علاقة الإخوان بالقضاء والقضاة (الحلقة الأولى)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
علاقة الإخوان بالقضاء والقضاة


(الحلقة الأولى)


إعداد: إخوان ويكي

مقدمة

القضاء هو إقامة العدل في الأرض، ووظيفة القاضي كانت وما زالت وستبقى من أسمى الوظائف العامة وأنبلها على الإطلاق تحاط بالهيبة، فهى تقرن بالإجلال لمكانته العظيمة ولأهميته التي لها مساس مباشر بحرية الناس وكرامتهم في أي مجتمع على مر الزمن. لهذه الأسباب كان يعتلي منصب القضاء الملوك والحكام وأرباب العقول النيرة أو من يرون فيه مثالاً يحتذى به لإحقاق الحق وزهق الباطل بعد أن تضمن لهم استقلاليتهم لكي لا يأخذهم في الحق لومة لائم، ففرعون مصر كان يطلب إلى القضاة قبل تسلمهم زمام القضاء أن يقسموا أمامه يميناً بعدم إطاعة أوامره لو أنه طلب منهم ما يخالف العدالة.

فعلى مر العصور رُكز على دور القاضي العادل لأنه يرقى إلى تجسيد معنى العدالة في حياة الناس، فنجد لذلك سنداً في قول الفيلسوف اليوناني أفلاطون : (من الأفضل أن يكون للشعب قضاة جيدون وقوانين سيئة من أن يكون له قضاة فاسدون وقوانين جيدة).ولقد أشتهر عن العرب قبل الإسلام عنايتهم بهذا الجانب

وبعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم عزز القضاء وحصنته الشريعة الإسلامية السمحة، فأضحى مقنعاً عادلاً حيث ركز الإسلام على شخصية القاضي ومنحه الثقة بالنفس. وفي عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كملت أدلة التشريع (الكتاب والسنة والقياس والإجماع) حيث كان الخلفاء يجلسون للقضاء بأنفسهم أو يعهدون إلى أفضل الناس فهماً وعفة وثقافة وأمانة لذلك خاطب الله تعالى القضاة في كتابه بقوله (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).

ولذا حكم الإسلام العلاقة بين القضاء والمجتمع والدولة، وبشكل عام فإن جميع الشرائع السماوية والوضعية حرصت أن يكون القاضي مستقلاً ومثقفاً وأميناً وحيادياً عادلاً رصيناً محصناً وهي متطلبات تقتضي سعة الصدر وحسن الفهم والشدة حين تكون ضرورية والرحمة حيث تستدعي ذلك الظرف وألا يستوحي حكمه إلا من ضميره وقناعته الوجدانية المجردة، لكي يظل قضاءنا صاحب تاريخ مشرق، وليس بغريب أن يؤكد تشرشل رئيس وزراء بريطانيا عندما عرف بأن القضاء بخير أن بريطانيا بخير..وأيضا نابليون بونابرت حينما سأل على القضاء فقالوا له: بخير، فقال: إذا فرنسا بخير.

القضاء والعدالة المفقودة

إذا غاب العدل شاع الظلم وعمت الفوضي وأصبح المجتمع كغابة يأكل القوي الضعيف ويعلوا شأن الظلمة والفسدة ويضاع فيه حق المظلوم، وينطبق على المجتمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم (كانوا اذا سرق فيهم القوي تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا الحد عليه)

ولذا حرص رسول الله صلى الله عليه ويسلم أن لا تعم هذه الروح أو تسري في جسد الأمة لأنها الهالكة وقال لأسامة بن زيد حينما شفع لامرأة سرقت من علية القوم: (والله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطع محمد يدها)، ولهذا بلغ المجتمع مبلغ الأمن أن ينام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ظل شجرة لا يحرسه أحد وقد عم الأمن مما دفع رسول هرقل أن يقول: حكمت فعدلت فنمت يا عمر.

لكن في كل عصر تبتلى الأمة بقضاة يضيعون الحق لصالح القوى أو ذي هوى أو صاحب سلطان أو لمنافع شخصية وعرض زائل من الدنيا فتضيع الحقوق ويغيب العدل ويظلم فيه الضعفاء. ولقد ابتليت الأوطان الإسلامية في هذا العصر بهذا الداء العضال، بقضاة اقتنعوا بالباطل وكرهوا الحق وأهله فظلموهم باسم القانون وحققوا رغبات الحاكم بالتنكيل بكل مظلوم ليس لشيء الإ لحرصهم على دنياتهم فباعوا أخرتهم بدنيا غيرهم فانهار المجتمع وغابت العدالة وانعدم الثقة في كل قاض جلس ليفصل بين الناس، فانهار المجتمع.

الإخوان ونسيج المجتمع

الإخوان المسلمون اسم ظهر للجميع وعلا شأنهم وقويت شوكتهم لتبنيهم المنهج الوسطي للإسلام لا غلو فيه ولا تفريط، ولذا حوربوا من كل ظالم وأعوانه، وحاولوا عزلهم عن بقية مجتمعهم وكأنهم جاءوا من كوكب أخر أو غزاة لهذه الأوطان وكانهم ليسوا من ابنائها وعاشوا على أرضها وعملوا للنهوض بمقوماتها.

لقد بدأت فكرة الإخوان المسلمين على يدي الشيخ حسن البنا ونشأت مثلها مثل بقية الحركات الإسلامية التي نشأت في كل وطن أو كالحركات العلمانية والشيوعية التي نشأت وانتشرت وسط جموع الناس وكل حركة استخدمت أساليبها المحببة للناس لدعوتهم إليها وتركوا الاختيار لأصحاب العقول فانجذب لكل حركة من أرادها وهكذا الإخوان انتشرت وترعرت وسط جموع الشعب المصري وأطيافه وبقية الشعوب فلاقت القبول حتى أصبحت اكبر الحركات الإسلامية وأكثرها تأثيرا في العالم.

