من يوميات نقطة دم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
من يوميات نقطة دم

أ.د/جابر قميحة

مقدمة


الاسم: نقطة دم.

الصفة: حمراء. صغيرة. لا تتوقف

محل الإقامة: عروق بجسم الفلسطينى «فؤاد حسين سعد الله».

تاريخ الميلاد: 12 من مايو 1954 م.

المعروض: يوميات مختارة من دفتر اليوميات الكبير لنقطة الدم.

13 من مارس 1963 :

أعيش منسابة فى عروق صاحبنا فؤاد حسين، مندمجة فى السيل الكبير الذى يتدفق فى عروقه بانتظام، صعودا وهبوطا فى عالم الداخل العجيب، القلب هو محطة الضخ الكبرى التي لا تتوقف، أحيانا كنت أنساب في رشاقة وخفة، وأحيانا كنت أشعر بأني أسبح في وسط ثقيل، وأن كثافتي وكثافة ا لسيل الذي أسبح في تياره قد زادت، وإن كانت السرعة غالبًا هي هي لا تختلف، ولا تختل، ولكني كنت أشعر بشيء من الألم إذا ما زادت كثافة سيل الدم الذي أمثل أنا مجرد نقطة فيه، ولم لا، وأنا أرى الشرايين والأوردة تزداد تمددا وانتفاضا لتتحمل ضغط السيل الثقيل؟.

إنها حياة عليّ أن أتحملها وأجري ... وأجري ، فالحركة بركة - كما يقولون - وحياتي فى هذه المسارات داخل جسم فؤاد لا تخلو من المتعة: فهناك تنويع فى شكل المسارات من ناحية السعة والشكل والحجم: أوردة .. شرايين .. شعيرات.. وداخل المضخة الكبرى ، كذلك تنويع ما بين الأذينين والبطينين، وبالنسبة لعملية الضخ كانت بعض زميلاتي من نقاط الدم يعتبرنها لطمة مهينة، أما أنا فكنت - ومازلت - أعتبرها هزة تنشيط بعد كل دورة في مسيرة الدم.

هكذا كنت أحاول أن أكيف حياتي، وأبرر كل شيء تبريرًا طيبًا، وأفسر كل ما يمر بي تفسيرا حسنًا، وإن اعتبرته الأخريات متاعب ومضايقات، فأنا أومن بالحكمة القائلة: إن العاقل هو الذي يحب ما يعمل، لا ذلك الذى يعمل ما يحب . ودائمًا أحمد الله تعالى على هذا التنويع الحيوي الذى نعيشه فى هذه المسارات؛ فمن ضيق إلى اتساع، ومن أعلى إلى أسفل، ومن يمين إلى يسار.

ومن مظاهر التنويع الممتع ذلك التغاير الدائم بين نقاط الدورة، فالتي أراها الآن لا أراها بعد دقائق، وقد لا ألتقي بها إلا بعد أشهر، وضحكت بيني وبين نفسي، من هذه المفارقة العجيبة نلتقى لقاء الغرباء بسرعة البرق، مع أننا بنات سيل واحد، ودورة واحدة، واتجاه في التدفق واحد في جسم واحد، ولم أجد تعليلاً ولا جوابًا، واتسعت ابتسامتي، وأنا أواصل مسيرتي المعتادة، ولم أصرح بهذا الخاطر لواحدة من زميلاتى حتى لا يتسبب ذلك فى إحداث توتر وبلبلة في نقاط السيل الدموي المتدفق.

25 من أغسطس 1966

مضت سنوات وأنا قانعة ببياتي الداخلي الحصين، أؤدي مهمتى في المسيرة الدموية الحية، ولم أكن أهتم بما يحدث في العالم الخارجي؛ لأن هذا خارج عن رسالتي، فرسالتي التي خلقني الله لها أن أظل أنا وزميلاتي العامل الأساسي لاستمرار الحياة، حياة صاحبنا فؤاد حسين . وهو من ناحيته يضمن حياتنا ومسيرتنا بالغذاء، والماء، والهواء؛ فحياتنا متوقفة على حياته، وحياته متوقفة على حياتنا، فأداء الرسالة - إذن - فيه الكفاية من باب الأمانة والصدق والوفاء، والاعتراف بالجميل.

