مكتب الإرشاد والعسكر وجها لوجه
مركز الدراسات التاريخية
بقلم:عبده مصطفى دسوقي
محاولة شق الصف
لم يدم الوفاق كثيرا بين الإخوان والعسكر،حيث تعرض لمحاولات عبد الناصر شق الصف الإخواني بكل السبل غير أنه لم يفلح، حتى أن المستشار حسن الهضيبي أرسل برسالة في 21 أكتوبر 1953م إلى جمال عبد الناصر قال له فيها:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.أما بعد.فإني ما زلت أحييك بتحية الإسلام وأقرئك السلام.ولا زلت ترد على التحية بالشتائم واتهام السرائر واختلاق الوقائع وإخفاء الحقائق والكلام المعاد الذي سبق لكم قوله والاعتذار عنه .
وليس ذلك من أدب الإسلام ولا من شيم الكرام ولست أطمع في نصحك بأن تلزم الحق فذلك أمر عسير وأنت حر في أن تلقى الله تعالى على ما تريد أن تلقاه عليه ولكني أريد أن أبصرك بأن هذه الأمة قد ضاقت بخنق حريتها وكتم أنفاسها وأنها في حاجة إلى بصيص من نور يجعلها تؤمن بأنكم تسلكون بها سبل الخير وأن غيركم يسلكون بها سبل الشر والهدم والتدمير إلى آخر ما تنسبون إليهم .
إن الأمة في حاجة الآن إلى القوت الضروري . القوت الذي يزيل عن نفسها الهم والغم والكرب . إنها في حاجة إلى حرية القول . فمهما قلتم أنكم أغدقتم عليها من خير فإنها لن تصدق إلا إذا سمحتم لها بأن تقول أين الخير وسمحتم لها بأن تراه .
ومهما قلتم أنكم تحكمونها حكما ديمقراطيا فإنها لن تصدق لأنها محرومة من نعمة الكلام والتعبير عن الرأي وإذا حققتم ذلك فإننا نعدكم بأن نذكر الحقائق ولا نخاف من نشرها ونصدق القول ولا نشوبه بالكذب والبهتان والاختلاق ولا نتهم لكم سريرة ولا نبادلكم فيما تضمرون وتدخرون في أنفسكم ولا نجازي بعض وزرائك فيم يكتبون من غثائة وإسفاف .
وإنما نعدكم كما هو شأننا بأن نناقش المسائل مناقشة موضوعية على ما تعطيه الوقائع التي ترضونها أو تصدر عنكم أما أن تعطوا أنفسكم الحق في الكلام وتحرموا الناس منه وأما أنكم تفرضون آرائكم (بالنبوت) على الأمة فشئ لا يعقله الناس ولا ترضاه الأمة .
أيها السيد:
- إن الأمة قد ضاقت بحرمانها من حريتها فأعيدوا إليها حقها من الحياة وإذا كان الغضب على الهضيبي وعلى الإخوان المسلمين قد أخذ منك كل مأخذ فلكم الحق أن تغضبوا وهذا شأنكم ولكن لا حق لكم في أن تحرضوا الناس على الإخوان المسلمين وتغروهم بهم .
وليس ذلك من كياسة رؤساء الوزارات في شئ فإنه قد يؤدي إلى شر مستطير وبلاء كبير ومن واجبكم أن تحافظوا على الناس مخطئهم ومصيبهم وأن تجمعوا شمل الأمة على كلمة سواء وأنكم لا شك تعلمون أن الإخوان المسلمين حملة عقيدة ليس من الهين أن يتركوها ولا أن يتركوا الدفاع عنها ما وجدوا إلى الدفاع سبيلا . فإغراء بعض الأمة بهم وتحريضهم عليهم من الأمور التي لا تؤمن عواقبها .
وإنني أؤكد لكم أن في وسعك أن تمشي ليلاً أو نهارًا وحدك بلا حراس وفي أى مكان دون أن تخشى أن تمتد إليك يد أحد من الإخوان المسلمين بما تكره . أما أن يمد أنصارك أيديهم بالسوء إليهم استجابة إلى إغرائك فإن مسئوليتك عند الله عظيمة ولعل الذي حملك على إبداء العداوة والبغضاء للإخوان المسلمين هو أنهم عارضوا المعاهدة فالإخوان المسلمون لن يؤمنوا بها دون أن تناقش في برلمان منتخب انتخابًا حرًا يمثل الأمة أكمل تمثيل .
ويقول محمود عبد الحليم:
- يبدو أن هذه المؤامرة كانت آخر ما كان في جعبة جمال عبد الناصر، وأن القناع الذي كان يخفي به وجهه في أثنائها كان آخر قناع في حوزته.
- وكان في كل مرة يجد بين يديه من يزج بهم على المسرح ويجد في حوزته قناعًا يخفي به عن المشاهدين وجهه ، فلما كانت هذه التمثيلية الدرامية المفزعة الأخيرة .. وانتهت بالفشل غير المتوقع .. بحث عن قناع آخر استعدادًا لتمثيلية جديدة بعدها فوجدها قد نفدت . ولم يكن بد حينئذ من أن يخرج من وراء الكواليس.
- وفي خلال هذه الفترة قرر مكتب الإرشاد تكوين لجنة للاتصال بالحكومة ومجلس الثورة من الدكتور كمال خليفة والشيخ محمد فرغلي والأستاذ صالح أبو رقيق والدكتور عبد القادر سرور للتفاهم على المسائل المتعلقة بالجماعة .. وكان من أول ما طالب به الإخوان الإفراج فورًا عن باقي المسجونين ومن بينهم الأخوة: الصاغ أ.ح معروف الحضري والصاغ أ.ح حسين حمودة وغيرهم من الضباط الذين كانوا لا يزالون محبوسين بسجن الأجانب وغيره من المعتقلات. (1)
كان مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارًا بحل جميع الأحزاب السياسية واستثناء الإخوان من هذا القرار لاعتبارها جماعة إسلامية وليست حزبًا سياسيًا وذلك في 18 يناير 1953م؛
يقول عبد اللطيف البغدادي في مذكراته:
- وقبل أن ينتهي عام 1952 كان مجلس الثورة وجمال عبد الناصر نفسه قد اقتنع تمامًا بعدم جدوى التعاون مع تلك الأحزاب ولذا قرر المجلس إلغاء دستور سنة 1923 في 10 ديسمبر 1952، كما أعلن أيضًا في 17 يناير سنة 1953 عن فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات.
- وعلى أن تؤجل الانتخابات البرلمانية حتى انتهاء تلك الفترة، وقرار آخر بحل الأحزاب والهيئات السياسية ومصادرة أموالها فيما عدا جمعية الإخوان المسلمين باعتبارها منظمة دينية خاصة.
