*19 الحلقة الثامنة عشرة.. زيارة الشرق الأقصى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الحلقة (18)

زيارة الشرق الأقصى

هونج كونج المحطة الأخيرة

الرفيق قبل الطريق

الشيخ عبد الله الأنصاري

قبل أن تنتهي الإجازة الصيفية وفي أغسطس سنة 1974 قمت بأول زيارة لبلاد الشرق الأقصى: ماليزيا، وأندونيسيا، وسنغافورة، وهونج كونج، والفلبين، وكوريا الجنوبية، واليابان. وقد استغرقت هذه الرحلة حوالي ثلاثة أسابيع من (23/8 إلى 12/9) من هذه السنة، كما هو مسجل في جواز سفري القطري الذي سافرت به.

كانت الزيارة بتكليف من الشيخ خليفة أمير البلاد -حفظه الله- وكان ذلك بطلب من المسلمين في جنوب الفلبين أن نزورهم، ونزور معاهدهم ومدارسهم ومؤسساتهم، فقام وفد من قطر مكون من فضيلة الشيخ عبد الله الأنصاري، ويوسف القرضاوي، والأستاذ سيد أبو يوسف موجه اللغة الإنجليزية مترجمًا لنا، وقد أمر الشيخ خليفة لكل منا بخمسة آلاف ريال للإنفاق منها على الإقامة والمعيشة.

والحق أنها كانت رحلة نافعة وممتعة من وجوه عدة، فهذه أول مرة يتاح لي أن أزور تلك الديار، وفيها بلاد إسلامية مثل ماليزيا وأندونيسيا، وبلاد فيها أقلية إسلامية كبيرة وأصيلة مثل الفلبين، وبلاد فيها أقليات إسلامية حديثة مثل كوريا واليابان.

وقد قال الأقدمون: الرفيق قبل الطريق، وكان رفيقاي في هذه الرحلة الطويلة: الشيخ الأنصاري والأستاذ أبو يوسف، وهما نعم الرفيقان.

فلقد عرفت الشيخ الأنصاري من قبل، وازددت معرفة به في هذه الرحلة الطويلة، فقد قيل: إنما سُمِّي السفر سفرًا؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ومن لم تستطع أن تعرفه وتسبر أغواره في الحضر، أمكنك أن تعرفه في السفر، والشيخ الأنصاري رحمه الله كان رجلاً سمحًا سهلاً كريمًا رقيقًا رفيقًا، ييسر ولا يعسر، ويبشر ولا ينفر، ويجود ولا يبخل، ولا تصدر منه كلمة تجرح شعور صاحبه، ولا تصرف يؤذيه.

كذلك كان رفيقنا الأستاذ سيد أبو يوسف، فهو رجل حيي كريم مستقيم في قوله وفعله، نقي في ظاهرة وباطنه، ليس مهذارًا ولا ثرثارًا، ولكن يتكلم بحساب، ويتصرف بحكمة، "وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا" [البقرة: 269].

ومن نعمة الله على المرء في سفر كهذا: أن يرزق بمثل هذه الرفقة الطيبة.


المبيت في كراتشي

كانت أول محطة نزلنا بها هي كراتشي، فقد بتنا بها، واستقبلنا هناك سفير قطر في باكستان: الأستاذ مبارك الكواري، وقد صحبنا إلى بعض المحلات لنشتري منها بعض التحف والهدايا، وفعلاً اشترينا بعض الأشياء، ورآها معنا بعض الإخوة الباكستانيين، فقالوا: إنكم اشتريتموها بضعف ثمنها أو أكثر، ولو نزلتم (السوق) لوجدتموها رخيصة جدًّا، فتعلمنا أن لا نمشي مع (السفراء) في قضية الشراء؛ لأنهم يشترون من المحلات (الفاخرة) والأولى أن نذهب مع أهل البلد، فأهل مكة أدرى بشعابها وأسواقها.

وتكفلت السفارة أن تبعث الأشياء التي اشتريناها إلى الدوحة، فليس معقولاً أن نحملها معنا طوال هذه الرحلة، وجلها أشياء خشبية ثقيلة.


ساعات في مطار بانكوك

ومن كراتشي امتطينا طائرة أوصلتنا إلى مطار (بانكوك) عاصمة (تايلاند) وهو بعيد عن المدينة؛ ولذا لم نفكر في النزول إلى المدينة، رغم أننا ظللنا أكثر من أربع ساعات.

وظللنا نتجول في المطار، وكان مطارًا متواضعًا -ولم يكن بفخامة مطار بانكوك الحالي- ورأينا فيه بعض الهدايا التي يمكن أن تُشترَى، وقد اشتريت منها فصًّا من الأحجار الكريمة يسمى (عين القط) أهديته بعد العودة لزوجتي.

وصلينا الظهر والعصر في المطار قصرًا وجمعًا، ثم ركبنا الطائرة الماليزية، لتوصلنا إلى (كوالالمبور) عاصمة ماليزيا.

كيف دخل الإسلام ماليزيا؟


إحدى زيارات القرضاوي إلى ماليزيا

وجدنا (كوالالمبور) مدينة فخمة، فيها بنايات شاهقة، وشوارع نظيفة وواسعة، وأسواق على الطراز الأوربي، وبنوك وفنادق وغيرها من مظاهر الحضارة والمدنية، ولكن فهمنا من مرافقنا من الماليزيين: أن هذه العمارات والمتاجر الكبرى والمصارف والفنادق والمطاعم والأماكن السياحية وغيرها، أكثر من ثمانين في المائة منها يملكها الصينيون والهندوس، والعنصر الملاوي (المسلم) الذي هو أصل هذه البلاد وصاحبها لا يملك إلا أقل من عشرين في المائة.

