متباينات الحركات الإسامية في ظل العولمة
بقلم: باول لوبيك
يقدم الباحث تحليلاً فلسفيًا لبعض ما يراه من متناقضات تتنافر طبيعيًا مع الفكر الإسلامي مثل العولمة وما يشبهها من متعديات معرفية وسلوكية مع إعطاء بعد تنموي وعالمي في هذا التحليل
التناقض
أورد قاموس أكسفورد معاني كلمة Antimony والتي تعني "التباين" ومدلولاتها كالآتي:
- أنها تعني تناقضاً واضحاً بين قانونين أو بندين في القانون علي درجة متساوية متعادلة.
- قانون متناقض بمادة أو بند آخر يصعب الجمع بينهما وربما استخدمت مجازاً لكل مفارقة كما هو الحال في الطلاق الذي يعني التفرقة بين الزوجين.
- كما تعني تناقضاً واضحاً في النتائج بحيث لا يتصور العقل حينئذٍ الجمع بين تلك الأضداد. وكما يقول الفلاسفة، فلابد علي النقد أن يحاول توصيف هذه المتضادات التي يعمل العقل بموجبها ومن ثم يحاول التأكيد علي أن العقل سيزال غامضاً غير مفهوم وكذلك لا تزال الفكرة مبهمة إلي حد كبير ما زال العقل يتعامل بهذه الكيفيات المتضادة التي لا تتطابق خواتيمها ومقدماتها.
في وسط هذه الأجواء التي يسودها الطابع الاستبدادي من نظام عنيف لا يعرف الرحمة، يستقطب الضعفاء ويتحالف ويتواد مع الأقوياء بدت معاني العولمة تلوح في الأفق بالتزامن مع هذه العبير.
لقد باتت العولمة سراً يحرك الشعوب منذ بدايتها في القرن الخامس عشر لكنها لم تكن هي الوحيدة التي انفردت بالعرش، فقد صحبتها أختها "الأقلمة أو التمركز" وهو الخطوة المصاحبة للعولمة التي بدأت تحث علي التقدم وفتح الأبواب أمام العالم ليغزو بعضه بعضاُ، فكان لزاماً أن يبقي دور من لا يقدر علي الغزو أن يتلقى هو بنفسه تلك الأنظمة العالمية ويسعى في وضع أسس محلية لها في بلده حتي تتماشي مع هذا النظام العالمي الجديد.
ومع قدوم فترة السبعينات استعرت هذه الحرب الشرسة فبدأت الدول تتنافس تنافساً شاملاً في مجالاتها الاقتصادية والإنمائية ومعدلات نموها وارتفاعها، كل ذلك بغرض السيطرة المستقبلية علي هذا العالم الذي بات وكأنه قرية صغيرة مفتوحة نوافذها فكانت الفرصة بالفعل سانحة أمام الغرب أن يسيطر علي هذا العالم بلا شك.
لكن السؤال الآن ما هو الجديد في ذلك الصدد؟ لقد بدأ الجديد في هذا الصدد ذا انطلاقات وآفاق واسعة حيث بدأ بعمل مجموعات تتصل فيما بينها في إطار المصلحة والعلاقة التي تجمعهم بغض النظر عن الفوارق الزمنية أو حتي المكانية التي ربما شكلت عائقاً في الماضي.
ثم بدأ الجديد يأتي ويتدفق علي عالمنا هذا، فقد بدأت العولمة تأخذ طريقها الحقيقي في فتح العالم من خلال عالم الإلكترونيات الذي فتح الآفاق أكثر من ذي قبل.
فالعالم مع هذه التقنية يلغي بالفعل كل الفوارق الزمنية والحدود المكانية وتتحكم فيه بعض قواعد البني التحتية التي أسست لهذا المشروع.
الجديد كذلك في هذه العولمة هي هذه الثورة المعلوماتية التي اخترقت السماء والأرض معاً لتحقق ما لم يكن قابلاً للتصور أو خاضعاً للتخيل يوماً ما.
لقد فتحت آفاق السماء أمام هذا النظام الإلكتروني المعلوماتى ليجمع شتات الأرض شرقها بغربها وشمالها بجنوبها دون أدني مشكلة في ذلك من خلال تقنيات وبني تحتية تتمثل في شركات وخدمات ووكالات وشبكات حاسوبية ووحدات خطية تجمع القاصي بالداني.
ثم حاول الكثيرون أن يقفوا علي ماهية هذه الأيدلوجية ومردها فرأي أنها ضرب من الليبرالية الحديثة التي تمارسها الدول المهيمنة والمسيطرة علي العالم الآن باقتصادها وأنظمتها السياسية التي تضرب العالم بيد من حديد بمعرفة منظماتها التي بدت أحادية الجانب (هيرست وثومبسون 1996).
لقد بدي لنا الآن جلياً أن الليبرالية الجديدة هذه التي تتزعمها الدول المهيمنة تتخذ من الثورة التكنولوجية المعلوماتية سلاحاً لها لتفعيل دورها في الهيمنة.
كما بات من الواضح كذلك أن هذه البنية التحتية المعلوماتية قد أصبحت من أهم مكونات الحضارة والتقدم في عصرنا هذا مما يستحيل التخلي عنها خاصة في حل المشاكل والأزمات.
فإذا تم التخلي عنها، لعبت عوامل الفصل بين الدول والأقطار من فواصل زمنية ومكانية دورها في حجب الرؤى وصعوبة التدخل للنهوض بالوضع المتأزم.
لذا كان لزاماً أن نلجأ إلي هذه العوامل المؤثرة ونشرع في استخدامها حتي يتثنى لنا القضاء علي المشكلات العالمية التي شكلت صعوبة في حلها علي المستوي الفردي فكان لزاماً أن يتم حلها علي المستوي العالمي الأعلى مستخدمين التقنية الحديثة في ذلك.
لكنه لا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر المنظرين بضرورة عدم نسيان أصل فكرة العولمة ومنبعها الأساسي كما تنبأ بها ماركس وفيبر وغيرهم من منظري عصر التنوير السابقين وجهودهم في رؤية هذه الفكرة بشكلها المادي.
وفي هذا الاتجاه، تجد كل المؤثرات الناجمة عن العولمة لا تقف عن حدود المكان، فهي تخترق العالم بأفكارها المادية التوسعية الإستقطابية.
لكنه علي الرغم من ذلك، فما زال المنظرون يضعون علي عاتق كل دولة علي حدة أن تضع حداً فاصلاُ لما تراه من انتهاكات أو أخطاء تنجم عن العولمة في حيزهم الوطني وعلي ذلك تكون المهمة متجزئة في جانبها الأكثر تأثيراً، فهي تنتشر بفكر توسعي وتنحسر في مفهوم حل الأزمة.
هذا وقد جاءت العولمة بما كان متوقعاً من ويلات تنبأ بها المنظرون الاجتماعيون في عصر التنوير، لكنهم فشلوا في الوصول إلي غاية التوقعات والتكهنات بعلو سلطان العلمانية ومن ثم هبوط وتدني المنظومات الاجتماعية التي تزعمها الليبراليون الجدد وحملاتهم التوسعية التنافسية، فلم يصل العالم إلي هذا الحد المتوقع بعد بفضل هذه الفئة التنويرية التي عارضت ذلك بكل قوة وشجاعة.
ولتمام التأكيد، فالكثير من الحركات التنويرية الاجتماعية الآن في الغرب تمر بمنعطف صعب رغم تواصل الناس معهم ودعمهم بعض الشيء، فهذه هي ثمار العولمة.
لكننا إذا نظرنا إلي دول العالم الثالث، فسنجد أن هذه المجتمعات هي التي تعارض الحركات التنويرية محاربة شرسة حيث أن المجتمع يملك بنفسه أداة التنوير وهي أدواة الإسلام الذي تدين به الشعوب في هذه البلاد.
فقد وصف جالنر هذا المشهد فقال بأن المسلمين يكونون حزاماً قرآنياً يجمعهم ويُأصل رابطتهم من جنوب روسيا حتي تنزانيا في المحور الشمال غربي ومن أندونيسيا حتي المغرب في المحور الغرب شرقي.
هذا وينتشر الإسلام بشكل سريع جداً يجعله يتصدر الإحصاءات بلا منافس، ثم هو يتحرك في الداخل الإسلامي ولا يسلم منه الخارج.
فما زالت ينتشر في البلدان الأكثر فقراً كالسودان وغيرها في أفريقيا، كما أنه ما زال ينتشر في أوربا وأمريكا الشمالية كما تنتشر النار في الهشيم.
