذكر ذلك , ورفض إن ينزلق في هذا الجدل .. ويضيف السفير البريطاني انه يمكن الرجوع إلى البرقية التي كان قد أرسلها من قبل بشان تصريح السفير المصري في لندن بأنه لن "يمح " للنقراشي بإلقاء تبعات دخول الجيش المصري الحرب في فلسطين على بريطانيا , ويعقب قائلا : يبدو أن رئيس الوزراء امتنع بالفعل عن ذلك , وعلى حسابه هو شخصيا . (برقية بتاريخ 8 ديسمبر 1948 ) .

ولكن وفق الرواية التي وردت في كتاب " واقدساه " فان تغير موقف النقراشي كان سابقا على يوم 11 مايو ؛ وان يكون قد تم في النصف الثاني من شهر إبريل ـ صدرت أوامر بان تتصدر الصفحة الأولى للصحف والجرائد المصرية عناوين من شانها إثارة الرأي العام وتهيئته للحرب المقبلة , كما انتشرت الملصقات التي رسم عليها خنجر يقطر دما , وعلى مقبضه نجمة داود .

ونعود مرة أخرى إلى أحداث اليوم الذي شهد تغير موقف النقراشي من حرب فلسطين مائة وثمانين درجة , او انه أفصح فيه عن راية من موقف مصر إزاء حرب فلسطين ، وهو الذي كان قد استقر عليه من قبل وفق رواية أخرى , فلقد طلب النقراشي من الدكتور حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ عقد البرلمان في جلسة سرية يوم 11مايو . وفي الوقت المحدد ألقى النقراشي ببيانه على مجلس النواب الذي كان الغرض منه شرح موقف الحكومة من أحداث فلسطين والتطورات التي طرأت على هذا الموقف استجابة لما استجد على دخول الجيش المصري فلسطين . فبعد مقدمة عامة أكد فيها رئيس الوزراء على حق نواب الشعب في أن يقفوا على الحقيقة كاملة , بدا بيانه بالإشارة إلى موقفه الأول المعروف من المسالة الفلسطينية , وذكرهم بما كان من قرار جامعة الدول العربية بالاعتماد أساسا على جيش شرق الأردن , حيث انه " يستمد من بريطانيا مساعدته على حفظ الأمن " , كما أن " الحكومة البريطانية تمد شرق الأردن بمعونة مالية بين ثلاثة ملايين من الجنيهات وثلاثة ملاين ونصف " , وضعه الخاص ؛ حيث انه كان للواء العربي الأردني قوات تعمل مع القوات البريطانية لحفظ النظام داخل فلسطين قبل انتهاء الانتداب , وذكر النقراشي مجلس النواب كذلك بما كان من موافقته على صرف 420 ألف جنيه دفعة واحدة , ثم اعتماد مليونا ثانيا دعما للقضية الفلسطينية , وانتقل بعد ذلك إلى حشد الجيش المصري على الحدود ووضع كل موارد مصر تحت تصرفهم ( يقصد هنا في الغالب الجامعة العربية ) وذلك خلاف السلاح الوارد من مصر .

ثم انتقل إلى المقاومة الفلسطينية الباسلة التي لفتت أنظار العالم وبرهنت على جدية العرب في انتزاع حقوقهم انتزاعا , وكان من شأنها كذلك , وفق ما ورد في بيان النقراشي , أن خففت الحكومة الأمريكية من تأييد المشروع تقسيم فلسطين . ثم انزلق بيان النقراشي إلى ما استجد من الأمور التي تستلزم التدخل , فتحدث عن جيش التحرير , الذي حوصر بعد أن غزا مستعمرة إسرائيلية , وذكر أن أمين الجامعة قد تقدم برجاء إلى الملك عبد الله أن يسارع لنجدة هؤلاء المحاصرين , وقد أصدرت اللجنة السياسية للجامعة العربية قرارا بهذا , وخلص مما سبق إلى أن التعاون بين البلاد العربية كامل , كما صرح النقراشي بأن السفير الأمريكي قد أبلغه بأن الأوضاع تتدهور بشكل مطرد في فلسطين , وأن المعونة التي تقدمها الحكومة الأمريكية لمصر رهن موافقتها على شروط الوصاية ¸إلا إذا تقدمت مصر ببديل مقبول , أضاف أن كلامه ليس تهديدا بالضبط تماما , فعقب النقراشي على كلام السفير بأن العرب لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام المذابح التي ترتكب في فلسطين وذلك على الرغم من أن مسئولية الوضع الراهن لا تقع على كاهل حكومة مصر , التي سبق أن حذرت من تدهور الوضع في فلسطين , ولكن انتشار المذابح يستوجب التدخل , حيث إن رسالة جديدة وردت إليه تحمل أنباء مفزعة عن مذبح جديدة في بلدة دير دراز , بعد مذبحة دير ياسين , وانتقل بعد ذلك إلى مشكلة اللاجئين التحى باتت تمثل تهديدا للصحة العامة وللأمن , بما تتيحه من فرصة للتجسس . وفى إشارة إلى انتهاء الانتداب البرطانى على فلسطين قال : إنه بعد يومين " تكون عصابات الهجاناه وشتيرن والأرجون مطلقة السراح في فلسطين "

والواقع أن القرار بسحب القوات البريطانية من فلسطين في 15 مايو 1948 , وبالتالي انتفاء احتمالات المواجهة بين الجيش المصري والقوات البريطانية , كان له تداعياته على موقف الحكومة المصرية من قضية فلسطين . وكان النقراشي حريصا على التأكيد على شرعية قرار دخول الحرب, الذي لا يتعارض مع المواثيق الدولية , حيث إنه من ناحية لا تدخل الجيوش العربية فلسطين إلا لوضع حد للمذابح ونشر الأمن والطمأنينة في ربوع هذا البلد ,ومن ناحية أخرى ليست هناك دولة يهودية . الأجنبية " أعدها وحيد رأفت بتاريخ 15 مايو 1948 جاء فيها :

أن الحكومة المصرية تؤكد أن تدخلها العسكر في فلسطين ليس موجها ضد يهود فلسطين , بل ضد العصابات الإرهابية الصهيونية, وأنه ( أي الجيش المصري ) ليس له من غرض إلا إعادة الأمن والسلام إلى ربوع فلسطين وخاصة بعد انتهاء الانتداب ولحين الوصول إلى الحل العادل . ( نقلا عن الدكتور إبراهيم شكيب ) .

وسلم النقراشي بقوة العصابات الصهيونية , ثم أشاد بحسن تنظيم جيش شرق الأردن وتدريبه وتسليحه , وفى إشارة واضحة إلى التنسيق التام مع البلاد العربية الأخرى أضاف أن الجيش العراقي يمتلك سلاح الطيران الذي يعد سلاحا قاصرا في جيش الأردن , أما سوريا ولبنان فقد جعلا كل الموارد وقفا على قضية إنقاذ فلسطين . كما أن الملك ابن آل سعود قد أرسل أسلحة ودفع نصيبه دولارات . أما الجيش المصري فإن كفايته كاملة وأسلحته وافية وذخيرته متوافرة .

وكان على النقراشي بعد أن انتزع تصفيقا حادا وموافقة بالإجماع في مجلس النواب أن يواجه مجلس الشيوخ , حيث نجح في أن يحمل الكثيرين على مراجعة موقفهم من الحرب . ولكن إسماعيل صدقي تصدى له , وكان من أكبر المعارضين لفكرة دخول الحرب في فلسطين , فسأل النقراشي عن سبب تغيير رأيه بهذا الشكل المفاجئ , وقال إنه من واقع خبرته كرئيس للوزراء من فترة ليست بالطويلة يستطيع أن يجزم أن استعداد الجيش من حيث المعدات والذخائر لا تؤهله لخوض الحرب , ولكن الردود على اعتراض إسماعيل صدقي قد أضعفت من قوته وتأثيره , خاصة أن اللواء أحمد عطية ( حر دستور ) أيد في المجلس رئيس الوزراء , وكان لموقفه وقعه على أعضاء المجلس , حيث كان إلى عدة شهور مضت وزيرا للحربية قبل تعيين محمد حيدر , كما كان وزيرا للحربية كذلك في وزارة صدقي عام 1946 . وفى الواقع كان هناك اعتقاد سائد بأن هذه الحرب ليست سوى مظاهرة سياسية .

وفى منتصف ليلة 14 مايو 1948 أعلن قرار قيام دولة إسرائيل بعد انتهاء الانتداب البرطانى , ودخلت الجيوش العربية فلسطين في اليوم التالي , وعلى الرغم من تفوق القوات الصهيونية , في العدد والعتاد , وكذلك من حيث التنظيم والتدريب , فقد تمكنت الجيوش العربية من تحقيق نجاح محدود, خاصة على الجبهتين المصرية والأردنية , حيث وصلت القوات المصرية على بعد خمسة وثلاثين كيلو مترا من تل أبيب, إلا أنه لم تكد تمضى ثلاثة أيام على بدء القتال حتى تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية , ممثلة في مندوبها في الأمم المتحدة لم يقبل من مجلس الأمن إلا أن المجلس - نتيجة لضغوط بريطانية – أصدر قرارا بفرض هدنة تستغرق أربعة أسابيع , على الأطراف المتنازعة قبوله في موعد أقصاه أول يونيو , ووافقت على الفور إسرائيل , وكذلك الأردن , أما سائر البلدان العربية المشتركة في الحرب فلقد استغرقت مواقفها مدة أطول , زار خلالها الكونت فولك برنادوت القاهرة , وهو الذي كان قد وقع عليه اختيار الدول الكبرى ليلعب دور الوسيط الدولي بين الأطراف المتنازعة .

وقد حرص برنادوت على إجراء محادثات فورية مع النقراشي ونقل إليه رئيس الوزراء وجهة انظر المصرية قائلا : إن مصر لم تقرر إرسال قواتها إلى فلسطين إلا مع اقتراب نهاية الانتداب البريطاني , وفقدان الأمل في الوصول إلى تسوية سلمية لمشكلة فلسطين داخل الأمم المتحدة , وأعرب عن أمله في أن يدرس الوسيط الدولي الموقف في فلسطين دون أن يتقيد بقرار التقسيم , كما حرص النقراشي على نقل وجهة النظر والاقتراحات العربية للوصول لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية , فقال إن العرب يطالبون بوجوب وجود دولة موحدة في فلسطين , تتمتع فيها الأقلية اليهودية بكامل حقوقها , مع منحهم قدرا من الحكم الذاتي في المناطق ذات الكثافة اليهودية . وفى ختام ابدي موافقته المبدئية على الهدنة مع الاعتراض على المدة التي رأى أنها طويلة جدا .

والتقى بعد ذلك برنادوت مع عبد الرحمن عزام , وأكد له أنه غير مقيد بقرار الأمم المتحدة الصادر في 29 نوفمبر 1947 وعند مطالبة عزام بضمان ألا يتدهور موقف العرب العسكري بعد انتهاء الهدنة , أكد له الوسيط الدولي أن مراقبة الهدنة سوف تكون تحت مسئوليته . وبعد هذا اللقاء أرسل أمين الجامعة العربية مذكرة إلى الدول العربية الأعضاء , ووافقت الدول العربية على الهدنة بشروط بعد مداولات ومشاورات ,كما أنها حرصت على أن توضح أنها لم تقبلها إلا نتيجة للضغط الدبلوماسي , الذي مارسته الأمم المتحدة عليها من خلال الوسيط الدولي . وتقرر وقف إطلاق النار ابتداء من الساعة السادسة من صباح يوم الجمعة 11 يونيو 1948 بتوقيت جرينتش , وقد رحب اليهود بالهدنة بسبب وضعهم العسكري السيئ .

وقد فسر بعض المؤرخين قبول مصر الهدنة , بأن النقراشي كان تواقا إلى انتهاز فرصة الهدنة ,لعله يجد فيها مخرجا من هذه الحرب , التي لم يوافق عليها إلا على مضض , ولكننا نعتقد أن هذا التفسير قاصر , ويبدو أنه مثلما مارست الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطها لوقف القتال , عندما رأت كفة العرب راجحة , كذلك تدخلت السلطات البريطانية – وفق منظومة استعمارية متكاملة – وهددت بقطع الإمدادات من الوقود عن مركبات الجيش المصري , وهو ما كان يهدد العربات بالتوقف وسط الصحراء , إذا ما أصرت مصر على مواصلة القتال , وفق ما أدلى به إبراهيم باشا عبد الهادي لوالدي في حديث خاص , ويبدو أن النقراشي لم يستطع أن يبوح بالسبب الرئيسي في قبول الهدنة .

وقد استمر برنادوت فترة الهدنة في سعى دءوب للوصول لتسوية سلمية لمشكلة فلسطين , وقررت الجامعة العربية تفويض لجنة خاصة منبثقة عن اللجنة السياسية من أجل التفاوض مع برنادوت , وقد ضمت هذه اللجنة النقراشي ممثلا عن مصر , وتوفيق أبو الهدى رئيس وزراء الأردن ,ورياض الصلح رئيس وزراء لبنان , وعبد الرحمن عزام .. تبدو عاقلة وواسعة , ولكن الحل الزى اقترحوه كان غير قابل للتنفيذ على أرض الواقع ,وفق رؤية الوسيط الدولي . فهم يرفضون إقامة دولة يهودية في فلسطين , ويقترحون إقامة دولة فلسطينية موحدة يتمتع فيها اليهود بكافة حقوقهم , فما كان اليهود ليخلوا أبدا عن الدولة التي أعلنوا عنها في الرابع عشر من مايو .. ومن ناحية أخرى عجز برنادوت عن الوفاء بتعهداته لعزام , حيث لم يتمكن برنادوت ومندوبو لجنة الهدنة كذلك من وضع حد للانتهاكات اليهودية العديدة للهدنة , مكتفين بتسجيلها .

وقام برنادوت بدوره بطرح مقترحاته في 27 يونيو 1948 , وتشكلت لجنة لدراستها وجاء الرد بالرفض حيث إن الأفكار التحى بنيت عليها المقترحات لم تخرج عن أسس مشروع التقسيم الذي سبق أن رفضه العرب جملة وتفصيلا , وهكذا أصبح واضحا أن هناك خلافا جوهريا بين وجهتي النظر ,حيث كان الخطاب العربي ينطلق من مبادىءالحق والعدل والشرعية , ومن قناعة قوامها أن الدولة اليهودية لا يمكن أن يكتب لها الدوام ,بينما اتسمت نظرة برنادوت بالواقعية الشديدة تجاه وضع كان يراه غير قابل للتغيير .

وانطلاقا من هذه السياسة العملية البحتة وجه الوسيط الدولي حديثه للنقراشي في اللقاء الذي تم بينهما في الأول من يوليو 1948 طالبا منه أن يأخذ بعين الاعتبار أن ظروف الحرب ليست في صالح العرب حتى مع افتراض إمكانيتهم من تحقيق النجاح وقتيا , حيث إن الدول الكبرى التي اعترفت بإسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي في هذه الحالة . وعلى الرغم من ذلك سادت علاقة برنادوت بالرعب روح الود والثقة المتبادلة ,. وقد حاول برنادوت – نظرا لفشل مساعيه – تمديد الهدنة وتجريد القدس من السلاح , لكن العرب رفضوا أول الأمر تمديد الهدنة , على الرغم من حالة جيوشهم السيئة , حيث أنهم أدركوا مدى استغلال اليهود للهدنة , في الوقت الذي ابدي اليهود رغبتهم في قبول التمديد . وعندما عجز برنادوت عن التقريب بين وجهتي النظر أصدر أوامره للمراقبين الدوليين بالانسحاب من جميع الميادين , وابلغ الطرفين أن عمله سيقتصر على نزع السلاح من القدس , إلا أنه صدر قرار من مجلس الأمن في 15يوليو بإلزام الحكومات والسلطات ذات الشأن بوقف العمليات العسكرية عملا بالمادة 40 من ميثاق الأمم المتحدة , في موعد أقصاه ثلاثة أيام من صدور هذا القرار , على أن يوقف إطلاق النار فورا في مدينة القدس .

وفى خلال الاجتماع الذي عقدته اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية لمناقشة موقفها من هذا القرار , أعلن الملك عبد الله أنه لا يستطيع مخالفة قرار الهيئة الدولية , حتى لو رفضته الدول العربية الأخرى , وقد أبدى النقراشي كذلك استعداده للانصياع لهذا القرار , وفق التوجه الذي لمسناه عنده بالحرص على الالتزام بالمواثيق الدولية .. ولقد كان قرار قبول الهدنة سببا في المواجهة بين النقراشي وبين عبد الرحمن عزام , حيث تقدم أمين الجامعة العربية باستقالته التحى لم يسحبها إلا استجابة لمناشدة النقراشي , وقد كان يربط الرجلين تاريخ طويل من الصداقة والود . قد وافق بعد ذلك سائر الأعضاء خاصة أن عددا من الحكومات العربية كان يتردد منذ البداية في مسألة استئناف القتال , فقامت الجامعة العربية برفع مذكرة إلى سكرتير عام الأمم المتحدة , في 18 يوليو أعلنت فيها موافقتها على وقف إطلاق النار ,وقد حرص عبد الرحمن عزام على أن يوضح للوسيط الدولي عند عودته للمنطقة مرة أخرى , أن العرب لم يقبلوا قرار الأمم المتحدة إلا بسبب خشيتهم من التعرض للعقوبات التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة .. ومن ناحية أخرى قدم العرب لبرنادوت مقترحاتهم حول نزع السلاح في القدس بينما لم يتلق أي استجابة من الجانب الإسرائيلى . ولذلك ذكر برنادوت في تقريره بطلب للأمم المتحدة بإيفاد قوة مسلحة من أللم المتحدة في مدينة القدس إذا جردت من السلاح إلا إذا أبدت السلطات اليهودية استعدادها مثل العرب بقبول مبدأ نزع السلاح . والتقى برنادوت باللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في يومي 6 و 7 سبتمبر 1948 , وقد عجز الوسيط الدولي عن إقناع العرب بالتخلي عن موقفهم الرافض للاعتراف بإسرائيل , وبالتالي للمفاوضات المباشرة مع الدولة الصهيونية .. كما جدد العرب مطالبتهم بعودة اللاجئين الفلسطينيين وضع برنادوت تقريره الأخير في 16 سبتمبر ,وسافر في اليوم التالي إلى القدس حيث تم اغتياله على يد اثنين من عصابة شتيرن الصهيونية . وقد نعاه النقراشي بكلمة يتضح من خلالها حرصه المميز على توخي الدقة فئ التعبير , وذلك على الرغم من اقتضابها وصفتها الرسمية , فقد قال إنه من المؤسف أن تأتى نهاية الوسيط الدوى على يد من أفادوا من مهمته , ولكنه أضاف أنه على الرغم من ذلك فقد قام برنادوت بمهمته على خير وجه على قدر استطاعته .

