لقاء مع شهيد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

بقلم د. إبراهيم حمامى


لقاء مع شهيد

ني الله سبحانه وتعالى ويسّر لي أن أدخل قطاع غزة مرتين في عام واحد، المرة الأولى كانت الأولى بالمطلق التي أتشرف فيها بدخول جزء عزيز وغال من أرض فلسطين الحبيبة، وكان ذلك في شهر يناير/كانون الثاني من العام المنصرم 2008، يومها سجلت اللحظات التي عشتها ووثقتها تحت عنوان "غزة...أرض العزة"، كانت زيارة خاطفة عبر الحدود التي انهارت في ذلك الوقت فجمعت بين أبناء الشعب الفلسطيني وأشقاءهم ابناء الشعب المصري، في مشهد لا ينسى، يومها دخل نصف قطاع غزة إلى أرض مصر وعادوا دون أن تسحل حادثة واحدة ضدهم تشينهم، رغم الظروف غير الطبيعية والمعاناة التي كانوا يعيشونها.


المرة الثانية التي تشرفت بها دخول غزة كانت في أكتوبر/ تشرين الثاني من نفس العام 2008، هذه المرة كانت عبر البحر من قبرص وعلى متن قارب الكرامة الصغير، لأيام قليلة ايضاً، لكنها حملت الكثير والكثير، والتقيت فيها صحبة من كانوا معي على القارب بأعضاء الحكومة الفلسطينية، وأعضاء التشريعي، وغيرهم من القيادات الشبابية واليسارية، ومؤسسات حقوق الانسان، واطلعنا على المستجدات والظروف في ظل الحصار القاتل، لكني اليوم سأتحدث عن لقاء بعينه، أمانة حُمّلتها وحان وقتها، من رجل رحل إلى جوار ربه شهيداً بإذن الله، بعد أن استطاع أن يترك بصماته في كل غزة دون استثناء، حتى أن من زار غزة من الأجانب لم يملكوا إلا أن يشيدوا بأمنها وأمانها، بل أن احداهن وهي المتضامنة البريطانية ايفون ريدلي طلبت من وزير خارجية بريطانيا أن يزور غزة ليتعلم كيف يكون الأمن.


انه اللقاء مع الوزير الشهيد سعيد صيام رحمه الله، والذي كان في ليلتنا الأخيرة في غزة، وتحديداً الجمعة 31/10/2008، وبطلب منه، وصحبة آخرين التقينا في مكتبه المتواضع، المكتب الذي كان عبارة عن منضدة عريضة وكرسي في ركن من أركان احدى غرف منزله المتواضع في مخيم الشاطيء، منزل كغيره من المنازل لا تعرفه حتى تصل اليه، دون حواجز أو "دشم" أو تفتيش كما كان الأمر ابان "جمهورية الأبوات في الفاكهاني".


كانت المرة الأولى التي نتحدث فيها، فقد كان رحمه الله من ضمن الحضور حين كرّم رئيس الوزراء اسماعيل هنية من جاءوا على متن القارب قبلها بيومين، اللقاء الأول دون اعداد أو تجهيز، جلسنا جميعنا على المقاعد المعدة للضيوفن لم يجلس ليلتها خلف مكتبه بل مع الضيوف في لفتة تواضع اشتهر بها.


لم أذهب للقاء مجاملة، بل اعتبرت اللقاء فرصة لمعرفة وجهة نظر الرجل والمسؤول الأول عن أمن قطاع غزة، وكذلك لأوجه الملاحظات والانتقادات على ممارسات معينة تارة، واحتجاجاً على أداء معين تارة أخرى، وكان حديثاً ولقاءً مفتوحاً صريحاً، تحمل فيه رحمه الله الحضور وآرائهم، وأجاب دون تهرب وبتوثيق نادر.