- والحقيقة أننا كنا رأينا استثنائها من القرار رغم موقفهم من الثورة بعد قيامها ومحاولتهم فرض إرادتهم على قيادة الثورة وذلك لسابق اتصالنا بها وتعاونها مع تنظيم الضباط الأحرار وموقف التأييد منهم ليلة قيام الثورة. (2)
لكن لم تدم هذه الفترة خاصة بعد تدافع الأحداث بين مكتب الإرشاد وبعض قادة النظام الخاص والتي حاول عبد الناصر تغذيتها وإذكائها، حيث عمد مجلس قيادة الثورة إلى حل جماعة الإخوان المسلمين.
لم يكن خلاف الضباط الأحرار قاصرا على الإخوان المسلمين بل عمدوا لتثبيت أقدامهم، ومحاولة تفكيك كل القوى التي تعمل على عرقلة وصولهم في السلطة، فقد صدر مثلاً قرار بتنحية رشاد مهنا من مجلس الوصاية، بل تم اعتقاله مع عدد من الضباط في يناير 1953م، كما عمد قادة مجلس قيادة الثورة تغيب محمد نجيب عن الساحة السياسية فعمدوا إلى إحراجه في كل المواقف واتخاذ القرارات دونه؛
يقول البغدادي:
- وجاءت بداية عام 1954 فأوقف البريطاني اتصالاته معنا عندما وضح له الخلاف والانشقاق الذي كان يتزايد يومًا بعد يوم بين محمد نجيب وأعضاء مجلس قيادة الثورة. وكان قد انفجر هذا الخلاف فجأة في فبراير ومارس من ذلك العام. (3)
ويضيف أيضا:
- وفي خلال هذا الصيف أيضًا كانت مظاهر الخلاف بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر قد بدأت تظهر على السطح وذلك على إثر إبراز بعض الصحف المصرية لجمال عبد الناصر على أنه هو الرجل القوي في مجلس قيادة الثورة وجمال نفسه كان يحاول إبراز هذه الصورة أيضًا أمام الغير بتصرفات منه محاولاً تأكيد هذا المعنى، كما أنه كان يقوم بدعوة مجلس قيادة الثورة للانعقاد في غياب محمد نجيب فتؤخذ بعض القرارات وتعلن عنها في الصحف، وكان لهذا التصرف معناه في مفهوم الناس.
- وعندما رأى محمد نجيب هذا وبدأ هو الآخر يحاول من جانبه إثبات وجوده. فأخذ يدلي ببعض التصريحات في موضوعات لم يكن المجلس قد تناولها بعد بالمناقشة أو أخذ قرارًا فيها، وكان هو حتى ذلك التاريخ له شعبية ضخمة بين جماهير شعبنا.
- والشعب ينظر إليه كقائد لهذه الثورة والمنقذ لهم. ولم تكن عامة الناس تعلم حقيقة الأمر وهذه الصورة من الشعبية كانت تشغل بال جمال عبد الناصر، بل وتقلقه. ولكنه كان يحاول في البداية إخفاءها. (4)
كان هذا حال الضباط القائمين على شئون البلاد ولذا كانت خلافاتهم شديدة حتى أنها أصبحت على ألسنة الشعب، ومن ثم اتخذوا قرارًا بتنحية محمد نجيب عن الحكم.
وسعيًا لتحقيق أهدافهم كان لابد من تحجيم أكبر القوى الشعبية المتمثلة في الإخوان (خاصة بعد حل جميع الأحزاب) ولذا صدر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين في يوم 12 يناير 1954 على أثر الصدام الذي كان قد حدث في الجامعة بين طلبة الإخوان والطلبة المنتسبين لهيئة التحرير المنظمة السياسية التابعة للثورة.
وكان هذا القرار يشتمل أيضًا على اعتقال الهضيبي أمين الدعوة للإخوان وابنه وعدد آخر من أعضائها، وكذا أفراد القسم الخاص بالجمعية. وكان عددهم جميعًا يربو على 450 معتقلاً، بالإضافة إلى فصل بعض الطلبة والموظفين المنضمين للجمعية.
وكان قد أحيل ضباط البوليس المنتسبين إليها إلى المعاش كذلك وكذا تم اعتقالهم وكانت الموافقة على هذه الإجراءات قد صدرت بإجماع الآراء من المجلس. (5)
وكان قبلها قد اجتمع مجلس قيادة الثورة في 18 ديسمبر 1953م لينظر في شأن الإخوان المسلمين ومحمد نجيب، حيث يوضح البغدادي اجتماعهم ونيتهم المبيتة من الإخوان بقوله:
- وكان مجلس قيادة الثورة قد اجتمع في استراحة وزارة المعارف الموجودة بمنطقة أهرامات الجيزة يوم 18 ديسمبر لمناقشة بعض الموضوعات. وكان من أهمها النظر في أهداف الإخوان المسلمين وما يسعون إليه من الاستيلاء على السلطة؛
- وكيف يمكن مقاومتهم والقضاء على جماعتهم خاصة وأنهم كانوا يعملون على التوغل بتنظيماتهم داخل صفوف الجيش والبوليس ونوقش موقفنا حيالهم وحيال هذا الاتجاه منهم وهل نعمل على حل جمعيتهم أو نستفيد من الانشقاق الذي كان قد تواجد بينهم.
- ورئي أن حل جمعيتهم سيزيد من العطف عليهم ويدفعهم إلى التماسك وضم صفوفهم لمقاومة ودرء هذا الخطر. وأن زيادة الانشقاق بينهم هي الوسيلة لإضعافهم وتفكيك صفوفهم. (6)
اعتقل المستشار الهضيبي وعدد كبير من مكتب الإرشاد وقادة الإخوان، وزاد الجو التهابا المحنة التي تعرضت لها مصر بتنحية رئيس الجمهورية واستفراد العسكر بالسلطة، مما هيج الرأي العام؛
يقول البغدادي: وطلب جمال عبد الناصر منه أي من إسماعيل فريد أن يبلغ محمد نجيب بعدم مغادرته منزله حتى نصدر إليه أوامر أخرى من المجلس. (7)
ويضيف:
- وبعد أن هدأت النفوس عاد اجتماعنا لمناقشة الموضوع من جديد. وتكلم جمال عبد الناصر مبينًا أن جميع أعداء الثورة والعناصر الرجعية في البلاد ستلتف حول محمد نجيب باذلة كل جهدها للقضاء على هذه الثورة، ولذا فهو يرى: "أن نرضي محمد نجيب الآن وأن نقبل جميع شروطه ونخضع له حتى نفوت عليه الفرصة ونعمل على إقناعه بسحب الاستقالة وبعد شهر أي في يوم 23 مارس نتخلص من محمد نجيب".