وعندما استؤنف القتال مرة أخرى في 15 أكتوبر بات واضحا أن الميزان قد أصبح في صالح اليهود , الذين نجحوا في إعادة تنظيم صفوفهم , وفى استجلاب السلاح , وكذلك في استقدام أعداد جديدة من المهاجرين في انتهاك سافر لشروط الهدنة , في الوقت الذي كانت سيول اللاجئين العرب تتدفق خارج فلسطين . أما العرب في فلسطين فقد سادت الفرقة صفوفهم , حيث تبادلت مصر والأردن الاتهامات , وتدهورت العلاقات بين الدولتين عندما سلك جلوب باشا القائد البريطاني للفيلق الأردني اللد والرملة إلى اليهود دون قتال , وفق اتفاق مسبق مع جولدا مائير رئيسة الوكالة اليهودية , مما مكن الملك عبد الله من ضم الضفة الغربية إلى مملكته مقابل الامتناع عن قتال اليهود , وكذلك عندما تبنت مصر حكومة عموم فلسطين في سبتمبر سنة 1948 , ردا على إصرار الأردن على ضم الضفة الغربية التي خص بها قرار التقسيم العرب .

وحكومة عموم فلسطين ,كما يوضح الدكتور عبد المنعم الدسوقي الجميعي – هي حكومة رأت السلطات المصرية تشكيلها لتمثل الشعب الفلسطيني وتنطق باسمه , وتشمل قطاع غزة والضفة الغربية , على أن يكون مقرها غزة ,وقد اعترفت الجامعة العربية بهذه الحكومة , وفى محاولة منها لإيجاد تشكيل سياسي يقف أمام الادعاءات الصهيونية , وهو الأمر الذي استثار غضب الملك عبد الله , ولذلك فقد امتنع عن التدخل أمام اعتداءات اليهود على الجبهة المصرية في أكتوبر , وهو الوضع الذي انتهى بحصار الفالوجا , كما تحدى قرار الحكومة المصرية والجامعة العربية بالدعوة إلى عقد اجتماع بمدينة أريحا فئ أول ديسمبر 1948 حضره العديد من زعماء فلسطين ووجهائها , أعلن فيه وحدة الأراضي الفلسطينية والأردنية , وقرر المجتمعون كذلك مبايعة الملك عبد الله ملكا على فلسطين كلها وإمعانا من الملك عبد الله في إظهار حسن نواياه لليهود , قدم يد العون لليهود المحاصرين في القدس أثناء الهدنة مع علمه أنهم كانوا على وشك الاستسلام بسبب لحصار العربي الذي كان مفروضا عليهم , في الوقت الذي كان عبد الرحمن عزام يعترض فيه لدى الوسيط الدولي على الاقتراح بتقديم المساعدات إلى القدس , حيث إن ذلك من شأنه أن يقوى من وضع الجانب اليهودي

وأصدر مجلس الأمن في 19 أكتوبر قرارا بوجوب وقف القتال وانسحاب الطرفين إلى المواقع التي كانت تحتلها قواتها قبل 14 أكتوبر , وهو القرار الذي لم يلتزم بأحكامه اليهود , ولذلك أقر المجلس في 16 نوفمبر مشروع قرار لعقد هدنة دائمة في فلسطين .

وفى يوم 30 نوفمبر , وفى الوقت الذي كانت ما تزال فيه قوة مصرية تحت الحصار في الفالوجا , تم عقد جلسة سرية للبرلمان المصري بمجلسيه برئاسة الدكتور محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ وحضور رئيس مجلس الوزراء . وكانت جلسة طويلة استغرقت أربع ساعات وعشر دقائق و حيث بدأت الساعة الخامسة والنصف , وتحولت في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة إلى جلسة علنية . وإذا كان النقراشي قد نجح في استثارة حماسة مجلس النواب , وفى انتزاع موافقة البرلمان في جلسته التاريخية يوم 11 مايو على دخول مصر الحرب , إلا أنه وجد نفسه هذه المرة محاصرا بالأسئلة والاستفسارات التي جاء معظمها معبرا عن خيبة الأمل من الحملة المصرية في فلسطين , وغلبت عليها النبرة الهجومية , فقد قام رئيس الوزراء بإلقاء بيانه بشقيه العسكري والسياسي , وهو البيان الذي كان يتم مقاطعته أكثر من ذي مرة لطرح الأسئلة . وقد استهل بيانه بعرض وضع القوات المسلحة المصرية في فلسطين , وأشاد بالعمليات التي قامت بها , وخص بالذكر قائد الفالوجا ورجاله فقال :

" إن العمليات الحربية التي قام بها الجيش المصري في فلسطين عظيمة وجديرة بالفخر والثناء , وقد قام بها بأقل خسائر ممكنة , وليس أدل على ذلك من أن نسب الخسائر العادية في الحروب حوالي 6 % وبلغت في بعض ميادين الحرب الأخيرة 22 % أما نسبة خسائر القوات المصرية المحاربة في الميدان منذ بدء القتال إلى اليوم فإنها لم تتجاوز 1 ونصف % وفى هذا أكبر دليل ناطق على مقدرة الجيش .

وحيث إن نسبة القتلى من الضباط في الحرب أقل من الجنود بكثير , لأن لكل 20 جنديا ضابطا واحدا , فقد تشكلت بعض النواب في هذه الأرقام , لأن النقراشي لم يحدد رتبة القتلى في بيانه , وقد تدخل رئيس المجلس عندما شعر بحرج النقراشي من الإدلاء بمعلومات في هذا الصدد .

ثم انتقل النقراشي إلى الجزء السياسي من بيانه , فذكر أن وقف القتال في فلسطين كان الغرض منه إيجاد صيغة لتسوية يقبلها الطرفان , " تحفظ لفلسطين وحدتها وتعطى يهود فلسطين ومعظمهم أجنبي عن البلاد حقوق المواطنة " ولكن هذا الأمل زال تماما أمام الإصرار الولي على تبنى مشروع التقسيم , وبعد أن تحدث عن الظروف والملابسات التي دعت مصر إلى قبول الهدنتين الأولى والثانية , انتقل للتقرير الذي كان قد أعده الوسيط الراحل , والذي عرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دور اجتماعها الثالث المنعقد في 21 سبتمبر 1948 , وقد ختم بيانه بالتأكيد على " أن مصر ماضية في خطتها متمسكة بما قطعته على نفسها من عهد هي والدول العربية للمحافظة على عروبة فلسطين ,ومقاومة كل محاولة ترمى إلى تمزيق ذلك القطر العربي والذود عن حياضه "

وبعد أن انتهى النقراشي من إلقاء بيانه كان عليه أن يرد على الأسئلة الموجهة إليه و وقد بدأ السيل بسؤال من النائب أحمد رمزي الذي كان قد قاطعه قبل ذلك ودار فحوى السؤال حول اللد والرملة , وقد بدا من رد النقراشي أنه لا يريد توجيه اتهام صريح للملك عبد الله , في الوقت الذي حرص فيه على أن ينسب لحكومة شرق الأردن قولها بأنه لم يكن هناك جيش أردني في اللد والرملة . واستطرد نفس النائب سائلا عن كفاية الأسلحة , وقد كرر حسين سري نفس السؤال مضيفا أنه كان قد سمع من زملائه الذين حضروا جلسة 11 مايو , أن رئيس الحكومة قد أكد أن للجيش المصري من العتاد والذخيرة ما يكفى للقتال وقد رفض رئيس الحكومة الرد على هذا السؤال قائلا إنه لا يمكن أن يدلى بمعلومات دقيقة عن هذه المسائل إلا عندما تنتهي الحرب .

ثم تابع سراج الدين حملة الهجوم , فقال " إن الموقف في فلسطين الآن يختلف تماما عن الموقف الزى تركناه يوم15 مايو 1948 " بعدان أسفرت حرب فلسطين عن احتلال الصهيونية لنصف مساحة فلسطين , تشريد نصف أهلها من العرب , وقد نسب المسئولية عن ذلك الوضع إلى النقراشي الذي قبل فجأة الدخول في الحرب بعد أن كان مناشد المعارضين لهذا الأمر , وقد كانت النتيجة – على حد قوله - أن دخلت مصر الحرب دون أدنى استعداد عسكري , فأجاب النقراشي :

" إن كل ما ذكره العضو فؤاد سراج الدين حقيقة لا غبار عليها وإنا دخلنا الحرب من غير استعداد وقد كان هذا الأمر مجهولا فالأولى أن يوجه هذا الكلام إلى نفسه "

ولعل النقراشي رمى وراء هذا الكلام الذي ينطوي على قدر كبير من المصارحة للنفس , إلى ما كان من تقاعس حكومة الوفد عن النهوض بالجيش , عندما تولت زمام الحكم على أسنة رماح الانجليز , بل وسلمت قياده تماما إلى البريطانيين اعترافا بالجميل , حيث يقول باحث في رسالته حول " الجيش المصري في الفترة من 1936 إلى 1952 " :

في هذه الفترة ( من 4 فبراير 1942 إلى 8 أكتوبر 1944 ) مكنت حكومة الوفد الوجود البريطاني من أن يستشرى ويزداد نفوذه ويتغير مفهوم عمل البعثة العسكرية البريطانية من نطاق تحسين وتدريب وتجهيز الجيش المصري إلى الخوض في الشئون الفردية والسياسية .. "

ويقول كذلك : " تم تخريب السلاح الجوى المصري على يد الوفد إرضاء للبريطانية "

" ويغترف رئيس البعثة العسكرية البريطاني بأن نفوذها الآن أكبر مما كان عليه منذ ثلاث سنوات "

ولعل النقراشي كان يذكر فؤاد سراج الدين أيضا بما كان من موقف الوفد المناوئ للدعوة التي تبناها السعديون إلى دخول مصر الحرب إلى جانب بريطانيا , وهى الدعوة التي دفع أحمد ماهر حياته ثمنا لها , نتيجة للمزايدة والثارة وهى الدعوة بعيدة النظر التي كانت تتحسب لحالة الراهنة , بغرض أن يتم تدريب الجيش المصري , خاصة وقد أفاد اليهود كثيرا من مشاركتهم بأعداد لا بأس بها فئ الحرب العالمية إلى جانب الحلفاء , على حسب ما ورد بتقرير بارتلى كرام عضو اللجنة الانجليزية – البريطانية لدرس مسألة فلسطين وقد نشر بجريدة سان فرانسيسكو في 17, 18, 19, مايو 1946 , ورآه الدكتور محمود فوزي الوزير المفوض لدى الأمم المتحدة من الأهمية بمكان , فأرسله لوزارة الخارجية المصرية للاطلاع والإفادة ,فهم إلى جانب التدرب عالي المستوى حظوا بتقدير وعطف الحلفاء , حيث برهنوا على حسن نيتهم تجاه هذا المعسكر وعلى تشيعهم التام لقضية الديمقراطية .

إلا أنه لا يبدو أن هذه التذكرة المستترة قد فتت من عضد فؤاد سراج الدين , الذي استرسل في النقد اللاذع الذي وجهه للحكومة , فأخذ عليها التقاعس عن اتخاذ التدابير اللازمة , في الفترة التي انقضت بين صدور قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947 حتى يوم تحرك الجيش المصري نحو فلسطين في 15 مايو 1948 , خاصة أن أسعار الأسلحة ظلت ترتفع ارتفاعا مطردا , وقد تولى اللواء أحمد عطية الرد على هذا السؤال , ثم انتقل بعد ذلك فؤاد سراج الدين إلى سرد العيوب الكبيرة والأخطاء الفادحة التي شابت العمليات الحربية فى فلسطين , وعندما استوضحه الفريق محمد حيدر باعتباره وزيرا للحربية أجاب النائب الافتقار إلى القيادة العسكرية الموحدة , وقد رد وزير الحربية بعبارة طلب رئيس الوزراء حذفها من مضبطة الجلسة , ولكن وزير الحربية استطرد قائلا " إذا كانت الجيوش العربية لا تحارب فلابد أن أعلن هنا أن مصر تحارب بمفردها "

وتساءل فؤاد سراج الدين كذلك عن أسباب قبول الهدنة الأولى ؟ فأجاب رئيس الوزراء بأن الدول العربية قد أجمعت على قبولها , وعندما سأل عما هناك خلاف حول الهدنة الثانية ؟ أجابه النقراشي بالإيجاب ؟ فعزا فؤاد سراج الدين هذا الأمر إلى استئثار اللجنة السياسية بالقرارات , على الرغم من أن المفترض في الجامعة العربية أنه " جامعة شعوب وليست جامعة حكومات " وختم النائب كلامه بالاعتراض على الرضوخ لقرارات الأمم المتحدة , حيث إنه لا أمل يرجى من المنظمات الدولية , بل يجب أن يتولى العرب أمورهم بأنفسهم . وعقب النقراشي على كلام فؤاد سراج الدين قائلا : إن دخول الجيش المصر إلى فلسطين لم يؤد إلى كارثة , بل أنقذ الكثيرين من عرب فلسطين من المصير الذي لقيه أهالي دير ياسين . وقال إنه بالنسبة للقيادة العسكرية لم يشر أي من الخبراء العسكريين المصريين بوجوب توحيدها . أما فيما يخص الهدنة الأولى فقال إن مشكلة فلسطين معقدة , زاد من تعقيدها تدخل الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا لصالح الطرف الآخر , ولكن على الرغم من ذك تمكن الجيش المصري بعد الهدنة من أن يلحق خسائر فادحة باليهود . وأما بالنسبة للهدنة الثانية فلقد كان هناك عاملان فرضا قبولها , أولهما إعلان شرق الأردن أنها لن تستمر في القتال , وثانيهما التهديد الأمريكي بالتدخل لدى الأمم المتحدة من أجل فرض عقوبات اقتصادية على الطرف الذي يخرج على قرار مجلس الأمن .

" أما عن قرارات اللجنة السياسية واستقلالها بالرأي فهذا موضوع كبير وواضح , وليس وقت بحثه الآن , ولا يتعلق بالوضع العسكري بفلسطين "

واختتم رده قائلا :

" .. ليس هناك محل لأن يقال بأننا إذا كنت أنوى أن أرضخ لقرار مجلس الأمن فليس هناك مصلحة في ذكر ذلك , كما أنه ليس هناك سياسي يصرح بمثل هذه التصريحات .. "

ونجد هنا أن النقراشي يؤثر مرة أخرى الردود المقتضبة التي جنت عليه النقد, بل وأحيانا السخرية , وما كان الرجل ليغفل عما أشيع عنه من إيثار للصمت الذي فسره البعض على أنه جنوح للغموض والمراوغة , ولقد أفضى النقراشي إلى ادجار جلاد صاحب جريدة " الزمان " بدواعي صمته في حديث نشره الأخير في اليوم التالي لاغتياله , حيث يقول :

" .. أركن إلى الصمت راضيا بأن أهاجم وأن اتهم دون أن أنزع إلى الكلام من غير طائل في سبيل مجدي الشخصي , لأنني جد مقتنع بأنني أخدم بلادي خير خدمة بهذا الصمت الذي يجنبها هوج العواصف لأننا ونحن نخوض غمار الحرب لأحوج ما نكون إلى الأمن والنظام .. "

فالنقراشي عندما يتهمه سراج الدين بأنه لم يأخذ للأمر أهبته , لم يذكر صناعة الذخيرة التي كانت مصر قد شرعت فيها لاستخدامها مع الأسلحة التي تم العثور عليها في الصحراء , وانتهت فيها إلى نتائج طيبة وفق إحدى الوثائق البريطانية . كما تتحدث نفس الوثيقة عن اتفاقية بين الحكومة المصرية وبين شركتي لصناعة الأسلحة , إحداهما سويسرية , والأخرى سويدية , وعن احتمال أن ترسل سويسرا بعثة عسكرية إلى مصر ( برقية بتاريخ 9 ديسمبر 1948 أرفق بها تقرير لبيلى عن الاتفاقية بين الحكومة المصرية والشركتين المذكورتين ) ولم يبح النقراشي بالطبع عن الاتفاق السري الذي عقده مع كامبل , كما لم يذكر نكوص الانجليز عن وعودهم , حيث يقول كامبل في خطاب له بتاريخ 11 يونيو إن النقراشي طلب منه أن تمد بريطانيا مصر بالذخيرة بشكل غير رسمي , بعد أن أخبره بأن سوف مصر تقاتل حتى آخر جندي وآخر رصاصة , وأن هزيمة مصر نتيجة لعجز في الذخيرة سوف ينسب إلى بريطانيا ,ويضيف كامبل أنه امتنع عن إبداء رد قد يؤخذ على محمل التشجيع .