وهناك سبب آخر كان يطفيء حماستي للتطلع لمعرفة ما يحدث في الخارج هو أنها - لو تحققت - لكانت معرفة ناقصة؛ لأنها تعتمد على حاسة واحدة هي حاسة السمع، فنحن لا نملك عيونا ترى، كما أن الاستماع يفتقر إلى المصداقية، ففى الخارج كثيرًا ما تختلط الأصوات وتتداخل، وكثيرا ما تكون خفيفة مبهمة، يصعب التقاطها، فلأكن فى نفسي وحالي.

21 من أغسطس 1969

يوم غريب في حياتنا .. لا أنساه أبدا .. من حقي أن أسميه "يوم الفزع الأكبر" ... كانت كل نقطة في سيل الدم تصرخ في صوت مكتوم: حريق .. حريق .. حريق، وبدافع من حب البقاء بدأت أصرخ معهن: حريق .. حريق . اعتقدت أن النار شبت فى جسم فؤاد أو ملابسه، وإذا صح ذلك فهو يعني أننا كتب علينا الموت.

وأمام هذه الصرخات رأيتني أتخلى فجأة عن منهجي في حياتي، وأفتح سمعي لالتقاط ما يحدث في الخارج . وصل إلى سمعي كلمات متفرقة .. قوية .. صاخبة .. مثل: النار .. القبة .. الأقصى .. عملوها الكلاب .. الماء ... الماء.

لم أفهم شيئا، ولكني أدركت بإحساسي أن هناك أمرا خطيرا يحدث في الخارج، وشعرت بفؤاد يهتز بشدة .. ويجري .. ويلهث، ثم يتوقف، وكأنه يحمل شيئا ثقيلاً .. وزاد نبضه .. وأخذ يتلاحق في شدة، وأخذت المضخة تعمل بسرعة مذهلة، وشعرنا بأننا نخضع لضغط أقوى من طاقتنا، ونحن نجري في سرعة لم نجرب مثلها من قبل، وذلك ليتواصل تدفقنا إلى القلب، القلب مضخة الحياة، خوفًا من أن نتوقف، فتتوقف حياة صاحبنا، وحياتنا إلى الأبد.

ثلاث ساعات قضيناها في هذه المحنة، بعدها هدأ فؤاد ومن يومها شحذت سمعي، وأصبحت شديدة الشغف بالتقاط ما يحدث فى الخارج، وأصبحت مقتنعة بأن في الاطلاع على المجهول متعة، هذا طبعًا زيادة على ما أكتسبه من معارف جديدة ترفع من قيمتي بين زميلاتي من نقط الدم.

5 من أكتوبر 1969

- اهتم بدراستك ياولدي، فالعلم نور، وأنت الآن في السنة النهائية من المرحلة المتوسطة، وعليك أن تحصل على مجموع كبير من الدرجات.

- إن شاء الله .. إن شاء الله ياوالدي.

- لا تعتقد أن الاهتمام بقضية وطننا فلسطين يعني أن تهمل دراستك، بل عليك أن توفق بين الأمرين.

- أمرك مطاع يا والدى .. أمرك مطاع.

- آه يا ولدى... كان المجاهد فى العهود الإسلامية الأولى ذا جوانب متعددة: كان مقاتلاً ماهرًا، وعالمًا فقيهًا، وحافظًا للقرآن .. وربما شاعرًا أيضًا.

- هذا صعب الآن يا والدي.

- والله ممكن يا ولدي، والمثل يقول "ما لا يدرك كله لا يترك جله" ، فمن لا يقدر على تحصيل الدرجة النهائية، فليحاول الحصول على القريبة منها، وفى سبيل ذلك واصل اجتهادا باجتهاد، المثل يقول: "الحركة بركة" ، وأنا أقول: «الحركة حياة»، دورة الدم مثلاً حياتها في حركتها، وتدفقها، لو توقف الدم لتجلط ومات، ومات حامل الدم.

