كلمة جامعة عن الثبات

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
كلمة جامعة عن الثبات

بقلم: جمعة أمين عبد العزيز

أ. جمعة أمين


العقائد والمبادئ لا تتحقق إلا بالثبات:

إن المبادئ السامية، والقيم العليا، والعقائد الصادقة، والأخلاق النبيلة، تظلُّ كلها مثلاً عليا، عاليةً في عالم الأفكار، حبيسةً في الذهن، إلى أن يوجد من ينزلها حقيقةً على الأرض، يترجمها إلى واقع مشاهَد مستمر ودائم، ودعوة لتطبيقه، وثبات صاحبه على هذا الواقع المرئي، مهما كلفه ذلك من تضحيات؛ لأن كل صاحب مبدأ وقيمة لا يمكن أن تبقى مبادئه أو تستمر إلا إذا ثبت عليها، ودعا إليها، وضحَّى من أجلها، أيًّا كان هذا المبدأ وهذه القيمة، فما بالكم بقيمٍ ومبادئَ وأخلاقٍ لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ لأنها تنزيلٌ من حكيم حميد.

وكم من إنسان يتصور هذه المبادئ في ذهنه، ويتصدَّى للدفاع عنها في تخيله، ويراها هي الحق- كل الحق- حتى إذا تحوَّل إلى عالم الواقع ترى الفرق الشاسع بين المبدأ والتطبيق، حين يقول ويعجبك قوله، فإذا به يجبن حين مواجهة الواقع، فلا يدافع عن مبادئه ولا يثبت عليها، ويضعُف عن تمثيلها بنفسه، بل ويفضِّل مواراة الناس بما هم عليه من باطل على مجابهتهم بما هو عليه من الحق؛ فتسقط هذه المبادئ في هوَّة سحيقة ما لها من قرار، وتُطوى في عالم النسيان.

إن أهل الباطل يصرُّون على باطلهم ويثبتون عليه، بل ويتفانون في الدفاع عن هذا الباطل، ويغتنمون الفرص المناسبة للهجوم على المعتقدات التي يرون أنها تهدِّد وجود باطلهم الذي يتوقف وجودهم عليه؛ ليصدُّوا عن السبيل ويبغونها عوجًا بشراستهم المعهودة، وحروبهم المعروفة، وإصرارهم العنيد، وأول مراحل الهزيمة لهم هو ثبات المؤمنين على الحق الذي يحملونه ويدعون إليه، والثبات على الحق يكون أولى بشائر النصر؛ لأنك حقَّقت بهذا الثبات الهزيمة الداخلية لهم، وانتصرت عليهم بثباتك على الحق الذي آمنت به.

فأولى بالذين يقولون ﴿رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ (فصلت: من الآية 30) أن يثبتوا على هذا الحق، ويُضحُّوا من أجله بكل ما يملكون؛ فهو الباقي الخالد، بينما هذه الدنيا وما عليها إلى زوال، فحق لهم أن يقول كل منهم لأهل الباطل: "والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته؛ حتى يظهره الله أو أهلك دونه".

وسلْ التاريخ عن هؤلاء الرجال الذين تحققت بهم المبادئ، وسادت بهم القيم، وانتشرت بهم العقائد، لا بسيف ولا برمح ولا قتال وإكراه، بل بالثبات أولاً على هذه المبادئ، وترجمتها واقعًا على الأرض، وبهذا الثبات فتح الله به أعينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا، ودخل بسببه الناس في دين الله أفواجًا، وسلْ عن الذين اصطفاهم الله من بين خلقه، من النبيين والرسل الكرام، الذين قصَّ علينا القرآن قصصهم، كيف انتصروا بثباتهم أمام أهل الباطل في زمانهم، سلْ القرآن عن: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإبراهيم وموسى وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وتدبر قصة أصحاب الأخدود ﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)﴾ (البروج) كيف فتح الله القلوب بثبات الطفل الذي هو آية من آيات الله؟ وكيف ثبتت أمة بثباته ليرينا قيمة الثبات عند أصحاب الرسالات؟ وما قصه سحرة فرعون منا ببعيد.