ولكن الواقع أنه لا يمكن أن ننكر أن النقراشي بقبوله دخول حرب فلسطين , قد قبل بتحمل مسئولية ثقيلة أمام معاصريه , وكذلك أمام التاريخ , كما لا يمكن أن ننكر أن هذه الحملة كانت مغامرة أسفرت عن عواقب وخيمة , يقو البعض بل الكثيرون إن النقراشي , وهو رئيس حكومة أقلية يعتمد وجودها على رضا القصر , قد رضخ للقرار الملكي بدخول الحرب , تجنبا لغضب الملك , إجابة بسيطة تبدو بديهية , ولكنها مثلها مثل كل الإجابات البسيطة عاجزة عن تصوير أو تفسير الظواهر الإنسانية , شديدة التعقيد ومتعددة الجوانب , فمن ناحية أمامنا تاريخ الرجل : لابد وأن يكون النقراشي قد تغيرت طبيعته – وليس مجرد رأيه – تغييرا جذريا , وهو الزى كان من سنوات قليلة مضت يهدد بالاستقالة دفاعا عن عرض خصم له , لم يأبه وقتها لغضب الملك الذي كان يصر على إذاعة الشرائط التي تم تسجيلها فئ الخفاء لهذا الخصم , وقتئذ وضع النقراشي استقالته في كفة وشرف وسمعة خصمه في الكفة الأخرى , ونحن من ناحية أخرى نتساءل إذا كان أمام النقراشي خيار آخر , فلقد كان في رأينا مدفوعا بعوامل بالغة الأهمية والخطورة لا قبل له بها , وعصابات تعيث في الأرض فسادا , وتفجر الدم العربي أنهارا , ونزيف من اللاجئين , ورغبة ملك في تأكيد زعامته ,وإجماع عربا كاسح وتطلع لمصر , وهى ما كان لها من مكانة أولى بين الدول العربية و]]الإسلام[[ية , وكذلك وعود بالمساعدات الخارجية ما كان للنقراشي أن يفصح عنها ..

في برقية بتاريخ 23 نوفمبر 1948 , موجهة إلى حاكم كينيا , ومصحوبة بعبارة " سرى وشخصي " يقر السفير البريطاني بأنه في ضوء الظروف التي فرضت نفسها بعد شهر مايو الماضي يجد أنه من الصعب إلقاء اللوم على المصريين , بسبب ما أقدموا عليه , حيث إنه لا يمكن تصور تقاعسهم عن أداء دورهم , والامتناع عن التحرك , حتى إذا ما أدركوا قصور استعدادهم الحربية .

وكأننا أمام تراجيديا يونانية قديمة يناطح فيها الإنسان أقداره وحده , فقد كان النقراشي محقا في مخاوفه م المغامرة العسكرية في فلسطين , وفى إحجامه عنها . كما أنه كان لا يكمل أن يمتنع على طول الخط عند خول الحرب .

فنحن نتساءل : ماذا كمان سيكون عليه الحال في حالة الامتناع عن دخول الحرب ؟ وماذا يكون موقف الجيش والشعب إزاء هذا الامتناع ؟ ثم ماذا يكون الحكم على هذا الامتناع المصري رغم كل العقبات والمحاذير ؟ وهل كان هناك بديل آخر ؟ يقول الدكتور محمد حسين هيكل : كان على النقراشي أن يستقيل بدلا من الرضوخ لقرار الملك بما فيه من اعتداء على الدستور .

نرى أن قرار النقراشي الذي قبل بمقتضاه أن يحمل على عاتقه مسئولية تاريخية إنما هو ن قبيل الانتحار السياسي , كما نرى أن الاستقالة كانت ولا شك مخرجا لشخص النقراشي من هذه الأزمة الطاحنة , كانت تغنيه عما كابده من عناء وحرج , ثم ما تحمله من نقد وتجريح , كما كانت استقالته تخرس لسان الخصوم , ولعلها تحقق له المجد الشخصي , ولكن أي مجد هذا الذي يتحقق على حساب الآخرين , على حساب مصلحة الوطن , والعجلة تدور , والجيش يتحرك ؟لنا أن تساءل : هل كانت استقالة النقراشي إذا ما أصر عليها كفيلة بأن تمنع دخول الحرب ؟ أو أنها كانت قادرة على انسحاب الجيش بعد تحركه بالفعل بأن تمنع دخول الحرب ؟ أو أنها كانت قادرة على انسحاب الجيش بعد تحركه بالفعل تنفيذا لأوامر الملك منفردا , رغم ما في ذلك من عدوان على الدستور ؟ ولعل تراجع النقراشي عن استقالته التي كان مصرا عليها كل الإصرار , والتي راجعه فيها رجال حزبه من السعديين الذين أفصحوا عن مخاوفهم من انهيار الحزب في حالة الاستقالة وسط الحماس الشعبي المحموم , وغير المسبوق لإعلان الحرب يقدم أبلغ دليل على استعداده للتضحية الكبرى بتاريخه السياسي الطويل في سبيل مساندة الجيش , الذي كان قد تحرك بالفعل , تنفيذا لأوامر الملك وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة , وإدراكه أن هذه الاستقالة قد تضعف من روح الجيش القتالية , كما أنها تعبير قاطع عن عدم قدرة الجيش .

تردد عل مسامعي وأنا اسعي إلى الإجابة التي حيرتني عن موقفه من قضية فلسطين أن استقالته كانت جاهزة , ولكنه أمسك عنها , خوفا من أن يطعن الجيش من الخلف , وقد وجدت تأكيدا لهذا الحديث في الشهادة التي أوردها حسنين هيكل في كتابه حرب فلسطين , حيث يقول :

" وبأمر من الملك راح رئيس الوزراء الزى غير رأيه يدافع عن قرار دخول الجيش إلى فلسطين بحماسة بدت غريبة حتى لكثيرين من المقربين إليه بما فيهم السيدة قرينته , لكن المثير في الأمر أنه أسر إليه بأنه " على وشك أن يقدم استقالته لأنه لا يرغب في أن يتحمل مسئولية دخول الجيش المصري إلى فلسطين , وأنه طرح هذه الاستقالة فئ لقاء مع الملك قال له " يا باشا أنت بذلك تضرب الجيش في ظهره " وطوي النقراشي حديث الاستقالة واندفع إلى النقيض , وقد روت السيدة قرينته هذه الواقعة لخلفه إبراهيم عبد الهادي باشا عندما ذهب يواسيها عقب اغتيال زوجها في أواخر ديسمبر 1948 , ورد عليها إبراهيم عبد الهادي بأن النقراشي أبلغه بها "

فقد كان النقراشي يدرك يقينا أنه يغامر بمستقبله السياسي , حينما تراجع عن هذه الاستقالة الواجبة اعتراضا على قرار الملك بدخول الحرب رغم إجازة الوزارة , وبغير إذن منها , وفي ذلك ما فيه من اعتداء على الدستور , وهو الأمر الذي ما كان النقراشي ليقبله في الظروف العادية

إن الأحزاب بأكملها كانت قد باركت دخول الحرب منذ البداية , لم يمتنع عن التأييد سوى إسماعيل صدقي بشجاعته المعهودة , وقد قبل الرجل أن يتهم في وطنيته وذمته وبانحيازه لسياسة الغرب وتغليبه لمصالحه الشخصية كمساهم في العديد من الشركات , إلا أننا مع تقديرنا الكبير لموقف صدقي نرى أنه ما بمستطيع أن يغير دفة الأمور لو كان هو رئيس الوزراء , وأنه ما كان بمستطيع أن يتصرف بشكل مخالف لما أقدم عليه النقراشي

والخلاصة أن النقراشي الذي نعرفه هو رجل ثورة 1919 الذي طالما خاطر بحياته في سبيل بلاده , وهو الرجل الذي كان الانجليز يطالبون برأسه , وهو ذات الرجل الذي قرر أن ينهي حياته السياسية في سن الستين ليعيش حياته الخاصة , وليتفرغ لأسرته ولأطفاله الصغار , فمن العسير أن نصم هذا الرجل بالتخلي عن قضايا بلده , والتراجع عن قراراته الخاصة بتجنيب بلاده ويلات الحرب , والابتعاد عن المقامرة في حرب غير مأمونة العواقب , في سبيل إرضاء الملك الذي كان مؤيدا كل التأييد لدخول الحرب منذ البداية , بل إنه أمر بتحريك الجيش فعلا رغم علمه بموقف النقراشي ؛ مستندا على الحماسة الغامرة لجموع الشعب لفكرة دخول الحرب , وكذلك الجيش حتى أن كثيرا من وحداته طالبت بالتطوع , ولم يمانع النقراشي في ذلك

وظل الرجل على رأيه في الامتناع عن دخول الحرب رغم الحماس الشعبي الهائل الذي ما كان يستطيع أحد أن يغامر بالوقوف أمامه في ذلك الوقت

فماذا إذن الذي طرأ على الأفق مما جعل النقراشي يتراجع عن قراره في الامتناع عن دخول الحرب , وعن استقالته التي تقدم بها في القصر ؟

لقد حذره رجالات شعبه أن جموع الشعب سوف ترجم بيته ومقر حزبه بالحجارة إزاء موقفه الرافض , إلا أن النقراشي كان لا يأبه لهذه المخاطرة , بل إنه كان مستعدا لكل نتائجها , كما كان يعلم أيضا أن الدول العربية سوف تتهم مصر بالخيانة , وهو الأمر الذي كان يدرك رئيس الوزراء أبعاده ونتائجه كذلك , إلا أن الوضع الذي لم يستطع النقراشي أن يتحسب له هو أن الأمر قد صدر بالفعل بتحريك الجيش ؛ وقد رأى النقراشي أنه من المستحيل عليه المضي في قراره , وأن في تخليه عن الحكم في هذه الظروف الدقيقة طعنا للجيش في ظهره , وهروبا من مسئولية هبطت عليه رغم أنفه ؛ وربما كانت استقالته في هذا الوقت مدعاة للزهو والكسب السياسي في الأمد البعيد على حساب الاعتبارات الأخرى التي سبق أن عرضنا لها ؛ فلا شك أن التراجع عن موقفه هو تضحية كبيرة تحسب للنقراشي كرجل دولة , لأنه لم يكن غافلا عن النتائج التي حاول أن يتجنبها ما استطاع إلى ذلك سبيلا

الفصل الثالث عشر: النقراشي وجماعة الإخوان المسلمين

ومن أتون فلسطين , ومن مطرقة القضية الفلسطينية إلى سندان أزمة الإخوان المسلمين ونحن لا نعني بالربط بين هاتين الأزمتين أن أحداث فلسطين قد كشفت نشاط الإخوان المسلمين وحسب , ولكن نعني أيضا أن هذا النشاط كان بمثابة قنبلة موقوتة فجرتها هذه الأحداث ؛ لقد كانت حادثة كوبري عباس أول احتكاك مباشر بين جماعة الإخوان المسلمين وبين حكومة النقراشي , إلا أنه لم يصل إلى المواجهة الصريحة , حيث إن الجماعة لم تجاهر بتحريضها على المظاهرات التي أدت إلى الصدام مع البوليس ومع النظام 00 ثم كان أول خلاف بينه وبين النقراشي "حين رفض [[[النقراشي]] ] – والكلام هنا لأسامة خالد صاحب " طبيعة ومشكلات الحكم في مصر " – أن يسمح لهم بالتدريب في معسكرات خاصة بهم وفتح لهم معسكرات الحكومة التي أنشأتها لذات الغرض " , فقد كان موقف الحكومة المصرية في المرحلة الأولى للمواجهة المسلحة بين العرب و الصهيونيين هو الامتناع عن إشراك الجيوش النظامية في الحرب , والاكتفاء بإرسال متطوعين وإمدادهم بالسلاح ؛ فأعدت لهذا الغرض معسكرات للتدريب ثم توالت بعد ذلك أسباب الاحتكاك والمواجهة بين حكومة النقراشي والإخوان المسلمين , حتى بلغت ذروتها في 8 ديسمبر 1948 مع قرار حل الجامعة لتكتمل المأساة بمقتل النقراشي على يد عضو من أعضاء الجماعة

ما الذي أدى إلى هذا التصعيد على الرغم من أن هذه النهاية الدموية كانت قد سبقتها مرحلة , نستطيع أن نطلق عليها مرحلة مهادنة, بل ووئام عبر فيها الإخوان عن مؤازرتهم لقرار الحكومة المصرية بتدويل القضية المصرية ؟ وما الأسباب التي دعت النقراشي إلى اتخاذ هذا الموقف الصلب من الإخوان المسلمين ومن دعوتهم ؟ وهل أدرك النقراشي حجم الكيان الذي تصدى له , والذي يمكن أن نشبهه بجبل الثلج الذي يطفو على السطح , لا يبدو منه إلا الجزء اليسير بينما استتر الجزء الأعظم في أعناق البحر ؟ وبداية ما سر انتشار هذه الدعوة هذا الانتشار المذهل ؟ حيث بلغ عدد الإخوان المسلمين عام 1948 – وهو العام الذي حلت فيه الجماعة – حوالي نصف مليون شخص , وفق إحدى الدراسات , ويرتفع العدد إلى المليون إذا أضفنا عدد المتشيعين للحركة , المتعاطفين معها في مصر والبلاد العربية , وبلغ في نفس هذا التاريخ عدد الشعب المنتشرة في طول البلاد وعرضها , وكذلك في عدد من البلاد العربية حوالي الألفين لا نجد بدا هنا من استعراض تاريخ هذه الجماعة منذ نشأتها , وكذلك من استعراض ركائز هذه الدعوة , من وجهت نظرنا التي استقيناها من مجموعة متنوعة من المصادر , إلا أننا حرصنا على أن نعتمد في المقام الأول على الكتابات الصادرة عن الإخوان أنفسهم

أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في شهري إبريل / مايو عام 1928 ( أول ذي القعدة 1347 ) بالإسماعيلية حيث إنه عين بها مدرسا عقب تخرجه من كلية دار العلوم وكان حسن البنا يمتاز بالذكاء وبالقدرة على سبر النفوس البشرية

ولعل قصة زيارته لأبو صوير بغرض نشر دعوته , وهي القصة التي وردت في مذكراته ( مذكرات الداعي والداعية ) , لتمثل خير تمثيل هذه القدرة الفائقة بالاستعانة بالفراسة للتأثير على مستمعيه , أو على الأقل على فئات عريضة منهم , وفي اقتناص الفرصة السانحة من أجل الوصول إلى مآربه يروي حسن البنا في مذكراته كيف أنه ذهب إلى هذه البلدة وأخذ يتفرس في وجوه المارة في الطرقات والمقاهي حتى وقع بصره على صاحب دكان , فيقول :

" كان هذا الرجل وقورا مهيبا سمحا فيه صلاح وله منطق ولسان , ورأيته يبيع ويتحدث إلى زبائنه , فتوسمت فيه الخير فسلمت عليه وجلست إليه وإلى من معه في الدكان وقدمت إليه نفسي والغرض الذي من أجله زرت أبو صوير وأنني توسمت فيه الخير ليحمل أعباء هذه الدعوة , وأخذت في حديثي ألفت نظره ونظر الجالسين إلى نقطة أساسية , إلى سمو مقاصد الإسلام وعلو أحكامه وإلى ما في المجتمع من فساد وشر وسوء , وإلى ذلك راجع إلى تركنا وإهمالنا لأحكام الإسلام , وإلى وجوب الدعوة لتصحيح هذا الوضع وإلا كنا آثمين لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة فريضة واجبة وإلى أن الطريقة الفردية وحدها لا تكفي "

ويقول ميتشيل في دراسته الرائدة لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين , إن حسن البنا كان يتفحص وجوه مستمعيه وهو يلقى خطبه , فيلاحظ أكثرهم تأثرا بكلامه , لينتقل بهم بعد ذلك إلى مكان آخر يضمهم لكي يبثهم أفكاره .

والواقع أن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين إنما جاء ثمرة طبيعية لنشأة مؤسسها في كنف أب هو عبد الرحمن الساعاتي ’ الذي كان دارسا للفقه والتوحيد والنحو, والذي عنى عناية خاصة بفقه أحمد بن حنبل , وهو الفقه الذي يبدو أنه ترك أثره العميق في حسن البنا , كما تأثر بعد ذلك بالصوفية .. وجاء تأسيس هذه الجماعة كذلك تتويجا لنزعة الداعية الشاب التقى ظهرت منذ نعومة أظافره , حيث ألف معه أقرانه في المحمودية " جمعية منع المحرمات " وكان أعضاؤها يقومون بصياغة خطابات تهديد يوجهونها إلى من يحيدون عن مبادئ الدين :" فمن أفطر في رمضان ورآه أحد الأعضاء بلغ عنه فوصله خطاب فيه النهى الشديد عن هذا المنكر , ومن قصر في صلاته ولم يخش فيها ولم يطمئن وصله خطاب كذلك .. "

وتبدو هنا بوضوح النزعة إلى تنصيب رقيب أو مفتش للضمائر , وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى أنه نزعة طبيعية من صبى يميل بحكم حداثة سنه إلى التطرف , غير أن حسن البنا إنما يتحدث بزهو عن هذه المرحلة وهو في سن النضج , لا يبدو من سياق المعنى إعادة للنظر في هذه الحماسة المفرطة , ثم إن هذه النزعة تتطور وتتبلور فيما بعد في المطالب الخمسين التي رفعها حسن البنا إلى " حضرات أصحاب الجلالة والسمو وملوك الإسلام وأمرائه حضرات رجالات الحكومات الإسلامية الفخامة وأعضاء الهيئات التشريعية والجماعات الإسلامية وأهل الرأي والغيرة في العالم الإسلامى " وهو المطالب التي وردت فئ آخر رسالة "نحو النور " والتي يمكن أن توصف بأنها دعوة إلى إرساء قواعد حكم فاشي باسم الدين , حيث إنها تشتمل على برنامج يتكرر فيه بشكل ملحوظ الألفاظ مثل " مراقبة " , " مصادرة " .. بل إن هذه النقاط الخمسين إنما هي بمثابة قانون لنحاكم تفتيش للقضاء على الفكر الحر والابتداع والتنافس والخلاف , وللقضاء على أي نزعة فردية .

وقد وجه حسن البنا دعوته في أول الأمر إلى طبقات المجتمع البسيطة , وقد برع في استخدام وسائل الإقناع البسيطة التحى تتلاءم مع ثقافة الطبقة , والتي تعتمد على استثارة العواطف , كما يدل عليه المشهد الذي يصور الأسلوب الانفعالي الذي كان يلجأ إليه أحيانا الداعية و وكذلك نوعية المخاطبين الذين كان يجد مثل هذا الخطاب هوى في أنفسهم .

