من حسن البنا إلى مهدي عاكف.. لماذا تمنع السلطة جنازات الإخوان؟
- أحمد فوزي سالم
مقدمة
لا يسلم الموت في الوطن العربي من تلف ميثاقه الأخلاقي، فالغالبية يتعاملون معه بمنطق الصفقة السياسية لا اتفاق يلزمها للنهاية ولا يمنعها حرمته من حياكة المناورات، وفق هذا المنطق أُغلق ملف محمد مهدي عاكف المرشد الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين الذي وافته المنية عن عمر يناهز 90 عامًا بعد صراع طويل مع أمراض متعددة لم تشفع له على ما يبدو عند السلطة الحاكمة لإعادة الرجل وقضاء أيامه الأخيرة مع أسرته، لعلها تكون لحظة فارقة يتكئ عليها من يسعى لاحقًا لنزع فتيل الحقد والثأر والتناحر، وهي متلازمات باتت تحكم المشهد العام للحياة السياسية وأربابها في مصر.
يعطينا المشهد عدة أسباب واضحة، وتكمن جميعها خلف رفض الأمن المصري تشييع جنازة مهدي عاكف والسماح لمؤيديه بمصاحبته إلى مثواه الأخير، يأتي في مقدمتها الحشد الصادم الذي ظهرت عليه جنازة الشيخ عمر عبد الرحمن الزعيم الروحي للجماعة الإسلامية المصرية، والذي توفي في فبراير الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يقضي عقوبة السجن المؤبد بتهمة التآمر لتدبير تفجيرات نيويورك عام 1993.
مصدر وثيق الصلة بجهات أمنية قال " إن الحكومة المصرية تفاجأت بمشهد جنازة الشيخ عمر عبد الرحمن، والذي وضعها في حرج بالغ مع شركاء 30 من يونيو وخاصة أقباط مصر الذين انتابتهم حالة من القلق الشديد بسبب الحشود الضخمة التي شاركت في الجنازة، وبدا لهم أن عصر الصفقات مع الإسلاميين يلوح من جديد، خصوصًا أن الجماعة الإسلامية وأسرة عمر عبد الرحمن، أرسلا خطاب شكر إلى الحكومة المصرية لتعاونها في إحضار الجثمان والسماح لهم بإقامة جنازة تليق بمكانته عند أتباعه.
بينما يرى الإخوان أن منع أجهزة الأمن المصرية تشييع مهدي عاكف يعد دليلاً واضحًا على خوف الدولة من حشود الإخوان وغيرهم، والتي قد تتجاوز مئات الآلاف وكانت ستتحول تلقائيًا إلى عاصفة غضب فور دفن المرشد الأسبق والقيادي التاريخي للجماعة، بحسب تعبير الدكتور طلعت فهمي المتحدث الرسمي للإخوان.
و يقول عبد المنعم عبد المقصود رئيس هيئة الدفاع عن عاكف: إنه تم دفن عاكف في مقبرته بمقابر الوفاء.
وأضاف أن "الجهات الأمنية فرضت سياجا أمنيا في محيط مقبرة عاكف، ولم تسمح فقط إلا لي ولزوجته وفاء عزت، ونجلته علياء، وحفيد له بحضور مراسم الدفن"، مشيرًا إلى أن عددا محدودا من السيدات والرجال من أقارب عاكف بقوا خارج المقبرة.
وكتبت علياء نجلة الراحل في صفحتها بموقع فيسبوك عقب مراسم الدفن "منعوا كل حاجة" مضيفة أن والدها "طلب الشهادة ونالها".
من جهته استنكر المتحدث الإعلامي باسم الإخوان أحمد سيف الدين "منع أجهزة أمن الانقلاب أسرة الشهيد بإذن الله الأستاذ محمد مهدي عاكف من تنظيم صلاة الجنازة، وإجبار أسرته على دفنه ليلا من دون جنازة".
وحمّلت جماعة الإخوان في بيان لها السلطات المصرية المسؤولية الكاملة عن وفاة مرشدها السابق عاكف، لإصرارها على "حبسه والتنكيل به رغم مرضه وتقدم عمره" متهمة إياها بـ"تعمد قتله".
وقال المعارض اليساري خالد علي في تدوينة على حسابه بموقع فيسبوك: "أردتم أن تنتصروا على الأستاذ مهدي عاكف بحرمانه من حق الإفراج الصحي، ولم ترحموه فرحمه الله، وانتصر عليكم بوهن جسده وشيخوخته، ليكشف بموته عن قبح عقولكم وقيمكم".
وكتب المرشح اليساري السابق للرئاسة حمدين صباحي في حسابه على الموقع نفسه "رحم الله محمد مهدي عاكف وغفر له، وغفر لنا تقصيرنا في المطالبة بالإفراج الصحي عنه وعن كل سجين اجتمع عليه ظلام السجن وتقادم السن وإنهاك المرض، كما كان حال الفقيد رحمه الله وكثيرين سواه".