سألت فيما سألت لماذا يدير الوزارة من بيته؟ فاجأني بأنه لم يعط مكتباً يوم اختياره وزيراً للداخلية ابان الحكومة العاشرة، فكان بيته مكتبه، واستمر على ذلك بعد فرض القانون في شهر يونيو/تموز من العام 2007، وهو ما فتح الباب لمناقشة قضايا أخرى، وطال الحديث كثيراً، ومررنا على موضوع ما كان يسمى المربع الأمني لعائلة حلس، ثم ما حدث لبعض أفراد عائلة دغمش، وغيرها، لكن الحديث الذي أخذ جل الوقت هو حول فترة "الحسم" كما يسميها البعض، أو "الانقلاب" كما يسميها البعض الآخر.


بدون سابق انذار وقبل أن يدعونا الشهيد سعيد صيام رحمه الله لطعام العشاء في حديقة منزله المتواضع، أخرج مغلفاً أبيض اللون من القطع الكبير، لم يكن عليه أي كتابة من أي نوع، توجه نحوي وسلمني اياه، وقال أن هذا المغلف لك لتعرف كم حاولنا مع رام الله، وكم كابدنا لتفادي ما حدث، وكم حذرنا منه وبشكل رسمي وعلى أعلى المستويات، قال انت كتبت وتحدثت وسألت وانتقدت، انت اعلامي وكاتب، أحملك أمانة هذا المغلف!


يشهد الله سبحانه وتعالى أني لم أفتح أو اقرأ ما في المغلف لأيام طوال، لأنني كنت انتظر فرصة لاختلي بها مع نفسي لأقرأ بتمعن، وهو ما لم يكن ممكناً خلال برنامج الزيارة المكثف مع المشاركين والمتضامنين الآخرين في غزة، ولم يكن ممكناً أيضاً في قيرص التي غادرتها في ذات اليوم.


قرأت ما فيه لاحقاً، لم أتفاجأ بمحتواه، كنا نعرف ونعلم من كان يخطط للانقلاب على الشرعية الفلسطينية، لكن المحتوى كان توثيقاً أضعه بين ايديكم للتاريخ، ولننصف رجلاً حاول بكل وسيلة وجهد، وحورب وجوبه بتآمر فلسطيني وبكل أسف، كان ما في المغلف عبارة عن مراسلات بين وزير الداخلية سعيد صيام ورئيس الوزراء اسماعيل هنية ورئيس السلطة محمود عبّاس، طلبات ومناشدات وتحذيرات، تفاصيل خطة الانقلاب على الحكومة العاشرة التي أرسلت لعبّاس، مطالب الفريق الانقلابي لتنفيذ انقلابه، وغيرها.


اليوم ننشر ما تسلمناه في 31/10/2008، وما زالت حوارات القاهرة لم تحسم بعد، ونوجهه للمتحاورين في لجنة الأمن، لنحذر أنه بلا ضمانات وآليات واضحة، سيعيد التاريخ نفسه، وسيتكرر السيناريو، لكن هذه المرة دون وجود سعيد صيام رحمه الله، وستعربد الأجهزة المسماة بالأمنية من جديد، وسنشهد انقاسامات لا انقسام، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.


اقرأوا وتفحصوا واعلموا من كان المتآمر، ومن كان المنقلب، وان شئتم أمّنوا لهم وتحالفوا معهم، لكن بأقل الايمان وكما يقول المثل المصري الشهير "حرّص ولا تخونش".


الشخوص لم تتغير، والأهم أن العقليات لم تتغيرن وما نسمعه مما يتسرب ويرشح من الحوارات يؤكد أن البعض لا زال يعيش في أوهامه، والبعض الآخر يصر على مكره وعنجهيته، بل وصل الأمر أن رفض البعض حتى تغيير أسماء الأجهزة الأمنية السيئة الصيت وأصروا عليها..........الحذار الحذاريمن تتحاورون في القاهرة.


كان هذا وباختصار شديد اللقاء الذي جمعنا مع الشهيد سعيد صيام، الذي حاز على أكثر أصوات الناخبين بالمطلق في انتخابات التشريعي الأخيرة، والذي قاد لجنة المصالحات لفترة طويلة قبل الانتخابات، صدق ربه فصدقه رحمه الله.