كانت هذه البلاد تعرف قديمًا باسم بلاد (الملايو) والأصل في أهلها: أنهم مسلمون سُنيون، على مذهب الإمام الشافعي، وكان لنا زملاء في الأزهر الشريف من الملايو، وهذه البلاد لم يدخلها جيش مسلم، ولا وصلتها الفتوحات الإسلامية المعروفة تاريخيًّا، وإنما دخلها الإسلام عن طريق التجار الذين جاءوا من اليمن، وخصوصًا من حضرموت والجنوب، يبيعون ما لديهم من بضائع، ويشترون ما عند القوم من سلع تتميز بها بلادهم، وكان هؤلاء التجار أمثلة حسنة لأخلاق الإسلام، وأدب المسلم، في تعامله مع الله، وتعامله مع الناس، فرأى الناس فيهم الطهارة والنظافة والخشوع لله، والمسارعة إلى الصلوات وأوقاتها، مع الالتزام بالصدق في القول، والإحسان في العمل، وحب الخير للناس، والرحمة بالضعفاء، وبذل المعروف، وإغاثة الملهوف، والعدل مع من تحب ومن تكره، وتقديم العون لمن يحتاجه من خلق الله، مسلمًا أو غير مسلم، لا يريد مكافأة ولا محمدة من أحد "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا" [الإنسان: 9].

رآهم الناس كذلك، فأحبوهم، وسألوهم: من أنتم؟ ومن علمكم هذه الفضائل؟ فقالوا: نحن مسلمون، علمنا الإسلام! قالوا: وكيف نصير مسلمين؟ قالوا: تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وبذلك تدخلون في الإسلام، ثم تؤدون أركان الإسلام الأربعة من الصلاة والزكاة والصيام كل سنة في شهر رمضان، والحج مرة في العمر، وبعد ذلك تحبون للناس ما تحبون لأنفسكم، وتفعلون الخير ما استطعتم، وتتجنبوا الشر ما استطعتم، وبذلك تصبحون مسلمين، لكم ما لنا وعليكم ما علينا.

وبهذه السهولة دخل الناس في دين الله أفواجًا، في بلاد الملايو، وفي جاوة وسومطرة وغيرها من الجزر، التي توحدت وسميت بعد باسم (أندونيسيا) فهكذا دخلت (الملايو) في دين الإسلام، وأصبحت عضوًا في الأمة الإسلامية، وفي الجسم المسلم.

ولكن الإنجليز حينما احتلوها -في عصر الاستعمار- جلبوا عناصر للعمل من خارج الملايو، معظمهم من الصينيين، وبعضهم من الهندوس، فزاحموا أهل البلاد الأصليين، وظلوا يكثرون ويكثرون حتى قاربت نسبتهم نسبة أهل البلاد الأصليين في العدد، وأخطر من ذلك: أنهم بمهارتهم وتضامنهم، أضحوا يملكون معظم ثروة البلاد بأيديهم، فهم يملكون التجارة والصناعة، وأهل البلاد يشتغلون بزرع المحاصيل التي يشتريها منهم الصينيون. وقد ظلوا مدة من الزمن على جنسيتهم الأصلية من صينية وهندية، ولكن الإنجليز ضغطوا على تكنو عبد الرحمن رئيس وزراء (الملايو) التي غير اسمها، لتصبح (ماليزيا) فصدر في عهده قراران خطيران:

أولهما: فصل جزيرة سنغافورة عن ماليزيا، لتمسي دولة مستقلة، لتكاثر العنصر الصيني بها.

ثانيهما: منح الجنسية للصينيين والهنود المقيمين في البلاد بعد عشرين سنة، على أن يبقى الجيش والقوات المسلحة في أيدي الماليزيين.

وما أسرع ما مرت العشرون سنة، وحصل الوافدون على الجنسية الماليزية، فاكتسبوا قوة جديدة، بالإضافة إلى قوتهم الاقتصادية والعلمية.

أنور إبراهيم

بقينا يومين وبعض يوم في ماليزيا، تعرفنا فيها على أهم معالمها، ولقينا بعض الوزراء، وأحدهم دعانا إلى بيته على غداء، ولا أذكر اسمه، كما لقينا بعض العلماء، وبعض الشخصيات الإسلامية، وممن زرناهم في ذلك الوقت: الشاب الذكي المتحمس الطموح: أنور إبراهيم مؤسس جماعة (الشبيبة المسلمة) في ماليزيا، ويطلق عليها اسم (أييم) وكان خارجًا من قريب من السجن، وكان لقاؤنا به طيبًا ومثمرًا، وكان أساسًا لأخوة وصداقة لا تزال ممتدة إلى اليوم، فك الله أسره، ورد كيد خصومه في نحورهم، وأعاذه من شرورهم.

كما زرنا الجامعة الوطنية، وغيرها. ثم ودعنا ماليزيا إلى أندونيسيا.