- ومن أنه هو الذي سيقوم بعمل الترتيبات اللازمة لتنفيذ هذا الأمر. وتكلمت من بعده معترضًا على الاقتراح مبينًا أن أي قرار سيتخذ وأجده ضارًا بهذه الثورة فلن أستمر في العمل معهم. وأعدت تقديم اقتراحي الخاص باللجنة أو الهيئة الاستشارية وموضحًا المبررات المرتبطة بهذا الاقتراح لإقناع محمد نجيب ليكتفي برئاسة الجمهورية.
- وتقدمت باقتراح بديل لهذا الاقتراح في حالة عدم موافقة المجلس عليه، وهو أن يكتفي محمد نجيب برئاسة الجمهورية. وعليه أن يكلف أحد المدنيين بتأليف وزارة مدنية، وأن يشكل المجلس الاستشاري، وعلى أن ننسحب نحن العسكريين من السلطة التنفيذية لنكون رقباء على تحقيق أهداف الثورة دون الدخول في مشاكل التنفيذ. (8)
ويستكمل:
- وبعد مناقشة طويلة وحدة في المناقشة اتفقنا جميعًا على الانسحاب والعودة إلى صفوف الجيش وترك مقاليد الأمور لمحمد نجيب. وكان الغرض من ذلك هو إقناع الجماهير بأننا غير طامعين في السلطة والحكم وحتى نعطي لهم الفرصة للتعرف بأنفسهم على حقيقة محمد نجيب.
- واتفقنا على إصدار بيان مختصر للشعب يعلن فيه عن انسحابنا من السلطة وعودتنا إلى صفوف الجيش، وتسليم مقاليد الأمور لمحمد نجيب وبسلطات مجلس الثورة كاملة. وعلى أن يعلن هذا البيان بعد أن نجتمع في مبنى مجلس قيادة الثورة ظهر يوم 24 فبراير 1954 بعد الانتهاء من اجتماع مجلس الوزراء. (9)
بعدما تم اعتقال عدد من الإخوان اعتقل أيضا عدد من ضباط الإخوان بالجيش على رأسهم عبدالمنعم عبدالرؤوف وأبو المكارم عبد الحي.وفي 23 فبراير 1954 قبل مجلس قيادة الثورة استقالة اللواء محمد نجيب، وكان لهذه الاستقالة رد فعل عنيف في الجيش والشعب.
وانقسم الجيش إلى فريقين فريق يؤيد محمد نجيب وتزعم هذا الفريق ضباط من سلاح المدرعات وفريق آخر يؤيد عبد الناصر من سلاحي المدفعية والمشاة.
وتحركت المظاهرات الشعبية المؤيدة لمحمد نجيب ومطالبة عبد الناصر بالتنحي وعودة نجيب وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وكان على رأس المشاركين الإخوان المسلمين الذين خرجوا في مظاهرة مليونية لقصر عابدين، وكاد هذا النزاع يؤدي إلى حرب أهلية تقتتل فيها قوات مصر المسلحة، ولكن جمال عبد الناصر استجاب للفريق المؤيد لمحمد نجيب، لكنه أضمر الشر لعبد القادر عودة الذي استطاع أن يفض هذه الجموع بكلمة واحدة رغم إلحاح نجيب وعبد الناصر للجموع بالانصراف.
يقول حسين حمودة:
- فقبل عبد الناصر إعادة محمد نجيب إلى رئاسة الجمهورية يوم 27/ 2/ 1954 وذلك حتى يملك الوقت الكافي لتهدئة الجو وخداع الضباط الذين أيدوا محمد نجيب ثم ينقض عليهم ويعتقلهم بعد أن يطمئنوا ويتركوا وحداتهم المعتصمين فيها ويذهبوا إلى بيوتهم. وبذلك يستطيع عبد الناصر أن يحقق حلمه في الانفراد بالسلطة.
- وما إن علمت جموع الشعب المصري يوم 28/ 2/ 1954 بعودة محمد نجيب حتى عمت المظاهرات الشعبية جميع مدن مصر وكنت أرى من شباك الزنزانة بسجن الأجانب بباب الحديد جموع المتظاهرين التي ملأت الشوارع وهي تهتف لمحمد نجيب وللحرية والديمقراطية وكان شعب مصر بحسه المرهف يتوجس خيفة من أن تنحرف ثورة 23 يوليو 1952 إلى ديكتاتورية عسكرية تحل محل طغيان فاروق.
- ولقد نجحت المظاهرات الشعبية واعتصام ضباط المدرعات في ثكناتهم في تثبيت النصر الذي أحرزه محمد نجيب مؤقتا.ولما هال جمال عبد الناصر شعبية نجيب عند شعب مصر وعند شعب السودان حاول استمالة الإخوان إليه.فقرر يوم 25 مارس 1954 الإفراج عن حسن الهضيبي وجميع المعتقلين من الإخوان المسلمين.
- وكان للملك سعود رحمه الله الذي كان يزور القاهرة في شهر مارس 1954 دور في هذه المسألة.فقد صرح عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية لجريدة المصري يوم 25 مارس 1954 بأن الملك سعود تكلم مع عبد الناصر وقال له إن مصر وهي زعيمة الدول العربية والإسلامية لا يجدر أن يكون الإخوان المسلمون فيها في المعتقلات ولا يباشروا نشاطهم في الدعوة الإسلامية.
- وقد زار جمال عبد الناصر حسن الهضيبي في منزله بمنيل الروضة مهنئًا بالإفراج عنه في نفس يوم الإفراج.وأعلن عبد الناصر زوال كل أثر لقرار حل الجماعة الصادر في يناير 1954 (والذي اتهمهم فيه القرار بغير حق بالخيانة والاتصال بالإنجليز من خلف ظهر الثورة).
- وفي يوم 29/ 3/ 1954 سمعنا حركة غير عادية في سجن الأجانب حوالي الساعة 9 مساء ووجدت محمد أحمد سكرتير عبد الناصر يحضر ومعه بعض الضباط المقبوض عليهم تحت حراسة البوليس الحربي وكان عددهم يزيد على 25 ضابطا ولما نظرت فيهم وجدتهم جميعا من ضباط المدرعات. الذين أيدوا محمد نجيب في فبراير سنة 1954 وأذكر منهم اليوزباشي أحمد علي حسن المصري. (10)
بعد أن خرج المرشد العام من المعتقل أصدر بيانًا يوم 28 مارس جاء فيه:
- " بسم الله الرحمن الرحيم .. لا ريب أن مصر الآن تمر بفترة بالغة الدقة والخطورة في تاريخها،بعيدة الأثر في كيانها ومستقبلها،وهي فترة تقتضي من كل مواطن أن يهب البلاد نفسه،ويبذل لها وجوده، ويؤثرها بالخالص من رأيه ومشورته حتى يأذن الله بانجلاء هذه الغمة ، ويبدل الوطن منها حياة أمن واستقرار ووحدة.