- إن شاء الله ستجد ما يسرك يا والدي .. إن شاء الله.

لم أجد صعوبة في إدراك أن هذا الحوار كان بين فؤاد ووالده الحاج حسين، شعرت بالسعادة لأنني تمكنت من التقاط هذا الحوار كاملاً، وزاد من سعادتي ما سمعته من الأب عن دورة الدم، ما أسعدني أن يشعر الناس فى الخارج بنا، وأن يضربوا بنا المثل فى الهمة والنشاط.

19 من أغسطس 1988

سعيدة جدًا ، فالأيام تزيد سمعي رهافة وحِدة، أصبحتُ قادرة على التقاط أخفت الأصوات حتى الهمس، وكثيرًا ما أضحك وأنا ألتقط بعض الكلمات التي يرددها فؤاد فى أحلامه وهو نائم، وكلها تكاد تدور في فلك واحد، وإن لم تمثل عبارات كاملة، ومنها: السلاح .. حماس .. القوة .. القسام .. القرآن .. الأرض .. بالدم .. بالدم.

وزاد من نشاطي وسعادتي أن شنفت سمعي بكلمة الدم وإن لم أفهم مكانها من السياق.

12 من فبراير 1989

آه .. كم كنت أتمنى لو أن السماع كان مصحوبًا برؤية حتى يصح تقييمي للأشياء والأحداث، ولكن خفف من هذا التمني ما سمعته من الحاج حسين، وهو يقول لابنه فؤاد:

- إن ما نراه - ياولدي - من جرائم الإسرائيليين فظيع شنيع، قتل الأطفال والشيوخ، ونسف المنازل، بشاعة تجعل من يرى يتمنى لو ولد أعمى.

- ما أعجب التوافق والتخاطر يا أبي، كنت أتحدث لطلابي اليوم في درس الأدب عن البارودي باعث النهضة الشعرية في العصر الحديث، لقد مات بعد أن كف بصره ، فرثاه حافظ إبراهيم شاعر النيل بقصيدة طويلة جاء فيها:

لقد نزحتَ عن الدنيا كما نزحَتْ = عنها لياليك من بيضٍ ومن سودِ

أغمضتَ عينيك عنها وازدريتَ بها= قبل المماتِ ولم تحفِل بموجود

- لا تفهم مِن هذا ياولدي أنني أعني أن «نريح أبصارنا» مما نرى، بل علينا - إذا رأينا - أن نترجم أحاسيسنا إلى «ألم خلاق» .

- ألم خلاق؟.

- نعم يا فؤاد ... ألم خلاّق، فالألم - ياولدي - نوعان: ألم مثبِّط مُـقعد يقود إلى الاستسلام، وألم يتحول في النفس إلى طاقة دينامية تعمل بقوة رد الفعل.. هذا الألم الخلاق يتحول إلى غضب ناقم .. إلى نقمة غاضبة .. تدفع إلى مقاومة الأعداء بكل آلية تتوافر للإنسان .... حجارة .. خناجر .. سكاكين .. مدافع ... أى «ما استطعتم من قوة»، هذا ما كنتُ - يا فؤاد - أعلمه لطلابي قبل أن أحال على التقاعد.

- وعلى نهجك أسير يا أبي... إنه النهج الذى نؤمن به نحن أبناء حماس ... وهو ما فصل القول فيه «ميثاق حماس» الذى وضع يوم 19 من أغسطس 1988..

هذا ما سمعته من حوار بين الأب وابنه .. والحمد لله فهمته كله إلا كلمة واحدة هي «حماس» ... وأخذت أفكر: حماس .. حماس .. ماذا يقصد فؤاد بحماس؟ حاولت أن ألتقط مزيدًا من الحديث فلم أسمع شيئًا ... يظهر أننا فى المساء ... إنه وقت النوم.