نرفق لكم ما حُمّلنا من أمانة، ولا أقل من أن نعيد الحق لأصحابه، فننشر مع ما نرفقه نص ما نشرته صحيفة "فلسطين" بتاريخ 29/01/2009 عن الوزير الشهيد الشيخ سعيد صيام رحمه الله وتقبله مع الشهداء والأنبياء


تماماً وكما أراد .. ماتَ في حربٍ حُبلى بصورٍ دامية، بددت مخاوفه بأن يموت على فراشه، فكان صبره كصبر الخشب تحت المناشير، تلك الأهازيج التي كثيراً ما رددها على وقع الصواريخ الفولاذية التي طحنت جماجم وعظام أطفال غزة.


متجهم، عنيد، صعب المراس، عبوس، صبور، مقطب الجبين، حاد، هي صفات نقلتها عدسات الكاميرا عن رجل حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الأمني الأول، لكنها لم تفلح في إكمال رسم الوجه الآخر للرجل الحديدي الذي سالت دموعه لمشهد غزة الدامي، رسمُ المعالم الأخرى لهذا الوجه.


قاتلٌ في صمته

هو سعيد محمد شعبان صيام، المولود لأب وأم فلسطينيين، في 22 يوليو/ تموز عام 1959، لأسرة تنحدر من قرية الجورة قرب عسقلان القريبة من غزة، تقلد منصب وزير الداخلية في الحكومة الفلسطينية. وهو متزوج وله من الأبناء ستة (ولدان وأربع بنات)، شغل مناصب عديدة في الحركة الإسلامية التي تفرغ لها بعد مشادات مع "الأونروا".


عمل صيام، وهو خطيب مفوه ومتخصص في الرياضيات والتربية الإسلامية، مدرساً في مدارس وكالة الغوث خلال الفترة من 1980-2003م، كما شغل منصب عضو مجلس أمناء الجامعة الإسلامية بغزة.


استقالةٌ

شعر الشيخ صيام الذي شغل منصب رئيس اتحاد الموظفين في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" لمدة ست سنوات بأن الوكالة الأممية في غزة تكيل له بمكيالين، فقدّم استقالته طوعاً، بعد مضايقات شديدة تعرض لها، وآثر مقابل ذلك التخلي عن نصف ادخاره.


تميز صيام بالهدوء، والجلد، وهو صاحب تفكير عميق، ما جعل منه رجلاً صامتاً إلى حد بعيد، حتى أنه في ذروة الأحداث والمشاكل كان يعود إلى منزله المكون من ثلاث طبقات، رافضاً الإجابة عن أي أسئلة تطرحها عليه زوجه لتستشف عما ينفث في صدره وعقله ناراً، لكنه كان يكتفي بالإجابة "يكفيكم همُّ عملي"، في إشارة إلى علمه الأمني وملاحقة الاحتلال له، كما تقول أم مصعب.


دموعٌ خلف صرامتِه

ولعل الصفة الأمنية المنسوبة للرجل، جعلته يرسخ حقيقة واقعة لمن يعملون في دائرة الاستهداف معه بأن "سر نجاح العمل في سريتهِ"، الأمر ذاته نقله بشده إلى عائلته.

جانب آخر غير معروف عن الشهيد صيام عله يبدد الصورة النمطية التي رسمتها عدسات الكاميرا، والمؤتمرات الصحافية النارية التي خرج فيها "أبو مصعب"، لقد كان بكّاءً وعاطفياً إلى أبعد الحدود، لكن هذه الدموع كان صاحبها يواريها عن الأنظار قدر ما أمكن، كان آخرها مشاهد الأطراف المبتورة وأشلاء الأطفال الآمنين في بيوتهم في الحرب الصهيونية المدمرة على غزة.


لم ينجُ صيام من تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال، فاعتقل أربع مرات في الفترة من العام 1989 حتى العام 1992 الذي تعرض فيها للإبعاد إلى مرج الزهور، كما لم ينج من تجربة الاعتقال في سجون السلطة الفلسطينية وذلك عام 1995.


