الدولة القطرية في فكر جماعة الإخوان المسلمين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الدولة القطرية في فكر جماعة الإخوان المسلمين


أسس الدولة القطرية وموقف جماعة الإخوان منها

مدخل

عكست اللحظة التاريخية التى شهدت ظهور جماعة الإخوان المسلمين 1928م دلالات ذات مغزى فى رؤية وتصورات الجماعة لمفهوم الدولة.

فقبل أربع سنوات من ميلاد الجماعة كان قد تم إقصاء الخلافة الإسلامية التى مثلت وعاءً وحدويًا حفظ كيان الأمة من التشرذم والتفكك عن المشهد السياسى في ذلك الوقت، من خلال إعلان إلغاء الخلافة العثمانية في 27 من رجب 1342هـ - 3 من مارس 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك، الذي أعلن نفسه رئيسًا للجمهورية التركية، وطرد الخليفة العثماني وأسرته خارج البلاد،.

وقد شكل سقوط الخلافة صدمة كبيرة ، كما أن انهيارها أدى مع أسباب أخرى إلى انفراط عقد الأمة وجعل الدولة القطرية بديلاً سياسيا للرابطة التي كانت تجمع بين شعوب المنطقة في ظل دولة الخلافة العثمانية .

فكرة ومفهوم الدولة القطرية القومية نشأت أولا في أوروبا بعدَ صلحِ أوستفاليا 1648 ، الذي أنهى حروبٍ طالتْ في أوروبا تم الإتفاق بعدها على تكوين وحدات سياسية جديدة أطلقوا عليها ما أسموه الدولةَالقوميةَ القطريةَ،

أما الدولةُ القطريةُ القوميةُ في البلادِ الإسلاميةِ فقد نشأت وريثةًللإستعمارِ الذي كان جاثما على كثير من بقاع العالم الإسلامي،

ولكن وقعت فروق جوهرية في نشأة كل من الدولتين:

الدولةُ القوميةُ نشأتْ في الغربِ باعتبارِها فكرةً مجمِّعةً، بمعنى أن إيطاليا مثلاً كانت ولاياتٍ منقسمةً وألمانيا كانت أيضاً ولاياتٍ منقسمةً وهكذا .. ثم تكونت الوَحدةُ للشعوبِ في كلٍّ منهما بالدولةِ القطريةِ القوميةِ.

أما الدولةَ القوميةَ في البلادِ الإسلاميةِ فقد نشأت نتيجةَ حقبةٍ استعماريةٍ باعتبارِها فكرةً تجزيئةً تفريقيةً، إذِ اصطنعَ المستعمرُ دُوَلَنا بيدِهِ باتفاقيةِ سايكس بيكو و مثيلاتها في شبه جزيرة الهند وجنوب شرق آسيا ووسطها، تحتَ اسمِ الإستقلالِ عن دولةِ الخلافةِ العثمانيةِ، ومنْ ثَمَّ كان مفهومُ الدولةِ القطريةِ القوميةِ في الغربِ ذو دوُره تجميعيٌ بينما في البلادِ الإسلاميةِ كان له دورٌ تفكيكيٌّ.

كما أن الدولةُ القطريةُالتي نشأت وترعرت في منطقتنا، اتسمت بأنهاأنها دولةٌ مهمِّشةٌ للشعبِ ومخرجةٌ إياه من السياسةِ بالجبرِ والإلهاءِ المنظم، وبأنها دولةٌ تسلطيةٌ تعتمدُ على القوى الخشنةِ في وجودِها، وليس لها رصيدٌ في الشعبِ الذي تحتَها تستمدُ منه شيئاً من القوةِ الناعمةِ الجاذبةِ.

وأحلتْ الدولةُ القطريةُ في دولنا مصطلحاتٍ مستوردةً غريبةً محلَّ المصطلحاتِ التي ألفتها الحياة السياسية في عالمنا الإسلامي لقرونٍ عديدة، فحلَّ مصطلحُ الشعبِ الذي يعبرُ عن المجموعةِ البشريةِ المتواجدةِ ضمنَ حدودِ الدولةِ القطريةِمحلَّ مصطلحِ الأمةِ المعبرِ عن المجموعةِ البشريةِ التي تكونت على أساسِ المبدأ، وحلَّ مصطلحاالوطنيةِ والقوميةِ كرابطِ محلَّ رابطةِ العقيدةِ الإسلاميةِ السياسيةِ، وحلَّ مصطلحا المصلحةِ الوطنيةِ والمصلحةِ القوميةِ محلَّ مصلحةِ الأمةِ والمبدأ، وحلَّ مصطلحُ الجنسيةِ محلَّ مصطلحِ التابعيةِ

واستمر أثر التطبيق الخاطئ لمفهوم الدولةِ القطريةِ الممزقَ لوَحدةِ وكيانِ الأمة، فالدولةُ القطريةُ، باعتبارها تجمعٌ إقليميٌ مرتبطٌ بإقليمٍ جغرافيٍّ ذي حدودٍ معينةٍ تمارسُ عليه الدولةُ اختصاصاتِها، عمل المستعمر على إنشاء هذه الاقاليم والتمييز بينها بصورة بصورة تجعل هناك عوامل شقاق دائم بين هذه الاقاليم، والتعامل معها كوَحداتٍ مستقلةٍ في السياسةِ الدوليةِ، ممنوعٌ عليه تكوينُ وحدةٍ أو اندماجٍ بدعوى حقِ تقريرِ المصيرِ وعدمِ التدخلِ في شؤونِ الآخرين، بينما كان مسموحٌا لأيِّ إقليمٍ داخلَ الدولةِ إنْ وَجَدَ تأييداً دَوْلياً من قوى كبرى أن يُطالبَ بحقِ تقريرِ المصيرِ، ومن هنا كانت المفارقة .. فممنوعٌ على الدولةِ القطريةِ أن تتعاظمَ لتضمَّ مساحةِ الأمةِ، ومسموحٌ لأعدائِها تفكيكُها و تقزيمُها.

واستمرت حالةُ التجزئةِ التي حولت البلادَ الإسلاميةَ إلى كياناتٍ مقطوعةِ الأوصالِ عن بعضِها البعض، ليس فقط على مستوى العوازلِ الجغرافيةِ وما يُسمى بـ "الحدودِ الوطنيةِ" بل على مستوى التوجهاتِ الثقافيةِ والسياساتِ التعليميةِ وهُويةِ الأنظمةِ السياسيةِ.

فاتسمت السياسات الثقافية والتعليمية المتبناه التي صاحبت بروز الدولة القطرية بأنها سياساتٌ انعزاليةٌ انفصاليةٌ، حيثُ عملُ كلُّ قطرٍ في البلادِ الإسلاميةِ على ترسيخِ هُويةٍ محليةٍ بالاستنادِ إلى دعاوى تاريخيةٍ موهومةٍ في الغالبِ أو مجزأةٍ من سياقاتِها، وبذلك غدا المصريّ يتحدث عن الأصولِ الفرعونيةِ لمصر الحديثةِ، ويستندُ التونسيُّ واللبنانيُّ إلى الجذورِ الفينيقيةِ القديمةِ، ويَستدعي العراقيُّ الأصولَ البابليةَ، والفلسطينيُّ يستعيدُ التقاليدَ الكنعانيةَ، يضافُ إلى ذلك تفجيرُ المناكفاتِ السياسيةِ والنزاعاتِ الحدوديةِ بينَ البلادِ الإسلاميةِ...

وأضحت الدولةُ القطريةُ، ترى نفسَها أمةً صاحبةُ المشروعيةِ السياسيةِ العليا التي لا تعلوها أيُّ مشروعيةٍ أخرى، فلها حدودُها القوميةُ ونشيدُها الوطنيُّ الخاصُ ورموزُها السياديةُ والقانونيةُ الخاصةُ ولها هُويتُها الأيديولوجيةُ الذاتيةُ.

وزاد من خطورة الأمر أنَّ الدولة القطرية هذه لم تعدْ مجردَ أمرٍ واقعٍ فرضتْهُ السياساتُ الاستعماريةُ الغربيةُ بل أصبحت أمراً مرغوباً فيه لذاتِه، وإنجازاً عظيماً لا يمكنُ التفريطُ فيه ومحروساً من طرفِ نخبِ الدولةِ في الداخلِ مثلما هي محروسةٌ من قوى الخارج.

وهكذا سادت تصوراتٌ تميلُ إلى قَبولِ الدولةِ القوميةِ القطريةِ باعتبارِها الشكلَ المناسبَ للدولةِ في الواقعِ المعاصرِ، وأنَّ الدولةَ الأمميةَ الجامعةَ (الخلافةَ) قد تجاوزها العصرُ، وأن المشروعِ الإسلاميِّ وفقا لهذه التصورات غيرَ قابلٍ لتجاوزِ حدودِ الوطنِ وحدودِ العرقِ، مما يعني بأن مفهوم الدولة القومية القطرية وفقا لهذه التصورات هو قول يلغي مفهوم الأمة عملياً، ويجعل من وحدة الأمة خياراً مستقبلياً مستحيلاً.