أراد أن يلفت إليه النظر , فدخل إحدى المقاهي المكتظة , وعلى حين فجأة تناول حذوة ( بصة ) من إحدى النراجيل " الشيش " وألقى بها وهى ملتهبة من أعلى فنزلت على إحدى المناضد وسط الجالسين وتناثرت , فارتاع الحاضرون وغادروا أماكنهم مذعورين وتلفتوا يبحثون عن مصدرها فرأوا شابا وسيما واقفا على كرسي يقول له : " إذا كانت هذه الجذوة الصغيرة قد بعثت فيكم الذعر إلى هذا الحد فكيف تفعلون إذا أحاطت النار بكم من كل جانب ومن فوقكم ومن تحت أرجلكم وحاصرتكم فلا تستطيعون ردها ؟ وأنتم اليوم استطعتم الهرب من الجذوة الصغيرة فماذا أنتم فاعلون في نار جهنم ولا مهرب منها ؟

ونحن نعتقد أن أعمالا مثل " النقاط فوق الحروف " و " أحداث صنعت التاريخ " الصادرة عن الإخوان مرايا صادقة لهذه الثقافة , التي تميل إلى المبالغة على نحو سوف نلمسه فيما بعد , والتي تفتقر إلى المنهج العملي المدعم بالمراجع والأسانيد, بل وأحيانا إلى أبسط قواعد المنطق , فلا نكاد نجد فيها لتوخي الدقة , ولانتقاء الألفاظ التي تؤدى المعنى , فها هو على سبيل المثال صاحب الكتاب الثاني " الإخوان المسلمون – أحداث صنعت التاريخ " رؤية من الداخل الذي سوف نعول عليه كثيرا يقول إنه نصح زملائه في السنة الدراسية 1935-1936 بأن يحرص قبل الانضمام إلى الإخوان المسلمين على أن يتعرف على فكر الأحزاب المصرية الموجودة , وذكرهم بالترتيب الآتي : الوفدالأحرار الدستوريون – السعديون – مصر الفتاةالحزب الوطني , وذلك على الرغم أن الهيئة السعدية لم تعلن عن نشأتها إلا في يوم 4 يناير 1938 . كما يقول إن الناس أطلقت على الذين انشقوا عن الوفد وكونوا حزب السعديين " حزب السبعة ونص " وهو في الواقع الاسم الذي أطلق على ثمانية من أعضاء الوفد انشقوا عنه في فترة سابقة, وقد كان أحدهم – وهو علي الشمسي باشا – قصير القامة , كما أن كتاب " النقاط فوق السطور " يتحدث – كما أشرنا سالفا – عن " المذبحة " التي لم تسفر عن حالة وفاة واحدة .

كما يروى محمود عبد الحليم, نقلا عن حسن البنا نفسه , وهو من عرف البنا عن قرب , حيث كان عضوا في الهيئة التأسيسية للجماعة , قصة نجاح البنا العجيبة في الحصول على شهادة دار العلوم , وهو قصة إنما توحي أيضا بأن العلم ليس حصيلة الكد والتعب , وإنما هو وحى وإلهام , فلقد كان حسن البنا يعمل خلال فترة الدراسة في محل بقال , مما كان يجهده , ويستغرق وقتا طويلا على حساب القراءة والتحصيل , حتى خلد إلى النوم ليلة الامتحان وقد يئس تماما من النجاح , فإذا به يرى في المنام شيخا يلقنه دروسه , وإذا بهذه الدروس تحفر في ذاكرته , وإذا بالامتحان في اليوم التالي لا يخرج عن المادة الملقنة في المنام , وكأن الشيخ قد لقنه ما يكفى لاجتياز الامتحان .. ولا يخفى ما في مثل هذه الروايات من بعد عن روح وعن تعاليم الدين الصحيح التي تحض على الكد وات لعمل وعلى السعا لتحصيل العلم , ولو في الصين . إلا أن هذه الأساطير وجدت هوى في نفس العامة , وقد داعبت خيالها كذلك الروايات والأخبار والأوصاف التي أشاعها الداعية نفسه , أو المقربون إليه من أهله أو مريديه والتي كانت تضفى عليه هالة من القدسية .. ويروى نفس الكاتب كذلك كيف نجح الداعية في استخراج الجان من جسد زوجة أحد الإخوان المسلمين ونحن إذ نرجح أن هذه القصة مختلفة , لما فيها من تفاصيل مبتذلة , كان يمكن الاستغناء عنها دون الإخلال بسياق الموضوع , كما أننا لم نجد أثر لقصة تفوق حسن البنا فئ امتحان دار العلوم فى " مذكرات الداعي والداعية " إلا أن هذه الروايات نسوقها من نفس المرجع الذي يركن إليه عدد م الذين أرخوا لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين , والذي كتب مقدمته مصطفى مشهور , في إشارة واضحة إلى رضاءه الكامل عن مضمون الكتاب .

وفى محاولة منه لتبرير افتقار تلك الدعوة إلى " العلماء " يقرر نفس الكاتب – الذي سبق أن ذكر فضل الشيخ محمد علي أمين , الفراش النوبي المختص بمغسلة المدرسة التحى التحق بها في تنمية ثقافته الإسلامية :

" إنها الدعوة التي صاغت من الرعيل الأول عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح وسعد بن أبى وقاص وخالد بن الوليد ( .......) وإخوانهم , فل يكن هؤلاء من العلماء الذين درسوا علوم الاجتماع والتاريخ ولا فنون الحرب والسياسة حتى صاروا أعلاما في هذه العلوم والفنون , بل كانوا رجالا كسائر رجال الجزيرة العربية الذين سماهم القرآن " الأميين " ...."

بل إن الدكتور زكريا سليمان بيومي , صاحب رسالة دكتوراه عن الإخوان المسلمين يرجع أسباب حل الجماعة إلى ثمة مؤتمر تقف وراءه الدول الغربية المعادية للإسلام , وعلى رأسها انجلترا وفرنسا وأمريكا , والمنعقد في فايد في شهر نوفمبر 1948 , وقد كلفوا السفير البريطاني أن يطل بمن النقراشي إصدار قرار بحل [[جماعة الإخوان]] , وحيث إنه مطالب شأنه شأن أي باحث , أن يدعم ما يقول بالمراجع والأسانيد و فهو يجد نفسه مضطرا للإقرار الضمني بعدم وجود تلك الوثائق , فهو يستطرد فيقول :

" وإذا كان سير الأحداث لا يؤكد مثل هذا المؤتمر , وكذلك عدم وجود وثائق تثبت انعقاده صحف الإخوان , إلا أن البعض يرى أن الإخوان محقون – إلى حد كبير – في افتراضهم , ودليلهم على ذلك قائم على استنتاجات , وربما وثائق لم تظهر بعد , من خلال تطور الأحداث "

وكان الأولى به أن يقول " وثائق لم تتنزل بعد " وبذلك فإن الدكتور يثبت على جماعته التزييف الرخيص , كما يثبت على نفسه التشيع الذي يتنافى مع أصول البحث العلمي .

وكان هناك إلى جانب شخصية حسن البنا ‘ وإلى جانب طبيعة الرعيل الأول من الإخوان المسلمين عوامل وظروف , ومناخ أدى تضافرها إلى ترعرع دعوة مؤسسها وانتشار النار في الهشيم, فالفترة التي ولدت فيها هذه الجماعة هي الفترة نفسها التي شهدت نشأة جماعة الشبان المسلمين على يد الدكتور عبد الحميد سعيد أي أنها كانت فترة خصبة , بمعنى أنها كانت مواتية لانتشار الدعاية الإسلامية .

ولعل أول العوامل هو النشاط التبشيري المتزايد بتشجيع من السلطات البريطانية الذي حفز ههم عدد من المسلمين لتصدى له , ولم تكن وسيلة المبشرين كما يقول محمود عبد الحليم صاحب كتاب " الإخوان المسلمون – أحداث صنعت التاريخ " عرضا لعقيدتهم وشرحا لها أمام الناس .. وإنما وسائلهم هي استغلال فقر الناس وحاجتهم وجهلهم " ونحن نعتقد أن دعوة الإخوان المسلمين إنما نبتت على نفس هذه التربة التحى ترعرعت عليها كذلك الشيوعية , وكان هذا المذهب قد تسرب إلى البلاد فئ أعقاب الحرب العالمية الأولى واستفحل أمره حتى بات يشكل خطرا حقيقيا يؤرق بال عدد كبير من الساسة والمسئولين المصريين على اختلاف توجهاتهم .. يقول ميتشيل " على الرغم من نفور حسن البنا من الشيوعية إلا أنه توجه بدعوته إلى ذات الأوساط التي استهدفتها الدعاية الشيوعية , مستغلا نفس أسباب التذمر و لكنه لجأ إلى أسلوب اسلامى "

وقد ورد في مذكرة الأمن التي رفعها وكيل وزارة الداخلية إلى النقراشي , والتي صدر استنادا عليها قراره بحل الجماع , ما يعضد ملاحظة الكاتب الأمريكي , حيث اتهمت الجماعة بتأليب أهالي منطقة كفر البرامون,وحضهم على التحرك للمطالبة بأجور أعلى وبإيجارات معتدلة , وذلك في الثالث من فبراير 1948 , كذلك بحض العاملين بقرية مملوكة لوزارة الزراعة , للإضراب من أجل الاستجابة لمطلبهم بتملك الأرض في السادس عشر من يونيو من نفس العام .

والواقع أن الاستعمار الجاثم على صدر مصر قد أوجد شعورا معاديا للغرب بصفة عامة , مما مهد السبيل أمام التيارات السلفية التي تدعو إلى العودة إلى السلوك والقيم المؤسسة لمجتمع السلف الصالح , كما كان عاملا هاما من عوامل انحسار التيار الديني المعتدل الذي كان أبرز ممثليه الشيخ محمد عبده , والذي كان يحاول المواءمة بين الفكر الديني وبين الحياة العصرية , وبالتالي أفسح الكيان الاستعماري المجال للفكر المتشدد وبالأخص فكرة الجهاد , التي استساغها عدد غير قليل من الذين انضموا إلى هذه الجماعة . وليس من قبيل المصادفة أن تنجح دعوة الإخوان المسلمين التي انطلقت من الإسماعيلية ,مقر شركة قناة السويس الأجنبية , فالتواجد الأجنبي فئ هذه المدينة قد تبلور فيها أكثر من غيرها من سائر المدن المصرية, بما كان يستتبعه هذا التواجد المكثف من تناقض مخل في مستوى المعيشة بين الطبقات المصرية الكادحة وبين الأجانب الذين ينعمون بخيرات هذا البلد المنهوب .

كما أفادت هذه الدعوة من الفراغ الذي خلفته ثورة 1919 بعد أن خمدت جذوتها .. ويعتقد مصطفى أمين أن الثورة قد نزع فتيلها عندما تولى سعد زغلول الوزارة ( يناير 1934 ) ثم عندما أسندت الوظائف العامة إلى الأعضاء البارزين في الجهاز السري وفى مقدمتهم أحمد ماهر , الذي تولى وزارة المعارف , والنقراشي الذي أسند إليه منصب وكيل الداخلية .. ورغم أننا نختلف معه في الرأي , لإيماننا بأن مرحلة الثورة كان لابد أن تعقبها مرحلة جديدة , مرحلة الحسابات العقلانية والنفس الطويل , كما أسلفنا من قبل , إلا أنه ليس هناك بد من الإقرار بأن هذه المرحلة التي بدأ ت حوالي عام 1934 قد سبقت بفترة وجيزة نشأة جمعية الشبان المسلين ثم جماعة الإخوان المسلمين , وهى مرحلة تاريخية تعاقبت فيها جولات عددية وطويلة من المفاوضات وكانت كل جولة منها تنتزع حقا جديدا للمصريين , ولكنها كانت تسير بخطى وئيدة , بحكم تعسف المستعمر وتمسكه بما رآه حقوقا للإمبراطورية البريطانية لا يجوز التفريط فيها ’ كما أن محصلة المفاوضات كانت كثيرا ما تبدو انتكاسة تثير قدرا من خيبة الأمل . وفوق ذلك كله لم تكن تسمح طبيعتها بالمشاركة الجماهيرية الفعالة التي لم يتح لها التعبير عن نفسها سوى عن طريق الاعتراض والتذمر .

ومن ناحية أخرى كان قدر تزامن انفصال مصر عن تركيا , ثم اندلاع ثورة 1919 في أعقاب الحرب العالمية الأولى مع انحسار المد الإسلامى, على حد قول الدكتور زكريا سليمان بيومي , وذلك بسبب التحام كل القوى الوطنية , فأفسح خمودها المجال لنشاط الدعوة الإسلامية من جديد.

بالإضافة إلى ذلك فإن إلغاء الخلافة العثمانية في عام 1924 مع قيام ثورة أتاتورك , قد أوجد مناخا محموما وجدلا دينيا صاخبا , فقد استدعى الوضع الجديد الدعوة إلى مؤتمر إسلامي كبير من أجل التداول حول التساؤلات العديدة التي أثارها الواقع الجديد , تساؤلات حائرة حول طبيعة الخلافة , وإمكانية وكيفية بعثها من جديد .. وقد انعقد هذا المؤتمر في القاهرة في مايو 1926 , ثم في مكة في يونيو من نفس العام , وكان من الطبيعي أن يتطرق النقاش إلى العلاقة بين فكرة " الخلافة " أي حكومة إسلامية تندرج تحت لوائها البلاد الإسلامية وبين مفهوم " الوطن " قد فرض نفسه على هذا الواقع الجديد بدلا من" القومية الإسلامية " كما أثارت هذه الملابسات صخبا وحراكا فكريا أوجد انقساما في الرأي العام بين التيار التقدمي وبين التيار السلفي , وكذلك التيار التوفيقي الذي كان أبرز رواده الشيخ محمد عبده .

وفى هذه المعركة المحتمة بين المعسكرين التقدمي والمحافظ , حددت الإخوان المسلمين بوضوح موقفها , حيث يقول حسن البنا " نحن سلفيون من أتباع الشيخ رشيد رضا " فلقد كان رشيد رضا أحد تلاميذه الشيخ محمد عبده , الذين انسلخوا عن فكره , لأنه من وجهة نظرهم قدم تنازلات كبيرة لصالح المدينة الحديثة, ووضع رشيد رضا كتبا بعنوان " الخلافة والإمامة العظمى " دافع فيه عن فكرة الخلافة .. وكذلك كان الإخوان المسلمون أنصار فكرة الخلافة , بل هي فكرة محورية في دعوتهم , على الرغم من أنهم لم يحددوا ماهيتها وكيفيتها , فقد ظلت في فكر هذه الجماعة مفهوما هلاميا يتعارض في نظرهم مع فكرة الوطنية , فالدين عندهم " جنسية " كما ورد في رسالة " بين الأمس واليوم " وحدود الوطن , في نظرهم هو " الوطن الإسلامى " :

" .. كل بقعة فيها مسلم يقول " لا إله إلا الله محمد رسول الله "وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد فا سبيل خيره , وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم . ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك , فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض , ويظهر هذا الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة أن تقوى على حساب غيرها فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطر إسلامي وإنما نطلب القوة لنا جميعا .. " ( دعوتنا )

وقد تكون هذه الفكرة مشروعة إذا ما اتسع مدى الولاء للوطن وطنا أكبر , ولكن عندما يكون المراد أن يحل الولاء للوطن الإسلامى محل الولاء للوطن فإن الأمر يصبح من الخطورة بمكان على أمن وأمان هذا الوطن , ولكن يبدو أن هذا التوجه هو سمة الفكر المتعصب , ففي تاريخ فرنسا في القرن السادس عشر عندما اشتعلت الحروب الدينية بين الكاثوليك ومن انشقوا عن هذا المذهب خير مثال على ما نقول حيث نجد أنه بعد وفاة الملك هنري الثالث في عام 1589 اجتمعت مجموعة من الكاثوليك المتشددين تدعى " الرابطة " من أجل أن يحولوا دون أن يعتلى ولى العهد – وقد كان قد اعتنق المذهب البروتستانتي – الحكم , وقد وقعوا من جراء هذا الموقف المتشدد في دائرة نفوذ العرش الأسباني الكاثوليكي , الذي كان يسعى من جانبه إلى إبطال القانون الذي يحول دون أن تعتلى عرش فرنسا امرأة , حتى يتسنى له تتويج أميرة إسبانية ملكة على فرنسا , أي أن ملكا أجنبيا أو مدعوما بسلطة أجنبية قد يكون أفضل عندهم من ملك فرنسي على مذهب مغاير لمذهبهم , إلا أن الكاثوليك المعتدلين أفشلوا هذا المخطط وهكذا نجد , وبعد أن انقضى حوالي نصف قرن عل نشأة الجماعة أن المرشد العام الحالي يصرح بأنه لا يمانع في أن تحكم مصر من ماليزي .