13 من مارس 1995

حماس .. حماس .. تهز الأرض

حماس حماس .. تهز الأرض

هبي ريح الجنة هبي..

هبي هبي ريح الجنة..

يا ياسين .. ياياسين

نحن جميعًا نفدي الدين

يا ياسين .. يا ياسين

نحن جميعا .. لفلسطين

خيبر خيبر يا يهود

جيش محمد بدأ يعود

يا قسام .. يا قسام

جيش محمد نهض وقام

بالروح .. بالدم .. نفديك يا شهيد

إنها هتافات قوية تنطلق كالرعد الهادر القاصف ... هتافات تهز الأرض فعلا .. مرة أخرى .. ننطلق فى العروق بقوة وسرعة، وعلى القلب أن يعمل بقوة وسرعة حتى يتوافق مع المجهود الخارق الذي يبذله فؤاد.

ومرة أخرى أشعر بالاعتزاز والزهو إذ أسمع كلمة الدم تتردد بقوة على ألسنة المتظاهرين، وإن أخذتني مسحة من الأسى؛ إذ مازلت أجهل المقصود بـ «حماس» و«ياسين» و«القسام» .. الأسماء التي كان المتظاهرون يهدرون بها.

وزادت الأصوات قوة وصخبًا... وفجأة .. سمعت أصوات انفجارات متلاحقة .. بُمْ ... بُمْ .. بم .. وأسرع وقع الأقدام .. وتداخلت الأصوات .. وازدادت الطلقات تلاحقًا، لم أستطع أن ألتقط في وضوح إلا جملة واحدة.

-امسكها يا فؤاد، وألقها على الجنود الإسرائيليين .. بسرعة .. بسرعة يا فؤاد .. فالغاز سام.

لم أفهم .. ولكني شعرت بارتطام جسد فؤاد بالأرض .. ثم شعرت بدوار حاد .. وغام كل شيء في أذني، ولم أعد أشعر بأي شيء حولي .. لا في الخارج .. ولا فى الداخل .. رباه .. أهي النهاية؟ .. علم ذلك عندك... يا رباه .

15 من مارس 1995

لست أدري كم مرّ علي من الوقت، وأنا في هذه الغيبوبة لمدة ساعة .. ساعتين .. يوم .. يومين .. على أية حال بدأت أسترد وعيي تدريجيًا، ووجدتني أمضي مع مسيرة الدم .. ولكن في بطء شديد لم أعهده في نفسي ولا فى زميلاتي من نقط الدم... كنت أشعر بتفكك وخدَر يثقل مسيرتي. ماذا حدث؟ لا أدري. إلى أن استطعت في صعوبة أن ألتقط كلمات للحاج حسين:

- احمد ربنا يا فؤاد .. لقد نجوت من الموت بصعوبة.

- الحمد لله .. ماذا حدث يا والدي؟

- أنا لم أكن معكم في المظاهرة .. صديقك مصطفى يقص عليك.

- وأنت تقود المظاهرة فى الشارع الرئيسي بغزة .. والمظاهرة انضم إليها آلاف .. وآلاف .. فجأة ظهر عدد من الجنود الإسرائيليين .. بدءوا يطلقون علينا قنابل الغاز .. سقطت واحدة أمامك، صرخت فيك: التقطها يا فؤاد، وألقها بسرعة على العدو.. التقطتها.. وقبيل أن تردها عليهم عثرت قدمك بحجر فسقطت على الأرض .. أغمي عليك، سقطت القنبلة من يدك، لا تبعد عن وجهك أكثر من شبر، يظهر أنك استنشقت من دخانها السام الكثير والكثير .. حملناك وأنت في غيبوبة تامة بين الموت والحياة، وكان نبضك بطيئًا .. بطيئًا جدًا لكن الأطباء من إخواننا في حماس تمكنوا من إعادة النبض إلى سيرته الأولى.