المبحث الأول

الإمام البنا ومفهوم الدولة القطرية

جاءت دعوة " الإخوان المسلمون"، وبدأ الإمام المؤسس حسن البنا واضع أسس العمل الإسلامي المعاصر دعوته القائمة على الفهم المستمد من كتاب الله تعالى وسنة وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم عمل سلف الأمة الصالح، وبذرة الدولة القطرية القومية قد غرست في تربة العالم الإسلامي، وتكون واقعها في بقاع كثيرة منه، وأصلت قواعدها وأسسها في الحياة السياسية والثقافية والمجتمعية لشعوبه، بل وجاءت ممارساتها معمقة للضار في المفهوم ومقصية ومنفرة للنافع المفيد منه للأمة وشعوبها، فأفاء الله عليه وألهمه بالمنهج الذي واجه به هذه الواقع وعالج بواسطته اختلالات المفهوم وتجاوزات الواقع.

فلم يرفض رحمه الله مفهوم وفكرة الدولة القطرية القومية كوعاء سياسي وصلت إليه البشرية بعد طول عناء واجتهاد نحو الأصوب، ولكنه عمل على معالجة ما أصاب هذا الوعاء من عوار حينما انتقل إلى عالمنا الإسلامي.

إن الدولة كوعاء تنظيمي مجتمعي سياسي بشري اهتدت إليه البشرية من قديم لتنظيم شئون حياتها وترتيب أمر مجتمعاتها، يجب التفرقه بينه وبين الأساس الذي يصنع منه، وكذلك ما يمكن أن يملأ به هذا الوعاء أو يوضع فيه ...وأمام تجذر وضع الدولة القطرية القومية في واقع العالم الإسلامي وضع الإمام البنا الطريق الأصوب والأسلم للتعامل مع هذا الواقع.

وقد تركزت خطوات المنهج في:

1 – تصحيح المفاهيم

2 – تعديل الاسس

3 – ملء الوعاء بالمضمون الصحيح

4 – تطوير عمل هذا الوعاء لكي يحقق به مفهوم الأمة.

كما رسم الإمام البنا منهجا لتحقيق مشروع الجماعة لنهضة الأمة في ظل هذه البيئة لم يعتمد فيه سوى التخلية والتحلية للوعاء بالصحيح في المنطلقات والمفاهيم وفي الأطر والأداء وانطلق من الواقع بدون أن يدعو إلى تحطيمه وكسره ليحقق من خلاله المأمول إن شاء الله تعالى.

وهو في هذا مقتفيا لإمامنا وإمام الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

فالدولةَ القطريةَ الحديثةَ، أي الدولةَ القوميةَ القطريةَ، والتي تُسمى أحيانًا الدولةُ المدنيةُ الحديثةُ مبنيةٌ من الناحيةِ النظريةِ على فكرتي:

الوطنيةِ والقوميةِ.

وعادة ما يقوم دعاة الوطنية، باتهام دعاة الإسلام عامة، والإخوان خاصة، بأنهم لا يتحمسون للوطن والوطنية، وأنهم ضد رابطة القومية .. وهذه دعوى لا يجد الباحث المحقق لها صدى أو دليل في فكر أو ممارسات الجماعة منذ نشأتها . وفي السطور التالية نعرض لرؤية الجماعة لما تراه من مفاهيم صحيحة للأسس التي ذكرنا أن الدولة القطرية الحجيثة تقوم عليها.

أولا : موقف الإخوان من فكرة ومفهوم الوطنية

الوطن في الرؤية الإسلامية

يقال أوطن الأرض ووطنها وتوطنها واستوطنها، والوطن محل اقامة الإنسان ولد به أو لم يولد، فكل من استقر مقامه بأرض فهي وطنه لأنه ارتضاها أرضا وتوطنها بغض النظر عن دينه أو أصله أو جنسه أو لونه ... فكل من انتمى لأرض بهذا الوصف فهي وطنه.

و((الوطن)) مصطلح جغرافي يشير إلى موطن القوم..

وفكرة "الوطن والوطنية" تقوم على حاجة الإنسان إلى المكان وارتباطه به:

"فكل كائن حي محتاج إلى مكان أو مأوى يلوذ به، فالوحوش لها جحورها، والطير لها أعشاشها، وقد نرى الطيور والأسماك ونحوها تسير المسافات الشاسعة، وقد تخترق البحار والمحيطات ثم تعود إلى أماكنها الأولى، أي إلى أوطانها،لا تضل طريقها إليها، بحاسة الهداية العامة التي منحها الله لكل مخلوقاته .. قال تعالى :"قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" (طه:50).

وقد اعتبر القرآن الكريم النفي عن الوطن ظلما وقسراً جريمة كبرى ومحنة عظمى تستحق أن تقترن في السياق القرآني بجريمة قتل النفس، فخروج الإنسان من دياره كخروج الروح من البدن، يقول تعالى:( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (النساء:66).

بل أنه من حق الشعوب - وفق كتاب الله - بل من واجبها أن تقاتل وتحمل السلاح لتسترد أرضها وديارها إذا أخرجت منها، يقول تعالى: (ألَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: 246)

ويشير قوله تعالى في الآية السالفة (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) معنى أقره الإسلام قبل ان تعرفه المواثيق الحديثه من أن شر ألوان الاستعمار والاستكبار في الأرض أن يستولي أجنبي على الأرض ويطرد أهلها منها، ويحل محلهم!!

ويقر الإسلام بأن الحنين إلى الأوطان فطرة إنسانية معتبرة فحين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة، كانوا يحنون إلى مكة، ويشعرون بالشوق إليها، إلى ربوعها وجبالها ووديانها.

وقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه إلى هذا الحنين، حين التفت إلى مكة عند خروجه منها مهاجرا بدينه وقال: والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله ، وأحب بلاد الله إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت".

واستجابة التشريع الإٍسلامي لسنن الحياة الاجتماعية أمر جلي وواضح،فالإسلام يعترف بعملية الانتماء الاجتماعي للأسرة (ادعوهم لآبائهم) ... والقبيلة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) ...

والدولة (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) وجعلها أحد مقاصد الحياة الاجتماعية.

والمسألة المهمة هنا هي أن تجاوز الناس لحدود معنى القبلية أو العصبية أو الإقليمية لا يعني إبطال مفعولها إسلاميا وفطرياً، ذلك أن الإسلام لم يأت ليمنع ما فُطر عليه الناس لكن ليهذب ذلك المعنى وذلك السلوك.

الإمام البنا ومفهوم حب الأوطان

تعددت الدعوات والمذاهب الفكرية في عهد الإمام حسن البنا ، فمن دعوة إلى الوطنية إلى القومية إلى العلمانية إلى غيرها من الدعوات المتباينة التي عطت وما زالت تشغل ساحة الحياة العامة في المنطقة.

وقد أوضح الإمام البنا في رسالته (دعوتنا) المبدأ المعياري العام للمسلم في التعامل مع القيم والدعوات والمذاهب الفكرية في المجالات الحياتية المختلفة حيث يقول: (موقفنامنالدعواتالمختلفةالتيطغتفيهذاالعصرففرقتالقلوبوبلبلتالأفكارأننزنهابميزاندعوتنا فما وافقها فمرحبا به وما خالفها فنحنبراءمنهونحنمؤمنونبأندعوتناعامةمحيطةلاتغادرجزءاصالحامنأيةدعوةإلاألمتبهوأشارتإليه).

ومن بين هذه الدعوات التي افتتن الناس بها دعوة (الوطنية) .. وفي السطور القادمة نحاول إلقاء الضوء على هذا المفهوم كما يراه الإمام البنا وكما طبقه الإخوان على أنفسهم فصاروا مثلا يحتذى في الوطنية بمعناها الأوسع والأشمل.

ولا يستطيع باحث أو دارس مُنصف لفكرة "الوطن والوطني " أن ينسى أو يتناسى جهودالإمامحسنالبنافي هذا المضمار، الذي اعتبر أن الوطن والوطنية جزء لا يتجزأ لفهم المسلملإسلامه وتجرده وحبه له، وأن هذا أصل مهم في عقيدة الإسلام وفهمالإخوانالمسلمينله.

فإذا نظرنا إلى المضمون الغربي، الضيق لكل من "الوطنية" و"القومية".. والذي وجدله دعاة وأحزابًا تخندق بعضها عند "الوطنية الإقليمية".. وتخندق بعضها الآخر عند "القومية العنصرية".. وافتعل آخرون- كرد فعل- التناقضات بينالإسلاموبين الوطنية والقومية..

نجد أن الإمام البنا في مواجهة هذا الغلو، وضع قواعدالمنهج الإسلامي التجديدي الذي يؤلف بين جميع دوائر الانتماء- الوطني.. والقومي..والإسلامي.. والإنساني. كما أن المتتبع لجهود الإمامالبنايلمس بوضوح مدى حبه لوطنه، وحرصه على وحدته القومية.

وفي هذا المبحث سنحاول الوقوف على موقف الإخوان في هذه القضية ونقدم الأدلة من تاريخ الجماعة ومواقفها في أوطانها بما يبرهن ويثبت عدم صحة دعاوى المغالين في دعوتي الوطنية والقومية.

الإخوان وفكرة الوطن والوطنية

قال الإمام المؤسس - يرحمه الله -:

(افتتن الناس بدعوة الوطنية تارة والقومية تارة أخرى، وبخاصة في الشرق، حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها، إساءة نالت من عزتها وكرامتها واستقلالها، وأخذت من مالها ومن دمها، وحيث تتألم هذه الشعوب من هذا النِّير الغربي الذي فُرِضَ عليها فرضًا، فهي تحاول الخلاص منه بكل ما في وسعها من قوة ومَنَعَة وجهاد وجِلاد، فانطلقت ألسن الزعماء، وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون، وخطب الخطباء، وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية.

