من سمات المؤمنين الصادقين أنهم يصلحون الدنيا بالدين
08-07-2009
بقلم: فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب

يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قومًا غرتهم الأماني فخرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأخلصوا العمل" (مسند الفردوس).
أمورٌ يلمسها كل مسلم صادق يحترم إسلامه؛ أن العمل الصالح الصادق لبناء الحياة وإقامة الحضارات الراقية هو الأساس وهو الطريق إلى النجاح ولا طريق سواه.. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾ (الإسراء)، والفهم الصحيح لهذا الدين العظيم، وابتداءً بالإيمان، هو الذي يقود الإنسانية إلى إصلاح هذه الدنيا وعمارتها وترقيتها.
جاء في الحديث "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب"، وكل عملٍ وكل حركة أو سكنة على ظهر الأرض، أو فوق قمم الجبال أو في السفوح أو في أعماق البحار.. كل شاردة وواردة في قبضة الحق سبحانه وتعالى، ولذلك يجب أن يقام كل شيء وأن يؤسس وأن يبنى وأن يُشاد على أساس من الإيمان الصادق والتقوى الخالصة قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)﴾ (التوبة).
ولقد رأينا كيف أن الأنبياء جميعًا عليهم أفضل الصلوات والسلام كانوا يعملون من صغرهم، فهذا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. يعمل منذ صغره برعي الغنم ويقول "ما من نبيّ إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا.. رعيتها على قراريط لأهل مكة" (البخاري)، والقراريط هي حفنات البلح، وكيف أن موسى عليه السلام رعى الغنم لأجل أن يعفّ نفسه وأن يقدم المهر لزوجته ابنة شعيب عليه السلام، ورسولنا صلى الله عليه وسلم تاجر وعمل بالتجارة، وسافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها.
وحياته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من أولها إلى آخرها كلها كفاح وبناء وحركة.. كل ذلك وغيره إعدادٌ للنبي صلى الله عليه وسلم للمستقبل الذي ينتظره ليحمل رسالة السماء؛ أصدق رسالة للعالم ليرده إلى الله.
ونلمس هذا أيضًا بوضوح في حياة أصحابه؛ فأبو بكر رضي الله عنه تاجر ثياب، وعبد الرحمن بن عوف من كبار التجار، وسيدنا عثمان وغيرهم، فالكل يمتهن مهنةً شريفةً يعيش منها، كل ذلك في الجاهلية والإسلام فقد وصف الله المؤمنين بقوله: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)﴾ (النور).
هذه هي الصورة الوضيئة المشرقة.. يعمل للدنيا ولا ينسى الآخرة ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾ (القصص)، فالدنيا في يديه في الأخذ والعطاء، أما الإيمان ففي قلبه اليقظ، لا يلهيه أبدًا الانشغال بالدنيا عن الاهتمام بالآخرة، فهو موصولٌ برب الأرض والسماء.
وامتدَّ تاريخ الإسلام في أيام الخلفاء الراشدين ثم في الدولة الأموية، والعباسية، والدولة العثمانية كلهم يقدِّرون العمل، ويحترمون العامل، ويقدِّسون الجهاد في سبيل الله، ويحترمون المجاهد، ويقبلون على العلم والعلماء، ويشتغلون بالدنيا.. لكن لا تلهيهم ولا تصرفهم عن العمل للآخرة.
واستمرت الدولة الإسلامية قائمةً، تحكم بما أنزل الله وتحلُّ ما أحلَّ الله وتحرِّم ما حرَّم الله، وتنشر الإسلام في الشرق والغرب، وتجاهد في سبيل الله ألف سنة، لا تعرف فرقًا بين الدين والسياسة؛ هما صنوان لا يفترقان لأنهما جسدٌ واحد لا يقولون أبدًا "الدين لله والوطن للجميع" بل يقولون "الدين لله والوطن لله" والجميع لله، خالق واحد، ورازق واحد، ومدبر واحد، هو الله جل جلاله، وما سواه عبيد هو خلقهم وسوّاهم، أرواحهم وقلوبهم بيده.. لا يقولون أبدًا "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" هذا كلام باطل، بل يقولون "إن قيصر وما حول قيصر وما تحت قيصر جميعًا والأكاسرة جميعًا ملك لله عز وجل" حتى أرواحهم في قبضة الله، فليس لهؤلاء ولا هؤلاء شركة مع الله، بل هم عبيد، بشر مخلوق، لا يضر ولا ينفع، قال تعالى ﴿وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)﴾ (النحل).