ولقد أتاحت هذه المعركة التي تمحورت حول فكرة الخلافة الفرصة أمام الجماعة لولوج المعترك السياسي من بابه الملكي بمعنى الكلمة , حيث إن إلغاء الخلافة العثمانية فتح الباب على مصراعيه أمام أولئك الذين كانوا يبتغون لأنفسهم دورا رياديا بين البلدان الإسلامية ,وفى مقدمتهم الملك فؤاد الذي أورث هذه الفكرة إلى ابنه من بعده , وقد حرص مستشارا الملك الشاب , علي ماهر والشيخ المراغى , على أن يزينا له هذه الفكرة , ونشأ من هذا الاتفاق على مشروع الخلافة احتضان علي ماهر للشيخ حسن البنا

كما كانت ثورة فلسطين 1936-1939 بمثابة الفرصة الذهبية التي سمحت لحسن البنا أن يلعب دورا سياسيا وأن يتعرف على العديد من الشخصيات العربية المؤثرة, فهي كانت سبب اتصاله بمفتى فلسطين أمين الحسيني, الذي توطدت صلته به بعد ذلك ,قد أشيع أنه كان همزة الوصل بين حسن البنا وبين النازي فيما بعد . ولعل ميل السراى وعلي ماهر المحوري كان من الحوافز التي أزكت هذا الاتجاه . ونجد حسن البنا نفسه فئ " تقرير إجمالي خاص " يقر بالاتهام الذي وجه إليه بالتواطؤ مع عناصر فاشية ونازية , كما يقول أحد التقارير البريطانية إن جماعة الإخوان المسلمين تقلت مساعدة من دول المحور – ألمانيا وإيطاليا – بين عامي 1934 , 1939 مما حدا بالبنا أن يصبح من العناصر النشيطة المعادية لبريطانيا .. ومن ناحية أخرى كانت ثورة فلسطين هي التي أفسحت المجال أول الأمر أمام حسن البنا للاتصال بعلي ماهر وعبد الرحمن عزام , وكانا من أشد الساسة المصريين تحمسا للتوجه العرى والإسلامى , وذلك من أجل الدعاية للقضية الفلسطينية التي استثمرها الإخوان المسلمون خير استثمار , حيث انتشروا في جوامع ومساجد مصر يدعون لمؤازرة أهل فلسطين .. ويقول محمود عبد الحليم إن للإخوان الفضل الأكبر في تعريف " الشعب المصري المضلل " بمحنة إخوانهم في فلسطين , فقد كان الناس في مصر يجهلون في ذلك الوقت أن هناك بلدا اسمه فلسطين , على حد قوله , لولا مجهودات الإخوان المضنية .

وقد أتاحت لهم هذه الحملة فرصة جمع الأموال التي استعانوا بها لتوطيد أركان دعوتهم على حد رواية عبد الحليم محمود , التي نتوقف عندها قليلا , فهي تغلف عملية غش وتدليس في ثوب التقوى والورع , كما أنها تكشف صورة من صور التلاعب بمشاعر الناس التي برع فيها الإخوان .

أحب أن أنبه القارىء .. إلى أن النقود التى كنا نجمعها لفلسطين من المساجد والمقاهي والبارات لم يكن القصد من جمعها إعانة إخوانا المجاهدين الفلسطينيين بها فهم كانوا من هذه الناحية في غير حاجة إليها لأن أغنياء أهل فلسطين من التجار كانوا من وراء هؤلاء المجاهدين .. وإنما كان جمعنا لهذه التبرعات .. أسلوبا من أساليب التأثير في نفوس الناس بهذه القضية , وربطا لقلوب الناس وعقولهم بها , واختبار لمدى تجاوبهم معها .

وأضيف الآن إلى ذلك أن هذه المبالغ لم تكن ترسل إلى المجاهدين بلا كانت تصرف في شئون الدعاية لهذه القضية بأمر اللجنة العليا , ثم إن اللجنة كانت ترسل إلينا من أموالها الخاصة مبالغ طائلة لنضيفها إلى ما عندنا للإنفاق على هذه المهمة الخطيرة التحى كانت اللجنة العليا تعتبرها أهم وألزم للقضية من الجهاد المسلح الذي يقوم بأعبائه المجاهدون فئ فلسطين نفسها .. وإلا لما كان للإخوان وهم ما والو في مهدهم أن ينهضوا بمهام الدعاية المجلجلة التحى أقضت مضجع الإمبراطورية البريطانية والتي تحتاج إلى إنفاق واسع النطاق .

فهذا المال الذي تم جبايته من المصريين عن طريق استثارة حماستهم لمحنة إخوانهم في فلسطين , إنما هو في الواقع اختبار لصدق المخاطبين استثارة حماستهم لمحنة إخوانهم في فلسطين ,إنما هو في الواقع اختبار لصدق المخاطبين وإخلاصهم , و:أنهم قصر في حاجة إلى التوجيه والإرشاد , ثم يتم تحويل هذه المبالغ إلى غرض آخر غير الغرض المعلن الذي جمعت من أجله , كما أن المراد من تعبير " الدعاية المجلجلة .. " غير واضح , فمن الصعب للقارئ الحائر أن يفهم من غير التباس في المعنى إذا كان المراد هو الدعاية للقضية الفلسطينية أم للإخوان أنفسهم ؟

وهكذا أفسحت الظروف السياسية والاجتماعية وكذلك المناخ العام الطريق أمام جماعة الإخوان المسلمين , فلم يكد يحل عام 1948 , حتى ازداد عددهم بشكل كبير وانتشرت شعبهم في طول البلاد وعرضها , بل وفى بعض البلدان العربية , وأصبحوا على درجة عالية من التنظيم , وقد استشرى نفوذها , فحرصت شتى الدوائر السياسية على استقطابها لضرب الوفد والشيوعية , كما أنه كان لهذه الجماعة وسائل تمويل عديدة وجرائد ناطقة باسمها , وكذلك مطبعة, بالإضافة إلى مشروعات خيرية كانت سببا مباشرا في ازدياد تعاطف الجماهير العريضة في مصر مع دعوة هذه الجماعة . إلا أن هذه الواجهة البراقة كانت ستارا يخفى نشاطا اكتنفه الكثير من الغموض , ولعل التعتيم حول التاريخ المحدد لنشأة النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين , وهو التاريخ الذي عجز الباحثون عن الاتفاق عليه , يصور الغموض الذي غلف النشاط السري للجماعة , الذي لم يطلع عليه , ولم ينضم إليه سوى " الصفوة المنتقاة " وفق تعبير أـحد أعضائه البارزين , ويرجح أن تاريخ نشأته يرجع إلى حوالي عام 1940 , وقد ساهمت طقوس حلف اليمين في غرفة شبه مظلمة بين يدا حسن البنا " المرشد العام " على مصحف ومسدس فئ إشاعة جو من الغموض والرهبة حول هذا الجهاز .

وإذا كانت هذه الجماعة قد امتازت بقدرة فائقة على التنظيم إلا أن برنامجها قد بدا للمراقبين غير واضح المعالم , فهو يقوم على مجموعة من ألأفكار البسيطة الفضفاضة على درجة كبيرة من العموم والشمول وبالتالي من المرونة , حيث يجيب حسن البنا مثلا عندما سئل عن برنامج الإخوان المسلمين " ولم البرنامج إنه يفرقنا" ويكتفي بترديد " القرآن دستورنا والرسول زعيمنا " وهى المقولة التي صيغت في قوالب مختلفة قد تطرأ عليها بعض الإضافات أو التعديل نا وهناك مثل " دعوتنا إسلامية " ( دعوتنا ) " يا قومنا : إننا نناديكم والقرآن فئ يميننا والسنة في شمالنا , وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا " ( إلى أنى شيء ندعو الناس )

وهى أفكار يكررها حسن البنا بلا كلل ولا ملل في خطبه وبياناته ومقالاته , أهمها أو أكثرها شيوعا هي :

رفض المدنية الغربية جملة وتفصيلا ,فهي مدنية مادية لحضارة المتع والشهوات , ( الإخوان المسلمون تحت راية القرآن )

الدعوة إلى " حكومة إسلامية " , " لا نعترف بأي نظام لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه " ( إلى الشباب ) وهذه الحكومة قوامها الخلافة وتضم كل البلدان الإسلامية التي أضاعت وحدتها المطامع الأوربية .. ويضيف حسن البنا أن وحدة الوطن الإسلامى قوامه عامل إيماني بينما الرايخ الألماني الزى كان يسعى لتأسيسه هتلر يقوم على مبدأ عنصري ,ومجرد تشبيه المشروعين إنما يؤكد الحلم الذي كان يراود حسن البنا بينما بلاده ما زالت ترزح تحت وطأة الاحتلال البريطاني, وهو حلم الإمبراطورية الإسلامية , عن طريق إعادة ضم المستعمرات الإسلامية القديمة" الأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزائر بحر الروم " إلى " أحضان الإسلام " ( إلى الشباب ) وحيث إن الحكومة المشروعة الوحيدة هي "الحكومة الإسلامية " كما خرجت من وحى واجتهادات هذه المجموعة فسعيها إلى الحكم مشروع أيضا كما جاء في " رسالة المؤتمر الخامس " للإخوان المسلمين .

والدعوة إلى محاربة الأحزاب السياسية وضروه حلها , حيث " إنها تندرج تحت الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها " ( إلى الشباب )

الدعوة إلى محاربة البغاء والربا ,وفى الواقع فإن المثل الزى استشهد به الشيخ حسن البنا ليدعم حجته إنما يصور خير تصوير التبسيط المخل للمعنى الذي كانت تستعين به هذه الدعوة ,من أجل أن تضمن ولاء الجمهور الذي عرفت كيف تنتقيه بنوعية حججها وأساليبها حيث يقول :

"ويوجب علينا روح الإسلام أن نحارب الربا حالا " ونرجح أنه يقصد بالربا الفوائد البنكية حيث يقول :

ولقد كان المصلحون يتجنبون أن يقولوا في الماضي هذا الكلام حتى لا يقال لهم إذا ذلك مستحيل وعليه دولاب الاقتصاد العالمي كله . أما اليوم ,فقد أصبحت هذه الحجة واهية لا قيمة لها بعد أن حرمت روسيا الربا وجعلته أفظع المنكرات في دارها , وحرام أن تسبقنا الشيوعية إلى هذه المنقبة الإسلامية . (النظام الاقتصادي)

ومن البديهي أن لفظ " المنكرات" ينتمي إلى الخطاب الديني ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعبر عن وجهة نظر حكومة روسيا الشيوعية .

وعندما توطدت الدعوة وقويت بتزايد عدد أتباع حسن البنا , بدأت تتبلور فكرة الجهاد وهى دعوة مشروعة إذا ما كانت موجهة ضد المحتل , ولكنها تتسع لتشمل " أهل الكتاب " ( رسالة الجهاد ) وتبدو هنا بجلاء خطورة هذه الدعوة التي ضربت في مقتل مكسبا لعله أهم مكسب لثورة 1919 وسببا مباشرا لنجاحها , وهو تضافر كل القوى الوطنية بدون تمييز على أساس ديني , ومن هنا يتضح أنه كان من الحتمي أن يصطدم النقراشي مع هذه الجماعة , فهو ابن الثورة التي تشبع بفكرها , إلى حد زجر ابنته الصغيرة التي تذكر في معرض حديثها عن زميلاتها بالمدرسة إن إحداهن مسيحية , حيث إن ذلك " من التفاصيل التي لا يجب الالتفات لها"

ومبدأ ضرورة الجهاد الذي أصبح محوريا في فكر الجماعة هو الذي ميزها بحق عن سواها من الجماعات الدينية العديدة التي انتشرت في ظل الاستعمار , فنجد أحد أعضائها البارزين يتردد في مبايعة حسن الهضيبى مرشدا عاما خلفا للمرشد العام , لما أشيع عن الرجل من عدم إيمانه بالجهاد منهاجا لتربية الإخوان المسلمين , حتى إنه بصدد حل النظام الخاص , فإذا كان هذا الشخص هو عبد الرحمن السندى رئيس الجهاز السري , أي أكثر أعضاء هذه الجماعة تطرفا فإن ذلك لا ينفى أنه يخاطب عضو آخر ويسوق حجة أراد لها أن تقنع محدثه بسبب تردده في المبايعة ,كما يؤكده سائر الحوار إذ يجيبه محدثه , صاحب كتاب صفحات من التاريخ " بأن الرجل يدرك الإسلام كما يدركه حسن البنا وأنه يسير في ولعل رؤية وأهداف الإخوان كانت واضحة بالنسبة إليهم , أو على ألأقل بالنسبة للمرشد العام الذي يقبض على زمام الأمور , ولعل الغموض الذي أحاط ببرنامجهم كان متعمدا , ولعل فكرة الولاء للوطن اعتبارا يأتي في المقام الثاني بعد اعتبارات أخرى في منهج وفكر المرشد , فقد كان الآمر الناهي , العالم ببواطن أمور جماعته على الرغم من ادعائه فيما بعد بأن الجهاز الخاص وعلى رأسه السندى قد خرج عن طوعه .. كما نجد في بداية تأسيس هذه الجماعة أن أحدهم اعترض على ترشيح حسن البنا للشيخ على الجدوى نائبا له في الإسماعيلية , فيتهم حسن البنا هذا العضو بأنه شيطان قد زين له , ويشبه المجموعة التي انحازت لهذا المعارض بالخوارج الذين خرجوا على الإجماع , متمثلا بالمقولة المعروفة " من أتاكم وأمركم جميعا يردي أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائنا ما كان " وموقف حسن البنا هذا من الذين خالفوه , وتعقيبه على هذا العمل إنما هما مقدمة طبيعية للنص الذي عثر عليه ضمن محفوظات " النظام الخاص " المضبوطة في قضية الجيب التي سوف نتحدث عنها فيما بعد :

" هذه الجماعة – جماعة الإخوان المسلمين – يجب تأييدها على كل وطني وكل متخاذل عنها قاعد عن نصرتها ,فهو مقصر في أمر الله , ومن يناوئها أو يناهضها ويعمل على إخفات صوتها من المسلمين غير المسلمين , فهو بلا شك مناهض لجماعة المجاهدين .. ولا تردد أبدا في الحكم بأن مثل هذا الخارج على المجاهدين مهدر الدم .."

ثم هو بعد ذلك في مذكراته يندب حظه لأنه لا يجد إلى جانبه رجالا " يفهمون ويديرون " فيسلم إليهم هذا العمل ويرتاح بهم قليلا ويطمئن إلى مقدرتهم ," ولكن أين هم ؟ " وعندما يختلف مع صديق عمره أحمد السكري الذي كان مسئولا عن شعبة الإسماعيلية يقول :

" .. فرعى جمعية الإخوان فئ المحمودية وشبراخيت سوف لا تنفع كثيرا لأنها أنشئت بغير أسلوبي , ولا ينفع في بناء الدعوة إلا ما بنيت بنفسي وبجهد الإخوان الحقيقيين الذين يرون لي معهم شركة في التهذيب والتعليم ,وهم قليل" .

ولقد تحالف حسن البنا مع كل القوى الوطنية على اختلاف اتجاهاتها لتحقيق مآربه ,ولكن هل كانت هذه الأغراض واضحة المعالم منذ البداية ؟ يقول حسن البنا فى افتتاحية العدد الأول لمجلة النذير الصادر في مايو 1938 ما يستشف منه وجود غاية لم يفصح عنها " هذه مرحلة من مراحل الإخوان التي اجتزتها بسلام وفق الخطة الموضوعة لها " والواقع أن المدرس الشاب الذي كان يجوب أزقة أبو صوير متفرسا في وجوه المارة , كان لا شك يسعى وراء مشروع كبير , ولكننا نعتقد أن ماهية هذا المشروع وحجمه لم يتبلور إلا تدريجيا ,ولابد أن حماسة الرعيل الأول الذي التف حول حسن البنا في الإسماعيلية , وأسلم له قياده قد أغرته بالمضي قدما , خاصة بعد أن أخذ عدد هذا الرعيل في التزايد المطرد , وهو ما رسخ لديه النزعة إلى الزعامة المطلقة , ونرجح أنه عندما انتقل حسن البنا إلى القاهرة في عام 1932 وسعى للاتصال بشخصيات عامة كانت لديه النية الجدية على حسب الزاوية التي يمكن على أساسها تقييم هذه السياسة , فتاريخ جماعة الإخوان المسلمين , منذ أن استقر المقام بحسن البنا بالقاهرة , سلسلة من التحالفات يعقبها خصومة أو غدر بحليف الأمس , وربما تزامن الموقفان فيظهر الإخوان التأييد بينما يضمرون غير ذلك . فهم , وعلى رأسهم مرشدهم العام , لم يخلصوا إلا لأنفسهم , وإلى حلمهم بالخلافة وبالحزب الأوحد .

ونستشهد بموقفهم من الملك الذي حرص الإخوان على إعلان تأييدهم المطلق له منذ أن تولى سدة الحكم , فيعقدون مؤتمرهم الرابع احتفالا بهذه المناسبة , وبعد الحفل تتقاطر وفودهم مهللة " الله أكبر ولله الحمد " إلى قصر عابدين ,ثم بعد فترة ليست بالطويلة يعقب هذا الحماس الدافق الذي نجد وصفا مستفيضا له في "مذكرات الداعي والداعية" اختراق للضباط في الجيش المصري , وتبدأ الحلقة بعزيز المصري , ثم يضع الإخوان يدهم في يد مجموعة من الضباط المتذمرين , وعلى رأسهم أنور السادات ويتم الاتصال عن طريق الصاغ محمود لبيب وهو ضابط متقاعد أنيط به مهمة تدريب الجوالة , وقد قام حسن البنا بدور همزة الوصل بين السادات وبين عزيز المصري الذي عبر خلال أول لقاء بينهما عن رأيه بأن خروج مصر من مأزقها الراهن لا يمكن أن يتم إلا من خلال انقلاب عسكري , وبذلك يتضح أن حسن البنا كان ضالعا في التآمر ضد مليكه الذي كان يتفانى في إظهار ولاء الجماعة له .ونستشهد كذلك بموقفهم من معاهدة 1936 , التي راحوا يهاجمونها , ثم يعلن حسن البنا تأييده لحكومة النحاس ويقدم إليه كتابا جاء فيه :

" .. الواجب يقتضينا , والمصلحة تدعونا إلى أن ننفد بإخلاص , وحسن نية أحكام المعاهدة التي وقعناها بمحض اختيارنا وملء حريتنا وقصدنا من ورائها سلامة استقلالنا القومي والاحتياط لمثل هذه الظروف العميقة "

وقد جاءت هذه المقابلة فى مارس 1942 , عقب إعلان حسن البنا تنازله عن ترشيح نفسه لمجلس النواب عن دائرة الإسماعيلية " عملا بنصح الرئيس " وفق ما ورد في الأهرام في عدده الصادر يوم 23 من مارس 1942 . وفى الواقع فإن البنا قد ساوم النحاس , فحصل منه على بعض الامتيازات للجماعة , إلى جانب الوعد من جانب الحكومة بمحاربة البغاء ومنع بيع الخمور , وهو ما اعتبرته الجماعة انتصارا جزئيا , حيث عدته نقطة بداية في تنفيذ برنامجها , ومما يزيد الأمر غرابة هو التوقيت الذي صدر فيه هذا الإعلان , في ظل حكومة النحاس التي جاءت على أسنة رماح الانجليز في تحد سافر ومهين لسلطة وكرامة ملك مصر الذي كان الإخوان يتسابقون من قبل , لإعلان ولائهم له في حفل مهيب .