لقد دخل الإسلام المجتمعات الغربية فقاد إلي حركة تنويرية جديدة ربما ناوءت معظم القوي الإقليمية. وقد جيشت الحركات الإسلامية بالفعل جيوشها لإقامة ما يسمي بالإمبراطورية الإسلامية ونهجت في ذلك نهج العنف والسلاح.
ويتوقع الكثيرون أن العولمة ونظريتها ستساعد وللأسف الشديد هذه الأفكار الإسلامية المتطرفة والدليل علي ذلك هذه الخلايا المنتشرة لهم في كثير من الأصقاع والبلدان.
ومنذ ذلك الحين تزعمت القوي الإسلامية المشهد الشعبي وقد قامت بإزاحة القوي اليسارية العلمانية من طريقها لتكون لها الريادة والسيادة وحدها في الساحة الشعبية.
هذا وتري زبيدة وبينين أن السر وراء تصاعد هذه القوي الإسلامية يكمن في عاملين أساسيين: الأول هو هذا النهج الاستبدادي في حكم الدول الإسلامية من قبل الأنظمة التي تدعي الديمقراطية وتحكم بأنظمة استبدادية مما يمهد الطريق الشعبي لدعم مثل هذه الحركات دعماً شعبياً، والثاني هذا الدعم المادي والسياسي والاقتصادي بشتى صوره الذي تتلقاه هذه الحركات من قبل أمريكا وحلفائها في الخليج من السعودية ودول الخليج و بروناي ما يقوي روابط هذه الحركات للوقوف في وجه الأنظمة المستبدة اليسارية ويوقف تمددها إلي أجل غير مسمي.
والحالة التي نركز عليها هي أفغانستان أو المجموعات الإسلامية التي كانت تدعم إسرائيل ومصر والجزائر ثم ما لبثت أن انقلبت عليها وحاربت هذه الأنظمة الحاكمة.
فطبقاً لما قاله مساعد وزير الخارجية الأمريكي في إدارتي ريجان حيث قال "لقد قمنا بخلق شبح في أفغانستان" (هيرو 1998 20).لكن بن لادن وطالبان من جانبهما أكدوا علي المثل الذي يقول بأن عدو عدوي لا يعني بالضرورة أن يكون صديقي.
العلاقة المتضادة بين العولمة والإسلام
لقد رأي المنظرون للتنوير مستقبل العلاقة بين العولمة والإسلام فرأوه قاتماً ينذر بقطيعة وخصام أو عدم توافق ووئام.
لذا رأي "بورك" هذا التحول من العلمانية القومية المتعولمة إلي النزعة الإسلامية الحركية أمراً أشبه ما يكون بالتحول الجذري بين قطبين متنافرين، لذا طالب المفكرين والمنظرين أن يضعوا إطاراً لهذا التحول ووصفاً دقيقاً له.
فبدأت الأسئلة التي اعتبرها الجميع شائكة جداً كان منها ما يلي:
لقد عرف فوكوياما أساليب العولمة وطرقها فقال بأنها هي العقلانية والكفاءة وتوفر المواد إلي جانب الأخذ بقواعد الديمقراطية وقيمها ومبدئها، فلماذا تصر الحركة الإسلامية إذن علي استخدام العلمانية وإطاراتها المذكورة آنفاً في توسعاتها وتمددها؟.
وإذا كانت هذه الحركات متخلفة وتتبع سنن القرن السابع الميلادي ولا تري عصرها الذي تعيش فيه ومتطلباته وحاجاته، إذا سلمنا بذلك جدلاً، فلماذا تنتشر هذه الحركات في المناطق الصناعية الكثيفة السكان أكثر منه في القرى؟
أم لماذا تصر هذه الحركات علي أن تعطي الأولوية في صفوفها للمتعلمين والمتنورين وأولي الألباب والأفكار وخاصة أصحاب الاتجاه العلمي كالمهندسين والأطباء وغيرهم الذين هم كثر في الحركة هذه؟
وإذا سلمنا جدلاً كذلك أنهم مستبدون، فلماذا حازوا هذه الشعبية الجارفة بين صفوف أمتهم وفازوا بالانتخابات باستحقاق في الجزائر وتركيا وغيرها ولم يزحزحهم عن ذلك إلا التدخل الأمريكي لإجهاض هذه العملية الديمقراطية؟.
أم لماذا يتمتع الإسلاميون بوجود جاد في أنظمة العولمة ذاتها من اتصالات وأنظمة الكترونية وهي الأنظمة التي تؤثر بشكل قوي علي نشر فكرة العولمة؟ أم لماذا يتمتع المسلمون في أمريكا الشمالية وأوربا بتواجد حيّ في هذه البلاد التي سكنوها حديثاً؟ ألم يقرأ هؤلاء كتاب فوكوياما "نهاية التاريخ"؟ ألم يستوعب هؤلاء فكرة أن العالم لن تقوم له قائمة إلا بالفكرة الليبرالية الجديدة تحت مظلة العولمة الرأسمالية؟.
من هنا، إذا رجعنا إلي كانط الذي عاصر عصر التنوير هذا، نجده وصف العلاقة المتضادة علي أنها "تضاد في النهايات التي اجتمعت علي مقدمات عقلانية مفهومة".في ضوء ذلك يمكننا أن نتصور طبيعة العلاقة بين العولمة والأسلمة التي أنتجت بالفعل "الإسلام العالمي".
متناقضات في ردهات الفاعلية الإسلامية
من أجل أن نجيب علي هذه التساؤلات حول طبيعة العلاقة المتضادة بين الإسلام والعولمة، لابد أن نمر في شوارع هذه المملكة الإسلامية المزعومة ونري ما يحدث هناك.
ففي مصر تري شاباً متحضراً مثقف الفكر عاطل عن العمل يرفع شعار "المستقبل في الإسلام" أو "الإسلام هو الحل" لكن ليس هذا هو المشهد الوحيد.
ففي تركيا البلد ذات الطابع الصناعي والتي تمتعت بسبق علماني قومي لم يسبقه إلا القلائل من الدول، تري هناك أحد طالبات كلية الطب تصر عل دخول امتحان لها وهي ترتدي النقاب فيتم طردها في الحال.
ثم لا نلبث أن نذهب إلي ماليزيا تلك القوي الصناعية المتميزة جداً فنري الفتيات هناك أيضاً يصرون علي تغطية وجوههن نكاية في النظام الحاكم المتسلط.
لقد تعلق سياسيو الإسلاميين في خيار الشوري الذي يعتمد علي شورية المؤسسات الحاكمة وعدم استبدادها ومن ثم أحقيتهم في دخول الانتخابات.
هذا وقد أعد كرامر دراسة قال فيها بأن الإسلاميين لا يرون النظام السياسي الغربي هو المتبع لديهم، لكنهم يملكون آفاقاً أوسع من ذلك. لقد استخدم هؤلاء الإسلاميون كل أنظمة الحضارة الغربية قاطبة، لكن في حدود دينهم والتزاماتهم.
ثم هو يعاودون الكرة في الثمانينات والتسعينات فيعتمدون علي خيارات سياسية ذات طابع غربي المنشأ: مثل التعددية (لكن بالمنطق الإسلامي) ومبدأ الحكم الشوري ومبدأ المحاسبة ومبدأ الديمقراطية ومبدأ حكم القانون إلي جانب الكثير من المبادئ.
والجدير بالذكر، لم يتخرج الإسلاميون من مدارس العلم الغربي كما لم يتخرجوا من الطرق الصوفية و مجالس العلماء، بل لقد حاول علمائهم ومفكروهم أن يجعلوا لهم طريقاً فريداً عن ذلك كله.
لقد اعتمدوا علي الحضارة الغربية في مبادئها وطرقها وأدواتها من نشر شرائط وفيديوهات ولقاءات وحوارات وغيرها الكثير كما هو الواقع في www.ou.edu/cybermuslim، لكنهم في الحقيقة لا يرون الغرب بالنسبة لهم إلا وسيلة وليس غاية، فلديهم الغايات التي تسمو وترتفع عن حد تقليد الحضارة الغربية، فهم يهدفون في الأصل إلي تحقيق الحضارة والرفاهية الإسلامية. (غامري تبريزي 1998).
فمن هؤلاء الإسلاميون إذن؟
تعتبر هذه هي الخطوة الأولي في السعي وراء معرفة جذور الإسلاميين، وعليه لابد إذن أن نتعرف علي المجتمع وقواعده التي سمحت لهذا الكيان بالتواجد.
