تجربتي مع الإخوان من الدعوة إلى التنظيم السري

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٩:٥٤، ١٩ نوفمبر ٢٠١٢ بواسطة Ahmed s (نقاش | مساهمات)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الفصل الأول:من تاريخ التصحيح الداخلي في جماعتنا

حتى لا يتصورالقارئ العزيز أن ما أقوم به من محاولة لتصحيح مسار الجماعة الإخوانية بدعة جديدة، فقد رأيت أن يكون الفصل الأول من الكتاب تأريخا لمحاولات التصحيح السابقة، وليكون الكل على بينة من أمره، أمينا على مستقبله فيما بقي من العمر ويوم لقاء ربه، فقد اخترت لبيان هذا التاريخ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاث نماذج تمثل ثلاث مراحل من حياة جماعتنا،

الأربعينيات وتمثلها محاولة الأستاذ أحمد السكري، والثانية في التسعينيات معبرا عنها في دراسة متكاملة تمت بلجنة إخوانية لرفع واقع الجماعة وسبيل النهوض بها، والثالثة اليوم في عصر شبكة المعلومات وثورة الاتصالات وتمثلها مدونة أحد الإخوان من خلال مقالة منشورة بها، وسأترك القارئ ليحكم بنفسه على الأطراف جميعها، فإلى هذه النماذج الثلاث من محاولات التصحيح:

المحاولة الأولى:صفحة مطوية وناصح مظلوم

أهمية هذه الصفحة تكمن في شدة الشبه بين ظروف الدعوة اليوم والظروف التي مرت بها وقت كتابة هذه الرسالة وأقصد بها رسالة الأستاذ: أحمد السكري وكيل جماعة الإخوان (الرجل الثاني في الجماعة) إلى الأستاذ: حسن البنا المرشد العام (الرجل الأول في الجماعة)، ومن يطالع كتاب البنا (مذكرات الدعوة والداعية ص: 33) سوف يدهش من قوة عاطفة البنا وحبه لأخيه الأكبر أحمد السكري؛

لدرجة أنه يقول فيه نصا:

(كنت أمضي الأسبوع في دمنهور، وأعود ظهر الخميس إلى المحمودية حيث أمضي ليلة الجمعة وليلة السبت، ثم أعود صباح السبت إلى المدرسة فأدرك الدرس الأول في موعده، وكانت لي في المحمودية مآرب كثيرة تقضى في هذه الفترة، غير زيارة الأهل وقضاء الوقت معهم، فقد كانت الصداقة بيني وبين الأخ أحمد أفندي السكري قد توثقت أواصرها إلى درجة أن أحدنا ما كان يصبر أن يغيب عن الآخر طول هذه الفترة أسبوعا كاملا دون لقاء)

ويدهش المرء من تحول هذا الحب إلى البغضاء والقطيعة بين هذين الأخين.

من هو أحمد السكري؟

نقلا عن الأستاذ عباس السيسي من إخوان الإسكندرية المشاهير الثقات والمعايشين للرجلين يقول:

(ونحن على هذه الحال من الفقر والضعف والفاقة ... إذا بالأستاذ أحمد السكري وكيل الإخوان المسلمين العام ينقل من مدينة المحمودية سكرتيرا لمدرسة رشيد الابتدائية ... وزارنا في الجمعية وتعجب لحالنا ... وطلب منا أن نبحث عن دار للجمعية أوسع من هذه وأن نشتري لها أثاثا مناسبا ... فلما شرحنا له ظروفنا المالية وأن هذا ليس في طاقتنا قال لنا إنه سوف يقوم بالدعوة إلى الجمعية لزيادة الأعضاء وزيادة المالية.
وذهب الأستاذ السكري يخطب في المساجد ويشرح أهداف دعوة الإخوان المسلمين وخاصة في خطب الجمعة، ولقد كان الأستاذ أحمد السكري خطيبا مفوها ومؤثرا يأخذ الألباب ومجامع القلوب يحرك العواطف والمشاعر وله حنجرة صافية.
ولم تمض أسابيع حتى تقدم كثير من الناس للانضمام إلى الجمعية واستأجرنا دارا أخرى أوسع وأرحب في منزل الجارم تزيد على الخمس حجرات ويقع أمامها فناء وأما الفناء ميدان فسيح واشترينا بعض الكراسي ومكتبا ومنضدة للخطابة ... واشترينا قطعة من الجوخ الأخضر طرزنا عيها (الإخوان المسلمون شعبة رشيد) وتحتها يقع هلال وفي وسطه مصحف وهذا هو شعار الإخوان المسلمين في هذا الوقت.

وكان الأمير عمر باشا طوسون في زيارة لمدينة رشيد وذهب ليصلي الجمعة في مسجد (أبو مندور) وهو مكان سياحي مشهور في رشيد وكان الأستاذ السكري هو خطيب الجمعية وبعد الصلاة تقابل مع الأمير الذي تبرع لجمعية الإخوان بمجموعة من الكتب التاريخية عن مصر والسودان وكانت هذه الكتب هي باكورة عمل مكتبة في الجمعية.

الأستاذ السكري والمرشد الأول

يقول الأستاذ عباس السيسي:

فوجئنا ذات يوم بإعلان في صدر عدد من مجلة الإخوان المسلمون الأسبوعية بتكوين لجنة للتحقيق مع الأستاذ أحمد السكري الوكيل العام ل[[جماعة الإخوان المسلمين

والأساتذة:

كمال عبد النبي وحسين عبد الرازق والأستاذ أمين مرعي رئيس الإخوان بالإسكندرية، وفزع الإخوان في كل مكان لهذا النبأ الذي يتوقعون أن يؤدي إلى فتنة شديدة قاسية بين صفوف الإخوان لما ينتهزه أعداء الدعوة من فرصة للانقضاض على الجماعة والثأر منها.

لاحظ: مصطلحات (فوجئنا) و (فزع الإخوان في كل مكان) لتدرك أن مشكلة تغييب الإخوان عما يجري في جماعتهم وصدور قرارات علوية من هيئات معينة يعتبر مشكلة قديمة وأليمة في وقت واحد. المؤلف.

قرارات الهيئة التأسيسية

عقدت الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين اجتماعها العادي الدوري الثالث يوم الخميس 14 من المحرم 1367 الموافق 27 نوفمبر 1947 وأقرت عدة قرارات منها القرار رقم (5) بالموافقة التامة على قرار المرشد العام وبإعفاء الإخوان محمد عبد السميع الغنيمي أفندي وسالم غيب أفندي وأحمد السكري أفندي من عضوية الجماعة بناء على تفويض الهيئة السابقة لفضيلته ولما تعرفه الهيئة من تصرفات الأستاذ أحمد السكري قبل الإعفاء وبعده فإنها تقرر بالإجماع اعتباره ناقضا للعهد حانثا لليمين على الجماعة محاربة للدعوة وكذلك كل من اتصل به أو ناصره.

وكذلك القرار رقم (6) بقبول الاستقالتين المقدمتين من الأستاذين أمين إسماعيل أفندي ومحمود عساف أفندي من عضوية الهيئة مع شكرهما على جهودهما السابقة في خدمة الدعوة.

(لاحظ عزيزي القارئ غلظة الصفات التي استعملها حملة المباخر وحيودها عن الحقيقة لمجرد أن الأستاذ السكري كان لا يعلق في شعبة المحمودية علامات، ولا يضع بها أعلام ولا شعارات، وكان يرى أن هذا يعكر صفو الدعوة ويقلل من ربانيتها، وكان يرى أن حزب الوفد في هذا الوقت أقرب الأحزاب إلى الإخوان من حيث المطالب الوطنية ولم يكن يلزم غيره بشيء من ذلك؛

كما أن المرشد كان في منزلة الأخ الصغير بالنسبة له ولاحظ أن أحمد السكري يعتبر مؤسس لجمعية الإخوان وشريكا أصيلا في بعثها للحياة، كما لاحظ أن ما يسمى بالهيئة التأسيسية جاءت بعد عشر سنين من انتشار الدعوة وكانت كلها من تعيين الأستاذ البنا واختياره الشخصي بعدما ترك المحمودية وترك الإسماعيلية واستقر بالعاصمة؛

وكان الأستاذ السكري يعتبر من أفضل مقدمي الدعوة لطبقة المثقفين والساسة والوجهاء إلى جانب العامة والفقراء وهو ما يتضح بجلاء من وصف الأستاذ عباس السيسي لمجهوداته في الإسكندرية؛

فأين العهد الذي نقضه وأين الحنث الذي جاء بالقرار المضحك وشر البلية ما يضحك، وكيف وصفوه بأنه محارب للدين مرة واحدة، إنهم يقولون بالفم المليان إن الدين هو حسن البنا وكل من يختلف معه يكون محاربا للدين، وهو نفس القول الذي تقوله الحكومات الديكتاتورية عندما تنتقد الرئيس فيقولون إنك تحارب الوطن، وتبقى مشكلة الجماعة في الوشايات التي تهدف إلى التقرب من المسئول على حساب تشويه سمعة الآخرين ووصفهم بما سبق من الكلام الحرام الذي لا يقره عاقل أو عالم) المؤلف.

خطاب الأستاذ أحمد السكري

وقد وجه الأستاذ أحمد السكري خطابا مطولا إلى الأستاذ المرشد إلى صحيفتي "صوت الأمة" و "الكتلة" ويعتبر حسب علمي أول محاولة للتصحيح الداخلي على هذا الوزن وهذا المستوى الراقي، ويعتبر بذلك الأستاذ أحمد السكري من السباقين بالخير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر وبأحسن الأساليب المتاحة في هذا الوقت؛

وعندما يتناول هذا الموضوع مؤرخ منصف سوف يذكر التاريخ قيمة أحمد السكري لا سيما أن الوقائع التاريخية التالية للرسالة أثبتت أن كل ما نصح بإصلاحه كانت ثغرات في صفنا وانحرافات في مسيرتنا ولو أخذنا بنصيحته لتجنبنا الكثير من العقبات التي تراكمت في طريقنا وأودت بحياة مرشدنا وحل جماعتنا وتقويض مسيرتنا خلال عام ونصف فقط من تاريخ هذا الخطاب التاريخي.

وفيما يلي رسالة الناصح الأمين الأستاذ أحمد السكري:

بسم الله الرحمن الرحيم
أخي المحترم الأستاذ حسن البنا
السلام عليك ورحمة الله وبعد،

فقد تسلمت خطابيك الموقعين معا، أحدهما ما أسميته "خطابا رسميا" تفصلني فيه من جماعة الإخوان المسلمين، مستندا في هذا الإجراء كما تقول إلى تفويض الهيئة التأسيسية لك أن تقصي من تشاء، وتفصل من تشاء بغير حساب، والثاني خطابك المطول الذي حددت فيه الأسباب التي دعتك إلى فصلي ثم طلبت فيه أن أستقيل أنا بيدي من الدعوة التي نشأت فيها ولها، وإلا فلا مفر من قبول خطابك الرسمي الذي تقطع به صلتي بهذه الدعوة وبإخواني الأعزاء الأبرار.

تنكير

ولا أكتمك الحق يا أخي ما كنت لأتصور يوما من الأيام أن يبلغ بك الأمر، فيطاوعك قلبك وضميرك وتطاوعك هذه العاطفة التي دامت بيننا سبعة وعشرين عاما كنت المثل الأعلى لوفاء المحبين وإخلاص المؤمنين، وتنسى كل ذلك في طرفة عين وكأنك تريد أن يشهد الناس مأساة أليمة لأمثالنا ونحن دعاة الإخاء والحق.
وزاولت عملك "بالإسماعيلية" وأنشأت بها شعبة أخرى، وفتح الله لك القلوب وتعددت فروع الجماعة فآثرك على نفسه وبايعك على الرياسة وطلب إلى الناس أن يبايعوك حتى ارتفع شأنك، وأينع هذا النمو الذي رويناه بدمائنا وأرواحنا وما علم الناس وما علمت من أخيك إلا ما يرفع شأن الدعوة وشأنك وظل وما زال حتى يلقى الله طاهر القلب عف اليد؛
فهو بالله مستعين به جل علاه، وله سبحانه الفضل والمنة والشكل الجزيل، فلما أقبلت الدنيا عليك كان لك الناصح الأمين والمشير الصادق ينبهك إلى مواطن الخير لتسلكها وإلى مواطن الشر لتجتنبها، فإذا ما سرت على الهدى سار معك بكل جهده وقوته وإذا ما استبد بك الهوى نصح وألح في النصيحة راجيا أن يهديك الله إلى الحق وأن يعود القائد إلى صوابه فيعود التوفيق إلى مكانه.
أفيكون له منك يا أخي جزاء سنمار، بدل أن تنتهج الخطى مثلي فتكن من المصطفين الأخيار؟

أسباب الفصل:

لقد حددت في خطابك المطول الأسباب التي دعتك إلى فصلي، وهي كما تقول ثلاثة:
أولها: أننا اختلفنا في أسلوب التفكير وتقدير الظروف والإخلاص والأحوال.
ثانيها: أننا اختلفنا في وسائل العمل.
ثالثها: أننا اختلفنا في الشعور نحو الأشخاص.
هذه هي الأسباب الثلاثة التي دعتك إلى أن تختار هذا الظروف بالذات لتفجر هذه القنبلة، وتقطع ما أمر الله به أن يوصل ولعل الناس حين يطلع عليهم هذا النبأ ولعل الإخوان حين يفجعون بهذا الخبر، لا يدرك أكثرهم السر في اختيارك هذا الظرف بالذات لهذا الإجراء الشاذ الأليم.
وإني لأحمد الله على أن هذه الأسباب التي دعتك إلى فصلي فلم تستطع ولن تستطيع أن تنسب إلي ما يخدش أمانتي لدعوتي، أو يمس شرفي أو كرامتي التي أحيا بها وأعيش.
وإنه ليعز علي ويؤسفني كل الأسف أن أضطر إلى الرد عليك بعد أن فشلت جهود وسطاء الخير بيننا من خيرة الرجال وكرام الإخوان حتى مساء الأمس، بسبب تمسكك بموقفك ورفضك اتباع الخطة المثلى التي تصلح ذات بيننا وتحقق للدعوة أهدافها الكريمة وتصونها من عبث العابثين ثم تماديك في ألسنة السوء في الأقاليم لتشويه سمعتي والحط من كرامتي زورا وبهتانا مما لا يسعني إزاءه إلا أن أوضح الحقيقة في كثير من الإيجاز والاختصار، ليكون الناس والإخوان على بينة من الأمر إبراء لذمتي وإعذارا لله ولهم بعد أن عجزت عن تقويم ما اعوج وإصلاح ما فسد.

ضرورة التحكيم:

ولقد كنت أفهم يا أخي لو لم تسيطر عليك العناصر المغرضة وتضغط على يدك لتقطع يمينك بنفسك أن يفضي هذا الخلاف في الرأي إلى أن نحتكم إلى إخواننا في الله، أصحاب هذه الدعوة والمضحين في سبيلها في كل قطر ومكان، ليقضوا بيننا بروح الإسلام ومنهاج القرآن وإنا لحكهم خاضعون، ولعمري هذا ما أوصى به الإسلام وفرضه القرآن:
(فإذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)، (وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين). (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) إلخ ما ورد في كتاب الله حثا على التحكيم والإصلاح وترهيبا من الفرقة والشقاق؛
كما كنا نبين للإخوان الكرام سبيلا لاستنارة بأسباب الخلاف فلا يتعدى محيطهم على الرأي العام، وكنا لا نحرمهم من ثواب الله، إذا وفقوا لإصلاح ذات بيننا وإن أحببت كذلك فإلى ذوي الرأي من أفاضل رجال العروبة والإسلام ليكون الجميع علينا شهودا.

استبداد

أما إنك تستبد وحدك بالأمر، وتنتزع ممن حضر من إخوان الهيئة التأسيسية يوم 9 يوليو الماضي رغم معارضة ذوي الرأي منهم تفويضا بإقصاء من تشاء وفصل من تشاء هربا من التحكيم وفرارا من مواجهة الموقف، ودون تمكين من تتهمه أو يتهمك من إبداء رأيه والدفاع عن نفسه فإن هذه ديكتاتورية يأباها الإسلام وتأباها الشرائع والقوانين وتتنافى مع المنطق والخلق؛
وإن قلت إن مبايعة الإخوان لك تقتضيك التصرف الفردي في شئون الدعوة وشئونهم فإن الحق يرد عليك في ذلك بأن البيعة هي في حدود ما أنزل الله وما رضي عنه، لا في تحكيم الهوى والخروج على المبادئ ومسايرة أهل الدنيا على حساب الدعوة وأبنائها المخلصين.
وأمامك سيدك ومولاك صلى الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه في الأمر (وأمرهم شورى بينهم) وكان يرجع أحيانا إلى رأي صحابته وأنصاره حتى في أخص شئونه، ومسألة "الحباب" في غزوة بدر وحادثة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وغيرها كل ذلك سجله التاريخ في صفحات الرسول المشرقة الوضاءة، وهكذا كان قادة الإسلام وأصحابه، ما استبد أحدهم بأمر ولا حكم هواه في شأن والحق أبلج، والإسلام واضح المعالم لا يقف مع الهوى ولا يخضع لشهوات النفوس واستبداد الآراء.

عهد وعهد:

يا أخي لقد سارت سفينتنا طوال هذه المدة وسط الأنواء والأعاصير ولكن باسم الله مجراها ومرساها وكانت تمخر عباب محيط الحياة الخضم وتشق طريقها غير مبالية برياحه الهوج، ولا متلكئة عند شطآنه الملتوية وضفافه العوج حتى بهرت الأنظار وأخذت بمجامع القلوب والأفكار كيف لا والله كان غايتها والرسول ربانها والقرآن دستورها والجهاد سبيلها والموت في سبيل الله أسمى أمانيها.
كانت كذلك فما بالها اليوم أصبحت تتعثر في كل واد وتكاد جذوتها تستحيل إلى رماد وأخذت ترتطم بالصخور ويكاد يفقد قادتها الهدى والرشاد والنور؟ بل ما بال هذه الجرذان والحشرات قد قفزت على قاع السفينة تفسد الغذاء الصافي وتلوث البلسم الشافي وتنهش جدرانها، فتكاد تغرق في اليم السحيق؟ ومن هنا يا أخي نشب الخلاف بيني وبينك.

أسباب الخلاف الحقيقية:

تقدمت إليك بالدواء أرجو به الإنقاذ والشفاء فأخذتك العزة وأشحت بوجهك، وقربت إليك أهل الفساد ورميت بالدعوة في أحضان السياسة والسياسيين، وضحيت بأهل الرأي والإخلاص والسداد.
نعم رأيت الصف قد اعوج وحدثت أمور داخلية وأخرى خارجية لم يرض ضميري إلا أن أقف منها موقف الناصح الأمين الحريص على دعوته والحارس لرسالته، وازنت بين أمرين أحلاهما مر، إما أن أعلن غضبي وأتنحى كما فعل بعض الإخوة الأعزاء وتزداد الحال سوءا والفساد باطلا وإما أن أصبر وألح في النصيحة عسى أن يستقيم الأمر؛
ففضلت الثاني وآثرت الانتظار على أمل غلبة الحق وإصلاح الحال وإذا بك يا أخي لا تبالي بصيحات الأحرار، بل عملت على إقصائهم الواحد تلو الآخر، ولم تبال كذلك بما نسب من المسائل الخلقية إلى بعض من صدرتهم للقيادة والإرشاد بعد أن ثبت ما ثبت واعترفت أنت بما وقع، وماذا كان عيك ونحن دعاة الفضيلة والأخلاق، لو أصغيت إلى قول الرسول: "والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" فتضرب بذلك المثل الأعلى في الانتصار للحق (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).

تدهور وانزلاق:

ولم تكن هذه المسائل الخلقية وحدها بيت الداء، بل وجدت الدسائس والفتن الداخلية والدعايات الباطلة ضد الأحرار وارتباك النظم وفساد الإدارة مرتعا خصبا داخل صفوفنا فإذا ما أضفنا إليها أمرين رئيسيين استطعنا أن ندرك شر ما وصلنا إليه من تدهور واضطراب لا يخفيه هذا الطبل الأجوف والدعايات الفارغة التي تمتلئ بها الجريدة كل يوم.

مساومة واستسلام:

وعدت من الحجاز فوجدتني محموما وزرتني بالمستشفى وتحدثت إلي أننا على مفترق الطريق بين الوفد والحكومة وعرضت المقترحات والعروض التي لا محل لذكرها الآن، وعرفت موقفي وإصراري على التمسك بكياننا، وحذرتك بخطابي المؤرخ في 15 ديسمبر سنة 1946 من الانزلاق في السياسة وإغراء أهلها، وأهبت بك أن نظل هكذا أغنياء بأنفسنا أعزاء بإخواننا وهذا سر قوتنا.
وشاعت الشائعات حول اتصالاتك بفئة معينة من رجال السياسة ومساومتهم لك على إخراجي من الدعوة ليصفوا لهم الجو، واعترافك إلي بذلك في المستشفى، وفي يوم 4 يناير 1947 حين زرتني بمنزلي وطلبت إلي التنحي عن الجريدة، وعن وكالة الإخوان، وعن نشاطي في الدعوة وقلت بالحرف الواحد إن هذا بناء على طلب هذه الفئة من رجال السياسة والذين أحتفظ بذكر أسمائهم الآن، ولما عاتبتك بشدة على سماحك لهؤلاء أن يتدخلوا في شئوننا أصررت وقلت إنك توافقهم على ذلك.
ثم سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، فكونت اللجنة السياسية المعروفة ووقفت في سبيلك أمنعك من هذا التصرف المشين، ثم اكتشافي عن طريق الصدفة لاتصالك ببعض الشخصيات الأجنبية والمصرية وهالني ما حدثني عنه أحدهم يوم 7 فبراير سنة 1947.

تنفيذ المؤامرة:

وبدأت بتنفيذ المؤامرة ففاجأتنا بقرار إيقافي مع زميلي الكريمين، وكان كل اتهامك لي أمام الهيئة هو وقوفي في سبيلك مما أسميته "تمردا على القيادة" ووقفت آنذاك موقفا كريما فلم أشأ أن أكشف الستار عما وراء الكواليس حرصا على الدعوة وأملا في الإصلاح.

أما هذان الأمران فهما:

  1. دخول بعض العناصر الانتهازية المأجورة في صفوفنا بإيعاز من رجال السياسة وتدخل سادتهم في شئوننا، وتضحيتك بأغلى رجال الدعوة في سبيل رضاهم.
  2. الإغراق في السياسة الحزبية تبعا لذلك إغراقا تاما وتقلبك في هذه السياسة وتناسي أهدافنا السامية مما جعلنا موضع مساومة للجميع.
ولا أظنني في حاجة إلى أن أذكرك ولو على سبيل الإيجاز بما وصلت إليه أسهم الإخوان من الانحطاط عقب تولي صدقي باشا الحكم، بسبب تغلب هذه العناصر النفعية عليك في مسايرته، وما كان من سخط الناس علينا واشتباكنا بعد ذلك مع الوفديين في بورسعيد وغيرها؛
ثم طلبك إلي بإلحاح أن أسافر إلى الإسكندرية للتفاهم مع الوفديين وذهابك بنفسك مع أحد الإخوان إلى منزل أحد أقطابهم ليلا تعرض عليه التعاون معهم لكف حملاتهم، ثم تغلب العناصر النفعية عليك ثانية لنقض هذا التفاهم وإذكاء نار الفتنة والحرب الأولية بيننا وبين الوفد إرضاء للحكومة القائمة.

محاولة الإنقاذ:

وتفاقم الخطب وازدادت الحال سوءا نتيجة لهذا التقلب والتذبذب، فضلا عما حدث من الفتن الداخلية المنوه عنها فتقدمت إليك أنا والإخوان الكريمان الدكتور إبراهيم حسن وحسين بك عبد الرازق بمذكرة للإنقاذ نرجوا فيها تدعيم القيادة بالمخلصين؛
ووضع سياسة ثابتة للدعوة تحقق أهدافها العليا، وتطهر الصفوف من المفسدين فوعدت بالتنفيذ بعد أن تعود من الحجاز، واضطرب الحال في مصر بعد سفرك نتيجة لمشروع (صدقي – بيفن) المشئوم مما اضطرني إلى قيادة الحركة الوطنية مع الإخوان الأمجاد البواسل وعادت أسهم الإخوان إلى الارتفاع والتقدير.
وضربت ضربتك الثانية فأخرجتني من الجريدة التي لا يعلم الناس أن سر تدهورها هو سيطرتك عليها، وشل نشاطي فيها بعد شهر ونصف من صدورها كما هو ثابت عندي من الأدلة والمستندات، ووقفت أنا أيضا موقفا كريما من ذلك.
وبعد ذلك يا أخي أسفرت وكشفت القناع متماديا بالدعوة في الانزلاق السياسي مع الغفلة التامة عن أهدافنا ومبادئنا مما جعلنا مضغة في الأفواه، وجعل الجميع يتحدثون عن أننا صرنا سلعة تباع وتشترى لا تنفع إلا للدعاية والتهريج.
وها أنت تضرب ضربتك الأخيرة تحت ضغط هذه الفئة من رجال السياسة ولو كانت الضربة منك لقبلتها ولكنها بيد عمرو لا بيدك، فتبعدني عن الدعوة، وأنت أولى بالإبعاد وتفصل ابنها الأول وأنت أولى بأن تخلع عنك رداءها إن كنت من المنصفين.

إعذار .. بل إنذار:

يا أخي إني أدعوك بدعوة الإسلام وأذكرك بما كتبته إليك مرارا وتكرارا آلي أن تعود إلى مبادئ هذه الدعوة وتخلع عنك رداء السياسة الحزبية، وتجاهد معنا في سبيل المثل العليا التي عاهدنا الله عليها، وإما أن تتخلى ليحمل اللواء (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
وإلا فإني مضطر لأن أكشف اللثام وأظهر ما خفي واستتر وأحمل مع إخواني الأطهار لواء الدعوة الخفاق، نرفعه ونعزه ونقاتل دونه (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) وحسبك أنت دنياك ومن يحوطك من أهلها وإن شعرت أن بيدك سيف المعز وذهبه، فإني معي ربي سيهدين، ومعي بعد ذلك كرام الإخوة المؤمنين (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
أما خطابيك فقد ضربت بهما عرض الحائط، وهما باطلان شكلا وموضوعا وقد أثبتهما على أساس هار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

بعد عام واحد فقط لا غير من خطاب النصح:

جاء في نشرة الحادية عشر مساء أمر عسكري بحل جماعة الإخوان المسلمين (8 – 12 – 1948)، وعلى أثر ذلك وقبل إذاعة هذا القرار كان البوليس قد حاصر جميع شعب الإخوان واستولى على جميع ممتلكاتهم في أنحاء القطر المصري؛
وفي نفس الوقت تم القبض على مئات من الإخوان حتى تجاوز عدد المقبوض عليهم الخمسين ألفا واعتقلوا في معتقل الطور ومعتقل هايكستب في ألماظة بالقاهرة وفي معتقل العامرية بالإسكندرية ومعتقل أبي قير الذي سماه الإخوان معتقل باكستان، هذا بخلاف سجن مصر قره ميدان وجميع أقسام البوليس في القطر المصري.

نص بيان قرار حل الإخوان المسلمين

أصدر عبد الرحمن عمار وزير الداخلية الساعة الحادية عشر مساء في اليوم الثامن من ديسمبر 1948 بيان حل جماعة الإخوان من الإذاعة المصرية، ثم نشرته جميع الصحف، كما أذاعته جميع محطات الإذاعة العالمية.

أولا: أوضحت تحقيقات الجناية العسكرية العليا رقم 853 سنة 1947 قسم الجمرك بالإسكندرية حقيقة أغراض هذه الجماعة وأنها تهدف إلى قلب النظم السياسية للهيئة الاجتماعية متخذة في ذلك طرقا إرهابية بواسطة فريق من أعضائها دربوا تدريبا عسكريا وأطلق عليهم "فريق الجوالة".ثم ذكر البيان اثني عشر واقعة جنائية مما هو معروف في مثل هذه البيانات ....

لاحظ

  1. أن أسباب الحل الاثني عشر في قرار الحل كانت جميعها متعلقة بالنشاط السياسي والعسكري وليس الدعوي ولا الأخلاقي ولا الخدمي وهو ما حذر منه الأستاذ أحمد السكري.
  2. دقة البيان الحكومي وهو يذكر أن المخالفات كانت (بواسطة فريق من أعضائها) وهو يقصد التنظيم السري وليس كل الإخوان.