واستمر هذا العطاء رغم الأهوال التي نزلت بالأمة الإسلامية من أعداء الله ورسوله الذين يتربصون بها ويكيدون لها، ويوم أن سقطت الخلافة بيد اليهود عام 1924م قام الإخوان سنة 1928م تأكيدًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".
فإذًا وبكل تأكيد وما ينطق به التاريخ فإن حقائق العمل الدائب للدين والدنيا وللإسلام بشموله وقضاياه؛ لم ينقطع العمل لها أبدًا حتى في أشدِّ الظروف والأوقات، وها نحن ننظر إلى الماضي القريب الموصول بالماضي البعيد، كيف عاش أسلافنا ومَنْ حملوا المشعل وقادوا الصحوة الإسلامية، وردُّوا الأمة إلى عقلها وكيانها وإيمانها، وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا.
كان رضي الله عنه يتمثّل الإسلام بكامله في حياته الخاصة والعامة، في علاقاته كلها مع غيره، فالأعمال العظيمة كلنا يعرفها والمواقف التي حركت هذه الأمة وأخرجتها من الموات كلنا يقرأها فهي مسجلة ومكتوبة ويجب أن نقرأها وأن نعيها وأن نتأمل فيها وأن نطبقها في حياتنا وهناك من الأمور الدقيقة التي قد لا ننتبه لها، كان رحمه الله ينفذها ويلتزم بها، فمثلاً: كانت له خادمة فكان يعاملها كما يعامل بناته. فلها سرير مثلهن وإذا كسا البنات يكسوها هي وعلمّها وربّاها ثم زوجها وكان رضي الله عنه رغم مشاكله ومشاغله يزورها ويسأل عنها.
هذه المعاني وردت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إخوانكم خولكم؛ فمن كان عنده أخوه فليطعمه مما يطعم وليكسُهْ مما يكسو، ولا يكلّفه ما لا يطيق فإن كلّفه فليعنه على ذلك".
كيف نسي الكثيرون منا هذا الأمر فأصبح أكثرنا يعامل الخادم أو الخادمة معاملةً غير إنسانية، نظلمه ولا نحترم إنسانيته؛ فأين نحن من هذا الجانب في الإسلام؟ وكان الإمام البنا رحمه الله لا يخلف الموعد قط، ويُعلِّم إخوانه هذا الأمر ويحرص عليه؛ لأنه من لُبِّ الإسلام، فأين نحن منه؟ كان رحمه الله طوال فترة الدراسة الأول باستمرار، وكان يعمل مدرِّسًا فكان قدوةً، وكان يحضر في الصباح قبل الموعد لم يأخذ إجازة عارضة أو مرضية، ولم تتخلَّف عنده كراسة واحدة لطالب، رغم متاعبه الكثيرة، وكانت تقاريره طوال فترة تدريسه لا تقل عن امتياز.
حدث عندما تخرج في دار العلوم أن أعدَّ زملاؤه له مفاجأةً فاستقبلوه وهو داخل يسأل عن النتيجة قالوا له: ليس لك نصيب في النجاح في هذا العام.. فلم يلتفت إليهم وخلع عباءته وفرشها وسجد لله سجودًا طويلاً، فلما انتهى من سجوده أخبروه بأنه نجح وأنه الأول في الليسانس فما كان منه إلا أن رجع إلى عباءته وسجد عليها، وهكذا شأن المؤمن الصادق.. الشكر لله في السراء والضراء؛ فهل نحن كذلك؟!
وكان رحمه الله يقول: "نحن نقاتل الناس بالحب"، وهي عبارة تحتاج إلى فهم، فمرة دخل عليه زميل له كان في دار العلوم وناداه بصوت فيه غلظة، قائلاً: يا حسن أفندي.. فرد عليه الإمام قائلاً: نعم سيدي، فقال الزميل: أنا أكرهك، فرد عليه الإمام بقوله: "وأنا أحبك"، فاستشاط الرجل غضبًا وقال له: والله العظيم أنا أكرهك، فرد عليه الإمام في هدوء: "والله العظيم أنا أحبك"، فعاد الرجل يقول: وهذا الأسلوب منك هو الذي جعلني أكرهك، فعاد الإمام البنا بهدوء شديد "وهذا الأسلوب منك هو الذي جعلني أحبك".