- ظهرت العلاقة في هذا العام متوترة ما بين مجلس قيادة الثورة ومكتب الإرشاد وعلى رأسهم المستشار الهضيبي، وحينما تم توقيع اتفاقية الجلاء عارضها الإخوان لما احتوته من بنود مجحفة لحق مصر، ومنها التصديق للانجليز بالعودة لاحتلال مصر في حالة وقوع خطر على مصر أو تركيا وغيرها، ومن ثم بدأ عبد الناصر يشن حملة دعائية ضد الإخوان المسلمين وحاول إحداث انشقاق في صفوفهم وبدأت تحدث اشتباكات بين الإخوان ورجال الشرطة، ومنها ما حدث يوم 27 أغسطس سنة 1954 في مسجد شريف بالروضة.
- فقد أودع الإخوان المسلمون رئاسة مجلس الوزراء هذه المذكرة ظهر يوم الاثنين 2 من أغسطس 1954 متضمنة رأى الإخوان المسلمون في الاتفاقية المصرية الانجليزية.
وبعد فقياما بواجب الشوري في الأمر والتواصي بالحق والصبر والتعاون على البر والتقوي قد اطلع مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين على الخطوط الرئيسية للاتفاق المقترح عقده بين مصر وانجلترا والذي وقعه رئيس وزراء مصر ووزير حربية انجلترا في يوم 27 /7/ 1954 كما اطلع المكتب على الملحق رقم (1) الذي نشر مع الخطوط الرئيسية في اليوم التالي للتوقيع؛
- وقد تبين للمكتب من دراسة الخطوط الرئيسية والملحق أمورا خطيرة عرضها فيما يلي عليكم ويتقدم بالرأي والنصيحة فيها إليكم وهو إذ يفعل ذلك يقدر كل التقدير ما بذله المفاوضون المصريون من مجهود كبير ومن محاولات ضخمة للوصول إلى حقوق الأمة .
أولا:الخطوط الرئيسية
- (1) تحدد المادة الثانية مدة الاتفاق بسبع سنوات من تاريخ توقيعه كما أنها تلزم الحكومتين المصرية والانجليزية بالتشاور خلال السنة السابعة فما يتخذ من تدابير عند انتهاء المدة .ولما كان الجلاء سيتم كما اتفق في ظرف عشرين شهرا فلا محل لجعل مدة الاتفاقية سبع سنوات إلا إذا كانت الاتفاقية تستهدف شيئًا آخر غير تنظيم الجلاء وهو ربط مصر بانجلترا طيلة السبع سنوات بنوع من التحالف أو الارتباط قد يمتد إلى ما بعد السبع سنوات كما يدل ذلك على التزام مصر بالتشاور مع انجلترا فيما يتخذ من تدابير عند انتهاء السبع سنوات.
- (2) وتعطي المادة الرابعة الحق لانجلترا في العودة إلى قاعدة القنال إذا هوجمت مصر أو أى دولة من دول الجامعة العربية والتي وقعت معاهدة الدفاع المشترك أو إذا هوجمت تركيا وتوجب المادة على مصر أن تقدم لانجلترا كل التسهيلات اللازمة لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها إدارة فعالة ويدخل في ذلك استخدام الموانئ المصرية .
وسنبين فيما يلي وجوه الخطر في هذه المادة:
- (أ) أعطت لانجلترا الحق المطلق في العودة إلى القنال واحتلال القاعدة بجنودها لمجرد حدوث هجوم على مصر أو دولة عربية أو تركيا ولانجلترا حق العودة إلى القنال دون استشارة مصر ودون حاجة للحصول على موافقتها بل ودون رضاها ولو كانت الدولة المعتدى عليها قادرة على رد الاعتداء وحدها والدول المستقلة لا تقبل أن يفرض عليها العون فرضا ولا تعرض أرضها للاحتلال بهذه السهولة ولا تجعل دخول الأجانب بلادها راجعا لمشيئة الأجنبي .
- (ب) وإذا كان الاعتداء على تركيا أمرًا يقلق راحة المسلم وكان الدفاع عن كل بلد إسلامي واجبا إسلاميا فإننا لا نفهم ويلزم مصر التزامات مادية وأدبية قبل انجلترا لا قبل تركيا المعتدى عليها إلا إذا كان المقصود تدعم السياسة الإنجليزية وحماية الإمبراطورية .
- (ج) ولقد انتقدت مصر حلف باكستان تركيا ورفضت من قبل أن تدخل حلف بلقاني أو في حلف الأطلنطي ولكنها طبقا للمادة الرابعة دخلت في كل هذه الأحلاف بطريق غير مباشرة لأن تركيا حليفة باكستان وحليفة لبعض دول البلقان كما أنها مرتبطة بحلف الأطلنطي فإذا هوجمت أى دولة محالفة لتركيا فقد حق لانجلترا الحرب في صف تركيا طبقا لما بينهما من معاهدات.
- وإذا دخلت انجلترا الحرب وهي محتلة للقنال فقد اشتركت مصر اشتراكا فعليا في الحرب بسماحها باستخدام أراضيها ومطاردتها وموانيها وبما تقدمه من معونة وتسهيلات لانجلترا.ولا شك أن هذه النتيجة التي وصلت إليها انجلترا عن طريق التحالف الواقعي الذي فرضته المادة الرابعة هي نفس النتيجة التي طالما حرصت انجلترا على الوصول إليها في المفاوضات السابقة عن طريق التحالف الاتفاقي والدفاع المشترك .
- ولعل هذا التحالف الواقعي الذي أقامته المادة الرابعة ولم تصرح به ألفاظها هو الذي دعا رئيس وزراء مصر ووزير حربية انجلترا إلى أن يعلنا في البلاغ المشترك أن هذا التحالف ليس له غرض عدواني وأنهما يعتقدان أنه سيفضي إلى المحافظة على السلم والأمن .
- (د) أعطت المادة الرابعة لإنجلترا الحق في استعمال جميع الموانئ المصرية ويترتب على ذلك أن يكون لها الحق في نقل جنودها وعددها على الطرق البرية والمائية والسكك الحديدية المصرية التي تصل مختلف الموانئ بالقاعدة وأن يكون لها مندوبون في كل ميناء وما كانت انجلترا تستطيع أن تصل لشئ من هذا وتبلغه قبل أن تقرر لها المادة الرابعة .