وتقول زوجه:" كنا نشعر بأن أبا مصعب ضيف في بيته وكنا نقول له ذلك، على سبيل المداعبة والمزاح" .. لحظات صامته رافقتها تنهيدة طويلة اتبعتها الزوجة بفتح باب فولاذي شكل أحد أهم مراحل حياة الرجل، إنها حقيبة وزارة الداخلية.


عامان من التعب

الرجل الحديدي المولود عام 1959 في مخيم الشاطئ غرب غزة تولى الحقيبة، بعد فوز كتلته (التغيير والإصلاح) بأغلب مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات 2006، كان عليه صعود جبال والنزول عن منحدرات وانزلاقات صخرية، وبعد أن وجد صعوبة في التعامل مع قادة الأجهزة الأمنية السابقين والموالين لحركة "فتح" ومحمود عباس، وجد نفسه أمام مهمة تشكيل القوة التنفيذية في مايو/ آيار 2006 التي حظيت باعتراف "أبو مازن" قبل أن يسحب ذلك الاعتراف لاحقا، ليخوض القيادي صيام المؤسسة الأمنية برمتها ويغادرها بإرث أمني داخلي سليم، لم تستطع الدول العربية والمجاورة إنكار الحقيقة المرة بالنسبة إليهم.


وقد أكد مقربون منه أنه لم يكن يرغب مطلقاً بتولي حقيبة الأمن، من منطلقات عدة ليس أولها عبء العمل البرلماني، ورئاسة الكتلة البرلمانية، وعوضاً عن إدراكه الكبير لطبيعة العمل والوضع في غزة، وتركيبة القطاع العشائرية والسكانية، وليس آخرها شغله عضوية المكتب السياسي للحركة الإسلامية.


وتقول زوجه:" رفض الشيخ سعيد المنصب مراراً، لكنه في النهاية امتثل للقرار التنظيمي، فلم يكن أمامه إلا القبول بالقرار، لنعيش وإياه في أوج التعب والمعاناة والأرق لمدة عامين".


قاد الرجل مركباً فوق كثبان رملية، عليه إيصالها إلى ميناء صحي ترسو فيه، فكانت حلقات مد وجزر أمني عاشها قطاع غزة لمدة تزيد عن العام، ووجد صيام نفسه في مواجهة مع الأجهزة الأمنية، وهي المواجهة التي قادت "حماس" إلى السيطرة على القطاع في يوم الحسم الشهير 14 يونيو/ حزيران 2007.


وتدافع "أم مصعب" عن زوجها، بقوة قائلة: "إن خيار الحسم وتشكيل القوة التنفيذية كان اضطراريا بعد أن شعر بأن قادة الأجهزة الأمنية، يريدون الانقلاب عليه، ولا يمثلون للقرارات الوزارية، وهو ما زاد من توتره وعصبيته أكثر من السابق".


ويضيف نجلها:" بعد الحسم العسكري، بمدة ليست بالبسيطة، بدت رغبة والدي ملحة في الاستقالة، وقالها بالحرف الواحد.. لقد تعبت؛ على شخص آخر تولي المنصب ليكمل المهمة بعد إرساء القواعد وبناء الأعمدة، لكن من حوله واجهوه بالرفض..".


ولعل أحد أهم الأسباب غير المعروفة للجميع في تلك الإرادة الملحة هي حالة صيام الصحية، إذ كان يعاني من مشاكل معوية في الأمعاء والقولون، فحسب المقربين منه أنه حتى هذا السبب لم يشفع له بترك منصبه، فهو كان متعففاً، لكنه لم يجد أسباباً للهروب من المهام الثقيلة التي كلف بها.. هو إنسان مخلص، شديد، وقاف للحق، سريع الغضب"، مشيرين إلى أن أكثر ما كان يثير حنقه هو التعدي على الإنسان، سيما من بعض المنتسبين للاجهزة الأمنية، ويؤكد أن أي إشكالية أو مخالفة أمنية صغيرة أو كبيرة يجب أن تعالج عبر الدوائر الرسمية، حرصاً على حياة الناس".


