الإخوان المسلمون والأقباط

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون والأقباط


مقدمة

مكرم عبيد باشا وشهادته للإخوان

الإخوان المسلمون وعلاقتهم بالأقباط قضية يستخدمها أعداء الوحدة الوطنية ليشيعوا الفرقةَ ويؤججوا نار الفتنة بين نسيج المجتمع المصري، ولتكون ورقة ضغطٍ على الإخوان في التعامل مع بعض القضايا؛ فما إن يحدث شيء حتى تخرج الأقلام لتضرم نار الحقد في نفوس أبناء الوطن الواحد بهدف إشاعة الفوضى، وزرع الحقد والبغضاء في نفوس الإخوة الأقباط، وتخويفهم من الإخوان وما يحمله الإخوان من فهمٍ شاملٍ وعادلٍ للإسلام، وخوَّف هؤلاء على مصالحهم إذا حدثت ألفة ووحدة بين المسلمين والأقباط.


غير أنه إذا نظرنا لم نجد لهذه الإشكالية أي أساس في تاريخ جماعة الإخوان منذ نشأتها حتى وقتنا هذا، وأن الإخوان والأقباط كانت الحياة تسير بينهم رغيدة، بل كان كثير من أعضاء اللجنة السياسية التي كوَّنها الإمام البنا كانت من الأقباط، وليس ذلك فحسب، بل كان مندوبه في انتخابات عام 1945م في لجنة سانت كاترين هو الخواجة خريستو أحد المسيحيين، وهي اللجنة الوحيدة التي سلمت من التزوير وفاز فيها الإمام البنا بنسبة 100%، ناهيك عن التعاون بين الإمام البنا والإخوان من جهة وبين الأقباط في وأد كثير من الفتن الطائفية التي اندلعت، مثل حادث الزقازيق والذي سنتحدث عنه، وحادث الزاوية الحمراء والتي استطاع الأستاذ التلمساني وقت أن كان مرشدًا أن يقضيَ على هذه الفتنة وغيرها من أوجه التعاون التي يشهد عليها التاريخ بين الإخوان والأقباط.


الأقباط في فكر الإمام البنا

قبل أن نتحدث عن علاقة الإخوان عامةً بالأقباط ومدى التعاون بينهم في وأد الفتن الطائفية التي كان ينفخ فيها الاحتلال الأجنبي ليسعِّر النار بين الطرفين، لا بد أن نلقيَ الضوء على مدى اهتمام الإمام البنا بالأقباط في فكره، وطريقة التخاطب بين الطرفين حتى نستشف منها كيف كانت العلاقة تسير بين مؤسس الجماعة والأقباط حتى طبع ذلك على سلوكيات الإخوان نحو إخوانهم الأقباط.

ومن خلال رسائل الإمام البنا إلى بطريرك الكنيسة وأساقفتها وردهم عليها يتضح مدى العلاقة بين الطرفين؛ ففي إحدى الرسائل التي أرسلها الأستاذ حسن البنا المرشد العام إلى الأنبا "يؤنس" بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر.

ولأن المنكوبين الأحباش كانوا في أغلبهم من المسيحيين الأرثوذكس، وكانت الكنيسة الحبشية تابعةً آنذاك للكنيسة المصرية، وكان الأنبا يؤانس بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر، وكان هو الرئيس الأول للجنة مساعدة الأحباش، وحرصًا من الإمام البنا على عدم إثارة حساسية دينية فقد وجَّه رسالةً للغرض نفسه إلى الأنبا يؤنس؛ يخاطب فيها حسه الديني، ويذكِّر فيها أن ضحايا اليهود في فلسطين إنما هم المسلمون والمسيحيون على حد سواء، وأيدي اليهود خربت ديارهم، وعطلت مصالحهم، وقُضي على موارد أرزاقهم، وبيت المقدس هو بيت القصيد من هذا العدوان الصارخ، ويحاول اليهود بعملهم هذا أن يستولوا عليه، وعلى غيره من الأماكن المقدسة التي أجمع المسلمون والمسيحيون على تقديسها وإكبارها والذود عنها.