لقد أعد ميتشل دراسة قديمة عن المجتمع في الخمسينات الذي أدي إلي نشأة جماعة الإخوان في مصر واحتضنها بهذا الشكل.
لقد وصل ميتشل في بحثه إلي نتيجة تؤكد علي أنهم غالبيتهم قد تشكلوا من الطبقة السفلي والوسطي من الأقاليم المصرية وقليل من الأحياء الشعبية في القاهرة ويتمتعون بقاعدة شعبية ممتازة مساندة لهم علي المستوي الشعبي (ميتشل 1969، ديفيس 1984).
لقد اخترق هؤلاء الإسلاميون بهذه الشعبية ومن خلال انتخابات نزيهة حرة النقابات المهنية مثل المهندسين، ثم تمددوا في الحرم الجامعي الذي يعد مهد الدراسة العلمانية ليكون من أهم أساساتهم في التحرك، ثم نهضوا مع المدارس الثانوية التي امتعض طلابها ويأسوا من توفير حياة كريمة، لتكون كافة هذه المستويات من أهم المكونات التي يسهل اجتذابها إلي الجماعة والحركة.
والجدير بالذكر، تمثل منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لأفريقيا المرتبة الثانية من حيث الزيادة السكانية.في هذا الأثناء بدت الأوضاع الاقتصادية ضاغطة جداً في حين زاد معدل الخصوبة بشكل عالٍ جداً.
وفي أحوال التعليم في مصر حدث ولا حرج، لقد كان التعليم في هذه المرحلة يتركز أساساً علي الإعدادي والثانوي والأخير قليل جداً ثم تأتي المرحلة الجامعية فتري المعدل فيها لا يرتفع إلا قليلاً في حين تري هذه المرحلة الجامعية تستهلك حوالي 38% من ميزانية التعليم في عامي 1984 -1985.
في حين زادت نسبة تخلف البنات عن المرحلة الابتدائية بالتزامن مع تزايد العطالة التي تزيد كل عام بل ربما تتضاعف.
إبان هذه الظروف، ترسل بعض الدول بعثات طلابية لها في الخارج فتتلقفها الإتحادات الطلابية هناك والتي يسيطر عليها أبناء الجالية المسلمة والذين يشكلون تواجداً قوياً علي الساحة هناك، فيأخذون بزمام الأمور وينشرون أفكارهم ليتم تكوين الخلايا الدولية هناك في محضن أوربا وأمريكا، لتتم نظرية العالمية بنجاح.
ثم نذهب إلي الجزائر التي ربما منيت بحرب داخلية طاحنة. قالت دراسة ما بوجود ما يقرب من 270 ألف حاصل علي دبلوم لم يتم تعيينهم أو الاستفادة منهم في حين أن 75 بالمائة من جملة الشباب ما بين سن 16 حتي سن 29 عاماً يبحثون عن عمل.
ثم تذكر الدراسة وجود تكدس سكاني رهيب حتي بلغ الأمر مداه إلي أن يسكن ما يقرب من 8 أشخاص بغرفة واحدة.
في وسط هذه الأجواء تتحرك الحركة الإسلامية لتجند صفها من وسط هؤلاء الباحثين عن عمل أو العاطلين أو المتعلمين الذين رفضت الأنظمة المستبدة أن تستغلهم بموجب الإخفاق في تحقيق أي تقدم يذكر علي صعيد تحسين الأوضاع الاقتصادية الطاحنة هذه.
تعتمد الحركة الإسلامية في جذب أعضائها الجدد علي قطاع الخدمات الذي يضم الطبقة الوسطي فما دونها من القطاعات الحكومية والخاصة علي السواء من الطبقة المتعلمة والمتحضرة وغيرها علي السواء كما هو ملاحظ في الجزائر وتركيا وإيران وغيرهما الكثير أينا تواجدت مثل هذه الظروف الفعالة في هذا النطاق العريض الذي تتحرك فيه، خاصة قطاعها المفضل قطاع الخدمات.
ونرجع إلي مفارقاتنا التي لا تنتهي، فقد وجدنا أن أعداداً كبيرة جداً من الذين التحقوا بالتيار الإسلامي كانوا يتمتعون قبل ذلك بعضوية فعالة في الجناح العسكري الماركسي. وفي دراسة تم إجرائها علي حماس، اعترف 60% من أعضائها بانتمائهم السابق للمنظمات الماركسية (ايكلمان 1997:34).
بل ربما كانت هذه المفارقة أشبه ما تكون بعقيدة التحرير الأمريكي اللاتيني إذا أردنا توصيفها علي هذا الحد. هذا فقد قال بورجات بأن اليساريين والإسلاميين من القاهرة حتي تونس يعطون إشارات واضحة لشيء ما سيحدث، مما يتوجب علينا أن نسرع الخطي نحو توصيف طبيعة العلاقة التحولية بينهما.
لذا حاولت الصفوة العلمانية أن تستعيد وضعها لتكون داخل هذا الحدث المتطور حتي يتثنى لها معرفة ما هو كامن وراء العلاقة التحولية هذه (بورجات 1993).
فالدخول في معترك فهم الوقائع المتباينة بين الإسلاميين واليساريين يعد خطوة مهمة علي طريق فهم طبيعة هذه العلاقة التحولية من اليسارية إلي الإسلامية بشتى صورها وتصوراتها.
لابد إذن أن نبدأ من الخطاب الذي يعتمد عليه الإسلاميون فهم أمر خطير جداً وخاصة إذا أردنا أن نحلل طبيعة العلاقة التحولية بين اليساريين والإسلاميين.
لقد كان الخطاب الشعبي في مرحلة ما بعد الاستعمار أداة قوية للتمكين للقومية وخطابها الذي تزعمته الحركات الناصرية والبعثية والماركسية ومن حزا حزوها.
لكن مع سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1989 بدأ الإسلاميون يستخدمون هذا السلاح الفعال في اجتذاب العامة والتفافهم نحو مشروعهم القومي.
لقد أدت كذلك برامج "ساب" "برامج التعديل التنظيمي" إلي إحداث طفرة في طبيعة الخطاب لدي الإسلاميين.
فقد أدي إدخال هذه البرامج ليتم تطبيقها في دول الاتحاد إلي إحداث طفرة عظيمة في أنظمة الاتحاد السياسية والاقتصادية وأنظمة مختلفة في كل اتجاه، الأمر الذي استغله الإسلاميون بعد سقوط الاتحاد بسبب هذه البرامج فأعلنوا رفضهم التام لأية إملاءات تملي عليهم.
وفوق كل ذلك، فقد قالوا بعدم شرعية الأنظمة التي تخضع لمثل هذه البرامج ليحكموا سيطرتهم المجتمع المدني ومؤثراته من خلال خطابهم ذا الطابع الشعبي المناهض للاستعمار الداعم للقومية.
دعنا الآن نأخذ طرفاً من مناقشة طبيعة العلاقة بين العولمة ومثالها الليبرالي الجديد الذي تقدمه للعالم، والحركات الاجتماعية الإسلامية التي تتمثل في المملكة الإسلامية التي تسعي لتحقيقها من خلال حركتها الاجتماعية هذه.
توضيحات ثقافية حول سبب انتعاش "الإسلامية" في ظل العولمة
إنه من المعلوم لدينا أن طبيعة العلاقة بين الحركة الإسلامية والعولمة قد بات أمراً تشوبه الأضداد والمفارقات.
ومن الواضح أن مكمن المشكلة في طبيعة العلاقة بين الاثنين تكمن كذلك في صعود الحركة الإسلامية بنمط سريع مستخدمةً النطاق الثاني "العولمة" في عملية الصعود هذه.
يقرر وولرستاين في مبدأه "القومية العرقية التفاعلية" أن نشأة أية حركة اجتماعية يكون بمثابة رد فعل علي حدث ما حدث.
فإذا رفع النظام مثلاً من التكلفة، خرجت حركة متضررة من ذلك فأوجدت لها مكاناً مستحقاً علي الساحة الاجتماعية.
وبالأخذ بموجب هذا المبدأ، يمكننا التعرف بشكل سريع علي أسباب نشأة هذه الحركة الإسلامية التي لا تخلو أن تكون كرد فعل لما اتخذته الأنظمة من إجراءات أدت بالضرورة إلي نشأة وتطور مثل هذه الكيانات.
وعلي النطاق الأوسع، فربما وجد الفرد غايته ومراده في الانتماء لحركة عالمية تنبع من إطار محلي مثل هذا الحاصل في الحركة الإسلامية التي تجمع المسلمين بمختلف طوائفهم وبلدانهم علي كلمة سواء "الأمة".
