مصر.. بين الأمس واليوم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مصر.. بين الأمس واليوم


بقلم: د. محمد بديع.

إن ما شهدته مصر من أحداث جسام خلال العام المنصرم غيرت‏-‏ وستغير‏-‏ وجه مصر بإذن الله‏,‏ وستعيد كتابة تاريخها من جديد‏,‏ بعد أن عادت مصر إلى أهلها بثورتهم البيضاء‏؛ التي أطاحت بحكم دكتاتوري بغيض جثم على صدورنا عشرات السنين, منتهكًا للحرمات وناهبًا للثروات, ومقيدًا للحريات, ومعطلاً للطاقات, وملفقًا التهم للشرفاء ومشردًا وقاتلاً لأبنائه ومهدرًا لأحكام القضاء, ومزوّرًا محترفًا لإرادة شعبه ورغباته.

ولقد حذَّرنا وأنذرنا- كإخوان مسلمين- النظام السابق مرارًا وتكرارًا من سوء عاقبة أفعاله، وأقمنا العديد من اللقاءات مع القوى الوطنية المصرية، تحت عنوان: "حوار من أجل مصرٍٍٍ"، ثلاثة منها قبل انتخابات 2010، والرابع بعد تزوير الانتخابات, فضحنا فيها ممارسات النظام، وحملنا الديكتاتور شخصيًّا مسئولية كل تلك الجرائم، فتمادى في ظلمه وطغيانه.

وشاء الله أن يُعقد اللقاء الخامس بعد نجاح ثورتنا المباركة، ونحن على طريق استمرارنا على هذا العهد مع شعبنا حمايةً له ومطالبةً بكل مطالب ثورته وبمشاركة كل المخلصين والشرفاء من أبناء الوطن نعقد قريبًا "حوار من أجل مصر 6".

لقد قاوم الإخوان المسلمون النظام السابق وطغيانه بتحمُّل السجن والاعتقال الظالم، والذي تعدى أكثر من40 ألف معتقل من الإخوان، بإجمالي حوالي 15 ألف سنة سجنًا، واحتسبنا ذلك كله عند الله، ولم يثنِنا ذلك عن النزول لكل شوارع مصر وميادينها، في مظاهرات متعددة، معبرين عن رفضنا له ولممارساته، وبخاصة عند المطالبة بالإصلاح، ورفض تمديد العمل بقانون الطوارئ، والتعديلات الدستورية، والتعدي على القضاة، والعدوان على غزة، وغيرها من قضايا مصيرية تهم مصر وشعبها وأمنها القومي.

وفي الوقت ذاته لم نعِب على من لم يخرج معنا للمشاركة في تلك المظاهرات, ودفعنا النصيب الأكبر من تبعات هذه الوقفات والمظاهرات، والتي بلغت اعتقال ثلاثة آلاف فرد من الإخوان المسلمين في يوم واحد، بل وقتل البعض منا؛ إما في السجون أو في فعاليات الانتخابات.

وقاومناه بأسلوب عملي، بفضح ممارساته عن طريق نوابنا في مجلس الشعب؛ الذين قدموا نموذجًا شهد له الجميع، وقدموا الحلول العملية لمشكلات مصر، والتي قابلتها الأغلبية الميكانيكية لحزبه بالرفض في كل مرة, وكذلك قدم ممثلونا في النقابات المهنية ونوادي أعضاء هيئات التدريس بالجامعات واتحادات الطلاب الصورة المضيئة للتعاون بين كل أبناء مصر، من مسلمين ومسيحيين، ورجال ونساء؛ مما أشعل غضب زبانية النظام فجعلهم يعطلونها لأكثر من خمس عشرة سنة.

إن شدة الظلم والطغيان والتزوير والفساد كانت الوقود الذي أجَّج مشاعر المصريين, فتحوَّلت مشاعرهم المكبوتة والمتراكمة على عمر السنين إلى قوة رهيبة تحركت لتواجه الطغاة وتسقط عروشهم, محققةً وعد الله لنا في قرآنه الكريم: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)) (آل عمران).