غارة تنصيرية على أندونيسيا

وبعد ماليزيا استقللنا الطائرة الأندونيسية إلى جاكرتا عاصمة أندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم، والمسافة قريبة، بين جاكرتا وكوالالمبور.

ومما أذكره: أننا سألنا المضيّفة التي تخدمنا في الطائرة وهي أندونيسية: هل أنت مسلمة؟ قالت: لا، ولكن عائلتي مسلمة! فقلنا في أنفسنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، معنى ما تقوله هذه الفتاة أن التنصير أخرجها من دينها، وسلخها من أسرتها.

وكان معنا مضيّف رجل، فسألناه نفس السؤال: أأنت مسلم؟ فقال: لا، ولكني متزوج مسلمة!.

وهذا زواج باطل في نظر الإسلام، فإن المسلمة لا يجوز ابتداء أن تتزوج غير مسلم، ولو كان كتابيًّا، "لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ". (الممتحنة: 10).

وكان قد زارنا في قطر: الأخ عز الدين بليق، صاحب (دار الفتح) للنشر في لبنان، وحدثنا عن الأخطار التي تواجهها أندونيسيا -التي زارها من قريب- من قِبَل التنصير الأوربي والأمريكي، الذي أجلب بخيله ورجله، على أندونيسيا، أكبر بلد إسلامي الآن في العالم، بعد انفصال باكستان الشرقية عن باكستان الغربية، وهم يضعون الخطط لتنصير أندونيسيا وتغيير هويتها، وتغليب المسيحيين فيها على المسلمين في (خمسين سنة) ووفروا لذلك ميزانيات هائلة، وقرروا قرارات بعضها معلن، وبعضها مكتوم، لمسلمين عن ذلك غافلين؛ لذا ألف أخونا عز الدين كتابًا بعنوان (أنقذوا أندونيسيا يا مسلمون)!

وكان للإرساليات التبشيرية -أو التنصيرية- الغربية أكثر من خمسين مطارًا في أندونيسيا، فالمسلمون من أهل البلاد يتنقلون بين الجزر بالقوارب، والمنصرون ينتقلون بالطائرات، فمن المعلوم أن أندونيسيا تتكون من ألوف الجزر، بعضها كبير وبعضها صغير.

ولاحظنا أنهم نجحوا في تحويل بعض المسلمين والمسلمات إلى دينهم بالفعل، في حين لا يطمعون في البلاد العربية، التي قنعوا فيها بزعزعة إيمان المسلم بدينه، وتشكيكه في مسَلَّماته العقدية، وإن لم يدخل في النصرانية.

كان الذي استقبلنا في المطار ورحب بنا هو الدكتور محمد ناصر، رئيس وزراء أندونيسيا الأسبق، ورئيس حزب (ماشومي) السابق، والذي تفرغ الآن هو وعدد من إخوانه ومحبيه وتلاميذه، للعمل الدعوي، والوقوف في وجه تيار التبشير أو التنصير، ومقابلة تخطيطه الماكر الهدام بتخطيط مثله وعلى مستواه في الفكر والوعي، إذا لم يمكن أن يكون مثله في الإمكانات المادية الهائلة.

أنشأ د. ناصر (المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية) لإحياء الإيمان في أنفس الشعب الأندونيسي في جاوة وسومطرة وغيرهما من الجزر، والقيام بتوعية إسلامية شاملة، وتثقيف إسلامي مركز، حتى يملك المسلم (مناعة) ذاتية تقيه من التأثر بأية دعوة هدامة، تريد أن تنزعه من ذاته، وتخلعه من هويته.

وبالإمكانات القليلة المحدودة التي لا تساوي شيئًا، بالنسبة لما تملكه قوى التنصير: استطاع الدكتور ناصر ومن معه أن يقفوا في وجه العاصفة، وأن يشعروا المهاجمين أن حصون المسلمين منيعة، وأنها لا يمكن أن تسقط بسهولة.

وقد اجتمعنا مع المجلس الأعلى، وشددنا على أيديهم، ووعدناهم بمد يد المساعدة الممكنة ماديًّا وأدبيًّا.

وقلنا: يا سبحان الله، كانت أندونيسيا مستعمرة من هولندا، وكانت أندونيسيا أكثر من خمسين مليونًا، وهولندا نحو خمسة ملايين.

ولكن جرى على المسلمين ما جرى، حتى باتت بلادهم في وقت من الأوقات ترزح تحت نير الاستعمار الغربي، أو الشرقي، ولم ينج من الاستعمار إلا السعودية واليمن.


الإسلاميون يزرعون والعلمانيون يحصدون

سوهارتو

وقد كان الإسلام -كالعادة- هو المحرك الأول للبلاد الإسلامية كلها لمقاومة الاستعمار، كما هو معلوم لكل مسلم. فالإسلام يفرض على أبنائه فرضًا عينيًّا: أن يجاهد مع المجاهدين، لقتال الاستعمار المحتل، حتى يطردوه من دار الإسلام، ومن قتل في هذه المعركة فهو شهيد حي عند الله.

وكما هي العادة التي أصبحت وكأنها قانون: نجد أن الإسلاميين يزرعون، والعلمانيين يحصدون، فهم دائمًا يسرقون الثروات من أهلها، ويرثون وحدهم غنائمها، ويمسي الإسلام غريبًا، وهو صاحب الدار!.

هذا ما حدث في تركيا، وما حدث في أندونيسيا، وما حدث بعد ذلك في الجزائر، وما حدث في بلاد شتى.