ثم يعود بعد ذلك الإخوان الذين جندتهم أكثر من حكومة لعدائهم القديم للوفد , وقد طفا الخصام على السطح, عندما اشتد بين الفريقين الجدل حول موضوع فصل الدين عن الدولة وتدهورت العلاقات إلى حد مطالبة جريدة الوفد المصري بحل جماعة الإخوان المسلمين , مما أعقبه وقوع مشادات عنيفة بين الطرفين أسفرت عن مقتل أحد الوفديين في بور سعيد وإصابة 35 آخرين , ثم حرق مركز الإخوان في هذه المدينة انتقاما لهذاالحادث , وإن لم يمنع ذلك الجماعة فيما بعد من التنسيق مع عناصر وفدية لتنظيم المظاهرات , التي أدت إلى أحداث كوبري عباس في عام 1946 على نحو ما رأينا قبل ذلك .

وقد حظا الإخوان بدعم الأحرار الدستوريين , فقد آزرت وزارة محمد محمود رئيس الحزب هذا الكيان , وهو الموقف الذي ساهم في استشراء نفوذهم . إلا أن مد الإخوان لم يبلغ أوجه إلا مع تشكيل حكومة علي ماهر في أغسطس 1939 . ويتضح دعم الأحرار الدستوريين للإخوان , على الرغم من موقفهم المتأرجح من حكومة محمد محمود ,من خلال رواية الدكتور حسين هيكل وزير المعارف آنذاك لقصة نقل حسن البنا إلى قنا , حيث يقول القطب السياسي الكبير إن السلطات البريطانية قد طلبت من حسين سري باشا رئيس الوزراء آنذاك , الحد من نشاط حسن البنا , الذي اتهمته تلك السلطات بالعمل لحساب إيطاليا في مستهل الحرب العالمية الثانية , فرأى حسين سري نقله إلى الصعيد بناء على أن مثل هذا النشاط السياسي لا يتفق والعمل الحكومي , ثم يعقب الدكتور حسين هيكل قائلا :

" لكن نقل حسن البنا أدى إلى ما لم يؤد إليه نقل مدرس غيره. فقد جاءني غير واحد من النواب الدستوريين يخاطبني في إعادته إلى القاهرة ويرجوني في ذلك بإلحاح ,ولما لم أقبل هذا الرجاء ذهب هؤلاء النواب إلى رئيس الحزب عبد العزيز فهمي باشا وطلبوا إليه أن يخاطبني في الأمر .. "

وتنجح وساطة عبد العزيز فهمي لدى حسين سري , في إعادة الرجل إلى القاهرة .

ترى أأحسن سرى باشا في تراجعه هذا أم أساء ؟

- الذي لا شبهة فيه أن تراجعه أشعر الشيخ حسن بأن له من القوة ما يسمح له بمضاعفة نشاطه من غير أن يخشى مغبة ذلك النشاط , وأن هذا الشعور كان له أثره في تطور جماعة الإخوان المسلمين من بعد " وينعكس هذا الشعور بالزهو والقوة في اللهجة الحاسمة التي يخاطب بها حسن البنا الملك في الخطاب الذي رفعه إليه عام 1941 جاء فيه :

" أرجو أن تأمروا جلالتكم بأن تعنى الحكومة المصرية عناية جدية بإيجاد علاج سريع لفوضى الحياة الاجتماعية , التي وصلت إلى حد من الاختلال والفساد ينذر بأخطر العواقب , فتصدر التشريعات التي توجب على كبار رجال الدولة والوزراء وحكام الأقاليم , أن يؤدوا الصلوات في أوقاتها وأن يكونوا قدوة صالحة لغيرهم في احترام الدين .."

ويبلغ الصلف مداه إبان المؤتمر الذي دعا إليه الإخوان " أعضاء الشعب " في شهر أكتوبر 1945 , ويبلغ من إقبال المدعوين عليه أن تكتظ دار الإخوان بشارع أحمد بك ثم دارهم المقابلة في ميدان الحلمية بالحاضرين , وقد بلغ عددهم 5000 شخص فوقفوا في الشارع , مما اضطر البوليس إلى تحويل المرور عن هذين الشارعين . ويتحدث حسن البنا فينسب اتجاه الإخوان المسلمين ووجهة نظرهم السياسية في الفترة الأخيرة إلى تناحر الأحزاب وإغفالهم حقوق البلاد ويعلن أنه .

سيوحد صفوف الأمة ويترك الصف الأول للزعماء لقيادة الشعب فإذا تخلفوا فإنه سيضطر إلى قيادتهم ( وفق تقرير مرفوع عن حكمدار بوليس مصر إلى مدير عام إدارة عموم الأمن العام بتاريخ 3-10-1945 ) كما تحالف الإخوان كذلك مع إسماعيل صدقي , وقد كان أدرك ما لديهم من نفوذ , فزار مركزهم العام فور توليه الوزارة في عام 1946 , خلفا للنقراشي الذي ساهم الإخوان في إسقاط وزارته , وقد استقبل استقبالا هائلا من جماعةالإخوان الذين استشهدوا بالآية الكريمة " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد .. " وكان صدقا يريد استغلال هذا النفوذ المستشري لضرب الوفد والشيوعية , فمنح الجماعة عدة تسهيلات رسمية منها ترخيص بإصدار الصحيفة الرسمية للجماعة , جريدة " الإخوان المسلمون " التي بدأت تظهر في مايو 1946 , وقد منحهم كذلك امتيازات في شراء حبر الطباعة بالأسعار الرسمية , مما كان يعنى توفير من 20 إلى 30 % من أسعار السوداء , ثم عاد الإخوان وانقلبوا على صدقي بعد انهيار مفاوضات صدقي – بيفن , بدعوى أن هذه المفاوضات لم تحقق إلا " القليل التافه " على حد قول محمود عبد الحليم وعلى العموم فإن هيوارث – دان الذي يبدو أنه عرف الإخوان عن يقرر أن حسن البنا كان دائما ما يدرس كل وزارة جديدة تتقلد مقاليد الحكم ؛ فإذا كانت قوية غلبت الصبغة الدينية على أحاديثه , أما إذا كان رئيس الوزراء ضعيفا فإن ذلك مما يشجع حسن البنا على الخوض في السياسة

ومن ناحية أخرى فقد تم تمويل جماعة الإخوان من جهات عديدة , الأمر الذي يلقي بظلاله على انتماءات وولاءات هذه الجماعة , بدءا من شركة قناة السويس , مما يثير علامات استفهام عديدة حول جماعة يقبل دعما ماليا من هذه الشركة , في الوقت الذي تنادي فيه كل القوى الوطنية بالجلاء , وانتهاء " بالوكالة الأجنبية الجديدة " حيث إنه , على حد قول مؤرخة أجنبية , كشف تفتيش شقة مدير هذه الوكالة بعد القبض عليه في مستهل الحرب أن جماعة الإخوان قد تلقت من هذه الوكالة دعما ماليا , أكبر من الإمدادات المالية التي كانت تصرف عادة للنشاط المعادي للإنجليز ويبدو أن المفتي الفلسطيني أمين الحسيني هو الذي كان قد تولى أمر الحوالات المالية , وقد أقر محمود لبيب أمام المحكمة العسكرية عام 19541955 أنه استعان بخدمات بعض الضباط الألمان لتدريب الجهاز الخاص , ومرورا بالحكومة ووزارة الشئون الاجتماعية واللجنة العربية العليا على نحو ما أسلفنا , بل إنه في خلال الفترة القصيرة التي تولى فيها عبد الله بن الوزير زمام الحكم عقب الانقلاب الذي حدث باليمن عام 1948 , كان هناك – على حد رواية هيوارث – دان – ترتيب لإرسال مبلغ مائة ألف جنيه لحسن البنا , بدعوى الدعاية للنظام الجديد الذي ساهم في إيجاده ,ولكن حال سقوطه دون إتمام الصفقة .

والازدواجية في مواقف الإخوان تبدو واضحة للعيان فبينما ينقل الشيخ البنا إلى قنا استجابة لشكوى السلطات البريطانية بدعوى أنه موال للمحور , وبينما يتلقى الإخوان دعما ماليا من المحور , فإن مرجعا مهما من مؤرخي الجماعة , وهو الدكتور زكريا سليمان بيومي يعترف صراحة بأن الشيخ البنا سبق له أن تلقى في أول عهد جماعة الإخوان المسلمين مبلغ 500 جنيه من شركة قناة السويس , ومثل هذا المبلغ يعتبر من المبالغ الكبيرة في ذلك العهد , والدكتور المؤرخ يبرر ذلك بأن الانجليز أرادوا أن يشتروا حياد الجماعة التي لم يروا ضررا من ورائها , وأنها لا تعدو أن تكون من الجماعات الصوفية .

ثم يعود الدكتور زكريا للاعتراف بأن الجماعة قد تلقت أيضا من الانجليز تمويلات أخرى عن طريق من يدعى المستر كلايتون , الذي أشار إليه على أنه السفير البريطاني , وهو خلط في السرد لا نلتفت إليه , لكثرة ما ورد فئ أشرطته من سقطات تاريخية بالغة الأهمية , ويزعم مؤرخنا أن الإخوان لم يجدوا حرجا في قبول هذا التمويل لمقابلة أهداف مشتركة , هي محاربة الشيوعية في مصر ,, وهى من ألأمور المشتركة التي تتفق وسياسة وأهداف الإخوان , وما كان الانجليز بمستطيعين أن يقوموا بهذا النشاط المعادى للشيوعية في مصر , إلا بمساعدة الإخوان ,نظرا للحساسية التي تمنع الحلفاء من التعرض للشيوعيين صراحة ومباشرة في أثناء الحرب العالمية , وهم حلفاء للروس .

أين يقف النقراشي على خريطة هذه العلاقات المتشابكة المتأرجحة ؟ هل حاول بدوره استثمار انتشار هذه الجماعة ونفوذها المتزايد ؟

في مرافعته أما المحكمة العسكرية العليا , المنوط بها الحكم في الاتهامات الموجهة لجماعة الإخوان المسلمين , عقب اغتيال النقراشي يلقى أحمد حسين المحامى ورئيس حزب مصر الفتاة , اللوم على الأحزاب التي قد أجمعت على تملق جماعة الإخوان المسلمين , مما أغراهم بالمضي قدما حتى نهاية الشوط على حد قوله , فالأحزاب بصفة عامة والنقراشي بصفة خاصة مسئولون عما آل إليه الأمر , واستشهد على ذلك بالسياسة التي انتهجتها الحكومات المختلفة , باستثناء الوفد بغض البصر عن نشاط الجوالة على الرغم من صدور القانون رقم 17 لسنة 1937 , والذي يحظر التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية , والذي تم تطبيقه على التنظيمات المماثلة التابعة لحزبي مصر الفتاة والوفد , وهو القانون الذي ينطبق على جوالة الإخوان المسلمين , وقد بلغ عددهم عشرين ألفا , وبالإضافة إلى ذلك فإن قانون الكشافة يحظر انتماءها إلى جماعة سياسية أو دينية , ويستدل رئيس حزب مصر الفتاة كذلك على ما يقول بزيارة " وزير من وزراء الدولة في ذلك الوقت " وهو حامد بك جودة لحسن البنا , عندما كان في معتقل الزيتون في عام 1941 , وهى الزيارة التي أعقبها الانفراج عن المرشد العام للإخوان , ويعقب قائلا :

" خرج الأستاذ حسن البنا وقد زاد جاها وعزا بوقوف الوزراء إلى جواره , ومضى في دعوته حرا طليقا , يجوب البلاد , يؤلف الشعب و وينظم الجماعات .... واشتهر في البلاد أن الإخوان المسلمين في حماية الحكومة القائمة وفى حماية السعديين بصفة خاصة "

ولا نعلم لماذا اعتبر أحمد حسين الوزير حامد جودة محسوبا على حزب السعديين الذي ينتمي له , وليس على وزارة حسين سري , وهى الوزارة التي كانت تمسك بزمام الحكم في ذلك الوقت , وهى نفس الوزارة التي رضخت لضغط الأحرار الدستوريين وأعادت البنا إلى القاهرة بعد إبعاده إلى قنا ؟

ولكن أحمد حسين استرسل في مرافعته التحى اعتمدت في المقام الأول على فكرة مسئولية الحكومات المختلفة عن توغل جماعة الإخوان المسلمين , فقال إن الإخوان كانوا يجمعون السلاح من الصحراء الغربية لحرب فلسطين , تحت سمع الحكومة وبصرها . وقد قرر عمار بك وكيل وزارة الداخلية أمام المحكمة أنه تم التحقيق في واقعة انفجار حدث في دار الإخوان المسلمين وقد كشف التحقيق عن وجود ذخائر في هذه الدار, إلا أنه صرف النظر عن هذه الواقعة , عندما قرر الإخوان أن الانفجار كان سببه الذخيرة المخصصة لفلسطين . واعتمد على هذه الشواهد لينتهي إلى أن قرار الحكومة بحل جماعة الإخوان المسلمين كان قرارا مفاجئا , حيث لم تسبقه مقدمات , فالنقراشي على حد قوله , لم يتريث ولم يتمهل على الرغم من تحذير المحيطين به من مغبة الأمر , فكان أشبه برجل يحاول أن يوقف قطارا مسرعا على حين بغتة , وانتهت مرافعته كذلك إلى إدانة النقراشي , فهو فئ نظره قد أخطأ عندما أصدر قراره بحل الإخوان المسلمين , أخطأ " كرجل سياسي , وكرجل مسئول عن الأمن , وكرئيس وزارة ديمقراطية " كما أنه تجاوز السلطات التي تخولها له ألأحكام العرفية بمصادرة أموال الإخوان المسلمين , فجاء اغتياله نتيجة حتمية لهذا التصرف الاستفزازي .

ولنتتبع الآن تاريخ علاقة الإخوان المسلمين بالنقراشي لنقف على حقيقة هذه الاتهامات . لا نعلم على وجه الدقة طبيعة هذه العلاقة , قبل أن يتولى النقراشي رئاسة الوزارة في عام 1945 عقب اغتيال أحمد ماهر , ولكت يمكننا أن نقرر أن حكم النقراشي كان بمثابة " المحنة الكبرى " بالنسبة للإخوان على حد التعبير الذي استخدموه , فقد بدأ هذا الحكم باعتقال حسن البنا وأحمد السكري وعبد الحكيم عابدين , بناء على الشك فى ضلوع جماعة الإخوان في مقتل أحمد ماهر , حيث كان القاتل الذي كان ينتمي إلى الحزب الوطني مواليا لهذه الجماعة , وبعد هذا الاعتقال الذي لم يدم لفترة طويلة توجه حسن البنا لزيارة رئيس الوزراء , ليقدم له تعازيه في وفاة أحمد ماهر , وليشرح له طبيعة دعوته . ويتضح من أول اتصال معروف بين الطرفين أن البنا هو الذي سعى إلى النقراشي وليس العكس . ومن ناحية أخرى سارع النقراشي بإصدار أوامر بإخضاع نشاط الجماعة وجميع تنظيماتها للمراقبة الدقيقة , وهى السياسة التي اتبعها طوال فترة حكمه وفق كلام ميتشيل , فهي إذن علاقة لا تتسم بالعطف ولا بالمحاباة , ولقد أكدت الأيام للنقراشي أن حذره في مكانه , حيث شهد عام 1946 حادثة كوبري عباس التي تحدثنا عنها طويلا ولقد كشفت تقارير وزارة الداخلية التي رفعت إلى النقراشي عن دور الإخوان فيها .

ولكن موقف الإخوان من حكومة النقراشي قد اتسم بالمهادنة من جانبهم , فأيدوا قراره بتدويل القضية المصرية, وقامت جوالة الإخوان باستعراض في القاهرة في 20 يونيو 1947 " لبعث الروح في الشعب " وفق تعبير إحدى قيادتهم , فتصدى لهم البوليس لمنعهم من مواصلة استعراضهم وهكذا يتضح من شهادة " شاهد من أهلها " أن اتهام الحكومات المختلفة بمحاباة الجوالة لا ينطبق على حكومة النقراشي ولكن ذلك الوقف غير المشجع من الحكومة لم يفت في عضد الجماعة التي أوفدت مبعوثها مصطفى مؤمن , وهو بالمناسبة نفس الشاب الذي لعب دورا قياديا في مظاهرة كوبري عباس في عام 1946 , إلى مجلس الأمن دعما لموقف النقراشي , وقام مصطفى مؤمن بحركة مسرحية فور انعقاد الجلسة الأولى لمجلس الأمن للنظر في القضية المصرية , وعلى الرغم من الأوامر التي صدرت بإخراجه من القاعة , فقد شرع في إلقاء بيان اضطر أن يستكمله خارج القاعة بعد أن تم إخراجه بالقوة . ويبدو من حرصه على الإشارة إلى أنه إنما يتحدث بالنيابة " عن الإخوان المسلمين " دأب هذه الجماعة على الدعاية لنفسها , ونجد أن أحد الإخوان يأخذ على النقراشي أنه لم يحفل بتكريم هذا الشاب . حيث إن مصطفى مؤمن توجه إلى القنصلية المصرية بعد الانتهاء من مهمته طالبا المساعدة ليتمكن من العودة إلى مصر بعد أن أنفق ما لديه من نقود , فتكفلت القنصلية بمصاريف سفره , وهو الأمر الذي عرض القنصل للتأنيب , حيث إن تصرفه لم يلق استحسانا من جانب النقراشي . لا ندرى مدى صحة هذه الرواية , لكنها في رأينا متمشية مع سلوك النقراشي المعهود عنه , فالنقراشي رجل العمل الصامت , لا يميل بطبعه للتصرفات الانفعالية , كما عهد عنه الحرص الشديد على المال العام , فلقد قال لي الدكتور عزيز سعد الدين إنه كان متشددا في استخدامه للسيارة التي وضعتها الحكومة تحت تصرفه عندما تولى الوزارة , فكان لا يستخدمها إلا للانتقالات المتعلقة بصميم عمله , وكان يصطحب ابن زوجته أحيانا في رحلته إلى كلية الهندسة عندما كانت تتوافق مواعيدهما , ولكن كان على الطالب عزيز سعد الدين أن ينزل في ميدان الأوبرا حتى لا تضطر السيارة إلى الانحراف عن مسارها , ليلحق بإحدى المواصلات العامة , ولم يشذ النقراشي عن ذلك إلا مرة واحدة , في يوم مطر , والمواصلات العامة مكتظة بالركاب , فقام بتوصيل الطالب حتى باب الجامعة , وأضاف الدكتور عزيز سعد الدين ضاحكا : هل تعتقدين أن خروجه على هذه القاعدة الصارمة من باب العطف ؟ أبدا بل من باب الالتزام حيث إنه أراد لي ألا أتأخر عن المحاضرة .