يقول حسن البنا هذه الدعوة بقوله:

لكل دعوة خصائص، ومن خصائص دعوة الإخوان -فيما أعتقد- أمور تحقق بعضها ونغفل عن البعض الآخر، وحبذا لو لاحظنا الجميع حتى يكون النجاح تامًا والتوفيق كاملاً إن شاء الله. من هذه الخصائص الإيجابية والبناء، فدعوتنا تبنى ولا تهدم وتأخذ بالإيجاب دائمًا، فعلينا أنفسنا قبل كل شىء (1). فرصدها الأعداء وجنودهم في كل مكان ووضعوا لها العراقيل واستخدموا في ذلك كل الأساليب والجنود ليوقفوا سيرتها وللأسف خاضوا معهم عن قصد الفئة التي منوط بها تحقيق العدل فسقطت الشعوب بظلم هذه الفئة (القضاة).

فيقول الإمام البنا:

ستسمعون أن هيئة من الهيئات تتحدث عنكم، فإن كان هذا الحديث خيرًا فاشكروا لها فى أنفسكم ولا يخدعنكم ذلك عن حقيقتكم، وإن كان غير ذلك فالتمسوا لها المعاذير وانتظروا حتى يكشف الزمن الحقائق، ولا تقابلوا هذا الذم بذم مثله، ولا يشغلنكم الرد عليه عن الجد فيما أخذتم أنفسكم بسبيله، وثقوا أن ذلك لن يصرف عنكم ولا يضركم، ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ﴾ "آل عمران: 186".
وستسمعون أن هيئة تتهمكم بالاتصال بهيئات أخرى تكرهها، أو تصادمها فلا تهتموا بذلك أيضًا، ولا تحاولوا أن تزيلوه أو تثبتوه، فإن على المتهم أن يثبت والبينة على من ادعى، والأمر لا يتعدى أحد موقفين. إما أن يكون هذا المتهم جادًا فيحاول أن يتأكد ويتثبت وسيؤديه تثبته ولو بعد حين إلى معرفة حقيقة دعوتكم، وأنكم لا تتصلون إلا بالله ورسوله، ولا تعملون إلا للإسلام وأهله، وإما غير جاد فيما يقول وإنما هو يتسلى بالتهم ويتلذذ بالغيبة، فهذا لن يضركم أمره شيئًا، فدعوه يتروح بهذا القول ما شاء له التروح، وسلوا الله تعالى لنا وله الهداية والتبصرة.
وستسمعون أن قومًا يريدون أن يتصلوا بكم أو أن تتصلوا بهم من أهل العمل العام إما صادقين أو غير صادقين، فأحب أن أقول لكم هنا بكل وضوح أنكم ورثة رسول الله وخلفاؤه على قرآن ربه، وأمناؤه على شريعته، فلا تساوموا على منهاجكم، واعرضوه على الناس فى عز وقوة. أيها الإخوان لا تستعجلوا فلا زال الوقت أمامكم فسيحًا، فإن العزة لله جميعًا ولتعلمن نبأه بعد حين. ذلك فيما أرى ما يجب أن يكون من موقفنا أمام الهيئات جميعًا نريد لها الخير ونلتمس لها العذر ولا نطلب ولا نرد، ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ "النساء: 94" (انتهى). إن الإخوان لا يفرقون بين الدين والسياسة ولا القضاء والعبادة ولا الاقتصاد والعلم لأن نظرتهم شاملة لجميع مناحي الحياة.

كتب أحد الإخوان في جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية تحت عنوان يوضح هذا المعني: "بين الدين والسياسة" يقول:

"لذلك يجب أن يفهم الناس دين الإسلام على أنه كل شيء، على أنه العبادات وعلى أنه مطابقة العمل للعلم، وعلى أنه أنموذج سامٍ لأرقى النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. نعم والسياسة بل ثمار السياسة تكون من الذروة في مناهج الإسلام الصحيحة يتوجه بها إلى توطيد الشرائع طبقًا لما أنزل الله، وإقامة الحدود طبقًا لما فرض الله
وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة غير الله هي السفلى، وإعزاز المسلم وتفرده بالسلطان واليقظة والحذر من مواطن الإفك والبهتان، يجب أن يفهم الإسلام على هذا وعلى أنه دين المجالدة والمصارعة والمغالبة والجهاد في سبيل تسلم القمة رعاية للعهد وتوطيدًا للعدل وحماية للأوطان" (2). وهذا غير ما سطره الأستاذ البنا في الأصول العشرين والتي وضحت منهج وفكر الإخوان في جميع شئون الحياة.

الإخوان والقضاء

نظر الإخوان إلى القضاء والقضاة بإجلال شديد وقدسية عظيمة لما يرونه أنه ميزان العدل بين الناس ولما حباهم الله بالوقوف على مظالم الناس والفصل فيها، حتى أن الأستاذ البنا يفتخر بكون بعض القضاة أصدقاءه فيقول: كان صديقي القاضي الفاضل الشيخ أحمد شاكر قاضيًا بمحكمة الإسماعيلية الشرعية. ولقد شجع الإخوان وزارة الشئون الاجتماعية على قرارها بإنشاء مكتب للخدمة الاجتماعية تتعاون مع القاضي الشرعي فى تعرف الأسباب الحقيقية التى تؤدى للطلاق. (3)

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل شجعوا على تقوية القضاء والالتزام بما جاء في شريعة الله للفصل بين الناس، ففي مقال للإمام الشهيد تحت عنوان "هل تحل الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية" أوضح فيه كيف أن الإسلام يغني في كل المسائل سواء كانت للفرد أو تخص الأمة، وأن الإسلام ينظر إلى جميع المسائل على أنها مسائل دينية فلا يفرق بينها، ويطالب القضاة بأن يعملوا على تطبيق قانون الله بدلاً من القوانين الوضعية، ثم يحيي الأزهر على عدم حضوره الاحتفال بالعيد الخمسيني للمحاكم الأهلية وعدم الاعتراف بالمحاكم الأهلية. (4)