المهم أنا وجدنا النصارى متمكنين من هذا العهد (عهد سوهارتو) بعد أن كان الشيوعيون هم الممكَّنين في عهد (سوكارنو) فقد طردوا الشيوعيين ليحل محلهم المنصرون. وقد لقينا بعض المسئولين، فكان يحدثنا همسًا، مخافة أن تكون هناك أجهزة تسجيل وتنصت، ترصد ما يقوله، وتنقله إلى السادة المتحكمين، وهكذا أصبح المسلمون في ديارهم لا يملكون حرية التعبير ولا حق الكلام، وبعضهم يُعَدّ من المسؤولين والمشاركين في السلطة، فما بالك بغيرهم؟!


غيبة العلماء عن الوعي بالعصر

حسن البنا

ولم يكن كثير من علماء الدين على المستوى المأمول الذي يواجهون به هذه الحملة الصليبية الغازية إلا قليلاً منهم، ممن تفتَّح أفقه على الدعوات التجديدية والإصلاحية المعاصرة، ومن هؤلاء: الجمعية المحمدية التي لها مدارس ومنشآت كثيرة زرنا بعضها، ومنهم قليل ممن تعرفوا على دعوة الشيخ حسن البنا ممن درسوا في مصر، أو في غيرها من العالم العربي.

ومَن عدا هؤلاء كانوا يعيشون في الماضي السحيق، ويقرءون في الكتب الصفراء، ولا يعرفون عن حاضرهم، ولا عن حاضر الأمة شيئًا، ولعله لا يحس بما يبيته له دعاة التنصير من مكايد ودواهٍ وحباء، وهو لا يدري.


غياب فقه الأولويات

وأذكر ما قاله لنا وزير الشئون الدينية حين قابلته مع الشيخ الأنصاري رحمه الله، أن إحدى القبائل الوثنية الكبرى أرادت الدخول في الإسلام، فاتصل زعماؤها ببعض كبار مشايخ الدين في منطقتهم، وعرضوا عليهم رغبتهم في الدخول في دين المسلمين، فماذا يطلب منهم في ذلك؟ فقالوا لهم: مطلوب منكم شيء واحد حتى يكون إسلامكم مقبولاً؟.

قالوا: وما هو؟

قال المشايخ: أن تختتنوا!!

قال ممثلو القبيلة: وهل هذا أمر لازم؟

قالوا: هو من شعائر الإسلام، والفارق بين المسلم وغير المسلم!!

وهنا قال القوم: نشاور أهلينا في ذلك، وذهبوا ولم يعودوا، خشية من هذه المذبحة الجماعية!

فتصوَّر هذا الفقه الأعوج، الذي يضع العقبات في طريق من يرغب في الإسلام، ولقد دخل الألوف وعشرات الألوف أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فما رأيناهم اشترطوا على الناس أن يختتنوا، أو يكشفوا على الناس، ليروا من اختتن ومن لم يختتن!

وكما قال الرسول الكريم: بني الإسلام على خمس... لم يكن منها الاختتان!

فانظر يا أخي إلى المنصرين الذي جاءوا من أمريكا وأوربا وأستراليا: كيف يقدمون المغريات للناس ليدخلوهم إلى النصرانية؟ وكيف يضع مشايخنا المعوقات أمام الناس ليصدوهم عن الإسلام؟!

وشيء آخر عرفته من الإخوة هناك، وهو: أني وجدت الكتاب المقدس عند النصارى (العهد القديم والعهد الجديد) في كل حجرة في الفندق الذي ننزل فيه، ألم يكن الأولى أن نضع لهم مصحفًا معه ترجمة، قيامًا بواجبنا نحو الإسلام؟

فقال لي الإخوة: إن المشايخ لم يجيزوا ذلك؟ لأن المصحف لا يمسه إلا المطهرون، وهؤلاء نجس فلا يجوز لهم مس القرآن!!.


زيارة المدرسة الشافعية والطاهرية

ومن مزايا أندونيسيا: أن فيها مدارس دينية كبيرة تعلم طلابها وطالباتها اللغة العربية، تعلمهم القرآن والتفسير والحديث وعلومه، والعقيدة والفقه، واللغة العربية، وغيرها.

منها: المدرسة الطاهرية، والمدرسة الشافعية، وكل من المدرستين تكاد تكون جامعة، ففيها دراسات من الحضانة إلى المرحلة العالية، وكثير من خريجيها يذهب إلى الأزهر في القاهرة.

وقد حضرنا حفلاً في إحدى المدرستين، ألقت فيه التلميذات بصوت مؤثر: النشيد الديني المعروف:

طلـع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعـا لله داع

وقد تأثر الشيخ الأنصاري، وتأثرت معه بهذا النشيد، حتى ذرفت أعيننا الدموع.

ومما أذكره: أن أحد العلماء وقف يقدمني، وكان أكثر ما أدهشني أنه قال: أقدم لكم العالم الجليل، والداعية الكبير.. صاحب كتاب (درس النكبة الثانية: لماذا انهزمنا وكيف ننتصر؟) وقد ترجم إلى الأندونيسية، كما تُرجم الحلال والحرام، والإيمان والحياة. وغيرها...