ثم بيَّن الغرض الأساسي من الرسالة فيقول: "ونحن في مصر- مع الأسف الشديد- لا نملك إلا أن نقدم ما تسخو به الأكف من مالٍ لمساعدة هؤلاء الأبطال الذين ألمَّت بهم الفاقة، حتى إن لجنة التموين والإغاثة بالقدس تصرف يوميًّا مائة وأربعين قنطارًا من الدقيق لإطعام الجائعين، ومن أجل ذلك توجهنا إلى غبطتكم راجين أن تشملوا هؤلاء المجاهدين الأبطال بعطفكم الأبوي، فتأمروا بإمداد أبناء فلسطين ما تبقَّى من أموال لجنة مساعدة الأحباش إلى اللجنة العربية العليا بالقدس، ونعتقد أن حضرات أعضاء اللجنة الكرام يسرهم أن يحققوا هذا الرجاء؛ فيكونوا بذلك قد قاموا بخدمة الجارتين العزيزتين في وقتٍ واحد، في محنة متشابهة، وإن رأيتم فضلاً عن ذلك أن تتكرموا بدعوة المحسنين من المصريين بالتبرع لهذا الغرض النبيل فهو العهد بكم، والمأمول فيكم وكان لكم الشكر مضاعفًا".

وفي رسالةٍ أخرى أرسلها إلى غبطة البطريرك التي جاء فيها:

"حضرة صاحب الغبطة الأنبا يوساب بطريرك الأقباط الأرثوذكس

تحيةً مباركة طيبة، وبعد..

فأكتب إلى غبطتكم وأنا معتكف لمرض ألمَّ بي, أذهلني ما يكتب وما يقال اليوم حول وحدة عنصري الأمة المصرية, تلك الوحدة التي فرضتها الأديان السماوية وقدستها العاطفة الوطنية وخلدتها المصلحة القومية ولن تستطيع أن تمتد إليها يد أو لسان، وكما- يا صاحب الغبطة- أن الإسلام فُرِضَ على المؤمنين به أن يؤمنوا بكل نبي سبق, وبكل كتاب نزل, وبكل شريعة مضت, معلنًا أن بعضها يكمل بعضًا, وأنها جميعًا دين الله وشرعته, وأن من واجب المؤمنين أن يتوحدوا عليها وألا يتفرقوا فيها ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: من الآية 13)، كما أنه دعا المسلمين وحثهم أن يبروا مواطنيهم, وأن يقسطوا إليهم, وأن يكون شعار التعامل بين الجميع التعاون والإحسان ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).

على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختص قبط مصر بوصيته الطيبة, حين قال: "فاستوصوا بقبطها خيرًا؛ فإن لكم عليهم رحمًا", وأشار القرآن في صراحة إلى عاطفة المودة المتبادلة بين أهل الدينين في قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: من الآية 82).

وما جاء الإنجيل إلا لتقرير روح المحبة والسلام والتعاطف بين الناس, حتى إنه ليدعوهم إلى أن يحبوا أعداءهم, ويباركوا لاعنيهم, ويصلوا من أجل الذين يبغضونهم، وبذلك وحده تكون على الأرض المسرة وفي الناس السلام.

هذه الحقائق نؤمن بها ونعمل على أساسها, ويدعو الإخوان المسلمون إليها, وقد بعث مكتب الإرشاد العام إلى شُعَبه, خلال هذا الأسبوع, بنشرةٍ يذكر فيها الواجب المقدس الذي حتم على كل مسلم أن يعمل ما وسعه العمل على تدعيم هذه الوحدة القومية وتوثيق هذه الرابطة الوطنية.

وإني لشديد الأسف لوقوع مثل هذه الحوادث التي لا يمكن مطلقًا أن تقع من الإخوان المسلمين, أو من أي مسلم أو مسيحي متدين عاقل, غيور على دينه ووطنه وقومه، والتي هي- ولا شك- من تدبير ذوي الأغراض السيئة, الذين يحاولون أن يصطادوا في الماء العكر، وأن يسيئوا إلى قضية الوطن في هذه الساعات الحرجة, والظروف الدقيقة من تاريخه.