تساءل الناس عن القضية التي جعلت هذا المتعصب يقول ما قال: فإذا بها أمور بسيطة جدًّا وهي أن جوالة الإخوان يلبسون بنطلونًا فوق الركبة وهو ما جعل الرجل يغضب، والإمام البنا بهدوئه وصبره انتصر عليه.
أيها الإخوان.. هل نقرأ عن أسلافنا وهل نعي ما نقرأ؟ وهل نطبق ما نعي ونعمل به؟
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع؛ عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به"، والحديث واضح، لكني أقف عند قوله صلى الله عليه وسلم "وعن شبابه فيما أبلاه"، وأقول للشباب: لا يعرف الإسلام أبدًا شابًّا يسهر طوال الليل يقف في الشوارع ثم ينام قبل الفجر أو بعد الفجر بلا غاية ولا هدف وعمره الذي هو أغلى من الذهب أو هو الحياة يضيعه هكذا، فلنحذر أن نقع في الفخ وأن نفني شبابنا في الهزل.
لا يعرف الإسلام زوجًا مسلمًا ينشغل عن زوجته وعن أولاده وعن بيته بأي شيء آخر، فمطلوب منه أن يحترم بيته وأن يقدِّر زوجته وأن يعلِّم أولاده وأن يربِّيهم على الإسلام، وأن يطعمهم من حلال، وأن يعوِّدهم كل الفضائل التي جاء بها الإسلام، وأن يكون هو صورةً عملية لكل ما يقول ويعمل؛ فهم ذخيرة المستقبل وهو مسئولٌ عنهم بين يدي الله، كيف ضيَّع نفسه وضيَّعهم؟!
الإسلام لا يعرف الأب الذي يجلس على جهاز الحاسوب، يضيِّع وقته، يلهث وراء الصور العارية وغيرها ويُلقي بنفسه في الفتن، احفظوا حديث رسول الله واعلموا أنكم غدًا موقوفون بين يدي الله.
يا شباب.. أين القرآن؟! انظروا إلى الجيل الذي سبقكم.. كنا في كلية أصول الدين، يدرس لنا بعض العلماء، كان يُقال لنا عن بعضهم إنه من الإخوان.. يأتون إلينا وواضح على وجوههم التعب والإرهاق فلما سألنا عن السبب قالوا لنا: إن هؤلاء العلماء من الإخوان يقومون الليل ما بين صلاة ودراسة وبحثٍ وقراءة عن الإسلام واستغفار وتوبة حتى يقترب الفجر، والله على ما أقول شهيد.
كيف ضاعت هذه الصور؟ وكيف اختفت؟ ولماذا اختفت؟ وما هي نهاية هذا المصير المظلم؟
كنتُ أسير بالأمس.. يوم الجمعة في شارع في المقطم وقت العشاء؛ فرأيت في الشارع مئات السيارات بلا مبالغة ممتدة ومتزاحمة؛ كأن حدثًا أو أمرًا مهمًّا قد وقع، فسألت مَن معي ماذا جرى؟ فضحك وقال لي: يوجد في هذا المكان قهوة كبيرة فيها جوزة وشيشة وجميع السيارات التي مررت عليها ورأيناها هي لروَّاد هذا المقهى.. فرجعت إلى بيتي حزينًا أقول: يا حسرة على العباد.. يا حسرة على الأوقات التي تهدر وكأنها أرخص عندهم من التراب، فالبيوت منهم خاوية، وأماكن اللهو واللعب ممتلئة، متى تستقيم هذه الأمة على الطريق الصحيح والصراط المستقيم؟
يا حسرة على الشباب.. يا حسرة على الأوقات التي تهدر.. وهذه المظاهر كلها أساسها هو ضياع الإيمان وضياع التربية الإسلامية الصحيحة التي تعصم الإنسان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإنا لله وإنا إليه راجعون.