مقتل النقراشي باشا رئيس الحكومة ووزير الداخلية:

عاشت مصر كلها تتوقع رد فعل حل جماعة الإخوان، وعاش الناس في كل لحظة يترقبون حدثا هائلا حتى كان صباح الثامن والعشرين من ديسمبر 1948 حين توجه محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الحكومة ووزير الداخلية من منزله إلى مبنى وزارة الداخلية؛
ودخل الوزير إلى بهو المبنى واقترب من المصعد وفتح له كي يدخله وهناك وأمام هذا المصعد كان يقف شاب يرتدي ملابس ضابط بوليس فحياه الضابط تحية عسكرية ثم أسرع فأخرج مسدسه وصوبه إلى صدر رئيس الحكومة فأرداه قتيلا في الحال، وهجم الحرس الخاص بعد ذلك على الضابط القاتل حيث تمكنوا من القبض عليه؛
وعرف بعد ذلك أن المتهم شاب في الثانية والعشرين من عمره واسمه (عبد المجيد أحمد حسن) الطالب بكلية الطب البيطري بالقاهرة، وقد اعترف بالجريمة، وأذيع الخبر من جميع محطات الإذاعة العالمية وتناوله الناس بسرعة البرق وخرجت صحف المساء تصف الحادث وتتهم جماعة الإخوان بتدبيره قبل أن يتم أي تحقيق، وامتلأت جميع الشوارع برجال البوليس السري والعلني وشددت الحراسات على جميع السفارات والشركات والكباري وغيرها.

استشهاد الإمام حسن البنا المرشد العام:

بعد أن قتل محمود فهمي النقراشي باشا وسار شباب الحزب السعدي من خلف النعش في الجنازة الرسمية يهتف الثأر ... الثأر، لم يعد هناك شك في أن مؤامرة يتم ترتيبها لاغتيال الأستاذ الشهيد حسن البنا أخذا بالثأر وتمت عملية الاغتيال في 12/ 2/ 1949؛
ولم يشيع جثمان الأستاذ الشهيد حسن البنا سوى المصفحات والمدافع الرشاشة ووالده ونساء بيته رحمة الله عليه فقد دعي الأستاذ البنا لأكثر من لقاء لمفاوضة الحكومة في جمعية الشبان المسلمين وهناك كانت الحكومة قد نصبت كمين الاغتيال المكون من بعض الضباط والجنود الذين أطلقوا الرصاص على الإمام الشهيد حسن البنا وهو خارج من جمعية الشبان المسلمين.
وبالمناسبة لا يهمني كثيرا ما قاله المعارضون للأستاذ أحمد السكري، ولا يهمني ما قاله مناصروه ولكن تهمني رسالته من حيث موضوعيتها، وحرصه على تقديم النصيحة مكتوبة وفي أحسن لغة أدبية وإسلامية، ويهمني أن أثبت ورودها في تاريخنا الداخلي وكيفية التعامل مع الناصحين لنا من إخواننا، وكيف نرد عليهم وكيف نتعامل معهم؛
كما يهمني أن أثبت أنه بعد عام وربع فقط من هذه الرسالة، تحقق كل ما حذر منه الأستاذ أحمد السكري وعاث الجهاز الخاص فسادا في الأرض وراح يهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وفلت الزمام وطاشت السهام حتى أودت بحياة المرشد العام وأصبحت جماعتنا ملطخة بدماء المصريين وهي اللعنة التي تلاحقنا حتى اليوم، فهل من معتبر؟!

المحاولة الإصلاحية الثانية

نص الدراسة التي أعدتها لجنة إخوانية جامعة لرفع واقع الجماعة وبيان سبل النهوض بها، والتي سلمت إلى الأستاذ مصطفي مشهور بوصفه المرشد العام للجماعة في هذا التاريخ أغسطس 1999.

فكرتها: بعد ستة أشهر من خروجي من المعتقل السياسي في أكتوبر 1998، وقد تبين لي أن الأمور في الجماعة قد تغيرت كثيرا عما تركناها عليه في أكتوبر 1995.

ونظرا لأن التقارير التي كانت تكتب عني من قبل (محمد الصروي)، (محمود عزت) وتصل إلى (مصطفي مشهور) قد وضعتني في جانب المعارضين للسياسات المعمول بها من قبل السريين الجدد، وبالإضافة إلى اعتراضاتي السابقة على العمل من وراء ظهر الأستاذين عمر التلمساني ومحمد حامد أبو النصر؛

لم تسند إلي أية أعمال بالجماعة طيلة الستة أشهر تلك، فتطوعت بنفسي وتقدمت إلى فضيلة المرشد العام المرحوم مصطفي مشهور أن أستغل خبراتي في العمل ومعلوماتي حول الواقع والإخوان وأقدم له دراسة حول تحسين دور الجماعة وأن يكون ذلك بمساعدة لجنة أشكلها ممن أثق في قدراتهم فقبل المقترح وعرض الأمر على مكتب الإرشاد فوافقوا على المبدأ ولكنهم رفضوا أن أقوم بتشكيل لجنتي بنفسي وقالوا: (نحن نشكل اللجنة ويكون أحد أعضائها) فقبلت ذلك وشكلت اللجنة من قبل مكتب الإرشاد على النحو التالي:

  1. أ د. محمد علي بشر (عضو مكتب الإرشاد ورئيس اللجنة).
  2. أ د. السيد عبد الستار المليجي (صاحب الاقتراح وعضو باللجنة).
  3. أ د. شريف أبو المجد (عضو باللجنة).
  4. أ د. محمود حسين (عضو باللجنة).
  5. أ د. أسامة نصر (عضو باللجنة).
  6. م. محمد أبو الناس (عضو باللجنة).
  7. د. [[أنور شحاتة]] (عضو باللجنة).
  8. د. حلمي الجزار (عضو باللجنة).
  9. 15 أحتفظ بأسمائهم لأسباب.

أنجزت اللجنة عملها خلال شهرين من الاجتماعات ثم تفرغت لصياغة التقرير في غضون شهر كامل توخيا ليكون في الصورة اللائقة من حيث الشكل والمضمون وبما يلين قلوب أعضاء مكتب الإرشاد عليه وتقدمنا بالدراسة المرفقة في الربع الثاني من عام 1999 للأستاذ مصطفي مشهور ... وقد علمت أنه حولها إلى الأستاذ مأمون الهضيبي بوصفه رئيس اللجنة السياسية في هذا الوقت ...

وانتهى الأمر بالإهمال التام للدراسة ولم يكلف نفسه حتى بالاجتماع باللجنة أو استيضاح ما لم يكن واضحا له مما يدل على رفضه للمشروع برمته وهو المشروع الذي كتب بواسطة لجنة شكلها مكتب الإرشاد بنفسه.

وفي تلك الأيام شعرت أن مكتب الإرشاد ليس لديه الرغبة في الاستفادة من جهود الإخوان من خارجه وأنه يرى في نفسه الكفاية والقدرة على عمل كل شيء، وقررت يومها مغادرة مصر إلى بلد آخر عسى أن أجد فيها صحبة إخوانية جديدة فأستفيد منها وتستفيد مني، وبالفعل في 15/ 8/ 2000 غادرت الوطن مضطرا وحزينا إلى جامعة بوردو بالولايات المتحدة حيث حصلت من جامعة قناة السويس على منحة دراسية لدراسة الهندسة الوراثية والبيولوجيا الجزيئية؛

وهناك في إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية وبجوار الجامعة عثرت على مركز إسلامي أسس حديثا وكان كل شيء فيه جديد، فعشت مع رواده أياما إيمانية هادئة وتعاونت مع إدارته في بدء مدرسة لأطفال المسلمين، وإنجاح دراسة مستقرة مسائية للكبار يومي السبت والثلاثاء؛

وقدمت محاضرات منتظمة في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وسجلتها كاسيت وفيديو لصالح جامعة إسلامية خاصة، وقدر الله أن أرتبط ويرتبط بي كل رواد المركز وتنشأ بيني وبينهم رابطة حب في الله عوضني كثيرا عن مشاعر الإحباط التي لاقيتها مع مكتب الإرشاد في هذا الوقت، ثم تطورت علاقتي بإدارة المركز أكثر فأكثر على مر السنين، ومنذ عام فقط تقدم رئيس المركز الإسلامي وخطب ابنتي لابنه وتم الزواج بفضل من الله ونعمة.

وإلى حضراتكم أول رسالة مكتوبة إلى مكتب الإرشاد كنت صاحب فكرتها وشاركت في إخراجها وصياغتها ويا ليت مكتب الإرشاد التفت إليها وعمل بما جاء فيه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ... وبعد،،،

فالمشاركون في هذه الدراسة قد استعرضوا في جلسات مطولة الأوضاع في مصر خاصة والأمة العربية والإسلامية عامة واستنتجوا من هذا الاستعراض أن مصر كلها كغيرها تمر بمرحلة حرجة من تاريخها تحاول فيه القوى العالمية أن تهيمن وتسيطر على مقدراته من خلال مشروع يهدف إلى إضعاف مصر داخليا وخارجيا لتكن أداة طيعة في أيدي القوى العالمية ولحرمانها من دورها القيادي في الدائرة العربية والإسلامية.

  • وتدارس المشاركون في هذه الدراسة تاريخ الحركة الإسلامية في مصر وعلاقتها بالحكومات المتعاقبة من العشرينات وحتى الآن، واستنتجوا أن توتر العلاقة بين تلك الحكومات والحركة الإسلامية أيا كانت أسبابه يعد من المعوقات البارزة في طريق استكمال الوطن المصري لمظاهر قوته التي تمكنه من مجابهة كافة التحديات الخارجية والداخلية.
  • والمشاركون في هذه الدراسة يدركون أن دعوة الإخوان المسلمين منذ نشأتها وحتى الآن قد تميزت بكونها الدعوة الإسلامية المعاصرة التي جددت الإسلام وأحيت الجهاد السياسي منادية بأن الإسلام دين ودولة وكان لها السبق في اعتبار هذا نصا دستوريا في معظم البلدان العربية وخاصة مصر، وكان لها في كل عصر جهادها السياسي واجتهادها المعتبر في هذا الشأن، وعى ذلك فالإخوان لن يلتفتوا إلى الدعوات المنادية بنبذ السياسة تجنبا للأخطار وطلبا للراحة، بل الأولى أن تبقى على مسيرتها مسترشدة بكتاب الله وسنة رسوله شريطة أن تعمل دائما على تحسين أدائها السياسي بما يحقق أهدافها الإصلاحية الخيرة في كافة المجالات.
  • كما استعرض المشاركون في هذه الدراسة موقف الإخوان المسلمين في بلدان أخرى كالأردن واليمن والجزائر واستنتجوا أن العمل السياسي في هذه البلدان قد نما نموا واضحا واكتسب خبرات معتبرة وأرض متسعة، وكان ذلك متوازيا مع نمو القدرات الدعوية والتربوية التي تمثل القاسم المشترك لكافة الإخوان في جميع أنحاء العالم بالإضافة إلى تحسين العلاقة مع أنظمة الحكم وزيادة الانفتاح على المجتمع.
  • وآمن المشاركون في هذه الدراسة أن الإخوان المسلمين في مصر بما لهم من تاريخ ناصع وحاضر قوي قادرون بإذن الله أن يكون لهم دور سياسي إيجابي وفعال ومؤثر في إطار من الود والسماحة وحسن الصلة بالآخرين الذي تميزت به دعوتهم على مر السنين ونطقت به كافة وثائقهم المنشورة والتي عبرت دائما عن توجهنا السلمي وحرصنا على المصلحة العليا للوطن المصري باعتباره أرضا إسلامية وباعتبار أهله أمة مسلمة قد أوجب الله على كل مسلم أن يسهر على حمايتها ويعمل على رقيها ونهضتها لتبقى دائما في صدارة الأمم آمنة مطمئنة، عزيزة قوية.


  • وفي جو من الحرص والكامل على مصلحة الأمة المصرية والحب العميق لها، تشارك فريق من الإخوان المسلمين لتقديم هذه الدراسة لتكون بمثابة مشروع سياسي للمرحلة الراهنة يحقق للإخوان المسلمين الاستمرار والفاعلية في المجال السياسي، ويعظم من استفادة الوطن بما تمتلكه جماعتنا من قوى بشرية وقدرات إصلاحية وتصورات ورؤى تخدم قضية الإصلاح وتدعم مسيرته الوطنية.
  • وقد ركز المشاركون في هذه الدراسة على ما تمتلكه جماعتنا من إمكانيات بالدرجة الأولى ومع ذلك لم يفوتهم أن يتوجهوا إلى كل المخلصين في مصر من الشعب والحكومة أن يمدوا لهم يد العون ويشاركونهم هذه المهمة الإصلاحية، أو على الأقل يميط كل أذى يعترض طريقهم ليتمكنوا بعون الله ومساندة المخلصين من إنجاز ما يأملونه من الخير لأهلهم وذويهم.
  • وعلى ذلك فقد جاءت الدراسة مشتملة على الموضوعات الآتية:
  1. تحديد الهدف العام للمرحلة.
  2. توضيح لحقيقة التحدي الذي تواجهه الامة والإخوان جزء منها.
  3. توصيف الواقع السياسي الحالي لكل من الإخوان ونظام الحكم وطبيعة العلاقات بينهما.
  4. توصيف حالة النجاح التي يأملون الحصول عليها مرحليا.
  5. دراسة متسعة لكل حالة من حالات النجاح تشمل العوامل المؤثرة وخياراتنا التي تحقق هذا النجاح.
  6. إبراز القواعد الحاكمة للسير في هذه المهمة.
  7. مجالات العمل السياسي الرئيسية.
  • والمشاركون في هذه الدراسة كلهم أمل أن يولي لها الاهتمام المناسب باعتبار أن توتر العلاقة بين الإخوان والحكومة لها الأثر السلبي الواضح في مدى نجاحنا في كافة مشروعاتنا الإصلاحية الأخرى في المجال الدعوي والتربوي والمحلي والعالمي، ومدركين أن الأمر تعدى ذلك إلى درجة أن نظم الحكم أصبحت تضحي بإغلاق كل باب للخير مخافة أن يلج منه الإخوان المسلمون.

ونسأل الله التوفيق وأن تكون هذه الدراسة من العلم الذي تنتفع به أمتنا وجماعتنا.

أولا: الهدف العام للمرحلة:

يرى المشاركون في الدراسة أن الهدف المعقول والممكن في هذه المرحلة هو:(الحفاظ على الاستمرار المؤثر والعمل على زيادة الفاعلية).
ويعني ذلك أن نكون مؤثرين وفي حالة تستعصي على التغييب وشل الفاعلية، وأن نكون قادرين على الاستفادة من إمكانيات المجتمع والعمل معه وبه على تعويق المشروعات المضادة للإسلام دين الأمة وعقيدتها، وأن يكون لدينا القدرات على رصد تك المخططات والتوعية بأخطارها.

ثانيا: حقيقة التحدي الذي تواجهه الأمة والإخوان جزء منها:

يرى المشاركون أن أهم عناصر هذا التحدي هي:

  1. تعرض المجتمع المصري لمحاولات لطمس هويته الإسلامية ومظاهر ذلك بادية في السلوكيات المخالفة في الملبس والاهتمامات الفردية والجماعية، ويمتد ذلك لمحاولات طمس الهوية الإسلامية على مستوى السياسات الداخلية والخارجية، وتضافر قوى عالمية على ذلك بما تمتلكه من إمكانيات إعلامية واقتصادية وعسكرية ضاغطة.
  2. كافة مشروعات التغيير المضادة للهوية الإسلامية على المستوى الداخلي والخارجي ذات حجم كبير يتطلب جهدا مكافئا للتعامل معها واستنفارا كاملا لكل ما نملك من طاقات.
  3. يعتبر المشروع الصهيوني والنظام العالمي الجديد للهيمنة على المنطقة واسترقاقها أكبر التحديات وأبرزها.
  4. يتعرض الإخوان لحملات تشويه منظمة وتلفيق تهم مزورة لأفراد والجماعات في الوقت الذي لا نمتلك فيه وسيلة إعلامية للرد على ذلك.
  5. تواجه الإخوان بجهود مضنية:
(أ) لإقصائها عن كافة الواجهات العامة حتى المساجد.
(ب) لتغييب اسمها ورموزها إعلاميا.
(ج) لضرب العناصر الفاعلة فيها.
(د) لصرف أفرادها عن دعوتهم بأساليب التشكيك وبث الفرقة ومحاولات الاختراق والتنصت والتعذيب.

ثالثا: واقعنا الحالي:

تدارس المشاركون الواقع الحالي لجماعتنا وللأطراف الأخرى في المجال السياسي، واجتهدوا في توصيفه على النحو التالي:
  1. أن النظام في خصومة معنا ومع قبوله بوجودنا فإنه يعم على تحجيمنا لأقل درجة يستطيعها، والعلاقة بينه وبيننا علاقة أمنية بالدرجة الأولى، وتتسم بإلقاء التعليمات وإغلاق أبواب الوساطات.
  2. الممارسات الحالية للنظام تهدف إلى إحكام قبضته على الشعب بكل طوائفه، والقضاء على الهامش الديمقراطي على ضآلته ويتمثل ذلك في التوسع في القوانين الاستثنائية والإصرار على استمرار حالة الطوارئ واستحداث قوانين جديدة للتعيين (للعمداء والعمد) واستمرار حالة تزوير الانتخابات بطريقة فجة على كافة مستوياتها من اتحادات الطلبة إلى مجلسي الشعب والشورى وما بينهما وفرض الحراسة على أهم النقابات وتجميد نشاط الأخرى.
  3. يمر الإخوان في عمومهم بمرحلة من عدم وضوح الرؤية المستقبلية وما ينبغي عمله في المجال السياسي في هذه المرحلة وما بعدها في المستقبل القريب ... وخارج مجال اللجان المعنية بمثل هذه الدراسات يبقى القطاع الكبير من الإخوان وفي ذهنه تساؤلات حيرى حول وسائل التغيير السياسي المناسبة للمرحلة ويصل التردد إلى درجة إنكار البعض منا لما أصدرناه وآمنا به من مبادئ في هذا المجال مثل وثيقة الشورى وتعدد الأحزاب.
  4. تدل الدراسة الواقعية أن وجودنا في بعض القطاعات ما يزال مستمرا، ولكن تأثير هذا التواجد يختلف من قطاع إلى آخر، وعلى العموم فتأثيرنا في حالة تراجع ملحوظ بالإضافة إلى أن هناك قطاعات ليس لنا فيها أي تأثير يذكر مع أهميتها البالغة.
  5. صفنا ما زال متماسكا من فضل الله علينا ولكن ذلك يرجع لوجود قيادات السبق الدعوي، وارتباط الإخوان الوثيق بدعوتهم، إلا أن المناخ التنظيمي وضعف العمل المؤسسي، وكثرة الإجراءات الاستثنائية قد أدى إلى حالة من الفتور وضعف البذل والتضحية.
  6. يمر الإخوان بحالة ضعف في مجال رصد مخططات الأعداء، ويرجع ذلك لكثرة الانشغالات الداخلية وعدم وجود مؤسسة صحفية في ذلك، وبالتالي فتصورنا حول هذه المخططات الهدامة ليس على المستوى المطلوب وأصبحنا نتحرك لمواجهتها بردود الأفعال والقدرة على القيام بدور فعال لتوعية الأمة بهذه المخططات ليس على المستوى المطلوب، وأهم أمثلتها مشروعات الهيمنة السياسية والاقتصادية تحت شعار العولمة والأبعاد الحقيقية للتطبيع مع الصهاينة.

رابعا: حالة النجاح المأمولة في المرحلة:

يرى المشاركون أن لدينا الإمكانيات المؤهلة لبلوغ حالة من النجاح في المجال السياسي تخرج بنا مما نمر به من أزمة، وتؤهلنا للعبور نحو نجاحات أكبر في مرحلة تالية وتوصيف حالة النجاح المأمولة على النحو التالي:
  1. أن يتحقق لنا الحصول على مساحة وحرية أكبر للعمل والحركة تنظمها علاقات شبه تفاوضية مع النظام يغلب عليها الطابع السياسي وليس الأمني ويدعمها واقع دعوي وحركي مؤثر.
  2. أن يتحقق هامش ديمقراطي حقيقي مناسب يستوعب كافة التيارات السياسية الوطنية.
  3. أن يحفظ أفرادنا بثباتهم وتماسكهم والتفافهم حول قياداتهم واستعدادهم للبذل والتضحية والتخلص من مظاهر الضعف وعدم وضوح الرؤية وذلك كنتيجة لتفعيل كافة مؤسساتنا وتنقية المناخ التنظيمي ووقف الإجراءات الاستثنائية ما لم تضطرنا إليها ضرورة ملجئة.
  4. أن يكون لنا حضور دائم ومؤثر في حياة الأمة تتحسن به صورتنا وتتحقق به شرعيتنا.
  5. أن نتمكن من الرصد الجيد للمشروعات والمخططات المضادة للإسلام، ونقوم بدور فعال في التوعية بأخطار تلك المخططات وتعويقها.

خامسا: الخيارات الاستراتيجية:

يرى المشاركون أن حالات النجاح السابق ذكرها تتأثر بعوامل عدة وهذه العوامل يترتب عليها خيارات استراتيجية محددة لتحقيق النجاح في كل حالة على النحو التالي:
(1) حالة علاقتنا بنظام الحكم:

يؤثر في هذه الحالة عدة عوامل منها:

  1. الصورة الذهنية السيئة المفتعلة عنا لدى الرئيس والمحيطون به.
  2. المشروع الصهيوني والأمريكي الكاره لوجودنا.
  3. أصحاب المطامع في المنطقة الكارهون لمبادئنا.
  4. ضعف الصلة بالصفوة صاحبة التأثير.
  5. ممارساتنا الخاطئة في هذا المجال وأبرزها:
(أ) طرح أنفسنا كبدائل للنظام.
(ب)لغة الخطاب السياسي والدعوي توحي بأننا جماعة عنف.
(ج)عدم إدراكنا للمساحة المسموح بها لحركتنا (الخطوط الحمراء) مثال انفرادنا بنقابة المحامين وترشيح الأعداد الكبيرة في مجلس الشعب.
(د)غياب العلاقات الإنسانية والعامة مع رموز النظام على كافة المستويات.
(ه)زيادة حجم الظهور في بعض المواقف بشكل يوحي بالتحدي وخاصة الجنازات القيادية.
الخيارات الاستراتيجية في هذا المجال:
  1. إيجاد قنوات اتصال وتفاوض مع رموز النظام الحالي والمستقبلي واختيار أفرادنا المناسبين لذلك بعناية ودقة مع الإعداد الجيد لهذه المهمة.
  2. الاهتمام بالعلاقات الإنسانية مع كافة رموز النظام في المناسبات الوطنية والإسلامية والشخصية (التهاني – التعازي ... إلخ).
  3. إظهار المصالح المترتبة على وجودنا في الساحة في كل مجال من مجالات الحياة.اقتصاديا (حثنا على العمل والإنتاج وانحيازنا للمنتج المحلي ودعوتنا للإتقان والأمانة بهدف الاكتفاء الذاتي ... إلخ).أمنيا استعابنا للمتدينين في عمل سلمي نبذا للعنف انتهاجنا للوسائل السلمية في التغيير منهجنا بطبيعته يقاوم جرائم المخدرات والغش والتزوير والاغتصاب حركتنا تحافظ على الوحدة الوطنية وتقف بحزم ضد القوى الخارجية التي تعمل على النيل منها.اجتماعيا إعلائنا لشأن الأسرة والسلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية.وطنيا مشاركتنا للدولة في مواجهة المشروع الصهيوني ومقاومة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد والحفاظ على الكيان الدستوري للدولة، وإعلاء شأن القضاء في إطار الشريعة الإسلامية.
  4. التزام الخطاب الدعوي وإبعاده تماما عن لغة التجريح والهجوم والتكفير والمقاطعة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ....) (النحل – 125).
  5. التزام الموضوعية العلمية الكاملة في طرح مشروعاتنا الإصلاحية بدلا من لغة التجريح والهجوم والعمومية على مشروعات الدولة، وانتهاج ذلك في التعبير عن وجهة نظرنا في كافة المسائل، فدعوتنا عرفت باحترامها للرأي الآخر وإنها لا تسعى لهدمه وترى تحقيق الفائدة من كافة الآراء.
  6. التأكيد على التزامنا بنظام الشورى والتعددية الحزبية في إطار قيم وثوابت الأمة ولكل إنسان الحق في تشكيل حزبي أو الانضمام للحزب الذي يريد والقضاء العادل النزيه هو الجهة التي تملك مسئولية البت في أمور وقضايا الأحزاب.

(2) حالة التهميش الديمقراطي:

يؤثر في هذه الحالة عدة عوامل منها:

  1. الاستقطاب الحاد بين الإخوان والنظام وما يترتب عليه من توتر دائم.
  2. ظهورنا بحجم أكبر من حقيقتنا.
  3. اكتنازنا لكوادر بشرية وفيرة قادرة على إثراء الحياة السياسية واستنزافها في العمل الداخلي ومشاكله.
  4. تضييق شروط التوثيق عندنا في العمل العام يحرمنا من توظيف كوادر وطاقات هائلة ليست معنا ويحرمها من نصرتنا (إخوان الفكرة، عموم المتدينين، عموم المخلصين للقضية الوطنية).

الخيارات الاستراتيجية في هذا المجال:

  1. تقوية التحالف القائم بيننا وبين حزب العمل ودعم الثقة بيننا وبين قياداته.
  2. تفعيل دور الأحزاب السياسية بحث عناصر مناسبة للعضوية فيها بالتنسيق مع قيادتها بما يحقق لها الانتعاش الحركي حسب طاقتها واستمرار التعاون معها في إطار وثيقة الوفاق الوطني.
  3. التقدم بحزب سياسي يمثلنا والاستمرار في ذلك كوسيلة إعلان لجديتنا في اختيار أسلوب التغيير الديمقراطي الذي آمنا به والتقدم بأحزاب نوعية تهتم بقضايا مثل البيئة والصحة وزيادة الإنتاج وحماية المنتج المحلي ومعالجة البطالة.

(3) حالة الوجود الدائم والمؤثر في حياة الأمة:

بالرغم من وجود الاهتمام النظري بذلك في مشروع التوجهات غير أن عددا من السلبيات المصاحبة للحركة أفقدنا الاستفادة من هذه التوجهات ومن ذلك:

  1. قلة الدراية بأساليب الاتصال مع بعض القطاعات مع غياب لفقه الأولويات.
  2. عدم اتخاذ آليات متابعة للخطط من جانب المستويات القيادية المختلفة.
  3. ضعف المبادرة بالأعمال المناسبة أمام كل حدث.
  4. حالة الاستعلاء على بعض قطاعات الأمة المؤثرة (الأحزاب المختلفة، الجمعيات الخيرية، الجماعات الدينية الأخرى، مؤسسات الدولة).
  5. الهجوم الإعلامي علينا والتشريعات المقيدة لحركتنا والإرهاب والتخويف لمن يتصل بنا.

الخيارات الاستراتيجية لهذه الحالة:

  1. إعطاء أولوية للقطاعات الأكثر تأثيرا سياسيا واجتماعيا (الصفوة، رجال الأعمال، العائلات العريقة، الشباب، المرأة).
  2. الحفاظ على تواجدنا فيما نحن فيه من قطاعات (الطلبة، المهن).
  3. اتباع آلية متابعة واضحة لكل ما نقره من خطط وتوجهات.
  4. العمل على توريث الدعوة وإعطاء مرونة عالية في حدود الفعاليات السلمية لكافة مستوياتنا القيادية والتخلي عن المركزية في الإدارة.
  5. مد جسور من الأخوة والحب والتعاون مع كافة قطاعات المجتمع المشاركة في ظاهرة الدعوة الإسلامية والإصلاح السياسي والاجتماعي والتعبير بصدق عن إيماننا بأننا جماعة من المسلمين ولسنا وحدنا جماعة المسلمين.
  6. التأكيد على أننا جزء من نسيج المجتمع نشأنا فيه وفيه نعيش وهو مجال تعاملنا ومركز اهتمامنا وتفعيل وحماية مؤسسات المجتمع في مقدمة اهتماماتنا.
  7. سرعة الرد المناسب على الشبهات المثارة حولنا بأحسن الأساليب.

(4) حالة تماسك الصف والالتفاف حول القيادة والاستعداد للبذل والتضحية:

يرى المشاركون في هذه الدراسة أن هذا الموضوع من أهم ما تأثرت به المرحلة، ففيما يتعلق بهذه الحالة، فإن جماعتنا تمر بحالة غير مسبوقة على الأقل فيما عاشه المشاركون من التاريخ الدعوي، منذ خروج الإخوان ليستأنفوا دعوتهم وحتى الآن لم تواجهنا حالات استقالة أو إقالة كما حدث في السنوات 96 – 99؛
كما أن بعض أفراد الصف تتحرك بالهمس واللمز المتبادل بين مستويات قيادية مختلفة وبين القاعدة الإخوانية ... كما أن هناك جو من الشعور بالغربة وضعف الثقة لدى مجموعات إخوانية كانت قبل محنة 95 متآخية متحابة على قلب رج واحد، وأما قاعدة أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية فقد نسيها بعضنا، وأصبح كل ذي رأي جديد يوصف بخروجه على الصف أو تعاطفه مع الخارجين عليه وأنه لا يحترم القيادة مع أننا مأمورون بحسن الظن في الإخوان؛
وتأتي تصرفات المستويات القيادية المختلفة في مثل هذه الحالات عصيبة وبالغة الحساسية يصل بها الأمر إلى تجنب صاحب الرأي الجديد وعزله عن الاجتماعات الخاصة والعادية، وقد يصل الأمر للأسف الشديد إلى مقاطعته، ومع أن هذه الحالة تختلف من محافظة إلى أخرى فلا خلاف أنها في القاهرة والجيزة وهما محافظتي القيادة والقدوة، تصل إلى حد يثير القلق.