- هل استشهد أحد؟

- لا .. جرح ثلاثة فقط .. وحالتهم مطمئنة؟

- الكلاب .. متى أخرج .. لنواصل ضرب هؤلاء الكلاب؟

- رفقًا بنفسك يا فؤاد، فقد قرر الإخوة الأطباء بقاءك بالمستشفى أسبوعًا حتى تسترد صحتك.

9 من إبريل 1996

أشعر باكتئاب شديد .. اكتئاب ممتزج بغضب شديد يكاد يتحول إلى تمرد؛ إن الاستماع لم يعد يكفيني، ويروي تطلعي، أريد أن أسمع وأرى ما يحدث خارج الجسد الذي أجري في عروقه، لماذا أحْرم الرؤية؟ لا يمكن أن أقيم على هذه الحال ... ماذا أفعل؟ آه ... وجدتها ... أتخلف عن الانطلاق مع سيل الدم في العروق ... وإذا اختل انتظام الدم كله، وتوقف القلب عن النبض .. يموت فؤاد، نعم لابد أن أتوقف .. ولا أشارك في مسيرة الدم، ولكن كيف أتوقف؟ .. لا .. بسيطة، أتعلق في جدار أحد الأوردة الضيقة، وأتشبث به، وهذا يعرقل - إلى حد كبير - مسيرة السيل، واختلال سرعته، نعم .. سأفعلها حينما ينام فؤاد ... حتى إذا ما مات، مات مستريحًا.

ولكني سرعان ما أفقت لنفسي من هذا الخاطر الشيطاني الأسود ... وإذا بصوت الخير يهتف في أعماقي: لا تفعلي فهذا انتحار ... والانتحار كفر، وفؤاد مجاهد فى سبيل الله، فكيف تستبيحين لنفسك الكفر .. وأنت سر الحياة فى جسد مؤمن؟ استغفر الله ... سامحني يارب ... يارب أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي ... يارب حقق أملي، فالاستماع بلا رؤية يولد فى نفسي غيظًا يكاد يمزقني ... مكني من أن أرى، كما أنعمت علي بأن أسمع، وليس ذلك عليك بكثير، فأنت سميع بصير، وأنت على كل شيء قدير.

15 من مايو 1997

أول مؤتمر عام أستمع إليه في «غزة» ... آه ... أقول: أستمع إليه، وكم كنت أتمنى أن أقول أحضره وأشهده، إنه مؤتمر تعقده حماس، إن قوة الهتافات توحي بأنه مؤتمر يحضره عشرات الألوف، وزادت الهتافات قوة، ومقدم المؤتمر يعلن:

- والآن يتحدث إليكم زعيم حماس الشيخ أحمد ياسين...

وهيأت نفسى للاستماع للشيخ الذي كانوا يهتفون باسمه في المظاهرة: يا ياسين .. يا ياسين نحن جميعًا لفلسطين ... هيأت نفسي لأن أستمع لصوت صاخ يتفجر كالقنابل، ويهدر كالرعد، ولكني سمعت من الشيخ صوتًا هادئًا ... نحيلا .. متزنا ... خفيض النبرة حتى في معاني الجهاد والقتال والثورة، أنصت كل من فى الحفل للشيخ وهو يقول: يا رجال حماس تذكروا ميثاق حماس الذى وقعتم عليه فى غرة المحرم سنة 1409، وأذكركم - بصفة خاصة - بالمادة الحادية عشرة من الباب الثالث، ونصها :

" تعتقد حماس أن أرض فلسطين وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أو بجزء منها، أو التنازل عنها أو عن جزء منها، ولا تملك ذلك دولة عربية، ولا كل الدول العربية، ولا يملك ذلك ملك أو رئيس، أو كل الملوك والرؤساء " .

يا رجال حماس ثقوا من نصر الله، فأنتم عقاب سلطه الله على أعدائه، واذكروا قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «أهل الشام سوط فى أرضه، ينتقم بهم ممن يشاء من عباده، وحرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم، ولا يموتوا إلا هما وغما».