يظهر علي الساحة العالمية الآن أكبر تجمعين للشعوب هما الحج الذي هو من شعائر المسلمين والنظام الرأسمالي الذي يربط مصائر الدول ببعضها البعض. لكن لفظ الأمة يعني عند المسلمين الكثير والكثير.
فهو الإطار العالمي الذي تحكم به الشعوب الإسلامية تحت راية خلافة أو إمارة واحدة كان آخر تمثيل لها قد سقط عام 1924.
وعليه فقد استحثت الشعوب الإسلامية وانتظرت وما زالت تنتظر وقوع هذه الخلافة وتجمع الدول الإسلامية جميعها بغض النظر عن اختلافاتهم الفقهية أو المذهبية التي تعم أرجاء الفكر الإسلامي.
لكن علي كل حال، فالأمة الإسلامية المنشودة يجمعها قانون الأمة العالمي، لكن يتم تخويل كل إمارة أو منطقة أو دولة بحكم نفسها بنفسها في هذا الإطار التنسيقي العالمي الذي تنتمي له كل دول الإسلام.
وبشكل أشبه ما يكون بالمداراة، تحث العولمة علي معارضة كل أشكال السيطرة علي هذا العالم المفتوح للجميع، ومن أشكالها السيطرة الأمريكية الواقعة حالاً.
تدعو أنظمة العولمة أعضاء هذه الأمة الإسلامية أن يشاركوا العالم بشكل إيجابي وأن يتعلموا ويعلموا ويتواصلوا مع أقرانهم في شتي مناحي الحياة حتي يحققوا النفع من هذه الوسائل المتاحة من قبل أنظمة العولمة.
لكن ولكل أسف، فقد صرح بريان تورنر الذي يعمل في حقل البحث الاجتماعي بوجود قصور شديد لدي المسلمين في فهم طبيعة العولمة وأنظمتها ومن ثم واجبهم نحو أدواتها.
لقد بدي من الواضح لدينا أن الإسلام دين متعدد الجنسيات وله صبغة عالمية، ونحن من جانبنا قد حققنا أدوات التفاعل بين أجزاء العالم وجعلناه بمثابة قرية صغيرة تتصل أجزائها وتترابط فروعها بغض النظر عن البعد الزماني أو المكاني أو اللغوي أو شتي الأبعاد المختلفة لدول العالم.
لكن في هذه الآونة المعاصرة، فقد فشل الإسلام واقعياً في استغلال هذه الوسائل التفاعلية مع أجزاء العالم الآخر وأهدر فرصة عظيمة كان يتوجب عليه أن يستثمرها في التفاعل والتواصل مع العالم ومن ثم دعم رسالته العالمية وعرضها كأفضل ما يكون للاستهلاكية الغربية.
تفسيرات هيكلية للإسلام العالمي: نموذج العملية السياسية
لقد خضنا غمار الأوضاع التي أدت إلي ظهور الحركات الإسلامية من قبل وكيف ظهرت علي الساحة مستخدمةً خطابها وطريقتها الخاصة في التعامل مع الجمهور ومن ثم علاقتها العولمة وعملياتها الواقعة علي الأرض.
والآن يتوجب علينا أن نناقش أهم الأبعاد في توصيف العلاقة بين الحركة الإسلامية وأنظمة العولمة بشكل أكثر تفصيل لفهم طبيعة هذه العلاقة التي تم توصيفها من قبل بالتخاصمية المتضادة.
إن مكمن الوصول إلي كيفيات العلاقة هذه له مدخل رئيسي لابد من الوصول إليه ألا وهو:إصرار الحركات الإسلامية علي أن يكون له بعد عالمي أو تنظيم دولي تتحرك من خلاله في آفاقها العالمية.
وقد ولجنا في الكثير من الأبحاث الخاصة بهذه الصدد مما أكد أهمية ورشة العمل التي أعدها وقادها دوج ماك آدم في توصيف طبيعة هذه العلاقة.
لقد حاول الأخير برفقة صديقه سميث أن يكتبوا في حركة الحقوق المدنية الأمريكية وكذلك عقيدة التحرير الأمريكي اللاتيني. وقد اعتمدوا في خطتهم التنظيرية هذه علي وضع نموذج العملية السياسية ليكون بمثابة منبع لكل الحركات الاجتماعية.
ومن ثم لم نجد بداً من الاستعانة بهذا التوصيف رغم انه سيكون من الصعوبة بمكان أن نصل إلي توصيف يجمع إطارهم الواسع هذا ويسقطه علي قضيتنا التي نحن بصددها.
لكنهم قاموا بوضع نقاط أساسية وعوامل فعالة في فهم إصرار الإسلاميين علي أن يكون لهم إطار حركي دولي معتمدين علي أنظمة العولمة لتسهل عليهم طريقهم العالمي هذا. هذا وقد تم إجمال تلك العناصر في ستة عوامل.
1.التغيرات الاجتماعية الاقتصادية: مما لاشك فيه أن التغير في الوضع الاجتماعي إلي الحال الأسوء أمر يجلب الويلات بلا شك.
فتأتي الظروف الضاغطة تبعاً من عدم استقرار وسوء توظيف للخبرات والمهارات وسوء تخطيط من قبل السلطات مما قد يؤدي إلي خلق مناخ تنمو فيه قوي داخلية جديدة تصارع القوي الحاكمة.
وبالنسبة للمملكة الإسلامية المزعومة، فإن أحلام التغيير في السبعينات كانت منصبة في هذا الاتجاه عندهم لا تعدو أن تكون في تحقيق الاستقلاليةالقومية من جانب وتحقيق سهم عالٍ من اكتشافات البترول.
2. هذا ويتبع الخطوة الأولي في التغيير الاقتصادي الاجتماعي هذا النوع من التغيير السياسي الذي جاء كنتيجة للنوع الأول.
فتأخذ القوي الوليدة هذه في التركيز علي دورها السياسي ومن ثم تطالب بتحقيق هذا التغيير من جهة عاملين أساسيين: ا
لأول هو زيادة الوعي القومي بالقضايا الكبري التي تخص الوطن مثل التغيير والإصلاح، ثانياً إصرار هذه المجموعة علي مطالبها بأحقيتها للسلطة.
وعلي كل حال إما عاجلاً أم آجلاً فستتحقق مطالبهم هذه وستسنح لهم الفرصة المواتية لهم ما دامت الأوضاع تتغير إلي الأسوء ضد النظام الحاكم والأحسن بالنسبة للمجموعة الناشئة.
3. ثم لا تستنكف المجموعة هذه أن تعزز موقفها فتعمد إلي ضم حزم من المنظمات الأهلية إليها حتي تكتسب بها قوة وصولجاناً وبوقاً إعلامياً كما هو الحال في الأمة الإسلامية.
تسعي الأمة الإسلامية إلي تحقيق التضامن الاجتماعي من خلال تضافر مؤسسي يعمل بشكل جدي لجمع طاقاته وعرضها للشارع الإسلامي حتي يصدق علي مشروعاتها ويدعمها بالغالي والنفيس.
4.ثم من خلال هذه المنظمات تبدأ الحركات الإسلامية عملها مستعينةً بغطائها المنظم هذا. تبدأ المنظمة في هيكلة نفسها ذاتياً من خلال إعداد لقادتها ومسئوليها وتدريبهم علي القيادة والإدارة كأفضل ما يكون وما يجب أن يكون.
ثم تعمد إلي عمل جهاز إعلامي يحمل فكرة المجموعة ويحاول بشتى الطرق أن يرسي دعائمها ويثبت أركانها إلي جانب الكثير من الوسائل المعتمدة في هذا الاتجاه. وهذا الأمر بلا شك يتمتع بتواجد عريض داخل المجتمعات الإسلامية وهو الأمر الذي خططت له الحركة الإسلامية في الماضي وها هي تجني ثماره في الحاضر.
5.ثم يأتي دور غرس عقيدة المعارضة والمقاومة لطغيان السلطة ومؤسساتها في نفوس أعضاء المنظمات الرعية للحركة المؤسسة ثم يتطور الأمر حتي يصل إلي مرحلة الاستقلال الخطابي الذي تستطيع فيه الحركة ومنظماتها الداعمة لها من أن يوجهوا نقدهم اللاذع لخصمهم الحكومي ومؤسساته ثم يعرضوا رأيهم ومقترحهم ليصادق الشعب عليه ويجمعوا الناس حوله بمثل هذه الكيفية الخطابية.
