إدارة الأزمة في الجماعة - حسن البنا أنموذجا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إدارة الأزمة في الجماعة - حسن البنا أنموذجا


الإمام حسن البنا

مقدمة

تدرج مفهوم الأزمة وفق تطور الأمم ومدى فهمها لطبيعة الحادثة التي تمر بها، فقد نشأ هذا المصطلح كتعبير عن أزمة طبية لدى المجتمع الإغريقي القديم، واستمر كذلك حتي العصور الوسطى في القارة الأوربية حينما حدثت أزمة بين الكنيسة والدولة، وبحلول القرن التاسع عشر تواتر استخدامها للدلالة على ظهور مشكلات خطيرة أو لحظات تحوّل فاصلة في تطور العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولقد استعمل المصطلح بعد ذلك في مختلف فروع العلوم الإنسانية وبات يعني مجموعة الظروف والأحداث المفاجئة التي تنطوي على تهديد واضح للوضع الراهن المستقر في طبيعة الأشياء.

تقول الدكتورة عفاف عزت رفلة:

الأزمة ظاهرة إنسانية وجزء من نسيج الحياة، تنشأ في أية لحظة وفي ظروف مفاجئة نتيجة ظروف داخلية أو خارجية تخلق نوع من التهديد للجميع أو الأفراد، ويتحتم التعامل معها بحزم للقضاء عليها والحد من خسائرها وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية. (1)

و البحث في إدارة الأزمة هو أحد الأساليب العلمية لمواجهة المآزق والفتن حتى لا تحدث أزمة وسط أفراد المجتمع.

وإدارة الأزمات تعد واحدةً من أهم وأخطر الإشكاليات التي تواجه الحركة الإسلامية على وجه العموم، فالعمل الإسلامي سواء كان دعويًّا أو حركيًّا على المحك دائمًا وفي ظل غياب الأُطر المؤسسية القانونية لدول العالم الثالث فإن العمل الإسلامي شأنه شأن أي عمل يواجه أزمات أو يصطدم بعقبات إدارية أو أمنية أو سياسية حتى ولو حاول أن يعمل في ظل الأُطر القانونية القائمة.

القائمين على العمل الإسلامي في حاجةٍ إلى ما يمكن تسميته بـ"فقه إدارة الأزمات"، فإدارة الأزمة ليست سهلةً ميسورةً، ولكنها تُعد أحد أهم وأخطر عناصر العمل الإسلامي، فإذا لم يُحسن التعامل معها قد تجر على العمل ويلات كثيرة، فلا بد من تحليل أي مشكلة، ودراسة البدائل في ظلِّ الإمكانات المتاحة، والظروف القائمة، وحسابات الأضرار والمنافع واعتبارات المقاصد الشرعية، وتلمس الحلول المناسبة، دون تفريط في "الثوابت" الخاصة بالعمل أو الخروج عن أُطره. (2)

مفهوم الأزمة عند البنا

تشعب مصطلح الأزمة عند الإمام حسن البنا ما بين كونها أزمة اقتصادية أو أزمة سياسية، إلا أنه كان يسعى لوضع حلول عملية للأزمة الأخلاقية التي يبنى عليها جميع الأزمات، فيقول في هذا الصدد حينما تصارعت الدول الكبرى على خيرات الشعوب في محاولة للاستحواذ عليها لنفسها: ولكنها أزمة المبادئ والعقائد والنفوس والأرواح، أزمة (الإيمان) أيها الحائرون في طريق الإصلاح.

