تأملات مع مطلع عام ميلادي جديد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مقالة-مراجعة.gif
تأملات مع مطلع عام ميلادي جديدمد

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

مقدمة

رسائل.gif
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد..

فمع مطلع عامٍ ميلادي جديد، ومع الاحتفاء بمولد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام نُهنئ أتباعه الصادقين والمؤمنين بهذه المناسبة الجليلة، وحريُّ بنا- نحن المسلمين- أنَّ نقف متأملين في ذكرى مولده، سعداء بها، فنحن في طليعة المؤمنين بالمسيح حقًا، المدركين لعظمته، وشموخ رسالته وتعاليمه، فهو عندنا أحد أولي العزم من المرسلين، الذين أناروا للبشرية طريق الهداية والرشاد، وضحَّوا في سبيل ذلك ما وسعتهم التضحية النبيلة، ومضوا إلى ربهم وقد تركوا في التاريخ أعظم الأثر، وأقاموا الحجة على العالمين، ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 90).

لقد وقف الإسلام- في عدالته وإنصافه- مدافعًا عن رسل الله جميعًا في مواجهة من كفر بهم وأساء إلى سيرتهم، وأراد حجب أنوار هدايتهم عن الناس، وكان المسيح واحدًا من هؤلاء الصفوة من الخلق الذين رفع الإسلام ذكرهم وقدرهم، وقد نفى كل محاولة أثيمة للنيل من مكانة العذراء مريم وطهارتها، وشرف المسيح ونسبه، فقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)﴾ (آل عمران)، وكان الطعن في مريم من كبريات الجرائم التي أخرجت أصحابها عن مقتضى الإيمان،﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 156).

وهي محاولات كانت لا تزال أصداؤها تتجاوب في بلاد العرب زمن بعثة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)﴾ (الزخرف).

وفي الوقت ذاته وقف الإسلام ضد كل مَن يحاول أن ينزع عن المسيح عليه السلام شرف العبودية لله تعالى، ﴿لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)﴾ (النساء)، ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام َانظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)﴾ (المائدة).

أين العالم اليوم من تعاليم المسيح؟!

إنه يحق لنا ونحن نحتفي بمولد المسيح أن نسائل أنفسنا والعالم الممتلئ بالصراعات والفتن اليوم: أين نحن وأنتم من تعاليم السيد المسيح عليه السلام؟؟ لقد جاء المسيح مبشرًا بالمحبة والسلام، معليًا من قيم التسامح والتغافر والصفح، مقررًا أن "المجد لله في الأعالي، وفي الأرض السلام، وبالناس المسرة"، قائلاً: "سمعتم أنه قيل عين بعين، وسنُّ بسنّ، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك" (متى 5: 38-39)، ومضى يحذر مَن ينادون بالعنف قائلاً: ".. ولأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون" (متى 26: 47-52)..

ويحق لنا أن نعجب من هؤلاء الذين يدعون النسبة إلى المسيح عليه السلام، ويملأون الدنيا صخبًا وآثامًا بدعوى الاحتفال به، وهم في الحقيقة يقتاتون الدم، وينشرون الخراب والدمار والموت في كل بقعة طالتها أيديهم، وحلت بها أحقادهم.

إننا في ذكرى مولد نبي السلام نخاطب الرئيس الأمريكي بوش الابن الذي يفاخر بتدينه المزعوم، ويعلن نفسه مبعوث العناية الإلهية لتحقيق مراد الله في الأرض، ونخاطب رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وغيرهما من قادة تحالف الشر ضد الإسلام وأهله، وضد المستضعفين في الأرض الذين ينهبون خيرهم، ويزهقون أرواحهم:

أتشعرون حقًا بصحة الانتساب إلى السيد المسيح ودماء أكثر من مائة ألف عراقي- كما تعترفون- قد لوثت أيدكم ووجوهكم؟؟ وأرواح ألوف الأفغان الذين سقطوا صرعى في أكواخهم وكهوفهم تطاردكم؟ ومأساة شعبنا الصابر في فلسطين أنتم من صنعها، وأنتم المسئولون عن استمرارها حتى اليوم، وكل جرم يرتكبه الصهاينة لكم منه أكبر نصيب، ولولا دعمكم وتأييدكم لهم ما فعلوه.. أيها السيد بوش، يا مَن صرخت في العالمين مجاهرًا بأنك تشن حربًا صليبية جديدة ضد مخالفيك: إن السياسة العنصرية الحمقاء التي مضيت بها قدمًا هي المسئولة عن تفشي العنف وسيادة منطقه في العالم الذي بات يفتقد العدالة، وهي المسئولة عن إزهاق أرواح مليون طفل عراقي سقطوا من جرَّاء حصار ظالم طوال عشر سنوات لم يجدوا فيها كسرة خبز ولا قطرة دواء.. فادخر لنفسك جوابًا حين تُسأل عن ذلك كله بين يدي ربك، وتخيَّر لنفسك وجهًا تلقى به المسيح يوم الفزع الأكبر!!

إنه من المؤسف حقًا أن تتوارى التعاليم السمحة لعيسى بن مريم – التي عاش عمره كله من أجل الدعوة إليها، وأمضى حياته منافحًا عنها، لتفسح المجال لخرافات وأساطير ترتدي مسوح الدين وهي تفتك به، من قبيل ما يدين به ويروج له السيد بوش وكبار معاونيه من مبادئ الإنجيلية الصهيونية التي تنادي بوجوب تقوية الكيان الصهيوني- في الأراضي العربية المغتصبة- إلى أقصى حد، واستعجال الحرب الكبرى ضد كل مَن يقف في وجه المشروع الصهيوني، حتى يؤدي ذلك بزعمهم إلى تقريب زمن عودة المسيح إلى العالم!!