وسل التاريخ عن ياسر وعمار وسمية، وبلال وصهيب وخباب، وغيرهم الكثير الذين لا يعدُّوا ولا يحصوا رجالاً ولا نساء وشبابًا وشيبة بل وصبية، سل عن مواقف ثباتهم في مكة والمدينة في المواقع والغزوات، في بدر وأحد وحمراء الأسد والخندق، إنهم ما انتصروا لا بثباتهم على الحق، وما حدث في هذه الغزوات من مواقف الثبات والتضحيات البطولية، حدث مثله في اليرموك وحطين وعين جالوت والقادسية وغيرها من المواقع والمواقف أيضًا التي سجلها التاريخ لعامة المسلمين وخاصتهم، للعلماء والمتعلمين لفقهاء والمتلقين، للقادة والجند قديمًا وحديثًا، وخير شاهد على استمرارية هذا الصنف من المؤمنين ما نشاهده اليوم من رجال فلسطين الأبطال الثابتين على الحق مهما كلفهم ذلك من تضحيات، ظهر ذلك أيضًا في أفغانستان والعراق والبوسنة والهرسك والشيشان وكشمير وكوسوفو، وحديثًا في لبنان وأرض العزة في غزة، بل وكل أرض تعلو عليها راية لا إله إلا الله يحميها رجال صُدُق، فهؤلاء جميعًا لم ينتصروا في المعارك الحربية إلا بعد انتصارهم في المعارك الشعورية التي عمقتها العقيدة في قلوبهم، فكان الثبات ديدنهم حتى يأتي النصر أو الشهادة في سبيل الحق الذي يحملونه وهم يقولون: ﴿قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ(52)﴾ (التوبة)


الثبات دليل صدق وإخلاص

إن الثبات على دين الله هو دليل صدق وإخلاص، وإعزاز لراية الله، به تفتح الحصون، وتسقط المدائن، وتهزم جيوش الكفر المتكاثرة، ويتنزل نصر الله عزَّ وجلَّ على النفوس المؤمنة، وهذه المواقف من الثبات على الحق تشهد للمؤمنين بقوة الإيمان، ومحبة الرحمن؛ لأن الموفق إلى هذه المواقف الكريمة قليل "وقليل ما هم" وخير الأمثلة الصادقة لترجمة هذه الصفة القيمة السامية هم الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم بعد القدوة والأسوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، إنها القيمة الإيمانية التي لا تستقر في القلوب وتعيها النفوس إلا إذا رآها الناس أمثلة حية أمامهم، فتترجم إلى واقع عملي متمثل في مواقف إيمانية يضحي فيها المؤمن بكل ثمين وغال، ويظهر فيها شرف الإيمان ومحبة الرحمن عزَّ وجلَّ وإيثار أمره وشرعه على طبائع النفوس البشرية، ومن أولى بمواقف الثبات من الأنبياء الكرام، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلا عجب حين نرى صورًا من الثبات والتضحيات متمثلة فيهم، ومتجسدة في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم؛ لأنهم أصحاب عقيدة ومبادئ وقيم، فمن أراد أن يستعيد مجد الأمة وشرفها وعزتها في أيامنا هذه لا بد أن يحذو حذوهم ويسير على طريقهم إيمانًا وثباتًا وحبًا وتضحية في سبيل إعلاء العقيدة، وتطبيق الشريعة، وتعميق الأخلاق؛ لنستعيد مجد أمة خرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

فما أحوجنا اليوم إلى تعميق هذه الصفة الأخلاقية في القلوب وتربية الجميع عليها؛ لتحفظ لنا أصالتنا وهويتنا وشخصيتنا الإسلامية في وقت تواصى أهل الباطل على محوها وزوالها باستخدام جميع الأسلحة؛ لإبعاد المسلمين عن التمسك بدينهم، بسلاح الفتنة تارة، وسلاح ا لشهوة تارة أخرى، وسلاح الشبهة تارة ثالثة، فضلاً عن سلاح الجدل العقيم، والدعاوى الباطلة، بل والتهديد والوعيد والسلاح الفتاك، كل ذلك ليزعزعوا ثقة المسلمين بدينهم، ولن يقوى على مواجهة ذلك كله إلا القابضون على الجمر، الثابتون على الحق، الذين يعلمون حقيقة التيارات المعادية للإسلام وأساليبها في التشكيك منه ابتداء من الصهيونية الماكرة، وأختها الصليبية الحاقدة، بالإضافة إلى الشيوعية الملحدة وما تفرع من هذا كله من دعوات زائفة وأفكار هدامة وتصورات باطلة تجمعت فيما سمي اليوم بالعولمة تبذل جهدها وتنفق مالها وتضحى بكل شيء؛ ليصدوا عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، وما هم ببالغيه بإذن الله ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال).