لو آمن الناس برقابة الله وعدالته واطلاعه عليهم ونظره إليهم وإحاطتهم بما يعملون، واستقرت في أنفسهم معرفة الله العلى الكبير لألهمهم هذا الإيمان يقظة في الضمير، وحياة في الشعور، وعدالة في التعامل، وتعاونا على مطالب الحياة، وبعدا عن الشرور والآثام. (3)

وحينما تحدث البعض عن وجود أزمة في المناهج التعليمية شاركهم الإمام البنا تضامنه في ذلك غير أنه أكد أن المشكلة ليست في المناهج لكنها في النفوس فيقول: ولا نظن أن أزمتنا "أزمة مناهج"، ولكنها "أزمة أخلاق" قبل كل شيء، وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾"الرعد: 11". ولسنا وحدنا الذين نشكو أزمة النفوس والأخلاق، بل إن الإنسانية كلها تعانى مرارة هذه الأزمة في كل أمة وفى كل شعب. (4)

إدارة الأزمة عمليا داخل الجماعة

جماعة الإخوان المسلمين جماعة دعوية ضمت جمع كبير من أطياف المجتمع على اختلاف لهجاتهم ومستوياتهم التعليمية والاقتصادية، وطبيعة الأماكن التي نشأوا فيها، ولذا ضمت العديد من أصحاب الأمزجة المختلفة، وطبيعيا أن تحدث أزمات في طبيعة تفسير النصوص أو تطبيقها وفق مستوى الفهم والالمام بالجوانب العلمية.

ولقد حاول الإمام حسن البنا أن يتعامل في كل مواقفة مع الأزمات – سواء داخل الجماعة أو مع غيرها – بالحكمة والتروي وتقديم المصالح العامة والمرسلة فوق المصالح الفردية، فيقول في أحد الأصول العشرين: ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة، وفى المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات. (5)

لقد مرت بالجماعة العديد من الأزمات الكبيرة التي حدثت نتيجة لسوء الفهم أو لرغبة شخصية في منصب وغيرها ومن ثم تعامل الإمام معها بأقصى درجات ضبط النفس حتى لا ينهار البنيان الذي عمل على بنائه، وخلال السطور القادمة نتعرف على بعض المواقف التي تعامل معها الإمام البنا.

جماعة الإسماعيلية ومحاولة نقض البناء

بعدما وضع الإمام البنا غرس الدعوة في مدينة الإسماعيلية واشتدد عودها على اكتافه أول خمسة من أهالي وعمال الإسماعيلية، أقبل عليها العديد من أعيان وعمال الإسماعيلية وغيرها من المدن المجاورة كأبي صوير وبورسعيد والسويس قبل أن تنتقل للمحمودية وشبراخيت، ومع مرور الوقت كان لابد لها من فريق عمل يدير دولاب العمل الدعوي وكان على رأسه الأستاذ حسن البنا، كما تشكل جمعية عمومية للجماعة قبل أن تتحول لمجلس شورى الجماعة فيما بعد.

لم يستمر مركز الدعوة في الإسماعيلية كثيرا لكنه سرعان ما انتقل إلى القاهرة مع انتقال الأستاذ البنا إليها في أكتوبر 1932م بعدما قرر مجلس إدارة الإخوان بالإسماعيلية اعتبار القاهرة هي "المركز العام للإخوان المسلمين".

كانت الأحداث التي سبقت نقل الإمام البنا تحمل بين طياتها كثير من الأحداث التي تنذر بنقل الأستاذ البنا إلى مكان أخر، ولذا طلب إخوان الإسماعيلية منه اختيار شخص مناسب يحل مكانه بعد انتقاله، فرشح لهم الشيخ على الجداوي وقدمه للجمعية العمومية للجماعة لترى رأيها فيه فوافقت عليه

غير أن الأمر لم يمر بسلام، حيث رفض هذا الترشيح أحدهم لكون الشيخ علي الجداوي يعمل النجار أما هو فيعمل مدرسا، وأنه يحسن يقرض الشعر ويجيد الخطابة والقول ويعرف الكثير وأكثر علما من الشيخ الجداوي، وقد وافقه على ذلك نفر من الجمعية العمومية

خاصة أنه ألبس الأمر ثوب الضحية حينما ذكر لأحد أعضاء الجمعية بأنه أحق بالمنصب من الشيخ الجداوي، وأن الأستاذ البنا هضم حقه رغم تضحياته وسبق جهاده في سبيل تلك الدعوة، فكيف يتخطاه الأستاذ، وتطاير الكلام بين جميع الإخوان حتى أصبح كالنيران في الهشيم، هذا غير الإشاعات التي أطلقوها على الجماعة.