ونشرت أيضا جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية سلسلة من المقالات في أفضلية التشريع الإسلامي على التشريع الوضعي، ومقارنة بين القضاء الإسلامي والقضاء الوضعي نقلاً عن محاضرة ألقاها أحد الإخوان في دار الإخوان المسلمين ببور سعيد في مايو 1936م (5). وكتب الإمام البنا في العيد الخمسين للمحاكم الأهلية يذكر الحكومة بأن دستور الدولة ينص على أن الإسلام دينها الرسمي ويجب أن تراعي الحكومة ذلك وتعمل على تنفيذه، فتحل التشريع الإسلامي محل التشريعات الأخرى التي تصطدم مع شريعة الإسلام وذكر الحدود على سبيل المثال. (6)

وتحت عنوان "دستور الله" يكتب الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي عن أن دستور المسلمين هو القرآن وهو الدستور الخالد، وأن الإخوان المسلمين هم فئة قد اطمأنت إلى ما اعتقدت ووثقت بما آمنت، ووقفت عندما أمرت ونهضت أول ما دعيت، ونادت أن الله يريد حكمه ودستوره فماذا أنتم فاعلون، وأن حكم الناس بغير ما أنزل الله لهم وبال عليهم فماذا تريدون (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) "المائدة: 50" (7)

وليس ذلك فحسب بل وصل الحال لتأييد الإخوان لمطالب طلاب كلية الشريعة في ندائهم الموجه إلى الشعب المصري والحكومة المصرية وجعلها توافق الشريعة الإسلامية؛ لأن كتاب الله لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ففيه العقوبات والأحكام المدنية والتشريع الدستوري وغيره، وعار على أمة لها هذا الكتاب المنزل أن تلجأ إلى التشريع الفرنسي أو خلافه. (8)

ولم يكتف الإخوان بذلك بل كانوا يعقدون المناظرات في هذا المجال ويدعى له كبار القضاة للتحيم ومن ذلك ما نشرته مجلة البنان التى قالت:

"دعت جمعية الإخوان المسلمين بالمنصورة للحضور فى السابعة من مساء الجمعة الماضى لسماع مناظرة موضوعها: "هل من الممكن تطبيق التشريع الإسلامي فى مصر بظروفها الحاضرة؟" ، وكانت لجنة التحكيم مؤلفة من حضرات الأساتذة محمود حسنى بك (القاضى بالمحاكم الأهلية)، وزيان حسنى بك (وكيل أول نيابة المنصورة)، والشيخ عبد الرحمن عبد الواحد (المحامى الشرعى)، وخليل أفندى توفيق (المحامى لدى المحاكم المختلطة)، وأحمد أفندى الدسوقى (القاضى المحامى الأهلى)، وقام بأعمال السكرتارية حضرتا الأستاذان حسن خطاب أفندى عضو الجمعية، وإبراهيم عبد الوهاب أفندى مراقب المحاضرات.
وقد أيد المحكمون رأى الأساتذة عبد الرحمن صالح أفندى (المحامى)، وزين العابدين جمعة أفندى (المحامى)، والشيخ عبد الحميد فرج (إمام مسجد) الذين قالوا إمكانية تطبيق الشريعة فى مصر بظروفها الحاضرة، وعارضوا رأى الأساتذة إبراهيم خاطر أفندى (المحامى)، وسيد المحجوب أفندى (المدرس بمدرسة طلخا الثانوية)، وعلى الباز أفندى (سكرتير سعادة مدير الدقهلية)، والقائلين بعدم إمكانية تطبيق الشريعة فى مصر بظروفها الحالية. (9)
وحينما حاولت حكومة علي ماهر توحيد القضاء المصري تحت لواء الإدارة العامة للقضاء المصري، وطالب البعض بانضواء القضاء الشرعي تحت مظلة القضاء الأهلي، ولكن بعض النواب رفضوا هذه الفكرة وطالبوا إن كان هناك توحيد لجهات القضاء فلا مانع من ذلك إذا كان أساس هذا التوحيد هو الشريعة الإسلامية، وأيد الإخوان تلك المطالب وعضدوها (10) ، لكن الحكومات كلها بما فيها حكومة علي ماهر لم تستجب لذلك، ولم تستطع أن تلغي القضاء الشرعي حتى جاءت ثورة يوليو فألغته.
وعندما أثير مشروع تقييد الطلاق وتعدد الزوجات كتب الإخوان ملاحظاتهم وتحفاظتهم على هذا المشروع، مفندين ما جاء به من حجج باطلة، معترضين على سن أي تشريع يقيد الطلاق ويجعله عن طريق القاضي في المحاكم فحسب، وذلك لصون كرامة المرأة والحفاظ على عفافها، حيث كانت المرأة إذا تزوجت شاعت البهجة والسرور، وإذا حدثت الفرقة بين الزوجين تم ذلك بالمعروف وفي هدوء حفاظًا على مشاعرها وعزتها. (11)
كما رأوا أن تقييد الطلاق وتعدد الزوجات مخالف لشرع الله، وأنه يدفع بالرجل لارتكاب المنكرات، وكيف يعيشان وهم شركاء متشاكسون، فتتحوّل الحياة الهادئة إلى حياة مليئة بالشجار والخلافات، ومن ثم طالبوا وزارة الشئون الاجتماعية بتشجيع الزواج، والعمل على تيسيره ونددوا بزيادة الفتيات العوانس التي امتلأت بهن البيوت لعزوف الشباب عن الزواج بسبب الأحوال المادية الصعبة التي يعيشون فيها، أضف لذلك انصرافه لقضاء حاجته في بيوت الدعارة العلنية والسرية المنتشرة والمشرعة بقانون، ومن ثم فعلى وزارة الشئون أن تفرض أشد العقوبات على هذا الاتصال المحرم، فإن عجزت عن تحريم الحرام فلا أقل من أن تسكت عن تحريم الحلال. (12)
كما أرسل الإمام البنا بصفته المرشد العام للإخوان المسلمين خطابًا إلى معالي وزير العدل أحمد محمد خشبة حول حوادث الخمر جاء فيه تذكيره بدعوة الإسلام لأبنائه إلى محاربة الخمر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحذير من المعصية، ومناصرة الحق مهما كلفهم ذلك، ومقارعة الباطل مهما كان عاليًا وحمل الناس على الفضائل بعد أن فشت فيهم الرذائل، مشيرًا إلى أن الخمر التي هي أم الخبائث، ومركز الجرائم، ومصدر الكبائر، وأساس الموبقات والمهلكات، ما فشت في أمة إلا استنزفت عقلها وأثمن ما لديها، ومالها وهو قوام حياتها، وشرفها وهو ملاك دينها، ولهذا حرمها القرآن وجعلها رجسًا من عمل الشيطان.
ومصر التي هي بلد مسلم وزعيمة بلاد الإسلام زاد عدد الحانات في شوارع القاهرة على محلات ألزم الحاجيات، وصارت دكاكين البقالة خمارات يحميها القانون، وقد دنست رائحة الخمر الجو الصافي الطيب، ويجلس أحلاس البارات والخمامير بعد منتصف الليل في زواياها وهم هياكل عظمية لا يعرفون حق مال ولا ولد ولا زوجة ولا أهل، وإن في قطعة من شارع محمد علي وحده بين العتبة وباب الخلق أكثر من عشرين خمارة وليس هذا الحي من أحياء الفجور والفساد فكيف بغيره؟
أهذا يرضي الله ويتفق مع الدستور ويساير مكانة مصر، ويعين على تكوين الجيل القوي الذي يصل حاضر مصر الضعيف بماضيها القوي؟ فإذا آلمت هذه المظاهر المؤلمة بعض الشبان فتحمسوا وأرادوا أن يسمعوا الحكومة صوتهم ويحتجوا على هذه المظاهر التي تتنافى مع دينهم بعد أن سئموا الكلام والكتابة فاعتدوا على الحانات وقدموا من أجل ذلك للمحاكمة، فلا يصح أن يعاملوا كما يعامل البلطجية والمتشردون، فالعدل الذي هو أساس القانون يقضي بأن ينظر لهذه القضية نظرة خاصة
وأن يكون لهؤلاء الشبان سبيل غير سبيل المعتدين الظالمين، وليس معنى هذا أن الإخوان يقرون أحدًا أن ينتقض على القانون، ولا الدعوة للعدوان في أي صورة من صوره، ولكن عناصر الجريمة في هذه القضية مفقودة تمام الفقدان، والقصد الجنائي فيها منعدم، فليس بين هؤلاء الشبان وبين الحانات وأصحابها صلة تحملهم على الانتقام والإجرام، وإنما الذي حملهم دافع شريف جدير بالتقدير، وهؤلاء الشبان بشعورهم هذا إنما يعبرون عن شعور الأمة كلها بإغلاق الحانات وتطهير الشوارع والأحياء من هذه الآثام.
والإخوان يتقدمون له بمطلبين وهو حقه عليهم:
أولاً: أن يعيد النظر في إجراءات هذه القضية، وينظر في الوسيلة القانونية التي يطلق بها سراح هؤلاء الشبان المسجونين.
ثانيًا: أن يتقدم للحكومة عاجلاً بتشريع حازم يقضي على هذه الفوضى الخلقية، ويحمي الشعب من الخمر والبغاء والمهالك والآثام. (13)
وحينما قام أحد الطلاب التابعين لحزب الوفد بطعن أحد طلاب الإخوان بالمدرسة الثانوية بشبين مما ترك ألما شديدا لدى طلاب الإخوان وتلمكهم الغضب فخاف الأستاذ البنا من ردة فعل غاضبة فتحدث معهم مذكرا باحتساب الفقيد عند الله وأن القضاء هو سيد الموقف
فقال لهم: أما انتم يا طلاب شبين الكوم فوصيتي لكم خاصة أن تحتسبوا فقيدكم الكريم لله عز وجل,وأن تتركوا للقضاء ما يعين له من الحكم الرادع ان شاء الله ,وان يكون استشهاد فقيدكم العزيز عبرة تلمون بها شعثكم ,وتجمعون بها شملكم تقطعون بها الطريق على فتنة يراد بها التفريق بين صفوفكم, وصرفكم عما انتم بسبيله من طلب العلم والتفرغ له هذه وصيتي أزجيها إليكم وكلى فيكم أهل وثقة والله على قلوبكم نعم الخليفة. (14)