- (3) والفقرة الثانية من المادة الرابعة تلزم مصر أن تتشاور مع انجلترا في حالة قيام تهديد بهجوم على أى بلد من البلاد التي سلف ذكرها في الفقرة الأولي .. ولم تبين هذه الفقرة حالة التهديد بالهجوم تلك الحالة التي لا تكاد تختلف في مدلولها عن عبارة خطر الحرب التي طالما حاولت انجلترا إلزامنا بالإنفاق عليها ولم تقابل إلا بالرفض .
- (4) وتنص المادة السابعة على جلاء القوات الإنجليزية جلاء تامًا عن الأراضي المصرية في مدة لا تزيد عن عشرين شهرًا من تاريخ توقيع الاتفاق .
- والجلاء التام المنجز غير المشروط هو حق الشعب الذي أجمع على المطالبة به وهو ما استهدفته الحركة وصرح به رجالاتها ولكن الجلاء الذي جاءت به المادة السابعة جاء مع الأسف مسبوقا بالتزامات ومعلقا على شروط تجعله جلاء مشروطا وغير تام ومنجز .
- وسنرى أن الملحق رقم (1) استبدل بالجنود الإنجليز فنيين وموظفين من الإنجليز يديرون القاعدة ويحافظون عليها وهذا يجعل الجلاء صوريًا ويحل محل الإنجليز الذين يلبسون الملابس العسكرية انجليزًا يرتدون الملابس المدنية ومهمة الفريقين واحدة .
- لذلك رأينا أن المادة الرابعة تعطي انجلترا حق إعادة جيشها للقاعدة بمجرد مهاجمة دولة من الدول التي عينتها المادة كما تفرض على مصر محالفة واقعية مع انجلترا وحلفائها .
- وإذا كانت مدة الاتفاقية سبع سنوات من تاريخ توقيعها فمعنى ذلك أن تظل القاعدة محتلة بالمدنيين من الإنجليز ومعرضة لدخول الجيش الانجليزي فيها طيلة سبع سنوات .وإذا كان هذا هو الجلاء الذي جاءت به المادة السابعة فلن يستطيع منصف أن يقول عنه أنه جلاء منجز أو جلاء غير مشروط .
- (5) وتنص المادة الثامنة على اعتبار قناة السويس ممرًا مائيًا له أهميته الدولية وهو تقرير للواقع ودليل على بطلان ما كانت تدعيه انجلترا من أهمية القنال لها وحدها لكن النص على احترام اتفاقية 1888 التي تكفل حرية الملاحة كان يقتضي النص على حق مصر في تعطيل هذه الملاحة في حالة الدفاع عن النفس والمادة الثامنة بهذا الوضع الناقص لن يستفيد منها سوي إسرائيل .
- (6) وتلزم المادة التاسعة مصر بأن تقدم التسهيلات الخاصة بالطيران والنزول والصيانة لكل طائرة تابعة لسلاح الطيران الانجليزي بمجرد الإخطار عنها وهذا النص يحمل مصر بالتزامات خطيرة:
- فهو يلزم مصر قبول أى طائرة أخطرت عنها دون أن يكون لمصر حق الاعتراض والرفض .
- يلزم مصر أن تنشئ مطارات لنزول الطائرات الانجليزية وأن تنشئ محطات لإصلاح وصيانة هذه الطائرات كما يلزم مصر أن تضع مطاراتها الحالية ومحطات الإصلاح والصيانة تحت تصرف الطيران الانجليزي ..
- ويلزم مصر أن تقدم التسهيلات السابقة في أى مكان من القطر المصري لا في منطقة القنال وحدها ويكمل هذا الالتزام الجوي إلتزام بحري هو حق انجلترا في استخدام جميع الموانئ المصرية المنصوص عليه في المادة الرابعة ويترتب على هذين الالتزامين التزام بري بنقل الأشخاص والمهمات فيما بين بعض المطارات والموانيء وبعضها الآخر وفيما بين المطارات والموانئ وبين القاعدة .
ثانيا الملحق رقم (1):
- أعطت الفقرة الثالثة لشركة تجارية انجليزية حق حفظ المنشآت البريطانية وإدارتها وأباحت لهذه الشركة أن تستخدم فنيين وموظفين من البريطانيين على أن لا يزيد عدد الفنيين عن حد معين سيتفق عليه وهذا النص إذا كان مقيدا لعدد الفنيين فإنه لا يقيد عدد الموظفين ويسمح للشركة أن توظف عددًا كبيرًا من الإنجليز وهم جميعا مجندون فيكون هناك جيش من هؤلاء في القنال تحت اسم الموظفين ويستطيع هذا الجيش الأجنبي في أى وقت أن يكون خطرا على مصر خصوصا وتحت يده العتاد الكثير ولديه العدد الكافي من الفنيين ولا يغير هذا المعني ما قد توهم به عبارة الشركة جواز أن تكون الشركة مصرية وبين جواز استخدام المصريين مع البريطانين فإن حق اختيار الشركة أو الشركات متروكة لإنجلترا ولا يعقل أن تختار شركات مصرية وحق اختيار الفنيين والموظفين متروك للشركة ولا يعقل أن تختار الشركة الإنجليزية فنيين أو موظفين مصريين إلا إذا كانت أعمالهم تافهة ولم يكن لديهم من يقوم مقامهم من الإنجليز .ولو صح أن انجلترا لا يهمها أن يشرف على القاعدة مصريون لما كان هناك دافع لهذا اللف والدوران ولسلمت القاعدة للحكومة المصرية وتركت مسئوليتها وعلى كل حال فإن وضع إدارة القاعدة في يد شركة يشرف عليها موظفون بريطانيون ملحقون بالسفارة البريطانية يدل على روح الحكومة البريطانية واتجاهها وحرصها على أن تكون أمور القاعدة في أيد انجليزية.
- وتلزم الفقرة الرابعة الحكومة المصرية أن تقدم المعونة الكاملة للشركة التجارية وتعبير المعونة الكاملة تعبير واسع ومن شأنه أن يرتب على مصر التزامات غير محددة تنفرد الحكومة البريطانية بتقديرها .
- والفقرتان الأولي والخامسة معا يفيدان أن معظم المنشآت الانجليزية في القنال ستسلم للشركات التجارية لإدراتها وحفظها وصيانتها وإن منشآت من نوع خاص كالكباري والمواصلات وأيضا أنابيب البترول قد تسلم للحكومة المصرية ولكن الحكومة المصرية مع تسلمها هذه المنشآت لن تديرها إلا بواسطة الشركات التجارية ولا ندري ما الحكمة التي تدعو لتسليم الحكومة المصرية بعض هذه المنشآت وإلزامها بأن تديرها .