من سنن الله

إن من سنن الله أن يبقى في الناس من يثبتون على الحق ويستمسكون به ويدعون إليه، ولو كثر أهل الباطل الذين يمكرون ويمكر الله وهو خير الماكرين، فيتصدى لهم حزب الله المفلحون؛ ليكونوا حجة الله على خلقه وصدق الله: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)﴾ (الأعراف)

وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك إلى يوم القيامة" وظهورهم على الحق يحتاج إلى أمرين:

ثبات عليه، وتضحية من أجله، وهذه الطائفة المستمسكة بالحق يحدوها الأمل الحلو، ويعمر جوانحها الرجاء الباسم، لا يتسرب ظلام اليأس إلى صدورهم، ولا يعرف له سبيلاً ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)﴾ (الحجر).

إنهم كلما أدلهَمَّ الباطل من حولهم ازدادوا ثباتًا وإيمانًا؛ لحاجة الناس إلى النور الذي يحملونه، وكلما أمعن الفساد في الظهور والانتشار امتلئوا يقينًا بضرورة وحتمية السير في هذا الطريق، طريق الصلاح والإصلاح، وكلما زحف تيار الكفر الصريح أو المقنع ازدادوا قدرة وإصرارًا على مقاومته بكل ما يملكون؛ ويوم ترى الإنسانية هذا الحق الذي ثبتوا عليه متمثلاً في أمة تحبه وتحرسه وتنشره وتفتديه يومها يهرب الظلام، وينكمش الباطل، ويتراجع الشيطان مخزيًا بتضحيات الرجال الذين تربوا على مائدة الرحمن؛ لأننا أمة مضحية في سبيل قيمة وعقيدة، ومبدأ وفكرة شعرنا بعظمتها، واعتززنا بالانتساب إليها، ووثقنا في نصر الله لها فكيف لا نثبت عليها ولو كلفنا ذلك بذل أرواحنا فداها.


الثبات قيمة أخلاقية

والذي نريد أن نؤكد عليه أن الثبات وهو قيمة أخلاقية تنال بالتربية المتأنية، له مذاق حلو ولن يكون هذا المذاق ولا يتحقق إلا ضمن منظومة القيم الإسلامية التي يعيش لها وبها المسلم، فهولا ينفصل عنها؛ لأن المسلم صاحب منهج رباني شامل متكامل عقيدةً وخلقًا ونظامًا.

ولأهمية الثبات فإن المولى سبحانه وتعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم به فقال: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ(42)﴾ (الزخرف)، فما هو المطلوب يا رب وهذان الاحتمالان متحققان حين يشاء الله، قال الله: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)﴾ (الزخرف).

فالأمر كما ترى لا يخرج عن هذين الاحتمالين، فإذا ذهب الله بنبيه فسيتولى هو الانتقام من مكذبيه، وإذا قدر له الحياة حتى يتحقق ما أنذرهم به، فالله قادر على تحقيق النذير، وهم ليسوا بمعجزين، ومرد الأمر إلى مشيئة الله وقدرته في الحالتين، وهو سبحانه صاحب الدعوة، وما الرسول إلا رسول يأمره مولاه بالثبات على الحق: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)﴾ (الزخرف) أثبت يا محمد صلى الله عليه وسلم على ما أنت فيه، وسر في طريقك لا تحفل بما كان منهم وما سيكون، سر في طريقك مطمئن القلب ﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)﴾ (الزخرف) لا يلتوي بك ولا ينحرف ولا يحيد، إنها العقيدة الثابتة المتصلة بحقيقة الكون الكبرى، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود، على استقامة تؤمن معها الرحلة في ذلك الطريق، والله سبحانه وتعالى يثبت رسوله صلى الله عليه وسلم بتوكيد هذه الحقيقة، وفيها تثبيت كذلك للدعاة من بعده، مهما لاقوا من عنت الشاردين عن الطريق، وبهذا الثبات تجنى الثمرات: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)﴾ (الزخرف).

بهذا الثبات يرفع ذكرك وذكر قومك، وهذا ما حدث فعلاً فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن مئات الملايين من الشفاه تصلى وتسلم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربعمائة عام، مئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة، وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية، وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها وثبتوا، فما إن تخلوا عنه أنكرتهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، واستصغرتهم الدنيا، وقذفت بهم في ذيل الأمم، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين، وإنها لتبعية ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة، إذا هي تخلت عن الأمانة ﴿وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)﴾ (الزخرف) فلا حجة بعد التذكير، ولا فوز ولا نصر ولا عزة ولا مجد إلا بالثبات على هذا الطريق.

فإذا أردنا مقاومة الباطل والمحافظة على الهوية واستعادة مجدنا وشخصيتنا التي افتقدناها فما علينا إلا أن نثبت على الطريق الذي سار عليه خير الخلق صلى الله عليه وسلم، ونثبت على الحق كما ثبت الرجال من قبلنا، ويومها يفرح المؤمنين بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم ﴿وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)﴾ (الروم)