الأسطورة التي جسدتها الدماء
توطئة
12-04-2004
دبابات العالم.. أحدث تقنيات الحرب.. متاريس.. حواجز.. أجهزة للرصد.. أخرى للتنُّصت.. خنازير العالم يتابعون.. يرصدون.. يخافون.. يرتعدون.. من شيخ قعيد لا يتحرك منه سوى لسانه المرتبط بقلب واعٍ حيٍّ فيَّاض!
عاشَ زهرةَ شبابه وريعان عمره على كرسيِّه لا يتحرك؛ لكنه استطاع أن يحوِّل عجز بدنه إلى قوة دافعة، تُحرِّك الملايين على طول الكرة الأرضية وعرضها.. إنه "أحمد ياسين".. أسطورة.. لو روت قصته أحدُ الأفلام لقيل إن مخرجه تجاوَز حدودَ الواقع إلى الأسطورة؛ لكن عوامل عديدة حوَّلت الأسطورة إلى واقعٍ هناك في الأرض السليبة أرض فلسطين.
اليتيم
ولد "أحمد إسماعيل ياسين" في قرية تاريخية عريقة تسمى (جورة عسقلان) في يونيو 1936م، وهو العام الذي شهد أول ثورة مسلحة ضد النفوذ الصهيوني المتزايد داخل الأراضي الفلسطينية، وقد مات والده وعمره لم يتجاوز خمس سنوات.
عاصر "أحمد ياسين" الهزيمة العربية الكبرى المسمَّاة بالنكبة عام 1948م، وكان يبلغ من العمر آنذاك 12عامًا، وخرج منها بدرس أثَّر في حياته الفكرية والسياسية فيما بعد، مؤدَّاه أن الاعتماد على سواعد الفلسطينيين أنفسهم- بعد الله- عن طريق تسليح الشعب أجدى من الاعتماد على الغير؛ سواء كان هذا الغير الدول العربية المجاورة أو المجتمع الدولي.
ويتحدث الشيخ "ياسين" عن تلك الحقبة فيقول: "لقد نزعت الجيوش العربية التي جاءت تحارب إسرائيل (الكيان الصهيوني) السلاحَ من أيدينا؛ بحجة أنه لا ينبغي وجود قوة أخرى غير قوة الجيوش، فارتبط مصيرُنا بها، ولما هُزِمت هُزِمنا، وراحت العصابات الصهيونية ترتكب المجازر والمذابح لترويع الآمنين، ولو كانت أسلحتُنا بأيدينا لتغيرت مجريات الأحداث".
الرجل الصغير
التحق "[[أحمد ياسين]" بمدرسة (الجورة) الابتدائية، وواصل الدراسة بها حتى الصف الخامس؛ لكن النكبة التي ألمَّت بفلسطين، وشرَّدت أهلها عام 1948م، لم تستثنِ هذا الطفل الصغير، فقد أجبرته على الهجرة بصحبة أهله إلى غزَّة، وهناك تغيَّرت الأحوال، وعانت الأسرة- شأنها شأن معظم المهاجرين آنذاك- مرارة الفقر والجوع والحرمان.. فترَك الدراسة لمدة عام (1949-1950م) ليُعين أسرته المكوَّنة من سبعة أفراد عن طريق العمل في أحد مطاعم الفول في غزَّة، ثم عاود الدراسة مرةً أخرى.
ابتلاءات
في السادسة عشرة من عمره تعرَّض "أحمد ياسين" لحادثةٍ خطيرةٍ أثَّرت في حياته كلِّها منذ ذلك الوقت وحتى استشهاده، فقد أصيب بكسر في فقرات العنق أثناء لعبه مع بعض أقرانه عام 1952م، وبعد 45 يومًا من وضع رقبته داخل جبيرة من الجبس اتَّضح بعدها أنه سيعيش بقية عمره رهين الشلل،، الذي أُصيب به في تلك الفترة، كما أُصيب بأمراض عديدة، منها: فقدان البصر في العين اليمنى أثناء التحقيق معه على يد المخابرات الصهيونية فترة سجنه، وضعفٌ شديدٌ في قدرة إبصار العين اليسرى، والتهاب مزمن بالأذن، وحساسية في الرئتين، وبعض الأمراض والالتهابات المعوية الأخرى.
مع الإخوان
وقد تربى الشيخ على فكر مدرسة جماعة الإخوان المسلمون)، التي تأسست في مصر على يد الإمام "حسن البنا" عام 1928م، والتي تدعو إلى فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، والشمول في تطبيقه في شتَّى مناحي الحياة.
أنهى "أحمد ياسين" دراسته الثانوية في العام الدراسي 195857/م، ونجح في الحصول على فرصة عمل رغم الاعتراض عليه في البداية؛ بسبب حالته الصحيَّة، وكان معظم دخله من مهنة التدريس يذهب لمساعدة أسرته.
من أجل مصر
شارك "أحمد ياسين"- وهو في العشرين من العمر- في المظاهرات التي اندلعت في غزة؛ احتجاجًا على العدوان الثلاثي الذي استهدف مصر عام 1956م، وظهرت قدراته الخطابية والتنظيمية ملموسة؛ حيث نشط مع رفاقه في الدعوة إلى رفض الإشراف الدولي على غزة، مؤكدًا ضرورة عودة الإدارة المصرية إلى هذا الإقليم.