ومن حسن الحظ أنهم لا يوفقون إلى شيء- ولن يوفقوا بإذن الله- ولم يعد أمر هذه الحوادث الصبيانية التافهة التي نأسف لها جميعًا, والتي أرجو أن نعمل جميعًا متعاونين على عدم تكراراها؛ صيانةً لهذه الوحدة الخالدة بين عنصرَي الأمة وبهذا التعاون المشترك يرد كيد الكائدين, وتعلو كلمة الوطنيين العاملين المخلصين.

وفَّق الله الجميع لخير ما يحب ويرضى, وهو نعم المولى ونعم النصير.

وتفضلوا يا صاحب الغبطة بتقبل تحياتي واحترامي

القاهرة مستشفى الروضة 17 جمادى الأولى 1366هـ، 9 أبريل 1947م"

كما أرسل إلى وكيل المجلس الملي برسالة جاء فيها:

"حضرة صاحب السعادة الدكتور إبراهيم فهمي المنياوي باشا وكيل المجلس الملي

تحية طيبة مباركة، وبعد..

فقد قرأت بـ(أهرام) الأمس- وأنا بالمستشفى- بيانكم القيم ونداءكم الحكيم الذي تهيبون فيه بأبناء الأمة أن يعملوا جاهدين على صيانة وحدتهم الخالدة, وإني لأضم صوتي إلى صوتكم في هذا المقصد الكريم، راجيًا أن يقدر أبناء أمتنا العزيزة ما يحيط بها من ظروف دقيقة في هذه الساعة الحرجة من تاريخها, وأن يحولوا بكل جهودهم دون وقوع أمثال هذه الحوادث الصبيانية التي لا يقرها دين ولا تتفق مع مصلحة أحد، والتي أؤكد لسعادتكم شدة أسفي لوقوعها واعتقادي أنها ليست إلا من تدبير المغرضين الذين يحيكون المكائد لهذا البلد في الظلام؛ يريدون أن يصطادوا في الماء العكر.

وأنتهز هذه الفرصة فأعتب على سعادتكم- العتب محمود عواقبه- في قولكم: "وإنهم مهما اشتدت عليهم وطأة المظالم والاضطهادات فلن يقبلوا أن يحميَهم أو أن يرفع الغبن عنهم إلا ملك مصر ودستور مصر وحكومة مصر"، فإني لا أظن أحدًا من المصريين يدور بخلده أن يكون مواطنه موضع ظلم أو اضطهاد، ولن يكون هؤلاء المواطنون الفضلاء إلا موضع تكريم وإعزاز وبِرٍّ إحسان.

وأعود فأشكر لسعادتكم ما ختمتم به نداءكم المخلص من قولكم "بأنه يجب على المصريين أن يفهموا أن السيادة الأجنبية أو التحكم الدولي عرض سيزول، أما الشيء الذي سيبقى فهو أن أبناء مصر على اختلاف عقائدهم سيحيون ويجاهدون دائمًا جنبًا إلى جنب، ثم يرقدون في النهاية جنبًا إلى جنب في التربة المصرية".

سائلاً الله تبارك وتعالى أن يوفِّق الجميع لخير هذا الوطن العزيز.

ولسعادتكم تحياتي واحترامي

القاهرة- (مستشفى الروضة)

17 جمادى الأولى 1366هـ

19 أبريل 1947م"

ولقد رد غبطة البطريرك على رسالة فضيلة المرشد العام قال فيها:

"حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين..

نهدي فضيلتكم أزكى تحية، وبعد..

فقد تلقينا كتابكم، ومنه علمنا أنكم معتكفون في المستشفى لمرضٍ ألمَّ بكم,

شفاكم الله وأسبغ عليكم ثوب العافية.

ولقد قرأنا الكتاب فصادف ارتياحنا ما جاء فيه عن وحدة عنصرَي الأمة، ولعل من الحق أن يقال أن الأمة عنصر واحد؛ لأن افتراق الدين لا يصح أن يطغى على وحدة الدم واتفاق الصفات الخلقية والاشتراك في العادات والأفكار والمصالح الدنيوية، وقد صدقتم في قولكم: "إن هذه الوحدة فرضتها الأديان وقدستها العاطفة الوطنية وخلدتها المصلحة القومية، وما عقدته يد الله لا تحل من عروته أيدي الناس"؛ فإن ذلك من الحقائق التي يدركها الأقباط حقَّ إدراك ويحرصون عليها ويذودون عن هذه الوحدة بأعز ما يمتلكون؛ لأنهم يذودون بذلك عن شرف وطنهم ومجد أمتهم.