وصلت هذه الأحاديث إلى مسامع الإمام البنا فجمع هؤلاء الإخوة عنده واطلع على مطالبهم التي كانت تتركز على تعيين أخ آخر غير علي الجداوي نائبًا للمرشد، فاتفق معهم الإمام على إعادة الانتخاب مرة أخرى ووجهت الدعوة لانعقاد الجمعية العمومية وأعلن فيها عن سبب الاجتماع وهو اختيار نائب للمرشد

وظهرت النتيجة وفاز الشيخ علي الجداوي بأغلبية ساحقة، غير أن الأمر لم يرق لهم فانتشروا وسط الناس ينشرون الاشاعات ويلقون بالتهم، مما جعل الإمام البنا يطلب من إخوانه أن يتعاملوا معهم بود فكان لهم مواقف دلت على عظيم الإخوان. (6)

لكنهم ما أن رأوا تلاحم الأفراد حول الأستاذ حسن البنا وجددوا الثقة فيه، حتى قرر أحدهم تقديم بلاغ ضد الإمام البنا أمام النيابة، والتي كان حصيفا فنصحه وكيل النيابة بأن يلتزم جماعته طالما هي موافقة على تصرفات مرشدها.

لكنهم لم يستلموا فقاموا بكتابة مذكرة تتضمن الكثير من التهم، وما أن علم الإمام البنا بذلك ذهب إليهم عن الغرض من ذلك قالوا: نريد أن ننوّر الرأي العام، فقال له الإمام: وهل تظن أننا عاجزون عن الرد على ذلك التقرير وتفنيد ما فيه وإظهار الحق لاسيما ونحن نملك الوثائق والمستندات ونملك الوسائل ولا تملكون.

ثم وقال له:

إني مستعد إلى التصافي والتسامح ونسيان الماضي وتعودوا إلى صفوف الإخوان إما على قاعدة التسامح وإما على قاعدة التحاقق، وفي الحالتين فأنا مستعد أن أسامحكم وتسامحوني أو تختاروا حكمًا ليحكم بيننا ثم يكون التصافي.
لكن احدهم نشر التقرير بعد طبعه في الزقازيق ووزعوه على الرأي العام بالإسماعيلية، فما كان من الأستاذ البنا إلا استخدام الحزم وكشف الحقائق بعدما استنفد كل وسائل الاصلاح معهم، ورد على تقريرهم بتقرير يتضمن الوثائق وإفادة التجار والأعيان.
بل إن الجمعية العمومية لإخوان الإسماعيلية - وعددها 196 عضو - اجتمعت وقررت فصل المجموعة التي عمدت لإثارة الفتنة ولم يستجيبوا للنصح أو يلتزموا بالمنهج العام الذي توافق عليه الجميع وهم عبد النبي سليمان وإبراهيم أيوب ومحمد الدسوقي ومصطفى يوسف ومحمود الجعفري وعبد العزيز غالي ومحمد إبراهيم وسليمان. (7)

أزمة شباب محمد

ما إن انتقلت الدعوة إلى القاهرة حتى اتسع نشاطها وزاد عددها وتكونت العديد من الشعب في بقاع كثيرة من القطر المصري، وتكون مكتب إرشاد لقيادة الجماعة، كما تشكل مجلس شورى عام للجماعة، ومع ذلك لم تسلم الجماعة من الأزمات التي واجهتها داخل الصف.

في صيف عام 1937م أعلن أربعة من الإخوة كان منهم الأستاذ محمد عزت حسن عضو مكتب الإرشاد وبعض الطلبة، اعلنوا اعتراضهم على سياسة الإخوان في بعض القضايا مثل تعامل الإخوان مع الحكومة حيث كان يرون أن الجماعة لابد أن لا تتعامل مع مثل هذه الحكومات، بالإضافة لإلزام جميع النساء بالحشمة.