كانت مواهب "أحمد ياسين" الخطابية قد بدأت تظهر بقوة، ومعها بدأ نجمه يلمع وسط دعاة غزة؛ الأمر الذي لفت إليه أنظار المخابرات المصرية العاملة هناك، فقررت عام 1965م اعتقاله ضمن حملة الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسية المصرية، والتي استهدفت كل من سبق اعتقاله من جماعة (الإخوان المسلمين) عام 1954م، وظل حبيس الزِّنزانة الانفرادية قرابةَ شهرٍ، ثم أفرج عنه بعد أن أثبتت التحقيقات عدم وجود علاقة تنظيمية بينه وبين الإخوان، وقد تركت فترة الاعتقال في نفسه آثارًا مهمةً، لخصها بقوله: "إنها عمَّقت في نفسه كراهيةَ الظلم، وأكَّدت (فترة الاعتقال) أن شرعية أي سلطة تقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية".
المحاكمة
بعد هزيمة 1967م- التي احتل فيها اليهود كلَّ الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة- استمر الشيخ "أحمد ياسين" في إلهاب مشاعر المصلِّين من فوق منبر مسجد (العباسي)، الذي كان يخطب فيه لمقاومة المحتل، وفي الوقت نفسه نشط في جمع التبرعات، ومعاونة أسر الشهداء والمعتقَلين، ثم أسَّس بعد ذلك المجمع الإسلامي في غزَّة.
أزعج النشاط الدعوي للشيخ "أحمد ياسين" السلطات الصهيونية، فأمرت باعتقاله عام 1982م، ووجَّهت إليه تهمة تشكيل تنظيم عسكري وحيازة أسلحة، وأصدرت عليه حكمًا بالسجن 13 عامًا؛ لكنها عادت وأطلقت سراحه عام 1985م في إطار عملية لتبادل الأسرى بين سلطات الاحتلال اليهودي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
حماس
اتفق الشيخ "أحمد ياسين" عام 1987م مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي في قطاع غزة على تكوين تنظيم إسلامي لمحاربة الاحتلال اليهودي؛ بغية تحرير فلسطين.. أطلقوا عليه اسم حركة المقاومة الإسلامية، المعروفة اختصارًا باسم (حماس)، وكان لها دور مهم في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي اندلعت آنذاك، والتي اشتهرت بانتفاضة المساجد، ومنذ ذلك الوقت والشيخ "ياسين" يُعتبر الزَّعيم الروحي لتلك الحركة.
ومع تصاعُد أعمال الانتفاضة بدأت السلطات اليهودية التفكير في وسيلةٍ لإيقاف نشاط الشيخ "أحمد ياسين"، فقامت في أغسطس 1988م بمداهمة منزله وتفتيشه، وهددته بالنفي إلى لبنان، ولما ازدادت عمليات قتل الجنود الصهاينة، واغتيال العملاء الفلسطينيين، قام الاحتلال اليهودي في مايو 1989م باعتقاله مع المئات من أعضاء حركة حماس)، وفي 16 أكتوبر1991م أصدرت إحدى المحاكم العسكرية حكمًا بسجنه مدى الحياة، إضافةً إلى 15 عامًا أخرى، وجاء في لائحة الاتهام أن هذه التُّهَم؛ بسبب التحريض على اختطاف وقتل جنود اليهود، وتأسيس (حماس) وجهازيها العسكري والأمني.
حاولت مجموعة استشهادية تابعة لكتائب (عز الدين القسام)- الجناح العسكري لـ(حماس)- الإفراج عن الشيخ "ياسين" وبعض المعتقلين المسنِّين الآخَرين، فقامت بخطف جندي يهودي قرب القدس يوم 13 ديسمبر 1992م، وعرضت على اليهود مبادلته نظير الإفراج عن هؤلاء المعتقَلين؛ لكن السلطات اليهودية رفَضَت العرض، وقامت بشنِّ هجومٍ على مكان احتجاز الجندي؛ وهو ما أدى إلى مصرعه ومصرع قائد الوحدة اليهودية المهاجمة ومقتل قائد مجموعة الفدائيين.
الحرية الجزئية
وفي عملية تبادل أخرى في الأول من أكتوبر 1997م جرت بين المملكة الأردنية الهاشمية واليهود في أعقاب المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لـ(حماس) "خالد مشعل" في العاصمة عمان، وإلقاء السلطات الأمنية الأردنية القبض على اثنين من عملاء الموساد، سلَّمَتهما لليهود مقابل إطلاق سراح الشيخ "أحمد ياسين".
أفرج عن الشيخ، وعادت إليه حريتُه منذ ذلك التاريخ؛ وبسبب اختلاف سياسة (حماس) عن السلطة، كثيرًا ما كانت تلجأ السلطة للضغط على (حماس)، وفي هذا السياق فرضت السلطة الفلسطينية أكثر من مرة على الشيخ "أحمد ياسين" الإقامة الجبرية، مع إقرارها بأهميته للمقاومة الفلسطينية وللحياة السياسية الفلسطينية.