وعجبت أن الذي أهمه هذا الكتاب الصغير، ولم يقدمني بأني مؤلف (فقه الزكاة) أو غيره من الكتب، وعرفت من ذلك أن الكتاب الصغير قد يؤثر أحيانًا في نفس القارئ ما لا يؤثر فيه الكتاب الكبير.

ومن الطريف أن جاكرتا فيها منطقة يسكنها يمنيون من قديم ما زالوا يحتفظون بلغتهم العربية، ويتزوجون فيما بينهم، وقد ذهبنا إليهم وتناولنا طعام الفطور عندهم، وكنا كأنما نعيش في قرية بالقرب من تعز أو صنعاء!.


سنغافورة.. المضيق المفصول

وأخذنا طريقنا إلى (سنغافورة) وكانت إحدى (المضايق) البحرية التي كان يهيمن عليها المسلمون، مثل (باب المندب) و(جبل طارق) و(البسفور) و(الدردنيل) ويسميه الأتراك (البوغاز) وقد كانت سنغافورة -كما قلنا- جزءاً من بلاد الملايو، وهي بلاد إسلامية، فلما كثر فيها الصينيون، سعوا إلى فصلها عن ماليزيا؛ ليتخذوا منها دولة نموذجية مستقلة، يقوم اقتصادها على الصناعة والسياحة، وتقوم سياستها على الديمقراطية، وتراعي بشدة: النظافة والنظام والانضباط، ولا تسمح بأي خلل في هذه النواحي.

والمسلمون يكوِّنون فيها أقلية كبيرة، ولها مدارسهم وجوامعهم وجمعياتهم ومؤسساتهم الخاصة، وقد زرنا الجمعية الإسلامية هناك، وتعرفنا على عدد من أعضائها وأطلعونا على أنشطتهم، فسررنا بها.

ولليمنيين خاصة جالية مرموقة، وقد صحبونا إلى مدرسة لهم تسمى (مدرسة الجنيد).


استقبال رائع في الفلبين

بعد سنغافورة ولينا وجهنا شطر (الفلبين) ونزلنا على عاصمتها (مانيلا) وقضينا فيها يومين، زرنا فيها بعض الجهات والمؤسسات الإسلامية في المدينة، وقابلنا بعض المسئولين الذين اهتموا بنا وبزيارتنا اهتمامًا غير عادي، وكان ذلك في عهد الرئيس ماركوس طاغية الفلبين المعروف، وقد عرفوا أنا نقصد الجنوب الذي يسكنه المسلمون، فهيئوا لنا طائرة عسكرية خاصة، تنقلنا إلى أقرب مطار لمدينة (مراوي ستي) إحدى عواصم الجنوب الإسلامي، وهي المقصودة بالزيارة.

وبالفعل ركبنا الطائرة العسكرية ووصلنا إلى المطار، وكان الناس في استقبالنا بأعداد كبيرة، وقد طوقونا بالورود والزهور على عادة أهل تلك البلاد في تكريم الضيوف.

ووصلنا إلى (مراوي ستي) لنجد المدينة، وكأنما خرجت عن بكرة أبيها تستقبلنا، فالمسلمون هناك يحسون باليتم والضياع، حتى يأتيهم ضيف مسلم كبير، فيلتفون حوله، وكأنما يقولون لخصومهم: نحن لسنا وحدنا، نحن جزء من أمة كبرى، تملأ الأرض من المحيط إلى المحيط!

كان المسلمون في الفلبين هم أول من وجَّه لنا الدعوة لنقوم بهذه الزيارة، فهم المقصودون أولاً وبالذات؛ ولذا وجب أن نبقى معهم أطول مدة ممكنة، لنتعرف على أحوالهم، وأوضاعهم وحاجاتهم ومشكلاتهم، ونجتهد أن نساهم ما أمكننا في حلها.


نبذة تاريخية عن الفلبين

وكان المسلمون قديمًا هم الذين يحكمون هذه البلاد، حتى جاء الأسبان، بما يملكون من عتاد حديث، وأسلحة غير الأسلحة التقليدية التي في أيدي المسلمين، ووقعت الحرب بين الفريقين، وانتهت إلى أن لاذ المسلمون بالجنوب واستقروا فيه، وأصبحت لهم الغلبة عليه، والتمكن في أرضه، والأسبان هم الذين أطلقوا على هذه البلاد اسم (الفلبين) نسبة إلى فليب أحد ملوكهم، ولم يكن هذا اسمها التاريخي.

وقد وقعت بين المسلمين وبين (ماجلان) الرحالة الاستعماري المعروف معركة قتل فيها (ماجلان).

وفي العصر الحديث أرادت الدولة المركزية في (مانيلا) أن تخضع المسلمين في الجنوب لها، ورفض المسلمون أن يدينوا لها بالولاء والطاعة؛ لأنهم لا يعتبرون أنفسهم جزءاً من الدولة، ولا يجوز للمسلم أن يذعن لغير المسلم، والله تعالى يقول: "وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً" [النساء: 141].

أصدرت الدولة في منتصف القرن الماضي قانونًا يفرض على كل مالك أرض أن يسجلها رسميًّا، وإلا اعتُبرت أرضًا لا مالك لها، فيجوز للدولة أن تأخذها وأن تعطيها للآخرين. ورفض المسلمون هذا القانون، وانتهزت الدولة المركزية الفرصة لتُهجِّر من نصارى المناطق الأخرى مَن يستولي على هذه الأرض بقوة السلاح، ومعه قوة الشرطة، وقوة القانون.

