من تاريخ الإسلام
26-03-2005
بقلم فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب*
مواقف إيمانية (3)

هذه جوانب حفظها لنا التاريخُ عن حياة الصحابة، وأمهات المؤمنين تدلُّ على قيمة المرأة المسلمة ومكانتها في هذا الدين، ومدى الحرية الصحيحة التي أعطاها لها الإسلام، في أن تقول ما تعتقد أنه الصواب وأنه الحق، حتى لو كان الزوج الذي يمثل الجانب الآخر في القضية هو الخليفة وأمير المؤمنين.
ولقد انتصر الإسلام يوم أن وُجد هذا النوع من المؤمنات وتكونت هذه الشخصيات التي أخذت دورها في المجتمع، فهي زوجة صالحة وربة بيت موجهة، وصانعة رجال في المقام الأول، وهي في الميدان تشارك في إطعام الجائعين، وسقي العطشى، ومداواة المرضى والجرحى، فإذا حمي الوطيس اشتركت في القتال، وهي شاعرة وفقيهة ومصلية في المسجد وفى بيتها، وهي آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر.
ولقد انتصر الإسلام يوم صاغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه شخوصًا تتحرك به، وحوَّل إيمان المسلمين بالإسلام إلى عملٍ وتطبيقٍ وتنفيذ، كل هذا كان ثمرة تربية جادة، أدركت أن المبادئ بمفردها لا تعيش حتى تكون واقعًا حيًا وسلوكًا عمليًا مهتديًا بهدي الإسلام.
فهذه القصة القصيرة التي معنا تبين بوضوحٍ بعض هذه الجوانب، وخلاصتها:
أن الخليفة العادل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أرسل جثامة الكناني رسولاً إلى هرقل قيصر الروم، وعندما استعد الرسول للسفر أرسلت إليه أم كلثوم- رضى الله عنها، زوجة أمير المؤمنين عمر- مع أخيها الحسن بن علي رسالة إلى ملكة الروم (مارتينة) ومعها زجاجة عطر هدية لها.
وسافر رسول أمير المؤمنين إلى القسطنطينية واجتمع مع هرقل وأبلغه رسالة أمير المؤمنين، ثم أعطى لملكة الروم رسالةَ أم كلثوم ومعها زجاجة العطر، وطلبت ملكة الروم من جثامة أن يترجم لها رسالة أم كلثوم، فأخذ يقرأ: "من أم كلثوم امرأة عمر أمير المؤمنين إلى ملكة الروم امرأة هرقل: سلام عليكِ يا أختاه.. وبعد فهل لي أن أدعوكِ إلى خيري الدنيا والآخرة، أسلمي يا أختاه.. فإنك إن أسلمت أسلم القيصر زوجك فتسلم معه رعيته فيكون لكِ أجر ألوف المهتدين".
وتعجبت مارتينة وقالت: إني قبلت زجاجة العطر هدية، أما الإسلام فإني متمسكة بديني، وأعطت جثامة عقدًا ثمينًا من لؤلؤ هدية منها إلى أم كلثوم.
وعاد الرسول إلى المدينة، وسلم عقد اللؤلؤ هدية ملكة الروم إلى الحسن بن علي ليعطيه لأخته أم كلثوم، ولقد فرحت أم كلثوم بالعقد، وتعلق قلبها به، ورأى أمير المؤمنين عمر العقدَ فسألها عنه، فأخبرته بقصته فقال لها: "هذا حقٌ للمسلمين ولا بد أن يُرد إلى بيت مال المسلمين"، فغضبت أم كلثوم، وقالت: "لا أكلمك أبدًا"، فذهب عمر إلى المسجد فأمر مؤذنه فنادى في الناس: الصلاة جامعة، وتجمع المسلمون، وصعد عمر على المنبر، وقصَّ قصة العقد على المسلمين، وقال لهم: "إن هذا العقد حق بيت مال المسلمين، ولا يحل لأم كلثوم أن تأخذه"، فصاح المسلمون جميعًا قد رضينا بالعقد لأم كلثوم، فاتركه لها يا أمير المؤمنين.
عاد عمر إلى بيت أم كلثوم وسألها: أما زلتِ غاضبة على زوجك، ولكن أم كلثوم ظلت صامتة لا تجيب. وقال لها: إني قد استشرت المسلمين في أمر هذا العقد، فكلهم أشاروا بتركه لكِ.. فهو لكِ، فإن تنازلت عنه لبيت مال المسلمين فذلك خير.