ويرى المشاركون في الدراسة أن أهم السلبيات التي أدت إلى ذلك هي:

  1. تعطيل مهمة مجلس الشوري الأساسية في الجماعة رغم إمكانية التغلب على الظروف الأمنية بأساليب عدة، وفوت ذلك علينا الفرصة بالاستفادة برأي المجلس في السياسة العامة وألقى عبء القرارات على ثقله على كاهل مكتب الإرشاد.
  2. النقص الواضح في اللوائح وعدم معرفة الغالبية بالمتوفر منها.
  3. ضعف الوعي الانتخابي وما ينبغي من المواصفات لكل مهمة قيادية.
  4. أسلوب التربية قد يطبع الإخوان على التعصب للرأي الواحد ومعاداة الرأي الآخر بالرغم من أن كلاهما اجتهاد لصاحبه وليس قرارا صادرا عن الجماعة.
  5. بعض المسئولين لا يستوعب أفراده بالحوار حول رؤاهم ويلجأ لأسلوب الاتهام.
  6. الضوابط الشرعية الحاكمة للمعاملات ليست واضحة للقواعد وخاصة في الجوانب المالية.

الخيارات الاستراتيجية:

  1. تفعيل مجلس الشوري يرفع العبء عن كاهل المكتب ويحفظ للقادة مكانتهم ويحفظ للصف تماسكه وأخوته.
  2. تفعيل آليات الشورى وابتكار وسائل لذلك كاستطلاع رأي الإخوان والاتصال البريدي بهم وصندوق الاقتراحات والنصح ... إلخ.
  3. التحاور مع القاعدة في وجود مسئوليهم وتشجيع الرؤى والأفكار المفيدة والابتكارية.
  4. تبني سياسة تربوية تنتج إخوانا أكثر حبا لحرية الرأي واحتراما لوجهة نظر الآخرين وإن كانت مخالفة لما ألفناه.
  5. الالتزام اللائحي الكامل من كل المستويات القيادية ليكونوا قدوة لغيرهم ومحاسبة كل مخالف في هذا الشأن.
  6. إعلاء قيمة العمل المؤسسي ونبذ ما عاداه.
  7. إطلاع مجلس الشوري على تقرير سنوي لحالة الإخوان العامة وتقرير يؤكد مراعاة الضوابط المالية.
  8. المسارعة باعتبار اللائحة أهم ما يدرسه فرد الإخوان ليلتزم بها ويحاسب غيره على مخالفتها.
  9. التعرف على الأماكن الشاغرة وصفات من يشغلها ومن له حق التصويت وطريقة الانتخاب قبل إجراء انتخاب للجماعة.

(5) حالة الرصد الجيد للمخططات المعادية للإسلام وتعويقها:

تأثرت هذه الحالة بعدة سلبيات في مقدمتها:

  1. كثرة الانشغالات بمشاكلنا الداخلية.
  2. غياب المؤسسات المتخصصة في هذا المجال لدينا.
  3. ضعف الاستفادة من المؤسسات القائمة لدى غيرنا في هذا المجال.
  4. ضعف الاستفادة من المعلومات المتاحة لدى أفرادنا والمتصلين بهم في الداخل والخارج ممن لهم صلة بالمعلومات في هذا المجال.
  5. غياب الخريطة الصحيحة التي توضح ترتيب المشروعات المضادة للإسلام حسب خطورتها.
  6. ضعف توظيف الوسائل المتاحة للتوعية بخطورة تلك المخططات وبخاصة الجاري منها ومن أمثلة تلك الوسائل المتاحة (القنوات الفضائية – شبكة المعلومات الدولية).

الخيارات الاستراتيجية:

  1. إقامة مؤسسة متخصصة في هذا المجال على الأقل ما لم نتمكن من إقامة عدة مؤسسات وتوفير عدد من الإخوان القادرين على إنجاز تلك المهمات لإدارتها.
  2. الاستفادة بكافة إمكانيات الإخوان المتعلقة بهذه القضية من خلال تلك المؤسسات.
  3. المسارعة بالاستفادة بالمتوفر من الإمكانيات لدى الغير وخاصة أجهزة الإعلام الخاصة للتوعية بخطورة تلك المخططات.
  4. الاستفادة من المؤسسات التعليمية والدينية في هذا المجال.

(6) مجالات العمل السياسي الرئيسية:

يرى المشاركون في هذه الدراسة أن المجالات المتاحة الآن لممارسة العمل السياسي قد تنوعت وانتشرت بما يتيح فرصة لمن أراد العمل والفاعلية ومن هذه المجالات:

  1. الأحزاب السياسية وبلغ عددها في مصر 14 حزب غير عدد في الطريق.
  2. مؤسسات العمل الأهلي ذات التأثير في المجال.
  3. مراكز البحوث والدراسات المتخصصة.
  4. الإعلام والإنتاج الإعلامي.
  5. النقابات والروابط والنوادي.
  6. جمعيات حقوق الإنسان.
  7. الصحافة بمعناها المتسع.

القواعد الحاكمة:

من الجدير بالذكر في نهاية هذه الدراسة أن نذكر أنفسنا بعدد من القواعد الحاكمة عند حدوث أي تعارض بين مصلحتين معتبرتين بما يرفع ذلك التعارض ويحل المشكلة:

  1. مراعاة التخصص الوظيفي للمؤسسات.
  2. مراعاة التخصص الوظيفي للأفراد.
  3. فيما يتعلق بطاقات المجتمع فمهمتنا التوظيف قبل التجنيد.
  4. مراعاة التوازن الدقيق بين حجم الظهور وقدرتنا الحقيقية.
  5. مراعاة البعد الزمني وأهمية الوقت في مشروعات الاستمرار الفعال.

ونسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد والقبول ...

التعليق على الرسالة:

لنا أن نلاحظ أن هناك جهدا بذل في الصياغة حتى لا يفهم البعض في مكتب الإرشاد أنها تلومه شخصيا أو تتهمه بالتقصير، أي أنها قصدت أن تكون مخففة، ومع ذلك تعامل معها مكتب الإرشاد بعصبية شديدة وحدة بالغة فيها ثم ألقى بها في سلة المهملات.
ولاحظ أيضا أن الهدف الذي وضعته اللجنة للمرحلة كان هدفا متدنيا وبسيطا وهو مجرد أن يكون هدفنا الحفاظ على مجرد الوجود ومحاولة زيادة الفاعلية، وهذا يدل على شعور اللجنة بالمأزق الذي تمر به جماعتنا، فلا حديث عن دولة موعودة ولا رائحة لما يسمى أستاذية العالم بل نحن نستهدف فقط مجرد الوجود والنص الوارد بالدراسة يشير إلى خطورة ما آلت إليه الجماعة تحت إدارة السريين وجاء على النحو التالي:
أولا: الهدف العام للمرحلة:
يرى المشاركون في الدراسة أن الهدف المعقول والممكن في هذه المرحلة هو:
(الحفاظ على الاستمرار المؤثر والعمل على زيادة الفاعلية).
كما أرجو من القارئ المهتم أن يراجع ما هو متعلق بموضوع الكتاب مباشرة وهو البند الرابع المعنون (حالة تماسك الصف والالتفاف حول القيادة والاستعداد للبذل والتضحية) ليتبين له أن ما أثرته عام 2008 عن حالة الصف الإخواني وما يعتريه من الأمراض ليس إبداعا ولكنه كان مثارا منذ عام 1999 وأن لجنة إخوانية قالت ذلك وكتبته في وثيقة ولم يقل أحد يومها إن هناك خروج أو انشقاق لأن مكتب الإرشاد من وقتها دفن جثة الحب في الله ولم يقم لها عزاء ولا حتى جنازة.
كما سوف تلاحظ أن اللجنة حددت سنوات الهدم في صف الإخوان الداخلي بي 1996 و 1999 وتذكر مع اللجنة ن تكون شخصية المرشد العام في هذه الفترة لتدرك أنني لا أقو جديدا، والسؤال المهم هل ستقف معي في معركة الإصلاح الداخلي للإخوان المسلمين أم ستبقى واضعا رأسك في الرمال كالنعامة أم تستمر على مقولة (كله تمام يا فندم)، تمنياتي أن تكون مع الإصلاح وأن ترفع رأسك لترى أن الآخرة خير وأبقى وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
(يرى المشاركون في هذه الدراسة أن هذا الموضوع من أهم ما تأثرت به المرحلة، ففيما يتعلق بهذه الحالة، فإن جماعتنا تمر بحالة غير مسبوقة على الأقل فيما عاشه المشاركون من التاريخ الدعوي، منذ خروج الإخوان ليستأنفوا دعوتهم وحتى الآن لم تواجهنا حالات استقالة أو إقالة كما حدث في السنوات 96 – 99، كما أن بعض أفراد الصف تتحرك بالهمس واللمز المتبادل بين مستويات قيادية مختلفة وبين القاعدة الإخوانية، كما أن هناك جو من الشعور بالغربة وضعف الثقة لدى مجوعات إخوانية كانت قبل محنة 95 متآخية متحابة على قلب رج واحد.
وأما قاعدة أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية فقد نسيها بعضنا، وأصبح كل ذي رأي جديد يوصف بخروجه على الصف أو تعاطفه مع الخارجين عليه وأنه لا يحترم القيادة مع أننا مأمورون بحسن الظن في الإخوان، وتأتي تصرفات المستويات القيادية المختلفة في مثل هذه الحالات عصبية وبالغة الحساسية يصل بها الأمر إلى تجنب صاحب الرأي الجديد وعزله عن الاجتماعات الخاصة والعادية، وقد يصل بها الأمر إلى تجنب صاحب الرأي الجديد وعزله عن الاجتماعات الخاصة والعادية، وقد يصل الأمر للأسف الشديد إلى مقاطعته، ومع أن هذه الحالة تختلف من محافظة إلى أخرى فلا خلاف أنها في القاهرة والجيزة وهما محافظتي القيادة والقدوة، تصل إلى حد يثير القلق).

المحاولة الإصلاحية الثالثة

جماعة تحتضر .. أم نحن؟

كتبها د. حامد حسين

(نقلا عن مدونة أمواج في بحر التغيير) أخي الحبيب:

قرأت موجتك الأخيرة (ربانيتنا وأخوتنا هل يوما تعود؟)، فأثارت في نفسي كوامن الشجن وفجرت بداخلي بحارا من الحيرة التي أعاني منها منذ فترة طويلة)، كانت دموعي تلاحقني وأنا أنتقل من سطر لسطر فيها، شعرت أنها تمسني وتلمسني عن قرب وتعبر عن حالي؛
أنا يا أخي الكريم في أواخر الثلاثينات وأعمل مدرسا بأحد الكليات النظرية، انتميت لهذه الدعوة صغيرا وتدرجت في مراحلها المختلفة من الأشبال وحتى الآن، اعترف بفضل دعوتي علي، فلم يساعدني ويحفزني على التفوق سوى إخواني وقد نشأت في أسرة متواضعة لم تنل حظا وافرا من التعليم في أحد مناطق مصر الشعبية، غير الإخوان حياتي وأنا ابن العشر سنين، علموني كيف أحب الناس وكيف أفعل الخير وأساعد الناس بلا مقابل سوى الرجاء في ثواب الله ورضاءه عني؛
علمني الإخوان أن لا أعيش لنفسي بل أعيش للناس وأعمل جاهدا لرسم البسمة على شفاههم، تدرجت في مراحل التعليم وحافظت على تفوقي إلى أن تم تعييني بالجامعة كمعيد وأنهيت رسالة الدكتوراه وعمري لم يتجاوز الـ 31، ولا أنسى أبدا كيف كان إخواني يقفون ورائي ويدعمونني بكل ما يستطيعون من جهد وتشجيع، كان نجاحي هو نجاحهم، كان الجميع يعتبرون تفوقي شارة ووساما على صدورهم لأنني ابن الدعوة وتلميذها الذي تميز وأصبح بتفوقه فخرا للدعوة ونموذج لأبنائها، عشت أياما وأحلاما جميلة مع إخواني؛
كنت أشعر أننا نسبح معا نحو الجنة، يغمرني حبهم ويحتويني لطفهم وتحييني مشاعرهم الدفاقة التي حكيت عنها في موجتك ومرت الأيام وتبدلت الأحوال، وأصبت بما أصابك وأصاب الكثيرين غيرنا من جفاف روحي وإجداب في المشاعر وقسوة للقلوب وتفكك لروابط الأخوة التي بيننا لم يحدث هذا فجأة بل بدأت بوادر المشكلة في منتصف التسعينات (لاحظ أنه تاريخ تولي السريين للسلطة في الإخوان – الكاتب)
وكنا نشعر بها ونتاجهلها أو ننكرها، كان البعض يتعلل بكثرة الأعباء الإدارية وأحيانا الحياتية، ولم أقتنع يوما بمثل هذا الكلام، لأن تجربتي الشخصية مع إخواني في الحي الذي أسكن به تبرهن على خطأ هذه المبررات.
كانت ظروفي المالية متعثرة وكنت أعمل مع الدراسة لأساعد أهلي، وكان أغلب إخواني في منطقتنا الشعبية من رقيقي الحال، الذين يعملون أكثر من عمل لمواجهة أعباء ومسئوليات الحياة، ولكن لم يؤثر ذلك على روحنا وإخوتنا ومشاعرنا وروحانيتنا، بالعكس، كنا نشعر بروحانيات عالية ونحن نستشعر تضحيتنا بالجهد لنوازن بين أعمالنا الدعوية وبين أعمالنا الحياتية، لم نكن ننام كثيرا، لم يكن عندنا أي وقت لنضيعه؛
فالكل يعمل في منظومة متكاملة يبتغي رضا الله، كانت الروح غير الروح الرخوة التي نعيشها الآن سألت نفسي كثيرا بعد أن قرأت موجتك عن أسباب الجفاف والرخاوة والجفاء الذي نحن نعانيه الآن، نظرت للأمر طويلا فوجدت أنه أكبر من الأسباب التي ذكرتها وتكلم عنها من علقوا هنا، أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، أنه يتعلق بعملنا الدعوي وأدائنا، أنه يتعلق بأفكارنا ورؤانا، أنه يتعلق بحال جماعتنا المتدهور الذي لا يخفى على أحد؛
دعني أوضح أكثر، أن ربانيتنا وأخوتنا وترابطنا هو نتاج طبيعي لعملنا وبذلنا الدعوى، أن تجدد مشاعرنا وأرواحنا مرتبط بتجدد أفكارنا وحيويتها، هي معادلة واضحة الأركان، كنا نعمل بروح الفريق الواحد ونتجمع على فكرة واضحة المعالم ونتحرك باستراتيجية نؤمن بصحتها وتميزها وفعاليتها؛
وكنا نرى ثمار بذلنا في المجتمع، كان اجتماعنا على النجاح والعطاء يعمق أخوتنا ويرفع روحانيتنا ويضاعف تألفنا وقربنا، كنا نعرف إلى أين نمضي ... كنا نعرف ماذا نريد ... كانت ثقتنا في قيادتنا مبنية على العقل وليس العاطفة لأننا نعرف كيف تفكر وماذا تستهدف، ومرت الأيام وتغيرت الأحوال، أصابتنا الحيرة والشرود، صرنا نتخبط في الرؤى، لا ندري إلى أين تسير جماعتنا ولا ندري ما تريد؟
شاخت أفكارنا وأصبحت وسائلنا وآلياتنا تقليدية لدرجة جعلت إنتاجيتنا تنحدر انحدارا مريعا، توقفنا عند هذا الحد وأصبحنا نتحدث أكثر عن الماضي وإنجازاته بدلا من أن نتحدث عن الحاضر أو المستقبل وتصوراته، نتلقى ضربات النظام برخاوة ولا نفكر كيف نواجهها؛
أصابنا الجمود بعد أن تحولت وسائلنا إلى ثوابت، وأصابنا التجميد بعد أن ارتضينا بقوانين اللعبة الحقيرة التي خطها النظام وامتثلنا لها، نحن الآن أسرى للجمود والتجميد، صرنا كالإسفنجة التي تمتص أي صدمة وتتعلل بالصبر والحكمة والأناة وارتضاء تحمل مشقة ووعورة الطريق، دون أن نفكر كيف تغير حالها، صار المربون يربتون على الأكتاف ويخدرون المشاعر بتأويلات تسكينية للآيات والأحاديث، أما المجتمع الذي تحدثنا كثيرا على العمل معه والانفتاح عليه؛
هذا المجتمع أصبح بعيدا عنا بدرجة أكبر من الماضي، لم تعد خطوات الناس تصاحب خطونا كما كنا، لم يعد الناس يمتنون لنا بنفس الشكل، زاد الطين بلة انتخابات 2005 التي أتت بكتلة نيابية كبيرة لنا أصبحت في محك الاختبار مع المجتمع الذي يرمي بكل آماله على الإخوان في التغيير والإصلاح، سقطنا في الفخ، الذي نصبه لنا النظام باحتراف؛
لم يكن نجاحنا عبثيا بل كان مصيدة لنا، ليتآكل آخر رصيد لنا في قلوب الناس بعد أن ضحك علينا النظام وجعلنا دليلا لشرعيته وديكوره الديمقراطي، ولتموت آمال الناس في الاعتماد على الإخوان كآمالهم في التغيير كنا نسأل إلى أين نحن ماضون؟
فكانت الإجابة علينا بوجوب الثقة في القيادة التي تعرف أكثر مما نعرف!! كنا نسأل ونقول هناك مشكلة ولنتنبه لها حتى لا تتفاقم فيقولون لنا:لا تجلدوا الذات، الدعوة بخير، ويكفي أنها مستمرة وموجودة الآن بعد ثمانين عام من الحرب عليها!!
كنا نسأل كيف سنتعامل مع المجتمع ومع الناس مع ما طرأ من طفرات اجتماعية وتقنية وسلوكية أصبحت معها وسائلنا وخططنا تاريخية تراثية لا تصلح للتعامل مع هذا الواقع فكانت الإجابة: اخلصوا نياتكم والنتائج على الله صدمتنا الإجابات وتوالت الإحباطات، فلم نعد نتربى كما يجب، ولم نعد نعمل كما ينبغي؛
فهربنا إلى أنفسنا وذواتنا لنتصوف تصوفا سلبيا، نكثر من أعمال الخير الفردية ونحرص على الحج والعمرة والصدقات، ونحضر مناشطنا التربوية ونصمت لفقدنا الأمل في التغيير، علاقتنا بالجماعة صارت علاقة اجتماعية نحرص عليها لأنها تشبع بداخلنا غريزة وحاجة الانتماء لجماعة، كثيرون مثلي على نفس الحال صارت علاقتهم بالجماعة على نفس الحال؛
ارتضينا بهذا الوضع وارتضت به الجماعة، فلم تحاول تغييره أو حتى التفكير في أسبابه، بل حتى الاعتراف بأنه مشكلة، تضاءل سقف طموحاتنا لأقصى حد، وانطلق قطار السكون والرخاوة ليركب أفرادا جددا فيه كل يوم، لتتغير سمات الصف وصفاته ويتكون صف جديد تصلح تسميته الخاملين الصابرين المحتسبين المتعايشين.
انزوى كل فرد إلى نفسه فتآكلت مساحة الأخوة وقست القلوب وزاد الجفاف هل أدركت الآن أخي ما السبب، ماذا تريد من أفراد انقسموا على أنفسهم وتاهوا داخليا وغرقوا في بحر الحيرة، لا يدرون إلى أين هم ماضون؟! لا يعرفون لماذا هم مستمرون بنفس الشكل والوسائل رغم أنها أثبتت فشلها؟!
نشعر بالاغتراب الداخلي، لا نجد أنفسنا في الجماعة ولا في أعمالنا المكررة التي لا تؤدي إلى شيء، مللنا من الربت على الأكتاف وتهدئة وتنويم العقول، لا ندعو إلى انفعال ولا إلى مواجهة فنحن أنضج من ذلك حتى لا يخرج مدعو الحكمة ويقولوا متهورون لا يدركون طبيعة الطريق لا نجلد جماعتنا بل نصارحها خوفا على مصلحتها؛

بل ندعو إلى الاعتراف بالمشكلة والتعاطي معها بالاهتمام الكافي، كفانا تسكينا للمشاعر وكفانا صمتا وتجاهلا، إذا استمر الوضع هكذا سيتسع الخرق وتزداد الفجوة، إذا لم تشعر القيادة وتعترف بالمشكلة وتتعامل معها بشكل سريع وموضوعي فإنهم سيتحملون ذنب انفراط عقد هذه الجماعة المباركة التي ستصبح ذكرى تاريخية يحن إليها البعض، ليس هذا تشاؤما ولا خيالا، من يحلل الوضع الراهن بدقة يدرك ذلك، نحن بحاجة إلى وقفة نرى بها أين نحن؟ نحن بحاجة إلى وقفة لنراجع أخطاءنا وآلياتها، ولا يخرج أحد الآن ليسألني كيف؟

فالإجابة على كيف، تأتي بتبني الجماعة كلها للعمل على الإجابة على كيف، المهم أن نشعر أن هناك مشكلة وأزمة ونتكاتف معا على الخروج من هذا الكهف المظلم الذي دفعنا إليه.

نعم نحن بحاجة إلى تأسيس جديد للجماعة يبعد الشيخوخة عن أفكارها ويطور أداءها ويعطيها بعدا مستقبليا مبنيا على خبراتها المتراكمة تاريخيا، بحاجة إلى تأسيس جديد يضم أفرادها ويحتويهم ويربط بينهم برباط الأخوة الناتجة عن البذل والعمل ووضوح الرؤية والهدف، بحاجة إلى تواصل دائم بين الأفراد والقيادة التي ترجع إليهم وتشاركهم التفكير وتستشيرهم قبل اتخاذ القرارات، بحاجة إلى استيعاب كل المخلصين وإن اختلفوا مع الجماعة؛

ليس كل من ينتقد الجماعة وأداءها وأفكارها هو شخص تم العبث بأفكاره ويتم التشكيك في نواياه، تمتلك الجماعة ثروة لا تقدر بثمن تتمثل في هذا الشباب الطاهر الذي يكتب وينتقد ويفكر خوفا على دعوته وحرصا عليها، تمتلك الجماعة كوادر بشرية هائلة بإمكانيات لا تتوافر لأي تيار آخر، عند الإخوان من الإمكانيات البشرية والمادية ما يؤهلهم ليكونوا جيل النهضة الذي يصنع التغيير ويرسم معالم النهضة للأمة كلها، ولكن إن تم استغلال وتوظيف وإدارة هذه الطاقات إدارة سليمة، رغم كل المعوقات ورغم بطش النظام الحاكم وتآمر النظام الدولي الجديد، أمامنا آلاف الفرص والمساحات التي نتحرك فيها من أجل وطننا وأمتنا وفكرتنا؛

ارجعوا إلى قواعد الجماعة الذين انشغلتم عنهم بالسياسة ولم تنجح أيضا في السياسة واسمعوا لهم ستجدون آلاف الأفكار وآلاف المقترحات التي ستكون رؤية متكاملة للتطوير، يا أولي الأمر فينا راجعوا أنفسكم، واسألوها؟ هل أنتم راضون عن وضعنا الآن؟

هل أنتم مصممون على الاستمرار بنفس الطريقة وتجاهل كل دعوات المراجعة وتصحيح الرأي؟ افترضوا مرة أننا نواجه مشكلة وفكروا في أسبابها وطرق علاجها بعد أن أصبحت مظاهرها واضحة لكل ذي عينين، لا تنفصلوا عن أبنائكم وقواعدكم ولا تحقروا من شأنهم كما جرى ببرنامج الحزب، هذه الجماعة هي ملك الأمة وملك كل إنسان آمن بالإسلام كمنهج حياة، ليس لأحد أن يستأثر بها وبرؤيتها ومواقفها لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيكم إن لم تسمعوها اللهم قد بلغت اللهم فاشهد د. حامد حسين.

بعرض هذه المحاولات الإصلاحية الثلاث يمكننا أن نقترب من المشكلة التي يحاول هذا الكتاب علاجها ونكون قد أثبتنا أن محاولتي ليست فردية كما يزعم البعض ولكنه صراع تاريخي ومستمر بين الإخوان وبين التنظيم السري قديمة وجديدة.


الفصل الثاني :الحياة في حضن الوطن

(كيف عشنا قبل الإخوان)

مسيرة حياة موجزة

إنه لأمر كريه أن أحدثك عزيزي القارئ عن أعمالي، ولكن لا بد مما ليس منه بد، لكي تكون على بينة بالإنسان الذي تأخذ عنه فتقبل أو ترفض وفي الحالتين أنت حبيب إلى قلبي لأنك حر وأنا عاشق للحرية والأحرار؛

فها هو العمر يمضي وتنقضي أيامه المعدودات، وها أنا العبد الفقير إلى رحمة ربه على مشارف الستين من العمر، والحمد لله أني ما زلت حيا، والحمد لله أني قادر بفضل ربي أن أراجع ما قدمت فأتوب عما اقترفت وأكثر مما أعتقد أنه يبيض صفحتي عند ربي، خلال هذه الحقبة من الحياة تقلبت بين جنبات الوطن من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه في رحلة الحياة التي ركبت فيها كل صعب وسهل، امتطيت الحمار والقطار، والطائرة والباخرة، والدراجة والسيارة وكان هدفي دائما الوصول إلى حيث يعيش المصريون ... أهلي وعشيرتي؛

وقد نجحت في ذلك إلى حد ما، وتحاورت معهم في رفح على خط النار حيث المحتلون الصهاينة، وبكيت كثيرا لحال أهلنا في فلسطين على الناحية الأخرى من الحدود، وسمعت بأذني رصاصات الصهاينة تصرخ في أحشائهم وهي أحشائي، وسعيت إلى أهلي في أقصى الغرب مارا بالعريش والمساعيد ورمانة وبالوظة وبورسعيد ودمياط وبلطيم وجمصة ورشيد والإسكندرية ومرسي مطروح مستحثا الجميع لنجدة إخوانهم في الإسلام والعروبة، وما زلت أفعل ذلك والحمد لله.
وسحت في دلتا النيل زائرا قراها وعزبها ومدنها حتى بلغت القاهرة، وصعدت متجها إلى مصر العليا حتى بلغت أسوان وبحيرتها، حملت همومي على كتفي ووضعت روحي على كفي غير عابئ بالذين يحاولون تحديد إقامتي في ثوبي واختزال قضيتي في لقمتي؛
وطرت مبشرا بما أحمل من مبادئ خارج حدود وطني في بلدان عربية وإسلامية وآسيوية وإفريقية وأوروبية وأمريكية، مررت بقصور الحكام وما فيها من زينة وتفاخر مرور المستعجلين المعتبرين، وأقمت بأكواخ الفقراء والمساكين وعشت مع الأسرى والمحاصرين والمعتقلين والمسجونين، وذقت مرارة السجن أعواما تقلبت فيها بين الجوع والحرمان وقسوة القيود وغلظة السجان وآلام التعذيب إلى حد الموت وآلام الضغوط النفسية حتى مشارف الاختناق، ولولا برهان من ربي ورحمة لكنت من الهالكين.
ودخلت حلبة الحياة السياسية من أوسع أبوابها وأرحبه باب الإيثار وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، وأكرمني الله على ذلك سمعة حسنة وحبا من الناس لدرجة العناق والبكاء عند الفراق، وتعرضت لمضايقات المخالفين من إخواني فحاصروني لبضع سنين، وتدرجت في سلم العلم من أوله حتى درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم فالأستاذية في العلوم؛
فلم أشعر إلا أنني أمام بحر من العلم لم آخذ منه إلا كما يأخذ المخيط من البحر، وكتبت حتى اليوم عشرون كتابا منشورة وعدد لم ينشر بعد، وتشرفت بدراسة الإسلام الحنيف فالتحقت بكلية الشريعة والقانون وحصلت فيها على درجة العالمية الأزهرية بفضل الله ونعمته؛
وقدمت خبرتي هدية لأمتي، فساهمت في الزراعة وقدمت رسالة دكتوراه في تحسين إنتاجية نبات طبي مصري من الزيوت والألياف والمستخلصات الطبية، وأشرفت على أربع رسائل دكتوراه وأربعة رسائل ماجستير متعلقة بالنبات وعلومه ونشرت حتى اليوم عشرين بحثا تخصصيا في مجال علم الفسيولوجيا؛
وساهمت في الصناعة حيث شغلت منصب رئيس المعامل وضبط الجودة في جميع مصانع وشركات الشريف ومصانع أخرى وتمكنت من إدخال ثمانين علميا لهذه المؤسسات بعد تدريبهم ليعملوا تحت إشرافي، وساهمت في التشييد والبناء فبنيت قرابة السبعين وحدة سكنية منخفضة التكاليف للشباب؛
وكان فضل الله علي في باب المال درب من الخيال، فقد تقلبت في أعمال كثيرة جليلة وصغيرة طلبا للرزق الحلال وسعيا للعفاف، وكنت كلما أديت حق الله في المال زاد عطاء الله لي، وكان هذا الإنفاق بمثابة بذرة ينميها الله حتى تصير شجرة وارفة تثمر سترا جميلا وخيرا وفيرا وبشرى عاجلة، وما زلت أطمع في ما هو خير من ذلك في الآخرة، ولا حرج على فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.
ولم أكن المسافر وحده في صحراء الحياة في ظل حكومات أسكرتها قوة البنادق ومجتمعات شاحت بوجهها عن القيم النبيلة والمبادئ العليا، وإنما كانت واحدا من كتيبة مجاهدة، ولم يكن لفرد مثلي قدرة على تحمل المشقات، ولكن نداوة الأخوة في الله وحلاوة الصحبة في طريق الحق كان معينا ومساعدا ووليا ومرشدا ونهرا رقراقا ألفنا الحياة إلى جواره وينبوعا عذبا ومنهلا حلوا قصدناه وقت أن اشتد العطش بالكثيرين، وما تزال دعوتنا قائمة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وكانت هذه الرحلة على طولها وعمقها وشقائها وحلوها ومرها بحثا جادا عن الحرية والتحرر في مواجهة نظام عالمي جديد يريد إعادة الساعة للوراء، وإحياء زمن الاسترقاق والعبودية، كانت بحثا عن الحرية في أوسع معانيها ... حريتي وحرية الوطن والمواطنين والإنسانية جمعاء ... حرية العقيدة ولقمة العيش وحرية الكلمة والرأي؛

وقد لاقيت الكثير في هذا السبيل حتى تمثلت قول أحمد شوقي:

فمن يغتر بالدنيا فإني .... لبست بها فأبليت الثيابا جنيت بروضها وردا وشوكا ... وذقت بكأسها شهدا وصابا فلم أر غير حكم الله حكما ... ولم أر دون باب الله بابا

ولم أكن فيما ألاقيه وأعانيه وأكابده من المتاعب والمشقات والغربة على أرض الوطن إلا واحدا من الملايين المطحونة من أبناء هذه الأمة هؤلاء المبعدين عن الوطن رغم بقائهم على أرضه وتشبثهم بكل حبة من رماله فلم ولن أرحل ولم ولن أفكر في ذلك أبدا، وكنت وما زلت واحدا من المحرومين من حقوقهم الأساسية في الحرية والعدالة والمساواة، ولكن شاءت إرادة الله أن أكون ضمن الطليعة المهمومة بحال أمتها في الزمان الصعب، ومن هنا كانت متاعبي وما لاقيت جزاء الصدق في المواطنة، والحرص على دفع ضريبتها، والوقوف إلى جوار الشعب اليتيم، إن آخر انتخابات نزيهة خضتها كانت عضوية مجلس إدارة نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعتي أو عريني الأول (2005) ومن فضل الله ورحمته أنني حصلت على المرتبة الأولى بين الزملاء المرشحين وهم جميعا من الأساتذة العلماء الفضلاء، وكل ما أتمناه أن يكون ذلك من بشرى رسول الله للمؤمنين وأن يعينني على القيام بواجبي تجاه إخواني وأمتي.