ساعة الصفر

شعر صيام قبل أسبوع من اندلاع حرب كانون الثاني/يناير بأن الأمور في غزة تأخذ منحىً تصعيدياً، فأرسل إلى توأم روحه، نجله الأصغر "محمد" ليوضب شقة سكنية بديلة للعائلة، استعداداً لاستقبال أيام عسيرة، وفي يوم 27 ديسمبر/كانون الأول، أول أيام الحرب أخلي المنزل من قاطنيه، وبقي سعيد صيام متواجداً بداخله.. رافضاً أن يغادر مكتبه، معتبراً خروجه مغامرة أمنية..


بعد يوم على أكثر تقدير، ترك صيام منزله، متجهاً إلى منزل شقيقه المجاور .. لم يكن متوارياً عن الأنظار، أو على الأرجح أن أحداً لم يكن يعلم بوجوده في المنزل، كما يقول نجله الأكبر.


في يوم الخميس الأول من كانون الثاني/يناير 2009، كانت غزة على موعد مع سقوط أبرز قادة "حماس" د.نزار ريان، وبعد أربعة أيام من هذا التاريخ غادر صيام منزل العائلة لاجئاً إلى شقة سكنية يستأجرها شقيقه إياد في حي اليرموك، في منزل مكون من طبقتين، ومكث هناك حتى تاريخ استشهاده في 15 من الشهر ذاته.


أقام "مصعب" مدة أسبوع عند والده، ويقول: "خلال تلك المدة شعرت أن أبي ينتظر شيئاً، فكلما أطلق صاروخ يتنبه إليه، وكأنه ينتظره.. كان يرمقني بنظرات مُودع لم اعتد عليها، لم يحدثني بشيء وقتها، لكنه لم يكف عن النظر إليّ، وفجأة طلب مني أن أنقله إلى منزلنا.. استعجبت من طلبه وهو رجل أمني يدرك خطورة الأمر، فرد قائلاً: سأستند إلى الحكم الشرعي الذي مات عليه الشيخ ريان، أقنعته بأن يعدل عن الفكرة، حتى قبِل الأمر، ثم أمسك بالمصحف وراح يتلو القرآن".


في الأسبوع الثالث للحرب، عاد "مصعب" أدراجه، تاركاً القيادي صيام خلفه، لينوب مكانه شقيقه الأصغر "محمد"، الساعد الأيمن لوالده، في هذه المحطة تقول زوجه: "يوم أن ترك منزل العائلة، رأيته يحمل جواز سفره، فسألته: هل أنت مسافر؟! فكان الجواب هذا للتعرف عليّ إن استشهدت ولم تعثروا لي على جثة.. قبل الحرب بأسبوع قال لي: أخشى بعد تلك المعاناة أن يذهب عنائي أدراج الرياح وأموت هنا، مشيراً إلى فراشه، أو أن أموت مريضاً..".


أدار القيادي في الصف الأول لـ"حماس"، المعركة خلال الحرب عبر معاونيه، وأوكل إليهم بعد أن امتصت الحركة صدمة الضربة الجوية الأولى للحرب، بخطة طوارئ تفرض العمل الأمني بالزي المدني لعناصر الشرطة، على رأسها جهاز الأمني الداخلي "عصب الأمن الغزي".


بيوت الأقارب...لماذا؟

بذات الأسلوب البسيط والتلقائي الذي بدأت به أم مصعب، استأنفت حديثها حين سألناها عن شكل التواصل مع زوجها في أيام الحرب، قائلة: إن الشهيد كان يرسل السلام لهم مع أخيه، ويطمئننا عليه".