إلا أن الإمام البنا تعامل مع الموقف بشفافية حينما أوضح أن الدعوة ما زالت غضة طرية وأنها لا تقوى على مواجهة الحكومات والصدام معها، بالإضافة أن الجماعة ليست وصيلة على جميع النساء فلا تستطيع أن تلزم أحد بمنهجها الإسلامي، وتستخدم معهم سبل الاصلاح التدريجي والدعوي.

ولحرص الأستاذ البنا عليهم جمعهم وجلس معهم وفند بالحسنى كل ما يثيرونه، غير أنهم لم يستجيبوا لذلك بل قاموا باحتلال المركز العام والضغط على من يحصر بمبايعتهم وكانت أزمة كبيرة، فأمر الإمام البنا بتميز من مع الجماعة ومن مع هؤلاء الأفراد، ويوما بعد يوم انفض عنهم من كان معهم وصاروا وحدهم مما دفعهم لترك الجماعة. (8)

أزمة إخوان الحرية

منذ أن جثى المستعمر البريطاني على صدر مصر بعد خيانة بعض الزعماء المصريين من السياسيين والعسكريين لأحمد عرابي في سبتمبر من عام 1882م وهو يعمل على تفكيك الدولة ومحاولة طمس هويتها، وقد قاومته شخصيات بصفة فردية أو جماعات سرية قليلة

غير أن نشأة الإخوان ومنهجهم أفزع الإنجليز حيث وجد أنهم أخطر على وجوده من غيرهم ولذا حاول وضع جميع العراقيل لحل الجماعة أو وقف نشاطها، أو رشوتها، بل أقدموا على نفي البنا لقنا ثم اعتقاله ووكيل الجماعة وسكرتيرها العام، لكنها باءت بالفشل – خاصة في ظل الضربات التي كان يوجهها الجيش الألماني للبريطانيين، وكان من هذه الوسائل إنشاء جماعة تسمى إخوان الحرية في محاولة لجذب المصريين إليها وفضهم عن الإخوان المسلمين.

نشأت إخوان الحرية على يد فان فاى - أحد المستشرقين - واختار أحد المشايخ يدعى الشيخ الزواوي ليكون على رأس الجماعة ليصرف الناس عن الأستاذ البنا. (9)

تأسست هذه الجمعية بمصر في عام 1942م، وسرعان ما فتحت لها فروعًا في العراق وعدن، وكانت رئيسة هذه الجمعية على النطاق العالمي والتي أسست نظامها مس فريا إستارك، أما مستر فاى فكان المراقب العام لإخوان الحرية بمصر، واتخذت الجمعية مقرا لها فى بيت السنارى بشارع الكومي بالسيدة زينب. (10)

كان رؤساء هذه الجمعية إنجليز مؤهلون تأهيلاً خاصاً يسهل لهم سبل الاتصال بالمصريين و بالعرب فهم يتكلمون العربية وعلى درجة عالية من الثقافة ، و على دراية واسعة بأحوال البلد الذي سيعملون فيه ، وفضلاً عن ذلك فهم مزوّدون بسلاحين قاطعين هما المال والنساء.

وكان الهدف الرئيسي للجمعية التي أنشئت من أجله هو أن تكون هذه الجمعية عينًا للإنجليز، وإقناع الشباب أن بريطانيا هي جنة الله في الأرض، ونشر القيم الفاسدة والإباحية بالمجتمع، والتشكيك في العقيدة والشريعة الإسلامية، بالإضافة لتضليل الناس بقصد إبعادهم عن الإخوان المسلمين.