حسن ذلك وجميل، ولكن غير الحسن وغير الجميل: أنك حين تحاول إفهام الشعوب الشرقية -وهي مسلمة- أن ذلك في الإسلام بأوفى وأزكى وأسمى وأنبل مما هو في أفواه الغربيين، وكتابات الأوروبيين: أَبَوا ذلك عليك، ولجُّوا في تقليدهم يعمهون، وزعموا لك أن الإسلام في ناحية، وهذه الفكرة في ناحية أخرى، وظنَّ بعضهم أن ذلك مما يفرِّق وحدة الأمة، ويُضعف رابطة الشباب.

هذا الوهم الخاطئ كان خطرًا على الشعوب الشرقية من كل الوجهات، ولهذا الوهم أحببتُ أن أعرض هنا إلى موقف الإخوان المسلمين ودعوتهم من فكرة الوطنية، ذلك الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم، والذي يريدون ويحاولون أن يرضاه الناس معهم.

يقرر الإمام الشهيد حسن البنا يرحمه الله في الأصل الأول من الأصول العشرين التي تمثل الدستور الفكري للجماعة وأساس فهم الإخوان لمنهج دعوتهم:

أن الإسلام دولة ووطن، أو حكومة وأمة... والواقع أنه لا دولة بدون وطن.

فمن مقوِّمات الدولة أن يكون لها أرض مستقلَّة محدَّدة الأبعاد تسود فيها وتحكم.

وهذا هو الوطن.

وفي هذا يقول – يرحمه الله - :

"إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها .. أن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفانى فى خدمته وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التى يعيش فيها وأن يقدم فى ذلك الأقرب فالأقرب رحما وجوارا حتى أنه لا يجوز أن تنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر – إلا لضرورة – إيثارا للأقربين بالمعروف فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التى هو عليها وأن يخدم الوطن الذى نشأ فيه .. ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين وكان الإخوان المسلمون بالتالى أشد الناس حرصا على خير وطنهم وتفانيا فى خدمة قومهم" ..

فالإخوان يحبون وطنهم ويحرصون على وحدته القومية بهذا الاعتبار لا يجدون غضاضة على أى إنسان يخلص لبلده وأن يفنى فى سبيل قومه وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عزة وفخار .

ويرد رحمة الله على بعض الشبهات التي يحاول البعض إثارتها في وجه فهم الإخوان لقضية الوطن والوطنية فيقول:

يخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين يتبرمون بالوطن والوطنية، فالإخوان المسلمون أشدُّ الناس إخلاصًا لأوطانهم وتفانيًا في خدمة هذه الأوطان، واحترامًا لكل مَن يعمل لها مخلصًا، وها قد علمت إلى أي حدٍّ يذهبون في وطنيتهم وإلى أي عزة يبغون بأمتهم.

ولكن الفارق بين الإخوان وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة:

أن أساس وطنية الإخوان العقيدة الإسلامية. فهم يعملون لوطن مثل مصر، ويجاهدون في سبيله، ويفنون في هذا الجهاد، لأن مصر من أرض الإسلام، وزعيمة أممه.

كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها، بل يُشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطن إسلامي، على حين يقف كل وطني مجرد عند حدود أمته، ولا يشعر بفريضة العمل للوطن إلا عن طريق التقليد أو الظهور أو المباهاة أو المنافع، لا عن طريق الفريضة المنزَّلة من الله على عباده.

وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين: أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أي شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تُغتفر، حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا).

من رسالة (إلى الشباب) صـ 180، من مجموعة رسائل الإمام الشهيد.

كما انتقد الإمام "البنا" رأيًا لبعض المؤمنينبالوطنية، كما هي عند الغربيين، يزعم أن الإسلام في ناحية وهذه الفكرة في ناحيةأخرى، ويزعم أن إدخال الإسلام في هذا الأمر إضعاف وتفرقة للوحدة الوطنية، ومن ثمناقش الإمام "البنا" مدلولات مفهوم الوطنية ، محددًا موقف الإخوان منه، فقال رحمه الله :

وطنية الحنين:

"إن كاندعاةُ الوطنية يريدون بها حبَّ هذه الأرض وأُلفتَها والحنينَ إليها والانعطافَنحوها.. فذلك أمرٌ مركوزٌ في فطرة النفوس من جِهَة، ومأمورٌ به في الإسلام من جهةٍأخرى، وإن بلالاً، الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه، هو بلال الذي كان يهتففي دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقَّةً وتقطر حلاوةً:

ألا ليت شعريهل أبيتن ليلةً

بواد وحول إذخر وجليل

وهل أردن يومًا مياه مجنة

وهل يبدون ليشامة وطفيل

ولقد سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصف مكة من "أصيل" فجرىدمعه حنينًا إليها، وقال: "يا أصيل دع القلوب تقرّ.

ومعنى ذلك أن الإمام "البنا" قد أكد أنه إذا أراد دعاةُ الوطنية بها حب الأوطان والحنين إليها فـ(الإخوان) من حيث هذا المعنى هممن أكثر الناس وطنيةً؛ لأن دينَنا الحنيفَ يحثُّ على ذلك.

وطنية الحرية والعزة:

وإن كان يُراد بالوطنية العملُ بكل جهد لتحرير البلاد منالغاصبين، واستقلاله وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه... فنحن معهم في ذلكأيضًا، وقد شدَّد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالى:﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّالْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ .. (المنافقون: 8) ... ويقول:﴿وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَسَبِيلاً﴾ ... ( النساء:141).

وطنية المجتمع:

أما إذا أريدبالوطنية تقوية الرابطة بين أبناء القُطر الواحد وإرشادُهم إلى طريق استخدام هذهالتقوية في مصالحهم فذلك نوافقهم فيه أيضًا، ويراه الإسلام فريضةً لازمة، فيقولنبيه- صلى الله عليه وسلم- "كونوا عباد الله إخوانًا" ...

ويقول القرآن الكريم:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّندُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتِّمْ قَدْ بَدَتِالْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْبَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (آل عمران 118).

وطنية الحزبية والانقسام:

وإن كانوا يريدون بالوطنية: تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتُّهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء وشكَّلتها الغايات والأغراض، وفسَّرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته، ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً، ويُفرِّقهم في الحق، ويجمعهم على الباطل، ويُحرِّم عليهم اتصال بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض، ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس.

فها أنت ذا قد رأيتَ أننا مع دعاة الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيتَ مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام.

فالأستاذ البنا – إذن- يرى أنالوطنية بمعنى حب البلد والحنين إليها، والعمل على تحريره وتقويته، وتقوية الرابطةبين أفراده بما يعود بالخير على أهله فكرة صائبة يقرها الإسلام،ومن ثَمَّ فهو يؤمن بها، ويعمل لها.

ومن شأن هذا الفهم أن يربي في من يقبله شعور الانتماء الوطني الصحيح والإحساسبالمسئولية تجاه الوطن، والرغبة القوية في العمل والتحرر من المحتل، فالعلاقة بينالوطنيةوالإسلام بهذا المعني السابق- لا تناقض بينها.

الإمامالبنا يرفض الوطنيةإذا أُريد بها تقسيم الأمة طوائف متناحرة متشيعة لمناهج وضيعة، تُفسَّر وفق مصالحشخصية تستغل من قِبل العدو لمنع اتصالِ بعضهم ببعض وتعاونهم، ويرى أن هذه وطنية لاخيرَ فيها وزائفة؛ أي أنالإخوان يرفضون الوطنية المجزأة، وذات المضمون المنافي للإسلام، والتي بالتالي تعمل لمصلحةالمستعمر، يقول: "وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغنوتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضيعة أملتهاالأهواء وشكَّلتها الغايات والأغراض وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدويستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً يُفرِّقهم في الحق، ويجمعهمعلى الباطل، ويُحرِّم عليهم اتصال بعضهم ببعض ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حولهفلا يقصدون إلا داره ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خيرَ فيها لدعاتهاولا للناس، فها أنت ذا قد رأيت أننا من دعاةِ الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيهاالصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوةالوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليمالإسلام.

حدود الوطنية عند الإمام البنا

أما وجه الخلاف بيننا وبينهم، فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتُّخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حُرمته وقداسته وحبه والإخلاص له، والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا، نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.

ودعاة الوطينة فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوِّي نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قُطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعا، ودعاة الوطنية المجرَّدة لا يرون في ذلك بأسا، ومن هنا تتفكك الروابط، وتضعف القوى، ويضرب العدو بعضهم ببعض.

غاية الوطنية عند البنا

هذه هي واحدة.

والثانية أن الوطنيين فقط، جلُّ ما يقصدون إليه، تخليص بلادهم، فإذا ما عملوا لتقويتها بعد ذلك، اهتموا بالنواحي المادية كما تفعل أوروبا الآن، أما نحن فنعتقد أن المسلم في عنقه أمانة عليه أن يبذل نفسه ودمه وماله في سبيل أدائها، تلك هي هداية البَشر بنور الإسلام، ورفع عَلمه خفَّاقا على كل ربوع الأرض، لا يبغي بذلك مالاً ولا جاهًا ولا سلطانًا على أحد ولا استعبادا لشعب، وإنما يبغي وجه الله وحده وإسعاد العالم بدينه وإعلاء كلمته، وذلك ما حدا بالسَلَف الصالحين رضوان الله عليهم إلى هذه الفتوح القدسية التي أدهشت الدنيا، وأربت على كل ما عرف التاريخ من سرعة وعدل ونبل وفضل.