وهناك بعض التفاصل:

قريتنا المصرية في مطلع الثورة:

ولدت عام 1951 في قرية مصرية عادية من قرى محافظة كفر الشيخ، ما زلت أذكرها في الخمسينيات من هذا القرن ترقد في هدوء وسكينة وسط بساط من الزرع الأخضر الممتد بلا نهاية، عدد من البيوت الريفية التي تحيط بربوة عالية، وعلى قمة هذه الربوة تقبع بيوت بعض الفلاحين المحبين للسكن في الروابي رغم صعوبة الصعود وأخطار الهبوط المفاجئ ومشقة الطريق الملتوي؛

وفي الناحية القبلية يطالعك مسجدنا القديم المجاور لضريح "سيدي مصباح"، وفي مدخل القرية البحري تجد سراية العمدة عبد القوي بوريشة الإقطاعي القادم لقريتنا من ألبانيا وآخرين يقولون إنه من بلاد المغرب، وعلى بعد مسافة أمتار من السراية دوار العمدة الكبير بأسواره المرتفعة كأنه قلعة حصينة.

هكذا يبدو لك المنظر من بعيد عندما تكون قادما من عاصمة المحافظة أو البندر أو مدينة كفر الشيخ، فإذا بلغت القرية وسرت في شوارعها واجهتك كلابها بالنباح، ولكنها لا تؤذي أبناء الحي، فهي تفرق جيدا بين العدو والصديق، فإذا توغلت في القرية أكثر سوف تلتقي بتجمعات الفلاحين عند بقالة عم عبد المجيد أبو شتيه وعم عبد الغفار بريدان وعم عوض عبد المجيد وعم أحمد شلبي وقد خرج الناس ومعظمهم يحمل الشاي والسكر والدخان، معظمهم لم يدفع نقودا، ولكنه يسحب على النوتة أو ما يسمونه "الشكك"، وهو دين يرد في مواسم المحاصيل الزراعية أو عند تحسن الأحوال.

ومن داخل المحلات يصل إليك هدير الضحكات العالية التي تعبر عن سعادة بلا حدود، وقد أنصت الجميع للمذياع الكبير الذي يعمل بالبطارية الكبيرة السائلة، بينما يذاع عليهم برنامج ساعة لقلبك الذي ينتظرونه بشغف دون غيره من البرامج الأخرى؛

وكثيرا ما يكون الاجتماع حول الأوبريتات التي أحبوها وحفظوها مثل أوبريت أدهم الشرقاوي بطل مقاومة الإنجليز المحتلين الذي كلمهم بكل لسان، ورفع شعاره التاريخي (ومنين يجينا النوم طول ما الخونة دول عايشين) مرزوق العتقي الذي حلت كل مشاكله وانتهى فقره بوقوعه على جزيرة في بحر الظلمات وقد عاد منها بالكنوز، وعلي بابا والأربعين حرامي الذين حاولوا قتله بالاختفاء في أربعين قدرة وفي كل قدرة حرامي وفي إيده خنجر حامي، وعواد الذي باع أرضه فهزأته القرية وزفه أطفالها وسفهاؤها بأغنية (عواد باع أرضه يا ولاد ... شوفوا طوله وعرضه يا ولاد ...) وتبرأ منه الجميع إلا أمه التي عملت بالليل والنهار حتى أعادتها إليه.

وعندما يقترب المساء يتوافد الناس على بيوتهم من الحقول ويعود المسافرون من البندر أو من العزب المجاورة، ومع العائدين من الحقول تعود المواشي والأغنام والخيول ليأوي كل إلى منامه أو حظيرته، وفي البيوت يجدون النساء قد أعدت مصابيح الكيروسين بأنواعها المختلفة ومنها المصابيح الأكثر إتقانا قد صنعت من الزجاج ولها شريط قطني معزول ومزود بجهاز لخفض الشريط ورفعه، وعلى النار زجاجة طويلة تنظم حركة الهواء ليكون الضوء نقيا وقليل الدخان؛

ومن هذا المصباح نمرة خمسة ونمرة عشرة ونمرة خمستاشر كما يسمونه في بلدنا وكل قرانا المصرية، فإذا انتهى الكلاف من ربط الحيوانات تحلق الناس حول ما رزقهم الله لوجبتهم الرئيسية في العشاء، وجل الناس يأكل أرزا وطبيخا وهم اسم عام لكل ما يصنعونه بالصلصة الحمراء والبصل المقلي في السمن (التقلية)، وأحيانا وعلى فترات أسبوعية يأكلون مع الطبيخ لحوم البقر والجاموس، وأحيانا الدجاج أو الإوز والبط.

ويأتي بعد ذلك شرب الشاي الذي يتعاطونه حتما بعد الأكل، فإن بقيت عندهم طاقة فبعضهم يسهر قليلا عند كبير الحي أو في جوار البقالين ليستمتعوا بسماع الراديو والأنس ينور "الكلوبات" الشديدة الإضاءة وسط ظلام الليل الدامس الذي يلف القرية وما حوت من بيوت وأبراج حمام.

وهكذا تدور عجلة الحياة في سلاسة ورتابة طوال الأسبوع، نهارهم في الحقول وليلهم في البيوت، حتى إذا كان يوم الجمعة غسلوا أطرافهم وتوجهوا لصلاة الجمعة في المسجد القديم ليقف بينهم الشيخ يقرأ خطبة الجمعة من كتابه الأصفر، وقد أمسك السيف الخشبي في يده ثم لا يلبث أن يدعو للسلطان العثماني وعساكره بالنصر والتأييد ليفيق الفلاحون من نومهم ويهبوا واقفين ليؤدوا ركعتي الجمعة وينصرفوا وقد أيقنوا أنهم أدوا ما فرضه الله عليهم من واجبات.

وإلى جوار هذه الصورة الهادئة المعالم الخلابة المنظر كانت قريتنا المصرية لا تخلو من المتاعب.

صراع العائلات:

فكم سمعت حكايات من كبار القوم عن هذه المعركة التي دارت بين عائلتنا وعائلة بريدان لمدة أربعين سنة؛ بسبب تعدي أحد أفراد العائلة الأخرى على قطيع الإوز المملوك لعائلتنا، مما ترتب عليه قتل (إوزة)، وظل القوم يتقاتلون لهذا السبب أربعين سنة في معركة تسمى عركة (الوزة).

فرق تسد:

كان من أسباب الخلاف بين الناس تلك الإشاعات التي يثيرها الإقطاعي الكبير بالقرية صاحب القصر الوحيد والدوار الكبير الذي يمتلئ بأعداد المواشي والأغنام والخدم والحشم. وكانت هذه الخلافات بين الناس تدفعهم للخصومة والتحاكم وما يجره ذلك من مصروفات باهظة يضطرون فيها لبيع ممتلكاتهم من أرض ومواشي؛ حيث يتقدم مثير الفتن ليشتري بأرخص الأسعار فيغتني ويفتقر الآخرون.

إقطاع وفقر:

هكذا تضخمت ثروات البعض وتدنت أحوال الكثيرين، فهذه أسر الفلاحين في أغلبيتها تتبلغ بالخبز الجاف وقليل من المش واللبن الرايب والسريس والجلوين.

وعلى النقيض من ذلك عدد من كبار القوم ينصرفون صباحا إلى البندر أو يرسلون أبناءهم فيعود من سافر محملا بأنواع من اللحم والفاكهة والحلوى وما لذ من الأطعمة الشهية والهدايا بعد ما يقضون يوما سعيدا في التنزه بين جنبات المدينة والتهام الجيلاتي والتمتع بعصير القصب المثلج، وعند مدخل القرية يجدون الكلافين وهم خدم المواشي ينتظرونهم ليحملوا ما أحضروه من أثقال ولفائف وأقفاص بينما السيد يسير أمامه متأبطا بالجرنال ولو كان لا يعرف القراءة.

وفي سراية الإقطاعي الكبير أو قل إقطاعي الإقطاعيين حيث يملك عشرة أضعاف ما يمتلكه أغنياء القرية أو يزيد، ترى في سرايته صورة لحياة الملوك بكل ما فيها من إبهارات وإمكانيات، وزوارة من عيه القوة يأتون وقت الغروب رجال ونساء متفرنجات يسهرون حتى مطلع الفجر وتصل رنات ضحكات النساء إلى كل مسامع الفلاحين فيسارعون إلى تسور الدوار ليختلسوا النظرات إلى نساء البندر والحسناوات، ورجال الترف وما كرسوه أمامهم من لحوم ومشروبات، ولم يكن غريبا زيارة مأمور المركز لهذه الحفلات ليشاركهم بعض الوقت ويخرج قافلا إلى المدينة بعد تشديد الحراسة على المكان بكل قوة الخفراء وشيخهم وهو ما يقطع أن شخصيات هامة للغاية تقضي ليلتها في قريتنا النائية بعيدا عن أعين الصحافة وأحقاد الطبقات الوسطى وما بها من مثقفين يطلبون الحرية والمساواة وينددون بفساد الطبقة الحاكمة.

الرجل الخامس:

وفي هذه القرية المصرية الجميلة المنظر الممتلئة بالعمل والمشقات والانفعالات كان مولدي 1951، وقد سبقني إلى الحياة سبعة أشقاء غير أن البنات في بلدنا في هذا الوقت لا يحسبون في التعداد، عادات جاهلية قديمة تطل برأسها في بلدنا بعد ألف عام أو يزيد من القضاء عليها ببعثة النبي، نعم كنت الخامس في الأولاد والسابع في الأشقاء، فقد سبقني للحياة أخواتي فوقية وهدية وإخواني عبد السلام وراجح ومحمد وعلي ومولودان لم تكتب لهما الحياة إلا شهور ثم عاش من الأشقاء الذين ولدوا بعدي حمدي وناصر ونادية والمولود الرابع عشر توفاه الله وهو صغير.

جدتي لأبي (الوتد):

في العقد السادس من عمرها تستقبل الصبيان بترحاب شديد، وتحب الأولاد بشغف، وترى فيهم مستقبلا مصانا بالعزوة والقوة، وما إن يولد الواحد منا حتى تدور حوله كالنحلة عناية ورعاية وغالبا ما تنتهي مهمة الأم فور الولادة كلنا يحبها ويلوذ بها ولا عجب أن يسارع قلمي بالكتابة عنها قبل أمي فهي التي تفتحت عيوننا على قسماتها الجميلة ووجهها السمح شاهق البياض والمحلى بالوشم الجميل الذي ينزل من شفتها السفلى مزينا كل ذقنها على شكل ورقة شجر خضراء، ومن أجمل ما فيها بعد رسمها اسمها، إنها الحاجة ... أكابر سلطان أبو حلوة.

وكم كانت تتفاخر بكونها ابنة سلطان أبو حلوة شيخ مشايخ عرب منطقته (برقامة) بمحافظة البحيرة، وزوجة الحاج عبد السلام المليجي بكفر الشيخ، وكانت رحمها الله تقوم على خدمتنا ليلا طويلا، فتحكي الحكايات وتهدهد حتى نخلد إلى نوم عميق، ونستيقظ في الصباح الباكر لنجدها على سجادة الصلاة تدعو لأبي وأولاده واحدا كل باسمه وكل واحد منا يكمن تحت الغطاء في انتظار ورود اسمه في الدور فيتهلل وجهه ونتبادل نظرات الفرح على ما تولينا جدتنا من عناية ورعاية.

كان نهارها سبحا طويلا من العمل الممتد بين رعاية قطيع الطيور الضخم من الأفراخ البياضة والكتاكيت الجميلة والبط البلدي والخضيري بألوانه الرائعة والأرانب وديوك الرومي مع عناية خاصة بعدد من ذكور البط والرومي إعدادا لوليمة قرب موعدها، فإذا حلت شهور الصيف أضيف لذلك قطيع من الإوز الذي يقضي معظم وقته سباحة في الترعة القريبة؛

ثم يعود قبيل الغروب حيث تقوم بمراجعة أعداده وما كان لها أن تنام إن غابت إوزة كبيرة أو صغيرة إلا أن تبعث الكلافين ليقلبوا القرية رأسا على عقب حتى تحضرها، ولم يكن لها قدرة على صعود طوابق أبراج الحمام، فكانت تستعين بشقيقتي هدية في العاشرة من عمرها فيما يتعلق بأمر الأبراج، وهي واقفة على رأسها حتى تتم كافة أعمال البرج من نظافة ورعاية لأفراخ الحمام الصغيرة ...

وكم كانت مهمة صناعة الألبان تأخذ من وقتها فهي تشرف على حلب اللبن من الجواميس بواسطة الشغالة مرتين في اليوم تماما وقت بزوغ الشمس من كل يوم، ووقت الغروب عند عودة الجواميس من الحقل؛

ثم تبدأ مسيرة الألبان من تخزين الجديد وفحص الآنية المرتبة بدقة بعد تعقيمها في الفرن حصيلة كل يوم بعد الذي يليه في مكان خاص بذلك ومهيأ لتخمير اللبن (حاصل اللبن)، حيث يتحول إلى اللبن الرايب وعلى سطحه طبقة سميكة من القشدة ناصعة البياض فتجمعها وتخضها لاستخراج الزبدة، وتضع بعض اللبن الرايب في الحصيرة المخصصة لصناعة الجبن، وقسم منه يدخل في غذاء البيت والباقي وهو القسم الأكبر يدخل في غذاء قطيع الطيور المختلفة.

الفارس المثقف:

هذه صورته لا تفارق مخيلتي، فارس على صهوة فرسه الأبيض، كنت رديفه في رحلاته يغدو بها ويروح في تواضع جم وخطوات متحسبة طالما كان السير في شوارع القرية فإذا كان خارجها على الطريق المؤدي لحقولنا زاد سرعته حتى درجة العدو، فإذا بلغ المكان المقصود هم الرعاة إليه فسلمهم لجام فرسه ليربطوه في شجرة الصفصاف بجوار الساقية وانصرف مع بقية الفلاحين ليتفقد الزراعات؛

ويشير لهم بما هو لازم للحقل من رعاية، وكثيرا ما يستمر ذلك حتى وقت الظهيرة، فإذا حضر الغذاء تركهم لذلك وذهب يعتني بفرسه حتى ينتهوا فيجلس ليتناول معهم الشاي، فإذا انتهوا بدأوا أعمالهم وعاد هو قافلا إلى البيت، وقد أدى مهمته نصف الأسبوعية.

كان حريصا على ساعة ينامها في وقت الظهيرة فهي تعينه على سهر الليل مع الفلاحين الذين يتجمعون عنده كل ليلة لرسم خطة الغد وإتماما حسابات الأمس، وقد خصص لكل فلاح صفحات في الدفتر الكبير، فلا تفلت شاردة ولا واردة من التسجيل سحبا وإيداعا حتى إذا جاء وقت الحصاد وجمع المحصول ارتفعت أصوات الفلاحين ينكرون ما عليهم من مديونيات، فيقوم إلى دفتره ويفتح الصفحة ويجهد نفسه في تذكيرهم مقدما الأمارات الدالة والقرائن الواضحة حتى يقتنعوا، ومع ذلك لم يكن ينصرف أحدهم إلا وهو راض وسعيد، ولماذا لا يرضى وهو آمن تماما على نفسه وأولاده وبيته ويأخذ ما يطلب من قوت وملبس ومسكن، وعنده بقرة حلوب ورصيد من القمح والذرة والشعير والفول والتبن المخصص لمواشيه؛

فإذا حل العيد ذهبوا جميعا إلى البندر لشراء لوازم العيد من ملبس وحلوى وتمر وزبيب وخروب وحلوى عفش الجناين (الفوندام) وكل لوازم الكعك والبسكويت من فانيليا ورائحة الموز وملبن الحشو، أيام جميلة هادئة، ليت الزمان توقف بنا في هذه الواحة الجميلة، ولكن هيهات فمن كتبت عيه خطا مشاها، وعجلة الأيام لا بد لها من الدوران حتى يتجرع كل إنسان كأس الحياة بحلوها ومرها ويجني وردها ويشاك يشوكها.

الإصلاح الزراعي:

ما أن صدرت قوانين الإصلاح الزراعي حتى تغيرت نفوس الفلاحين، وشعروا أن الحكومة اليوم معهم، وتغيرت لغة الحوار بينهم وبين أبي ولو من باب الدعابة، كان أحدهم إذا غضب يرفع صوته في وجه أبي قائلا (إحنا في عهد عبد الناصر)، واللي ما لوش أهل الحكومة أهله)، أما أبي فقد كان من الذين فرحوا بقوانين الإصلاح الزراعي الجديد، فه يملك من الأرض في حدود المقرر (54 فدان) ولم تصادر منه، والإقطاعي الذي أضير من القوانين كان من أعدائه على طول الخط، وخالنا الحاج عبد الحميد غازي صار أمين الفلاحين في مجلس الأمة؛

ومكتب التعاونيات آل إلى كنفنا وتولاه أبي بالكامل بعد أن تلقى ثلاث دورات تدريبية بالقاهرة والإسكندرية على نظرية التعاونيات وفوائدها، وتولى أبي تأسيس أول جمعية زراعية تعاونية بالتعاون مع بنك التسليف الزراعي، وكانت تلك أسباب كافية لعدم وجود صراع بين عائلتنا والثورة الجديدة.

هكذا كانت تمضي أيام أبي وأنا طفل أرقب الحياة من حولي في أيام عمري الأولى، ولم يكن يفوته قبل النوم أن يفرد ذراعيه وهو مستلق على ظهره في سريره النحاسي الجميل فأنام على ذراع وينام شقيقي الذي يكبرني على الذراع الآخر، ويشرع أبي في حكايات جميلة منتقاة حتى نخلد إلى النوم فيحملنا إلى حيث ننام كل يوم، ويعود هو إلى حجرته ليشرع في نومه، وقد انتهت أمي من كل متعلقات العشاء وتهيأت لتلحق به في حجرة النوم.

وكم أثرت حكايات أبي في نفسي، وعشت حتى اليوم أذكرها ولا أحسب أنها تنسى.

كيف تصطاد الأسد:

كان أبي يدربنا على الشجاعة وينزع فتيل الخوف من نفوسنا، فليس هناك أقوى من الأسد ولا أشجع منه، وهو ملك الغابة، ولكنك بعقلك تستطيع اصطياده، ولكن كيف؟

يروي لنا أبي: "هناك سلاح مخصوص لاصطياد الأسود، ولكن لا يستخدمه إلا الرجل الشجاع جدا الذي لا يخاف من الأسد، والسلاح المخصص لذلك هو عبارة عن سكينة لها نصلين ويد واحد في المنتصف، ويصفها لنا بالتمثيل ويمسكها الشجاع، فيكون هناك نصل أعلى يده ونصل أسفل يده، ويتوجه الشجاع للغابة حيث يوجد الأسد ويستثيره بحركات يده؛

فإذا زأر الأسد يزأر الشجاع كذلك، فإذا هجم الأسد يهجم الشجاع ويقدم يده بسرعة في وجه الأسد وبها السكين، فيسارع الأسد بالتهام يده ويفتح فاه الكبير ليقضمها ولكن السكين المزدوجة يدخل نصلها في فكه العلوي وفكه السفلي فيصرخ من الألم، ويخر طائعا للشجاع فيسحبه إلى حيث يقيده بالحبال ويقلم أظافره ويكسر أنيابه، ويستخدمه في الركوب والعمل ...".

قد يرى الكبار في ذلك حكايات خرافية ولكننا في سن الصغر لم نكن نحسبها كذلك، ولعلها أفضل كثيرا من حكايات توم وجيري الأمريكية الصنع.

وجائزة على التقدم في دروس الشجاعة: سمعني أبي وهو في ساعة القيلولة في حجرة نومه أنشد بيتا لعنترة بن شداد يقول فيه:

حصاني كان دلال المنايا .... فخاض غمارها وشرى وباعا وسيفي كان في الهجيا طبيبا ... يداوي رأس من يشكو الصداعا

فهب من نومه وخرج من حجرته وفاجأني بحضوره أمامي وسألني: من علمك هذا الشعر؟ فقلت: الشيخ في الكتاب النهارده. فقال: أنا مبسوط منك ولك هذه الجائزة وأعطاني نصف فرنك (عملة فضية مسدسة الشكل قيمتها قرشين تكفي لشراء زجاجة مياه غازية ويبقى ربعها تعريفة).

عزوتنا علم ورجال:

في هذه الحقبة الأولى من حياتي حقبة الخمسينيات من القرن الماضي لم تكن رغبة الدراسة المنتظمة والمدارس لها وجود يذكر في قريتنا، فالناس هنا معظمهم يعمل في الزراعة أو بالنظارة على الفلاحين والأرض توفر لهم جميعا كأجراء وملاك كافة احتياجاتهم المعيشية وبوفرة مرضية لهم ...

وكان يمكن أن يكون مصيرنا إلى رعاية الأرض بعد الشهادة الابتدائية، ولكن أبي كانت له رغبة في أن يكون أولاده من الطبقة المتعلمة، ولعل أبي كان يعوض فينا ما فاته من الدرجات العلمية وهو الذي اضطرته ظروف وفاة والده وهو صغير أن يترك الأزهر قبيل الثانوية الأزهرية ويتفرغ لرعاية أملاكه التي ورثها من الأرض الزراعية، أصر والدي على أن يدفع بنا إلى صفوف الدراسة وكان ذلك صعبا؛

فلم يكن في قريتنا غير المدرسة الابتدائية بينما الإعدادية والثانوية كانت في بلاد بعيدة عن قريتنا مسافة يصعب الوصول إليها، وترتب على ذلك انتقالنا إلى تلك البلاد للإقامة فيها ويعني ذلك فتح بيوت جديدة ومصروفات وانشغالات للأسرة بأولادها الذين تغربوا في سن مبكرة؛

ومع ذلك فقد كان أبي يرفع شعارا للمرحلة يرضي به الجميع، فقد كانت عائلة المليجي ترى في الرجال عزوة وقوة، وكان أبي يرى في العلم سلاحا وحصنا حصينا لسعادته في الدنيا والآخرة، وكثيرا ما أجهد نفسه لإقناع الناس بتعليم أبنائهم وهو يقول: (فلتكن) "العزوة علم ورجال"، ولم يحرم البنات من التعليم كلية وإن اضطرته الظروف أن يوقفه عند المرحلة الابتدائية لصعوبة تغرب البنات أو استحالته في تلك الأيام.

كانت مصر في تلك الأيام الخوالي تبدأ نهضة تعليمية شاملة مواكبة لطبيعة القائمين بالثورة العسكرية عام 1952، فقد كان معظمهم من أبناء الطبقة المعدومة أو المتوسطة، وقد حصلوا على مؤهلاتهم بشيء من الصعوبة، ولذلك رأوا في التعليم مساواة لهم مع أبناء الطبقة الغنية الإقطاعية، ودفعهم ذلك لاعتبار التعليم أداة لإكثار نوعهم في مجالات العمل المختلفة، ومصدرا للأنصار الجدد ووسيلة لغرس مبادئهم في عقول المتعلمين، ونشطت عملية الحث على التعليم ومعها نشطت حركة بناء المدارس الابتدائية والإعدادية في القرى ذات العدد الكبير نسبيا، ولست بناس كيف كنا نخرج من قريتنا جماعات من الأولاد متجهين إلى مدارسنا في الصباح الباكر، فمنا الماشي ومنا الراكب حمارا ومنا الصغير الذي خرج معهم مرافق من أهله فيتجه بعضنا إلى مدرسة القرية، وأما الكبار فكانوا يتجهون إلى أقرب مدينة لنا وهي مدينة كفر الشيخ ليلتحقوا بالمدارس الإعدادية والثانوية.

أمي:

كانت الزوجة الصالحة التي رسم صورتها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أقسم عليها أبرته، وإذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه"، لا أنسى كيف كانت أمي تستقبل أبي من سفره مرحبة فرحة وتقبل يده بعد مصافحته، صورة غابت اليوم في مصرنا إلا من رحم، ولم يكن أبي بأقل منها تعلقا بها واحتراما لها وغيرة عليها.

لم تكن أمي تفارق بيتها إلا لضرورة قصوى، والضرورات في بلدنا لخروج السيدات محدودة كذلك، ولا تعدو زيارة الأم لابنتها المتزوجة مرتين أو ثلاثة في العام، وتقديم العزاء والتهنئة، وإذا حل مرض شديد يوجب العرض على الطبيب ولا شيء بعد ذلك تقريبا يوجب خروج المرأة من بيتها؛

وفي بلادنا لخروج العفيفات إلى الطريق طقوس وتقاليد مرعية، فملابس الخروج ساترة سترا كاملا وأحيانا يغطون بشاشة خفيفة، وألوان الملابس سوداء أو لون قريب من ذلك، الخروج غالبا في ظلام الليل، وتخرج الأم ومعها مرافقين من أبنائها، يشكلون لها موكبا مهابا، فأحدنا يمسك "بالكشاف" يضيئ الطريق وأحدنا تتوكأ عليه وثالثنا خلفنا يحرس ويبعد الكلام النابحة على المارة إذ تصادف المرور بها، فإن كان الخروج سفرا وإلى المدينة للعلاج في العادة فالجميع في سيارة خاصة ذهابا وإيابا، ونساء البيوت المحترمة لا يركبن المواصلات العامة، وهكذا ظلت أمي في بيتها طيلة حياتها، وما تزال على هذا المنوال حتى وفاتها.

وكم جلس أبي يقص علينا كيف تعب في البحث عن زوجة له وهو شاب حتى إذا حفيت قدماه دله قريب له على رجل صالح اسمه الحاج محمد صالح غازي بقرية المنشاة الصغرى بمركز قلين المجاور لمركز كفر الشيخ يجد عروسه التي يبحث عنها، وكانت تصغر أبي وقتها بسنة كاملة، فكان هو في الخامسة عشر وهي في الرابعة عشر، وظلت أمي حتى قبل وفاة أبي بأيام تقول له: "يا راجل يا عجوز أنت أكبر مني" مداعبة له ومتمسكة بهذا الفارق الزمني الضئيل في مصلحتها.

وعلى تطاول الأيام ومرورها لا أذكر شجارا لأبي مع أمي، ولم يكن هناك من ينادي بما يسمى حقوق المرأة، وكذلك لم تكن هناك حقوق متنازع عليها بين الآباء والأمهات من الأصل.