كانت أزمة أحدثت خلل في المجتمع وجذب الشباب للفاحشة، فوضع الأستاذ البنا رؤية لاختراق هذه الجماعة وفضحها وتعريتها أمام الشباب المنضمين لها. ففي البداية أوفد مجموعة من الشباب لاستطلاع أحوال الجمعية وجمع معلومات عن قادتها وعن مهمة كل فرد من أفراد هذه القيادة، وتتبع خطوات هؤلاء الأفراد داخل مقر الجمعية وخارجه والإلمام باتصالاتهم والوصول من هذا التتبع إلى مصدر تمويلهم.

ثم أوفد مجموعة أخرى من الإخوان للاشتراك في نشاطات الجمعية والتظاهر بالتجاوب مع القائمين بهذه الأنشطة، مع الاحتفاظ بأنفسهم بعيد عن التلوث بحجج مختلفة.

وبعد أن ألم بكل شيء عن الجمعية أوفد مجموعة من شباب الإخوان العلماء وأصحاب الثقافات الواسعة، إلى الاجتماعات العامة للجمعية التي تلقى فيها المحاضرات باعتبار هذه المحاضرات هى المصيدة التي يقع بين فكيها الفرائس من الشباب الساذج الخالي الذهن - ومهمة هذه المجموعة هى التعرض بالنقد إلى الأفكار التي تتضمنها هذه المحاضرات على أن يتبادل أفراد المجموعة - الذين يجلسون في أماكن متفرقة

هذا التعرض واحدا بعد الآخر حتى يلقوا أولا ظلالا من الشك على هذه الأفكار أمام الحاضرين ، فتتزعزع ثقتهم بالمحاضرين ، ثم يتدرج أفراد المجموعة في المناقشة حتى يبدأوا فى كشف ألاعيب الجمعية وفضحها أمام الشبان فضحا خفيفا فتؤجل المحاضرة، ثم يتكرر حضور هذه المجموعة أو غيرها للمحاضرات، مع شرح المراحل التي يمر بها الشباب للانزلاق في حبائل هذه الجمعية.

بل دفع بطلبة الإخوان فى الجامعة والمدارس بحملات توعية للشباب ضد الغزو الفكري الإنجليزي، وقام بنفس الأمر كافة أقسام وشعب الجماعة كلٌّ فى قطاعه وبين جمهوره؛ حتى استطاعت الجماعة أن تقلل من خطورة هذه الجمعية، حتى جاء عام وتوقف نشاط جمعية إخوان الحرية. (11)

كنيسة كفر المنحال بالزقازيق

منذ نشأة الإخوان وقد سطر الإمام البنا سطور حدد فيها العلاقة مع الأقباط بأنهم شركاء في الوطن لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين، وكل منهم له حرية التعبد، غير أن الإنجليز حاولوا إشعال الفتنة – وهو ديدن الحكومات الاستبدادية بعد ذلك

ومما قاموا به أن أوعزوا إلى بعض عملائهم بإحراق كنيسة كفر المنحال بالزقازيق في 27/3/1947م ومحاولة اتهام الإخوان بها، بل أن أن بعض الصحف التابعة له ظلت تكتب حول هذا الحادث – وكان الإمام البنا قد أجرى عملية جراحية في هذا الوقت، وما أن علم بما جرى حتى سارع للتعامل مع الموقف بما هو مناسب.

فقد كتب أولا إلى الأنبا يوساب بطريرك الأقباط الأرثوذكس يواسيه فيما حدث لكنيسة كفر المنحال فقال:

وأنى لشديد الأسف لوقوع مثل هذه الحوادث التي لا يمكن مطلقا أن تقع من الإخوان المسلمين أو من أي مسلم أو مسيحي متدين عاقل غيور على دينه ووطنه وقومه والتي ولا شك من تدبير ذوى الأغراض السيئة الذين يحاولون أن يصطادوا في الماء العكر وأن يسيئوا إلى قضية الوطن في هذه الساعات الحرجة والظروف الدقيقة من تاريخه.
بل قام طلاب كلية الطب والهندسة بعقد مؤتمرا عاما جمع بين المسلمين والأقباط وتناقشوا فيه حول ما حدث في الزقازيق، وأعلنوا قرارات يستنكرون فيها بشدة الحادث ويؤكدون على وحدة المصريين. كما ندب الطلاب وفد من بينهم مكون من نبيل أحمد علوبة ووليم بغدادي وفوزي عبود وعبد الواحد أحمد ووليم الملاح لمقابلة رئيس الحكومة وإبلاغه القرارات.
كما كتبت صحف الإخوان حول علاقة الإخوان بالأقباط، وأن هذه العلاقة نابعة من تعاليم الإسلام الذي يومن أتباعه بجميع الأنبياء السابقين. وقد دعى الإمام البنا رموز الأقباط لاحتفالات الإخوان حتى يقطع خيوط المؤامرة التي كان يقوم بها البعض نيابة عن الإنجليز.
حتى خرج مكرم عبيد ليؤكد طبيعة علاقة الأقباط بالإخوان بقوله: لا أدرى لماذا أثير جدل عنيف حول اشتراك الإخوان في السياسة وهم في ذلك على دينهم والدين هو المثل الأعلى بمبادئه السامية وقال أنا كمسيحي أطالب بالتمسك الشديد بمبادئ الإسلام. (12)

هجوم الوفد

كانت مصر تتصارعها – في ظل الاحتلال – مجموعة أحزاب أقلية لم يكن لها ثقل شعبي سوى حزب الوفد الذي نال شعبيته من ثورة 1919م، وظل يتربع على هذه الشعبية حتى نشأت جماعة الإخوان المسلمين فسحبت كثير من شعبيته لصالحها، وظن الوفد أن الإخوان منافس لهم في الوصول للسلطة لدخولهم معترك السياسة

ولذا شحذوا نفوس أتباعهم بكره هذه الجماعة، بل عمدت صحفهم على النيل من الإخوان، ولم يقف الأمر على ذلك بل حاولوا شق الصف وهو ما نجحوا فيه مع الأستاذ أحمد السكري – وكيل الجماعة – حينما انقلب على جماعته.

غير أن حادثتين كانا لهما أثر عميق في نفس الأستاذ البنا لكونهما تحريض صريح على القتل من قبل الوفدين ضد الإخوان.

حادثة بورسعيد

فأثناء زيارة الإمام البنا لمدينة بورسعيد يوم السبت الموافق 6 يوليو 1946م، فقد عمد الوفديون إلى إثارة الشغب والتحرش بالإخوان وقذفهم بالحجارة مما أدى إلى نشوب معركة بين الطرفين، وحصار الأستاذ المرشد والحاج عبد الله الصولي والشيخ محمد فرغلي في دار الإخوان ببورسعيد

ولكن الإخوان استطاعوا أن يفكوا الحصار عن الإمام البنا وإخوانه ويتوجهوا إلى الإسماعيلية، وقد أمر الإمام البنا بعدم الصدام مع الوفدين، حتى أنه ارسل خطاب يأمره بتشكيل لجنة لدراسة الموقف والأسباب التي أدت لهذه الأحداث، وأن يعقد مؤتمر يدعى فيه الجميع بما فيهم الوفد وإيصال رسالة أن الأمر ليس تحديا مع أحد. (13)

لقد تعامل الإمام بحنكة وحكمة حتى لا يتطور المشهد – على الرغم أن الإخوان كانوا يملكون من القوة ما يردعون به الوفدين في هذا الموقف لكنه خاف على الدماء – ولذا كان رده باستعراض القوة العملية حينما جهز كتيبة للإخوان في العام التالي للسفر إلى حرب فلسطين وجعلها تبحر من بورسعيد بدلا من الإسكندرية بعد استعراضها، ليفهم الوفدين أن الإخوان كانوا يملكون القوة لكنهم لم يستخدموها مع أحد من المصريين.