من هو المواطن؟

إذا كانت هذه هي مكانة الوطن في الإسلام، فإن السؤال الذي يفرض نفسه:

من هو المواطن في المجتمع المسلم، وهل لأهل البلاد من غير المسلمين مكانة المواطنة في التصور الإسلامي للآخر الديني؟

يلاحظ قارئ التاريخ الإسلامي ببساطة بأن المسلمين عرفوا مضمون مبدأ ((المواطنة)) منذ المراحل الأولى لتكوين أول دولة إسلامية في المدينة المنورة.. حيث كان أول لقاء بين الإسلام - الدولة - وبين غير المسلمين المواطنين في دولة إسلامية هو الذي حدث في المدينة المنورة غداة الهجرة النبوية إليها.

فقد كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإرساء معالم الدولة في المدينة مرحلة حاسمة في تقرير مضمون مفهوم المواطنة في الإسلام، وظهور أول وثيقة مكتوبة تتناول أسس المواطنة في التاريخ العربي والإسلامي، وتقر بالمساواة والمناصرة بين المسلمين وغيرهم، وتقيم علاقات قائمة على البر والنصيحة، وتنظم العلاقات القانونية والجنائية في المجتمع بين عناصر من المسلمين وغير المسلمين، وبخاصة اليهود؛ حيث إنهم الفئة الوحيدة المخالفة للمسلمين عقيدة من أهل الكتاب في المدينة في ذلك الوقت .

وكان لا بد للدولة من نظام يرجع أهلها إليه، وتتقيد سلطاتها به (دستور).

عندئذ كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وسلَّم - الوثيقة السياسية الإسلامية الأولى المعروفة تاريخيا باسم: وثيقة المدينة، أو صحيفة المدينة، أو كتاب النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى أهل المدينة، أو كما يسميها المعاصرون: دستور المدينة.

فهذه الوثيقة تجعل غير المسلمين المقيمين في دولة المدينة مواطنين فيها، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين.

ولنتأمل نصوص الوثيقة لنرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمد فيها مبدأ المواطنة، بحيث وضعت فيه الحقوق والواجبات على أساس المواطنة الكاملة التي يتساوى فيها المسلمون مع غيرهم من ساكني المدينة المنورة ومن حولها،

ومن هذا الدستور نقرأ هذه المواد:

1 - هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلحق بهم وجاهد معهم

2 -إنهم أمة واحدة من دون الناس.

3 -وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم.

4 -وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

5 -وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

6 -وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

7 -وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

8 -وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.

9 - وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

10 - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

11 - وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

12 - وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم.

13 - وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

14 - وإن بطانة يهود كأنفسهم. (بطانة الرجل: أي: خاصته وأهل بيته).

15 - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.

16 - وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.

17 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

18 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

19 - وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم.

20 - وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

21 - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد اعتبرت هذه الوثيقة اليهود من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصرًا من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصحيفة: "وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم"، ثم زاد هذا الحكم إيضاحًا، في فقرات أخرى فقال: "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين... إلخ .

السيرة النبوية للدكتور محمد علي الصلابي (1/571)

وهكذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب، الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس - بمقتضى أحكام الصحيفة - سببا للحرمان من المواطنة.

نظام الحكم لظافر القاسمي (1/37).

كما عملت هذه الوثيقة على استبدال مفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل؛ بمفهوم الأمة القائم على الوفاق والتعايش مع حفظ الخصوصيات، حيث تكوَّن لأول مرة في المدينة مجتمع تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين والجنس، ولكن تتوحد فيه علاقة الانتماء إلى الأرض المشتركة، هي أرض الوطن.

فالنبي صلى الله عليه وسلم قد اعترف بـ"المواطنة" بين سكان المدينة من مسلمين مهاجرين وأنصار، من أوس وخزرج، ومن اليهود على اختلاف قبائلهم، معتبرا أن هذه المواطنة (العيش في وطن واحد هو المدينة) هو أساس التعاقد والتعامل بين الجميع.

وتنظم الوثيقة حياة أهل المدينة من دون تفريق بينهم، لا في الحقوق ولا في الواجبات، " يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم".

الأمة بهذا المعنى لا تقتصر على سكانها المسلمين، بل هي أمتان دينيتان في أمة سياسية واحدة، وأوضح المواد هنا تعبيرا عن المدلول السياسي للأمة وتمييزه عن المدلول الاعتقادي هي المادة 25 التي تنص على أن "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"

ثم تم مد نص هذا الحكم ليشمل قبائل اليهود الأخرى و”بطانتهم” (أي أحلافهم من غيرهم) في إحدى عشرة مادة متتالية فكل من المسلمين واليهود أمة دينية بمقتضى هذا النص، والأمتان تشكلان معا أمة سياسية واحدة.

ومن المهم الانتباه هنا إلى أن النص لم يقل إن اليهود أمة “من” المؤمنين، وإنما هم أمة “مع” المؤمنين، والمعية تقتضي المغايرة والاتصال معا، وقد ترتب على هذه الوحدة السياسية مسؤوليات، أهمها

أن “اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين”

وأن “بينهم النصر على من دهم يثرب”

وأن “بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة،

وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم”،

فمسلموا المدينة بمقتضى الوثيقة يدفعون ضريبة المواطنة من دمائهم وأموالهم، واليهود يدفعونها من أموالهم فقط، لأنهم ليسوا جزءا من الصراع الديني بين الحنيفية الإسلامية والوثنية القرشية، وهذا اعتراف حكيم بأن اليهود جزء من الأمة السياسية لا الأمة الاعتقادية في دولة الإسلام، وتقنين عادل لوضعهم طبقا لذلك، كما أنه تأصيل لقبول تعدد الهوية الإنسانية، وتعدد أنماط الأخوة بين البشر.

الوحدة الوطنية واختلاف الدين

الوطنية عند الإخوانتنطلق من العقيدة الإسلامية، وذات مضمون إسلامي؛ مما قد يؤدي إلى تساؤل عن الموقفلغير المسلمين في الوطن فهل لهم حقوق المواطن وواجباته كاملاً، أم أن القولبالمضمون الإسلامي للوطنية يؤدي إلى انحصار بعض تلك الحقوق عن غير المسلمين؟.

ويذكر المستشار البشري أن هذه النقطة العملية هي أدق ما يواجه فريقي الجامعتينالدينية والقومية، ولعله فيها تكمن بذرة الخلاف الأساسي بينهما.

المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية- المستشار البشري – ص702

يتضح من خلال استقراء الأفكار الإمام البنافي هذه النقطةأنها كانت تأخذ حيزًا غير قليل من بياناته وتوعيته، مما يشير إلى أنها كانت تُمثِّلاهتمامًا له، والمنهج السائد في تناوله جميعًا هو بيان موقف الإسلام- عقديًاوتاريخيًا- من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.

ففي أكثر من رسالة وخطاب تناول الإمام البنا الموقف منالأقباط، فيرد على مَن يقول إن فهم الوطنية بهذا المعنى السابق يُمزِّق وحدة الأمة؛لأنها تأتلف من عناصر دينية مختلفة، بأن الإسلامَ دين الوحدة ودين المساواة، وأنهكفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير:﴿لا يَنْهَاكُمُاللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّندِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّالمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8)، فمن أين يأتي التفريق إذن؟.

رسالة دعوتنا- ضمن مجموعة الرسائل- ص22

وفي رسالة "نحو النور": ذكر أن الإسلام يحمي الأقليات عن طريق:

أنه قدس الوحدة الإنسانية العامة، وقدس الوحدة الدينيةالعامة بأن فرض على المؤمنين به الإيمان بكل الرسالات السابقة، ثم قدس الوحدةالوطنية الخاصة من غير تعدٍ ولا كبْر، ويري أن هذا (مزاج الإسلام المعتدل) لا يكونسببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل يكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانتتستمد قوتها من نص مدني فقط، ويذكر أن الإسلام حدد بدقة من يحق للمسلمين مقاطعتهموعدم الاتصال بهم، وهم الذين يقاتلونهم في الدين ويخرجونهم من ديارهم ويظاهرون عليإخراجهم، يقول: "فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرهاومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلاوقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حمايةالأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص:﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِالَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْأَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّالْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8)، فهذا النص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصىبالبر والإحسان إليهم" .

هذاالإسلام الذي بُني على هذا المزاج المعتدل، والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًافي تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أنكانت تستمد قوتها من نص مدني فقط" .

رسالة نحو النور – ضمن مجموعة الرسائل – ص78 .