وعن عودة رئيس الوزراء من مجلس الأمن كان الإخوان في استقباله وسط الجماهير الغفيرة التي احتشدت لدى عودته من الولايات المتحدة ,وقد ألهب موقف مجلس الأمن من القضية المصرية المشاعر , ورسخ الشك في نوايا الدول الكبرى . وهى المشاعر التي أججها قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين الصادر في 29 نوفمبر 1947 .

ولقد كان هذا العام عاما فاصلا بالنسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين , حيث شهد أزمة حادة في صفوف الإخوان , وهى الأزمة التي كلفت حسن البنا وكيليه : الدكتور إبراهيم حسن , ثم أحمد السكري الذي كان يعمل على تنسيق الجهود مع الوفد , في الوقت الذي أراد فيه حسن البنا للإخوان أن يشايعوا القصر , وقد أشيع أن سبب المواجهة بين الرجلين اللذين تلازما لفترة طويلة هو قبول الجماعة لمبلغ من المال من الانجليز , أما ألازمة الأولى فسببها الشكوى التي رفعها إلى حسن البنا بعض الأعضاء بخصوص سلوك عبد الحكيم عابدين , السكرتير العام للجماعة , وزوج شقيقة المرشد العام , حيث شبهوه براسبوتين , متهمين إياه بأنه لم يراع حرمة بيوت الإخوان التي دخلها , وقد كلف حسن البنا الدكتور إبراهيم حسن بإجراء تحقيقات سرية حول هذه الاتهامات , ولكن الأخبار تسللت إلى سائر الأعضاء , مما دفع حسن البنا إلى تشكيل لجنة تتول التحقيق , وقد توصلت اللجنة إلى ضرورة فصل عبد الحكيم عابدين كإجراء " تطهيرا " بأغلبية ثمانية أصوات مقابل صوت واحد , ولكن حسن البنا لجأ إلى المراوغة , وكلف لجنة أخرى للقيام بتحقيق جديد انتهت منه إلى تبرئة المتهم مما نسب إليه باعتبارها أخطاء لا تعدو " اللمم " على حد قوله , مما أثار حفيظة الدكتور حسن إبراهيم , الذي انشق عن الجماعة , وهكذا انفصلت عن الجماعة شخصيتان ذواتا ثقل تنتميان إلى الرعيل الأول .

ولكن على الرغم من عوامل الضعف هذه اكتملت بنية النظام الخاص فى نفس هذا العام , فإذا كان عدد أعضائه قد ظل محدودا إلى حد بعيد إلا أنه تم تحديد القواعد المؤسسة له ووظيفة كل عضو فيه , كما ارتفع مستوى تدريبه بسبب الاستعانة بعدد من ضباط الجيش , ويضيف ميتشي أنه من الراجح أن هؤلاء الضباط هم أنفسهم الذين قاموا بثورة 1952 , وفى أكتوبر 1947 أخطر حسن البنا جميع شعب الإخوان بضرورة الاستعداد للجهاد .

ولقد وجد الإخوان في الأحداث السابقة لحرب فلسطين عام 1948 فرصة سانحة لكي يمارسوا نشاطهم الذي ظلوا يعدون له إعدادا دءوبا في الخفاء , ولقد رأينا من قبل كيف جمعت الأحداث الإخوان بمفتى فلسطين , وقد استؤنفت العلاقات عقب الحرب العالمية مباشرة , كما توطدت علاقة حسن البنا بأمين الجامعة العربية في نفس الفترة , وتم إيفاد بعثات من الإخوان لتدريب الجوالة الفلسطينيين , وكان أبرز من ساهموا بهذا الدور هو محمود لبيب , الذي شارك أيضا فئ التدريب العسكري لفئات من المدنيين , وذلك حتى طلبت منه السلطات البريطانية مغادرة فلسطين . وساهم حسن البنا مع عدد من الساسة المصريين مثل صالح حرب رئيس جماعة الشبان المسلمين ,ومحمد على علوبة في تشكيل لجنة لجمع المال والسلاح للمتطوعين , وهى اللجنة التي عرفت باسم " لجنة وادي النيل " , التي مثل فيها الإخوان مصطفى مؤمن , رجل المهام الصعبة

وكان رأى الحكومة النقراشي قد استقر فئ بادئ الأمر كما أسلفنا على الامتناع عن دخول الجيش النظامي الحرب,والاكتفاء بإعداد المتطوعين ,وقد وافق النقراشي على مضض على تدريب المتطوعين من الإخوان المسلمين , على أن يتم التدريب في المعسكرات التي أعدتها الحكومة لهذا الغرض , إلا أنه كان يتم تدريبهم أيضا في الخفاء بواسطة النظام الخاص بعيدا عن أعين الحكومة .. والواقع أن الحكومة كانت تغض البصر عن دور الإخوان إلى فلسطين قبل أن تدخلها كتيبة المتطوعين تحت قيادة البكباشي أحمد عبد العزيز , ولعل أبرز دور لعبه الإخوان المسلمون في حرب فلسطين هو الإمدادات التي كانوا ينقلونها للقوة المصرية المحاصرة في الفالوجا بعد انهيار الهدنة الثانية في أكتوبر 1948 . ولا شك أن الإخوان أبلوا بلاء حسنا في فلسطين , فقد كانت حرب فلسطين في نظرهم حربا دينية , ولكنهم عادوا من الميدان أشد خطورة من ذي قبل ,وقد تدربوا على فنون وأساليب القتال , كما أنهم أفلحوا في تهريب الأسلحة إلى مخابئهم داخل القطر , كما أنهم نسبوا لأنفسهم الأعمال البطولية التي قام كذلك غيرهم منالضباط والمتطوعين المصريين, وقد طالب الإخوان النقراشي بإمداد المحاصرين في الفالوجا بمزيد من المتطوعين , إلا أن النقراشي رفض .

لماذا هذا الموقف الذي قد يبدو متعنتا؟

لعل في أحداث العنف التي شهدتها مصر منذ مقتل أحمد ماهر في فبراير سنة 1945 , والتي أخذت موجتها تتزايد بشكل مطرد ما يبرر هذا الموقف ,حيث إنه يبدو أن النقراشي لم يوافق على مشاركة الإخوان في فلسطين إلا مضطرا تحت ضغط الظروف بالغة الدقة التحى كانت تمر بها البلاد : " وإن المرء ليتساءل كيف استفحلت هذه الحركة المفزعة ,في حين أن البلاد فئ إبان ثورة 1919 التي بلغ فيه الالتجاء إلى وسائل العنف مداه لم تشهد مثل هذه الاعتداءات الفردية المفزعة "

فقد تعاقبت أعمال العنف ضد الانجليز واليهود والمصريين كذلك , وبدأت هذه الموجة باعتداءات على الانجليز في المدن الكبرى أولا , ثم في منطقة القنال بعد انسحاب الانجليز من المدن الكبرى , فكان يتم إلقاء القنابل على سيارات الانجليز , وعلى معسكرات ,كما ألقيت عبوة ناسفة في فندق الملك جورج بالإسماعيلية يوم الاحتفال بعيد الميلاد , وحمل الانجليز حكومة النقراشي مسئولية الإخلال بالأمن , وكذلك مسئولية القبض على الجناة , مما سبب للحكومة حرجا كبيرا , ويقول ميتشيل إن هذه الاعتداءات كانت بمثابة التدريب أو الاختبار العملي لجماعة الإخوان . وفى مايو 1946 , وفى مايو 1047 كذلك دمر جزئيا داران للسينما بالقاهرة : سينما مترو وسينما ميامى , وسقط في الحادثين ضحايا من المصريين ,وفى يناير 1948 ضبط البوليس في المقطم 165 قنبلة, وكذلك صناديق تحوى أسلحة , بعد أن اشتبك مع مجموعة من الإخوان كانوا يتدربون في هذه المنطقة , وتعلل الشبان , وعلى رأسهم سيد فايز – أحد المتهمين فيما بعد في قضية اغتيال النقراشي – الذين تم القبض عليهم بأن الأسلحة والذخيرة قد جمعت في هذا المكان من أجل فلسطين وقد تم الإفراج عنهم فورا . وتصاعدت أعمال العنف مع اغتيال القاضي أحمد الخازندار في 22 مارس , وكا القاضي قد سبق له أن الحكم بالسجن على أحد الإخوان لاعتدائه على جنود بريطانيين بناد في الإسكندرية ,وقد تم القبض على القاتلين , واتضح أنهما للنظام الخاص للإخوان ,وقد تم استجواب حسن البنا , ثم أخلى سبيله للافتقار إلى الأدلة , وحكم على القاتلين في 22 نوفمبر بالأشغال الشاقة , ودأب البنا منذ هذا التاريخ على الادعاء بأنه فقد السيطرة على النظام الخاص الذي انفرد به عبد الرحمن السندي .

وعقب دخول الجيش المصري في فلسطين في مايو 1948 نفت بعض المنازل في حارة اليهود بالقاهرة ردا على مذبحة دير ياسين " وفقا لأحد الإخوان المسلمين البارزين , بغض النظر عما يقرره الدين الحنيف بأن " لا تزر وزارة وزر أخرى" ثم نسف محلى شيكوريل وأور يكو , كما دمر في 22 سبتمبر من نفس العام جزءا من حاري اليهود القرائيين , وفى 12 نوفمبر دمر انفجار آخر شركة الإعلانات الشرقية لأنها وفق نفس العضو البارز في جماعة الإخوان " ساعدت النشاط الصهيوني في ذلك الحين " بينما رأى البعض أن الغرض كان تدمير شركة منافسة لشركة مملوكة للإخوان , ولعلهما ضربا عصفورين بحجر واحد . وكان هناك في كل مرة خسائر جسيمة في الأرواح والمنشآت , ولم يتم ضبط الجناة , وفى أكتوبر تم الكشف عن مخبأ للأسلحة والذخيرة بالإسماعيلية في عزبة الشيخ محمد فرغلي قائد كتائب الإخوان في فلسطين .

وفي هذا التطور المثير للأحداث اللاهثة حال الحظ رجال البوليس في الاهتداء إلى مجموعة من الأوراق والمستندات والمذكرات غاية في الأهمية , كشفت عن خبايا النظام الخاص, فقد أوقفت دورية من رجال البوليس سيارة جيب استرعت انتباههم لأنها محملة بأقفاص خشبية , ولا تحمل لوحة معدنية , وقد هم رجال السيارة بالفرار , إلا أن المارة أوقفوهما وتم القبض كذلك على رجل يحمل حقيبة , ويبدو أنه كان على موعد مع المشتبه فيهما , وبقيام البوليس بتفتيش مسكن المتهم الثالث أسفر الأمر عن القبض على 32 شخصا , والتحفظ على الأوراق والمستندات والمذكرات الموجودة بالشقة

وفي خلال هذه الأحداث كان حسن البنا خارج القطر المصري في رحلة حج , عاد منها ليتم القبض عليه في 28 نوفمبر , بناء على أدلة عثر عليها في السيارة الجيب , ومرة أخرى أخلى سبيله ليسعى من خلال علاقاته العديدة إلى محاولة تخفيف حدة التوتر في العلاقة بين الإخوان المسلمين والحكومة

ثم في 4 سبتمبر قتل سليم زكي حكمدار القاهرة الذي ألقيت عليه قنبلة من سطح كلية الطب بينما كان على رأس البوليس ترابط أمام الكلية , وقد كانت مجموعة من الطلبة قد اعتصمت بأعلى مباني الكلية , وأخذت تقذف البوليس بكل ما تقع عليه يدها من الحجارة , وقطع الخشب , وقد ألقوا بقنابل انفجرت إحداها فقتلت سليم زكي , وقد نسب هذا الحادث إلى الإخوان , فأصدر الرقيب العام أمرا بتعطيل جريدتهم الرسمية

وكانت المقدمات تنذر بالنتيجة ؛ فعاود حسن البنا مرة أخرى سعيه المكوكي للاتصال بمن يعرفهم من المسئولين , لعله يستطيع أن يوقف عجلة الأحداث , حتى أنه حاول الاستعانة بالملك الذي رفع إليه خطابا في الخامس من ديسمبر 1948 يستعديه على النقراشي , فهو يطلب منه إقالة النقراشي , حيث يقول " إن النزاهة وطهارة اليد لا تكفي وحدها " لمواجهة " الأحداث الجسام " التي يشهدها العالم في ذلك الوقت ؛ فحكومة النقراشي – على حد قوله – اتبعت سياسة مترددة إزاء الأزمة الفلسطينية , ووقفت عاجزة أمام السياسة البريطانية الانفصالية , ويتسم هذا الخطاب بالتخبط ؛ فمن ناحية يقر المرشد العام بنزاهة النقراشي ومن ناحية أخرى يشكك في نواياه , حيث يقول:

" ولا أدري لحساب من يقوم دولة رئيس الحكومة بهذه المهمة ويحمل هذه التبعة الضخمة أمام الله وأمام الناس وفي التاريخ الذي لا ينسى ولا يرحم "

وينفي بالطبع المرشد العام أية علاقة بالإخوان بمقتل حكمدار القاهرة , فيقول إنه كان " معروفا بعطفه على حركتهم ودفاعه عن هيئتهم "

وعندما تفشل محاولة البنا اليائسة , يغير خطته تغييرا جذريا في غضون بضعة أيام , فيتوجه في يوم 8 ديسمبر وعندما تفشل محاولة البنا اليائسة , يغير خطته تغييرا جذريا في غضون بضعة أيام , فيتوجه في يوم 8 ديسمبر إلى ديوان وزارة الداخلية , حيث يقابل عبد الرحمن عمار وكيل الوزارة بحجة الإفضاء إليه بأمور هامة , وقال إنه قد علم أن الحكومة أصدرت قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين , أو أن هذا القرار وشيك , وقال إنه يريد أن يبلغ رئيس الوزراء بأنه قد عقد العزم على " ترك الاشتغال بالشئون السياسية " , وأنه كفيل بتوجيه رجاله في كافة الجبهات بالسير على مقتضى هذا الاتجاه كما أخذ مرة أخرى يترحم على سليم زكي , وأثنى على نزاهة النقراشي " وحرصه على خدمة وطنه وعدالته في كل الأمور " وأبدى رغبته في مقابلته لإزالة أسباب الجفوة التي أثارها الوشاة , ثم " جعل يبكي بكاء شديدا ويقول إنه سيعود إلى مقره في انتظار تعليمات دولة رئيس الوزراء "

ولكن كان تلاحق الأحداث أسرع من مجهوداته , إذ تقدم عبد الرحمن عمار بك إلى النقراشي بمذكرة فيها وقائع عديدة من القتل والنسف والتدمير التي ارتكبها أفراد هذه الجماعة , وقد اشتملت مذكرة الأمن على ثلاثة عشر اتهاما وعلى رأسها تهمة السعي إلى الوصول إلى الحكم وقلب النظم المقررة في البلاد بالقوة وإرهاب .

ففي 8 ديسمبر أصدر النقراشي , بصفته حاكما عسكريا أمرا عسكريا بحل جماعة الإخوان المسلمين وشعبها وغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها وضبط أوراقها ووثائقها وسجلاتها ومطبوعاتها , ومصادرة أموالها , وفور صدور هذا الأمر الذي صدر في الحادية عشرة مساء حاصر البوليس المركز العام للإخوان المسلمين , وتم القبض على كل من كان موجودا به , فيما عدا المرشد العام , وتم تعيين مندوب خاص من وزارة الداخلية لإدارة ممتلكات جماعة الإخوان المسلمين لصالح وزارة الشئون الاجتماعية .

لم ييأس البنا بل واصل جهوده ومساعديه دون أن يأبه لتناقض أقواله , فالوسيلة لا تهم , فهو تارة يؤكد أنه كفيل بتوجيه الإخوان الوجهة التي يراها , وتارة أخرى يشكو من عجزه وافتقاده السيطرة على هذه الجماعة , فيتصل في إطار هذه الجهود بأحد أقطاب الأحرار الدستوريين ,وهو إبراهيم دسوقي باشا أباظة , فيشكو له ممن أسماهم بالإرهابيين , قائلا إنه زار الكعبة ودعا الله أن يخلصه من هؤلاء الذين خرجوا عن طوعه , وأضاف أنه لا يبغى أكثر من استمرار صدور جريدتهم اليومية , والإبقاء على مشروعاتهم الخيرية , وينقل إبراهيم دسوقي أباظة رجاء حسن البنا إلى النقراشي الذي يشكك في نوايا الشيخ بقوله :

" إذا كان جادا فيما يقول فليوافينا بأسماء الخوارج الذين يرتكنون الحوادث أولا , وأنا على استعداد للاستجابة لمطالبه "

كان النقراشي يعلم أن مصيره المحتوم هو القتل , وقد سقط على الدرب من قبل زميل الكفاح أحمد ماهر , وتصاعدت موجة العنف تصاعدا لم تشهده البلاد من قبل . ولقد عثرنا ضمن مقتنياته على درع واق لم يلبسه قط , فقد كان المحارب القديم الذي كان قد صدر ضده من قبل حكم بالإعدام ,قد خبر الموت , فكان على يقين بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له , وكان يأمل كما صرح لمصطفى أمين في حديث نشرته " أخبار اليوم " عقب وفاته أن يعتزل السياسة ليتفرغ لتربية ابنه وابنته اللذين رزق بهما بعد أن تقدم به السن , ولكن كان أمامه واجب لا مناص منه بعد أن وقف على خطورة الكيان الذي تصدى له , وكان عليه أن يمضى قدما .