إنَّ تلك الأساطير الغبية والخطرة والتي تجد من يغذيها وينفخ في نيرانها من قادة الولايات المتحدة لا تحقق إلا أغراض الصهيونية العالمية وتلك الجماعات من غلاة اليهود ومتعصبيهم، وقد كان هؤلاء المتعصبون منهم أشد أعداء المسيح في حياته، وسعوا لقتله ما استطاعوا، ثم تواصل سعيهم لطمس تعاليمه ومحو مبادئه.. أيستقيم في منطق العقلاء أن يجتمع أعداء المسيح ومَن يزعمون أنهم أولياؤه ضد المسلمين؟ وهل يمكن أن يجمع بينهم إلا العداء للإسلام وأهله؟ وهو الدين الذي كرَّم المسيح، وجعل من أسس الانتماء إليه الإيمان برسل الله جميعًا؛ وعيسى أحدهم، قال تعالى ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (البقرة: من الآية285)، ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)﴾ (البقرة).

حوار الحضارات لا صدامها

إننا نؤمن بوحدة الرسالات السماوية في أصلها، وأنها جميعًا من عند الله، ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)﴾ (الشورى: 13)، ونؤمن بأن تلك الرسالات- وإن أصاب بعضها التحريف أو لحق بها الهوى- كفيلة بأن تقارب بين أتباعها، ليصنعوا حاضرًا ومستقبلاً يسعد البشرية ولا يشقيها، وكان الأمر على ذلك في دولة الإسلام الواحدة التي ضمت بين أبنائها جميع المؤمنين بالله على اختلاف نحلهم، دون إكراه في الدين، ولا عصبية في الاتباع، ذلك الواقع التاريخي والمعاش يؤكد حقيقة تواصل الحضارات والحوار بينها، لا التصادم والإقصاء الذي يروِّج له بعض مفكري الغرب اليوم، ليعطوا بذلك المبرر للعدوان والهمجية والبغي.

حصاد عام مضى

ونحن على أعتاب عام ميلادي جديد ننظر في عامنا المنصرم وقد اشتدت المحنة وعظم البلاء على شعوبنا الصابرة في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وقطاني وكشمير وغيرها، لكننا نلمح أيضًا بواكير النصر وتباشير الأمل، وإنَّ صمود شعوبنا المتواصل ضد العدوان عليها- مهما بلغ عنفه واجتراؤه- وإن قدرتها على إيلام العدو كما تألم هي، والوقوف في وجه استشراء مخططاته وتعويق أهدافه الخبيثة، وإنَّ التفاف جماهير أمتنا حول راية الإسلام، وتحرير ولائها لله ورسوله ودينه، بعد أن رأت إفلاس غيره وما جره عليها من خبال.. إنَّ ذلك كله مما يؤكد أن نصر الله قريب، وهل يؤسس النصر إلا على أسس الوعي بطبيعة المعركة وحتمية الجهاد وعظمة الشهادة في سبيل الله؟؟

زلزال جنوب شرق آسيا

وقبل أن يرحل عنا عام 2004م صدمتنا أخبار زلزال جنوب شرق آسيا، وما أعقبه من طوفان هائل خلَّف وراءه نحو أكثر من 150 ألف قتيل غير عشرات الألوف من المفقودين والمشردين والمصابين، والذي غيَّر المعالم الجغرافية لهذه البلدان، فشطر بعض الجزر، وأزال بعضها من اليابسة، وأزاح أخرى عن مكانها المعهود.

وقد أعلن الإخوان المسلمون عن عميق أسفهم لهذه المأساة الإنسانية المروعة، وما خلفته من ضحايا ودمار، وناشدنا العالم بهيئاته ومنظماته ودوله وأفراده المسارعة في تقديم العون والإغاثة التي تخفف من معاناة الناس هناك، وكثير منهم مسلمون عدموا الناصر والمعين، ونسأل الله تعالى الذي أرانا في تلك الحادثة عظيم قدرته أن يرينا في عباده هناك عظيم رحمته وكريم لطفه.

ولا ينبغي أن تشغل أخبار الكارثة وتداعياتها قلوب الناس وعقولهم عن تدبر ما فيها من اعتبار وعظة، فها هو ذا الإنسان- بعد كل ما بلغه وأنجزه في مجال الحضارة المادية- يقف عاجزًا ضئيلاً، وها هو ذا العالم الذي أسرف في زينته وبهرجه يتحول جزء منه في برهة من الزمن إلى أشلاء وحطام، بينما يقف بقيته مشدوهين حيارى.. وكأن ذلك تذكرة بيوم البعث والنشور، وفناء العالم المستكبر المغرور، ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس: من الآية 24).

فأي عظة للبشرية السادرة في غيَّها بعيدة عن ربها وخالقها والقادر عليها والمحيط بها والمتصرف في أمورها، وأي تنبيه للغافلين عن مآلهم وأنهم إلى ربهم راجعون، وبين يديه محاسبون، ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)﴾ (الأعراف)، وأي تذكير للمتجبرين في الأرض بغير الحق والمستكبرين عن نداء العدالة الشهيدة في عالمنا، إنَّ الله جلت قدرته يملي لهم وإن كيده متين، ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)﴾ (النساء: 133).

إنها يد الله الفاعلة في الكون بغير قيود، وإنَّ لمحة من غضبه لكفيلة بأن توقظ الغافلين وتنبه الشاردين.. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾ (ق)، أما مَن لا قلب له ولا سمع لديه فلن يعجز الله شيئًا، فهل نستجيب لداعي الحق؟؟ ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)﴾ (الأحقاف).