ويؤكد الإمام البنا على الفكرةنفسها في رسالته للشباب، فيقول:

"فيخطئ مَن يظن أنالإخوان دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة"، ويستدل بأن" الإسلامعني أدق عناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان، وأوصى بالبروالإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم، وبإنصاف الذميين وحسن معاملتهم (لهم مالنا وعليهم ما علينا)، فلا ندعو إلى فرقةٍ عنصريةٍ ولا إلى عصبية طائفية، ثم يؤكدالإمامالبناالمعنى السابقللوطنية فيقرر:

"ولكننا إلى جانب هذا لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم فيسبيلها على عقيدتنا، ونهدر من أجلها مصالح المسلمين وإنما نشتريها بالحق والعدالةوالإنصاف وكفى". رسالة إلى الشباب- ضمن مجموعة الرسائل- ص99

وفي رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي): يبين الإمامالبناموقف الأقليةغير المسلمة ذاتها من الإسلام وبالتالي من دعوة الإخوان، فالأقلية- كما يذكر الإمامالبنا- من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواةالتامة- في كل تعاليم الإسلام وأحكامه، "وهذا التاريخ الطويل للصلة الطيبة الكريمةبين أبناء هذا الوطن جميعًا- مسلمين وغير مسلمين- يكفينا مئونة الإفاضة والإسراف،فإن من الجميل حقًّا أن نُسجِّل لهؤلاء المواطنين الكرام أنهم يُقدِّرون هذهالمعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم ، وإن لم تكنأحكامه وتعاليمه من عقيدتهم".

رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي- ضمن مجموعة الرسائل – ص212

ويمكن إجمال نظرة الإمام البنا والإخون للأقباط في عاملين أساسيين هما:

الجانب العقائدي:

وفيه التزام الإخوانبما جاء في القرآن الكريم والسنة من أن أهل الكتاب أرسل الله لهم سيدنا عيسى- عليهالسلام- نبيًا ورسولا وأنزل معه الإنجيل، وهم أقرب للمسلمين من اليهود فقد قال اللهفيهم:﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَوالَّذِينَ أَشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواالَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْبَانًاوأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة : 82)، وهذا هو المفهوم العام والذيتربى عليه الإخوان وهو موجود في مختلف أدبياتهم.

الجانب المعاملاتي:

وفيه اعتبر الإخوانأن الأقباط لهم كافة حقوق المواطنة؛ حيث إنهم جزءٌ من نسيج الوطن، فهم شركاء في هذاالوطن؛ ولذلك جاءت علاقةالإخوان بالأقباط عمومًا علاقة طيبة كباقي فئات المجتمع، ولم يُعكِّرها إلا تدخل بعضالمغرضين الذين يكرهون الخير للبلاد، أو متعصبين ضد كل ما هو إسلامي، يحكمهم في ذلكالهوى والحقد الشخصي، أو فئة فهمت الإسلام فهمًا خطئًا .

دور الإخوان المسلمين في المجتمع المصري (1938- 1945)- ضمن أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين (6) – ص2260- 261

والإخوان يرون " أن المواطنة أو الجنسية التى تمنحها الدولة لرعاياها .. قد حلت مفهوم (أهل الذمة ) وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة التامة فى الحقوق والواجبات مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية ( زواج وطلاق ومواريث .. ) طبقا لعقيدة كل مواطن .. كما يرى الإخوان أن النصارى يمثلون مع المسلمين نسيجا اجتماعيا وثقافيا وحضاريا واحدا تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه وتماسكت عناصره، وأن للنصارى حقا فى أن يتولوا – باستثناء رئيس الدولة - كافة المناصب الأخرى مستشارين ومديرين ووزراء" .

ويقرر الإخوان " موقفنا من إخواننا المسيحيين فى العالم العربى موقف واضح وقديم ومعروف لهم ما لنا وعليهم ما علينا وهم شركاء فى الوطن وأخوة فى الكفاح الوطنى الطويل ولهم كل حقوق المواطن ، المادى منها والمعنوى ، المدنى منها والسياسى ، والبر بهم والتعاون معهم على الخير فرائض إسلاميه لا يمتلك المسلم أن يستخف بها أو يتهاون فى أخذ نفسه بأحكامها ومن قال غير ذلك أوفعل غير ذلك فنحن براء منه ومما يقول ومما يفعل ".

وفي ضوء هذا الفهم الشامل كانت سمة أصيلة من منهج عمل الجماعة عبر تاريخها هو تبني قضايا الأمة والأوطان والشعوب باعتبار الجماعة فصيلا وطنيا في كل قطر متواجده فيه ..

وفي ضوء حقيقة أن الجماعة ليست حزباً سياسياً بالمعنى المعروف، إنما هي - في الأصل - جماعة إسلامية دعوية، وانطلاقاً من فهمها الشامل للإسلام، فإنها تقوم بأنشطةٍ دعوية، وفكرية، واجتماعية، وسياسية..

ففي مجال العمل السياسي تتعاون الجماعة مع جميع أبناء الوطن، على تحقيق الأهداف المشتركة في الحياة الحرة الكريمة، وتتحالف مع مختلف القوى والشخصيات الوطنية، على اختلاف انتماءاتها السياسية والدينية والمذهبية والإثنية.. لتحقيق هذه الأهداف.

والجماعة في كل قطر يقوم مشروعها على أساس النهوض بالوطن، والسعي للتعاون مع الجميع في سبيل تنفيذه، مؤكدة "على أن جماعة الإخوان المسلمين ليسوا هم فقط جماعة المسلمين، ولا الجماعة أيضا أوصياء على الناس باسم الإسلام، وإنما أصحاب مشروع نعرضه على الناس، وسبيلنا هو الحوار مع كل التيارات الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية".

وأنها تنظر الى الحركات والأحزاب الوطنية الأخرى على أساس القواسم المشتركة في سبيل المصلحة العليا للأمة والوطن .

وكما يقول الباحث المصري الدكتور عمرو الشوبكي :

" حكمت الجماعة في مشروعها الوطني ثقافة سياسية قائمة منذ البداية على استهداف المجتمع وليس السلطة السياسية، واعتبرته طريقها للوصول إلى السلطة، وبالتالي نظرت للأخيرة باعتبارها جزءا من المجتمع وليست عدوة له".

ويقرر المرشد العام السادس للجماعة المستشار المأمون الهضيبي – يرحمه الله – خط الجماعة الفكري في هذا الأمر حيث يقول " - إننا لابد أن نبدأ أولا كل في مكانه وفي وطنه وبين قومه، وفي كل بلد فإن قومه هم أصحاب الشأن وهم من يتولون ويصرفون أمورهم، فمثلا الإخوان المسلمون في الأردن وفي السودان والجزائر وفي العراق وفي غيرها من البلدان العربية هم وطنيون مئة في المئة خاضعون لقوانين بلدانهم ويقررون أمورهم طبقا لما في وطنهم واحتياجاتهم .

وعلى هذا نوضح أن الإخوان المسلمين الموجودين تحت أسماء شتي في كل بلد من بلاد العالم كل منهم يتأقلم حسب ظروف بيئته واقليمه وامكاناته، وما يجمع بيننا جميعا هي المرجعية ومرجعيتنا هي القرآن الكريم والسنة النبوية، إضافة إلى الأصول العشرين التي اجتمع عليها الإخوان المسلمون، وهذا يجعل التصرفات تقريبا متماثلة بيننا جميعا، وعندما نستطيع أن نجتمع فإننا لا نجتمع للقيام بانقلابات ولكن للمبادئ والأحوال العامة في الإسلام الموجودة في العالم.

الوطنية المصرية وموقف (الإخوان منها)

من قديمٍ رد الإمام "البنا" على الذين يغمزون (الإخوان) فيوطنيتهم، بحسبانهم أن العمل للفكرة الإسلامية، والأمة الإسلامية يُنافي الوطنيةوالعمل لخدمة الوطن ورفعته، فيقول- يرحمه الله- في رسالةالمؤتمر الخامس:

"إن الإسلام قد فرضها فريضةً لازمة لا مناص فيها: أن يعمل كل إنسانلخير بلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدِّم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التييعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب، رحِمًا وجِوارًا، حتى إنه لم يُجِز أنتُنقَل الزكوات أبعد من مسافة القصر- إلا لضرورة- إيثارًا للأقربين بالمعروف، فكلمسلم عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كانالمسلم أعمقَ الناسِ وطنيةً، وأعظمهم نفعًا لمواطنيه؛ لأن ذلك مفروض عليه من ربالعالمين، وكان الإخوان المسلمون بالتالي أشدَّ الناس حرصًا على خير وطنهم،وتفانيًا في خدمة قومهم، وهم ينتمون لهذه البلاد العزيزة المجيدة، كلُّ عزة ومجد،وكل تقدُّم ورُقِيّ، وكل فلاح ونجاح، وقد انتهت إليها رئاسة الأمم الإسلامية، بحكمظروف كثيرة تضافرت على هذا الوضع الكريم، وإن حب المدينة لم يمنع رسول الله- صلىالله عليه وسلم- أن يحنَّ لمكة، وأن يقول لـ"أصيل"- وقد أخذ يصفها-: "يا أصيل دعالقلوب تقرّ".

وفي رسالة (نحو النور) يذكر الإمام "البنا" أن الأمة في حالةنهوضها- وهذا شأن مصر كما قرر- تحتاج إلى الاعتزاز بقوميتها، وطبْع ذلك في نفوسالأبناء؛ ليعطوا الخير للوطن وإعزازه، وإنَّ هذا الشعور قد كفله الإسلام.