وهذا ما دعا المسلمين في تلك المناطق إلى أن يحملوا السلاح؛ ليدافعوا عن أملاكهم ووجودهم وأرضهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.

وزاد الطين بلة أن المسلمين رفضوا أن يدخلوا مدارس الدولة، وأن يتعلموا في جامعاتها، إلا قليلاً منهم، فترتب على ذلك أن أصبح المسلمون لا يعملون في دوائر الحكومة المختلفة؛ لأنهم لا يملكون مؤهلات أي عمل في الحكومة.

وأصبح للمسلمين تعليمهم الخاص، الذي تقوم عليه المدارس والمعاهد العربية الكثيرة في الجنوب الإسلامي، وهي مدارس تعلم طلابها وطالباتها العلوم الشرعية والعربية على الطريقة التقليدية القديمة التي هجرها الأزهر وغيره من المعاهد الدينية، واختاروا طرقًا أيسر منها وأقرب في تعلم النحو والصرف والبلاغة، وغيرها من العلوم.

ولا يتعلم هؤلاء اللغة الإنجليزية وهي ضرورية للناس في هذا البلد، كما لا يتعلمون العلوم الطبيعية والرياضية، فلا يعرفون شيئًا عن الفيزياء والكيمياء والأحياء، والهندسة والجبر وغيرها، كما لا يدرسون شيئًا عن الجغرافيا أو التاريخ.

إن هذه المدارس -وهي بالعشرات بل بالمئات- بمناهجها وكتبها ومدرسيها، تعيش خارج العصر، وكأنما هم أهل الكهف، حين خرجوا من نومهم، فوجدوا دنيا غير الدنيا، ولكن هؤلاء لم ينهضوا من نومهم، ولم يخرجوا من كهفهم بعد!.

هذا هو واقع القوم الذين ذهبنا إليهم والذين دعونا إلى زيارتهم، وقد نزلنا ضيوفًا على محافظ المدينة، فقد كان القوم حريصين على أن نظل تحت أعينهم، خوفًا من أن نتصل بالمجاهدين الذين يقضون مضاجعهم والذين يطالبون بحكم فدرالي، يستقلون به في هذه المنطقة.


نصائحنا للمدارس العربية في الفلبين

بدأنا زيارة المدارس العربية، التي احتفت بنا احتفاء لا نظير له، وجلسنا مع مديريها ومع مدرسيها ومدرساتها، وقدمنا لهم من النصائح ما نرى أنه أساس لهم.

وكان من هذه المدارس: ما أسسته جمعية (إقامة الإسلام) التي أسسها الشيخ أحمد بشير رحمه الله، وقد زارنا في قطر وفي المعهد الديني أكثر من مرة.

وكان من نصائحنا لهذه المدارس ورجالها: أن تكون لها رابطة أو اتحاد، يجمع بينها، ينشئ جمعية عمومية، وينتخب مجلس إدارة، يقوم على تهيئة ما يلزمها من طلبات، ويرتب أولوياتها، ويعمل على تطوير مناهجها وكتبها، وإدخال ما هو ضروري من العلوم والمواد الدراسية.

قالوا: إن هذا التطوير يحتاج إلى مبان تصلح له، وهذه ليست عندنا، ويحتاج إلى معلم، ونحن لا نملك هذا المدرس، وتحتاج إلى إدارة تديرها، وهذه ليست عندنا.

فقلنا لهم: إذا اتحدتم، وحددتم مطالبكم، وطلبتم المساعدة من بعض البلاد العربية والإسلامية، يمكنها أن تقدم إليكم العون، ولو بالتدريج.

كان أهل الخير في قطر يثقون بالشيخ الأنصاري، ويدفعون له مبالغ عند زيارته لبلاد المسلمين، يفوضونه في إنفاقها، وكان الشيخ كلما زرنا مدرسة دفع إليها مبلغا، وكلما عرفت المدارس الأخرى ذلك تزاحموا على الشيخ يريدون نصيبهم من هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، وقد ظهر عدد من المدارس لا حصر له، وخصوصا الصغيرة منها، وقلت للشيخ رحمه الله: هذا أمر لا نهاية له بهذه الطريقة، لا بد أن نكلف من ثقاتهم المأمونين العارفين بقيمة هذه المدارس ومدى عطائها، ومدى حاجتها، ونعطيهم المبالغ، ونكلفهم صرفها على مستحقيها بما يرون، والعهدة عليهم، وهم أعلم بقومهم منا.


محاضرة في جامعة مندناو

وكان أبرز مؤسسة في مدينة (مراوي) هي (جامعة مَنْدِناو) التي يفترض أن يكون للمسلمين فيها نصيب الأسد، باعتبارها في منطقة إسلامية، ولكن المسلمين ـ كما ذكرنا ـ لا يتعلمون في المدارس الحكومية – الابتدائية والإعدادية والثانوية - التي تؤهلهم للقبول في هذه الجامعة، لذا لم ينالوا حظهم منها كما ينبغي، وفي هذه الجامعة: معهد الملك فيصل للدراسات الإسلامية، وقد دعيت لإلقاء محاضرة فيه، قام بعض الإخوة المصريين الذين يعملون هناك بترجمتها، وكان لها وقع حسن في نفوس الأساتذة والطلاب.