أما الشهيد فهو عند الله في مكانة يغبطه عليها الملائكة الأبرار، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ما من مكلوم يكلم (يجرح) فى سبيل الله إلا جاء يوم القيامة، وكلمة(جرحه) يدمى: اللون لون دم، والريح ريح مسك».

ما شاء الله يا شيخ ياسين .. آمنت بعد الذي سمعته منك أن تأثير الداعية ليس بقوة الصوت، وشدة النبر، ولكن بقوة الإيمان واليقين، فما خرج من القلب يخترق شغاف القلوب، وما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، لقد تسلل الرجل بمنطقه الإيماني، فملك عليَّ نفسي وعالمي، ولكني كدت أطير فرحًا بالعبارة الأخيرة «.. اللون لون دم، والريح ريح مسك» .. وسرعان ما تسرب الهم إلى نفسي: إن رائحة المسك لن تكون إلا لدم الشهيد، فهل سيكون فؤاد فى عداد الشهداء؟ علم ذلك عند ربي.

8 من سبتمبر 2000

«اللون لون دم .. والريح ريح مسك» أخذت أكرر هذه العبارة إلى أن نام فؤاد ... ومع ذلك أخذت أكررها همسًا بيني وبين نفسي في هيئة نشيد منغم، وفي منتصف الليل استيقظ فؤاد على غير عادته ... وسمعته يتهجد في جوف الليل ... وبعد ساعة جاءه أربعة رجال:

- اسمعوا .. اليوم يوم سبت، واليهود يتراخون فيه، سنزحف إلى أقرب نقطة من مركز الحراسة الإسرائيلية، أمام البوابة الرئيسية لمستعمرة «نتساريم» التى تخنق غزة من الجنوب ... سيكون زحفنا على هيئة رأس سهم أنا على رأسه، على ومصطفى على يميني، وقاسم وزياد على يساري ... وبين كل فرد والآخر قرابة خمسة أمتار ... عندما أعطي الإشارة سألقي بثلاث قنابل يدوية، وفى نفس اللحظة تفتحون على العدو مدافعكم الرشاشة، وبعد أن أبدأ أنا ...

لم أتابع بقية الحديث .. هو هجوم فدائي إذن!! كلمات الشيخ ياسين تؤتي ثمارها ... أحسست بأني خفيفة جدًا ... وشعرت كأني أطير فى مسار الدم بجناحين ... وأمام استغراب زميلاتي أخذت أنشد: اللون لون دم ... والريح ريح مسك، اللون لون دم ... والريح ريح مسك.

فجر 9 من سبتمبر 2000

القنابل اليدوية وزخات الرصاص تنهال على الموقع الإسرائيلي في مدخل مستعمرة «نتساريم» ، يسقط من اليهود أربعة قتلى، فؤاد يصدر أمره بالانسحاب، ولكن فجأة أصابته رصاصة بجانب القلب، صرخ في إخوانه: "أسرعوا أنتم ... اتركوني حتى لا أكون عبئًا عليكم" ، ولكنهم تقدموا إليه وحملوه على أيديهم، وجروا به بأقصى سرعة.

شعرت بحرارة شديدة تكاد تحرقني ... بدأ القلب يأخذه البطء شيئًا فشيئًا ... والدم ينزف ... وينزف، وشعرت بصدمة شديدة وأنا أصطدم بالأرض. انطلق الأربعة بجثمان فؤاد إلى الشمال... أما أنا فصرت بمفردي ملقاة على الأرض، لقد استجاب الله لدعائي ... وهانذا أرى ... أرى أنوار المساكن الخافتة فى المدى البعيد ... أما حولي فلا أرى إلا ظلامًا دامسًا، أشعر ببرد شديد جدًا، حاولت أن أتحرك فلم أستطع،

لماذا يا ترى؟ آه تذكرت لقد انفصلت عن جسد فؤاد، لم يعد هناك قلب، ولا شرايين ولا أوردة، ولا دورة دموية، تفكك كل شيء، لم أعد نقطة من نقاط السيل المندفع المتدفق، آه ... لقد دخلت مرحلة جديدة هي مرحلة الموت ... فأنا الآن ألفظ آخر أنفاسي .. بعد قليل تشرق الشمس ... وأجف، ولا يراني أحد، لقد استجاب الله دعوتي، ومنحني قدرة الرؤية .. ولكني لم أر إلا ظلامًا ... إذن هو الموت بعد ساعة أو بعض ساعة.