وعن سبب تفضيل صيام للاختفاء في منازل أقاربه التي قد تخضع لعيون (إسرائيل) الأمنية في قطاع غزة، علل نجله الأكبر ذلك بقوله:" أبي رجلُ لديه حسّ أمني عال، وبالفعل لقد كان بإمكان الأمن الشخصي له أن يبحثوا له عن مكان أفضل، لكنه أراد أن يكون قريباً من أهل البيت.. ومن جهة أخرى رأى أن الاحتلال قد يستبعد وجوده في أماكن مكشوفة كهذه، كما أن آلية التواصل في هذه الحالة ستكون سهلة".


"والأهم من ذلك أن هذه المرة بالذات كانت فكرة الشهادة مسيطرة عليه، فكان مسلماً بقضاء الله وقدره"، بهذا تابع مصعب أثناء مداعبته لطفله البكر "سعيد" متمتماً بنبرةٍ فخورة ملفوفة بشريط ذكريات حزين:" لقد كان ختامُه مسك، استشهد وفي يده مصحف بقي جزء منه، وقد وُجد في يده قابضاً عليه، وتحديداً هي صفحة الآية الكريمة التي كان يحب دائماً قراءتها:""أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ " سورة البقرة – آية 24، مشيراً إلى أنه كان معتاداً على أن ينام وهو يسمع إذاعة القرآن الكريم، ويحب تلاوة الآية الكريمة:" الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ". سورة الحج - آية 40


محمد "روح" أبيه

وللحديث طعمُ آخر حين يكون عن فلذة الكبد، تنهدت أم مصعب بحرقة عندما ذُكر اسم "محمد" الشهيد (22 عاماً) لتقول: "كان بمثابة روح أبيه، رفيقه في الدنيا وفي الآخرة".


صمتت قليلاً، لتكمل حديثها: "قبل استشهاده بيوم واحد جاءني يستأذنني في الذهاب لرؤية والده، ولكني أنا وإخوته رفضنا ذلك، حتى أنني قلتُ له: " لقد تبّقيَ على انتهاء الحرب أيام قليلة، لذا من الأفضل أن تنتظر"؛ ولكنه في المقابل عبرّ عن قلقه الشديد على والده، ورغبته في أن يخرجه من البيت الذي يتواجد فيه، ثم ذهب إليه بدون علمي.


كانت تتأهب للبكاء وهي تتابع كلامها: "لقد قام بتجهيز شقته على أحدث طراز، وتوسلتُ إليه مراراً وتكراراً بأن أخطب له بناء على طلب والده، لكنه كان يصرّ على الرفض، وردّه الوحيد على طلبي يتمثل في أن روحه توّاقة إلى الزواج من 72 حُورية، كنتُ أشعر أن مسألة زواجه تتأجل هكذا بدون تفسير".


"أم مصعب" قالت عبارةً استرعت انتباهنا: "محمد تعب كثيراً في دنياه"، وقد شرحت مقصدها منها بقولها: "منذ كان في الصف الثاني الثانوي وهو يرافق والده الذي كان يعتمد عليه للغاية، حيث كان جريئاً ولم يكن يخشى على نفسه، لم يكن يعرف طعم النوم، لقد كان كلٌ منهما متعلقاً بالآخر إلى درجةٍ تفوقُ التصور، باختصار أبو مصعب كان يعتبر محمداً "ذراعه اليمنى".


حقنَ دماءَ المسلمين

"في لحظة الانفجار الذي دوّى في مدينة غزة...تحديداً في شارع اليرموك، هل شعرتِ بأن أبا مصعب ربما يكون هو المستهدف؟!....أجابت بعد لحظات من الصمت: "في عصر ذلك اليوم افتقدتُ محمداً لأنه لم يأتي ليرانا، كما كان معتاداً أن يتفقدنا بمجيئه صباحاً ومساء، في ذلك اليوم كنا صائمين، ونريدُ أن نتناول الإفطار، وفي لحظة "الضربة" نظرتُ من النافذة، وسمعت الناس يقولون إن القصف بجوار عائلة سعدية، فأيقنت لحظتها أن المستهدف زوجي، ولكن الله ألهمني الصبر، فسألتُ عندئذٍ عن محمد، لأنه كان ينتابني إحساس قوي بأن محمد استشهد، وذهبتُ إلى المكان ولكن كان من الصعب أن أرى أي شيء وسط الدمار، ابني مصعب حاول في البداية أن يخبئ عني خبر استشهاد محمد، ولكنه ما لبثَ أن أخبرني، حيث لم أجد له جثة، وتم وضعه في كفن أبيه".