- وتجعل الفقرة السادسة للحكومة الإنجليزية حق التفتيش على جميع المنشآت ما يسلم منها للحكومة المصرية وما يسلم منها للشركات ويتم التفتيش بواسطة موظفين من الإنجليز يلحقون بالسفارة البريطانية بالقاهرة .
وبمقتضى هذه الفقرة:
- أن يكون التفتيش على جميع المنشآت ما سلم منها للحكومة المصرية وما سلم للشركات.
- أن يقوم بالتفتيش عسكريون من الإنجليز ولا يمكن أن يكونوا إلا عسكريين لأنهم سيفتشون على منشآت وأعمال عسكرية .
- أن يمنح هؤلاء المفتشون الحصانة الدبلوماسية بحكم إلحاقهم موظفين بالسفارة البريطانية.
- أن يكون لهؤلاء العسكريين حق الإقامة في القاهرة بعد أن جلا العسكريون عن القاهرة منذ عام 1946.
- وأخيرا فإن قيام شركات إنجليزية بإدارة القاعدة واستخدامها فنيين وموظفين من الإنجليز وجعل التفتيش على أعمال هؤلاء العسكريين الملحقين بالسفارة البريطانية كل ذلك معناه أن انجلترا هي التي تدير القاعدة وتحافظ عليها وتصونها وتتصرف فيها وأن الوضع السابق على هذه الاتفاقية لم يتغير في حقيقته وإن تغير في مظهره.
المعاني التي قامت عليها الاتفاقية
يستفاد من دراسة الخطوط الرئيسية والملحق رقم (19) أن الاتفاقية تقوم على المعاني الآتية:
- الأول: ربط مصر بالكتلة الغربية ربطا فعليا وذلك بإدخال تركيا في الاتفاق وهذا الرباط يجعل مصر حليفة لدول الكتلة الغربية وإن لم تذكر كلمة التحالف ويعرض مصر لويلات حروب لا مصلحة لها فيها ولا فائدة تعود منها عليها ويجعلها تنفق أموالا هي أحق بأن تنفقها في محاربة الاستعمار وتدعيم استقلالها .
- الثاني: تقرير الجلاء المشروط بإدخال تركيا في الاتفاق واعتبار هذا الدخول شرطا للجلاء وثمنا له وهذا هو الجلاء المشروط الذي يحرص الإنجليز منذ سنة 1945 على أن يتمسكوا به في كل مفاوضة وليس الجلاء التام المنجز غير المشروط الذي نادت به الأمة المصرية وتعاهدت عليه واستشهد أبناؤها في سبيله.
- الثالث: استبدال الاحتلال المدني بالاحتلال العسكري طوال مدة الاتفاقية الأمر الذي يجعل الجلاء غير تام وغير منجز لأن المدنيين الإنجليز لا فرق بينهم وبين العسكريين الإنجليز إلا الملابس .
- الرابع: إعطاء انجلترا الحق في إعادة الاحتلال العسكري إذا هوجمت مصر أو أى بلد من بلاد الجامعة العربية أو تركيا وهذا المعنى مع سابقه يجعلان الجلاء جزئيًا لا كليا ومؤقتا لا نهائيا .. وصوريا لا حقيقيا وقد يقال أن تقديم مصر التسهيلات لإنجلترا لا يجعل مصر حليفة لها ويستدل القائلون بما حدث في الحرب الماضية وهؤلاء يجب أن يعلموا أن مصر بتقديمها التسهيلات في أراضيها لدولة محاربة تعتبر مشتركة في الحرب فعلا وأن ما حدث من إيطاليا وألمانيا في الحرب الماضية لم يحدث من روسيا مثلا ذلك أن ألمانيا وإيطاليا كانتا تطمعان في الاستفادة من هذا الشعور لزعزعة مركز الإنجليز ومع ذلك فإن حرصها على عدم استثارة الشعب المصري لم يمنع طائراتهما من الإغارة على المدن المصرية مما أدى إلى تخريب المنشآت وهلاك الأنفس .
علاج الموقف
إن أول علاج للموقف في رأينا هو أن توقف المفاوضات الدائرة بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية وأن يعتبر ما تم منها كأن لم يكن ما دامت المفاوضات أساسها المساومة على الجلاء حتى إذا اعترف الانجليز بجلاء غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط ولا مرتبط باتفاق على أمر آخر جاز للحكومة المصرية أن تدخل معهم في محادثات لا تتعدي تنظيم الجلاء فإذا تم الجلاء وانتهت عوامل الضغط وأسباب المساومة فإن لمصر أن تفاوض انجلترا وأن تتفق معها على ما تراه في صالحها .
والخطوة الثانية في علاج الموقف هي تحقيق ما أعلنته الحكومة الحالية من إعداد الشعب وتربيته تربية عسكرية وبث روح الجهاد فيه وتجميع صفوفه وتنظيمها لجهاد كريم هو السبيل لاستخلاص الحقوق وإجلاء الغاصبين والمستعمرين ويوم تفعل الحكومة هذا فسيكون الإخوان في الصف الأول وسترى الحكومة كيف يبيعون أنفسهم هم وأفراد هذا الشعب الكريم في سبيل الله وتحرير وطنهم وإن ذلك الاتجاه لكفيل أن يوصلنا إلى الجلاء التام المنجز في أقرب وقت وأقل تكلفة ولن نبذل من التضحيات والخسائر في سبيل بعض ما يصيب البلاد من إتمام الاتفاق المقترح بيننا وبين الإنجليز.
ولا نحب أن نلزم الحكومة الأخذ برأينا في علاج الموقف ويكفينا أن تعلم الحكومة المصرية أن مشروع الاتفاق ضار بمصر للأسباب التي ذكرناها وأن الأمة لا ترضاه ولا تقبله ولن تسمح بأن تقيد نفسها به وأن على الحكومة أن تراجع موقفها من الاتفاق وأن تتخذ منه الموقف الملائم لوعي الأمة وجهادها الطويل بأهداف الثورة وما أعلنته منذ قيامها بأنها لا تقبل إلا الجلاء المنجز الطليق من كل شرط وقيد.
هذا ما يري الإخوان المسلمون التقدم به إلى الحكومة آملين أن تستجيب لهم فإن أبت الحكومة إلا المضي فيما بدأته من مفاوضات فإن الأمانة الوطنية تحتم عليها أن تستشير رأى الأمة في هذا الأمر الخطير الذي لا يجوز أن تستأثر به حكومة دون الشعب وإذا كان قد فات الحكومة أن تستشير الأمة في هذه المفاوضات قبل البدء فيها فلا مناص للحكومة أن تستشير الأمة في الموضوعات الرئيسية ولن يكون ذلك إلا باطلا بإطلاق حرية القول والاجتماع وتوفر الحرية للصحف لتنشر كل ما يصل إليها عن الاتفاق .