وبدأت الرؤية تغيم فى نظري، والشمس ترسل إلى الأرض أوائل أشعتها المريضة الشاحبة ... وعلت ابتسامة شفتيّ ... وأخذت أردد فى همس مرعوش: اللون لون دم، والريح ريح مسك.

18 من سبتمبر 2000

عجبًا ... ماهذا؟ هل بعثت من موتي؟ وما هذا الشيء الأخضر الصغير الذى أسكنه؟ لا يمكن أن يكون جسمًا بشريًا، لا يمكن أن يكون شريانًا أو وريدًا، إنه شيء جامد لا يسمح بالانطلاق والتدفق، ومرت أيام أو أسابيع، واستعدت شيئًا من قدرتي على السماع والرؤية، ولكن فى حدود الداخل الذي أسكنه ... ثم اكتشفت أن الجدران التي تحيط بي إنما هي جدران نبات ... ساق نبات صغير .. وشعرت بنمو النبات ... وصعودي مع هذا النمو إلى أعلى ... آه .. هل فقدت دمويتي، وأصبحت مجرد غذاء يسري فى ساق نبات؟ سبحان مغير الأحوال.

الحمد لله .. بدأت أرى ما حولي بوضوح ... اكتشفت أن حولي نباتات صغيرة لا يزيد الواحد منها على عشرة سنتيمترات، وكلها مزروعة فى حوض خارج جدار شرفة بالطابق الأرضي، ولكن ما الذي جاء بي إلى هنا؟ وبدد حيرتي كلمات يوجهها رب الأسرة إلى ابنه الصغير:

- إنها تربة جيدة يا ولدي ... الورد ينمو فيها بسرعة من أين أحضرتها؟

- نقلتها من الأرض المنخفضة التى تطل عليها المستعمرة .. مستعمرة «نتساريم»، ملأت المقطف بالجاروف، وعدت سريعًا خوفًا من رصاص قناصة اليهود، فقد كان فى هذه المنطقة معركة عنيفة من عدة أيام بين موقع إسرائيلي، ومجاهدين من حماس، قتل فيها ثلاثة من اليهود، واستشهد مجاهد واحد.

الآن فهمت .. لقد كنت نقطة تائهة فى التربة التى نقلها الابن إلى حوض الشرفة التي زرع فيها الأب شتلات الورد، أخذت أصيح «أنا نقطة من دم شهيد ... أنا نقطة من دم شهيد»، ثم أخذني الخجل لأني وُهِـبتُ نعمة الاستماع، ولم أوهب نعمة «الإسماع»، فلأقنع بموقعي في هذه الساق .. فهذا قضاء الله.

25 من سبتمبر 2000

الحمد لله .. أصبحت نقطة حمراء قانية وسط هذه الوردة الحمراء الجميلة، في حوض الزرع الذي ضم عددًا من الورود والأزهار مختلفة الألوان، ولكن ليس فيها ذات لون أحمر إلا وردتى، ترى هل أنا سر جمالها، أم أن هذه طبيعة الشتلة التى زرعها رب البيت ؟، على أية حال استعدت ثقتي بنفسي، وأصبحت أشعر بالزهو لأني أصبحت جزءًا أصيلاً في بنية وردة حمراء.

أنا لم أمت إذن، بل أصبحت في «حياة راقية»؛ إذ أرى نفسي في وردة ساحرة، وأرى ما حولي من أرض وسماء، وشمس وقمر، وأسمع وأرى، ما أعظم نعم الله: أشكرك يا رب.