وقد كرمتنا الجامعة وأعطتنا شهادات تقدير للشيخ الأنصاري، والأستاذ سيد أبو سيف، ولي.

كما زرنا جمعية (أنصار الإسلام) التي أسسها الزعيم المسلم الفلبيني (أحمد ألونتو) الذي كان عضوا لمجلس الشيوخ هناك، وكان صديقا للدكتور إبراهيم كاظم عميد كلية التربية، والذي حصل فيما بعد على جائزة الملك فيصل في خدمة الإسلام.

وقد أنشأ (ألونتو) جامعة سماها (الجامعة الإسلامية) وقد زرناها مع الشيخ الأنصاري، ودعيت لإلقاء محاضرة فيها على طلابها.

وظللت طوال هذه الأيام في جنوب الفلبين أتحدث في كل مدرسة نذهب إليها، وكان معنا أكثر من مترجم، يتناوبون واحدا بعد الآخر، حتى تعب المترجمون، وبحت أصواتهم، وأحمد الله أن بقيت سليما لم يصبني شيء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.


المسلمون في كوريا الجنوبية

ومن جنوب الفلبين، نقلتنا الطائرة العسكرية إلى مانيلا لنبيت فيها ليلة، اشترينا فيها بعض التحف الخشبية الفلبينية، وبعض اللوحات المزينة بصدف البحر، ثم غادرنا (مانيلا) إلى مدينة (سول) عاصمة كوريا الجنوبية، ونزلنا في فندق (هَيَاتْ)، ولما سألناهم عن معنى هذا الاسم، قالوا: لا نعرف له معنى، لأنه من غير لغتنا، قلنا لهم: إن أصله عربي، وهو (حياة).

ومن الطريف: أن بعض الفنادق في البلاد العربية نقلت هذا الاسم، وتسمت به منطوقا كما هو بالهاء لا بالحاء، ولما سألناهم، قالوا: هذا اسم لا نعرف أصله، فقد جاءنا من بلاد الشرق الأقصى!!

كان همنا في زيارة كوريا هو: زيارة جامع كوريا ومركزها الإسلامي، الذي ساهمت دولة قطر في إنشائه، وغدا محور النشاط الإسلامي.

وكوريا بلد بوذي، لكن دخله الإسلام بعد الحرب العالمية الثانية، حين وقعت الحرب بين الكوريتين، وأرسلت بعض البلاد جنودا من جيوشها لحماية كوريا الجنوبية من خطر الزحف الشيوعي، الذي تمتلكه كوريا الشمالية.

وكان من البلاد التي شاركت بجنودها هناك: تركيا، وكان في الجيش التركي: جنود مسلمون ملتزمون بأداء الصلاة في أوقاتها، وكان الكوريون ينظرون إليهم، وهم يؤدون الصلوات كل يوم خمس مرات بانتظام، وكثيرا ما يصلونها جماعة بأذان وإقامة، ثم يقفون صفا متراصا خلف إمامهم، وكان هؤلاء الجنود في غاية النظافة والاستقامة في القول والعمل والأدب مع الناس، فسألهم الناس عن هذا العمل الذي يلتزمون به كل يوم، فقالوا: هذه صلاتنا نحن المسلمين فرضها الله علينا خمس مرات في اليوم والليلة، لتكون صلة بين المرء وربه.

وسألوهم عن الإسلام، فشرحوه لهم بإيجاز: إنه إيمان بالله الواحد، وبدار يجزى فيها الناس بعد الموت، ثم عمل الصالحات، وفعل الخيرات، فأعجب كثيرون بهذا الدين، وأعلنوا أنهم مسلمون، وتكاثروا يوما بعد يوم، حتى أمسوا نحو عشرين ألفا في ذلك الوقت.

وكان من هؤلاء: المسلم الغيور النشيط (الحاج صبري) الذي سافر إلى البلاد العربية، ليعرّف بمسلمي كوريا، ويلتمس لهم المعونة، وخصوصا لإقامة مسجدهم ومركزهم الإسلامي.

وقد التقينا بعدد من المسلمين الجدد، والقائمين على النشاط هناك، وألقينا بعض الدروس في المسجد، وزرنا قرية لهم أسلم أهلها، وأقاموا مدرسة لتعليم أطفالهم بجوارهم.

وأخذونا إلى المناطق الجبلية والمتميزة التي يرتادها السائحون، لنأخذ حظنا منها، وزرنا جامعة كوريا، وألقيت فيها محاضرة على طلاب قسم اللغة العربية، وقد أُهدي كل عضو في الوفد القطري فصا من الحجر الكريم الذي تمتاز به كوريا، وهو حجر (التوباس).

كما اشترينا بعض الحرير الطبيعي الذي تشتهر به كوريا.


اليابان من الهزيمة للنصر

القرضاوي مع أحد مسلمي اليابان

ومن سول في كوريا، استقللنا الطائرة إلى طوكيو عاصمة اليابان، هذه الدولة التي هُزمت في الحرب العالمية الثانية، وألقت عليها أمريكا قنبلتين ذريتين على مدينتين من مدنها: هيروشيما وناجازاكي، وقتلت عشرات الألوف، وتركت آثارها الضارة على آخرين أضعاف من قتلوا، ولكن اليابان التي هزمت في الحرب: انتصرت بعد ذلك في ميدان آخر هو: ميدان الصناعة والتكنولوجيا.