وقد بات من واجب الحركة إذن إن هي أرادت الأداء المتميز لمنظمتها أن تبادر بغرس عقيدة العمل الجماعي وروحه العالية إن التزم به أعضاء المؤسسة، فهو لا شك يثمر إثماراً ليس له مثيل.
فقد قال سميث في هذا الصدد "إن رؤية الإصلاح تعتبر في المقام الأول رؤيةً جماعية يتفق فيها الأفراد علي أنها واجب قومي يمكن تعديه للآخرين أجمعين دون تفرقة بين واحد وآخر".
6. ويتم في النهاية التعرف علي النتائج بحجم الرد الذي ترد به المؤسسات والأنظمة التي يتم تهديدها من قبل المعارضين الناشئين. فعلي قدر قوة وصولة هذه المؤسسات يكون الرد، إما بالتسليم أو القمع علي حسب قوة ردها وتفاعلها مع هذه القضية التي طفت علي الساحة حديثاً.
في ضوء هذه المحاور الستة سنقوم بعرض واقعي لأحداث نشوء الحركات الاجتماعية في الداخل الإسلامي وخاصة مع أواخر القرن العشرين وتصاعد وسائل العولمة أكثر من ذي قبل.
وسنقوم بتقسيم هذه المرحلة إلي ثلاثة مراحل أساسية في التاريخ. كما سنعرض كيفية تفاعل الإسلاميين مع السلطة في ضوء تغير المناخ العالمي من فوقهم ومن تحتهم.
كما سنعرض السبب الكامن وراء حشد الإسلاميين لقواهم رغم فوز الليبرالية الحديثة بالسيطرة علي العالم المتمثلة في الهيمنة الأمريكية علي المقدرات والقرارات. وسنبدأ مرحلتنا من حيث انتهت الخلافة الإسلامية وتهاوت وسقطت دون رجعة في اسطنبول.
المرحلة الأولي: القومية العلمانية وعملية التنمية التي ترعاها الدولة
لقد بدأت هذه المرحلة من حيث ظهر كمال أتاتورك علي الساحة فأسقط الخلافة العثمانية في عام 1924 ونادي بدخول مرحلة جديدة ذات طابع علماني قومي.
لقد حاول الأخير أن يبني دولته من الداخل وأن يعيد بناء هيكلها ليكون قومياً شبه علماني يتماشى والمبادئ الحديثة للدولة ومفهومها كما يراه الغرب التنويري.
لقد بذل إذن أتاتورك جام جهده لكن لم يستجيب له إلا القلة من صفوة السياسيين والمفكرين. ثم كانت هذه الحركة بمثابة الضوء الذي يتوقع له أن ينفذ إلي الأقطار العربية ويخيم علي ساحتها.
ثم استهدفت هذه المرحلة بناء استقلالية كل دولة علي حدة والتي تدعو إذن إلي القضاء علي السيطرة الاستعمارية الأوربية علي مقدرات البلاد ومن ثم تحقيق استقلالية البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الهوية القومية فوق كل ذلك.
هذا وقد تمحور الحديث في هذه الآونة علي ضرورة وجود توزيع عادل للفوائد والمصالح في ضوء مفهوم الدولة المدنية الحديثة ومبادئه التنويرية من ديمقراطية وصحة وتعليم ورفع لمعدل الأجور والدخل وغيرها من المبادئ الحديثة.
لكن كانت دول الخليج وباكستان وماليزيا إلي حد ما من استثناءات القاعدة هذه التي تم تطبيقها علي جل البلدان والأمصار.
فمنذ أن حاولت الشركات العالمية أن تحكم سيطرتها وإدارتها لأسعار النفط في العالم، حاولت الدولة إذن بداية من هذه المرحلة أن تحكم سيطرتها علي الثقافة والتعليم والتدخل في آليات التحرك الاجتماعي.
ثم قامت البلاد إذن بتغيير التعليم وأدواته ليحل محله التعليم الغربي وقيمه ثم يتم إحكام السيطرة علي البلاد من قبل أجهزة الأمن التي ضربت بيد من حديد علي كل المعارضين والمناوئين لهذا النظام العلماني الجديد.
ثم لم تلبث هذه المرحلة أن منيت بخسارة فادحة في حرب 1967 لتفقد بذلك أعتاب الحرم القدسي الشريف وما استتبعه من انهيار لمنظومة التقدم الداخلي والطموح في الاكتفاء الذاتي والتصدير للخارج، الأمر الذي أدي إلي إثارة العامة بلا شك وامتعاض الكثيرين من هذا الفكر الذي أبدي فشله بالتأكيد.
ثم بدأت بالفعل مرحلة جديدة قامت فيها منظمة أوبك بخلق قوة تنظيمية دافعة جديدة للحركات الاجتماعية الإسلامية في هذا التوقيت العصيب.
المرحلة الثانية: نكسة 1967: أزمة جزيرة والطفرة البترولية
وبدأت المرحلة الثانية إذن مع خسارة فادحة في حرب 1967 والتي أدت إلي خسارة فلسطين والأعتاب المقدسة فيها إلي جانب هذه المحنة المتمثلة في الفشل في تصنيع بديل قومي للمنتج الوارد.
إلي جانب هذه المحن، نبعت محنة عالمية ربما كانت أفظع من ذلك. ذلك حينما حصلت هناك هذه الثورة البترولية في عامي 1973و1974 والتي مني بها المصدرون المنتجون للمواد الخام بخسارة فادحة في الأيدي العاملة والمواد الخام كما خسر أيضاً المستوردون المستهلكون بخسارة ليس لها مثيل.
وبدأت منظمة أوبك في مداولة المشكلة البترولية حتي وصل عدد المعارضين إلي تسعة من أصل 14 مقعداً تملك السعودية فيها حق الفيتو "الاعتراض".
ثم بعد هذا التداول في ظل جو خانق من سيطرة أمريكية علي المنطقة والسعي لفرض سلطانها علي كل القرارات المتخذة، تم الوصول إلي اتفاق يقضي للمعارضين علي حساب غيرهم من الدول العلمانية الفقيرة.
وعليه فقد بدأت سيطرة الدول ذات الأغلبية المسلمة علي حساب الدول ذات الأنظمة العلمانية ليبدأ هذا الحراك السريع في مرحلته الثانية بين الفريقين العلماني ومعسكره الذي بات ضعيفاً بعض الشيء أمام هذه الدول ذات الأغلبية الإسلامية في بلادها.
استغلت هذه الدول الناشئة ذات الأغلبية الإسلامية صعودها هذا لتسيطر علي بلادها وتحقق شيئاً من استقلالها بالقرارات.
ثم جاء دور الصفوة الحاكمة للبلاد لتسيطر علي قطاعات البلاد من خلال هذا الدور الذي اكتسبته حديثاً من جراء هذا التصاعد الجذري لها في إطار محنة الأوبك الأخيرة مما قد يخولها سلطات كبيرة وضخمة في السيطرة علي البلاد وتعزيز حكمها عليها.
إذن فقد اعتمدت هذه القوي علي البترول وعوائده التي أكسبتهم هذه القوة المزعومة. لكن علي النقيض تماماً، فقد بدأت دول شرق آسيا في هذا الأثناء بالاعتماد علي سواعدها وتحقيق الغاية في التصنيع المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي ثم التصدير بعد ذلك للأسواق العالمية.
لقد بدت الصورتان غير منطبقتان إذن، فالأولي تكسب قوتها من عائد يعتبر عرضة لأية خسارة أو ركود ما لكن الثانية تكسب قوتها علي النقيض من صناعة مستقلة تتحكم في أدوات مكاسبها وخسارتها.
لذا جاءت رياح الثمانينات بما لا تشتهيه الأنفس، فقد انتهت إذا محنة البترول الأخيرة وتلاشي تأثيرها علي الدول المستوردة المستهلكة التي حاولت بكل شكل ممكن توفير البديل الاستراتيجي لها، فسقطت هيبة مجموعة الدول البترولية المنتفشة بعض الشيء، لكن صعد نجم الدول المصنعة في شرق آسيا.
حاولت المجموعة البترولية النهوض بأعبائها بعدما أدركت أن البترول ليس كل شيء، فبادرت بتصنيع وتطوير صناعات مصاحبة للبترول من تكرير وتنقية أو الدخول في صناعات الحديد والصلب أو السيارات أو ما شابه، لكنها فشلت إلي حد ما في خلق جو صناعي مماثل لمجموعة شرق آسيا السالفة الذكر.