وليس للأقباط من بغية إلا أن يعيشوا مع مواطنيهم على أتم ما يكون من الصفاء والوفاء من جانبهم عملاً بوصايا إنجيلهم وأوامر كتابهم, وإذا كانت لهم أمنية أخرى فهي أن تكون العدالة والمساواة واحترام الحريات الدستورية أساسًا لكل معاملة لتتم السعادة بذلك لجميع أبناء الأمة ويبسط الأمن والسلام رواقهما على البلاد.

أما ما اقتبسوه من الآيات القرآنية والحديث الشريف فمن شأنه حقًّا أن ينير الأذهان ويبث مكارم الأخلاق إذا عمَّت معرفته بين جميع الأوساط, ولا سيما التي تحتاج إلى مزيدٍ من التأدب بهذا الأدب الديني الرفيع وإذا سار على هديه الحكام والمحكومون, وبذلك تتوثق عرى علاقات الإخاء والمودة بين المسلمين والأقباط، وبذلك فقد أحسنتم صنعًا بالنشرة التي قلتم إن مكتب الإرشاد العام بعث بها إلى فروعه، وبيَّن فيها ما على كل أخ مسلم من واجب مقدس في أن يعمل جهد طاقته لدعم هذه الوحدة القومية وتعزيز أواصر الرابطة الوطنية؛ ففي ذلك عنوان على رقي الأمة, ودليلٌ على نضج تربيتها السياسية.

ولا يسعنا إلا أن نتضرَّع إلى المولى جلت قدرته أن يرعى الكنانة بعين عنايته ويجنِّبها مساوئ الخصومات الداخلية الوخيمة العواقب, ويديم على سكان الوادي نعمة المحبة والاتحاد في ظل رعاية المصري الأول جلالة الفاروق الملك العادل أطال الله عمره وأعزَّ به أمته وبوأها مكانًا عاليًا بين الأمم في عهد ملكه المبارك.

واقبلوا سلامنا وأطيب تمنياتنا

بابا بطريرك الكرازة المرقسية

يوساب الثاني"

ولقد تبادل الإخوان والأقباط التهانيَ في الأعياد؛ فقد أرسل فضيلة المرشد العام إلى حبيب المصري باشا رئيس جمعية التوفيق القبطية البرقية التالية: "تلقيت بيد الشكر دعوتكم الكريمة لحضور احتفال النيروز المصري اليوم (الأربعاء)، وكان يسعدني أن أحضر بنفسي لولا أني مريض منذ يومين، وقد أنبت عني الأستاذ عبده قاسم سكرتير عام الإخوان المسلمين.. مع أطيب التمنيات".

فتلقى المرشد العام ردًّا من حبيب المصري جاء فيه: "أشكر فضيلتكم كل الشكر لبرقيتكم الرقيقة وانتدابكم سكرتير الإخوان لحضور حفل الجمعية داعيًا لكم بالصحة الموفورة".

وفي حديثٍ للأستاذ البنا مع مستر سبنسر المراسل الحربي الأمريكي وجَّه إليه المراسل سؤالاً حول وضع الأقليات غير المسلمة في بلد إسلامي، وهل يحاربون أو يلزمون بدفع الجزية، فأوضح له الأستاذ البنا أن نظرة الإسلام لهذا الموضوع نظرة التسامح الكامل والوحدة؛ فقد قال الله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: من الآية 8)، هذا إلى جانب الروح العام في الإسلام لتقديس الأديان جميعًا يجعلنا لا نشعر بوجود مسلمٍ وغير مسلم، بل الجميع يتعاونون على خير الوطن, وأن من يحاول فعل غير ما جاء من الإسلام حول علاقة المسلم بالقبطي؛ فهم ليسوا من الإخوان بأي حال من الأحوال.

ولقد أزاح الأستاذ لويس فانوس النائب القبطي بمجلس الشيوخ حقيقة علاقة الأقباط بالإخوان, وطلب من الحكومة التعاون مع جمعية الإخوان المسلمين؛ إذ إنها الهيئة الوحيدة التي تعمل على تنوير الأذهان وإيقاظ الوعي الشعبي في النفوس ونشر المبادئ السليمة والدين الصحيح والأخلاق الفاضلة.