وقامت الثورة المباركة, التي كان في القلب منها الإخوان المسلمون, ومن قبل يومها الأول, وحاول النظام السابق تعويق مشاركتنا فيها, باستدعاء مسئولي الإخوان المسلمين في المحافظات, ومحاولة إرهابهم من المشاركة في المظاهرات, وهو ما رفضوه جميعًا, وما عبرنا عنه في بياننا المؤرخ في 23 يناير 2011م, وما تلاه من بيانات شاهدة على مواقفنا الثابتة من النظام السابق ومن الثورة المباركة, فهذا ليس منةً منا, ولكنه الحق والواجب الذي نؤديه إرضاءً لربنا وحبًّا لشعبنا.

لقد شهد العام الماضي تحقيق العديد من مطالب الثورة المباركة, كما شهد العديد من المعوّقات والتحديات التي نصرُّ جميعًا على تجاوزها بإذن الله, فتمَّ إسقاط رأس النظام ومعظم زبانيته, وتمَّ حل جهاز أمن الدولة سيِّئ السمعة والسبب الأكبر في تفشي حالة الظلم والطغيان.

كما تمّ حل مجلسي الشعب والشورى المزوَّريْن, وكذلك إحالة رموز النظام السابق إلى المحاكمة, وتمَّ إلغاء الدستور بتعديلاته المعيبة, والتي كانت تمهِّد لتوريث الحكم، وتمَّ إجراء انتخابات مجلس الشعب تحت إشراف قضائي كامل, وتكون عندنا مجلس شعب منتخب انتخابًا حرًّا ونزيهًا ومعبرًا عن إرادة الشعب, ولأول مرة يخرج عشرات الملايين من الشعب المصري الكريم للانتخابات, مستشعرين أهمية صوتهم في بناء بلدهم, ولأول مرة تعلو الإرادة الشعبية على ما عداها، ويشارك الشعب في صنع مستقبل بلده، باختياره ممثليه المعبِّرين عنه، ولأول مرة تكون مساءلة رئيس الوزراء والوزراء تنفيذًا لأوامر الشعب.

وانتهت جولة أولى من انتخابات مجلس الشورى، وبإذن الله تنتهي الثانية في موعدها, وقد تمَّ تقديم موعد الترشح لانتخابات الرئاسة; ليكتمل لنا بعد أسابيع قليلة عقد المؤسسات المنتخبة في مصرنا الحبيبة بعد غياب عشرات السنين.


إننا نسعى لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، القائمة على أسس المواطنة ومبادئها وسيادة القانون والحرية والمساواة والتعددية, بكل أشكالها وأنواعها, والتداول السلمي للسلطة, عبر صناديق الاقتراع, واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية, وشيوع قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع أبناء الأمة, بلا تمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين, وصياغة دستور جديد للبلاد يلبِّي متطلباتنا نحو نهضة حقيقية لعشرات بل مئات السنين, بصورة توافقية بين جميع أبناء البلاد, فالدساتير توضع بالتوافق لا بالأغلبية، مع ضرورة محاربة مختلف مظاهر الفساد في دوائر الدولة ومؤسساتها، ومحاسبة الفاسدين والمفسدين, مهما كانت مواقعهم وصفاتهم.

وسرعة محاكمة المجرمين منهم محاكمةً عادلةً وعاجلةً, وسرعة القصاص للشهداء ورد حقوق المصابين, ومعالجة الوضع المعيشي المتدهور للمواطن وتحسينه والقضاء على ظاهرة الفقر والبطالة, وإعادة الأمن والأمان للمواطن في كل ربوع مصر, وإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية وتغيير مفهومها الخاطئ, كأجهزة قمع واستبداد, واقتصار دورها على حماية الوطن، وتوفير الأمان والاستقرار للمواطنين, وإفساح المجال أمام كل الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية والحقوقية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية, ومنظمات المجتمع المدني في البلاد; لممارسة أنشطتها وفعالياتها والتعبير عن آرائها وتوجهاتها، وتمكينها من ممارسة دورها الوطني بحرية; للمساهمة في حماية مؤسسات بلدها التي أصبحت مالكةً لها، وكذلك بناء وطنها ورفعة شأنه, مع ضرورة نشر ثقافة المحبة والتسامح والاحترام المتبادل والعيش المشترك بين جميع أبناء الأمة; فهذه هي مطالب الشعوب وواجبات الحاكم; أيًّا ما يكن, وهذا هو الطريق الوحيد للخروج من أزماتنا وتحقيق نهضتنا.