وانتقل المرشد إلى بورسعيد قبل أن تصل الكتيبة، وحين وصلت كان في استقبالها جوالة الإخوان هناك بالموسيقى والأناشيد الحماسية، واستيقظت بورسعيد على هذا المشهد، وخطب الإمام البنا في جموع الحاضرين قائلا: أيها الناس ... أتذكرون يومًا في العام الماضي، كنا فيه في مثل هذا الاستعراض، ودون أسباب ولا مبررات وهوجِمنا وحطمت دارنا بلا ذنب ولا جريرة ... أتذكرون هذا اليوم؟

إن "الإخوان المسلمون" أبعد نظرًا من أن تستفزهم هذه المعارك الجانبية، لأنهم أحرص على دماء بني دينهم ووطنهم أن تذهب في سبيل المطامع والأهواء ... في سبيل الزعامات التي لا تتقي ربها في أرواح أبناء وطنها، وقد كان بوسع الإخوان أن يردوا على هذا الاعتداء بمثله

ولكن الخسارة ستكون علينا جميعًا فنحن مهما اختلفنا في الرأي فإننا بنو دين واحد نعيش في مجتمع واحد وفي وطن واحد، لهذا آثر الإخوان المسلمون الحكمة وادخروا جهودهم وجهادهم لقتال أعداء الإسلام، وها هم جنود الإسلام يتحركون على بركة الله إلى فلسطين. (14)

حادثة مقتل أحد الإخوان

كان لطلبة الإخوان نشاط واضح وسط مدارسهم وجامعتهم، مما أغار صدر الوفدين، حتى طال الحقد والبغضاء قلوب الصغار والبراعم في المجتمع، حيث العنصرية ضد بعضهم البعض، ففي شبين الكوم وخاصة مدرسة المساعي المشكورة كان الطالب صادق مرعي - أحد طلبة الإخوان والذي كان مشهود له بالتفوق وحسن الخلق - زعيم الإخوان في المدرسة

مما دفع بعض الطلبة الوفدين إلى التربص به وقت دخوله المدرسة وأخرج سكينة من بين طيات ملابسه وطعنه بها فأرده قتيلا وقبض على الجاني وقدم للمحاكمة حيث شهدت عليه المدرسة كلها انه كان يتربص بصادق، واشتعلت الأجواء خاصة في نفوس طلبة الإخوان بالمنوفية، مما كان ينذر بشر على الجميع فسارع الأستاذ حسن البنا بكتابة رسالة – أمر – إلى طلبة الإخوان مواسيا لهم

وطالبا أن يتحلوا بالصبر ولا ينساقوا وراء دعاة الفتنة حتى تحقن دماء المصريين، فكتب رسالة بعنوان [نداء إلى الإخوان الطلاب عامة والإخوان الطلاب بشبين الكوم خاصة جاء فيها: وبعد. فالآن وقد انتهت أجازتكم وعدتم إلى معاهدكم أحب أن أتقدم إليكم بالوصية بعد جميل العزاء في شهيدنا المبرور وفقيدنا العزيز الطالب النجيب (صادق مرعى أفندي) عوضنا الله فيه الخير وأجزل له ولأسرته الكريمة ولنا الأجر والصبر...

أمين فأوصيكم بثلاث فاذكروا دائما:

  1. إنكم في دور العلم ومعاهده طلاب قبل أن تكونوا منتسبين إلى أحزاب أو هيئات وإنكم أسرة واحدة تجمعها كرامة العلم وقدسية الزمالة فاحفظوا على أنفسكم وحدتها واحذروا كل فتنة وأعرضوا عن اللغو ولا تشغلوا أنفسكم إلا بالنافع المفيد.
  2. ولا تنسوا أبدا أن خير ما تكسبونه لأنفسكم وتعتدون به لأمتكم في هذه المرحلة من حياتكم أن تنهلوا من العلم الذي بين أيديكم وان تستزيدوا منه ما وسعتكم الاستزادة ولا يكن قصارى همكم أن تملأوا قلوبكم ورؤوسكم بما يقيم مجد هذه الأمة على أساس متين.
  3. والثالثة يا شباب أن تكونوا أمناء على النور الذي تحملونه في قلوبكم وعلى معادن الخير التي أقرتها يد الله في حنايا ضلوعكم واعلموا أن الأمل فيكم بقدر ما تحفظون من أخلاق وليكن جهادكم لأنفسكم أول شعيرة وطنية ترضون بها ربكم وتعزون بها أوطانكم ,فوالله ما أودى بمجد هذا الوطن العظيم سلاح ولا رهبة إلا هذا الصغار في الخلق والعبث في الضمائر والدنس في النفوس الرخيصة.