كان ذلك موقف الأمام البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين من الأقباط، وكيف أنه تعامل معهم على أنهم من نسيج المجتمع، وأنهم والمسلمون يشكلون عنصرَي الأمة.


العلاقة بين الإخوان والأقباط من الناحية العملية

بعد أن تحدثنا عن الأقباط ومنهج تعامل الإمام البنا معهم، ورأينا كيف أن الإمام البنا كان حريصًا على وحدة نسيج المجتمع؛ فكان يتبادل الرسائل بين بطريرك الكنيسة المرقسية ليعزِّز الوحدة الوطنية ويطفئ نار الفتنة الطائفة التي كان يسعى المحتل وأذنابه إلى تأجيجها بين أبناء المجتمع.

نتابع العلاقة بين الإخوان والأقباط من الناحية العملية وليس من ناحية تبادل الرسائل فحسب، ونرى كيف كانت تسير هذه العلاقة بالرغم مما واجهها من ترصد الأعداء بهذه الوحدة.

لقد حاول الاستعمار وأذنابه إشاعة روح الفتنة بين عنصري الأمة، كما حاول إثارة نعرة أن الأقباط مضطهدون، ومحرمون من الوظائف الكبرى، وقد سقط في أيدهم؛ لأن بعض الوزراء كانوا أقباطًا، فلم تكن تشكل وزارة إلا وكان للأقباط نصيب فيها.

لقد نشأت جماعة الإخوان المسلمين في ظروف صعبة؛ حيث وجود المحتل الأجنبي الذي نشر بذور الفُرقة بين أبناء المجتمع وبين كل طوائفه، وكانت الجماعة تهدف إلى توحيد الجهود في وجه المحتل، وساروا على منهجٍ لا يفرِّق بين طوائف الوطن الواحد في المعاملات طالما التزم الجميع بالقيم والمبادئ والأسس العامة التي تحقق الخير العام، وهذا ما تؤكده الخبرة التاريخية؛ حيث عاش الأقباط في ظل الحضارة الإسلامية أزهى فترات تاريخهم.

وقد فهم الأستاذ البنا ذلك جيدًا؛ حيث أشار في مذكراته إلى أنه عندما كان تلميذًا بالمدرسة الابتدائية شارك هو وزملاؤه في حفل تكريم أحد زملائهم وهو لبيب إسكندر شقيق طبيب الصحة، وكانت المبالغ التي صرفت على هذا الحفل من مجموع الغرامات التي وقعت على التلاميذ طبقًا للائحة الداخلية لجمعية الأخلاق الأدبية التي كوَّنها الإمام البنا وزملاؤه بالمدرسة.

لقد تعامل الإخوان مع الأقباط من منطلق عقائدي؛ فقد حث الله المسلمين على حسن معاشرتهم، فقال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: 82)، وهذا هو المفهوم العام والذي يتربَّى عليه الإخوان وهو موجود في مختلف أدبياتهم.

لقد اعتبر الإخوان أن الأقباط لهم كافة حقوق المواطنة؛ حيث إنهم جزء من نسيج الوطن، وطبقًا للقاعدة الشرعية "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" فهم شركاء في هذا الوطن؛ ولذلك جاءت علاقة الإخوان بالأقباط عمومًا علاقة طيبة كباقي فئات المجتمع، ولم يعكرها إلا تدخل بعض المغرضين الذين يكرهون الخير للبلاد، أو متعصبون ضد كل ما هو إسلامي؛ يحكمهم في ذلك الهوى والحقد الشخصي، أو فئة فهمت الإسلام فهمًا خاطئًا.

ومنذ أن نشأ الإخوان حرصوا على حُسن العلاقة مع الأقباط؛ فعندما بدأ الإمام البنا دعوته في مدينة الإسماعيلية كتب بعض المغرضين عريضةً أرسلت إلى وزارة المعارف تتهم الإمام البنا بأنه مدرس متعصب يترأس جمعية متعصبة؛ يفرِّق بين أبناء الديانتين في الفصل الواحد؛ فيتعمد إهانة التلاميذ المسيحيين، وإهمالهم وعدم العناية بهم، ويُؤْثر الطلاب المسلمين، وقد أحدثت هذه العريضة دويًّا في أوساط المسيحيين بالإسماعيلية الذين استنكروا هذه العريضة، وكتب رئيس الطائفة الأرثوذكسية عريضةً استنكر فيها ذلك.