واعتبرت أسرة محمد مرسي رئيس الجمهورية المعزول أن وفاة عاكف "تعد قتل عمد نتيجة التنكيل به والإهمال الطبي المتعمد من سلطة الانقلاب، وهذه جريمة لن تسقط بالتقادم".
وفي السياق نفسه، كتب أستاذ النظم السياسية سيف الدين عبد الفتاح في حسابه على تويتر "سيظل مهدي عاكف شاهدا على حقارة الانقلابيين ووضاعتهم عندما تركوا رجلا بلغ التسعين ومريضا بالسرطان يموت في السجن بلا تهمة".
وقالت الحقوقية وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان سابقا، هدى عبد المنعم، إن قوات الأمن التي تواجدت بكثافة قامت بمنع الراغبين في المشاركة في تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير، ولم يتم السماح بدخول أحد سوى زوجته وابنته علياء فقط.
وأوضحت عبد المنعم، التي شاركت في الجنازة، أن أربعة أشخاص فقط قاموا بالصلاة على جثمان "عاكف" داخل مستشفى القصر العيني بالقاهرة. وقالت: "حينما قاموا بمنعنا من الوصول للمقابر، تجمعنا جميعا أمام مدخل المقابر، ولم يتم السماح بدخول أحد.
تاريخ يعيد نفسه
على مدار تاريخ الإخوان، والمؤسسات الأمنية المصرية تؤمن بنظرية مفادها يخلص إلى أن رمزية المكان قد تولد طاقة احتجاجية ضدها، لذا حرصت دائمًا وخاصة في الأوقات التي تحمل عراكًا وتجاذبًا مع الجماعة على تفويت الفرصة وحرمان الإخوان من استثمار طاقات الغضب ضد السلطة، انطلاقًا من مشاهد وداع قاسية، لذا لم يكن قرار الأمن بمنع إقامة جنازة وعزاء مهدي عاكف إلا فرمان منسوخ من آخر شبيه يتكرر منذ عقود، طال رموز تاريخية للجماعة بداية من مؤسسها وزعيمها حسن البنا.
مؤسس الجماعة
في فبراير عام 1949، نُقلت جثة الشيخ حسن البنا إلى بيته بسيارة تحرسها قافلة من عربات الأمن، نزل الجند وأحاطوا منزل البنا ولم يتركوا ثقبًا ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح بحسب رواية عبد الكريم المحامي صهر البنا ورفيقه في لحظات اغتياله والتي دونها عباس السيسي عضو مكتب الإرشاد الأسبق في كتابه الشهير "حسن البنا ـ مواقف في الدعوة والتربية".
كان والد مؤسس الإخوان ينتظر وحده جثمان ابنه وحده، بعدما اعتقلت قوات البوليس أشقاء البنا جميعًا، جاءوا بالجثة وصدرت تعليمات واضحة للرجل: لا بكاء ولا عويل، ولا مظاهر حداد ولا أحد يصلي عليه سواك، حسب رواية الشيخ أحمد البنا، والد الزعيم الروحي للإخوان.
ويستكمل: "أُبلغت نبأ موته في الساعة الواحدة، ولم يسلموا إليّ جثته إلا بعدما وعدتهم بأن الدفن سيكون في الساعة التاسعة صباحًا بلا احتفال، وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى قصر العيني إلى القبر، واضطررت إزاء هذه الأوامر أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة رغبة مني في أن تصل جثة ولدي إلى بيته فألقي عليه نظرة أخيرة، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلى البيت متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران ولم يعلم أحد بوصولها سواي".
حاصر البوليس المصري منزل البنا وجثته، ولم يسمح لأحد بالاقتراب مهما كانت صلة قرابته بمؤسس الإخوان الذي وُضعت جثته في النعش وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير بعدما رفض الأمن مشاركة الأب في حمل جثمان ابنه.
مع تفريغ المنزل من رجاله، خرج نعش البنا محمولاً على أكتاف النساء، ووصل المشهد الحزين صامتًا إلى المسجد الذي كان خاليًا هو الآخر حتى من خدمه، وهناك وقف الأب أمام نعش ابنه يصلي ودموعه تنساب على خديه، ومن المسجد إلى مدافن الإمام حيث مشهد النهاية.
حضر الليل ولم يحضر أحد من المعزين بعدما منعت قوات الأمن والوصول إلى منزل البنا، ومن استطاع التحايل على الكردونات الأمنية ووصل بالفعل إلى العزاء كان يتم القبض عليه فورًا، ولم تترك القوات الأمنية إلا مكرم عبيد باشا وزير المالية وقتها، والرجل الوحيد الذي لم يجر اعتقاله نظرًا لمنصبه الحكومى ولكونه مسيحيًا، وكانت تربط الرجلين علاقة صداقة لسنوات طويلة.