فأضحت منتجاتها تغزو أسواق أمريكا وأوربا، وأصبحت تملك اقتصادا قويا ينافس ـ إن لم يفق ـ أعظم اقتصادات العالم.

لقد بدأت اليابان نهضتها العلمية والصناعية تقريبا مع مصر، في عهد محمد علي، وإن شئت الدقة قلت: إن مصر سبقتها بقليل، فانظر أين مصر اليوم، وأين اليابان؟ وهل هناك وجه للشبه أو المقارنة؟ نزلت في فندق غاية في الفخامة، وفيما يقدم من خدمات متطورة، ولكنه غال جدا، والحياة في اليابان تكوي السائحين كيا، لشدة غلائها، أحسبها أغلى بلد في العالم.

لذا لم نبق فيها كثيرا، وبخاصة أن رحلتنا طالت، فاتصلنا بالمركز الإسلامي، وجاءنا الأخ الكريم والصديق العزيز الدكتور صالح السامرائي، الذي عاش في اليابان مدة طويلة، وحصل على الدكتوراه منها، وهو الآن مدير المركز الإسلامي بها.

زرنا المركز الإسلامي، ورتب لنا لقاء مع المسلمين في طوكيو، حيث تعاشينا معهم، ثم تحدثنا إليهم، ثم وجهوا إلينا أسئلتهم، وأجبناهم عنها، وكان ممن لقيناه: الدكتور علي السمني، أستاذ اللغة العربية وهو من مصر ويقيم في اليابان من فترة طويلة.

وزرنا المسجد الذي بناه الأتراك، الذين هاجروا قديما من تركيا، وزرنا بعض البلاد الأخرى، التي نسيت اسمها بطول الزمن، وكان فيها الأخ المسلم الياباني د.خالد كيبا.

ودعانا بعض الإخوة اليابانيين للغداء عندهم، فرأينا بيوتهم المتواضعة، والصغيرة والبسيطة، في بنائها وفي أثاثها ومحتوياتها، والتي ينتفعون فيها بكل جزء من المنزل، وكل شبر فيه، وترى الحجرة تستخدم للجلوس، فإذا جاء وقت الطعام تحولت بسهولة إلى حجرة طعام، وبقليل من التحوير تنقلب إلى حجرة نوم.

وقد هيأ لنا إخواننا زيارة بعض الأماكن السياحية، فهكذا يحاول إخواننا في كل بلد أن يوفروا لنا حظا من ذلك، وإن قلَّ، ترويحا لنا من عناء السفر، ومتاعب اللقاء والكلام المستمر في كل مكان ننزله، وهو شعور مشكور منهم، وجزاهم الله خيرا.

كما هيأوا لنا زيارة لبعض المتاجر الكبرى التي كان فيها تنزيلات، لنشتري بعض ما يلزمنا، وخصوصا من (اللؤلؤ الياباني) الشهير، فاشترينا نحن الثلاثة: الشيخ الأنصاري وأبو يوسف وأنا ما رأيناه مطلوبا لنا، ويروق أسرنا، فالمفروض بعد هذه الغيبة أن يعود كل منا إلى أهل بيته بما يسرهم، وهذا من أدب المسلم مع أهله.


هونج كونج المحطة الأخيرة

ثم بدأنا طريق العودة، لنزور مدينة (هونج كونج) الشهيرة، وهي آخر محطة لنا في رحلتنا، وقد أخرناها، لنخفف من طول الطريق في العودة.

وهونج كونج ـ كما هو معلوم ـ مدينة صينية يديرها الإنجليز، وقد جعلوا منها قلعة صناعية وتجارية تنافس أعظم مدن العالم، وعواصمه التجارية.

والإسلام قد دخل الصين من القرن الأول الهجري، فلا غرابة أن يكون في هذه الجزيرة مسلمون، على أن من المسلمين فيها مهاجرين جاءوا من بلاد شتى، وكان فيها ـ على ما أذكر ـ مسجدان زرناهما كليهما وتحدثنا فيهما، وهم يحاولون أن يبنوا مسجدا كبيرا في منطقة حية من المدينة.

وكان فيها قنصل مصري نشيط، سهل لنا كثيرا مما نحتاج إليه، وقد دعانا إلى بيته، وأكرم وفادتنا، ولما جاء وقت الصلاة أردنا أن نصلي، فجاء بسجادة وفرشها لنا متجهة إلى القبلة، وبعد أن بدأنا الصلاة، رأتنا زوجته، فقالت: إن القبلة على عكس ما تصلون، وخجل الرجل خجلا شديدا، وقال الشيخ الأنصاري: يا سبحان الله، رجل مسلم لا يعرف أين القبلة في بيته؟! معنى هذا: أن الرجل لم يصلِّ يومًا في هذا البيت، وتعرف القبلة امرأته! بارك الله فيها، وهداه الله!.

وزرنا مدرسة إسلامية لهم، وتعرفنا بأحد الإخوة المسلمين، وهو الأخ: يوسف يو.

ثم ودعنا (هونج كونج) لنركب الطائرة، في طريق العودة إلى الدوحة عن طريق كراتشي، ودعونا بأدعية السفر ووصلنا الدوحة في أمان الله والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


اقرأ في الحلقة القادمة:

   *
     توديع المعهد الديني  
   *
     تأسيس أول بنك إسلامي