وسرعان ما تكشف زيف هذه الدعاوى والتف الجميع حول دعوة الإخوان، ومع انتشار الدعوة ووضوح طبيعتها للناس بدأ كثير من الأقباط يؤيدونها ويلتفون حولها، بل دفع البعض إلى مطالبة الإخوان بإنشاء "الإخوان المسيحيين"؛ ففي بداية الأربعينيات زار الإمام البنا بني سويف وألقى هناك محاضرةً شرح فيها سماحة دعوة الإسلام، ومكانة المسيحيين عند المسلمين، وأشار إلى ما يكنه الإسلام للمسيحيين من مودة ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ (المائدة: من الآية 82).

ويذكر الدكتور محمود عساف أنه كان يجلس بجواره في هذه المحاضرة قسيسًا ما لبث أن عانق الإمام البنا بعد المحاضرة، وبعدها حضر لزيارة المركز العام عددٌ من قادة المسيحيين؛ منهم توفيق دوس باشا، ولويس فانوس، ومريت بطرس غالي، وطلبوا من الإمام البنا أن ينشئ شعبة باسم "الإخوان المسيحيين" لكي يسهموا مع الإخوان في نشر الإيمان بالله والحث على الفضائل.

كما كان بعض المسيحيين يدفعون اشتراكات ثابتة لشُعب الإخوان تعبيرًا عن تأييدهم لكل ما ينادون به؛ فقد ذكر الأستاذ عبد المتعال الجبري أنه في أوائل الأربعينيات زار شُعبة الإخوان في شرشيمة بمركز ههيا بالشرقية، وقد استرعى انتباهه أن من بين الاشتراكات اشتراكًا قيمته خمسون جنيهًا، وكان صاحب هذا الاشتراك ناظر محطة السكة الحديد المسيحي؛ فبعد زيارته لمعرفة سبب دفع اشتراكه للإخوان أوضح الناظر المسيحي أنه عندما قدم إلى هذه البلدة كان لا يستطيع أن ينتقل بين المحطة التي تبعد مسافة عن القرية إلى قريته بعد الغروب بسبب قطّاع الطرق، فلما جاء الإخوان المسلمون لهذه البلدة شكلوا لجان المصالحات فانقطعت تهديدات قطّاع الطرق، ودوى الهتاف بذكر الله بدلاً من قصف البنادق، فكان هذا الاشتراك أقل ما يجب لتقدير هذه الجماعة.

لقد أدرك الإخوان أن تطرُّف بعض الأقباط في مهاجمة الفكر الإسلامي لا يعبِّر عن رأي مجموع الأقباط في مصر، كما كان يخشى عودة الفتنة الطائفية التي لا يستفيد منها سوى الاحتلال؛ ولذلك عندما نشر القمص سرجيوس مقالاً أساء فيه إلى الإسلام هاجمت صحيفة (الإخوان) شخصه دون مجاراته في الطعن على المسيحية، وعلى هذا فقد كان بعض الأقباط من منطلق ثقافتهم وتوجههم السياسي والفكري يهاجمون الإخوان ويخلطون بين الاختلاف السياسي والديني، وكان ذلك واضحًا مع سلامة موسى في جريدة (مصر) التي كانت لا تفوت فرصة دون أن تهاجم الإخوان، بل وتستعدي عليهم الحكومات والقصر.

يقول الإمام البنا تحت عنوان "أمة موحدة في الجهاد": "وسيرى أولئك الشاكُّون أننا ننهض بهذا العبء جميعًا أمة واحدة متراصة الصفوف موحدة الجهود، وها هي ذي بشائر هذه الوحدة تتجلَّى في هذا الاجتماع الذي يحضره الآباء الكرام ممثلو غبطة البطريرك ومواطنينا الأعزة الأقباط.

وإني لأبعث إليهم من هذا المنبر تحية التقدير والإكبار لهذه المشاركة المباركة التي أعادت إلى نفوسنا أجمل الذكريات، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ على هذا الوطن وحدته ويضاعف قوته حتى يصل إلى حقه كاملاً بإذن الله".