لذا كان لابد علي الدول التي تحمي هذه الفكرة الإسلامية من أن تأخذ عبرة غير مسبوقة من درس الاعتماد علي البترول وصادراته.
فذكرنا آلان ريتشاردس بأنه يمكن الاستفادة من عوائد البترول حال زيادتها برفع الدخل القومي الدخول في غمار مشاريع التعمير والبناء ومطاردة معدلات التضخم وتشجيع ثقافة الإقراض.
لكن في المقابل كان القرويون قد حرموا من هذه الامتيازات حتي قرروا النزوح للمدن للتمتع بفرص عمل ذات عوائد عالية بل ربما لم يشهدوا لها مثيلاً.
كما جاءت فئة القرويين هذه فغزت سوق العمالة في ميدان الإنشاءات مما أدي إلي ضخ المزيد من المواد الغذائية كالسكر والأرز الأبيض وغيرهما.
ثم اتجهت البلاد لتحقيق بعض الإنجازات في مجال الزراعة وطرق الري المختلفة ثم دعت حلفائها أن يستثمروا في مجال المواد الغذائية والأطعمة كاللحم وغيرها.
كما استفادوا من علاقتهم بالدولة التي أمدتهم بالمعدات وما يلزمهم من مخصبات للأراضي بأسعار معقولة جداً.
كما استفادت نيجيريا هي الأخرى من مشايع الإعمار والتطور التي أدارها البنك الدولي. وبتعاقب الأيام، أصبح النسيج الاجتماعي بفعل هذا البترول أشبه في مستوياته بالكوكتيل وقد كان ذلك في معظم الدول ذات الأغلبية المسلمة.
وكان من أهم العوامل التي استتبعت ذلك: انتشار الفساد الإداري في مؤسسات الدولة، وسوء تنظيم المؤسسات، البحث عن قروض، تدفق الخريجين من التعليم العالي دون النظر لحاجة السوق لهم إلي جانب تدخل الدولة في المجتمع بشكل مؤثر.
كل هذه العوامل بالفعل أسهمت في انقراض شرعية الأنظمة العلمانية قبل الأزمة التي حصلت في الثمانينات.
وعليه فقد هاجر الكثير من الناطقين بالعربية إلي بلاد الخليج للعمل بها بتدفق غير عادي مما أدي إلي احتكاك بالمسلمين غير الناطقين بالعربية مما ولد نزعة سياسية إسلامية منيت بها البلاد بعد فتح أبوابها علي مصراعيها للداخلين والخارجين منها.
لقد أثرت بالفعل هذه الأعداد الضخمة التي غزت السوق الخليجية علي عوامل الاستقرار التي أطاحت بمعظمها وقلبت العديد من الموازين والترتيبات التي أعدتها السلطة للمرحلة المقبلة مما أدي إلي ظهور قوي اجتماعية انفجرت في الساحة مثل الثورة الإيرانية.
المرحلة الثالثة: الثورة الحضرية والدولار البترولي والليبرالية العالمية الجديدة
بعدما منيت أسعار البترول بانخفاض شديد من 41 دولاراً للبرميل عام 1981 ليصبح 8 دولاراً فقط للبرميل عام 1986، تأثرت المجتمعات بالفعل تبعاً لهذه الأزمة الحاصلة تأثراً شديداً لأنه هو مصدر الرزق الأعلى في البلاد.
ثم تدخلت مؤسسات متعددة الجوانب وأشارت باستخدام برامج التعديل التنظيمي "ساب" التي كانت تستخدم في الماضي وربما تمتعت بوجود الآن.
لكن شاءت الأقدار أن يخرج البركان الإيراني من فوهته ما بين عامي 1978 وعام 1982 معلناً الثورة الإسلامية الإيرانية.
لم يكن للإسلاميين أدني توقع بحدوث هذه الثورة بموجب بعض الأحاديث التي أدلي بها الخميني مما قلبت الشارع الإيراني، لكنها علي كل حال عطلت مجري البرامج الإصلاحية للقضاء علي هذه الأزمة الحديثة.
وقد أثرت هذه الثورة بالفعل علي مخيلة الإسلاميين وكيف أن الحديث والخطاب له أثره ودلالاته علي حركة الناس ومشايعتهم للمشروع الوطني.
لقد دقت هذه الثورة ناقوس الخطر في المنطقة منذرةً بالتمدد الإسلامي وحكمه للمنطقة مما أدي إلي إثارة قلاقل علي يد القوي الأمريكية المهيمنة علي المنطقة لتحث السعودية علي مساندة العراق في حربها التي شنتها حديثاً علي إيران.
لكن ما لبثت إيران أن سلمت من هذه الحرب وخرجت الدولتان المشاركتان بعاهات أبدية لم تسلم منها العراق حتي الآن وعاشت إيران دولة ليبرالية علي مستوي مؤسساتها بينما منيت العراق بشقاق وتصدع تبعاً لنظامها المتسلط الجائر.
ومع سعي إيران للتأسيس لثورتها الإسلامية الجديدة، استشاطت دول الخليج السنية المحافظة من هذه الإجراءات التأسيسية للمذهب الشيعي، فبذلت تلك الدول قصارى جهدها لنشر المذهب السني كما يراه السعوديين متمثلاُ في المذهب الوهابي والحنبلي.
فانهالوا بالدعم لخطة نشر المذهب السني خاصةً في البلاد ذات الطابع العلماني القومي حتي قال البعض بأن أموال البترول كانت سبباً في هزيمة العلمانية وأطرها التعليمية بسبب أموال الخليج هذه.
ومع تصاعد عوائد النفط وسيطرة السعودية علي معظم عوائده وحرمان الدول العلمانية من ممارسة أي نوع من الضغط، أخذت الأخيرة فرصتها لبناء المساجد والجامعات ونشر الثقافة الإسلامية والفكرية علي ضوء المذهب السني ومجابهته للمذهب الشيعي في إيران.
ونرجع إلي برامج التعديل التنظيمي التي تمت ممارستها لتعديل أوضاع الدول العربية والإسلامية، فنجد أن قرار باول فولكار رئيس الاحتياطي الفيدرالي يمنع من إصدار أية قروض بغرض إعادة تنظيم الهيكل الاقتصادي العالمي مما أدي إلي حدوث بعض الانهيارات الاقتصادية في المكسيك عام 1982 ومن ثم دخول العالم في أزمة مالية ثالثة.
ومن أجل القضاء علي هذه الأزمة، قرر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن يتم نقل مسئولية الصادرات والواردات من السيطرة الحكومية للقطاع الخاص وهو ما يعني التسليم للرأسمالية وسوقها العالمية.
لقد قامت الجهتان المذكورتان بدعم برنامج إجماع واشنطن الليبرالي الجديد وقد أجبرت بالفعل علي إصدار حزم من القروض حتي تتمكن من السيطرة علي أزمة الدين الجديدة هذه.
لقد أنهكت بالفعل خطة الإنقاذ التي وضعها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي هذه البلاد وأدت إلي نقص حجم المنفقات علي قطاعات عريضة في البلاد منها التعليم والصحة وغيرها كما زادت أسعار المواد الغذائية تبعاً لذلك مما أدي بالفعل إلي ضعف في القطاع العام ودعم للدور التكاملي مع سوق التصدير الرأسمالية العالمية.
ثم استفاد الإسلاميون بالفعل من هذه الظروف التي أدت إلي إضعاف سلطة القطاع العام واستغلوا بالفعل هذا الظرف أحسن استغلال لبسط سيطرتهم علي الوعي القومي وخاصة بعد أن مني اليسار بهزيمة من العيار الثقيل في أواخر أيامه.
ثم فشلت الحكومة في السيطرة علي المعارضة في ظل هذه الأزمة ولم يستفيد العامة من أية خدمات بل تم منحها بالفعل لأبناء الطبقة الوسطي والصفوة.
لقد فشلت الأنظمة كذلك في التماشي مع آليات تطبيق برامج التعديل التنظيمي واليت تدعو الأنظمة إلي الاستفادة من الدعم الموضوع سالفاً لكل القطاعات والمناطق ومن ثم محاولة خلق واقع متوازن بدلاً من الآخر العلماني القومي الذي ورط البلاد في مثل هذه الأزمات.
لقد عرضت الحكومة إذن هذه الفرصة التي سنحت أمام الإسلاميين لاستغلالها أحسن استغلال ووضع أسس لحركتها الاجتماعية من خلال الخدمات التي قدمتها للعامة.