وفيرسالة (إلى الشباب) ذكر أنهم يعملون لوطن مثل مصر، ويجاهدون في سبيله، ويفنون فيهذا الجهاد؛ لأن مصر من أرض الإسلام وزعيمة أممه، إلاَّ أنهم لا يقِفون عند حدودها،وبلَغ من وطنية (الإخوان) اعتقادهم أن التفريط في أي شبر أرض يقطنه مسلم جريمةٌ لاتُغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاةَ لهم من الله إلا بهذا.

وفيرسالة (دعوتنا في طور جديد) يُذكر أن الوطنية المصرية لها مكانتها ومنزلتها وحقهافي النضال في دعوتهم، ويقول: "إننا مصريون؛ لأننا نشأنا في هذه البقعة المباركة،ومصر بلد مؤمن تلقَّى الإسلام تلقيًا كريمًا، وقد انتهت إليه حضانة الفكرةالإسلامية، فكيف لا نعمل لمصر وخيرها؟! وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع؟ وكيفيُقال إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام؟إننا نعتزُّ بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب؛ عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره،معتقِدون أنَّ هذه هي الحلقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطنالعربي العام، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة وللشرق وللإسلام".

ولذا يقبلالإخوان الوطنية على أنها ذات مضمون إسلامي، وأنها حلقةٌ في سلسلة النهضة، ويرفضونالوطنية على أنها إحياءٌ للفرعونية وصبغُ الأمة بها، أو على أنها محدودة بحدودالوطن المصري.

البنا أستاذ الوطنيين

اتسمت الوطنية في شخصية الإمام البنا بملامح خاصة تمثلت في حب الأوطان حيث بدأت بوادر الوطنية لديه إبان ثورة 1919 حين كان تلميذا بالاعدادية لم يتعد ثلاث عشرة سنة حيث كان يرى المظاهرات التي كانت تجوب البلاد وكان كغيره من الطلاب يشترك في هذه المظاهرات وبشعور فياض حتى أنه بعد أن سمع الأحاديث عن لجنة ملنراجماع الأمة على مقاطعتها نظم قصيدة طويلة لا يذكر منها إلا بيتين اثنين:

يا ملنر ارجع ثم سل وفدا بباريس أقام

وارجع لقومك قل لهم لا تخدعوهم يالئام

وهو في مذكراته تجده يعبر في مواضع كثيرة عن بلده الحبيب مصر بكلمة الوطن فتتكرر هذه الكلمة بشكل يوحي بشعوره الوطني المتأجج.

كما كان يعتقد أن الخدمة الوطنية جهاد مفروض لا مناص منه لذا كان يقوم بدور وطني بارز بين زملائه.

كما استفزه كما استفز غيره ما كان عليه مكتب ادارة شركة قناة السويس من فخامة مع استخدامه المصريين ومعاملتهم كالاتباع المضطهدين وتحدث عن هذه المشاعر في مذكراته والتي كان لها " أثر كبير في تكييف الدعوة والداعية".

كما تجده مثلا حين يتحدث عن العَلَم يؤكد أنه في ذاته قطعة قماش لا قيمة لها ماديا، ولكنه يرمز إلى كل معاني المجد والسمو التي يقترن بها الوطن، وأن المسلم يجب عليه أن يحمي هذا العلم ويعظمه ويحترمه باعتباره رمزا لوطنيته.

وفي رسالته ( نحو النور) يضع بعض الخطوات الإصلاحية التي تنمي الحس الوطني وتعمل لصالح الوطن ومن بينها:

- أنه دعا إلى حسن اختيار ما يذاع أو يعرض على الأمة من برامج و محاضرات وأغاني في الاذاعة أو التليفزيون كوسائل للتربية الوطنية الخلقية الفاضلة.

- ورأى أن وضع سياسة ثابتة للتعليم تؤدي إلى نهوض الوطن وترفع مستواه وتقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة بتربية الروح الوطني .

- كما طالب بالعناية بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني والتربية الوطنية وتاريخ حضارة الاسلام.

وتتجلى أيضا وطنية الإمام البنا في دعوته إلى تشجيع الصناعة الوطنية حيث يقول ( ولا تلبس ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي) وبدا ذلك واضحا حين قام بتأسيس معهد حراء الإسلامي فوق مسجد الإخوان حيث اشترط للتلاميذ زيا خاصا هو جلباب ومعطف من نسيج وطني وطربوش أبيض من صناعة وطنية وصندل من صناعة وطنية وذلك ليعود التلاميذ على التمسك بالصناعات الوطنية منذ بداية نشأتهم.

التربية الوطنية عند الإخوان

كانللأفكار السابقة المتعلقة بالوطنية انعكاس على فكر الإخوان التربوي، متمثلاًفي:

تأثيرها في هدف التعليم: فيتحليل الإمام "البنا" لغاية التعليم يرى أنها تشتق من وضع مصر، فهي أمة شرقيةتسير نحو النهوض، وقد آذاها الاحتلال سياسيًّا واقتصاديًّا ولن تكون هذه الغاية إلاتخريجَ رجال أقوياءَ يعتزُّون بدينهم وقوميتهم، ويعملون على إحياء حضارة الشرق،وهذا يعني أن يكون من أهداف التعليم تربية الشعور الوطني الصحيح، والإحساسبالمسئولية تجاه الوطن كما جاء في رسالة "نحو النور".

وفي مقال بمجلة (الإخوان المسلمين) حول إصلاح التعليم يؤكدالإمام "البنا" أن التعليم له أثر عميق في توجيه نهضة الوطن، وأنه على تعليم الشعبيتوقف مصير الوطن، ويضيف أن التعليم من الضروري أن يبنَى على ثلاثة أسس منها: تركيزالشعور الإنساني العام في المتعلمين "مع التأكيد على ذاتيتنا وشخصيتنا"، ويُذكَر أنالأمم الناشئة لا حِصن لها إلا أن تَعتزَّ بوجودها، ثمَّ يقول: نريد أن يتَّجِهتفكير المصلحين المعنيِّين بالتعليم والوصول بالمدارس والنشء الجديد إلى أهدافثلاثة:

تعليم عالمي.. فالعلم لا وطن له، وثقافة قومية.. فلا حياة لأمة لا تعتزبوجودها ولا تعرف حق أمجادها، وتربية إسلامية.

في محتوى التعليم: يرى الإخوانأن الهدف السابق لا يتحقق إلا من خلال العناية بالتاريخ الوطني في المدارس بجميعالمراحل، وصبغَه بالصبغة التي تجعل الطالب يعتز بإسلامِه الماجد، وقد أيد الإخوانالدكتور "محمد حسين هيكل" (وزير المعارف سابقًا) في تعديل مناهج التاريخ في المدارسالمصرية بوضع تاريخ مصريّ جديد يتناسب مع مقتضيات العزة وأساليب التربية الوطنيةالحرة في البلاد، وقد طالب (الإخوان) سابقًا أن تكون المرحلة الأولى في التعليمإلزامِيَّة وعمومية، وتهدف- أساسًا- إلى التربية الوطنية السليمة، كما طالَبوا بالاهتمام بالأناشيد الوطنية.

أثر التربية الوطنية فيالإخوان:كان من أَثَر فَهْم الإخوان للوطنية بالمفهوم السابق بأن أخلصوالهذا الوطن وجاهدوا؛ من أجل رفعته، وضَحَّوا في سبيله بالنفس والنفيس، وذلك عن طريقالكتابة بالمقالات والرسائل والمؤتمرات والاشتراك الفعلي في المطالبة بالحقوقالوطنية، وكذلك عن طريق الأناشيد الوطنية في الجوَّالة والمعسكرات، والدعاية لشراءالمُنتَج الوطني.

صور عملية لوطنية الإخوان

نظرًالربط الوطنية بالعقيدة عند الإخوان فقد أصبحت سِمَةً رئيسةً في حياة (الإخوان)،سواءٌ على مستوى الفرد أو الجماعة، وهي عندهم من أوجب الواجبات، فمُنذ ظهور الجماعةعلى الساحة وهي تعمل لهذا الوطن دون كلل أو ملل، وفي السطور التالية بعض صور لهذهالوطنية:

أ- المشاركة في الحملات الوطنية والقومية، وحملات خدمة البيئة، منذحملة تحريق مصادر الثقافة الإنجليزية في مصر عام 1946م، إذ قام الإخوان في كلِّأنحاء الجمهورية بجَمْع كل الكتب والصُّحُف باللغة الإنجليزية وحرقها في الميادينالعامة؛ استنكارًا لسياسة الاستعمار، وبدايةً لحملات المقاطعة التي استمرت حتىاليوم... وهذا ليس انغلاقًا ضد ثقافة معينة، لكنها نوع من الكفاح ضدَّ المستعمِر،والحملات المستمِرة في كل محافظات مصر ونقاباتها وجامعاتها بضرورة مقاطعةالمحتل.

ب - حملات خدمة البيئة بالجهود الذاتية، وقد بدأت هذه الحملات منذ عام 1943م بحملات مكافحة وباء الملاريا، والكوليرا عام 1947م، التي اشترك فيها أربعونألف جوَّال من الإخوان، وجميع شعبهم في مصر، وما زالت هذه الحملات مستمرة عن طريقالجمعية الطبية الإسلامية والعيادات والمستشفيات الخاصة للإخوان. كما شاركالإخوان في حملات مكافحة الأمية منذ مشروع المعلم الجوَّال والمشاركة مع وزارةالمعارف المصرية وحتى اليوم في القُرى والمدن في الفصول الليلية.