ويؤكد على ذلك بقوله:

"ثم إن هذه الحدود – أى العقوبات - تنفيذها متروك لأمر القاضى وتقديره تطبيقا لقوله : "ادرأوا الحدود بالشبهات" (15)

لكن يذكر القضاء بقاعدة هامة ترفع من شأنهم وقدرهم وسط الناس فيقول:

إن العدل ليس فى نص القانون ولكنه فى نفس القاضى، وقد تأتى بالقانون الكامل العادل إلى القاضى ذى الهوى والغاية فيطبقه تطبيقا جائرًا لا عدل معه، وقد تأتى بالقانون الناقص الجائر إلى القاضى الفاضل العادل البعيد عن الأهواء والغايات فيطبقه تطبيقًا فاضلاً عادلاً فيه كل الخير والبر الرحمة والإنصاف، ومن هنا كانت النفس الإنسانية محل عناية كبرى فى كتاب الله، وكانت النفوس الأولى التى صاغها هذا الإسلام مثال الكمال الإنسانى (16)

ويقول في رسالة المؤتمر السادس عام 1941م:

وأن تبذل الحكومة المصرية أقصى الجهد فى تقوية الجيش المصرى، والنهوض بكل أسلحته، وإتمام وسائل الدفاع العسكرية والمدنية إتمامًا كاملاً سريعًا استعداداً للطوارئ، مع العمل على التخلص من آثار الاحتلال الاقتصادي الذى فرضته علينا شركات الاستغلال الأجنبية، وإلغاء المحاكم المختلطة التي لم يعد هناك مبرر لوجودها. (17)

الإخوان والسلك القضائي

لقد عمل بعض الإخوان بالسلك القضائي ففي المنزلة مثلا الأستاذ الشيخ محمد السعيد المدني المحامي الشرعي، وجبر أفندي شطا كاتب أول المحكمة الشرعية، وفي السويس شعبتان إحداهما في المدينة ويرأسها الأستاذ الشيخ عبد الرازق البجيرمي باشكاتب المحكمة الشرعية، والأخرى في حي الأربعين ويرأسها الأستاذ عفيفي الشافعي عطوة مأذون الجهة، وصادق بك فهمي القاضي بمحكمة المنصورة المختلطة الذي كان مسئولا عن منطقة شربين. (18)