فى صباح الثلاثاء 28 ديسمبر 1948 وصل النقراشي إلى وزير الداخلية وصعد في درجات المدخل يحيط به كالمعتاد الحرس , وقبيل وصوله إلى المصعد , انطلقت ثلاث رصاصات من المختلف استقرت في ظهره , فسقط مضرجا بدمائه . وكان القاتل , الذي كان متخفيا في زى ضابط , يدعى عبد المجيد أحمد حسن , وكان طالبا بكلية الطب البيطري , وكان قد كلفه الجهاز الخاص بالقيام بهذه المهمة ردا على قرار حل جماعة الإخوان المسلمين . ويقول عبد الرحمن الرافعي إن هذا الطالب بالذات كان مطلوبا اعتقاله في زمرة شبان ارتابت فيهم السلطات المختصة , ولكن النقراشي رفض اعتقاله قائلا : إني لا أحب التوسع في اعتقال الطلاب , إنني والد ولى بنون , وأنا أقدر أثر هذه الاعتقالات في نفوس الآباء والأمهات .

ويضيف المؤرخ الكبير أن والد الجاني كان موظفا بوزارة الداخلية ,وتوفى فقرر النقراشي المعلم والمربى تعليم ابنه بالمجان .

لم يخطى النقراشي عندما أصدر قراره التاريخي بحل جماعة الإخوان المسلمين , فلقد حارب التعصب الأعمى الذي ما زلنا نعانى حتى الآن , وحارب قوة ضاربة تنخر في المجتمع , وتستغل جهل بعض الفئات منه , وتهدد دعائم الحكم وسلامة الوطن , وقدم في المقابل حياته رخيصة على صرح الوطن , بل وعلى صرح الدين المفترى عليه الذي أرادت هذه الجماعة وقد استفحل خطرها أن تصادره لنفسها , وعلى صرح المثاليات التي كان حارسا لها كما قالت بحق إحدى الوثائق البريطانية , بل إننا لنعتقد أنه لم يستخدم كل صلاحياته كحاكم عسكري , فهو لم يأمر بحل جماعة الإخوان المسلمين إلا عندما تجمعت لديه المستندات اللازمة لإدانتها إدانة دامغة , وبعد مصرع المستشار الذي اغتيل لمجرد أن أحكامه لم ترق للجماعة , وهو الأمر الذي فزع له النقراشي أشد الفزع , فالنقراشي هو رجل العمل الصامت , وهو أيضا الرجل المتأني الذي ما كان ليقبل على خطوة كان يعلم تماما خطورتها وتداعياتها إلا عندما تكتمل لديه الصورة بشكل لا يدع مجالا للشك .

ونحن لا نرى أمامنا كما يدعى أحمد حسين قطارا مسرعا حاول النقراشي إيقافه على حين بغتة , بل نرى قطارا يسير في اتجاه محدد نحو هدف معروف قد استوقف في أكثر من محطة , عندما اعتقل حسن البنا عقب اغتيال أحمد ماهر , وعندما تم استجوابه عقب حادثة السيارة الجيب المعروفة , وعندما تم العثور اكسر من مرة على الأسلحة والذخائر التي كان يدخرها كنتيجة للمراقبة الدقيقة التي فرضها النقراشي على جماعتهم فور توليه مقاليد الحكم .

ويتضح مما سبق أنه كان من الطبيعي أن يصطدم النقراشي الذي كان يريد لبلاده أن تتبوأ مكانتها وسط دول العالم بجماعة سلفية أرادت لنفسها أن تظل بمعزل عن العالم المعاصر , ثم كان من الطبيعي بل من الحتمي أن يصطدم النقراشي وهو ابن ثورة 1919 وممثل حزب ليبرالي بجماعة يتسم مذهبها بالجمود والعنف , وهو الأمر الذي يخالف تاريخ مصر الإسلامية الوسطية التي خاضت الحروب الصليبية بمسلميها وأقباطها رافعة شعار الهلال والصليب الذي استلهمته فيما بعد ثورة 1919 أما الإخوان المسلمون فلا يتسع فكرهم ليشمل الآخر الذي يظل بالضرورة مهمشا حتى أننا نسمع اليوم أصوات منهم تنادى بوجوب دفع الجزية بالنسبة للأقباط ,بما في ذلك من خطورة على نسيج هذا الوطن وسلامته.

الخاتمة

وهكذا تحققت نبوءة العقاد عندما أهدى إلى صديقه الأثير كتابه " أبو الشهداء الحسين بن على " عام 1944 بهذه الكلمات التي تحمل معنى الاستشفاء والتنبؤ بالمصير الذي لاقاه النقراشي بعد أربع سنوات من هذا الإهداء :

" إلى الرجل الذي عرف التضحية والاستشهاد , الأستاذ محمود فهمي النقراشي باشا , أقدم ذكرى أبى الشهداء "

ولم يكن ذلك غريبا على العقاد الذي يعرف من طبيعة الرجل ما يستطيع به أن يدرك أن من كان مثل النقراشي فنهايته هي الاستشهاد , بل إنه قد يدرك أيضا أنه لو كان للنقراشي أن يختار نهاية لحياته ما اختار إلا الشهادة .

ولقد كانت انطلاقة النقراشي من داخل مجتمع يتعهد بالرعاية للنابهين من أبنائه , حيث أوفد النقراشي في بعثة بفضل رعاية سعد زغلول الذي كان وزيرا للمعارف وقتئذ , وقد عنى بأمر التلميذ الذي شد انتباهه دون أي معرفة سابقة , وعاد النقراشي ليتعرف في الجامعة على لفيف من الشخصيات لعبت دورا مؤثرا في الحياة العامة المصرية بعد ذلك , وفى مقدمتها أحمد ماهر , وإبراهيم عبد الهادي وعبد الرحمن الرافعي وإبراهيم دسوقي أباظة.. وتوطدت صلته بهم من خلال الحركة الوطنية , كما توطدت صلته فيما بعد بالعقاد عند تكوين حزب الوفد , وعند انشقاقهما عن هذا الحزب وتكوين الهيئة السعدية.

أصبح النقراشي عنصرا بارزا في الجهاز السري لثورة 1919 ليخرج إلى الحياة العامة بعد ذلك في رحاب سعد زغلول , الذي كان النقراشي يكن له إعجابا كبيرا إلى جانب شعوره بالعرفان تجاهه . ولقد شطر انشقاقه عن الوفد حياته إلى قسمين واضحي الملامح : فهو في أول حياته الثائر المتآمر , وهو طريد السلطة الذي كان قاب قوسين أو أدنى من حبل المشنقة , هي التجربة التي جعلته يألف الموت ولا يأبه له , وكان طوال هذه الفترة يعمل بحقل التعليم مدرسا ثم ناظرا , ثم هو في الشق الثاني من حياته يتدرج في المناصب الحكومية محافظا ثم وكيلا لوزارة الداخلية ثم وزيرا للداخلية , فالمعارف فالخارجية ليتولى من كان يوما طريد للسلطة زمام الحكم , وينه حياته وهو رئيس للوزراء .

وقد يبدو من هذا العرض المختزل أن هناك تناقضا صارخا بين المرحلتين . ولا شك أن المفاوضات التي صبغت بصبغتها المرحلة الثانية من حياة النقراشي قد أكسبت شخصية النقراشي بعدا جديدا فالمفاوضة هي أخذ وعطاء , أي ممارسة تتناقض تماما في جوهرها مع المقاومة السرية والشعبية التي كان النقراشي أحد مهندسيها , وقد أوجدت لأول مرة في تاريخ مصر الحديثة , على حد قول الأستاذ محمد شفيق غربال , الرجال المشتغلين بالسياسة , وهو جيل من الساسة والدبلوماسيين على درجة رفيعة على المستوى العالمي تذخر بهم وزارة الخارجية والحياة العامة في مصر .

وإذا ما كان النقراشي قد عرف في التاريخ بالأمانة والنزاهة إلى الحد الذي وصفته إحدى الوثائق البريطانية بأنه " حارس المثاليات المصرية " إلا أن كثيرا من المؤرخين ينعتونه فئ نفس الوقت بضيق الأفق , وبالتعنت , وهو ما يتنافى مع المفهوم الشائع لرجل السياسة , ولذلك رأينا أن نناقش مفهوم السياسة ذاتها , لنراجع بعد ذلك الفكرة الشائعة عن النقراشي , حيث ينبغي على كل باحث ألا يقبل بالأفكار المسبقة دون تمحيص , وإرجاع الأشياء إلى أصولها الأولى على ضوء المنظور الزى اختاره لإجراء بحثه, وعلى ضوء المعلومات التي توافرت وتجمعت لديه, فالأفكار المسبقة هي أيضا أفكار متواترة تناقلها دون دراسة فالسياسي بمعناه الشائع , وهو المعنى الذي ساهم مفكرون من أمثال مكيافللى في ترسيخه ,وهو من يتسم بالمرونة, وهى الصفة التي تقترن بالمراوغة , والسياسي هو من يجيد فن الكر والفر , الذي يمكنه أن يتفادى أسباب المواجهة الصريحة أو الصدام ,فنجد أن مكيافللى في كتابه ذائع الصيت يقرر أن " الأمير " ينبغي عليه التحلل من الوعود والعهود التي قطعها على نفسه , إذا كان في تمسكه بها ما يتعارض مع مصلحته , فالسياسي على حد قوله بشر يعيش في عالم من الأشرار ,كما أن السياسة من هذا المنظور هي تغليب الوسائل , أيا ما كانت هذه الوسائل , في سبيل الغايات الكبرى .

ولعل – في الحقبة التي تناولتها هذه الدراسة – كان علي ماهر هو السياسي الذي جسد أداؤه إلى حد كبير هذا المفهوم للسياسي , فعلي ماهر " رجل كل العصور " مستشار الملك الوثيق الصلة به , ثم مستشار الضباط الأحرار الذين أطاحوا بنظام كان هو أحد أدواته , فقد وصفته بعض الدوائر بالمصعد الذي يرتفع بالصاعدين , ليهبط بعد ذلك بالهابطين ,ولقد لمسنا من خلال سردنا لتطورات الموقف الرسمي المصري من الحرب العالمية الثانية , كيف حير علي ماهر الانجليز بمواقفه المتذبذبة , وقد انتهى الأمر به وبهم إلى فقدان أدنى ثقة في تصريحاته وتعهداته إزاءهم , ولا شك أن الثقة عنصر جوهري من العناصر التي تؤهل السياسي لأن يلعب دورا فعالا على المسرح السياسي , أما أن يفرغ الكلام من مضمونه فإن في ذلك ما يؤدى في النهاية إلى " حرق " ورقة السياسة لتصبح غير جديرة بالثقة وعلى النقيض من ذلك نجد شخصيات لن تنعم بشعبية كبيرة مثل عدلي يكن وعبد الخالق ثروت قد حظيت على الرغم من ذلك بثقة الطرفين المصري والبريطاني , فرشحتهما تلك الثقة لأن يلعبا دورا بارزا ومؤثرا في تاريخ المفاوضات المصرية – البريطانية .

فالسياسة بمعناها الواسع هي فن الممكن , وهى أيضا القدرة على استشفاف الأهداف الوطنية البعيدة , وهى أيضا فن المضاربة على المستقبل والإمكانية العملية لبلوغ هذه الأهداف في الواقع الفعلي , ولعل هذه التعاريف للسياسة لها ما لها على أرض الواقع , إلا أنها تختلف عن مفاهيم رجل الدولة في تغليب المصالح العليا للشعوب والوطن على المكاسب السياسية الآنية والنظرة الحزبية الضيقة التي قد تضحى بأغلى المصالح الوطنية في سبيل المصالح الحزبية الضيقة , والمنافسة غير المشروعة بين الأحزاب , وقد كان النقراشي في نظرنا رجل دولة .

ولعل في موقف النقراشي من بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية , وهو الموقف الذي ظل السعديون متمسكين به في مواجهة الأحزاب الأخرى , وفى مواجهة الرأي العام كذلك ما يبلور هذا المفهوم , وما يدفع عن النقراشي كذلك ما أشيع عنه من " ضيق الأفق " فقد راهن رجالات هذا الحزب على انتصار بريطانيا في الحرب لما كان لهذه الدولة من مقومات ترجح هذا النصر , وقد تطلعوا من خلال هذه الحسابات البعيدة النظر إلى مكاسب عديدة للوطن , كتدريب الجيش المصري وتسليحه , خاصة أن الوضع في الدولة العربية المجاورة – فلطين – كان قد تدهور بشكل ينذر بصدام قريب , وكانضمام مصر للمنظمة الدولية الوليدة , وكذلك لزيادة ثقل مصر عند مطالبتها بالاستقلال .

وكان النقراشي كذلك رجل دولة متحررا من التعصب الحزبي عندما ساند صدقي في مفاوضاته الشهيرة مع بيفن , وذلك على الرغم من فتور العلاقات بين الرجلين , وعلى الرغم من انه أذا كان قد كتب لهذه المفاوضات النجاح فان ذلك كان يعنى أن صدقي نجح , حيث فشل النقراشي وحزبه .

كما تتبعنا بعد ذلك موقفه من حرب فلسطين , فرئينا معارضته الشديدة لفكرة دخول مصر هذه الحرب على الغم من الحماسة الشعبية الجارفة , ثم رأيناه يتحول عن موقفه السابق عندما أمر الملك الجيش المصر بالتحرك , وقد سحب النقراشي استقالته التي كان أعدها اعتراضا على هذا القرار غير الدستوري , مؤثرا المصلحة العامة على مصلحته الشخصية , حيث انه كان واضحا للعيان أن بقاءه في الحكم في هذه الظروف هو من قبيل الانتحار السياسي ـ إلا انه قد اثر ـ مضحيا بنفسه ـ أن يتراجع عن هذه الاستقالة التي قد تعنى عند التمسك بها طعن الجيش المصري المحارب في ظهره والفاعلان بوضوح عن عدم الثقة في قدراته

وأخيرا يتبلور معدن رجل الدولة في موقفه الحازم الرادع من الإخوان المسلمين , وذلك على الرغم من انه في هذه الحالة لم يحظ بتأييد القصر من أنه هذه الحالة لم يحظ بتأييد القصر الذي كان خاضعا التاثير علي ماهر , وقد كان النقراشي يستطيع أن يترك التعامل مع هذا التاثير علي ماهر , وقد كان النقراشي يستطيع أن يترك التعامل مع يترك مع هذا الخطر الداهم الذي كان يهدد كيان الدولة لغيره , وهو الذي كان يأمل في التقاعد عند بلوغه الستين ليتفرغ لحياته الخاصة , إلا أن النقراشي لم يرض لنفسه أن يتهرب من المسئولية التي توجب على رئيس الدولة إن رئيس الدولة أن يتصدى لها بكل الحزم والقوة , خاصة وقد أصبحت كلا القيم التي جاهد من اجلها في الميزان

ومن واقع تتبعنا لشخصية النقراشي ولتاريخه نخلص إلى انه لم يكن هناك تناقض بين المرحلتين التي انقسم إليهما تاريخه السياسي , فلقد تأصلت القيم المؤسسة لثورة 1919 في النقراشي , وامتزجت بطبيعة المعلم الخاصة ليتمخض عن البوتقة نموذج فريد , فقد كان النقراشي على امتداد حياته كلها عدو للاحتلال , مقاوما له بالوسيلتين التي شرعهما مؤلف كتاب " الأمير " أن يجمع إلى جانب القوة التي هي من طبيعة الوحوش الكاسرة في الغاب , العقل والتعقل الذي يتميز بني الإنسان ؛ كما يبدو انه قد تبلور لديه مفهومه الخاص للسلطة نستشفه من مواقفه المختلفة , حيث انعكست سمة لازمته منذ نعومة أظافره على أسلوب ممارسته للحكم , فالسلطة من هذه الزاوية الخاصة مسئولية , وهى مسئولية ذات شقين : مسئولية الكلمة التي تدفع من ينهض بها إلى الإدراك أن الكلمة أمانة , وقد يفتقد النقراشي " النعومة " الدبلوماسية , ومع ذلك نلاحظ من خلال رصدنا لتصريحاته المختلفة محاولة جادة لتحرى الدقة مع انتفاء الألفاظ وفى التعبير , ولذلك أيضا اشتهر النقراشي بالصمت , حيث كان قليل الكلام , كارها للتصريحات الفضفاضة , وللسفسطة ,والشق الثاني لمفهوم المسئولية لدى النقراشي وهو القدرة على تحمل تبعات القرارات التحى يتخذها تحملا يذهب إلى أبعد الحدود , ولقد تجلى هذا المفهوم لمسئولية الحكم في قراره الجريء بحل جماعة الإخوان المسلمين عندما اتضح له بما لا يدع مجالا للشك أن تلك جماعة تتستر بستار الدين للوصول إلى الحكم , وبالأخص عندما قامت باغتيال قاض لم يرق لها الحكم الذي أصدره , وهو ما ينطوي على تهديد مباشر للشرعية . ولقد كان يدرك مدى الخطر الكامن وراء قرار حل الجماعة , ومع ذلك وقعه رغم كل المحاذير , ولعله لو قدرللنقراشى أن يختار لنفسه النهاية لما اختار إلا الاستشهاد تتويجا لحياته الحافلة بالأحداث وكأننا مع أمير الشعراء حين يقول :

يومي بأيام لكثرة ما مشت
الحياة وليلتي بليالي