ومنذ عام 1934 تاريخ زواج أبي وأمي، أنجبت أمي أربعة عشر مولودا، عاش منهم اثني عشر، وتوفي أحدهم في السنة الأولى وآخر في السنة الرابعة، وتلك صورة مكررة في بلادنا المصرية وليست فريدة أو نادرة في هذا الجيل القديم الذي نظر إلى الإنجاب والرعاية للأبناء على أنه مهمة مقدسة، ولم يكن في مصرنا من يفكر لنفسه وفي نفسه فقط حتى يقول أكتفي بعدد كذا وكذا من الولد لأحيا حياة سعيدة، ولم يدر بخلد أحد قط أن الأولاد وفلذات الأكباد يمثلون مصدر تعاسة وشقاء.

عائلات مترامية الأطراف:

كالأوتاد التي تثبت الخيمة أو كالجبال التي تثبت الكرة الأرضية كانت العائلات المصرية، والعائلات في بلادنا أقوى من الشركات متعددة الجنسيات فكم كان للعائلات من احترام ومهابة وعلاقات وعهود وأحيانا صراعات وقتال؛

ولكن العائلات كانت طابعا اجتماعيا أصيلا وعرفا إنسانيا راسخا، هذه عائلة المليجي عائلتنا تترامى أطرافها، فتشمل تجمعات إنسانية في محافظات أخرى هي الجيزة والمنوفية وكفر الشيخ والمنيا والشرقية ودمياط، وما زلت أكتشف امتدادات لها حتى اليوم.

زيارة لجدي وجدتي لأمي:

يكاد القلب يقفز من الفرح فالليلة نذهب لزيارة جدي لأمي ذلك الرجل الصالح المسمى الحاج محمد صالح غازي بالمنشأة الصغرى ومصدر سعادتي يكمن في جمال الطريق الخلاب المزدان بأشجار الكافور والجازوارين، وما تضيفه على الطريق من ظلال وارفة، وما تلقيه على المكان من جمال وروعة، وما يتهادى عليها من طيور، فإذا كان الليل فإن متعة متابعة الطريق المضاء بمصابيح السيارة مسلية ومبهرة لمثل هذا السن.

وفي بيت جدي نلقى تحارب وعواطف وحميمية منقطعة النظير، فهذه أمي تسارع إلى أمها بالأحضان، وهذا خالي مصطفى يعود مسرعا من وابور الطحين الذي تملكه العائلة فيغير ملابس العمل ويرتدي ملابس الاستقبال ويدخل علينا باشا كعادته ويتوالى وصول الأهل جميعا أخوالي محمد وخليل وعبد الرحمن والسيد وزينب ونفيسة ونجتمع جميعا نحن وهم والكثير من أقربائهم، فهذا يقبلني وذاك يدفع في يدي ورقة مالية وذاك يدفع الحلوى في يدي، حتى إذا ذهب بعض الوقت دعانا جدي لتناول الطعام في الحجرة الأخرى، فإذا بسفرة هائلة عليها أنواع اللحم والدجاج والبط المحمر والشوربة الساخنة والمكرونة التي أحبها كثيرا على بساطتها ويتبع ذلك تقديم الفاكهة حسب الموسم.

فإذا جاء وقت الرحيل تعلقت بأبي راجيا أن يتركني عند جدي ليوم أو يومين، فقد كان بيته محببا إلى نفسي كثيرا، وكان جدي جميل الطلعة باسم الوجه خفيض الصوت دائم الحرص على وضوئه وفي كفه أثر من رطوبة الماء وفي وجهه نور الوضوء والصلاة، ولكن أبي لم يكن يوافق على ذلك لصعوبة السفر لإعادتي.

صيد الذئاب:

ما أروعه من منظر ذلك الذي أستمتع به عندما نعود قافلين ليلا وكشافات السيارة تقلب صفحات الجمال أمام عيني، أشجار مرتفعة وزراعات متنوعة من القطن والأرز والذرة وغيرها ... وترع ومصارف تمر كشريف السينما متسارعة بسرعة السيارة.

وفجأة يظهر وسط الحقول على بعد عشرين مترا تقريبا بريق عينيه تلمع كأنها الماس أو الفضة تحت وقع نور السيارة، فإذا بأبي يأمر السائق بالتوقف والعودة للخلف قليلا للبحث بالضوء عن عيونه مرة أخرى، فإذا برقت أمره بضبط نفسه على هذا الوضع، ويخرج أبي بندقيته من نافذة السيارة ويعدل من موضعه حتى يضبط التصويب بين العينين تماما ويضرب، فإذا بصرخة الذئب تملأ الآفاق، ثم يسقط مقتولا، ويهبط أبي من السيارة ومعه السائق وكشاف بالبطارية ويتابع الذئب المقتول حتى يصل إليه فيجزون رأسه بالسكين ويأتون بها لاستخدامها في تخويف البوم التي تهاجم أبراج الحمام كما كانت عقيدة الناس في بلادنا ...

تلك صورة لا أنساها وأحداث لها مكان في العقل والقلب لا تمحيه أحداث الأيام وإن عظمت فكما يقول المثل: "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر".

وكان للذئاب في محافظتنا شأن وقصص في الخمسينيات من القرن الماضي لكونها محافظة شبه خالية في نصفها الشمالي، يملؤها السبخ والطين أو تغطيها مساحات من المستنقعات التي يملؤها نبات البردي ونبات الغاب (البوص) والتي تعتبر ملاذا آمنا لمثل الذئاب والثعالب والقطط البرية، وكثيرا ما كانت هذه الحيوانات تهاجم الناس وما يملكون من مواشي وطيور.

المولد والسباق:

منذ ثلاثة أيام ووالدي وشقيقي الأكبر عبد السلام طالب الثانوية العامة ومعهم عدد من العمال يعملون بجد ويصلون الليل بالنهار للاستعداد للبطولة القادمة، فقد حان موعد المولد (مولد سيدي طلحة المدفون بكفر الشيخ)، مهرتنا البيضاء (نعناعة) بطلة السباق منذ ثلاث سنين، والمحافظة على مستواها يتطلب جهدا في الإعداد، الفرس تغسل وتنظف بالماء والصابون والفرشاة الخاصة ثم يمشط لها شعرها بمشط حديدي خاص حتى يبدو جسمها لامعا جذابا، ويقدم لها علف خاص مشكل من القمح والشعير وقليل من سكر النبات وأما بقية السكر المقرر لها فيقدمه تارة أبي وتارة لقما في فمها، فتهز ذيلها وترفع رأسها شكرا لمن فعل.

وهناك في المولد المنصوب يقضي الناس بعض أوقاتهم في أكل وشرب وكلام حتى إذا جاء وقت العصر نصبوا حلبة سباق الخيل وعلا غبار السباق، وأصوات الخيل وحميت المنافسة بين الخيول وما حملت من الفرسان.

وفي المساء يسهر الناس بالسرادقات التي تتنافس على جذب الزائرين بما تعرضه من غناوي وموواويل لمطربين ومطربات مشهورين في بلادنا وما حولها من النجوع والقرى.

الملاليم الطاهرة:

عملة منقرضة كانت جل أمل الصغار في الخمسينيات من القرن الماضي والمليم وهو جزء من عشرة أجزاء من القرش الذي كان يكتب عليه عشر مليمات مصرية، وبهذا المليم نشتري حلوى أو حزمة جرجير أو فجل كما قال بيرم التونسي مقاوما فرض الضرائب على الفقراء:

يا بائع الفجل بالمليم واحدة .... كم للعيال وكم للمجلس البلدي؟

وكم سعينا صغارا لامتلاك الملاليم وتجميدها في قروش وخمسات وعشرات القروش الورقية توطئة للدخول في مشروعات استثمارية كبيرة من نوع المشاركة في عنزة وأحيانا بطة أو إوزة مقبلة على موسم البيض والأفراخ، ولم يكن الحصول على هذه الثروة من القروش بالسهل أو اليسير فمن أراد لنفسه ثروة هائلة من هذا النوع فدونه الأعمال الصعبة في الأجازة الصيفية؛

وكم عملت (خولي) على أنفار الدودة أي مشرفا على الصغار الذين يعملون في مقاومة دودة القطن بقطع الورقات التي تحمل بيضها من على أشجار القطن ولفترات تمتد لشهرين أو ثلاثة فإذا أثمر القطن وجنى الفلاحون القطن يمكن لأحدنا أن يعمل في جمع المخلفات بأرض المحصول ليجمع وزنا قليلا من القطن ويبيعها لنفسه في السوق بهدف الحصول على قروش خاصة يبدأ بها مشروعات اقتصادية من نوع العنزة والبطة وما في مستواها، وهكذا يتعود الصغار بالقرية على التعب والكد كطريق للملكية الخاصة تحت رعاية الآباء وأحيانا إعانتهم بدفع الفارق المتبقي لاكتمال مشروعات الأولاد الصغيرة والكبيرة في عيونهم.

الكتاتيب:

هي المدارس ذات الفصل الواحد التي كانت لا تخلو منها قرية مصرية وعلى بساطتها وخلوها تقريبا من كل مظاهر الزينة فقد كانت مجدية في غرس كثير من القيم العليا في نفوس روادها. وفي هذه الكتاتيب المفروشة بالحصير والتي تدار بمدرس واحد هو سيدنا الشيخ المحفظ والمعلم والمربي تعلم الكثيرون من أبناء هذا الوطن وقياداته فيما بعد الحساب والإملاء والقرآن والسنة والأخلاق الفاضلة.

كان شيخنا محمد زرير يعلم أولاد القرية مقابل قروش معدودة في الشهر أو عدد من أرغفة الخبز وقطع الجبن من أولاد الفقراء، وفي الكتاب يتم كل شيء بالتلقين المباشر بصوت الشيخ حتى إذا تعود الطفل يمكن أن يعمل معه من يكبره سنا ويسبقه حفظا في المراجعات والواجبات.

ألواح الإردواز أو الألواح الخشبية والأقلام المصنوعة من البوص والحبر المصنوع من الهباب الأسود وقطعة من القماش القديم هي كل ما يلزم المتعلمين من وسائل ولا حاجة لملبس خاص أو لون مميز ولكن المهم هو ستر العورة حسب القدرة والاستطاعة ببدلة أو جلباب أو حتى بيجامة.

فإذا جاء وقت الظهر تدافع الأولاد على مكان أعد للوضوء وصلى بهم الشيخ جماعة وأحيانا يؤمنا فتى متقدما لتدريبه على الإمامة فقد حفظ من القرآن ما يؤهله لذلك. فإذا انقضت الأجازة الصيفية انصرف معظمنا إلى مدرسته وبقي القليل جدا مواصلا دراسته بالكتاب إلى جوار المدرسة.

يا عزيز يا عزيز كبة تاخد الإنجليز:

هكذا خرج أطفال القرية يدقون على صفائح فارغة ويرفعون أصواتهم ناظرين إلى السماء كلما سمعوا أزيز الطائرات العابرة على بلادنا إبان العدوان الثلاثي عام 1956، وكلنا يردد هذه الأرجوزة خلف كبير منا يقودنا في نشاط وحماسة لنطوف بشوارع القرية داعين الله أن يصب جام غضبه على الإنجليز الأعداء، صائحين يا عزيز يا عزيز كبة تاخد الإنجليز (أي مصيبة تقع بهم).

وعندما عدت إلى البيت وجدت أشقائي الأكبر مني قد عادوا سعداء من المدرسة لأنهم أخذوا أجازة لأجل غير مسمى حتى تنتهي الحرب التي أشعلتها ثلاث دول أوروبية هي إنجلترا وفرنسا والصهاينة المحتلين لفلسطين منذ العشرينات من هذا القرن.

لم يكن يشغلني الأمر كثيرا في هذه السن ولكنني فرحت كثيرا بعودة إخوتي من المدرسة لنقض معا وقتا ممتعا في مطاردة الطائرات بالهتافات ولعب الكرة الشراب في جرن القرية.

مدرستنا الابتدائية:

هناك في وسط الحقول الخضراء بنى أحد الإقطاعيين قصره وسط أرضه الخصبة وعاش ينعم بحياة رغدة حتى قامت الثورة فكان ممن ابتلاهم الله بصدور قرارات الاستيلاء على معظم ممتلكاته ومنها هذا القصر الجميل ليتحول قصره إلى مدرسة ابتدائية لقريتنا والعزب المجاورة لها.

ومن العجيب أن المدرسة كان يطلق عليها اسم صاحب القصر "مدرسة عوض أيوب"، وكأن اله أراد له أن يستفيد من ممتلكاته ولو بتخليد الذكرى.

في تلك المدرسة الفخمة تعرضت لنسمات العلم الأولى وما زلت أذكر الكثيرين من زملائي وزميلاتي وألتقي بهم في الحياة العامة وكذلك ناظر المدرسة الأستاذ خضر جنيدي من بلدة ميت الديبة مركز قلين ومن نفس قريته مدرس التربية الفنية الأستاذ: حلمي راجح، وحامد مدرس الفصل، والأستاذ توفيق من بلدة شابة التي تبعد عن المدرسة مسافة 5 كم، كان يقطعها يوميا على دراجته؛

وكذلك الأستاذ: صلاح جامع وكمال وعبد الرحمن وآخرين تاهت مع الأيام حروف أسمائهم، ولكن بصمات تلك المرحلة باقية على مخيلتي شاخصة في خيالي أستفيد بها كثيرا في فهم تصرفات أولادي في هذه السن وأذكر من المواقف العملية ما يمثل مواقف تربوية راقية تؤكد على أثر القدوة في حياة الإنسان.

أيام خالدة في أبو عجيلة:

كثيرين من أبناء هذا الجيل في بلادنا لا يعرفون "أبو عجيلة" وما يدريهم بأبو عجيلة إنها نقطة على حدود مصر وفلسطين دارت فيها معاركة حامية الوطيس إبان العدوان الثلاثي الصهيوني – الإنجليزي – الفرنسي المشترك على مصر عام 1956 في 26 سبتمبر وقد اختارت وزارة التربية والتعليم هذه الملاحم الجهادية لتقديم قصتها لنا بالسنة الأولى الإعدادية، وكم كان مفيدا للطلبة في هذه السن أن تمتلئ نفوسهم حماسة ووطنية وحبا لمصر وكرها لأعداء العروبة والإسلام الصهاينة والإنجليز والفرنسيين الذين حاربونا في أبو عجيلة وكل سيناء ومدن قناة السويس.

وعندما كنت أقف في الفصل أطالع القصة بين يدي المدرس كنت أشعر وكأنني في ميدان المعركة أتحرك مع الجنود ويظهر ذلك على نبرة صوتي وحركات يدي، وإذ بالمدرس يبتسم سعيدا بما أصنع ويشكرني في النهاية على حسن إلقائي.

كاد المعلم أن يكون رسولا:

ولكن يكن الأمر موقوفا على مجرد منهج دراسي محترم وفعال في إيجاد المواطن المزود بجملة من القيم النبيلة ولكن الأهم من ذلك القدوة الصالحة التي تتمثل في إدارة المدرسة.

فهذا ناظر المدرسة الأستاذ: سعيد الديب في الخمسين من عمره ما تزال صورته ماثلة أمامي وهو يقطع الممر الطويل الكائن أمام الفصول ليتأكد بنفسه من سير الدراسة واستتباب النظام العام والهدوء التام، وأحيانا يستأذن من مدرسة الفصل ويدخل ونقوم له تحية وإكبارا، ويشرع في تقديم النصائح الأبوية والتربوية لنا أو يحدثنا عن شأن من شئون المدرسة ثم يحينا وينصرف.

وأما أستاذ التربية البدنية فكان كتلة من العضلات وشعلة من النشاط وفي "حوش" المدرسة توجد ألعاب الكرة الطائرة، وكرة الباسكت (السلة) وتنس الطاولة ومعدات الجمباز الحصان والمتوازي والعقلة مع إمكانية لعب كرة القدم والبنج بونج (تنس الطاولة) ... إلخ.

هكذا كانت المدرسة الإعدادية مزودة بكل وسائل الرياضة المطلوبة لبناء الجسم السليم فإذا كانت حصة التربية البدنية مارسنا رياضات الإحماء، ثم يقسمنا المدرس مجموعات حسب استعدادنا لتمارس كل مجموعات الرياضة المحببة إليها، وكان ذلك يمتد حتى في الأجازة الصيفية فكانت المدرسة تفتح أبوابها للراغبين في الرياضة من طلابها عصرا ومساء، وفي مدرسة كفر الشيخ الإعدادية في هذا الوقت يتوفر قسم للعلوم الزراعية يتكون من مزرعة جميلة بها صوبة زجاجية وأخرى للظل (خشبية) ومنحل ومعمل للصناعات الغذائية وكانت أجمل أوقاتنا في هذا المرزعة الجميلة الظليلة الأخاذة.

هكذا مضت أيامنا الأولى بالمدرسة الإعدادية بين مدرسة أحبها ومسكن بسيط ألجأ إليه وقت نومي واستذكار دروسي، فإذا كانت الأجازة انصرفنا إلى هواياتنا الخاصة بين رياضة كرة القدم ورسم اللوحات الزيتية والعناية بحديقة المنزل والنزهة بين الحقول وصيد السمك بالصنارة ..

أول مرة أسمع عن الإخوان:

في غضون صيف عام 1963 زارنا الدكتور عبد الله رشوان المحامي لعلاقة قرابة بيننا وبينه عن طريق جدتي لأبي، وكان عيدا بالقرية حيث أقمنا له الولائم ودعونا الأقارب ليكونوا في استقباله وأفهمني أبي أنه شخصية هامة جدا في مصر (القاهرة)، وأفهمني أبي بصوت منخفض أنه من الإخوان المسلمين، وكان من حسن تصرف الدكتور عبد الله رشوان زيارته لعائلة بريدان المتخاصمة مع عائلتنا (الملايجة) ومحاولته الإصلاح بين العائلتين، وأذكر أننا أقمنا في المساء حفلا تباري فيه الشباب لتقديم الشعر والنثر ترحيبا بالدكتور عبد الله رشوان

وبالمناسبة فإن د. عبد الله رشوان هو صاحب أطول دفاع عن الحركة الإسلامية قدمه في قضية الفنية العسكرية ويعتبر من الرعيل الأول لجماعة الإخوان ومن المقربين لقلب وعقل الأستاذ عمر التلمساني وهو اليوم يقيم بمدينة نصر بشارع محمود طلعت متفرغا للكتابة ورعاية الأحفاد.

الغربة الثانية:

في صيف عام 1966 استقر المقام بأخي محمد في الإسكندرية طالبا بكلية الزراعة ورأى والدي أن يجمع شتات أولاده بقدر ما تسمح به الظروف، وفي هذا الوقت كان شقيقي عبد السلام في المدرسة الثانوية بطنطا وكان شقيقي راجح بكلية الشرطة بالعباسية بالقاهرة؛

وكنت أنا في مدينة كفر الشيخ بالمدرسة الإعدادية، ولم يكن قابلا للحركة على طاولة الشطرنج أمام أبي إلا هذا الجندي الصغير بالمدرسة الإعدادية بكفر الشيخ، وبالفعل وبعد مجهود مشكور من الوالد والأشقاء نقلت إلى مدرسة أمير البحر الإعدادية بالإسكندرية بمنطقة محرم بك لأكون برفقة شقيقي محمد بكلية الزراعة بالإسكندرية.

وأقمت معه بشقة مفروشة بالدور الرابع بالمنزل رقم 96 ش تانيس بالإبراهيمية وعلى مسافة 200 متر من البحر على وجه التقريب وفي هذه البيئة الجديدة ابتسمت لي الحياة بصدق يناسب سني وتطلعاتي، واستفدت من إقامتي مع من هم أكبر مني ولكثرة علاقتي بأصدقاء أخي وبقية الطلاب الجامعيين بالشقة كأني دخلت الجامعة في سن مبكرة، وزاد على ذلك أن شقيقي كان في بعض الأيام يصحبني لتناول طعام الغذاء في معظم المدينة الجامعية، وكانت الصحبة بالشقة خليط من الطلاب العرب والمصريين؛

فهذا محمد الجرف الفلسطيني شاب جاد ومهذب من غزة يدرس بالآداب ومحمد الأردني يدرس بالحقوق وقليل الكلام وكثير التدخين والثالث أحمد السعدني الدمياطي والرابع هو عبد الرازق الشبراوي طالب الزراعة أيضا من أبناء كفر البطيخ بدمياط، والخامس والسادس أنا وأخي محمد الطالب بكلية الزراعة بالإسكندرية، وكان يقضي جل وقته بالكلية ولا يعود إلا متأخرا، كما كان له نشاط ثقافي في مجال الرسم والكاريكاتير، يشغل به بعض وقته ويعبر عن أفكاره التي كانت متعلقة في معظمها بالجامعة وأعضاء هيئة التدريس والطلاب.

كانت أيامي في الإسكندرية سهلة وممتعة وكنت مسرورا بنقلتي الجديدة إلى مدينة هادئة ونظيفة في هذا الوقت من الستينات وتكاد ترتدي أجمل أثوابها في فصل الشتاء حيث ينزل المطر الغزير كل يوم مرة أو مرتين ويجففها الهواء المنطلق والمتدفق عليها من الشوارع المطلة على البحر ومنها شارعنا.

لقد كانت الحياة بالإسكندرية كلها سعادة وهناء دراسيا ومعيشيا ولم أشعر يوما أنني أحتاج لشيء ولم أحصل عليه.

حرب 1967:

طالعنا في الصحف نبأ الحرب والتحرشات العسكرية الجارية في سيناء، قيل عودتنا إلى القرية كالعادة كل صيف ونحن في موسم الامتحانات ومشغولون بها تماما وفي ذاكرتي اليوم صور الطيارين المصريين في قاعدة جوية متقدمة والرئيس عبد الناصر يخطب فيهم، كانوا بملابس القتال وقمة الاستعداد، ومضى شهر مايو ومضت معه الامتحانات وعدنا للقرية حيث لا جرائد ولا تلفاز وتابعنا كل شيء عن طريق الراديو وبيانات أحمد سعيد التي بشرتنا بالنصر المبين؛

وكان أبي في خلسة يسمع وحده إذاعة صوت إسرائيل وكنا نرى في وجهه حزنا غير مبرر ولم يقل لنا حقيقة الموقف ودخل في نوبة صمت حزين وكئيب لم يكن له من وجهة نظرنا مبرر غير كونه يخفي علينا أخبار الهزيمة، وفي يوم 9 يونيو عرفنا الحقيقة المرة ثم انصرفنا لنشاطنا الصيفي المعتاد بالقرية، كرة القدم عصرا حتى المغرب وفي الصباح في المرسم مع اللوحات والألوان وأحيانا بين حقوقنا ومزارعنا نتمشى ونصطاد السمك ونأكل الذرة المشوي.

المدرسة الثانوية:

انتقلت إلى المدرسة الثانوية بشارع منشا بمحرم بك ولم تكن تبعد كثيرا عن المدرسة الإعدادية ولذلك لم يتغير شيء في حركتي اليومية، ومضت الحياة روتينية كالعامين الماضيين ولم يتغير في حياتي سوى حصة التربية العسكرية التي كنت حريصا عليها وحريص على ارتداء بدلة الفتوة العسكرية.

في هذه العام كان أخي راجح بالقاهرة قد تخرج من كلية الشرطة وتسلم عمله بقسم شرطة قصر النيل بالقاهرة، وانتقل بعد عام إلى قسم شرطة باب الشعرية.

وفي محاولة جديدة لجمع شتات الأبناء الخارجين في سبيل تحصيل العلم اتفقت رغبة والدي مع رغبة شقيقي ضابط الشرطة في أن يكون له رفيق بالقاهرة ليتم نقلي إلى مدرسة خليل أغا الثانوية بشارع الجيش بالقاهرة لأقيم مع شقيقي بشارع الشيخ قمر بحي السكاكيني باشا على بعد أمتار من شارع رمسيس.

العاصمة:

توجهت إلى القاهرة في أكتوبر من عام 1969، لم أسترح لصورة المدينة العامة وشعرت بفارق كبير بين الإسكندرية ذات الحدود المعروفة والبحر الممتد إلى ما لا نهاية وهذه القاهرة المتسخة الخانقة التي يمتد فيها الزحام والضجيج إلى ما لا نهاية.

ولم تنتهي السنة إلا وانتقل أخي إلى العمل في وحدات جديدة سميت وحدات الاحتياطي المركزي وفي شقتنا الصغيرة ذات المتاع المتواضع عشت مع أخي ضابط الشرطة الذي كان يقضي معظم وقته خارج البيت وأيام عطلاته عند خطيبته أو معها في نزهة أو في الأسواق باحثا عن هدية لها تناسب قدرته المالية؛

وهكذا مضت أيامي الدراسية، وفي الطريق إلى المدرسة كنت أصطحب صديقا من أسرة فلسطينية يدعى سمير ولكنه لم يحدثني قط عن فلسطين ولا عن سبب وجوده بعيدا عنها، فإذا بلغنا المدرسة أسرعت إلى أصدقائي الذين آنست إليهم وهم خمسة من الجزائر مقتدر وعبد الحميد والطيب وأبو القاسم وسعيد ونيجيري يدعى أبو بكر ومسيحي مصري يدعى بشارة ومصري يدعى فتحي؛

وكان القاسم المشترك بين هؤلاء جميعا هو الاهتمامات والجدية خلافا لبقية التلاميذ الذين تبدو عليهم مظاهر السطحية والانشغال بالكلام العيب والحكايات الصغيرة، كما أن مجموعة الأصدقاء التي تآلفت معها كانت تجمعني بها مشاعر الغربة عن القاهرة، وكانوا من مرحلة سنية تزيد على بقية الطلاب لكونهم مبعوثين من بلاد أخرى، ولا يشترط فيهم سن معينة، ولعل هذه التركيبة البشرية الجديدة كانت الشيء الجديد في العاصمة عن بقية المدن الأخرى التي مررت بها.

القاتل والمقتول في شقتنا:

في يوم من أيام 1969 وبعد عصر ذلك اليوم طرق باب شقتنا طارق وتوجهت لأفتح له الباب فإذا بعبد السلام ابن خالي الطالب بكلية الهندسة جامعة الأزهر يدخل علينا في حالة من الإعياء والإرهاق وتوجه لتوه إلى حجرة النوم وتمدد على السرير وعليه علامات الحزن والألم ورحت أتجاذب معه أطراف الحديث، فأخبرني بأنه كان ضحية مظاهرة طلابية يتصدرها طلبة كلية الهندسة بجامعة عين شمس ومعهم طلبة من جامعة الأزهر ينادون بإعادة محاكمة القادة الذين تسببوا في هزيمة 5 يونيو عام 67

فقد صدرت ضدهم أحكام مخففة لا تناسب الجريمة التي ارتكبوها وما ترتب عليها من تدمير لسلاح الجو المصري برمته، وأخرج من جيبه منشورا دونت فيه مطالب الطلاب بعد مقدمة قصيرة ولا أذكر من هذه المطالب شيئا الآن أكثر مما قاله لي وزاد بقوله وقد تعرضت لنا الشرطة واشتبكنا معها بالحجارة.

وبعد حوالي ساعة طرق الباب آخر فخرجت لأفتح الباب فإذا به شقيقي ضابط الشرطة في ملابس مدنية غير ملابسه العسكرية التي خرج بها وكان في حالة من الإعياء والإرهاق كابن خالي الطالب تماما بالإضافة إلى كدمات واضحة في وجهه وبقايا دماء في رأسه وعلى ملابسه؛

وكان يرافقه أحد لا أعرفه انصرف مسرعا بمجرد أن اطمأن إلى أن شقيقي دخل البيت، وارتمى متهالكا إلى جوار ابن خاله على ذات السرير ولم أشأ أن أسأله فقد كان موقفا محرجا لأنه جرح وسقط على الأرض تحت أقدام الجنود الفارين أمام هجوم الطلبة بالحجارة، ولولا فضل الله الذي سخر له من حمله من على الأرض وألبسه ملابس مدنية لقتل تحت أقدام الطلاب أو بأيديهم.

وفاة عبد الناصر وجنازته المليونية:

وفي مايو 1970 وفي الوقت الذي استعد فيه للامتحانات تزوج شقيقي ضابط الشرطة وانتقل إلى شقته في مصر الجديدة وتركني بصحبة أخي الأصغر حمدي الذي انتقل إلى المدرسة الإعدادية بالقاهرة، واندلعت الحرب في الأردن بين الملك حسين والفدائيين الفلسطينيين في معركة أيلول الأسود، وبلغ عدد القتلى 1600 قتيلا من الجانبين، وعقد مؤتمر قمة عربي للمصالحة بين الجانبين بالقاهرة وفي اليوم الأخير لهذا المؤتمر عاد جمال عبد الناصر من المطار بعد وداع الملوك والرؤساء في حالة مرضية شديدة، ومات لتوه في الساعة الخامسة والنصف من مغرب يوم 28 سبتمبر 1970.