هذا غير المستشار حسن الهضيبي الذي كان قاضيا في محكمة النقض والمستشار محمد المأمون الهضيبي في محكمة استئناف القاهرة والمستشار عبد القادر عودة والذي كان يشرف على انتخابات عام 1945م بدائرة الإسماعيلية حيث كانت الإعادة بين حسن البنا وسليمان عيد فعمد الانجليز والحكومة على التزوير لصالح سليمان عيد ضد حسن البنا فاجتج على ذلك القاضي عبد القادر عودة

ويصف الأستاذ محمود عساف ذلك بقوله:

كنا نرى مئات من السيارات اللوري المليئة بعمال المعسكرات البريطانية، ومعظمهم من صعيد مصر تجوب طرقات الإسماعيلية هتافًا لسليمان عيد، ثم تتوقف أمام لجان الانتخابات ليدخل هؤلاء وينتخبون، واحتج الشهيد عبد القادر عودة على التزوير، وكان يعمل قاضيًا ورئيسًا لإحدى اللجان، فصدر أمر وزير العدل بنقله فورًا من الإسماعيلية، فأبى الشهيد عبد القادر عودة هذه الإهانة واستقال من القضاء
وكانت تلك باكورة صلته بالإمام الشهيد وبالإخوان المسلمين التي أصبح وكيلها فيما بعد قبل أن تغتاله يد الغدر بالإعدام شنقًا عام 1954م، وكانت الأصوات التي حصل عليها الإمام محدودة في كل اللجان، فقد بدلت الصناديق بغيرها إلا لجنة واحدة كانت منسية حصل فيها الإمام البنا على 100٪ من الأصوات، وكانت هذه اللجنة لجنة الطور، وكان وكيل الإمام فيها الخواجة خريستو صاحب محل البقالة الوحيد هناك (19). ومنهم أيضا المستشار علي جريشة وفتحي لاشين وغيرهم الكثير ممن جرت لهم مذبحة القضاء في عهد عبد الناصر.

أمل مفقود

إن القضاء في بداية عهد دعوة الإخوان المسلمين اتسم بالنزاهة والعدل، فلم يقع تحت تأثير المحتل أو السلطة التنفيذية بل كان صاحب الكلمة العليا في شئونه، ولنرى نموذجا لشموخه فحينما وقف رجال القضاء في بداية حياتهم للقسم أمام الملك فؤاد (وكان من ضمن هؤلاء المستشار حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان فيما بعد) كان العرف أن يدخل القاضي مطأطأ الرأس ويقسم ويخرج مطأطأ الرأس ويخرج بظهره لكن حينما دخل حسن الهضيبي داخل شامخ الرأس فأقسم ثم أعطى للملك ظهره وخرج فقلده من جاء بعده وصارت عرف بعد ذلك. (20)

محاكمات الإخوان وشموخ القضاء

لم تسلم الجماعة من المضايقات والعراقيل التي حاول المحتل وضعها في طريقها بمعاونة أذنابه في الحكومات المتعاقبة الذين حاولوا أن يورطوا القضاء والقضاة معهم لكنهم وجدوا صخرة عاتية لم تستجب لمطالبهم الدنيئة دون دليل واضح..ونسوق نموذج من هذه المحاكمات ليعرف الجميع الفرق بين القضاء في الماضي والقضاء حاليا.

ففى عام 1942م وكانت الحرب العالمية الثانية على أشدها مما دفع بالإنجليز في ظل الخوف من الزحف الألماني والطعن من الخلف من قبل الشعب المصري أو الحركات الكارهة له فقام بإنشاء المجالس البريطانية التى قاموا بنشرها فى كافة أنحاء القطر المصرى، وقد قام "المجلس البريطاني" بطنطا عن طريق أحد عملائه بتلفيق قضية خطيرة ضد الإخوان المسلمين باتهام محمد عبد السلام فهمى وكان مهندسًا فى مصلحة الطرق والكبارى بطنطا

وجمال الدين فكيه وكان موظفًا ببلدية طنطا (كانوا من الإخوان) وكانت التهمة الموجهة لهما "أنهما يعدان جيشًا للترحيب بمقدم الألمان، وأنها يحدثان بلبلة فى الأفكار، ويعدان عناصر معادية للحلفاء، وأن هذين الأخوين هما الوسيطان بين الإمام البنا ومجموعة أفراد عرضت على الأستاذ البنا شخصيًّا أنواعًا من السلاح والعتاد الألمانى، وقد سر الإمام البنا بذلك ورحب بالحصول على هذه الأسلحة، وجعل من هذين الأخوين الوسطاء فى هذه الصفقة، وقد اعترف الأفراد المقبوض عليهم من غير الإخوان بذلك. (21)

وبناء على ذلك تم القبض على الأخوين محمد عبد السلام فهمى وجمال الدين فكيه، ولما كانت البلاد فى حالة حرب مع الأعداء فقد طالبت النيابة بإعدامهما، وسميت هذه القضية بالجناية العسكرية العليا 883 لسنة 1942م قسم الجمرك، واستمر حبس الأخوين ثمانية أشهر ونصف على ذمة القضية بسجن الحضرة بالإسكندرية.