أما انتم يا طلاب شبين الكوم فوصيتي لكم خاصة أن تحتسبوا فقيدكم الكريم لله عز وجل وأن تتركوا للقضاء ما يعين له من الحكم الرادع ان شاء الله وان يكون استشهاد فقيدكم العزيز عبرة تلمون بها شعثكم ,وتجمعون بها شملكم تقطعون بها الطريق على فتنة يراد بها التفريق بين صفوفكم وصرفكم عما انتم بسبيله من طلب العلم والتفرغ له هذه وصيتي أزجيها إليكم وكلى فيكم أهل وثقة والله على قلوبكم نعم الخليفة .. والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته. (15)

كانت هذه نماذج من حسن إدارة الإمام البنا للأزمات التي تعرضت لها الجماعة، حتى أن أحبابه بل وأعداؤه أثنوا عليه خيرا في توحيد الصفوف ولم شمل المصريين على قلب رجل واحد، ولم ينتصر لنفسه أو جماعته في موقف من المواقف إلا أن يكون أمر في الدين.

المراجع

  1. عفاف عزت رفلة: إدارة الأزمات الأسرية وعلاقتها بالثقة بالنفس لدى الأبناء بمحافظة الفيوم، قسم الاقتصاد المنزلي، كلية التربية النوعية، جامعة الفيوم، صـ1.
  2. فقه إدارة الأزمات.. الإمام حسن الهضيبي أنموذج مارس 2007م
  3. حسن البنا: مقال بعنوان أزمة نفوس وأرواح، مجلة الإخوان المسلمون، العدد (15)، السنة الأولى، 28 ربيع أول 1362 - 4 أبريل 1943، صـ3.
  4. حسن البنا: مقال بعنوان برنامج قومي، الإخوان المسلمون، السنة الأولى، العدد (190)، 23 محرم 1366هـ- 17/12/1946م، صـ1.
  5. حسن البنا: رسالة التعاليم، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2006م.
  6. مجلة الشبان المسلمين – جمادى الآخرة 1351هـ - أكتوبر 1932م.
  7. جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الثاني، 2003م دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة.
  8. محمود عبد الحليمالإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ – جـ1 ، دار الدعوة، الإسكندرية، 1998، صـ166، 167.
  9. جريدة الجمهور المصري: العدد 57 ، 8 جمادى الأولى 1371هـ - 4 فبراير 1952م، صـ3.
  10. نشرة إخوان الحرية: العدد 191 ، 1 ربيع الآخر 1365 هـ - 5 مارس 1944م، صـ1.
  11. محمود عبد الحليم: (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ)، دار الدعوة، 1998م، صـ360، 361.
  12. زكريا سليمان بيومي الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية فى الحياة السياسية المصرية 1928 - 1948 ط2 مكتبة وهبة 1991.
  13. الإخوان المسلمين اليومية – العدد 60 – السنة الأولى – 13 شعبان 1365هـ - 12 يوليو 1946م – صـ2
  14. عباس السيسي: مواقف في الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1422- 2001، صـ 185- 187
  15. مجلة الإخوان المسلمون اليومية: العدد 549، السنة الثانية - 3 ربيع ثان 1367 هـ 13/2/1948م، صـ2.