ولقد أرسل الإخوان إلى بطريرك الأقباط برسالة جاء فيها:

"تحية طيبة مباركة، وبعد..

نتقدم إلى غبطتكم بأجمل عواطف التهنئة بانتخابكم لهذا الكرسي الجليل، كما نهنئ كذلك أبناءكم جميعًا سائلين الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع للخير.

يا صاحب الغبطة..

تعلمون أن دين الإسلام الحنيف قد مدَّ أسباب الأُلفة وبسط رواق التعاون لمحالفته من أبناء الأديان السماوية الأخرى، وفرض على المؤمنين به أن يؤمنوا بكل كتابٍ نزل، وأن يعظِّموا كل نبي أو رسول سبق، وأن يذكروا بالثناء الجميل الصالحين والقديسين من كل أمة ماضية، وأوامر القرآن الكريم في ذلك صريحة لا لبس فيها ولا غموض: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 136).

وجاءت الحركة الوطنية الأخيرة فدعمت هذه الوحدة بين عنصرَي الأمة؛ لما فيه خير الوطن على أثبت الدعائم، وماتت تلك النغمة التفريقية البغيضة إلى حيث لا رجعة بإذن الله، وصارت وحدة هذه الأمة مضرب الأمثال.

ولكنا فوجئنا في الأيام الأخيرة، وفي هذا الظرف الدقيق الذي يطالب فيه هذا الوطن بحريته بحملة عنيفة لا معنى لها، فاندفعت جريدة (مصر) تثير بقلم الأستاذ سلامة موسى أفكارًا وآراءً ما كان لأحد أن يتحدث فيها أو يثيرها في هذه الأيام ولا في غير هذه الأيام وأخذت تتهم الإخوان المسلمين باتهامات قاسية هم منها براء، كما أخذت تهاجم بعض الأوضاع الإسلامية في غير تبصُّرٍ ولا تقديرٍ للأمور، كما سمعنا أن بعض الأساتذة من المحامين الأقباط يجهز كراسات ليجمع عليها توقيعات الطائفة لتأييد مطالب خاصة تذكر الناس بأيام المؤتمر وما كان فيها من فتن وانقسامات.

ولهذا يا صاحب الغبطة انتهزت فرصة هذه المناسبة الطيبة لأؤكد لغبطتكم ولحضرات المواطنين الكرام أن دعوة الإخوان المسلمين وهيئتهم لا تنطوي على أي شيء يشتم منه من قريب أو بعيد كراهية الأقباط أو التعصب ضدهم أو المساس بشئونهم الدينية أو الدنيوية، ولكنها فكرة إسلامية لإصلاح المجتمع الإسلامي على قواعد الدين الذي اعتقده وآمن به.

كما أرجو أن تتفضلوا فتأمروا مشكورين بإيقاف هؤلاء العابثين بوحدة الأمة عند حدهم بما ترون من إجراءات، ولغبطتكم عظيم احترام وتقدير، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام".


الإكتتاب في دار الإخوان

المركز العام بالحلمية

وقد ظهر مدى التعاون بين الطرفين عندما أعلن الإخوان عن فتح باب الاكتتاب لشراء دار جديدة للإخوان في الحلمية الجديدة؛ مما دفع بعض الأقباط إلى المشاركة في هذا الاكتتاب تقديرًا للوحدة بين عنصري الأمة؛ فقد تبرع الخواجة "فرنكو" التاجر بـ10 جنيهات، وهناك من تبرع بـ5 جنيهات، مثل جرجس بك صالح، وآخر بـ20 جنيهًا مثل مريت بطرس غالي، وكان هناك من تبرَّع بـ500 مليم مثل أرمنيوس جرجس، ومن تبرَّع بـ200 مليم مثل جبريل مرسال ومريس فاغ وشاكر حزقيال، وبـ100 مليم مثل جاب الله كريمة، وولسن يونس واسطاس بك حتى وصل الحرص على التبرع من تبرع بـ50 مليمًا مثل توفيق جرجس، وفي ذلك أوضح الأثر على العلاقة الطبيعية بين الإخوان والأقباط، والذين يتعاملون فيها على أساس المواطنة وحسن الجوار.