ج- الاشتراك فيالمظاهرات والمسيرات والإضرابات المدنية، فقد نظَّم (الإخوان) وقادوا كثيرًا منالمظاهرات منذ مظاهرة 9 فبراير 1946م؛ من أجل تحرير البلاد من الاستعمار، على إثْربيانٍ من الإخوان، وكانت مسيرة ضخمة قام بها طلاب الجامعة بقيادة "مصطفى مؤمن"- زعيم طلاب الإخوان- إلى قصر عابدين للمطالَبة بالحقوق الوطنية، وفي اليوم نفسه قامتمظاهرات في المنصورة وأسوان، ثم المظاهرة الشعبية للمطالبة بالاستقلال في أكتوبر 1946م في القاهرة والأقاليم ومظاهرة أغسطس 1947م التي خرجت من الأزهر يتقدمها علَم(الإخوان)، ويقودها الإمام "البنا"، وهكذا حتى اليوم، إذ تخرج من جامعات مصروالجامع الأزهر والنقابات المهنية؛ وذلك للمطالبة بالحريات وإلغاء قانونالطوارئ.

وكان من أواخر هذه المسيرات مسيرة (الاستاد) في فبراير الماضي 2003م،التي نظمها (الإخوان) بالتحالُف مع القُوى الوطنية لرفض الهيمنة الأمريكية-الصهيونية على المنطقة، كما شارك (الإخوان) في العديد من الإضرابات؛ من أجلالاستقلال.

د- أقام الإخوان آلاف المؤتمرات الشعبية والطلابية؛ من أجل التحرر منالاستعمار، والمطالبة بالحريات، وقضية فلسطين، سواءٌ في الجامعات أو النقابات أوالنوادي والمراكز المختلفة التي كان من أهمهما مؤتَمر يوم الحريات لجميع طلاب مصرفي 5 نوفمبر1995م؛ للمطالبة بالحقوق المدنية للمواطنين.

هـ- الاشتراك فيالانتخابات البرلمانية والمهنية والطلابية والمحلية، فمنذ الانتخابات البرلمانيةلمجلس النواب عام 1942م ، قرَّر (الإخوان) الاشتراك في الانتخابات، وهم في جميع تجاربهم الانتخابية- سواء عام 1942م أو 1948م أو 1984م أو 1987م أو 1995م أو غيرها- لم ترصد ضدهم أي مخالفة وطنية أو حالة تزوير.

كمااشترك الإخوان في الانتخابات الطلابية منذ عام 1951م، وحين أُجريت الانتخاباتاكتسحوا جميع الأحزاب فحَصَلوا على أغلبية مطلقة من مقاعد كليات جامعة القاهرة((فؤاد سابقًا) وعين شمس (إبراهيم سابقًا) والإسكندرية (فاروق سابقًا)، كما جاء فيمجلة (آخر ساعة) في 26/12/1951م.

واستمر هذا الاكتساح كلما أُجرِيَت انتخاباتحرة في الجامعات، كما كان في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي؛مما يدل على مدى وطنيتهم الملموسة، سواء لدى الطلاب أو المجتمع.

و- الاشتراك في الكفاح المسلح ضدالصهيونية والاحتلال: تُعتبر هذه من أقوى صور المشاركة الوطنية لدى الإخوان، فقدشارك الإخوان في حرب 1948م قبل وبعد دخول الجيوش العربية فلسطين، وقد عرض الإمام "البنا" أن يشترك بـ10 آلاف متطوِّع على الحكَّام العرب، ثم اغتيل بعدها.

وبعدإلغاء معاهدة 1936م شنَّ الإخوان حربَ عصابات ضد قوات الاحتلال في قناة السويس تحترايَتين: (الإخوان كجماعة)، و(طلاب الإخوان ضمن معسكر الجامعة الذي قاده "حسن دوح"،زعيم طلاب الإخوان آنذاك)، وقد أُسس الجهاز الخاص للإخوان من أجل ذلك، وفي كل قُطريجاهد (الإخوان)؛ من أجل هذا القُطر، ففي فلسطين تواجه (حماس)- جناح الإخوان فيفلسطين- القتل والتشريد المستمر؛ من أجل الدفاع عن أرضهم.

صور أخرى للمشاركة الوطنية عندالإخوان

طوَّر (الإخوان) الاحتفال بالمناسبات التاريخية إلى وسيلة تربيةوطنية، كما كانت المقالات والرسائل في الصحف من أبرز صور الوطنية في تاريخ الإخوان،وقد عبَّروا بها عن كل معاني الوطنية التي يشعرون بها تجاه هذا الوطن، ومن هذهالمقالات والرسائل مقالٌ في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية عام 1946م للإمام "البنا" بعنوان (سيناء) فكتب مُحذِّرًا من استغلال اليهود لـ(سيناء) قبل قيام دولةإسرائيل (الكيان الصهيوني)، يحذر المسئولين المصريين من إهمال هذا الجزء أو التفريطفيه، ودعا إلى الاهتمام بها، حيث كشفت البحوث ما بها من معادن وبترول، وأن أرضهاعظيمة قابلة للزراعة، ولكن باستنباط الماء بالطرق الارتوازية وإنشاء بيارات على نحوبيارات فلسطين، ودعا لتبني بعض المشروعات بسيناء، ومنها نقل الجمرك من القنطرة إلىرفح، وأن نقيم منطقةً صناعيةً على الحدود، ومن الواجب إنشاء جامعة مصرية عربيةبجوار العريش يفِد إليها طلاب الشرق مع طلاب مصر يتلقَّون العلم، كما جدَّد "سيدقطب" ذلك في مقال عام 1952م؛ للتحذير من التفريط في هذا الجزء.

كما كانت رسالة(نحو النور) من أهم الرسائل التي تعالج القضايا الوطنية المختلفة بصورة سهلةوميسَّرة ذات مرجعية إسلامية، وما زال الإخوان إلى اليوم يشدُّون على يد الحكومةلرفْع مستوى معيشة المواطنين، والارتقاء بهذا الوطن، يأخذون بيدِ المجتمع إلى القيمالوطنية الحضارية.

ثانيا: موقف الإخوان من فكرة ودعوى القومية

كما حدد الأستاذ البنا موقفه من الوطنية حدد أيضًا موقفه من القومية، وإن كانت النزعة الوطنية هي الغالبة على مصر في ذلك الوقت، ولم تبرز الفكرة القومية، وخصوصًا القومية العربية إلا بعد ذلك في الخمسينيات من القرن العشرين، وبعد قيام ثورة 23 من يوليو 1952م، ومع هذا تحدث عنها البنا من الوجهة النظرية، وقسَّمها إلى أنواع وألوان؛ منها ما يُقبَل ومنها ما يُرفَض.

قومية المجد:

فأما ما يقبل فهو ما سماه (قومية المجد) أي الدعوة إلى استعادة أمجاد الأسلاف ومفاخرهم، حيث قال-يرحمه الله-:

(إن كان الذين يعتزون بمبدأ القومية يقصدون به أن الأخلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة، وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتز به الابن ويجد لها الحماس والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل؛ نشجعه ونأخذ به، وهل عدتنا في إيقاظ همة الحاضرين إلا أن نحدوَهم بأمجاد الماضين؟!

ولعل الإشارة إلى هذا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، فها أنت ذا ترى أن الإسلام لا يمنع من القومية بهذا المعنى الفاضل النبيل.

قومية الأمة:

وإذا قصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبرِّه وأحقهم بإحسانه وجهاده، فهو حق كذلك، ومن ذا الذي لا يرى أولى الناس بجهوده قومه الذين نشأ فيهم ونما بينهم؟!

لعمري لرهط المرء خير بقيةعليه

وإن عالوا به كل مركب

قومية العمل والبذل:

وإذا قصد بالقومية أننا جميعًا مبتلون مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها حتى نلتقيَ إن شاء الله في ساحة النصر، فنعم التقسيم هذا، ومن لنا بمن يحدو الأمم الشرقية كتائبَ كتائبَ؛ كل في ميدانها، حتى نلتقيَ جميعًا في بحبوحة الحرية والخلاص؟!.

كل هذا وأشباهه في معنى القومية جميل معجب لا يأباه الإسلام وهو مقياسنا بل ينفسح صدرنا له ونحض عليه.

قومية الجاهلية:

وأما القومية المرفوضة عند الإمام المؤسس فهي ما سماه (قومية الجاهلية) التي قال عنها:

(أما أن يراد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت، وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس كما فعلت بعض الدول في المغالاة بتحطيم مظاهر الإسلام والعروبة، حتى الأسماء وحروف الكتاب وألفاظ اللغة وإحياء ما اندرس من عادات جاهلية، فذلك في القومية معنى ذميم وخيم العاقبة وسيئ المغبة؛ يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة يضيع معها تراثه وتنحط بها منزلته، ويفقد أخص مميزاته وأقدس مظاهر شرفه ونبله، ولا يضر ذلك دين الله شيئًا ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: 38).

قومية العدوان:

وكما رفض البنا قومية الجاهلية رفض كذلك قومية الاستعلاء والعدوان على الآخرين، فقال:

(وأما أن يُراد بالقومية الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدي إلى انتقاص الأجناس الأخرى والعدوان عليها والتضحية بها في سبيل عزة أمةٍ وبقائها، كما تنادي بذلك ألمانيا وإيطاليا مثلاً، بل كما تدَّعي كل أمة تنادي بأنها فوق الجميع، فهذا معنى ذميم كذلك ليس من الإنسانية في شيء، ومعناه أن يتناحر الجنس البشري في سبيل وهْمٍ من الأوهام لا حقيقة له ولا خير فيه.