مع الآلاف من المواطنين اندفعت خارج الشقة أتدحرج على السلم نحو الشارع ثم إلى كوبري القبة حيث منزل الرئيس عبد الناصر، لم أفكر في وسيلة مواصلات تنقلني من شارع الشيخ قمر بحي السكاكيني إلى حيث بيت الرئيس كما لم يفكر في ذلك كل الملايين التي خرجت تودع الرئيس المحبوب والأمل الباقي لنحقق النصر على إسرائيل؛

هناك كان البكاء والنحيب والذهول، الأعداد تزايدت وبقي الناس حتى مطلع الفجر، وفي اليوم التالي مرت الجنازة من أمام شارعنا وسرت معها حتى تواري الجثمان في التراب، ويوم الجمعة التالية خرجنا لاستقبال الرؤساء السادات والقذافي والأسد وهم يصلون في مسجد عبد الناصر، وهكذا أصبح المرحوم جمال عبد الناصر وتولى السلطة الرئيس السادات.

إلى الجامعة:

كان ذلك في أكتوبر 1970 عندما توجهت إلى كلية العلوم بجامعة عين شمس بالعباسية بالقاهرة لا يزيد وزني عن 65 كجم نحيف بالنسبة لطولي الذي يبلغ 180 سم أرتدي بدلة كاملة وفي يدي حقيبة جلدية سوداء وبعد أيام قليلة استقر رأي أن ألتحق بقسم الأحياء (البيولوجي) وفي المدرج الكبير بدأت المحاضرات التي كانت تجمع القسم كله وأحيانا السنة الأولى كلها.

وكما يقول المثل (الطيور على أشكالها تقع) فقد تشكلت مجموعتنا سريعا من عدد من الطلاب التقليديين وفي المقابل كانت هناك مجموعات من الطلبة والطالبات المتفرنجين (أولاد مصر الجديدة) ومجموعة ثالثة من الطالبات المحافظات وعددهن قليل.

وبعد شهر من الدراسة تقريبا رحت أتجول في الكلية وما حولها وكانت الأحوال لا تسرني كثيرا، وخاصة أهم قضية تشغل الذهن في ذلك الوقت وهذه السن وهي علاقة الطلبة بالطالبات وما يشوبها من مخالفات لم أتعود عليها، ولم يكن بذهني أسباب واضحة لموقفي الرافض ولكنها آثار التربية العائلية المحافظة، وأينما ذهبت كان يؤلمني أن أرى الطالبات بملابس قصيرة يجلسن في أوضاع مخجلة مع الطلبة ويتبادلن النكات والضحكات وفرقعة الأيادي بالتصفيق والهزار؛

وعندما قررت أن أتوجه لمكتبة الكلية فلم أجد حالتها أفضل من الحدائق العامة المحيطة بها، كان جوا خائفا بالنسبة لي ولم أفرج بالجامعة التي حلمت بها، وعلى المستوى العلمي والدراسي فلم تكن لدى صعوبة في شيء وسعدت كثيرا بالمحاضرة القومية التي كنا ندرس فيها كتاب "الصهيونية العالمية وإسرائيل" ويدرسه لنا، أ. د. حسن أنور فوده وفي تقديم هذه المادة كان محاضرنا يبذل طاقة خارقة في البيان والشرح مصورا الصهيونية بالسرطان الذي ينتشر في جسد الأمة العربية ليقضي عيها ويحضنا على مقاومته بكل وسيلة وأولها الإلمام بالفكر الصهيوني وخطورته على البشرية.

ومضت السنة الأولى على هذا النحو وقبل نهايتها بقليل عثرت على مبنى قديم متسخ في بقعة مهجورة من الكلية عليه ورقة باهتة مكتوب عليها (المسجد) وبه حصيرة ممزقة والتراب يعو كل شيء فيه وفي نهايته صنبور تحته بركة إسمنتية مليئة بالطحالب الخضراء والفطريات.

الموت يهزني من الأعماق:

سمعت عنه كثيرا وشاركت في تشييع الجنازات كلما تصادف وجودي وحالة الموت حاضرة ولكنني حتى هذه اللحظة لم أكابد الموت وألمسه عن قرب، وبينما أنا في شقتنا في صيف عام 1971 جاءت زوجة أخي للمرة الأولى بدونه تخبرني أنه مريض وانصرفت من الباب على الفور ولم يكن بلاغها بالصورة المزعجة فتباطأت حتى المساء، ثم سعيت لزيارته في شقته بمصر الجديدة، كان في حجرة نومه وحوله عدد من الزوار من أسرة زوجته وهو يشكو من ألم في الناحية اليمني أسفل بطنه، ولكن لم يكن يبدي أي مظاهر للضعف فقد كان شابا في الثامنة والعشرين من عمره وضابط بالأمن المركزي برتبة نقيب يؤدي تدريبات رياضية عنيفة كل يوم.

وانتظرت حتى خرج الضيوف ثم استمعت إليه وقد بدت عليه علامات التعب ولم يخفها عني كما كان متماسكا أمام الضيوف، قال: ... من ثلاثة أيام وبعد معركة خاضتها كتيبتي في إجلاء المهاجرين من السويس عن المساكن التي استولوا عليها بمدينة نصر وهي مملوكة للحكومة شعرت بعد هذه العملية أن بطني تؤلمني ويظهر أن الناس دعوا علينا لأننا ضربناهم ورميناهم في الشارع، وسارعت بسؤاله: هل حضر الطبيب؟

فقال: وكتب أدوية كثيرة وأشار إليها بيده ثم قال: ولكنني لا أشعر بتحسن في الحالة، وبعد أن تناولنا أحوالنا وأخبار الأهل في البلد طلب مني أن لا أبلغهم بشيء لأن الأمر بسيط وسلمت عليه وعدت إلى سكني ولكن مشاعر القلق كانت قد أخذت مني كل مأخذ، عدت في اليوم التالي ولم ألحظ على صحته أي تقدم فالحرارة مرتفعة وتصل أحيانا إلى 40 درجة والألم مستمر في أسفل البطن وبادرته بضرورة استشارة طبيب آخر لكنه فضل استكمال العلاج لمدة خمسة أيام حسب إرشادات الطبيب وبعدها نستشير طبيب آخر في اليوم التالي حصلت على اسم طبيب في الحميات، وتوجهت إليه قبل زيارتي لأخي، محاولا اصطحابه معي ولكنه اعتذر وواعدني الصباح الساعة العاشرة وتوجهت لأخي وأقنعته بذلك، وتقابلت مع الطبيب في العاشرة من صباح اليوم التالي، وفحصه بدقة وأخذ تاريخ المرض، وقال: أحتاج لتحاليل دم حديثة وأجرينا التحاليل وعرضتها على الطبيب في مساء اليوم فأبدى انزعاجا واضحا وراح يسألني عن تخصصي في العلوم فأخبرته، فقال: احتمال كبير أن تكون الإصابة (لو كيميا) أي سرطان في الدم وأفضل نقله إلى مستشفى الحميات بالعباسية، وكتب توصية بذلك لتسهيل الدخول، وتفاوضت مع أخي وزوجته طالبة الطب وقبلوا بعد ثلاثة أيام من الجدل والتفاوض وكانت الحالة تزداد سوءا وأخيرا تم إدخاله مستشفى الحميات.

كانت الأحداث تمضي متسارعة وفكرت في كل وسيلة للشفاء، ولم أفكر لحظة أن هذا الفتى سيموت بعد أيام معدودات، كان فنانا حاذقا يرسم اللوحات الزيتية فتبدو لوحاته كان الطبيعة الجميلة قد رفعت لك على الحائط أو كأنك تنظر إليها من نافذة مطلة، وكان يحب المرح والغناء وفعال في أداء الواجبات، ومنجز في المهمات ومنقذ في الملمات، وكان فرحة أبيه الأولى وثمرة جهاد طويل من أجل تعليم الأولاد والنهوض بهم.

في المستشفى استقبلنا الأطباء بشيء من الاهتمام وراحوا يأخذون البيانات وما أن أبلغتهم أنه ضابط شرطة نظر بعضهم إلى بعض بطريقة متشفية وغير كريمة، ولم أكن أدري أن المشكلة بين الشعب والشرطة بلغت هذا الحد من السوء، دخلت الريبة في نفسي وظل الحال كذلك طيلة اليوم الأول والثاني، وفي اليوم الثالث ألححت عليهم في ضرورة عمل شيء، وترددت على حجرة الأطباء لأكثر من مرة

فصرخ أحدهم في وجهي يغضب (يحتاج لجراحة والجراح في مستشفى عين شمس وأرسلنا في طلبه ويمكنك الذهاب لاستعجاله) وسارعت لأبلغه بذلك ثم انصرف ولكن بمجرد وصولي إيه وجدته يودع الحياة، وقد حضرت زوجته لزياراته وانتحت جانبا تبكي بحرارة وهو يقول بصوت مسموع "عليه العوض ... عليه العوض ...".

ولاحظت أن قدماه فارقت الحياة بالفعل وأن الموت يزحف ناحية نصفه العلوي وفي لحظات كان الموت بلغ رأسه وتنبهت إلى أن الروح تخرج من الفم فهممت أن أضع يدي على فمه لكنه أمسك بيدي وبقوة وفي لحظات كالبرق صعدت الروح إلى بارئها تاركة لنا كيانا ماديا لا أكثر وهرولت إلى الطبيب أستدعيه فوجدت الممرضة سبقتني وأحضرته فأخرج السماعة وقاس النبض ثم وضعها في رقبته وغطى الجسد وانصرف مهرولا وقال وهو عند الباب: البقية في حياتكم.

هكذا انتهت الحياة ... وهكذا عايشت الموت بالحركة البطيئة وشاهدت حالة عملية للموت وتشبعت نفسي بهذه الأيام وما تزال ولا أحسب حدثا أثر في حياتي مثل هذا الحدث، وأصرت إدارة المستشفى على وضع الجثة في الثلاجة وشعرت بالبرد يقتلني وهم يدفعون أخي إلى الثلاجة ورجوتهم أن يمهلوني ساعة واحدة وسأحضر السيارة وأنصرف به إلى البيت

ولكنهم رفضوا بحجة التعليمات وبعد ساعتين من الظهر حضر حماه الحاج محمود الطلياوي وكوكبة من الأقرباء والجيران وانخرط معظمهم في بكاء حار، وانصرفت الزوجة إلى بيتها في سيارة أبيها، وجاء الحانوتي وتوجه للثلاجة وقام بإجراءات الغسل وحضرت قوة من الشرطة ومعهم سيارة إسعاف خاصة وعدد من زملائه بالوحدة وحملوه معه في سيارة واحدة وتوجهنا إلى بلدتنا بكفر الشيخ.

كانت رحلة شاقة وطويلة وثقيلة وكلما مررت بحقل رأيته يتمشى وسط الحقول فيشتد بكائي ونحيبي، وكلما اقتربنا من القرية تذكرت أبي ووقع المفاجأة عليه فتنهمر دموعي ويزداد نحيبي ولكن الأمر كان أكثر مما تخيلت وعلى بعد حوالي 3 كيلو مترات من القرية وجدت رجالات العائلة وطلائع القرية قد خرجت لاستقبال الجثمان وجلهم بغير هيئة الخروج المعتادة، آلاف من الناس صغارا وكبارا وعواجيز يتوكأون على العصي وقد أضناهم الحزن على فتى قريتهم وسندهم في الحكومة – أما والدي فلم أره إلا عندما بلغنا أمام بيتنا فوجدته مستندا على رجلين لا يقوى على النهوض أو الحركة وأشار لي من بعيد أن أمضي إلى المقابر وفهمت أنه يريد إنهاء الأمر بسرعة فلم يعد يحتمل.

وتحركت السيارة إلى المقابر وحمل الناس والجنود النعش وتعالت الأصوات بالنحيب وتحجرت الدموع في الأعين من الحزن وهبط الحاملون بالجثة إلى مثواها الأخير وفور إحكام غلق المقبرة أطلقت القوات المرافقة إحدى عشرين طلقة وانتهى الأمر وعاد كل فريق إلى حيث أتى ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فور الانتهاء من مراسم الدفن عدت إلى بيتنا فوجدته مكتظا بالنساء المتشحات بالسواد كل الحجرات والطرقات والصالات والتراسات مفروشة باللون الأسود ويلفها حزن عميق، بصعوبة بالغة تعرفت على أمي وأخواتي ورحت أنقل قدماي من موضع إلى آخر حتى بلغت مكانهم وسط السيدات المعزيات؛

وما أن بلغت المكان حتى أمسكت أمي بيدي وتقوت بي وقامت واقفة واحتضنتني وهي تقول "استحملت ازاي يا ولدي موت أخوك قدامك؟) (وليه يا بني مقلتناش إنه عيان) ... وانخرطت في البكاء والنحيب .. هناك في حديقة المنزل سمعت صوت أخي علي الذي يكبرني مباشرة وهو يصح في ذهول تام" ودوني لأخويا أبات معاه في التربة ... أخويا ما يباتش لوحده ... يتجيبوه هنا أو أروح أنا معاه هناك) ... الناس من حوله يمسكون به ويقولون "وحد الله يا مسلم .. أخوك عند اللي خلقه ... كلنا حانموت يا ابني وحد اله وحد الله"

هكذا كانت حالة الأسرة ... مفاجأة وذهول وكلمات ملتاعة وإحساس بالخسارة وحزن وبكاء ونحيب وظلت الحالة على هذا النحو حتى المساء وصلى الجميع المغرب وعلى صوت المقرئ في الصلوان الكبير ... كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) ... وهنا خشع كل شيء وهدأ الجميع وسكنت النفوس واستسلمت لحكم الله وقضائه.

نشاط ديني بالكلية:

أفرزت تجاربي منذ نكسة 1967 وحتى موت أخي اهتماما بالغا بالدين وشرعت في إصدار مجلة حائطية أسميتها (الإيمان) واستوحيت هذا الاسم من كتيب صغير للشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر كان يحمل نفس العنوان، وكنت أعبر فيها عن وجهة نظري، وكانت الأولى بالكلية في ذلك الوقت، واقتبست معظم مادة العدد الأول من كتاب الإيمان للشيخ عبد الحليم محمود، لم أصدق نفسي عندما وضعت مجلتي في إطار خشبي كان معدا للإعلانات؛

فقد اجتمع عدد كبير من القراء وبعد لحظات انخرطوا ينتقدون ما كتبت وانبرى آخرون يدافعون عن المجلة وما جاء فيها، ووصل الأمر إلى درجة الاشتباك وصاح أحد الطلاب في وجه المعارض للمجلة قائلا: أنت مش عاجبك الكلام لأنك شيوعي معفن، ولأول مرة أسمع عن هذه الكلمة فلم أكن تعاملت من قبل ع هذا المسمى (شيوعي).

وفي صباح اليوم التالي وجدت مجلة بمساحة تصل إلى ضعف مجلتي وعنوانها "رياض بصلة يرد على المليجي"، وكان رياض بصلة هذا لقب لطالب يساري (هو اليوم من أصدقائي ولي به علاقة طيبة وفي مركز مرموق ومشرف للعلميين المصريين)، وفي اليوم الثالث وجدت مجلة ثالثة بمساحة كبيرة عنوانها "زيكو يرد على بصلة"

وهكذا صار المكان حول مجلة (الإيمان) ساحة للنقاش بين الإسلام وخصومه وراح (زيكو) وهو المعيد بالجيولوجيا يبحث عني في كل مكان حتى قابلني وصحبني إلى مكتبه وقدم لي الواجب وشجعني على الكتابة متوعدا كل من ينتقدني بالرد الفوري عليه (هو الأستاذ الدكتور عبد المحسن زيكو أستاذ الجيولوجيا بجامعة الزقازيق).

كررت إصدار مجلتي وزادت معارفي حول الموضوع الديني وتبين لي أن هناك مجموعة بالجامعة تسمى بالناصريين يترأسهم الطالب نبيل صفار (رحمة الله عليه) وكان شبه متفرغ لنشر الفكر الناصري حتى كبرت سنه عن أقرانه بوضوح.

كان يساندني في كل ما أقوم به من نشاط أصدقائي بالمسجد ووجدت في هذه المعركة الجديدة طعما جديدا للحياة فأعطيتها جل وقتي.

قف من أنت؟

هكذا قالها وهو يهرول خلفي قاصدا لحاقي بعد ما خرجت من المسجد قاصدا الانصراف إلى محطة المترو وتوقفت والتفت فإذا به أحد المترددين على المسجد ومن تعودت على رؤيته في معظم الصلوات إنه الطالب محمد نزار زغموط سوري ويعمل والده في دول الخليج ويدرس بالطب، ابتسم لي وابتسمت له مرحبا وسار إلى جواري وشرع يتعرف علي، وتعرفت عليه، وأبدى لي إعجابه كثيرا بما أكتب ودعا لي بكلمات رقيقة كانت جديدة على مسامعي.

تكرر لقائي به في اليوم التالي وصارت بيننا صداقة خاصة على مر الأيام ورحنا معا نتوجه للواقع من حولنا بالنقد وعدم الرضا، كان معظم كلامي حول الواقع ينصب على قيم أساسية كالحياء والشهامة والرجولة والعيب ومصحة الوطن وشرف أبنائه، أما هو فكان كلامه يستند إلى الدين ويتعامل مع المواقف بميزان الحلال والحرام وكانت وجهة نظرنا واحدة في معظم الأحيان ولكن بمرجعيتين مختلفتين، وإن اتفقنا في النتيجة.

أعجبني كثيرا أسلوبه وقررت أن أستكمل نقصي العلمي بالدين وعلى محطة المترو تفحصت الكتب المعروضة عند بائع الجرائد فلمحت كتابا بعنوان (الإسلام) لأحد علماء الأزهر فاشتريته وتفحصته في رحلتي إلى البيت، فأعجبني كثيرا فقد كان يتحدث عن الإسلام بمنظور شامل للعقيدة والأخلاق والعبادات والشرائع، وأكملت الكتاب قراءة في البيت، وفي اليوم التالي عرضت الكتاب عليه فنظر إليه باستخفاف واضح ووعدني بكتاب أفضل من ذلك.

الوجه الآخر للدين:

في يوم من الأيام ونحن منصرفون إلى محطة المترو دار بيننا هذا الحوار ... قال صديقي: إلى متى ستظل تسألني وتتكلم دون عمل؟ فقلت على الفور: وأي عمل هذا غير ما أعمل؟ قال: مطلوب منا أن نعلم الناس المنهج الصحيح في الحياة. وكان السؤال الطبيعي: وهل هناك منهج صحيح غير ما عليه المسلمون في بلادنا؟

فقال: الناس مسلمين بالاسم ولا يعرفون عن الإسلام شيء وهذا الذي يوقعهم في الخطأ سنين طويلة ثم يكتشفون ذلك ويحاولون العودة ولكن بعد فوات الأوان وضياع العمر ولو تعلموا أولا قبل العمل لتجنبوا هذه الخسارة، كان كلامه مقنعا ولم أتردد في تلبية دعوته للعلم الديني في حلقة دراسية يقيمها مع أصدقائه في بيت أحدهم وقد أعطاني العنوان فوجدته قريبا من بيتي.

التنظيم الإسلامي الأول في حياتي:

كان اللقاء بمنزل لأخ الزميل بكلية الطب سامي حامد غيتة رائعا وجميلا ومريحا للنفس فقد قابلني والده بترحاب وكان رجلا طيبا في الستين من عمره ونادى على والده قائلا: "قاب زميلك يا سامي وفي حجرة الصالون وجدت صديقي بين خمسة من الأصدقاء (عبد الله دغيش – إبراهيم حرحش – عادل عبد الخالق – محمد نزار زغموط – عرفة حسن) وقد خلعوا أحذيته خارج الحجرة".

وتحلقوا حول منضدة حجرة الجلوس وقد أمسك كل واحد منهم مصحفا وراحوا يتابعون تلاوة أحدهم وما أن انتهى حتى بدأ آخر يكمل السورة وهكذا وعندما جاء دوري كان طبيعيا أن أفعل مثلهم حتى مر علينا جميعا الدور وقرأ كل منا عشر آيات تقريبا.

بعد ذلك قال أحدهم فلنتعارف وقدم كل منهم نفسه اسما وعملا وسنا وحالة اجتماعية وفعلت وكانوا جميعا طلابا بالجامعة.

وتناولوا بعد ذلك كتاب تفسير ابن كثير وراحوا يطالعون تفسير بعض الآيات التي تلوناها.

قيادات من كتب:

في أثناء هذا الخضم من الأحداث القومية والعالمية التي تجري حولنا، وقعت أيادينا على جملة من الكتب الهامة التي بلورت لنا نوعا من المنهجية في التغيير.

برز أمامنا في هذه الفترة التاريخية كتاب المصطلحات الأربعة في القرآن للأستاذ العلامة الداعية أبو الأعلى المودودي حيث راح الأستاذ المودودي من خلال كتابه عن مصطلحات (الله – الرب – الدين – العبادة) يشرح الكثير من معاني الإسلام، وحق الله على العباد.

صادفنا كتاب التوحيد للشيخ: محمد بن عبد الوهاب، ولكننا مررنا عليه سريعا فلم نجد فيه ما نتوقف عنده بالنظر لغلبة البيئة السعودية عليه، ولكننا اكتسبنا حساسية بالغة تجاه مظاهر الوثنية المنتشرة في العالم كعبادة الأصنام والأبقار البوذية في آسيا، وعبادة النار، والغلو في تزيين المساجد والأضرحة.

ووضعنا أيادينا على كنز مكنون لم نكن طالعناه من قبل وهو كتاب (رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين) للإمام النووي، وأصبحت الكتب الإسلامية أهم سلعة نشتريها، وعندما طبعت دار الشروق تفسير الظلال لسيد قطب بلغ ثمنه أربعة وعشرين جنيها للستة أجزاء وهو مبلغ باهظ لأمثالنا، وأمام الرغبة العارمة في القراءة بعت جهاز التلفاز الذي أملكه بعشرين جنيها واشتريت الظلال وكان جامعا لعلوم كثيرة.

تحولات متسارعة:

كان للزاد الروحي والثقافي الذي نتلقاه في جلستنا الخاصة الأسبوعية أعظم الأثر على حركتنا في الحياة في هذه الفترة، ففي الحي الذي أعيش فيه، التزمت المسجد في صلاة المغرب والعشاء والفجر على الأقل، فلم أكن أتخلف عن الصلاة في المسجد.

وقد شكل التدين بالنسبة لي سياجا حاميا من الوقوع في تيارات التحلل وما يجره على الشباب من عادات التدخين والمخدرات والجنس، التي نبتت بذورها مع انتشار الشيوعية في الستينيات.

وفي حي النزهة بمصر الجديدة استكملنا بناء مساجد (الفرقان، السيدة عائشة، السيدة خديجة)، ورحت أجوب هذه المساجد داعيا إلى اتباع القرآن والسنة، ومنظما حلقات لدراسة الكتب الإسلامية.

وقد التف حول الدعوة بالمساجد جمهور جديد كان جله من ضباط القوات المسحة وأصحاب المصانع والتجار، وعدد من المواطنين الليبيين الفارين من القذافي، ولا أنسى أحدهم عندما عانقني وبكى بحرارة، عندما خطبت الجمعة حول وجوب الحكم بالشريعة تحقيقا لإسلامية المجتمع، وكأنني قد هيجت عواطفه وأعدت له ذكريات آلمته وتعرفت على كبرائهم في مصر أمثال الأستاذ عبد الرزاق أبو حجر ومحمد الدراط وعوض المنقوش.

واستحدثنا بالمساجد عادات إسلامية كانت قد ماتت، في مقدمتها الاعتكاف وعقد القرآن وعقيقة المولود، وصلاة العيدين خارج المساجد، وكان أعظم مظاهر النهضة في الحي، انتشار الزي الإسلامي، وتبرع بعض السيدات بتفصيله مقابل قروش زهيدة.

وانتقل الصحب بالمسجد لمزيد من الدراسة بالمنازل، وتسابق الناس بالمسجد على دعوتي لحضور حلقات العلم بالبيت، وكان الواحد من المسلمين يجمع عائلته رجالا ونساء ليسمعوا كلام الله وأحاديث رسوله، ولفنا جميعا جو من المحبة والبركة تحت راية الإسلام، وكأننا دخلناه من جديد.

وفي الجامعة كثرت لقاءات المتدينين، وبرزت فيهم قيادات شابة، وغيرنا ملابسنا إلى ما اعتقدنا أنه أكثر سترا للعورة، فارتدينا قمصانا طويلة تصل إلى الركبة، وأطلقنا لحانا، ووضع بعضنا أغطية على رأسه، وزاد بعضنا توغلا في الأمر فأصر أن يكون لباسه أخضر تشبها بالسندس الأخضر في الجنة؛

وكان أمير الخضر في كلية الطب أخي وحبيبي الدكتور ماهر سالم، وأمسك بعضنا في يده عصا تيمنا بعصا موسى ومدعيا أنها من السنة وإذا سئل عن السبب قال أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ثم راح يلوح بها في وجه السائل ضاحكا وهو يقو ولي فيها مآرب أخرى.

وكثرت المحاضرات الدينية، وراحت إدارات الكليات توافق على ذلك، وعقدت المحاضرات في المدرجات أو في المساجد، وفتحت الجامعات للمشايخ (محمد الغزالي، سيد سابق، إبراهيم عزت) وزارنا بكلية العلوم مرة الشيخ: ناصر الدين الألباني، والشيخ: محمد نجيب المطيعي، والدكتور: كامل البوهي من إذاعة القرآن الكريم، كما تعرفنا على الشيخ حافظ سلامة أمير الدعوة بالسويس وأعظم المشيدين للمساجد المليونية أثناء عمله الدؤوب في بناء مسجد النور بالعباسية وكنت مع آخرين من الزملاء نعبر شريط القطار خلف كية علوم عين شمس وننضم للعمال المشتغلين بالمسجد تطوعا ومعنا في ذلك الشيخ حافظ سلامة شخصيا وقد خلع طربوشه والجاكت وشمر عن ساعديه وراح يحمل التراب والأسمنت في همة ونشاط.

وظهر في هذه الآونة نجم الشيخ: محمد متولي الشعراوي، وقدم من خال برنامج "نور على نور" الأسبوعي للأستاذ: أحمد فراج لونا جديدا من التفسير المبهر، وشاركته في حلقتين بالأسئلة ما زلت أحتفظ بتسجيلاتها حتى اليوم وكان ذلك في أول سنة 1973

حيث توجهت لموقع تسجيل الحلقات لأدعوه ليلقي محاضرة بعلوم عين شمس ولكنه اعتذر لكثرة مشاغله ودعاني لأسمع الحلقات أثناء التسجيل ضمن الجمهور المدعو، وارتفع صوت الشيخ: عبد الحميد كشك بمسجد عين الحياة بشارع مصر والسودان، والشيخ: عبد اللطيف المشتهري بمساجد الجمعية الشرعية، والشيخ إبراهيم عزت بمسجد أنس ابن مالك؛

ونمت الحياة الإسلامية بالجامعة في ظل ذلك كله، وانتقل الحجاب إلى طالبات الجامعة، وأقبلت عليه فتيات مصر بما لم يكن متوقعا، وأقمنا له معارض، وكنا عاجزين عن الوفاء بالطلبات المقدمة إلينا، وبدأنا بالجامعة مع بقية الزملاء ندخل عالم المطبوعات، وساعدتنا مطبعة الجامعة، وطبعنا في مطبعة جامعة عين شمس مجلة شهرية، وملزمة عن الحجاب،

وكتيب عن تجويد القرآن الكريم، وكتيب بعنوان (من نقرأ ولماذا نقرأ؟) رصدنا فيه قائمة بأسماء العلماء المعتمدين عندنا، والكتب المرشحة لثقافة الشاب المسلم في أقسام الثقافة الإسلامية المختلفة، بادئة بالعقيدة ثم العبادات، ثم الأخلاق ثم الشريعة والتاريخ الإسلامي؛

وتطورت فكرة العمل الإسلامي من الناحية التنظيمية، من لجنة صغيرة تسمى اللجنة الدينية تتبع اللجنة الثقافية باتحاد الطلبة، إلى منظمة منفصلة تسمى الجمعية الدينية، ثم انتهت إلى ما عرف بالجماعة الإسلامية، وتعتبر كل هذه التشكيلات منظمات طوعية، يلتقي الطلاب المتدينون تحت لافتتها من خلال قناعتهم بمبادئها وسلوكها، ويمارسون العمل بطريقتها كل على حسب قدرته وبكامل إرادته.

وفي قسم النبات بكلية العلوم جامعة عين شمس كانت حياتي الدراسية التخصصية، وكم دارت بيننا حوارات كزملاء سبعة في السنة الثالثة (أربع طالبات وهن: أميرة حسنين، عبلة نصار، زينب علوان، هدى صبحي، وثلاث طلاب وهم: السيد المليجي، محمد الدمرداش، أحمد غريب) والطالبات الأربعة اليوم أساتذة بكلية علوم عين شمس ومحمد الدمرداش أستاذ بعلوم دمياط وأحمد غريب أستاذ بعلوم الزقازيق وكان معنا طالب مسيحي واحد يسمى "قزمان" لم يتحمل الحياة وسط مجموعة تقضي معظم وقتها في مناقشات حول الإسلام، فتقدم بطلب نقل إلى قسم آخر في كلية أخرى بعد شهرين من الدراسة بالرغم من أننا كنا نحسن علاقتنا معهم بكل وسيلة ممكنة.