وقد شكر الإخوان لهم ذلك في تقريرهم بهذه المناسبة، مقدِّرين لهم هذه العاطفة الطيبة، معجبين بهذا التعاون الكريم.

وقد حرص المرشد العام الأستاذ حسن البنا كعادته إذا نزل بمكان على أن يزور كل الفئات، سواءٌ أكانوا أعيانًا أم شيوخًا أم نصارى أم كبراء، فضلاً عن عامة الناس، وهذا ما فعله بقنا؛ فقد اتصل بالنصارى، وأوضح لهم أن هذا الوطن هو ملكنا جميعًا؛ فيجب أن ننهض به، وأن الأخلاق الحسنة والفضائل الإنسانية هي شعار التعامل بيننا، وقد دعا القساوسة والرهبان إلى كثير من ندواته ولقاءاته، فاستطاع أن يحوز ثقة الكثير من الأقباط.

إلا أن ذلك لم يُرْضِ بعض أصحاب القلوب المريضة والأغراض الدنيئة؛ فتقدموا بالعديد من العرائض والمذكرات الكيدية للجهات الأمنية بأن هذا الرجل يريد أن يثير الفتنة الطائفية ويشق وحدة البلاد، وكادت هذه الوشايات تصل إلى القاهرة، لولا أن غالب هذه العرائض كانت مجهولة الأسماء.

وعندما زار الأستاذ البنا منطقة أبي قرقاص لافتتاح دار الإخوان المسلمين بها، وقد اجتمع بكبار الأعيان في حفل غداء كبير كان فيه جمع من الأقباط والمسلمين، وكانت فرصة طيبة؛ إذ توسط للصلح بين عائلتين كبيرتين.

وعندما زار الإمام البنا غزة وبعد أن أدى فريضة صلاة المغرب جماعة رحّبَ بمن ذخرت بهم دار الإخوان من كرام المدعوين من الأقباط والمسلمين، وخيرة أبناء الدعوة من الدعاة الهداة والمجاهدين المقاتلين الذين قاموا بمهمة الجوالة في تنظيم الحفل والاستقبال.

وكان في مقدمة هؤلاء سيادة سُليمان الرشماوي خوري رئيس طائفة الروم الأرثوذكس، والسيد رشدي الشوا بك رئيس البلدية، والسيد عبد الرءوف الخبال عميد حزب الكتلة الوطنية، والسيد موسى الصوراني بك رئيس اللجنة القومية بها مع وفد من كبار رجالاتها، والسيد وصفي عبد المجيد مراقب السلوك والخدمات الاجتماعية، والسيد عبد الكريم الشوا.

ولقد كان الإخوان يقيمون الأنشطة المتعددة للطلبة في المركز العام؛ ففي الحفلة التي أقامها طلبه الإخوان بمعهد المعلمين بالزيتون بمناسبة انتهاء العام الدراسي، دُعي إليه عميد المعهد والأساتذة وبعثه الوفد السوداني بالمعهد، وتحدث الأخ أحمد إدريس نيابةً عن وفد السودان، كما تحدث لويس متَّى نيابة عن الأقباط، وتحدث الأستاذ عبد الحميد إبراهيم نيابةً عن الأساتذة، ثم وقف الأستاذ أحمد السكري وتكلم نيابةً عن فضيلة المرشد العام، واختتم الحفل بكلمة الأستاذ فريد عبد الخالق رئيس قسم الطلاب.

كان ذلك نموذجًا عمليًّا للرد على الافتراءات التي تطارد الإخوان بأنهم لن يعطوا الأقباط حقهم، وأن الأقباط سيعانون الأمرَّين مع الإخوان.


المراجع

1- سلسلة: من تراث الإمام البنا، الكتاب الثالث عشر، الدعوة والحكومات والهيئات، البصائر للبحوث والدراسات، 2006م.

2- طارق البشري: المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية.

3- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.

4- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية.


للمزيد عن الإخوان والأقباط

كتب متعلقة

مقالات وأبحاث متعلقة

أحداث في صور

أخبار متعلقة

وصلات خارجية

مقالات متعلقة

تابع مقالات خارجية

وصلات فيديو

.