الخلود
تعرض الشيخ "أحمد ياسين" في 6 سبتمبر 2003م لمحاولة اغتيال يهودية، حين استهدفت مروحيات شقةً في غزة كان يوجد بها الشيخ، وكان يرافقه "إسماعيل هنية"، فأصيب بجروح طفيفة في ذراعه الأيمن.
استشهد الشيخ "أحمد ياسين" فجر الإثنين (غرة صفر 1425هـ= 22 من مارس 2004م) بعد أن تعرض للقصف من طائرات حربية يهودية، وذكرت الأنباء أن ثلاث مقاتلات يهودية قصفت كرسي الشيخ "أحمد ياسين" وهو عائد من صلاة الفجر، وقد استشهد على الفور.
"أحمدُ الياسين" إن ودَّعتنا
- فلقد تركتَ الصدق والإيمانا
أنا إنْ بكيتُ فإنما أبكي على
- مليارنا لمَّا غدوا قُطْعانا
أبكي على هذا الشَّتاتِ لأُمتي
- أبكي الخلافَ المُرَّ، والأضغانا
أبكي ولي أملٌ كبيرٌ أن أرى
- في أمتي مَنْ يكسر الأوثانا
يا فارسَ الكرسيِّ وجهُكَ لم يكنْ
- إلاَّ ربيعًا بالهدى مُزدانا
في شعر لحيتك الكريمة صورةٌ
- للفجر حين يبشِّر الأكوانا
ستظلُّ نجمًا في سماءِ جهادنا
- يا مُقْعـَدًا جعل العدوَّ جبانا
من قاموس الأسطورة
• أنا كرست حياتي للعمل وليس للكتابة، وحياتي كلها كانت تطبيقًا لما أقرأ وما أتعلم، أنقل ما تعلمت إلى واقع الحياة، فإن تعلمت آية أو حديثًا قمت وعلمته للناس.
• النصر دائمًا يا أخي مع الصبر، هكذا قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).
• ومع ذلك نحن سائرون على الدرب، نحن طلاب شهادة، طلاب جنة عرضها السموات والأرض.
• النصر قادم والتحرير قادم.. المهم أن نجعل مع دعائنا شيئًا من العمل لدعم شعب فلسطين ومعركة شعب فلسطين؛ لنصل إلى يوم النصر والتحرير- إن شاء الله.
• المؤمنون يستمدون زادهم من ربهم أولاً، ومن دينهم ثانيًا، ومن دعم أهلهم وإخوانهم ثالثًا، وينتظرون النصر.
دروس وعبر نتعلمها من قصته
إن جهاد الشيخ مليء بالدروس والعبر، ويمكن أن نوجزها فيما يلي:
الدرس الأول
طبيعة اليهود القائمة على الغدر والخيانة، فهم جبناء لا يستطيعون المواجهة؛ ولكنهم من يطعنون في الخلف، وعلى حين غرة، فهي طبيعتهم المتأصلة التي لا تتغير مع تغير الأزمان والأماكن والأحوال، فهم قتلة الأنبياء وخونة العهود والمواثيق، وصدق الله إذ يقول: ﴿أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 100).
الدرس الثاني
الشيخ أعطى أعظم الدروس لكل القاعدين وليس المقعدين.. "أحمد ياسين" تتجلى فيه همة الرجل، رغم أنه مقعد مشلول، له كل عذر أن يسكت وينعزل، ويهرب من مواجهة الظلم والبغي؛ ولكن كانت له إرادة كالجبال، إرادة فقدها أولئك الذين يمكنهم أن يتحلوا بكل السمات والمزايا؛ أصحاء، أغنياء، آمنين، مترفين؛ ولكن نقصتهم همة الرجال".
الدرس الثالث
أصل التفوق والنجاح الإيمان الذي في القلب، والتوكل على الله، وعدم الخوف من غيره، والاعتقاد أنه سبحانه مدبر الكون.. الشيخ لم يكن طالب دنيا، ولو أراد لأتته الدنيا بين يديه، فقد عرضت على الحركة وعليه المغريات أو التهديدات باستمرار؛ لكن الشيخ البطل كان يعيش لهدف وغاية لا يدركها عباد الدنيا وصرعى الشهوات، وصدق الله إذ يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص: 83).
الدرس الرابع
الشيخ عرف سر النصر والعزة الحقيقية، وطريقها عنده واضح؛ ولذلك ثبت عليه، فحقق مكاسب ضخمة؛ ألا وهي طريق الجهاد، ولم يبغ عنه بديلاً، فالجهاد- كما أخبر النبي- "ماضٍ إلى يوم القيامة"، وإنه "لا تزال طائفة من أمة محمد على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة".
فيا أمة محمد، إن أردتِ النصر فربي أبناءك صغارًا وكبارًا على الجهاد، وعلى معاني الجهاد، فهو طريق العزة والنصر.
المصدر
- الأسطورة التي جسدتها الدماءإخوان أون لاين