في هذه الأيام من السبعينيات، لمع في عالم الكنيسة شخصية البابا شنودة، وكان له دور كبير في تأليبهم على إساءة معاملة المسلمين ...! في محاولة واضحة لإثبات التفوق المادي والمعنوي، واستمعنا لأول مرة عن مخططات للكنيسة حول إقامة دولة مسيحية في الصعيد أو سيناء؛

واستمعنا لإشاعات حول تدريبات وأسلحة تخزن بالكنائس، وحدثت بالفعل أحداث تقاتل بين المسلمين والمسيحيين بالأحياء والجامعات، ترتب عليها أضرار بالغة بالوحدة الوطنية، وخسارة فادحة لأتباع الكنيسة، مما جعل فريقا منهم يثور على إدارة البابا، ولم ينعدل الميزان إلا بعد أن ثبت له خطأ تصوره واستحالة العمل بفكرته.

ولا أنسى التعصب المجنون لأعضاء هيئة التدريس المسيحيين في هذه الفترة بكلية علوم عين شمس ...! وخاصة في قسمي الرياضيات والكيمياء، والقسمان من الأقسام الأساسية بالكلية، وكل الطلاب يدرسون بهما، فكانوا يتتبعون الطلاب المتدينين بالإساءة في المعاملة لدرجة ملحوظة.

وفي نفس الوقت يجتمعون بصورة ملحوظة، مشكلين جماعة ضغط نفسية وإعلامية في مواجهة الحركة الإسلامية، وسمعنا ونحن طلاب عن اجتماعات تعقد لهم مع الطلبة المسيحيين بالكنيسة لتنظيم عملهم بالكلية، ولتقوية الطلبة المسيحيين دراسيا ... بهدف إشغال المواقع المتقدمة في السنوات النهائية، وتمهيدا لشغل مواقع بهيئة التدريس بالكلية.

ولم يكن ذلك ليغيب على كثيرين من أعضاء هيئة التدريس المسلمين، الذين قاوموا ذلك بشدة، ونجحوا في دفع الطلاب المسلمين دراسيا، وانتهى الأمر بالمسيحيين الأقباط إلى اليأس والانصراف عن ذلك، وصار أمرهم موكولا إلى قدرات الطلاب وطموحاتهم دون توجهات أو تدخلات من الكنيسة وعناصرها.

وحتى نهاية عام 1973م كانت هناك بقايا من الشيوعيين في أعضاء هيئة التدريس، مصدرها المبعوثين إلى روسيا للحصول على الدكتوراه، وكان نصيب قسم النبات واحدا من هؤلاء، هو د. عبد السلام شعبان كما كان بقسم الكيمياء واحدا هو د. عبد الرحمن موسى ولم نكد نلتقي في قاعة الدرس حتى اصطدم بي واصطدمت به في نقاش جدلي حول الله وقدرته؛

وكانت إجابتي عليه عنيفة وشديدة، وصارت مشكلة، ظلت تؤثر في علاقتي به حتى تخرجت، ولكنه اليوم بفضل الله أستاذا فاضلا محترما وصاحب مدرسة علمية مرموقة ومن أحبابي وقد تغيرت فكرته وطريقته في الحياة كثيرا؛

أما أستاذ الوراثة (د: أحمد الكباريتي) فكم ضج بالحوار بيني وبينه حول كون العوامل الوراثية (الجينات) مطلقة التصرف في نقل الصفات الوراثية أم لا؟، وضربت له كثيرا من الأمثلة في مجال إثبات أن الأمر كله لله، غير أنه كان أستاذا فاضلا، يؤمن بالله وبمحدودية علم الإنسان إلى جانب علم الله، ولذلك كان متقبلا لمناقشاتي وناصحا أمينا في مجال الدعوة بالتي هي أحسن (رحمة الله عليه).

وبرز في حياتي العلمية الأستاذ الدكتور حسن أنور فودة أستاذي ومعلمي وقدوتي العلمية الأولى وكذلك الأخت الفاضلة الدكتورة رئيفة أحمد حسنين التي شجعتني كثيرا على الاستمرار في طريق البحوث العلمية، جزاهم الله عنا خيرا كثيرا؛

قسم النبات بعمومه كان له سمعة محترمة، وصبغة متدينة، زادت مع الأيام حتى صار من المشهود هم بذلك، ويعد قسم النبات بعلوم عين شمس حتى يومنا هذا نموذجا في التزامه وجديته، وفي هذا القسم العلمي العريق والمحترم حصلت على الماجستير والدكتوراه وما زلت أعتبره مدرستي العلمية وجميع أعضاء التدريس به أصدقاء الحياة.

عام في القوات المسلحة:

التحقت بالقوات المسلحة المصرية في أكتوبر 1974، نظرا لكوني معيدا بالجامعة فقد رشحت جنديا ولمدة سنة واحدة فقط، كانت القوات المسلحة خارجة لتوها من حرب أكتوبر 1973، لم تكن هناك بعد رؤية واضحة لطبيعة المعركة القادمة من حيث كونها حربية قتالية أم سلمية تفاوضية؛

القوات المسلحة كانت ما تزال على حالتها وفي حالة ترقب واستعداد ملموسين، التحقت بقوات الدفاع الجوي ومركز تدريبها في الفيوم منطقة اللاهون، كانت من أسعد أيام الحياة، لقد وحشتني البندقية أم روحين في بيتنا ومسدس أبي واليوم أمتلك بندقية آلية سريعة الطلقات، وأحرس المعسكر ليلا وأنام في موقع الخدمة، أوقات الخدمة ما تزال تحمل الأسماء العثمانية، البرنجي (6 – 10م) والكنجي (10 – 2 ص) والشنجي (2 – 6ص).

كنا نداعب الشاويشية فنقول لهم لو أخذنا الحرف الأول من كلمات الخدمة الثلاث تطلع الخدمة كلها (بكش)، وبالجملة كانت أيام الجيش كلها جميلة وممتعة، يوم ضرب النار كان اليوم الوحيد الذي يسوده التوتر، المطلوب في هذا اليوم استلام الذخيرة بدقة وتسليم الفارغ بدقة حتى لا تتسرب الذخيرة هنا أو هناك، كما أنه من المهم المحافظة على أرواح الجنود في ميدان الرماية.

انتهت فترة التدريب بسلام وأصبحنا مؤهلين للترحيل إلى وحدات الدفاع الجوي، في هذه الأيام زارني في مركز التدريب شاويش من طرف ضابط كبير، كان الضابط الكبير مواظبا على حلقة التلاوة التي كنت أديرها عقب الفجر في مسجد السيدة عائشة بمنطقة النزهة، إنه اللواء زكي عبد العزيز، من أبناء مدينة قها ويسكن قبالة المسجد ومن المواظبين على صلاة الفجر، عشت بقية السنة المقررة لي في كنف اللواء زكي عبد العزيز مكرما بالوحدة.

عبيد في سجن الوحدة:

حادثة واحدة كادت تدخلي السجن الحربي ولكن الله سلم، فمع أول ضوء لنهار جديد وزقزقة العصافير الغادية تعزف أمتع الموسيقى، وبينما أقف حارسا بالموقع وسلاحي في كتفي ينفتح أمامي باب حديدي ويخرج منه طابور من العبيد الذين رأيتهم من قبل في فيلم سبرتكوس محرر العبيد، أجسام نحيلة ومريضة ومنهكة ووجوه صفراء باهتة وملابس ممزقة وخلف العبيد شخصا مفترسا يمسك بعصى غليظة ويضربهم بلا رحمة على رءوسهم وعظام أرجلهم وهم يجرون متألمين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، كان المنظر رهيبا بما يكفي لحتمية التقدم لإنقاذ هؤلاء المساكين من الوحش الذي يفترسهم، وقد كان، وجدتني أنقض بك قوتي على الجلاد الشرس وأشتبك معه في معركة بالأيدي والأرجل لأمنعه من جريمته النكراء؛

وهنا كانت المفاجأة فقد استنجد الجلاد بضحاياه وصاح فيهم بأعلى صوته (بتتفرجوا علي يا ولاد الـ ...) وتدخل الضحايا لصالح جلادهم وانهالوا علي ضربا وركلا حتى أعطوني علقة ساخنة أصابت كل مكان في جسدي وأخذوا بندقيتي العهدة وفروابها بينما كنت طريحا على الأرض، سارعت بالقيام وتوجهت للضابط النوبتجي وأبلغته بما حدث وسارع هو بدوره واسترجع البندقية من شاويش السجن ووضعت أنا رهن المحاكمة، وتدخل اللواء زكي عبد العزيز فألغى كل شيء ونجوت بأعجوبة من السجن الحربي، وعلى رأي المثل (ما ناب المخلص إلا تقطيع هدومه) وما أكثر العبر في هذه الواقعة العجيبة ...!

هيا بنا نبني الوطن:

لم أنتظر حتى انتهاء سنة القوات المسلحة لأستفيد بما تلقيته من علوم بالكلية، وقبل أن يصلني خطاب التكليف بالعمل الحكومي توجهت إلى كل من أعرف بحثا عن عمل، وقدر الله لي الخير فوجدت العمل، اصطحبني رفيق المسجد الحاج محمود صالحين (رحمة الله عليه وعلى والديه وجميع ذريته ومن يحب) مدير العلاقات العامة بشركة الكيماويات العملاقة (سويسفارما) ليس إلى شركته ولكن لشركة حديثة التكوين تقع بشارع أبي سنمبل بمصر الجديدة، وصعد بي إلى الدور الأول حيث إدارتها الكائنة في شقة صغيرة، هناك التقيت بالمدير العام الأخ عبد اللطيف أحمد الشريف، يكبرني بسبع سنين تقريبا، يكاد يطير من على الأرض وهو يمشي من قوة النشاط وخفة الحركة مع أنه قصير وبدين ولكنها قوة روح وإشراقة أمل؛

كان معي نعم الأخ والصديق، لم يضيع لحظة من الوقت وبسرعة فهم عني كل شيء، أخرج من يده قلم جاف وكأنه حاوي يقدم لعبته للجمهور، فكك القلم إلى أجزائه وهو يقول هذا جسم القلم من البولي ستيرين وأنتجناه، وهذه أنبوبة الحبر مصنوعة من البولي إيثيلين وصنعتها، وهذا السن النحاسي وما به من بلية أنتجناه أيضا، وفي الأنبوبة يوجد الحبر الجاف ودي مهمتك؟! هل تستطيع أن تصنع لنا الحبر الجاف؟

لم أنتبه سريعا للسؤال لأنه جاء مباغتا، وعندما أفقت قلت بالتأكيد ممكن ولكن الأمر يحتاج بحث ودراسة ومعمل، قال على الفور: كل ما تطلبه سيكون عندك وابدأ فورا، وكانت البداية التي لم ولن يكون لها نهاية مثل كل عمل صالح يمتد أجره حتى يبلغ الجنة والجنة باقية؛

من هذا اليوم اكتشفت عالم جديد وعمل فريد وجهد مفيد وتسابق مع الفرسان، وتواجد في قلب الميدان، وما أحلى العمل إذا كان شعاره (هيا بنا نبني الوطن) (هيا بنا نلحق بالعالم المتقدم صناعيا) (هيا بنا نغني بلادنا عن الحاجة لمن يعاديها)؛

وبغير دخول في التفاصيل الرائعة لقصة الحبر الجاف فالفصل الأول فيها كان معاناة البحث عن خاماته التسعة، والفصل الثاني كان تأسيس معمل أبحاث الحبر وإنتاج العينات والفصل الثالث كانت تصميم مصنع تجريبي وإنتاج أول كمية صناعية، وخلال أربعة أشهر كان أمام عبد اللطيف الشريف المدير العام لشركات ومصانع الشريف 2 طن من حبر القلم الجاف، وتوالت التكاليف وتوالت بفضل الله النجاحات الصناعية التي تعاون عليها فريق من الجادين يشرفني أن أكون واحدا منهم، وخلال خمس سنين 19751980 تحقق الحلم واكتفت مصر نهائيا من جميع أنواع البلاستيك المصنع، وانتهى من الجمارك تقريبا ما يسمى بلاستيك مصنع مستورد، ثم شرعنا في الخطوة التالية وهي إنتاج خامات البلاستيك وحققنا بفضل الله نجاحا مبهرا في مجال أهم الخامات (بي . في . سي)

وأصبح فريق الكيماويين العاملين معي بقسم المعامل وضبط الجودة فوق الثمانين وعلى رأسهم الكيميائي عثمان عمر عثمان صاحب ومدير الشركة الوطنية لصناعة البلاستيك بالعاشر من رمضان، وبنينا معا أول مركز أبحاث مسمى مركز الاستشعار عن بعد بالشارع المواجه لمطار القاهرة أول طريق مصر الإسماعيلية، وقد استولت عليه جهة ما ولأسباب ما.

وقبل أن يحدثنا فلان وعلان عن الجودة بعشرين سنة أصدرت كتابي المسمى (الطرق العلمية لضبط الجودة) عام 1983 وهو الأول في هذا المجال باللغة العربية وطبعته الثالثة متوفرة بدار الوفاء اليوم، وتوسعت الشركة العملاقة بسرعة الصاروخ من شقة وبدروم عمارة عام 1975 إلى مدينة صناعية بالعاشر من رمضان ومنطقة صناعية بشبرا الخيمة ومنطقة صناعية بجسر السويس ومنطقة صناعية بمنطقة الخانكة ومخازن وجراجات في كل أنحاء مصر وأكثر من خمسين منفذ بيع بمصر وتصدير للخارج، وهذا وبالله التوفيق.

ومن الجدير بالذكر وللتاريخ فإن المؤسسين لشركتي ومصانع الشريف بوصفها أو تجربة صناعية متكاملة في حياة الصحوة الإسلامية في السبعينيات هم:

  1. عبد اللطيف أحمد الشريف بكالوريوس تجارة ومنصبه رئيس مجلس الإدارة والمدير العام.
  2. حسن عبد المنعم ليسانس آداب ومن إخوان إمبابة المحكومين في 1954، ومنصبه نائب المدير العام.
  3. أحمد رجائي بكالوريوس هندسة والمهندس الأول بالشركة، صديق عبد اللطيف من مجموعة مسجد الشعراوي أو كوبري القبة سابقا جمال عبد الناصر حاليا.
  4. محمد حلمي أبو عيطة بكالوريوس تربية رياضية وعمل لفترة بمصر للطيران ثم انتقل للعمل بالشريف كرئيس قسم المشتريات الخارجية (الاستيراد) وهو اليوم صاحب مجموعة شركات (مصر الحجاز) وحاص على دكتوراه في إدارة الأعمال.
  5. أحمد عبيد عيسوي ليسانس آداب قسم اجتماع ومن إخوان السويس المحكومين 1954 ومنصبه بالشركة رئيس قسم المبيعات والتحصيل.
  6. محمد يونس محاسب من عرب جهينة ومنصبه المدير المالي والمشرف على عمل الميزانيات، وهو اليوم صاحب محلات التجار العرب بشارع مكرم عبيد.
  7. سعد سرور من إخوان السويس المحكومين 1954 ومنصبه رئيس قسم شئون الأفراد.
  8. عادل فريد مهندس ومن إخوان المنوفية المحكومين 1954 ومنصبه بالشركة رئيس المصانع.
  9. السيد عبد الستار المليجي معيد بكلية العلوم والكيميائي الأول بالشركات ومنصبه رئيس معامل الأبحاث وضبط الحودة.
  10. محمد الشناوي من إخوان القاهرة المحكومين 1954 وعمله ضابط فني سابق بالقوات الجوية ومنصبه بالشركة الأب الروحي العمال وإمام المسجد بالمصانع ومشرف على مبيعات الدرجة الثانية.
  11. صبري سابق رئيس قسم السكرتارية والأرشيف.
  12. رأفت عياد أمين المخازن.

1:#نور الدين محمود محاسب ونائب رئيس المشتريات الخارجية.

  1. عبد الله مسعود وعمل ضابط سابق بالجيش وزميل لوالد عبد اللطيف الشريف رئيس الحملة وأعمال النقل والإنشاءات الجديدة.
  2. محمد عبد الفتاح فني سابق بشركة العبوات الدوائية ورئيس الورشة بالشريف.

وتعاون مع الشركة من مندوبي الشركات (د. فاروق برقاوي – مصري بورسعيدي ويعمل ممثل شركة هولز الألمانية لمنطقة الشرق الأوسط) – (جورج قسيس مندوب شركة باير الألمانية) – (جلال عبد الحميد – ممثل شركة باسف الألمانية) – (وجيه فهمي – ممثل شركات بيرلوخر وسينسيناتي الألمانية9 – (أحمد أبو النجا ممثل شركة مونت إديسون الإيطالية). وسامي علي حسن وأشرف سعد موردين عملة أجنبية.

وحسين بالبوفيه – وهاشم – الحلاق الخصوصي – ودكانه يقع في شارع المنصورة بمصر الجديدة.

ولحق بهؤلاء فيما بعد طبقة تالية أذكر منها:

  1. عثمان عمر عثمان كيميائي بالمعامل وضبط الجودة.
  2. أحمد حجازي ويوسف قتة ومسعد الشافعي بإدارة الاستثمار.
  3. فؤاد هارون وأنور عزت ومحمد عبد الفتاح ومشهور مصطفي مشهور مهندسين بالمصانع.
  4. حسين السبكي وسعيد بالمشتريات الداخلية.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الفرصة التي سنحت لي لم تصرفني عن قبول العمل معيدا بكلية العلوم جامعة المنيا فأستأذنت عبد اللطيف الشريف وتسلمت عملي واتفقنا ضمنيا أن عملي معه سيكون (بالمقطوعية) وهذا يعني أنني أملك الحرية الكاملة في ترتيب جدول أعمالي حسب ظروفي؛

وكانت تجربة رائعة لمعنى الحرية في العمل العلمي وتحمل المسؤليات الجسام طوعا لا كرها وهو الشيء الذي رفع من روحي المعنوية وجعلني أصل الليل بالنهار ضمن منظومة عمل متعدد بين البحث العلمي المتعلق بالصناعة وإدارة منظومة الجودة في المصانع وبين بحوث الماجستير والدكتوراه بعلوم عين شمس وبين التدريس بالمنيا وبني الحركة الإسلامية ضمن صحوة جيل السبعينيات الواعدة، في هذه الفترات من العمر كانت ساعات التأمل والتفكير والراحة الأساسية في القطار وما توفيقي إلا بالله.

الحياة في المنيا لأربعة عشرة سنة:

يعرف الجميع كلمتي كلما ذكرت المنيا (معكم ... وقلبي في المنيا) فمنذ تركت القوات المسلحة وتسلمت عملي كمعيد بكلية العلوم جامعة المنيا في يناير 1976 وأنا حتى اليوم متيم بالمنيا، لقد وجدت فيها كل ما كنت أحبه وأتمناه.

في المنيا وجدت أجمل مواقع نهر النيل، ويعتبر كورنيش المنيا لوحة فنية ربانية مبهرة وخاصة وقت شروق الشمس أيام الشتاء، وتتجلى عظمة الخالق وروعة الجمال الأخاذ عندما تغطي أرصفة الكورنيش بزهور البوانسيانا الحمراء المتساقطة على خضرة الحديقة الموازية للنهر على مد البصر، وهناك تلمع مياه النهر الخالد ملونة بلون الشمس التي تطل عليك من خلف الجبل الممتد موازيا للبر الشرقي، وأحيانا تلمح الجزر المتناثرة متوارية خلف الضباب حتى ساعة بعد شروق الشمس وهو الوقت الذي تبدو لك هذه الجزر بكامل زينتها وروعة حلتها الخضراء، فإذا أدركت هذا الجمال فاعلم أنك في مدينة المنيا.

وفي محافظة المنيا تعرفت على أوفى الناس وأحسنهم خلقا ودينا وكرما، عشت بينهم لا أشعر بغربة قط ورغم تقلبات الأيام والليالي فما يزال عهد الأخوة بيننا وثيقا تحوطه وترعاه وتقويه أحداث الحياة بحلوها ومرها.

أسرة كلية العلوم وجامعة المنيا: في كلية علوم المنيا كنا أسرة واحدة وما زلنا حتى اليوم، الطلاب الذين درست هم العلوم في المنيا يبعثون لي اليوم أبناءهم وأبناء أقربائهم لأعتني بهم في دراستهم الجامعية في تواصل رائع بين المعلم وطلابه الذين تخرجوا وتوظفوا وتزوجوا وكبر أبناؤهم ودخلوا الجامعات وما تزال حلاوة أيام الصبا تحلي أفواهنا وتنعشنا نحن أصحاب الرءوس البيضاء؛

وأذكر من الطلبة بكل خير حشمت خليفة ومحمود أبو المعاطي وأحمد زكي وجمال عبد الصمد وعادل خضر، وأما الزملاء الذين بدأنا معهم وما زلنا أسرة واحدة فأذكر منهم أ. د. سامي كامل أول رئيس للقسم من أبناء المنيا، عادل العشماوي وهو الآن أستاذ بكلية العلوم بالإسماعيلية، وعصام أبو القاسم وهو اليوم أستاذ بكلية العلوم جامعة طنطا، وجيهان شعبان وهي اليوم أستاذة بعلوم المنيا ومحمود المحلاوي وهو اليوم رئيس قسم الجيولوجيا بعلوم المنيا وزوجته وفاء زهران الأستاذة بعلوم المنيا ونجيبة إبراهيم وهي اليوم أستاذة بعلوم المنيا وزوجها المرحوم د. علي ومصطفى الفقي وزوجته أميرة وكلاهما اليوم أساتذة بالكلية، وفي قسم الرياضيات مصطفى الصباغ ومحمد السعيد ود. شوقي وممدوح حسن ومحمد ربيع وفي الطبيعة رابح وسعد قناوي رحمة الله عليه وعلي حسنين ومحمد رفعت وفي الكيمياء خالد أبو حديد وعايدة لطفي ولطفي مدكور وفتحي فهيم.

وعلى مستوى الجامعة خارج كلية العلوم فقد تعرفت وتآخيت مع الطلاب محي الدين عيسى وأبو العلا ماضي بالهندسة وإبراهيم ذنون بالزراعة، والمعيد مدحت خشبة ومحمد شوقي ود. زكريا ود. محمد دهيم ودسوقي شملول وكرم زهدي وفؤاد الدواليبي وأسامة حافظ وعاصم عبد الماجد وحسن يوسف وآخرين من الأحباب مطبوعة صورهم وأصواتهم في قلبي وعقلي بالرغم من نسيان أسمائهم اليوم فسلام عليهم جميعا إلى يوم الدين.


الرجل الذي قل ودل:

إنه العالم الجليل الذي شد انتباهي من أول يوم بلغت فيه المنيا في يناير 1976، أحببته كثيرا وأحبني وصاحبته متعلما فلم يبخل علينا بشيء قط وكانت من أحلى لحظات العمر حضوره درسه الخاص فوق سطح بيته المتواضع القريب من المسجد، كان لديه دفتر كبير يشبه دفاتر الحسابات يسجل في صفحاته ملاحظاته اليومية معلقا على المواقف بتوجيهات إيمانية أتمنى لو تنشر، إنه الشيخ محمود عبد المجيد العسال إمام المنيا بلا منازع وشيخ وإمام مسجد الإيمان بمدينة المنيا، أو مسجد تحت الكوبري كما يطلقون عليه؛

في هذا المكان الذي كان مهجورا أقام الشيخ محمود العسال صرحا للتوعية وتقديم الخدمات الاجتماعية، وكانت مؤسساته تتكون من المسجد وسكن الطلبة الوافدين من خارج المدينة ومطعم ومغسلة ملابس وقاعات للدرس وكان العنوان الواضح لحركة الشيخ محمود العسال (تاكل وتشرب وتنكسي وتتعلم) أما هو في ذاته فقد كان شخصية مهابة من الجميع مسلمين ومسيحيين وحكومة وأهالي؛

خطبته على المنبر تقل عن العشر دقائق ولكنها تكفيك زادا إيمانيا لعام أو يزيد وخطة عمل لعمرك وعمر من تحب، وهو مع ذلك دقيق الحجم بسيط الملبس والمأكل والمشرب ولذلك لا عجب أن أسميه بحق خير الرجال ... الذي قل ودل فهو قليل ومتقلل من كل أعراض الدنيا ومع ذلك دال على الخير بكل معانيه، رحمة الله عليك يا شيخ محمود وعلى والديك وذريتك إلى يوم الدين.

نهاية رداميس:

في المنيا كانت أروع نماذج الرجولة ونصرة المظلوم، فأهل المنيا لم يقبلوا أن يظلمني عميد الكلية (أ. د. رداميس بطرس فهيم) بسبب ارتباطي بالمواطنين وبالطلاب خارج قاعات الدرس وأراد أن يحدد إقامتي وفق معاييره التي لم تكن ترضيني ولا ترضي الله من وجهة نظري؛

وما أن حرمني من التدريس ودفعني عنوة لأختار جامعة أخرى أنتقل إليها حتى انتفضت محافظة بأسرها تهز القطر بشجاعتها وقوة نصرتها لمعيد نحيف ضعيف حتى تأخذ الحق له من عميد متغطرس يمشي مسعرا خده مختالا بالبايب الذي يمارس رضاعته كبرا وخيلاء ويمثل المستعمرين ولا يمثل المسيحيين من قريب ولا بعيد يومها اعتصم الطلاب بالكلية ولم يفضوا اعتصامهم حتى تدخل وزير التعليم العالي (أ. د. مصطفى كمال حلمي) فأعادني للعمل وأوقف العميد سنة كاملة عن العمل في سابقة لا ولن تتكرر، حقا إن الحب في الله يصنع المعجزات.

موقعة الكوبري:

خلال عام 1977 اشتد الصراع بين طلاب الجماعة الإسلامية والأجهزة الأمنية كما كانت طبيعة المرحلة في كل جامعات مصر، وفي يوم من أيام الصراع قرر الطلاب الخروج بمظاهرة تطوف مدينة المنيا منددة باعتقال بعض طلاب الجماعة الإسلامية؛

وعلى الفور تحركت قوات مكافحة المظاهرات وأغلقت طريق مصر أسوان من المدخل الشمالي والمخرج الجنوبي حتى يمنع وصول الطلاب إلى المدينة التي يفصلها عن الجامعة ترعة الإبراهيمية عدا كوبري واحد قبالة كلية الزراعة، ونحو هذا الكوبري اندفعت جموع الطلاب من جميع الكليات تسابق القوات عدوا ولكنهم فوجئوا بوجود قوات في الناحية الأخرى من الكوبري مدججة بالأسلحة والعصي والقنابل المسيلة للدموع وبدأوا في الاشتباك مع الطلاب بالفعل.

انسحب الطلاب وباتوا ليلتهم مبعثرين وسط الزراعات والعزب ولكنهم عادوا وتجمعوا في صلاة الظهر بمسجد كلية الزراعة وهناك صليت بهم وألقيت فيهم كلمة حماسية ألهبت مشاعرهم فخرجوا معاودين المحاولة للوصول إلى المدينة، وكانت المعركة الشرسة مرة ثانية عند الكوبري وفي هذه المرة اجتاز الطلاب الكوبري ومروا أمام المدينة الجامعية القديمة.

ومن هذا الموقع بدأوا الزحف نحو المدينة مرددين هتافاتهم المعتادة، إسلامية لا شرقية ولا غربية ... يا حرية فينك أمن الدولة بيننا وبينك ... وهناك تحركت القيادات الأمنية وعنفت الجنود وراحت تمنعهم من التقهقر فهجموا واستبسلوا فردوا الطلاب أمتارا إلى الخلف، في هذه اللحظة كنت قد نجحت في الوصول إلى خلفية القوات واختلط بالقيادة ورحت أسمع بوضوح كافة الأوامر والتوجيهات التي يصدرها قادة القوات، أيقن الطلاب أنهم لن يستطيعوا المرور فاندفعوا نحو المدينة الجامعية وتحصنوا بها، كان الوقت قد بلغ قرابة المغرب، وراح الطلاب يوقعون أعمدة الكهرباء المحيطة بالمدينة ويسدون بها المسافات بين العمارات حتى لا تلاحقهم قوات راكبة في المدينة، وبالفعل لم تستطع القوات الدخول فبدأت بإطلاق النار على كل من يظهر بالنوافذ الخارجية للمدينة لتخويف الطلاب من استخدام النوافذ كقواعد رمي للحجارة، وجاء الليل وسكنت الأصوات والحالة على ما هي عليه من التوتر والمراقبة والتحفز من الطرفين.

الدروع البشرية:

لم يكتف الطلاب بوضع المتاريس وتكديس كميات من الزلط فوق أسطح العمارات وتعيين ناضورجية فوق كل عمارة لرصد حركة القوات المحاصرة للمدينة، ولكن خوفهم من المداهمة الليلية والقبض والاعتقال دفعهم إلى الأسوأ، قام الطلاب بالقبض على جميع الطلاب المسيحيين بالمدينة في هذه الليلة وبلغ عددهم قرابة العشرين، وحبسوهم في شقة واحدة من شقق المدينة، لكنهم في نفس الوقت أفهموهم أن هذه محاولة لفك الحصار وعدم التعرض للطلاب بالاعتقال؛ وبعد حوار وأخذ ورد قبل الطلاب المسيحيون المهمة وتعاطفوا مع زملائهم طلاب الجماعة الإسلامية، وأعلن الطلاب في ميكرفون المسجد أن أي محاولة لاقتحام المدينة سوف يترتب عليها ذبح جميع الطلاب المسيحيين، وبلغ الخبر كافة الأوساط المسيحية وكان لحركتها أثر ملموس وعاجل.