وقدمت القضية أمام محكمة الجنايات العسكرية العليا باب الخلق، وقد اهتم الإمام البنا اهتمامًا شديدًا بهذه القضية فكان يواظب على الحضور مع عدد من المحامين كان على رأسهم الأساتذة: الدكتور على بدوى بك (عميد كلية الحقوق) ومحمد على علوبة باشا، وعبد الرحمن البيلى بك، ومحمد فريد أبو شادى بك، وعمر التلمسانى، وعلى منصور، حيث فند الدفاع كل التهم وأظهروا زيف وكذب الشهود

وانتهت المداولة وخرجت هيئة المحكمة وكانت مكونة من خمسة أعضاء برئاسة المستشار فؤاد بك أنور، وعضوية المستشارين محمد توفيق إبراهيم بك، وزكى أبو الخير الأبوتجى بك، ومعهم اثنان من العسكريين، ونطق رئيس المحكمة بالأحكام وفى صدرها براءة الأخوين جمال الدين فكيه، ومحمد عبد السلام فهتف جميع الحضور "يحيا العدل". (22)

وحينما سقطت السيارة الجيب في نوفمبر 1948م وتم القبض على البعض وظلت القضية متداولة 3 سنوات نظر القضاة لبعض المتهمين بعين الإنسانية فحينما علمت النيابة بوقع تعذيب على المتهمين من قبل البوليس السياسي بعلم من رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي قامت باستدعاء الجميع واستجوابهم في هذه الواقعة ومما جاء فيها:

  • س: هل أشرت أثناء الحديث مع المتهم إلى جماعة الإخوان المسلمين وطلبت من المتهم أن يدلي بما عنده بخلاف ما سبق أن أدلى به إذا كان لديه ما يمكن الإفضاء به؟
ج: مطلقًا.
  • س: هل اتصل بعلمك أثناء توليك الحكم أن تعذيبًا وقع على أحد المتهمين في قضايا الإخوان؟
ج: إشاعات والنيابة تتولى التحقيق.
  • س: وهل وصلك بعد خروجك من الوزارة أن تعذيبًا وقع على بعض المتهمين؟
لم أسمع إلا إشاعات كما جرت في كل القضايا.
  • يقرر عبد الرحمن عثمان أنه في يوم 10 يوليو سنة 1949 أثناء رياستكم للوزارة استحضر إلى محافظة مصر وعذبه الضابطان محمود طلعت، ومحمد الجزار بوضع ساقيه في فلكة وبضربه بالسوط، وقد أثبت تقرير الطبيب الشرعي أن الإصابات الثابتة يمكن أن تنتج من مثل هذا التعذيب فما قولك؟
ج: لم أسمع بهذا.
  • س: يقرر عبد الرحمن عثمان أنه في يوم 11 يوليو سنة 1949 أثناء توليك رياسة الوزارة ومنصب الحاكم العسكري العام استدعى إلى محافظة مصر وقام اللواء أحمد طلعت بتعذيبه مع الضابط فاروق كامل، فهل وصل ذلك إلى علمكم؟
لا.
  • س: هل كان الباشا يعلم أن النيابة أذنت بخروج عبد الرحمن عثمان لمصاحبته بالقطار وهذا المتهم تحت التحقيق والنيابة هي الأمينة عليه؟
ج: كل الذي أعرفه أني قلت لطلعت بك ممكن أشوف المتهم، أما إذا كان هو قد أستأذن النيابة فهذا ما لا أعرفه وليس لي به علم.

وفي 13 أبريل 1951 نشرت الصحف حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب علي الصورة الآتية: "المحكمة تعلن" وهي مطمئنة "أن تعذيبًا وقع علي المتهمين". "كان التحقيق فوضى ، تارة تتولاة النيابة وأخري يتولاه عبد الهادي باشا". "المحكمة تشيد بمبادئ الإخوان المسلمين ، ولكن المتهمين انحرفوا عنها بدوافع وطنية كأبناء بلد محتل مغلوب علي أمره " " وتحت تأثير كارثة فلسطين".

وقع أسس سعادة أحمد كامل بك رئيس دائرة الجنايات المكونة من سعادته وعضوية محمود عبد اللطيف بك ومحمد وكي شرف بك حيثيات حكمها في قضية السيارة الجيب، التي كان متهما فيها 32 شخصا من الإخوان بالتفاق الجنائي العام علي قلب نظام الحكم وإحراز الأسلحة ، وقضي ببراءة 14 متهما ويحبس الباقين مددا تتراوح بين ثلاث سنوات وسنة واحدة – ويقع الحكم في 385 صفحة فلوسكاب . وقد بدء بأسماء المتهمين والتهم والمنسوبة إليهم وبيان الأوراق والأسلحة التي ضبطت ثم جلسات المحاكمة – ثم أشار إلي اعترافات عبد المجيد حسن قاتل النقراشي – ثم عرض إلي اعترافات عبد الرحمن عثمان.

وتناول الحكم بعد ذلك الكلام عن جماعة الإخوان المسلمين مشيرا إلي نشأتها ومسارعة فريق كبير من الشباب للالتحاق بها، والسير علي المبادئ التي رسمها منشئتها ، والتي ترمي إلي تطهير النفوس مما علق أو يعلق بها من شوائب ، وإنشاء جيل جديد من إخوان مثقفين ثقافة رياضية عادية ، مشربة قلوبهم بحب وطنهم ، والتضحية في سبيله بالنفس والمال .

ومضت تقول:

وقد كان لابد لمؤسسي هذه الجماعة لكي يصلوا إلي أغراضهم أن يعرضوا أمام هذا الشباب مثلا أعلي يحتذرونه في الدين الإسلامي وقواعدهم التي تصلح لكل زمان ومكان ، فأثاروا بهذا المثل العواطف التي كانت قد خبث في النفوس ، وقضوا علي الضعف والاستكانة والتردد.

وهذه الأمور تلازم عادة أفراد شعب محتل مغلوب علي أمره ، فقام هذا النفر من الشباب يدعو إلي التمسك بقواعد الدين والسير علي تعاليمه . وإحياء أصوله ، سواء أكان ذلك متصلا بالعبادات والروحينيات أو بأحكام الدنيا . ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة هي جيش الاحتلال ، الذي ظل بين المحتل وبين فريق من الوطنيين الذين ولوا أمر هذا البلد مباحثات ومفاوضات علي إقرار الأمور ليخلص الوادي لأهله ، ولم تنته هذه المفاوضات والمحاولات الكلامية إلي نتيجة طيبة .

ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صحبها من ظروف وملابسات . ولما كان كل هذا .. اختل ميزان في بعض أفراد شباب جماعة الإخوان فبدلا من أن يسيروا علي القواعد التي رسمها زعماؤهم ، والتي كانت قديرة حتما علي تربية فريق كبير من أفراد الشعب وتثقيفهم وإعلاء روحهم المعنوية .. بدلا بهم أهدافهم من سبيل قصير . فاتحدت إرادتهم علي القيام بأعمال قتل ونسف وغيرها مما قد لا يضر المحتلين بقدر ما يؤدي بمواطنيهم ، وذهبوا في سبيل ذلك مذهبا شائكا ، منحرفين عن الطريق الذي رسمه لهم رؤساؤهم والذي كان أساسًا قويا لبلوغهم أهدافهم . وحيث إنه يتبين من كل هذا أن هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة وإنما انحرفوا عن الطريق السوي فحق علي هذه المحكمة أن تلقنهم درسا.

درس رءوف:

علي أن المحكمة تراعي في هذا الدرس جانب الرفق، فتأخذهم بالرأفة تطبيقا للمادة 17 من قانون العقوبات؛ لأنهم كانوا من ذوي الأغراض السامية التي ترمي أول ما ترمي إلي تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب علي أمره.

وجاء نص الحكم كالتالي:

السجن ثلاث سنوات:

  1. مصطفي مشهور
  2. محمود السيد خليل الصباغ
  3. أحمد محمد حسنين
  4. أحمد قدري الحاتي
  5. سيد فايز عبد المطلب

السجن سنتين مع الشغل :

  1. عبد الرحمن علي فراج السندي
  2. أحمد زكي حسن
  3. أحمد عادل كمال
  4. طاهر عماد الدين
  5. محمود حلمي فرغلي
  6. محمد أحمد علي
  7. عبد الرحمن عثمان
  8. صلاح الدين عبد المتعال
  9. جمال الدين طه الشافعي
  10. جلال الدين ياسين
  11. محمد سعد الدين السنانيري
  12. علي محمد حسنين الحريري

الحبس سنة واحدة : محمد إبراهيم سويلم.

براءة المتهمين جميعا من التهمة الرابعة الخاصة بحيازة أجهزة وأدوات ومحطة إذاعة لاسلكية بدون إخطار.

براءة 14 متهما هم:

  1. محمد فرغلي النخيلي
  2. محمد حسني أحمد عبد الباقي
  3. أحمد متولي حجازي
  4. إبراهيم محمود علي
  5. الدكتور أحمد الملط
  6. جمال الدين إبراهيم فوزي
  7. السيد إسماعيل شلبي
  8. أسعد السيد أحمد
  9. محمد بكر سليمان
  10. محمد الطاهري حجازي
  11. عبد العزيز أحمد البقلي
  12. كمال سيد القزاز
  13. محمد محمد فرغلي
  14. سليمان مصطفي عيسي

وفي تحقيق صحفي نشرته صحيفة أخبار اليوم في 12 يوليو 1952 مع المستشار أحمد كامل بك رئيس المحكمة التي أصدرت حكمها في قضية السيارة الجيب. تحت عنوان: "المستشار الذي حاكم الإخوان المسلمين أصبح واحدا منهم" جاء فيه: أنه بعد أن انضم إلي الجماعة سعادة أحمد كامل بك الرئيس السابق لمحكمة جنايات مصر، الذي أصدر حكمة في قضية سيارة الجيب.

قد اختير سعادته رئيس للجنة الاستشارية للإخوان في العاصمة الثانية الإسكندرية وسيشرف سعادته علي تنفيذ هذه المشروعات التي وضعت لصالح الجماعة وهي:

  1. الضمان الاجتماعي.
  2. التأمين الصحي والعلاجي.
  3. تنظيم جباية الزكاة وإنفاقها في وجوهها الشرعية.

فبعد أربعة شهور متتالية، درس فيها المستشار أحمد كامل بك برامج الجماعة، وتعمق في تحليل حقيقة أهدافها ومراميها، وتلتقط أسماعه أقوالا متناثرة في ساحة القضاء، ليصدر بعد ذلك حكمه بأن الإخوان المسلمين جمعية إسلامية تهدف إلي إقامة مجتمع إسلامي مثالي يحكمه الدين.

وقال

"كنت مطالبا بأن أكون عقيدة لنفسي قبل أن أكون عقيدة لغيري، وكان يجب أن أعيش في القضية مكان المتهمين ومكان أعضاء الجماعة ومكان قائد الدعوة، لأومن بما يؤمنون به، أو لأكفر بما يعتقدون أنه الحق.. وبين الإيمان والكفر كانت تنظر قضية سيارة الجيب، لتحدد وإلي الأبد.. مصير الإخوان المسلمين.. ولتحدد بعد ذلك مصيري. فإني أعتقد أن هذه القضية هي وحدها التي هدتني إليهم، وهي التي دفعتني إلي أن أصبح عضوا عاملا في الجماعة، أسير معهم، وأدافع عنهم عندما يحين لقضية " الأوكار " أن تعرض أمام القضاء."

وقد استقال أحمد كامل بك من القضاء وعمل محاميا بالإسكندرية كما أنه ترافع ضد الحكومة في قضية مقتل حسن البنا.كما صرح المستشار محمود عبد اللطيف بك عضو اليمين في هذه المحكمة فور الانتهاء من نظر قضية السيارة الجيب حيث قال: "كنت أحاكمهم فأصبحت واحدًا منهم" (23)

ولقد شجع الإخوان القضاة الذين أصدروا أحكامهم وفق معايير نزيهة وضمير حي، ففي مقال كتبه الأستاذ صالح عشماوي (الوكيل العام لجماعة الإخوان المسلمين) جاء فيه:

نشرت جريدة (أخبار اليوم) أن محكمة جنح الجيزة حكمت بحبس موظف ثلاثة شهور مع الشغل والنفاذ لأنه كان يشرب الخمر في بيته، وكانت بداية هذه القضية شكوى تقدم بها جيران أحد السكان، وهو موظف، إلى قسم الشرطة بأنه اعتاد شرب الخمر كل ليلة في شقته وأنه اعتدى على زوجته وأمه بالسب وبالضرب
وقام بتحطيم أثاث شقته وطرد أمه من منزله بعد منتصف الليل وقد ذهبت أمه إليهم للمبيت عندهم خوفًا على حياتها من ابنها، وأحالت الشرطة بلاغ الجيران إلى النيابة التي استمعت إلى أقوال الأم وأحالت النيابة المتهم إلى المحكمة وطلبت معاقبته بتهمة السكر البين في الطريق العام.
وقال محامي المتهم: أن موكله لم يقبض عليه في الطريق العام.. وإنما قبض عليه في منزله وهو يشرب الخمر وقد أخطأت النيابة عندما قدمته للمحاكمة فليس في تعاطي الشخص للخمر في بيته جريمة يعاقب عليها القانون وقد أباح القانون شرب الخمر في الأماكن العامة والفنادق الكبرى وفي محلات تقدم الخمر لروادها بترخيص من الحكومة، وطلب البراءة للمتهم.
وحكمت محكمة جنح الجيزة برئاسة (محمد عبد اللطيف) بحبس الموظف ثلاثة شهور مع الشغل والنفاذ، وقالت في أسباب الحكم:
"من حيث أن ما دفع به محامي المتهم مع أنه قد قبض عليه في منزله ولم يشرب الخمر في الطريق العام كما قدمته النيابة فالمحكمة تلتفت عن هذا الدفع ولا تعيره أي اهتمام بل إنا تستنكر ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز، وهو أحكم الحاكمين: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه). وإذا كان محامي المتهم يتمسك بقانون وضعي فإن هذه المحكمة تقضي وتتمسك بقانون السماء وهو الأسمى والأجدر بالتطبيق لقوله سبحانه وتعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم).
وهذه المحكمة تقرر في عبارات صريحة أن الله سبحانه وتعالى قد حرم الخمر فهي حرام في كل مكان وزمان بعد نزول التشريع السماوي على قلب رسوله الكريم وإذا خالف الحكم نصًا في القرآن أو السنة أو خالف الإجماع فإنه يبطل فإذا عرض على من أصدره أبطله وإذا عرض على غيره أهدره. ونحن نحيي رئيس المحكمة (محمد عبد اللطيف) ونقدر له وقفته التاريخية
ونسجل حيثيات حكمه التي هي أروع من الحكم نفسه، ونقدمه نموذجًا مشرفًا لجميع رجال القضاء في المحاكم على اختلاف درجاتها راجين أن يحذوا حذوه، ويطبقوا الشريعة الإسلامية في أحكامهم من غير خوف ولا وجل، فذلك شرف كبير لهم في الدنيا وأجر عظيم في الآخرة. ويتعجب الأستاذ التلمساني في كتاباته من المحاكمات العسكرية للمدنين وانه يجب على كل إنسان أن يحاكم أمام قاضية الطبيعي.
مما سبق يتضح مدى العلاقة بين الإخوان ومؤسسة القضاء القائم على التقدير والنصح، فما تجاوز الإخوان في حق القضاء في لحظة من اللحظات حتى في أحلك الظروف التي يتخلى فيها القضاة عن حياديتهم ونزاهتهم ويحكموا أهواءهم، فقد ظل الإخوان يقدرون القضاء ويرفعون شأنه، وحتى التجاوزات الفردية في حقهم لم يقرها مؤسسها الأول البنا ولم تقر بها مبادئ هذه الدعوة بل وقفت ضد هذه النزعات الفردية.
  • وفي الحلقة القادمة نتحدث عن ملابسات اغتيال الخازندار وقضية نسف المحكمة والتجاوزات ضد الإخوان في المحاكمات وضد القضاة الإخوان في مذبحة القضاء الأولى عام 1969م وعن العلاقة بينهما في فترتي السادات ومبارك والآن.

المراجع

  1. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (1)، السنة الخامسة، 11 ربيع الأول 1356ه- 21 مايو 1937م، ص (1، 12).
  2. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الثالثة – العدد 15 – 22 ربيع الثاني 1354هـ / 23يوليو 1935م.
  3. المصدر السابق العدد 339 السنة 2/21رجب 1366هـ, 10/6/1947 ص2.
  4. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الثالثة - العدد 8 – 4 ربيع الأول 1354هـ / 4 يونيو 1935م.
  5. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الرابعة – العدد 12 – 11 ربيع الثاني 1355هـ / 30 يونيو 1936م.
  6. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الأولى – العدد 25 - 18 رمضان 1352هـ / 5 يناير 1934م.
  7. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الثالثة – العدد 16 – 29 ربيع الثاني 1354هـ / 30يوليو 1935م.
  8. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الرابعة – العدد 11 – 4 ربيع الثاني 1355هـ / 23يونيو 1936م.
  9. مجلة البنان.
  10. الإخوان المسلمون، العدد (11)، السنة الخامسة، 26ربيع الأول 1359ه/ 4 مايو 1940م، ص (6).
  11. السابق، العدد (59)، السنة الثالثة، 4 جمادى الآخرة 1364ه/ 17 مايو 1945م، ص (3-4).
  12. السابق، العدد (57)، السنة الثالثة، 6 جمادى الأولى 1364ه/ 18 أبريل 1945م، ص (5-6).
  13. السابق، العدد (2)، السنة الثانية، 8 محرم 1357ه/ 28 فبراير 1939م، ص (11-13).
  14. مجلة الإخوان المسلمون اليومية 549 سنة2 /3 ربيع ثان 1367 هـ, 13/2/1948 ص2.
  15. أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى 8/31 وضعفه الألبانى فى ضعيف الجامع ح(258).
  16. مجلة النذير، العدد (35)، السنة الأولى، 17 ذو الحجة 1357ه- 7 فبراير 1939، ص (3- 34).
  17. رسائل الإمام البنارسالة المؤتمر السادس.
  18. جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الرابعة – العدد 24، 25 – 6، 13رجب 1355هـ / 22، 29 سبتمبر 1936م.
  19. محمود عساف: مع الإمام الشهيد، صـ 115.
  20. عمالقة في زمن النسيان، منارات للنشر
  21. جريدة المباحث القضائية – السنة السابعة – العدد 54 – صـ8 – 2ربيع الأول 1370هـ / 12 ديسمبر 1950م.
  22. محمود عبد الحليم: (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ) – جـ1 – صـ219.
  23. راجع موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمون)، كتاب: "قضية سيارة الجيب...الحيثيات... ونص الحكم"، دار الفكر الإسلامي.

إقرأ أيضا