لكن هل اتخذت الدولة العبرية من عملية التصفية التي نفذتها مقاتلات F16 وسيلةً لإنهاء الحرب، تقول المرأة التي ارتدت نقاباً: "دماء أبو مصعب حقنت دماء المسلمين في غزة فبعد استشهاده وضعت الحرب أوزارها"، لكنها تضيف باستدراك قوي أن اغتياله لم ولن يشفي صدر (دولة الاحتلال) التي اعتبرت هذه الضربة "إنجازاً ومهمة مُمكنةً"، وحسب قولها فسيخرج بدلاً من الشيخ سعيد مئات الشباب، الذين سيسيرون على دربه ليقضّوا مضاجعَ (الكيان).


صحيفة "معاريف" العبرية كتبت بعد يوم من استشهاد صيام، في 16 يناير/كانون: "(دولة الاحتلال) وضعت طوقا على رقبة حماس في غزة، ضغطة أخرى فينكسر المفصل. سعيد صيام وكبار رجالات جهاز الأمن صفوا من الجو، صيام هو رمزُ سلطوي، والمسّ به معناه مسُ بالسيادة الحمساوية، وهذا هو السبب الذي جعل حماس تحاول، على مدى عدة ساعات إخفاء حقيقة أنه قتل، ولكن إذا كان المسّ بقيادة المنظمة سيتوقف عند سعيد صيام، فإن بوسع حماس أن تجعل التصفية رافعة كي تزيد شعبيتها في أوساط الجمهور الغزي، فقد نجحت حماس في أن تحول في الماضي الإحباطات المركزة إلى أداة دعائية".


وتضيف: "قيادتها –أي حماس- تدفع بحياتها بينما قادة فتح في رام الله يعيشون في نعيم".. الغزيون يقدرون قيمة التضحية وقادة حماس يعتبرون من يعرضون حياتهم للخطر من أجل المصلحة الفلسطينية. فموت صيام أصبح وقودا في آلة الدعاية.


المؤتمر الأخير

ومن المعروف أن صيام كان أول من فجر قنبلة عدم الاعتراف بمحمود عباس بعد التاسع من يناير/ كانون الثاني الجاري، وذلك في مؤتمر صحفي عقده في غزة يوم 22 يوليو/ تموز، وأعلن فيه "عدم التعامل مع محمود عباس رئيسا للسلطة" بعد التاريخ المذكور.


سؤالُ مهم قد يراود الكثيرين طرحته "فلسطين" على ذوي صيام بخصوص إذا ما كان تجاذب معهم أطراف الحديث فيما يتعلق بهذا الأمر، تحديداً بما بدر من محمود عباس من هجوم شديد على حركة "حماس"، ليخرجَ الرجل بخطاب ناريِ أخير أبدى فيه نقمته الشديدة على عباس.. ابنه مصعب قال:" الكل تفاجأ من لهجة خطاب عباس، عندما صبّ جامَ غضبه على حركة حماس واتهمها بشكلٍ غير لائق بأنهم "تجار مخدرات"، فجاءَ تكليف لأبي بالرد على خطابه .. لقد كان منزعجاً من تهجّمه، وأخذ يقول لي والدي: " لقد تكلم بكلام لا يقوله عدو، الحركة ضحّت بالكثير بينما هو ببساطة يقول ذلك، "أيُ رئيس هذا"، وعندئذ عزمَ على أن يرد عليه بما يستحق!".