والجدير بالذكر فقد فشلت الأنظمة بما تملكه من قوة وسلطان أن يكون لها دور في هذه الفرصة السانحة وبقي دورها كدور المشجع دون أدني مشاركة فكان صعود سهم الإسلاميين باستغلالهم لهذه الفرصة (ويكهام 1997).
كما عدل الإسلاميون في خطابهم الذي اشتمل علي القومية والوطنية وأدخلوا عليه بعض المدخلات الغربية من حقوق الإنسان ومقاومة الحكم المستبد والقضاء علي الفساد وغيرها.
ويمكننا الآن أن نقول بأن الليبرالية الجديدة هي من أوصلت الإسلاميين إلي تصدر القائمة الشعبية، لقد حدث ذلك حينما فشلت برامج التعديل التنظيمي "ساب" في إحداث أي طفرة في الأوضاع الاقتصادية القائمة وغيرها من الأوضاع الاجتماعية الفاسدة، فما كان من الدول العربية والإسلامية مع اختلاف مشاكلها وتوجهاتها إلا أن لفظت هذه البرامج وتلك الحلول مما عزز الفكرة الإسلامية في عدم الاعتماد علي الحل الخارجي أيما كان.
كان ضمن الدول التي رفضت هذه الحلول:
المغرب وتونس ومصر والسنغال والجزائر وماليزيا ونيجيريا والأردن إندونيسيا وباكستان (سيدون ووالتون 1994).
لقد قضت برامج ساب هذه علي طموحات الليبرالية الجديدة بل وقضت علي شعبية العلمانية التي انضم جزء عريض من مثقفيها وصفوتها إلي صفوف المعارضين علي أساس أن هذه البرامج ليست ناجحة علي كل حال وبات العلمانيون بين مطرقة الخارج وسندان الداخل.
ومن وجهة النظر الإسلامية، فإن تقليل نفقات البلاد من ناحية والحد من الاستثمار في العمالة من ناحية أخري سيؤدي بلا شك إلي وضع أسوء للفقراء والمحتاجين والمعدومين.
بل إن برامج ساب هذه ستودي بحياة هؤلاء حينما انتهكت الكثير من حقوق المسلمين ودعم الفائدة علي الديون والحد من دفع الزكاة وهي الأمور التي تعتبر من أقوي المخالفات الشرعية الاقتصادية علي الإطلاق.
ربما حان الوقت أن نقول بأنه لم تعد هناك ورقة تثبت أية شرعية للعلمانية في هذه البلاد خاصةً بعد هذه الإخفاقات المتكررة.
هذا وربما تلحظ شيئاً مدهشاً حينما سافر مسئول في المالية في دولة ذات أغلبية مسلمة إلي واشنطن للتوقيع علي اتفاقية إعادة هيكلة الدين في صندوق النقد الدولي فما كان عليه إلا أن يرجع إلي بلده وقد أعد برنامجاً يمكنه من إدارة مثل هذه الأزمة، في حين أن الإسلاميين المتطرفين لن يرحموه أبداً إذ يتهمونه بأنه يساند قوي خارجية ويدعم أجندتهم ويشجع البلاد علي المضي قدما في سبيل الفساد والإفساد حتي تتمكن من تنفيذ خطط برنامج صندوق النقد الدولي.
هذا ولم تكتفي البرامج الواهية هذه من أن تمكن الحكومة من مشاركة منافسيها، بل إنها حضتها علي أن تشارك هذه المنظمات الخيرية الأهلية في إعادة توزيع الاحتياجات الأساسية من غذاء ودواء علي المناطق التي لم تستطع الحكومة أن تغطيها.
بهذا الشكل تكون المنظمات الأهلية والأعمال الخيرية الإسلامية قد عملت علي تحقيق برامج ساب ومن ثم تثبت عجز الأنظمة غير المسبوق في إجهاض مثل هذه الأزمات، وليري العامة ذلك واضحاً جلياً.
ونجح الإسلاميون في خطابهم العام في الداخل والخارج دون أدني تفرقة نجاحاً لم يسبق له مثيل. بل ربما لم يحتاجوا إلي من يؤسس لهم فكرة الخطاب وكيفياته أمثال هيجيل وماركس ولوك، بل إن خطابهم كان ولا يزال مستوحي من بيئتهم الثقافية التي يعيشون فيها.
ثم جاء هنتينجتون ليقدم اعترافاً من النوع الثقيل وهو من ألد أعداء الإسلاميين فيقول "إن مستقبل الإسلاميين أفضل بكثير من مستقبل الليبراليين، فهم يملكون مؤسسات (كالمساجد والجمعيات الخيرية والمنظمات الإسلامية) تغطي دعوتهم ويتحركون من خلالها داخل المجتمع ويتفاعلون بمعرفتها مع القضايا الكبري، لكن الليبراليين لا يستطيعون ذلك ولا يطيقونه.
لذا يمكن للأول أن يفلت من سطوة الحكومة ويتحاشاها، لكن الثاني سيسقط سريعاً دون أدني شك".(هنتنجتون 1996)
الحوكمة الدولية والعقيدة الليبرالية الجديدة وماهية الديمقراطية
من خلال عرضنا لهذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي مرت بها المنطقة، لاحظنا أن الإسلاميين قد استغلوها أفضل استغلال ورأينا جلياً كيف أنهم أثبتوا مع كل خطوة فشل تلك الأنظمة التي تلت مرحلة الاستعمار.
كما رأينا كيف أن الإسلاميين قد قاموا بتوحيد اتجاهاتهم وقواهم لعمل منظم بشكل مؤسسي ساعدهم علي توطين أنفسهم والظروف المحيطة.
كما رأينا تلك المراحل التحولية التي يسلكونها مع أتباعهم من المسجد إلي المدرسة حتي يطوفوا بهم علي أشكال تربوية مختلفة مليئة بالمحفزات والمشجعات مع كل مرحلة يجتازونها.
كما رأينا كيف أن بعض القوي الخارجية تدعم تحركهم وتترقب فوزهم في أي مرحلة وكيف أن هذه القوي ساعدتهم في إدارة أزمتهم والارتفاع بالسوق المحلي فوق الأزمة دون أدني مخافة من تنبيهات بولاني الذي حذر من تضارب قوي السوق مما قد يؤدي في النهاية إلي الانهيار.
فرغم أن بولاني قد أصر علي خطته في تنفيذ برامج ساب والتحذير من التخلف عن هذه الخطط، إلا أن تنفيذ الإسلاميين لهذه البرامج من خلال مؤسساتهم الخيرية قد بات شيئاً مدهشاً.
فقد جمع الإسلاميون قدراتهم البشرية والمادية معاً من أجل تنفيذ هذه الخطط حسب رؤيتهم للأوضاع وكيفية الخلاص منها، إلا أن النظام العلماني لم يملك إلا منعهم والحيلولة دون دورهم مما كلفهم التضحية ببعض الموارد البشرية والمادية معاً.
لقد عمل الإسلاميون علي هذه البرامج إلا أنهم كان يعوزهم الكثير من الترتيبات مع بعض القوي العالمية كالكنيسة الغربية وما شابه.
فقد عملوا تحت مظلة تنظيمهم الداخلي الذي يضم الطلاب والعلماء في بوتقة واحدة، لكن الحق يقال فقد بذلوا في سبيل ذلك الكثير وحققوا أكثر وأثبتوا جدارتهم علي حساب الأنظمة العلمانية الحاكمة.
فقد عملوا من خلال المساجد والجمعيات الخيرية وجمعيات الحج وغيرها كما استعانوا بالاتحادات الطلابية والجمعيات الإسلامية في الخارج "سوليفان".
لقد أثبت الإسلاميون جدارتهم في مواجهة الأنظمة بأشكال مختلفة تبدو أكثر مراوجةً، فإذا تم منعهم من ممارسة أي عمل، لجئوا إلي الجمعيات الخيرية ونشاطها فكان خير معين لهم علي النهوض بأعبائهم واستعادة دورهم حسبما قرر ما آدم و سميث قبل ذلك.
فإذا منعتهم السلطات من ممارسة عمل ما، وبالغت في منعهم تحت مسميات الجمعيات الخيرية فإذا بهم يبتكرون شكلاً آخر من التفاعل وإثبات الوجود. فإذا سنحت لهم الفرصة لخوض تجربة تعددية ديمقراطية، فسيكون الفوز حليفهم لا محالة.
والشاهد علي ذلك تجربة تركياوالجزائرومصر. ففي الجزائر أتيحت لهم الفرصة بالفعل لانتخابات حرة ونزيهة، ففازوا بالأغلبية ما كان حل النظام العلماني في مواجهة هذا الانتصار الساحق إلا التدخل الغاشم بقواته العسكرية.