30 من سبتمبر 2000

صباح جميل مبتسم ... أشعر بسعادة غامرة، والشمس تبتسم للوجود، والسماء الزرقاء تحنو على الأفق البعيد، كأنها بحر ساكن بلا ضوضاء، وأرى رجلاً طويل القامة، وقد أمسك بيد طفل صغير وديع في قرابة الحادية عشرة من عمره، جذبه منظر الوردة الحمراء في حوض الشرفة.

- يا أبى اقطف لي هذه الوردة الحمراء الجميلة، فيدي لا تصل إليها.

- يا ولدى هذه ليست وردة برية، من حق أي واحد أن يقطفها ، هذه ملك أهل البيت.

ولكن يظهر أن رب البيت سمع الحديث، فظهر فى الشرفة، وقطف الوردة، وعلى فمه ابتسامة عريضة.

- لا ضير .. يسعدني يا ولدي أن تقبلها مني هدية . وتناولها الطفل وهو يكاد يطير بها فرحًا.

- الله .. يا أبي .. رائحتها جميلة جدًا .. جدًا.

آه .. إنا لله وإنا إليه راجعون؛ إن قطف الوردة يعني حكمًا عليها وعليّ بالإعدام؛ فليس بعد القطف إلا الذبول، وما بعد الذبول غير الموت، رحمتك يارب.

فجأة قامت القيامة .. مجموعة من الأطفال والشباب .. على مد البصر يواجهون الجنود الإسرائيليين بالحجارة ... واليهود يردون عليهم بالقنابل المسيلة للدموع ... ثم بدأوا يطلقون الرصاص، وامتلأ فضاء الميدان بالدخان المتصاعد، أمسك الأب المسكين بيد طفله الصغير، وعبر به إلى الجهة الأخرى من الشارع ... أما الطفل فوضع وردته الجميلة فى جيب قميصه من الناحية اليسرى ... احتمى الأب خلف حائط أسمنتى .. وجعل طفله خلفه، والرصاص يعوى بصورة وحشية ... والأب المفزوع يستغيث بالإشارة والصراخ ... لا تطلقوا الرصاص، لا تطلقوا الرصاص ... ولكن لم يستمع إليه أحد.

كنت أرتعد في داخل الوردة الحمراء التي وضعها الطفل فى الجيب الأيسر من قميصه، وانهال الرصاص من أبراج المستعمرة على الأب المفزوع، والابن المسكين، فاخترقت عدة رصاصات بطن الأب وساقه، وأصابت رصاصات أخرى طفله المرعوب.

وكان إحساسي الأقوى والأكبر بتلك الرصاصة التى أصابت قلب الطفل، شعرت بنار تمزقنى، فاكتشفت أن الرصاصة مرت بالوردة فى سرعة خاطفة، فأخذتنى فى طريقها إلى قلب الطفل، وسكن القلب إلى الأبد .. وسكنت أنا - بفعل الرصاصة - أذينه الأيسر، واعتقدت أننى متُّ معه، ولكن العجب أننى شعرت بحيوية وقوة لم أعهدهما في نفسي طيلة حياتي.

حُـمِل الأب جمال الدرة إلى المستشفى وهو بين الحياة والموت، ثم حُمِل ابنه الشهيد إلى حجرة أخرى بالمستشفى نفسه، أمر الطبيب بخلع قميص الطفل ليحدد سبب الوفاة ... وجد أن الجرح الغائر ناحية القلب، قرب الطبيب وجهه من الجرح ... ثم قرّب أنفه ... وأخذ يستشنق بعمق، وفجأة هتف: الله أكبر .. الله أكبر تقدموا يا رجال ... اقتربوا ... اللون لون دم، والريح ريح مسك.

لحظتها .. شعرت أن لي جناحين، ورأيت كوكبة من مخلوقات ضوئية بيضاء ذات أجنحة وهي ترفرف قريبًا من سقف الحجرة ... انطلقت معهم إلى أعلى فأعلى .. إلى سماء رحيبة ... كانوا يهتفون ... وأنا أهتف معهم: الله أكبر ... الله أكبر ... اللون لون دم، والريح ريح مسك.

المصدر:رابطة أدباء الشام