ولا يغني عن تبين رأي الأمة في اتفاق الخطوط الرئيسية أن يعرض الاتفاق النهائي بعد إتمامه على ممثلي الأمة لإقراره والتصديق عليه فإن تبين رأى الأمة فالاتفاق قبل المضي فيه يوفر على الأمة وقتها وجهدها ويجعل الحكومة على بصيرة من أمرها فيما تأخذ وفيما تدع وهذا ما حري به العمل في كل مشروعات الاتفاقات السابقة؛
فقد عرضت على الأمة لاستطلاع الرأي فيها ونوقشت في الصحف وفي الاجتماعات العامة مناقشة حرة لا قيد عليها ولا تثريب على المشتركين فيها وما تقدمنا للحكومة في هذا كله إلا للنصيحة التي يفرضها علينا الإسلام والدين النصيحة وما نريد إلا الخير للأمة والحكومة . إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
يقول محمود عبد الحليم:
- جند عبد الناصر الصحف كلها لنشر أنباء عن المرشد الهضيبي وكان في جولة بالبلاد العربية على أساس أنه يعلن عداءه للثورة.وأحس بعض الإخوان بالخطر،واقترح عدد منهم كان على علاقة بالحكومة عقد اجتماع للهيئة التأسيسية لبحث الوضع بين الحكومة والإخوان .
- وكان عبد الناصر يتوقع أن ينجح أعوانه في هذا الاجتماع في اتخاذ قرار بعزل الهضيبي . وعقد الاجتماع في مساء يوم الخميس 24 سبتمبر 1954 واستمر 20 ساعة ، وحضره مائة عضو من جملة الأعضاء وعددهم 137 عضوًا .
- وظهرت صحيفة الأهرام والجمهورية تحملان نبأً كاذبًا عن انشقاق خطير في صفوف الإخوان، تضمن نشوب معركة بالأيدي بين المجتمعين،أما جريدة الأخبار فقد نشرت الحقيقة وكانت عن حدوث مشادة كلامية بين الأعضاء، وانتهى الاجتماع على خلاف ما كان يرغب عبد الناصر. (11)
كان بعض قادة الإخوان ينظرون إلى عبد الناصر أنه واحد منهم ويتعاملون معه على هذه النظرة، ومن ثم كان كثيرًا ما يحدث خلاف في مكتب الإرشاد وأيضا الهيئة التأسيسية بسبب عبد الناصر.
حادث المنشية
سافر المستشار الهضيبي إلى بلاد الشام في رحلة لم تدم طويلاً رجع بعدها حيث كان الصدام وشيكًا مع العسكر، ومن ثم حاول مكتب الإرشاد تجنب هذا الصدام غير أن عبد الناصر كان يتعجله للقضاء على قوة الإخوان وتحقق له ذلك ليلة 26/ 10/ 1954م حينما ادعى بإطلاق الإخوان النار عليه عن طريق محمود عبد اللطيف أثناء خطابه في ساحة المنشية بالإسكندرية، حيث انطلقت سيارات الشرطة العسكرية تحصد كل من تعرف أنه من الإخوان سواء من بيته أو من عمله أو من الشارع وزج بهم جميعا في آتون السجن الحربي.
تقول صحيفة الأهرام:
- "لم يكد الجاني الأثيم يطلق رصاصاته الغادرة،حتى كان الجمهور قد هجم عليه وعلى ثلاثة أشخاص يقفون على مقربة منه ودخان الرصاص يتصاعد من حولهم،وكاد يفتك بهم لولا أن بادر رجال البوليس والمخابرات إلى القبض عليهم وضبط السلاح في يد الجاني.هكذا نشرت جميع الصحف كما أنه لم ينشر شيء بعد ذلك عن الثلاثة الآخرين الذين قيل:إنهم ضبطوا مع الجاني.
وتستكمل:
- وقد اقتيد الأربعة إلى نقطة بوليس شريف .. ويدعي الجاني محمود عبد اللطيف ويعمل سباكًا في شارع السلام بإمبابة . وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 36 ملليمتر وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم ، إذ أن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأطراف الفارغة".
كان هذا ما نشرته جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 27 أكتوبر 1954،وأثار ذلك التساؤل عن سر اختلاف الأظرف الفارغة عن طلقات المسدس المضبوط في يد الجاني .. وبدأت همسات هل هناك شخص آخر ؟! وفي نفس العدد نشرت الصحف أن الجاني ينتمي إلي جماعة الإخوان المسلمين. (12)
شكل مجلس قيادة الثورة في أول نوفمبر من نفس العام محكمة الشعب برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعي، لمحاكمة قادة الإخوان وعلى رأسهم أعضاء مكتب الإرشاد، وظلت القضية متداولة بطريقة هزلية،
يقول ريتشارد ميتشل:
- أما رئيس المحكمة جمال سالم فقد كان تصرفه أقرب إلي تصرف المدعي العام:كان يقاطع دون تحرج إجابات الشهود إذا لم تعجبه وكان يضع الكلمات في أفواههم فيتقول عليهم ما لم يقولوا وكان أحياناً يستعمل التهديد ليفرض عليهم الإجابة التي يريدها.
- أصدرت أحكامها بالحكم على سبعة بالإعدام وهم عبد القادر عودة ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمد فرغلي وهنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف والمستشار حسن الهضيبي إلا أنه خفف الحكم عن الهضيبي للضغوط الخارجية والمظاهرات.
- وحُكِم على سبعة آخرين من مكتب الإرشاد بالأشغال الشاقة المؤبدة محمد خميس حميدة، حسين كمال الدين، محمد كمال خليفة، منير الدلة، صالح أبو رقيق، محمد حامد أبو النصر وعبد العزيز عطية وبالأشغال الشاقة خمسة عشر عام على أحمد شريت وعمر التلمساني وبرأت ثلاثة من أعضاء مكتب الإرشاد هم عبد الرحمن البنا والبهي الخولي وعبد المعز عبد الستار.
- بعد الأحكام رحل عدد كبير من أعضاء مكتب الإرشاد من السجن الحربي إلى سجون قنا والواحات، فقد اجتمع مثلا في الواحات الأستاذ عمر التلمساني ومحمد حامد أبو النصر وكمال خليفة وحسين كمال الدين وصالح أبو رقيق ومحمد خميس حميدة، وفي سجن قنا] كان يوجد الشيخ أحمد شريت.