زوجته هجرته بسببهم

"بصراحة هل كنت تتوقع بأن يخرج الناس بهذا العدد الكبير في تشييع جنازة أبيك"، ابتسمت كلمات مصعب وهو يقول: "أنا شخصياً لم أكن أتوقع أن يخرج الكثيرون، وطبعاً اخترنا مسجد أمان للصلاة عليهما، وإذ بي أجد الشارع مليئاً بالمصلين، اندهشت كثيراً من العدد الكبير برغم أن الحرب كانت في أشدها، لأن أحباءه كثر، تماماً كما لم يكن هناك من لم يحبوه"...، وقد اكتفت أم مصعب بالتعقيب: "الكثيرون من أنصار حركة فتح حزنوا على رحيله، لأنه كان رحيماً بالجميع".. لكن كم ساعة كان يقضي في المنزل؟! استرسلت المرأة الأربعينية حديثها بأنه " اعتاد على بدء عمله من التاسعة صباحا وفي معظم الأيام يستمر حتى الثانية عشرة في منتصف الليل، وفي كثير من الأحيان كان يدير عمله من البيت، حيث الاجتماعات العديدة التي تستمر لفترة طويلة".


وماذا عن الطرائف في حياة الرجل المتجهم، تروي لنا أنه عندما عاد من إبعاده من "مرج الزهور" أخذ أحد رجال المخابرات الصهيونية ويدعى "أبو سامي" يقول له: "يا أبو مصعب، والله مرتي حردانة، لأني مش فاضي إلها، عشان تفرغنا لقياداتكم، أرجوك يكفي ما تفعلونه".


تفاصيلٌ صغيرة

سعيد صيام الذي فرضَ عليه وضعه الأمني بالدرجة الأولى ومشاغل الحياة السياسية بالدرجة الثانية، عدم ظهوره في المناسبات الاجتماعية مع أهله، ومن بين ذلك عدم حضوره لحفل زفاف ابنته قبل بضعة شهور، إلا أن الرجل كان حريصاً كل الحرص على زيارة أرحامه، وبره بوالديه، ومؤازرة جيرانه بتواضع مشهود له، إضافة إلى كونه مختار العائلة، وهو في سن مبكرة (35 عاماً) ما جعله أكثر قرباً منها.


وبعيداً عن كل المفاصل الجدية الخاصة بشخصية صيام الأمنية، فقد كان الطعام المفضل له على عكس أفراد عائلته.. الفول الأخضر " طعام الملوك"! كما كان يلقبّه، إضافةً إلى السمك تلك الوجبةُ الأثيرة لدى أهل بلدة "الجورة"، وهو كما تؤكد زوجته صاحب روحٍ متواضعة بأنه لم يكن يشترط نوعا محدداً من الطعام.


كما كان لا يحب ارتداء ربطة العنق ويقول ممازحاً: "أريد أن أغير النظام البروتوكولي في العالم، " إحنا مش نظام "بدل" ولا "رسميات".


ولعل المقام هنا لا يتسع أو يسمح بالبوح كثيراً بمناقب الرجل الأمنية، إلا أنه واستناداً لما قاله الكاتب المعروف خيري منصور: "فإن البراغماتية وحدها ما يعين المبشرين بنهاية التاريخ ووداع الإنسان الحرّ على الإفتاء بنصر هنا وهزيمة هناك، لكن التراجيديا لها منطق آخر، فهي نصف التاريخ الثالث المفترى عليه والمهجور، لأنها تفسر المفارقة التاريخية المتكررة في كل الأزمنة والأمكنة، وهي أن هناك انتصاراً مهزوماً وهزيمةً منتصرة"..


الحرب انتهت والسؤال المطروح كان دائماً من المنتصر بشكلٍ حاسم (دولة الاحتلال) أم الفلسطينيين؟! ولكن الحرب أيضاً قد تكون حسمت حجم "هزيمة المنتصر، أو "انتصار المهزوم"، ومن الواضح أن (دولة الاحتلال) تسعى جاهدةً الآن في البحث عن انتصارٍ سياسي لها، وقد يكون اغتيال سعيد صيام قد أقنعها بأنها حققت شيئاً من الانتصار للنزول عن سلم الحرب.


المصدر : نافذة مصر