ومر يوم والوضع على هذا الحال، وفي عصر اليوم التالي استدعت الحكومة الشيخ محمد نجيب المطيعي ليقوم بالوساطة بين الطلاب والقوات الأمنية التي تحاصرهم وشكل الطلاب لجنة لتمثيلهم وكنت واحدا من هذه اللجنة، عرضنا شروط الطلاب على الشيخ وكانت إطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن المدينة وانصراف القوات وعدم القبض على أي طالب من جامعة المنيا بسبب هذه الأحداث، والعجيب أن الأمر لم يأخذ وقتا وبسرعة انسحبت القوات وأفرج عن المعتقلين وقمنا بتسليم الطلاب المسيحيين إلى الشيخ المطيعي، وظلت هذه الوقائع فيما بيننا تسمى موقعة الكوبري حتى اليوم.

عفاريت العجل:

تعتبر الدراجات (العجل) من أهم وسائل المواصلات الداخلية في مدينة المنيا، ولم يكن بالمنيا في السبعينيات غير العجلة أو الحنطور الذي تجره الخيل، وتمشيا مع الواقع ففي أوقات السخونة بين الشباب والشرطة كانت الدراجات تستخدم من الطرفين، وفي أثناء الحصار كانت الأوامر التنظيمية تخرج من المسجد إلى المدينة بواسطة الطلاب راكبي الدراجات؛

وفي لحظة واحدة يتحرك عشرات الطلبة راكبي الدراجات في حركة متسرعة وخلفهم مباشرة مخبر بدراجته لكل طالب بدراجته، وهنا يبدو المنظر وكأنه سباق دراجات في لحظة الانطلاق، وما هي إلا دقائق حتى يكون الجميع كأنهم عفاريت ظهرت واختفت حيث لاذ كل بقرينه وذهب إلى بعيد، اللهم احفظنا.

صباح الحبر:

ظلت الأوضاع متوترة وعدائية بين الجماعة الإسلامية في المنيا والأمن بشكل واضح، وكان المخبرون يمثلون عناصر التجسس على الطلاب في الجامعة والأحياء، وفي الأقاليم فإن معرفة الأشخاص نسبا وعلاقات اجتماعية وتوجهات تكون متوفرة لدى المخبرين أكثر من الضباط؛

والمخبر في الأقاليم يعتبر موظفا في الحكومة ولديه راتب شهري، ولذلك تجد عليه بعض علامات الشبع والاستقرار المعيشي ومن ذلك ارتداءه للجلابيب الصوف في الشتاء والسكروتة الحريرية في الصيف، وهذه الصورة الظاهرية الحسنة كانت وقتها مستفزة للطلاب في الشتاء للجماعة الإسلامية حقدا وحسدا للمخبرين؛

وتطوع أحدهم بعملية تشويه للمخبر في حارته، وتفتق ذهنه عن سلاح جديد وهو سلاح الحبر، وانتظر مرور المخبر تحت شرفته وعاجله بدلق الدواية على رأسه، وملابسه اعتبرته الجهات الأمنية نقضا للهدنة وإعلان حرب الدواية فقامت بمحاصرة المكان وتمشيط الحي حتى تمكنت من اعتقا الطالب.

روسية كرم زهدي:

كرم زهدي في هذه الآونة طالب بمعهد التعاون بأسيوط ولكنه هنا في المنيا كل يوم يمارس القيادة في الجماعة الإسلامية بطريقته، نحيف البدن متوقد الفكر مفتوح العينين كأنه صقر يتأهب للانقضاض دائما وأطول ما فيه اليدين والجبهة، يتعامل مع خصومه بنظرة مستهينة وحركة منسحبة ثم بهجمة بالروسية لا تخطئ أنف أو جبهة الخصم الذي يتدهول لحظات كافية لفرار كرم وكأنه فص ملح وداب؛

حتى أن ضباط المباحث ميزوا الجميع بالبصمة وأما كرم فقد كانت بصمته الروسية، وكثيرا ما استدلوا بها على قيامه بالفعل مؤكدين للنيابة هذه فعلة كرم والدليل الروسية كما وصفها الشاكي، كرم الآن هو الشيخ كرم زهدي المحامي بالإسكندرية ومن قيادات الجماعة الإسلامية بمصر.

قنبلة الشطة:

لم يتوقف تفكير الجماعات الإسلامية بالمنيا عن استحداث أسلحة موجهة مع قوات الأمن، وأصبحت الحياة تجري بين الطرفين على شاكلة لعبة القط والفأر، وكان من أسلحة الشباب العجيبة قنبلة الشطة، حيث قاموا بتخزين كميات من الشطة السوداني المعبأة في أكياس بلاستيك (قوة 100 جرام وقوة 200 جرام وقوة نصف كيلو)، وعند الصدام كانوا يشعلون النار في الكيس ويلقونه على الجنود فيصابون بالسعال والدموع بدرجة أشدو وأوجع من القنابل المسيلة للدموع المستوردة من أميركا.

بيضة مفخخة:

بدأ بعض الطلاب في جامعة المنيا على مشارف نهاية الثمانينات يتجه تفكيره للصدام المسلح مع الدولة والنظام ويمثلها أمامه الشرطة، وكان من علامات ذلك أن زارني بعضهم وعرض علي أن أساعدهم بوصفي معيدا بكلية العلوم في عمل قنبلة صغيرة ولو (قد البيضة) كما قال كبيرهم، ولأنني كنت متعاطفا معهم فلم أشأ ردهم بعنف أو استهزاء ورحت أحاول أن أردهم عن ذلك بالحسنى؛

فقلت لهم، وماذا بعد تصنيع القنبلة الصغيرة، ماذا تفعلون بها أمام قوة الدولة، وفجأني ما يفكرون به ولم أكن متوقعا الجواب بالمرة حيث قال المتحدث، إحنا ناويين نتسلل إلى معسكر الأمن المركزي ونضرب القنبلة فيخاف الكل ويهرب فناخد ما فيه من السلاح ونتسلح بسلاحهم، وهنا تبين لي أن التعقد الفكري وكراهية النظام قد تجاوز الحد، ومع ذلك قلت لهم افترضوا أننا نجحنا في السيطرة على كل محافظة المنيا وقطعنا طريق مصر أسوان وقسمنا مصر نصفين، ماذا سنفعل مع القوات الجوية والمدرعات والمصفحات؟

وهنا فقط تبين لهم أن الأمر ليس سهلا كما يفكرون فانصرفوا ولم يعاودوا الاتصال بي في مثل هذه المسائل، ولكنني وجدت فيما بعد أن معظم الذين حاورتهم في هذه الليلة كانوا ضمن المتهمين بالمشاركة في عمليات اغتيال السادات والهجوم على مديرية أمن أسيوط بعد ذلك بعامين تقريبا.

الضرب بالمعروف والنهي عن الموسيقى:

في شارع الحسيني أطول شوارع المنيا التجارية محلات تبيع الأشرطة الكاسيت ومن الطبيعي أن يقوم المحل بالإعلان عن بضاعته، وشيئا فشيئا ارتفعت أصوات الأغاني في الشارع وأصبحت من سماته، الجماعة الإسلامية اعتبرت ذلك منكرا يجب تغييره باليد بعد النصح باللسان؛

وبالفعل توجهوا في مجموعات لنصح المحلات ومطالبتها بوقف إذاعة الأغاني، المحلات لم تقبل النصيحة واستمرت فقررت الجماعة الهجوم، وفجأة انقلب شارع الحسيني إلى مهرسة كبرى طالت المحلات التي تبيع الأغاني ومن حاول إنقاذها من التدمير وسرعان ما وصلت قوات الأمن وعمت الفوضى، وبالرغم من انسحاب الشباب من المواجهة أو خوفا من الاعتقال فإن المحلات اشترت سلامتها وامتنعت عن إذاعة الأغاني لفترة طويلة.

منعوا الشيخ:

أعلنت الجماعة الإسلامية عن محاضرة للشيخ عبد الحميد كشك في كلية الآداب بالمنيا، ولم يكن قد تم الاتفاق معه أصلا، فلما ذهب الشباب لدعوته اعتذر عن الحضور لأسباب تخصه، ووجد الشباب نفسهم في ورطة، ولكن الصراع مع الشرطة دفعهم لتحميلها المسئولية عن ذلك، تركوا الأمر على ما هو عليه وحضرت آلاف من أهل مراكز المنيا لرؤية الشيخ كشك شخصيا وسماع محاضرته؛

ووسط هذه الجموع المحتشدة المنتظرة وقف أمير الجماعة ليعلن في تمثيلية محبوكة أن الأمن منع الشيخ من الحضور وحرمونا وحرموكم من رؤيته، وهاج الجمهور هياجا شديدا وخرجوا في مظاهرات طويلة يهتفون، منعوا الشيخ ... يا حرية فينك فينك أمن الدولة بينا وبينك ... منعوا الشيخ منعوا الشيخ ...

التلمساني لا يدخل القفص:

مرت موقعة الشيخ واستضافت المنيا الأستاذ عمر التلمساني ليلقي محاضرة بمسجد الرحمن بعد العشاء، كان الأستاذ عمر عائدا يومها من زيارة أسيوط، كعادته بدأ فور وصوله بزيارة محافظ المدينة أوا وبالطبع يكون عند المحافظ رؤساء الأجهزة الأمنية والحزبية وتمت المرحلة الأولى وفي المساء فاجأنا الأمن بإزالة السرادق قبل المحاضرة بدقائق وأصر أن تتم بالمسجد الذي لا يسع غير مئة فرد؛

ومنع التواجد تماما بالساحة أمام المسجد ودفع الجمهور بالقوة ليتفرق في الشوارع والطرقات وبدت العملية كلها انتقاما من مظاهرة (منعوا الشيخ ...) تحرك موكب الأستاذ عمر نحو المسجد ومعه قرابة المئة من المرافقين ولم نشأ نخبره بما حدث وصحبناه إلى المسجد في هدوء تام، وأثناء صلاة العشاء والكل مشغول بها؛

كان تنفيذ ما خططنا له، سحبنا تضمها والميكرفون والكرسي وصعد الأستاذ عمر وبدأ المحاضرة مباشرة بدعوة المدعوين للاقتراب من المسجد وقال أنا واثق أن رجالات الأمن سوف يساعدونكم على الوصول فأرجو التعامل معهم بكل رفق ولين، حاول بعض الضباط التدخل لمنع ذلك ولكننا صنعنا حول المنصة سدا منيعا لم ينفذ منه أحد منه أحد منهم رغم شدة التدافع رغم شدة التدافع بيننا وبينهم، أحد الضباط تعمد تفتيشي ذاتيا بحركة سريعة لوجود محفظتي في الجيب الداخلي للجاكيت ظنا منه أنني أحمل سلاحا، وفي لحظات اندفع الجمهور نحو الساحة وتمت المحاضرة والمحاورة والكل وقوف على قدميه.

شركة المديرين الستة:

تمشيا مع الظرف الجديد بعد تخرج الدفعة الأولى من شباب الصحوة الإسلامية بالمنيا ومستفيدا بتجربتي في الصناعة والحياة فقد وجدت من المهم أن يكون لهم عمل، ونتج عن المشاورة الاتفاق في إقامة شركة تعمل في مجال مواد البناء (الرخام والكربونات وكسر الصخور المستخدم في صناعة البلاط)، تعتبر المنيا شرق النيل مصدرا أساسيا لهذه المواد، وبالفعل تأسست الشركة من ستة شركاء هم المهندس علي عمران (رئيس مجلس الإدارة) والدكتور السيد عبد الستار مدير المعامل وضبط الجودة والمهندس محي الدين عيسى (المدير العام) المهندس أبو العلا ماضي (مدير الإنتاج) والجيولوجي حشمت خليفة مدير المبيعات والتسويق والجيولوجي جمال عبد الصمد (مدير المصانع).

واتخذنا للشركة مقرا يعتبر من أعجب المباني التي رأيتها، مبنى يطل على النيل مساحته 20 مترا مربعا، نعم عشرين ... لا تتعجب فقد كان مكونا من أربعة أدوار يربطهم سلم، فكان المبنى أقرب إلى المئذنة منه إلى الإدارة ولكنه كان كافيا للغرض ...

وخلال عام 1980 اشترينا من سوق الخردة بروض الفرج كسارة حجارة ضخمة تنتج عشرين طنا يوميا وغربا ورخصنا محجرا وبدأنا الإنتاج والبيع، وفور قيام الجماعة الإسلامية باغتيال السادات قبض على المديرين الستة ضمن المتهمين بالاغتيال، وحقق معي بشأن الشركة وكان سؤال المحقق الذي أضحكني بعمق هو، إذا كانت الشركة من ستة مديرين فمن هم العاملون معكم؟ من هم موظفو الشركة؟

وعندما تمالكت من الضحك أجبته، لو تركتونا سنة واحدة كان ممن يشتغل عندنا حد، ولكن بعد اليوم لن يعمل معنا أحد ولن يشتري منا أحد، وبالفعل فور خروجنا نحن الستة من المعتقل لم تقبل أي شركة أو مصنع أن يشتري منا بضاعة حتى مصنع بلاط محمد شاكر المحسوب على الإخوان المسلمين رفض التعامل معنا تماما، وكان لا بد من البحث عن عمل آخر.

محاولة فك رقبة:

بصدور قرارات الاعتقال في 3 سبتمبر أصبح قطار الصعيد من المواقع الخطرة الملغمة بالمخبرين الباحثين عن شباب الصحوة المطلوب اعتقالهم وجلهم من الصعيد، لم أتردد في العودة للمنيا صباح يوم 4 سبتمبر فقد كنت قلقا على إخواني هناك وكان ضروريا أن أكون معهم، وفي القطار وبعد محطة بني سويف سمعت في العربة المجاورة جلبة وضجيجا وعراكا، جريت مندفعا لأتفقد الحادث، وجدت عددا من المخبرين يشهرون مسدساتهم نحو شاب ويطلبون منه أن يسلم نفسه وهو في ركن من العربة يرفض التسليم ومتأهب للمقاومة بصورة هستيرية ولا يتوقف عن توجيه السباب لهم وللحكومة التي ينتمون إليها؛

لم أكن أعرفه ولكن سحنته ولغة كلامه دلت على أنه من شباب الصحوة الإسلامية، حاولت أن أعطيه فرصة للهرب فتدخلت نحو المخبرين مدعيا المصالحة وحجزت بينهم وبينه ولكنهم فطنوا لمرادي فدفعني أحدهم بقوة خارج الحلبة، وتلقفني آخر وهكذا أفسدوا خطتي، وبعد قليل تمكنوا من وضع الكلبشات في يده، وربطوا معه مخبر في اليد الأخرى، كل هذا والقطار منطلق ناحية المنيا، وقبل المحطة بقليل حاصرني المخبرون وفعلوا بي ما فعلوا معه، وفورا حضرت قوة من الشرطة وتسلمتني في محطة المنيا ثم ذهبت بي إلى مديرية أمن المنيا.

فيش وتشبيه أول مرة:

في مديرية الأمن مكثت يومين وخلالهما تم عمل أول ملف لي بالمنيا، وتطلب ذلك عمل فيش وتشبيه، وأثناء حركتي بالمدينة من المديرية إلى الأدلة الجنائية كنت أتمنى أن ألتقي بأي شخص يعرفني حتى أبلغ أسرتي بوجودي بالمديرية، وبالفعل قابلت مدرس مساعد زميلي بزراعة المنيا ويسكن معي في استراحة الجامعة فتوجهت نحوه أناديه، فلما وجدني والكلبشات في يدي أشاح بوجهه بعيدا وفص ملح وداب، حزنت كثيرا لموقفه، ولكن ما العمل والخوف وحش كاسر يأكل الرجولة والمرؤة إلا من رحم ربي؟

الفولي ينقذ الموقف:

إنه أخي وصديقي المهندس محمد محجوب الفولي، من عرب المنيا وأعيانها، ربطتنا به علاقة أخوية وحب في الله وكان من أنصار الصحوة الإسلامية، وكان له قرابات في أماكن مرموقة بالمحافظة ومنهم ضباط شرطة برتب عالية، وبدون أن يقترب مني أرسل لي في المساء وجبة ساخنة وإفطار في صباح اليوم التالي؛

وسعى لفك أسري ونجح في ذلك وأغلق المحضر على ذلك ولم يصدر قرار باعتقالي وفور خروجي من المديرية وجدته عند الباب في انتظاري وحملني بسيارته إلى استراحة الجامعة، حيث بت ليلتي وغادرت إلى القاهرة في اليوم التالي.

لا مفر من المعتقل:

لم يمض وقت طويل بعد هذه الحادثة حتى اغتيل السادات يوم وقفة عيد الأضحى وانقلبت الأمور رأسا على عقب، وفي يوم العيد استقبلت أخويا محيي الدين عيسى وأبو العلا ماضي وتوجهت بهم نحو الملاذ الآمن الذي أعددته لهم، وأثناء عودتي للقاهرة يوم 9 أكتوبر 1981 كانت القاهرة كلها كمائن ضبط المطلوبين للاعتقال من الشباب، وفي الكمين المحاصر لمكاتب شركات الشريف قبض علي وتوجهوا بي إلى قسم مصر الجديدة ومن هناك ركبت سيارة الترحيلات متوجها إلى سجن أبو زعبل، وفي أبو زعبل وجدت كل من أعرفهم تقريبا وبدأنا سنة أولى سجن.

رسائل الوفاء للسجناء:

من توفيق الله لك أن يذكرك الناس بالخير بعد الموت، والسجن مقبرة الأحياء، والمسجون السياسي من أمثالنا عادة لا يجد من يسأل عنه سوى أهله ومضطرين أحيانا، أما عموم الناس فما يزالون يعتبرون الخلاف مع الحكومة خط أحمر لا يجب الاقتراب منه؛

ومع ذلك هناك بشر في مصر ما يزالون يملكون القدرة على تخطي حواجز الخوف ومراسلة المساجين السياسيين من زملائهم وليكن ما يكون، والحمد لله أن وهب لي من هؤلاء من راسلني واتصل بأهلي في محنتي الأولى، الزملاء بكلية علوم المنيا جمعوا تبرعات من بينهم واشتروا حلوى ولعب أطفال وأرسلوا بها إلى بيتي في القاهرة الزميلة سهام إبراهيم المدرسة المساعدة بقسم الكيمياء فزارت أسرتي وخففت عنها ما هي فيه، والزميل مصطفى الصباغ المدرس المساعد بقسم علم الحيوان رشح مكاني في البعثة التي كانت من حقي قبل الاعتقال ومن بريطانيا أرسل لي خطابا رائعا يقول فيه إنه مستعد فور خروجي من المعتقل أن يعود للكلية ويتنازل عن البعثة لصاحبها الأصلي؛

وأما الزميلة الدكتورة جيهان شعبان فقد أرسلت خطابا مؤثرا للغاية بالرغم من أن زوجها المستشار شكري العميري في سلك القضاء وهو الأمر الذي قد يضر بموقفه ولكنني بتعامي مع هذه الأسرة الكريمة الصديقة أدرك أنه من الرجال العظام الذين لا يتأخرون عن الواجب ويسعده أن تكون زوجته كذلك.

أ‌. د. أحمد راضي يصنع المعروف:

على النقيض من المحترمة للزملاء بالكلية تصرفت إدارة الجامعة بحمق شديد فأصدر رئيس الجامعة قرارا بتحويلي من معيد بقسم النبات إلى موظف بمكتبة الكلية متذرعا زورا بأنني لم أتقدم برسالة الماجستير؛

وقد فاتت المهلة المسموح بها ومفهوم لدى الجميع أن القرار كان سياسيا وبإيعاز من جهات أمنية تريد تصفية وجود الإسلاميين بالجامعات، وفي مثل هذه الحالات ينص القانون عى ضرورة موافقة وزير التعليم، فلما عرض الأمر على أ. د. مصطفى كمال حلمي الوزير في هذا الوقت أشر على الخطاب بضرورة أخذ رأي قسم النبات في مثل هذه الحالة بوصفه القسم المختص؛

وفعلا عاد الخطاب إلى الجامعة وحوله رئيس الجامعة إلى القسم وهنا حدثت المعجزة قام أ. د. أحمد فرج راضي رئيس القسم وعلى نفس الخطاب حتى لا يلغى بكتابة ما معناه (السيد: السيد عبد الستار المليجي المعيد بقسم النبات يؤدي عمله بنجاح ورسالته للماجستير معدة للمناقشة ولا داعي لاتخاذ أي قرار مثل هذا بحقه)

ووقع باسمه وصفته وصور الخطاب بهذه الحالة وأعاده إلى رئيس الجامعة، هنا وقع رئيس الجامعة في حيص بيص، وانتظر حتى سفر الوزير خارج مصر في عمل واستخدم صلاحياته الخاصة وأصدر قرارا بوصفه يأخذ بعض صلاحيات الوزير حال سفره، وحولت بالفعل إلى وظيفة إدارية بينما كنت وراء القضبان.

عميد وخائف ومرعوب:

فور الإفراج عني توجهت إلى الكلية فوجدت الحالة لا تسر، الجميع حزين على ضياع مستقبلي العلمي وضياع وظيفتي التي يعتبرونها مرموقة، مدير المكتبة أبلغني بخجل وتأثر أنه مضطر أن يكتب تقريرا عني لو تغيبت عن الحضور يوميا ووقعت في دفتر الحضور والانصراف؛

توجهت لعميد ليتدخل بإصلاح الخطأ فوجدته في حالة يرثى لها من الخوف والرعب وأصر على معاملتي كإرهابي متهم باغتيال الرئيس وكموظف مفروض عليه وبصورة متعسفة وراح يقول (أنت عندي موظف ولست معيدا والموضوع انتهى وم تدخلنيش في موضوعك ...) خرجت من عنده وتوجهت مباشرة لمحطة القطار وغادرت وعدت إلى القاهرة وأنا لا أعرف تحديدا كيف أتصرف.

الأرزاق على الله يا سيد:

بعد طول تفكير قررت أن أفسد خطة القضاء على مستقبلي العلمي بأيسر الطرق تقدمت بطلب إجازة بدون مرتب، ووافق عليها العميد فورا وكأنه يتخلص من مشكلة أو مصيبة، وعدت للقاهرة وقررت أن أرفع أمري للقضاء وتوجهت للمرحوم الأستاذ عمر التلمساني في مكتبه بالتوفيقية؛

استمع مني ووافقني على قراري وأعطاني كارت وعليه توصية للأستاذ محمد عصفور المحامي الشهير، في مساء نفس اليوم توجهت إلى مكتب المحامي فوجدته بالحجز وسكرتيرته تتحدث عنه كأنه رئيس جمهورية ولا يمكن لقاؤه بدون حجز موعد مسبق؛

ثم أردفت بصرامة بالغة (انتو ح تموتوا الأستاذ ولا إيه؟!) أظهرت لها كارت الأستاذ عمر فتغير كل شيء وأحضرت لي كرسيا وقبلت مني دفع 200 جنيه لفتح ملف القضية، وقالت الأتعاب مع الأستاذ، الحمد لله كان المبلغ معي، دخلت بعد قليل، كان مكتبه بالفعل مكتب رئيس جمهورية، لقيني بترحاب شديد وقدمت له الكارت وعرفته بنفسي ولم يسألني عن صلتي بالأستاذ عمر التلمساني؛

نظر فيما أعددت من أوراق، وقال سنأخذ منك أقل أتعاب 500 جنيه بس، قلت له ممكن الأسبوع القادم قال نعم في أي وقت، وبعد أن دفعت المبلغ وحتى اليوم لا أعرف أي شيء عن هذه القضية وما آلت إليه في القضاء الإداري؛

توجهت لجامعة عين شمس لأسجل لدرجة الدكتوراه، واعتمدت على الله وما أملكه من خبرات فدخلت في شراكة لإقامة مصنع كيماويات وبويات وكان أجر إدارتها كافيا لحياتي وزيادة، مكثت مضطرا في إجازة بدون راتب 8 سنوات وكان رزق اله لي فيها أضعاف مرتب الحكومة ولم أتأخر كثيرا في الحصول على الدكتوراه عن زملائي الذين سافروا في بعثات على نفقة الدولة.

أ‌. د. حسن فودة يبعث الأمل: لم يكن التسجيل للدكتوراه أمرا سهلا لمن ليس معيدا بالجامعة ولا توجد جهة تصرف عليه ومتابع من أمن الدولة أينما ذهب، ولكن العلاقة الإنسانية التي ربطتني بأساتذتي كان لها أعمق الأثر في تخطي كافة الصعاب التي واجهتني في مساري العلمي، واستطاع أستاذي الفاضل حسن أنور فودة أن يحجز لي مكانا في معمل الأبحاث ووجهني بطريق غير مباشر أن أقوم بشراء الكيماويات اللازمة على نفقتي الخاصة، والحمد لله أنهيت رسالة الدكتوراه وحصلت على الدرجة العلمية بجامعة عين شمس.

أ‌. د. محمود الريس يعدل الكفة:

فور حصولي على الدكتوراه توفي إلى رحمة الله رئيس الجامعة الذي أوقفني عن العمل بدون وجه حق وتولى المسئولية بعده أ. د. محمود الريس، توجهت إليه والتقيت به وشرحت له الموضوع بشفافية كاملة وتقدمت له بطلب عودتي لعملي، وبالفعل وافق على أن أعود بإعلان إلى نفس وظيفتي وفرح بذلك رئيس قسم النبات وقتها أخي أ. د. سامي كامل ووافق على الإعلان وعدت إلى عملي وأقام الزملاء بالكلية حفلا بهيجا بهذه المناسبة وقالوا كلاما ذرفت له عيني دموع الفرح بعودة المياه إلى مجاريها، والحمد لله رب العالمين.

هكذا عشت في المنيا وفي المنيا شاركت في بناء صرح الدعوة الإسلامية في الجامعة وخارجها، وفي المنيا كانت سنوات من الكر والفر بين مفاهيم الإسلام وجماعاته ومحاولات رتق الصفوف وتوحيد الجهود وكانت النتائج بفضل الله أفضل مما نتوقع ونأمل والأهم من ذلك أنني ما زلت متعلقا بالمنيا ومحبا لكل من فيها حتى من اختلف معي في الرأي من أبناء هذه المحافظة المتميزة بطيبة القلب وصفاء الروح في تناغم خلاق بين الطبيعة والإنسان، فسلام على المنيا مكانا وسكانا إلى يوم الدين.

الإسماعيلية مدخل فلسطين:

غادرت المنيا إلى كلية العلوم بالإسماعيلية في يناير 1991، ومع أن سجلي السياسي كان يمنع قبولي في أي جامعة مصري أخرى ولكن رسالة توصية كريمة من أستاذي حسن أنور فودة إلى رفيقه أ. د. أحمد دويدار عبد البسيوني والذي كان يشغل وقتها منصب نائب رئيس الجامعة

وكذلك شجاعة وكر أ. د. أحمد خضير رئيس الجامعة وأ. د. حلمي منصور رئيس قسم النبات بالعلوم سهل لي مهمة النقل إلى الجامعة الجديدة ولله ثم لهم يرجع الفضل في إتمام هذا الانتقال الذي قصر مسافة السفر الأسبوعية بالنسبة لي 250 كم وهي المسافة من القاهرة إلى المنيا إلى 120 كم وهي المسافة من القاهرة إلى الإسماعيلية؛

ومن أعاجيب الأقدار أن أول ترشيح لي بالعمل معيدا بلغني أثناء الخدمة بالجيش كان لكلية علوم الإسماعيلية، وقتها في عام 1975 لم يكن للإسماعيلية محطة سفر أعرفها ولم أستطع التوصل لطريقة أسافر بها وبينما أنا كذلك بلغني خطاب آخر بالتكليف على جامعة المنيا فركبت القطار وذهبت إليها بسهولة ويسر ورضيتها موطنا لعملي الرسمي أو الحكومي أو الميري وكان بها الخير العميم الذي أوضحت بعض جوانبه، في الإسماعيلية عشت وما زلت حياة الزائر المتعجل وأكاد بعد 18 عاما بها لا أعرف الكثير من طرقات المدينة وأجهل كل مراكزها وقراها، حياتي كلها مع مجتمع الكلية الصباحي ومجتمع الأتوبيس الذي ينقلنا بين الجامعة والقاهرة؛

ومع ذلك فمن فضل الله علينا أن رصيد الحب والأخوة والتواصل مع الزملاء يزيد ولا ينقص وعندما ترشحت لعضوية نادي أعضاء هيئة التدريس من عامين حصلت على أعلى الأصوات بجامعة قناة السويس والحمد لله رب العالمين، ويبقى أجمل ما في الإسماعيلية أنها تذكرني دائما أنني أقترب من سيناء ثم فلسطين فبوابات القدس فالمسجد الأقصى، اللهم ارزقنا الصلاة فيه بعد تحرير أرضه من دنس المعتدين.