ثم جاء دور تركيا لتأخذ نصيبها من الحرمان بعد الفوز تارة، وتأكيد الفوز علي الخصم العلماني تارة أخري.
وفي مصر لم يكن النموذج أبعد من ذلك، حيث منع الإسلاميون فيها من دخول الانتخابات فتحولوا إلي العمل الاجتماعي الخيري من خلال نقابات العمال التي فتحت لهم أبوابها بعدما فازوا فيها باستحقاق.

ثم هي تونس تعلن تعهدها الديمقراطي وتتيح التعددية الانتخابية، فيدخل راشد الغنوشي بحزبه الإسلامي ثم ينال عقابه بحظر الحزب واعتقاله بتهمة الخيانة والسجن مدي الحياة جراء فعلته هذه.
لكن ربما كان النموذج الإيراني الأخير أفضل بكثير من ذلك كله، فنموذج الجزائر وتونس ومصر كان مدعوماً من قبل الحكومة الفرنسية التي كرمت الرئيس مبارك وأعطته جائزة الديمقراطية وحقوق الإنسان (بورجات).
هذا وقد أشار بورجات إلي تقرير حقوق الإنسان الذي أكد علي أن المعتقلين في سجون الجزائر قد بلغوا حوالي 34 ألف مواطن وربما كانوا في مصر أكثر من ذلك إضافة إلي هذه المعاملة السيئة التي يتعرضون لها.
ثم قال بورجات بكل حماسة أن هذه الممارسات لو طبقت علي حزب ما في الغرب لقمت بتحويل هذه الحركة إلي جبهة إسلامية مسلحة.
ويضيف بورجات قائلاً بأنه لم يكن من العقل والحكمة أن يتم منع هؤلاء من حقهم في المشاركة والفعالية السياسية من قبل أولئك الذين حكموا وتسلطوا وتجبروا نيف ثلاثين سنة من الزمان.
الخلاصة:
مضامين الإسلام العالمي
لقد بدأ الإسلاميون حركتهم وهم يدعمون مبدأ العمل المحلي ثم بدءوا في تجنيد خلايا وفروع لهم في الخارج لتحمل عنهم دعوتهم وتنهج نهجهم خارج قطرهم.
لقد بدأ الإسلاميون في قيادة حراك في المنطقة الجغرافية التي يعيشون فيها وسهل عليهم هذا الإجراء سهولة الاتصال بين الدول من خلال العلاقات التجارية من ناحية والشعائر الجماعية كالحج من ناحية أخري.
لقد شهد التاريخ هجرة نوعية سائدة بغرض البحث عن العلم وتتبعه في أقطاره التي اشتهر بها. وعلي المستوي العام، فإن بعدت المسافات بين الأقطار الجغرافية فما زالت الشعائر تجمعهم في مواسم الحج، كما أن العلاقات التجارية ما زالت تدعم هذا الالتقاء التبادلي بين دول المنطقة (إيكلمان وبيسكاتوري 1990).
وبالفعل يجتمع المسلمون في موسم الحج من كل حدب وصوب من آسيا وأوربا وأفريقيا، وهذه الفريضة لا تجب علي المستطيع من المسلمين، وعليه فيمكن لهذا المستطيع أن يكون له نشاط تجاري أو علاقات دولية بشكل ما فيذهب لأداء الشعيرة ويلتقي بأقرانه ويعد معهم الصفقات والاتفاقات إن شاء ذلك.
وبالنسبة للغرب، فإنهم يعتقدون أن الإسلام قادم لا محالة إلي جوارهم، بل ربما أتي بالفعل في وقتنا هذا. لذا ساعدت أطر الاتصال هذه علي وحدة الأمة الإسلامية وتقابل الرؤى المختلفة علي قضية سواء.
ربما يختلف الكثيرون في نقطة استفادة الإسلاميين من العولمة، لكن الواقع يشهد بذلك. فتجميع المسلمين من أقطار مختلفة علي قضية مثل البوسنة أمر يثبت صحة ما نقول وندعي بوقوعه.
ثم استغل الإسلاميون العولمة علي مستوي حركتهم الاجتماعية الداخلية فبادروا بجمع الناس من حولهم ولم شمل المجتمع المتبعثر ليكون صاحب وعي بشئون دولته وما يجري علي الساحة.
عزز الإسلاميون دورهم هذا حتي بالغوا في تعظيمه وبنائه كأفضل ما يكون البناء.تحركوا في إطار المعارضة للأنظمة الحاكمة في الداخل والهيمنة الأمريكية في الخارج، ثم هم لا يألون جهداً في زيادة الوعي الشعبي الاجتماعي من خلال دورهم الفعال في حملات اجتماعية كان المجتمع في أمس الحاجة لها.
لقد شرعوا في عمل اجتماعي منظم عبر منظمات عالية الكفاءة تقدم الدعم المادي والمعنوي وتقف خلف المتضررين ضحايا الليبرالية الجديدة.
وفي نطاق الخطاب، فقد كشف الإسلاميون عن لثام خطابهم الأكثر وضوحاً والذي بات بعيداً عن النزعة القومية الشعوبية التي انتهجتها العلمانية.
لقد انتهج الإسلاميون في خطابهم هذا نهج الشخصية القومية العرقية لتثبت من خلال حركتها أنها حركة اجتماعية لا تنتمي للنظام ومؤسساته.
لقد حقق الإسلاميون أغراضهم في بناء شعبية عريضة بسبب جديتهم في ذلك مع تأخر النظام عن ملاحقتهم والإخفاق في وضع استراتيجيات تحط من خطرهم هذا.
وعلي النطاق الثقافي، فقد أعاد الإسلاميون تفسير وتأويل الخطابات التي سبقتهم وانتهجوا مستندين إلي أيدلوجياتهم منهج الخطاب العالمي الذي يجمع الأمة تحت راية واحدة دون تفرقة بعيداً كل البعد عن النزعات القومية العشائرية حتي يحقق بذلك كل أدوات الخطاب المحلية الداخلية والعالمية الخارجية.
لذا لم يكن من الضروري أبداً أن يعلم هؤلاء الإسلاميون أتباعهم كيفيات الخطاب عند هيجيل كما يفعل الليبراليون، لكنهم بالفعل عرفوا هذه الكيفيات بل وتفوقوا عليها بعقائدهم الخطابية التي نطقت بها خبراتهم الحياتية.
وفي الختام، نقطف جزءاً من مقابلة قام بها بورجات مع أحد اليساريين في شمال أفريقيا حيث قال "يمكن للدولة أن تتكامل مع المجتمع، لكن لا يمكنها أن تأخذ الدين كوسيط لهذا النوع من التدخل".
فكيف تتدخل الثقافة الإسلامية إذن بهذه الكيفية وهي لا تملك أطر التعايش مع المشاريع العالمية المتحضرة في عصرنا هذا، بالفعل سيكون الأمر صعباً وسيولد إشكاليات كبري لدي تلك المنظمات الطلابية العالمية التي تتواصي بهذا الدور الاجتماعي الدولي.
ثبت المراجع
1.عزيزة العزمي 1993 "الإسلام والحضارات"
2.بينين و ستورك "الإسلام السياسي: مقالات من تقرير الشرق الأوسط"
3.فرانكويس بورجات "صناديق الإقتراع، الجيوش، الحركات الإسلامية"
4.بورجات و دويل "الحركات الإسلامية في شمال أفريقيا"
5.إدموند بورك " الإستشراق وتاريخ العالم: عرض القومية والإسلامية في القرن العشرين"
6.كاستيلز "ظهور مجتمع الشبكات"
7.ايكلمان "الدولة بين الإسلام والأمن"
8.أيكلمان وبيسكاتوري "المسافرون المسلمون: الحج والهجرة والخيال الديني"
9.غمري تبريزي "الإسلاميون وسعيهم لحضارة بديلة"
10.هيرو "تكلفة النصر الأفغاني"
11.هيرست وثومبسون "الحضارة في موضع السؤال"
12.هودجسون "نطاق الإسلام"
13.هنتنجتون "صراع الحضارات"
14.جودرون كرامر "فهم الإسلاميين للديمقراطية"
15.بولاني "التحول الأعظم"
16.سيدون و والتون "السوق الحرة والشغب: سياسة التسوية الدولية"
17.وولر ستاين "الجغرافية السياسية والجغرافية الثقافية: دراسة في النظام العالمي الجديد"