واستأذن علي بن أبي طالب- وكان مسافرًا إلى بلدة ينبع- فاستقبله عمر قائلاً: مرحبًا بأبي الحسن، ادخل، وسلَّم عليّ على ابنته أم كلثوم، وقبَّلت يده، وقال عليٌ: لعلك تريدني يا أمير المؤمنين من أجل مسألة العقد؟
قال عمر: وهل علمت بقصته يا أبا الحسن؟، قال علي: نعم علمت بأن المسلمين أشاروا عليك بتركه لأم كلثوم، أين العقد يا أم كلثوم؟
فقالت هذا هو يا أبي، فقال علي: يا ابنتي هذا لا يصلح لآل محمد ولا لآل عمر، إنما يصلح لآل كسرى وآل قيصر، إنك لست كأحدٍ من النساء، فأنت ابنة فاطمة وزوج أمير المؤمنين عمر، وإن خيرًا لكِ أن يُقال إن زوجها ظلمها من أجل المسلمين من أن يقال إن زوجها ظلم المسلمين من أجلها، فانظري ماذا تختارين يا أم كلثوم.. الله والدار الآخرة أم العقد؟!!
فقالت أم كلثوم: بل أختار الله والدار الآخرة، خذه يا أبت إلى بيت مال المسلمين.
فقال عليّ: بارك الله فيكِ يا بنيتي، وصاح عمر "ذُرِّيةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ".
هذه قصة قصيرة من واقع تاريخ المسلمين حدثت بين خليفةٍ يحكم الشرق والغرب وتدين له الدنيا وبين زوجته، تكشف عن أدب المسلمة العالي في مخاطبة غير المسلمات، فالأسلوب الراقي في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتقديم أنفس ما عندها- وهو زجاجة العطر- وتذكير غير المسلمة في أدبٍ رفيع بقيمة الإسلام والإيمان والثواب الجزيل لمن أقبل على الله ورسوله.
وأيضًا أدب غير المسلمات في الرد فاعتذرت بلطف عن دعوتها في الدخول للإسلام، وفي نفس الوقت قابلت التحية بأحسن منها.
ثم الأمر الآخر عمر- رضي الله عنه- يرى العقد الثمين مع زوجته فيسألها عنه، وحين يعلم أنه هدية جاءت من زوجة قيصر، يرى أنه من حق بيت المال، وترفض زوجته، ومع ذلك لا يقابل عمر هذا الرفض بالشدة أو الإعنات أو المضايقات لزوجته، فهذه أساليبُ الجهلة، والمسلم أكبر منها وأعلى فكيف بأمير المؤمنين؟
لكن عمر رضى الله عنه وأرضاه يرد الأمر في هذا الموقف إلى المسلمين ويستمع إلى رأيهم، ففي الإسلام الأمر الصغير يتساوى مع الأمر الكبير ولا فرق بينهما، وإن المسلم يستطيع أحيانًا أن يثبت وينتصر أمام الأمر الكبير ولكنه قد لا يستطيع ذلك أمام الأمر الصغير!.
وعندما قال الجميع في صوتٍ واحد إنه حق أم كلثوم وعليه أن يتركه لها لم يتربص بهم عمر، ولم يتحين الفرصة لمعاقبتهم لمخالفة رأيه ولم يكتم أنفاسهم أو يقبض عليهم أو يسلط عليهم الزبانية الذين يقهرونهم ويسومونهم سوء العذاب، فالإسلام دين الحرية الكاملة، فللمسلم أن يقول ما شاء وأن يفكر كيف شاء وأن يقول لا أو نعم بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، ومن هنا انتصر الإسلام وعزَّ جاهه وساد العالم بما يحمل من مبادئ أصيلة في صيانة الأمم ورعاية حق الشعوب.
أُفق عالٍ الذي وصل إليه المسلمون في كل شيء، في علاقة الزوج بزوجته وعلاقة الزوجة بزوجها، علاقة الأمير بالرعية وعلاقة الرعية بالأمير.. لم تعرفه البشرية إلا في ظل هذا الدين العظيم الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
ويحضرني هنا ما قاله الشاعر المسلم من شعورٍ كريم نحو هذا الجيل العظيم:
الله يعلم ما قلبت سيرتهم...............يوما وأخطأ دمع العين مجراه
- عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين، ومن علماء الأزهر الشريف.