دعامتان لخير الإنسانية

الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني ولا بأشباهها، ولا يقولون فرعونية وعربية وفينيقية وسورية ولا شيئًا من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس، ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الإنسان الكامل، بل أكمل معلم علَّم الإنسان الخير:

"إن الله قد أذهب عنكم نخوةَ الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناس لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، ما أروع هذا وأجمله وأعدله! الناس لآدم، فهم في ذلك أكفاء، والناس يتفاضلون بالأعمال فواجبهم التنافس في الخير.

دعامتان قويمتان لو بُنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السماوات، الناس لآدم؛ فهم إخوان، فعليهم أن يتعاونوا وأن يسالم بعضهم بعضًا، ويرحم بعضهم بعضًا، ويدل بعضهم بعضًا على الخير والتفاضل بالأعمال، فعليهم أن يجتهدوا، كلٌّ من ناحيته حتى ترقى الإنسانية، فهل رأيت سموًا بالإنسانية أعلى من هذا السمو أو تربية أفضل من هذه التربية!!.

الإخوان ودعوى القومية العربية

من علامات الإنسان المسلم الملتزم بإسلامه أن يحب العرب والعروبة، والعروبة المقصودة هنا هي اللسان ... فقد نزل القرآن عربيا، واختير نبي الإسلام عربيا.

يقول رب العزة { وإنه لتنزيل رب العالمين ۞ نزل به الروح الأمين ۞ على قلبك لتكون من المنذرين ۞ بلسان عربي مبين}.

فالعرب هم حملة رسالته الأولون، الذين بلّغوا كلمة الإسلام في وقت كانت فيه البشرية في أمسّ الحاجة إليه، وهم أول من شرفهم الله تعالى بحمل القواطع اللوامع للذب عن هذا الدين الحنيف.

وأرض العرب شهدت مولد النور، ومنها بدأت ملحمة الإسلام، وهي أرض المقدسات.

العروبة قلب الإسلام، وهل يحيا الجسد بلا قلب! ولكن.. هل للقلب معنى بلا جسد يحتويه ويحميه؟

والإسلام هو الذي خلـّد العربية حينما نزل بها كتابه العظيم، وهو الذي علـّم العرب من جهالة، وهداهم من ضلالة، ووحدهم بعد فرقة، وألـّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله إخوانا، وأهـّلهم ليكونوا قادة الدنيا وأساتذة البشر.

يقول الإمام المؤسس – يرحمه الله -:

" لسنا ننكر خواص الأمم ومميزاتها الخلقية، فنحن نعلم أن لكل شعبٍ مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق، ونعلم أن الشعوبَ في هذا تتفاوت وتتفاضل، ونعتقد أن العروبةَ لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر، ولكن ليس معنى هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعةً إلى العدوان بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلةً إلى تحقيق المهمة السابقة التي كلفها كل شعبٍ تلك هي النهوض بالإنسانية، ولعلك لست واجدًا في التاريخ من أدرك هذا المعنى من شعوب الأرض كما أدركته تلك الكتيبة العربية من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ويقول: "والعروبة، أو الجامعة العربية، لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز، وحظها الوافر، فالعرب هم أمة الإسلام وشعبه المخيّر، وبحق ما قاله صلى الله عليه وسلم : {إذا ذل العرب ذل الإسلام}.

ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، وإن كل شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا ومن لباب وطننا".

(رسالة دعوتنا في طور جديد)

ويُضيف الإمام "البنا": "ومِنْ أروَع المعاني في هذه السبيل ما حدَّد به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معنى العروبة؛ إذ فسرها بأنها اللِّسان والإسلام، وبذلك تعلم أن هذه الشعوب الممتدة من خليج فارس إلى طنجة ومراكش على المحيط الأطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة، ويوحد بينها اللسان، ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله..

ويضيف مجدد هذا الزمان الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: "ومن هنا كانت وحدة العرب أمرا لا بد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه.

ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية".

(رسالة المؤتمر الخامس)

وقد اصطلحت على تكوين الوحدة العربية وتدعيمها كل العوامل الروحية واللغوية والجغرافية والتاريخية والمصلحية،وليست تعوز هذه القضية الأدلة والبراهين؛ ولكن يعوزها ثبات المؤمنين وعدالة المنصفين ... كما تقول مذكرة( الجماعة )إلى اللجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة العربية في غرة شوال المبارك 1344 هـ، 18 منسبتمبر1944م .

ويذكر الإمام "البنا" عام1946م أنالإخوانمنذ تأسيسهم رأوا أن الدنيا ستصير إلى التكتل، وأن عصر الوحدات الصغيرة والدويلات المتناثرة قد زال أو أوشك، وأنهم رأوا أنه ليست هناك جامعة أقوى ولا أقرب من الجامعة التي تجمع العربي بالعربي، وأشار في مجلة(الإخوان المسلمون)تحت عنوان "آمالنا فيالجامعة العربية"إلى أن هناك عوامل عدة تؤدي إلى الوحدة الكاملة، على العرب أن يأخذوها في حسبانهم، وتتمثل في: الوحدة الجغرافية :

فالأرض واحدة، تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في اتصال والتحام، لا تقسمها الفواصل الكونية أو التضاريس، مع تميزها بثرواتها الطبيعية واستغنائها بخيراتها.

والوحدة الروحية :

فالمسلمون يقدسونالإسلامعقيدة، وغيرهم يعتزون به شريعة قومية عادلة ونظامًا اجتماعيًّا ترعرع في أوطانهم.

الوحدة اللغوية:

فاللغة واحدة للمسلمين، وغير المسلمين من العرب الذين يحوطونها بمشاعرهم.

الوحدة الفكرية الثقافية والاجتماعية :

تشابه العادات والتقاليد في شعوبهم، وحدة الآمال والآلام التي يمثلها التاريخ المشترك في القديم والحديث، وحدة المصالح العملية المشتركة.

هذه الروابط جميعًا تربط العرب، ومن ثمَّ فإن الوحدة أوالجامعة العربيةهي الطريق الطبيعي لنهضة العرب، وهذا يمثل أحد أهدافالإخوانالذين أيدوا الجامعة العربية ورأوها عدة الحاضر وأمل المستقبل.

وكانت مناصرةالإخوانفي المنطقة العربية للجامعة العربية ممارسة واقعية لانتمائهم العروبي، وعملاً لإحياء الوحدة العربية، إلا أنهم كانوا يرون تخليصها من كل ما يحيط بها من عوامل الضعف والتخلخل ...

فالإمام "البنا" يقول " .. والجامعة العربية في وضعها الصحيح يجعلها جامعة حقيقية تضم كل عربي على وجه الأرض في المشرق والمغرب، وتستطيع أن تقول كلمتها، فيحترم تقويتها وتدعيمها، ومن حقنا أن يعترف الناس بها وأن يقدروها قدرها، وأن يؤمنوا بأنها حين تقوى وتعتز ستكون من أقوى دعائم السلام العالمي".

أمل و شعور

أحب أن تعلم يا أخي أننا لسنا يائسين من أنفسنا وأننا نأمل خيرا كثيرا ونعتقد أنه لا يحول بيننا وبين النجاح إلا هذا اليأس ، فإذا قوي الأمل في نفوسنا فسنصل إلى خير كثير إن شاء الله تعالى، لهذا نحن لسنا يائسين ولا يتطرق إلى قلوبنا والحمد لله.

وكل ما حولنا يبشر بالأمل رغم تشاؤم المتشائمين، إنك إذا دخلت على مريض فوجدته تدرج من كلام إلى صمت ومن حركة إلى سكون شعرت بقرب نهايته وعسر شفائه واستفحال دائه ، فإذا انعكس الأمر وأخذ يتدرج من صمت إلى كلامومن همود إلى حركة شعرت بقرب شفائه وتقدمه في طريق الصحة والعافية.

ولقد أتى على هذه الأمم الشرقية حين من الدهر جمدت فيه حتى ملها الجمود وسكنت حتى أعياها السكون ولكنها الآن تغلي غليانا بيقظة شاملة في كل مناحي الحياة، وتضطرم اضطراما بالمشاعر الحية القوية والأحاسيس العنيفة.

ولولا ثقل القيود من جهة والفوضى في التوجيه من جهة أخرى لكان لهذه اليقظة أروع الآثار، ولن تظل هذه القيود قيودا أبد الدهر فإنما الدهر قلب، وما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، ولن يظل الحائر حائرا فإنما بعد الحيرة هدى وبعد الفوضى استقرار ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .

لهذا لسنا يائسين أبدا، وآيات الله تبارك وتعالى وأحاديث رسوله صلى اله عليه وسلم وسنته تعالى في تربية الأمم وإنهاض الشعوب بعد أن تشرف على الفناء، و ما قصه علينا في كتابه، كل ذلك ينادينا بالأمل الواسع، و يرشدنا إلى طريق النهوض.

والله أكبر ولله الحمد

والله الموفق وهو الهادي إلى سمواء السبيل

ولا تنسونا من صالح دعائكم