- استقرت الحياة لهم في السجون لفترة، لكنها لم تدم بسبب تخوف النظام من اجتماعهم في مكان واحد، فكانوا بين الحين والآخر ينقلونهم بين السجون المختلفة.
- كثير من القرارات اتخذها مكتب الإرشاد داخل السجن، فقد كان يمارس مهامه الجزئية والتي تتعلق بالإخوان المساجين فمثلا أثناء العدوان الثلاثي على مصر طالب الإخوان من نظام عبد الناصر الإفراج عنهم للقتال في صفوف المجاهدين فإن ماتوا يكونوا نالوا الشهادة ويرتاح النظام منهم، وإن انتهت الحرب بالنصر عادوا مرة أخرى إلى السجون، غير أن النظام المتوجس دائما خيفة رفض هذا الأمر.
- سرت شائعة بين عدد من الإخوة بكتابة تأييد لعبد الناصر بمناسبة تأميم قناة السويس وما أن علم بها أعضاء مكتب الإرشاد الموجودين في السجن حتى ناقشوا الموضوع وتوصلوا بعدم إرسال هذه البرقية لأنها ستفهم على غير موضعها.
يقول حسين حمودة:
- فتشاورت مع فؤاد جاسر وجمال ربيع فوافقا معي على إرسال البرقية وطلبا قبل إرسالها أخذ رأي كبار الإخوان من أعضاء مكتب الإرشاد الموجودين معنا في السجن وحبذا إصدار بيان من الإخوان بتأييد جمال عبد الناصر في هذا الموقف الوطني الجريء.
- فتناقشنا مع أعضاء مكتب الإرشاد في موضوع تأميم القناة وحبذنا إصدار بيان من الإخوان لتأييد الحكومة في موقفها فكان رد أعضاء مكتب الإرشاد أن تأميم القناة عمل وطني وجرئ لاشك فيه ولكن إرسال برقية تأييد ونحن مسجونون قد يفسرها عبد الناصر على أنها نفاق أو ضعف لاستجداء الإفراج عنا ولكن الوضع يختلف لو كنا أحرارا خارج السجون.
- ولم يأخذ برأي مكتب الإرشاد الدكتور خميس حميدة وبعض من أيده في موقفه وأصدر بيانا قرأه على الإخوان الموجودين في السجن أيد فيه الحكومة في موقفها الوطني من تأميم القناة. (13)
دخلت الجماعة وأعضاؤها سواء داخل السجن أو خارجه إلى محن متعددة، حيث تعرضوا في سجن طرة في 1 يونيه 1957م إلى مذبحة طرة والتي راح ضحيتها ما يقرب من 23 شهيد ومثلهم جرحى، كما أراد عبد الناصر تكرار هذا الحادث مع معتقلي سجن أسيوط وسجن الواحات وأرسل لهم اللواء إسماعيل همت إلا أن صلابة الضابط مصطفى أبو دومة كانت عائقا أمام الطواغيت من تنفيذ مخططهم مما اضطرهم لنقله ثم عزله بعد ذلك.
كما أنهم اتجهوا للإيقاع بالإخوان في سجن الواحات إلا أن الله سلم وأصيب اللواء إسماعيل همت المشرف على المذبحة بألم شديد اضطره لمغادرة السجن والعودة للقاهرة، ونجا الله الإخوان المساجين.
وفي نفس العام (1957) أفرج نظام عبد الناصر عن بعض المعتقلين الذين لم تصدر ضدهم أية أحكام من محكمة الشعب إلا أنهم قضوا عامين خلف القضبان كمعتقلين، كما عفا عبد الناصر عن بعض المسجونين الذين قبلوا التنكر لإخوانهم بينما بقى الآخرون، وخاصة الكوادر الرئيسية لجماعة الإخوان في السجون، فيقول ريتشارد ميتشل (وكانت المعاملة الشرسة في السجون كفيلة بانصراف العديدين من قيادة الإخوان إلى شئون حياتهم الخاصة بعد أن عجزوا عن تحمل قسوة النظام الناصري في التصدي لمناوئيه).
لكن ظل أعضاء مكتب الإرشاد داخل السجون ما عدا من كتب تأييد لعبد الناصر هربا من جحيم التعذيب والسجن مثل د. كمال خليفة ود. محمد خميس حميدة، والذين ظلت علاقاتهم طيبة بالإخوان حتى بعد خروجهم ولم يسقطوا مثلما سقط البعض في فخ المهانة.
ظل كثير من الإخوان في السجن حتى جاءت مذبحة ومحنة عام 1965م والذي جمع فيها عبد الناصر كل من سبق اعتقاله سواء من خرج من السجن بدون أحكام أو من خرج بالتأييد لعبد الناصر، وذاقوا سوء العذاب ولم ينجوا أحد حتى بلغ عدد من اعتقل في هذه المحنة ما يقرب من 40 ألفًا من الإخوان.
لكن العجيب أن زج بأسماء عدد من مكتب الإرشاد المتواجدين في السجون في بعض القضايا التي اختلقها نظام عبد الناصر وصدرت ضدهم أحكام بالسجن.
ظل عدد كبير من قادة الإخوان حتى خرجوا بعد وفاة عبد الناصر أوائل السبعينات وكان آخر من أفرج عنهم في عام 1975م.
المراجع
- المرجع السابق.
- مذكرات عبد اللطيف البغدادي: مرجع سابق، ص 71.
- المرجع سابق، ص 76.
- المرجع سابق، ص 80.
- المرجع سابق، ص 91.
- المرجع سابق، ص 88.
- المرجع سابق، ص 98.
- نفس المرجع.
- نفس المرجع، ص 100.
- حسين حمودة: أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون، الزهراء للإعلام العربي، ط 1، 1985م.
- الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، مرجع سابق
- الأهرام: 27/ 10/ 1954م.
- حسين حمودة: أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون، مرجع سابق.
إقرأ إيضا
- تاريخ مكتب الإرشاد 1928 – 1938م
- أنشطة مكتب الإرشاد 1928 – 1938م
- مكتب الإرشاد ومرحلة التكوين والتربية
- مكتب الإرشاد ومرحلة التكوين والتربية (الجزء الثاني)
- أنشطة مكتب الإرشاد في فترة التكوين
- مكتب الإرشاد وعصر القوة عام 1945م
- أنشطة مكتب الإرشاد ما بعد الحرب العالمية الثانية
- تاريخ مكتب الإرشاد والفترة الانتقالية
- مكتب الإرشاد ومرحلة الثورة 1952م
- مكتب الإرشاد في وجه العاصفة
- مكتب الإرشاد وعهد جديد
تاريخ مكتب إرشاد عام 1990م