سيد قطب
لم يختلف الأمر كثير مع سيد قطب القيادي التاريخي للجماعة، فهو الآخر مُنعت جنازته بعدما جرى إعدامه شنقًا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تنفيذا للحكم الصادر ضده في قضية تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965، والتي اتهمت السلطة وقتها بعض قيادات الإخوان بالتخطيط لقلب نظام الحكم.
أُعدم قطب ولم تسمح الأجهزة الأمنية بتشيعه أو إقامة عزاء له، وتم دفنه سريعًا دون حضور أحد بل إن قبره مفقودا حتى الآن، بحسب العديد من قادة الإخوان الذين أكدوا ما قاله الكاتب الأمريكي لورانس رايت في كتابه الشهير "البروج المشيدة"، والذي أشار إلى إن الحكومة المصرية رفضت آنذاك تسليم جثمان سيد قطب لعائلته خوفًا من أن يتحول قبره إلى ضريح مقدس لأتباعه ومريديه، لذا ظل قبره خفيًا مجهولاً حتى الآن. محمد كمال وياسر شحاتة
في أكتوبر من العام الماضي، قتل الدكتور محمد كمال رئيس اللجنة الإدارية العليا الأولي والتي أوكل إليها إدارة جماعة الإخوان منذ عام 2014، قبل أن يختلف الطرفان ويحدث التطاحن الدائر حاليًا بين رجال كمال والقيادات التاريخية، وبجانب كمال قتل رفيقه ياسر شحاتة القيادي بالجماعة وذلك خلال نزال مسلح مع الأمن، بحسب بيان وزارة الداخلية وقتها، وهي الرواية التي رفضتها جماعة الإخوان المسلمين واتهمت الأمن بتصفيتهما دون مقاومة.
قبل ترتيب صلاة الجنازة والعزاء أبلغت قوات الأمن أسرتيهما بقرارها عدم إقامة صلاة الجنازة، كما قررت خروج جثمانيهما في سيارة إسعاف من مشرحة زينهم إلى المقابر مباشرة، وانتهى الأمر فعليًا بدفنهما بمقابر جبل درنكة في محافظة أسيوط، مسقط رأسيهما، وسط مراقبة قوات الأمن ودون تشييع ولا صلاة عليهما بالجامع الكبير في الوليدية .
شهداء الاعدامات
لم يقف الأمر على مشاهير الإخوان لكن بلغت الخصومة أن قامت الشرطة بمنع جنازات من نفذ فيهم حكم الاعدام ظلما وجورا.
فقد قام الأمن بمنع الصلاة على المنفذ فيهم حكم الاعدام بالمنصورة وهم أحمد ماهر هنداوي، طالب بكلية الهندسة في جامعة المنصورة وأحد أبطال رياضة الملاكمة على مستوى العالم، والمعتز بالله غانم، طالب بكلية التجارة في الجامعة ذاتها، وعبد الحميد عبد الفتاح متولي، صاحب شركة كمبيوتر.
حيث حاول أهل الشاب عبد الحميد عبد الفتاح، ودفنه في مقابر مدينة دمياط الجديدة إلا أن الأمن منع ذلك وأجبرهم على تغيير مكان الدفن، بل قام باعتقال كل من أقام صلاة الغائب عليهم
ماذا يعني منع صلاة الجنازة على مسلم؟
الاعتقاد التام بضرورة منع الخلط بين الدين والسياسة خلال تحليل الظواهر والأحداث السياسية العامة، ربما لا ينطبق على هذه الحالات التي تستلزم تطبيق سنن الإسلام على أبنائه، خصوصًا في بلد يقول دستوره نصًا إن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، وربما فات على الذين يتخذون هذه القرارات منذ عقود مضت ضرورة مراجعة الشرع وآراء علماء أجمعوا على فرضية صلاة الجنازة، بداية من الإمام النووي الذي يؤكد أنها فرض كفاية على كل من مات مسلمًا في الظاهر ولو كان مرتكبًا للكبائر، وفي المجموع: الصلاة علي الميت فرض كفاية بلا خلاف وهو إجماع.
وكذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الصلاة على المسلمين مشروعة بسنة رسول الله المتواترة بإجماع المؤمنين، وهي فرض على الكفاية، وفي "جامع المسائل" لم يرد في الأدلة الشرعية استثناء مسلم من الصلاة عليه إلا شهيد المعركة، وبالطبع لا تعد هذه الممارسات اعترافًا وإقرارًا من ربان السياسة في مصر وغيرها من البلدان العربية باستشهاد من يمنعون جنائزهم سواء كانوا إسلاميين أو غيرهم، ولكنها تبدو في رأيهم مسؤولية آفة تعدّد معاني الكلمات بحسب مزاج السامع أو المتلقّي وموقعه!