إن شعبنا المصري الكريم يبحث عمن يحفظ عليه دينه, ويحرس بلده ويدافع عنها, ويحفظ أمنه الداخلي والخارجي, ويحترم أحكام القضاء وينفِّذها, ومن يقيم العدل والعدالة الاجتماعية, وينشر الفضائل والأخلاقيات, وييسر سبل العيش, وينشر الرخاء في ربوع البلاد, ويولِّي الوظائف والمهام للأمناء من أهل الخبرة.

إن أغلى ثرواتنا هي الثروة البشرية التي يجب علينا استثمارها وتنميتها وحسن توظيفها ورعايتها؛ لينشأ جيل يقدم مصالح وطنه وأمته على مصالحه الخاصة, ويضحِّي من أجلها بضمير يقظ وفطرة سليمة وخوف من الله عز وجل قبل خوفه من الرقابة والقوانين، ويقدم الخير للغير؛ ليكون كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أنفعهم للناس", ولا بد أيضًا من الاهتمام بالتأهيل الأمثل للإنسان; بدءًا من تقديم الخدمات التعليمية والصحية النوعية,

ومن خلال وضع الخطط والبرامج المتعلقة بالتدريب والتأهيل في المجالات العلمية والفنية والمهنية؛ بما يلبي احتياجات المجتمع والأغراض التنموية الاقتصادية والاجتماعية، ومواكبة ما يحدث من تطورات حثيثة وتغيرات تكنولوجية وتقنية وعلمية وثقافية؛ فبهذين الركنين- المادي والمعنوي- يستطيع الفرد والمجتمع أن يحلِّقا في آفاق المستقبل المشرق بإذن الله.

والآن ما زال أمامنا العديد من التحديات التي يجب أن نواجهها جميعًا, وفي مقدمتها بقايا النظام السابق وفلوله وعملاء جهاز أمن الدولة والمنتفعون من رجال الأعمال, صنيعة النظام السابق وحواريِّيه، وبعض وسائل الإعلام التابعة لهم والمحرِّضة على الثورة ومكتسباتها, والذين يحاولون- مجتمعين أو متفرقين- اختلاق الأزمات تلو الأزمات; لتعطيل مسيرة التحول الديمقراطي وإشاعة الفوضى واليأس والقنوط في النفوس.

وتناسى هؤلاء الواهمون أن دماء الشهداء الأبرار روت بذور الإرادة الشعبية, فنمت شجرة الحرية, وأصبحت عصيةً على الاقتلاع أو الالتفاف عليها أو محاولة الخداع بغيرها, فعلينا جميعًا ألا نستهين بإرادة شعوبنا, وأن ننصاع لها, وأن نتحرك في إطارها, وألا يحاول أي فصيل- مهما اعتقد في نفسه القدرة على مجابهة الشعوب- أن يسبح عكس التيار, وليكن له عبرة فيمن سبقوه.

فلنتسابق جميعًا في تقديم النافع لمصرنا الحبيبة, ولنتعاون في تقدمها ورقيِّها وبنائها واستعادة أمنها واستقرارها، والوصول بها إلي مكانتها المستحقة؛ لنربط ماضينا العظيم وتاريخنا العريق بحاضرنا ومستقبلنا المشرق بإذن الله؛ الذي سنشترك جميعًا في صناعته، كما صنعنا حضارتنا الفرعونية القديمة، واشتركنا في صنع حضارتنا القبطية، وحضارتنا الإسلامية الممتدة، فإن مصر تجمع الرحيق من كل الحضارات وتهضمه وتخرجه عسلاً غذاءً وشفاءً بخلطة مصرية ونهكة أصيلة.

حفظ الله مصرنا الحبيبة من كل مكروه وسوء, وأعاننا على بذل الجهد الواجب لرقيها وتقدمها، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).


المصدر