ذكريات أسير في زمن النكسة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ذكريات أسير في زمن النكسة
28-06-2005
الاسرى المصرين فى حرب 1968

حوار- استشهاد عز الدين

- أوضاعنا الآن أسوأ من أيام النكسة

- سريتي أُبيدت أمام عيني

- أحيا برصاصة صهيونية على كليتي

38 عامًا مرت منذ نكسة الخامس من يونيو 1967 م.. تعددت التفسيرات والمبررات السياسية بين مؤيدي جمال عبد الناصر ومعارضيه، وانتهت بمهزلة خطاب التنحي الذي أدلى به الزعيم القائد، وعلى أثره خرج الشعب المهزوم والأمهات الثكالى يعلن فداءهن لبقاء الزعيم بأبنائهن وأزواجهن، وبحثت أصابع الاتهام على مَن تشير إليه حتى انتهى البحث بجعل المشير عبد الحكيم عامر كبش فداء للمأساة وإراقة دمه على أعتاب الزعيم الملهم!!

وبعيدًا عن سراديب السياسة ومتاهاتها كان هناك واقع لا يمكن أن يغفله أو يطمسه أمهر الحواة والمزورين اللذين ابتلينا بهم على مدى تاريخنا الميمون، مئات الشباب المصريين الذين قتلوا غدرًا تحت قصف الطائرات الصهيونية دون أن تتحرك طائرة مصرية واحدة للزود عنهم، ومئات غيرهم أَسَرهم الصهاينة وأجبروهم على حفر قبورهم بأيديهم قبل أن يصفّوهم على الأرض أمام الدبابات والمجنزرات لتطأهم بعجلاتها العملاقة، أما من قدَّر الله لهم البقاء فقد شُحنوا في عربات نقل البضائع إلى فلسطين المحتلة ليرسفوا في الأسر أيامًا وشهورًا دون أن يسأل عنهم أحد، وعن مرارة تلك الأيام وقسوتها يروي الحاج محمد يوسف مندور (61 عامًا) ذكريات ثمانية أشهر قضاها أسيرًا بين أيدي أحفاد القردة والخنازير، لا زال وقع ألمها يمزق نبرات صوته وتنعكس صورها الرهيبة في عينيه المرهقتين من قسوة الذكرى.

  • ما ظروف التحاقك بالقوات المسلحة المصرية؟
جاءني خطاب الاستدعاء يوم 4/4/1964م وكان عمري وقتها 19 عامًا وأعمل بأحد مصانع الغزل والنسيج وأعيش مع أسرتي بحي شبرا، فتوجهت إلى ألماظة وانضممت إلى وحدة تدريب المدفعية؛ حيث تدربت على المدفع هاون 106 الذي يقوم على تشغيله ستة أفراد، وبقيت كذلك لمدة عام ثم التحقت باللواء السادس مشاة الذي كان عائدًا لتوه من اليمن ومعسكرًا في ألماظة.
وبعد أربعة أشهر انتقل اللواء إلى المعسكر الأبيض بطريق السويس - الإسماعلية ، ثمَّ إلى العريش، وبعدها عدت إلى ألماظة لأداء فرقة أصبحت على أثرها حكمدار طاقم للمدفع هاون 106، ثم إلى العريش، فالمعسكر الأبيض حتى أنهيت مدة تجنيدي في أوائل 1967، وسلمت مخلتي ونزلت في إجازة ثم عدت لأخذ شهادة إنهاء الخدمة العسكرية فأخبروني أنه تمَّ استدعائي مرة أخرى إلى سيناء مع جميع أفراد اللواء السادس، وبقينا هناك فترة تجولنا خلالها في كل شبر بسيناء، ثم استقرَّ بنا المقام في منطقة الماسورة التي لا يفصلها عن غزة أكثر من نصف كيلو مترًا، فكنا نرى اليهود يرتعون أمامنا رأي العين، ولقد كانت أوضاعنا في هذه الفترة سيئة جدًا، خاصةً فيما يخص التغذية.
الظباط الاحرار
كانت سريتنا هي الأقرب لقوات العدو، واستيقظنا على طائرات عملاقة وكثيرة تغطي السماء فوقنا وعندما سألنا الضباط أخبرونا أنها طائرات أرسلتها إيران لدعمنا، ولكن بعد قليل لم يجدوا مفرًا من أن يخبرونا بالحقيقة ويأمرونا بإطلاق مدفعيتنا على قوات العدو التي أمامنا بالجبهة الأخرى بغزة، ولم نلبث قليلاً حتى فوجئنا بالدبابات تخرج من البحر لتحاصرنا من خلفنا، وما هي إلا لحظات حتى كان كل أفراد سريتي وعددهم 55 متناثرين على أرض المعسكر شهداء ومصابين، ورأيت أقربهم إليَّ وقد بترت ذراعه وجزء من جنبه وهو يتلوى في التراب يعضّ الأرض من الألم حتى استشهد، أما أنا فقد أُصبت برصاصتين في ذراعي وجنبي وغبتُ عن الوعي تمامًا.
  • وكيف تمَّ أسْرك؟
بعد أن ظن اليهود أنهم أبادوا كل أفراد السرية، راحوا يتجولون بين الجثث والمصابين يقتلون الجنود منهم ويأسرون الضباط، وكنت في ذلك الوقت؛ نظرًا لاستيقاظنا فجأةً على صوت الطائرات مرتديًا ملابس داخلية مدنية ولم أتمكن من وضع رتبتي، فظنوني أحد الضباط وأسروني، ثم نقلوني في سيارة جيب إلى نقطة إسعافهم عند الماسورة؛ حيث عالجوا إصابة يدي ولم يتمكن الأطباء من التعامل مع إصابة جنبي لخطورتها وأمروا بنقلي إلى تل أبيب، فنقلوني أولاً إلى غزة التي وصلتها ظهراً، ثم أحضروا قطار بضائع في المساء وشحنونا جميعًا مقيدي الأيدي في عرباته المغلقة التي تجول فيها الحشرات والروائح الكريهة، وظلَّ القطار في رحلة ذهاب وإياب طوال الليل حتى لا نستطيع تقدير المسافة التي قطعناها ولا المكان الذي نقلنا إليه، وأخيرًا وصلنا إلى معسكر (عتليت) وأخذوني إلى المستشفى التي كان كل طاقمها أمريكان، وفي غرفة العمليات وجدوا الطلقة مستقرة فوق الكلى تمامًا، وقرروا أنه إذا تمَّ نزعها ستودي بحياتي ومن ثمَّ تركوها وأخبروني أنها إما تذوب بمرور الوقت أو تتراكم عليها الدهون وتعزلها عن الجسم، ولا زالت تلك الطلقة رابضة على كليتي حتى اليوم، كلما تحركت تحركت معها ذكريات تلك الأيام السوداء.
  • وماذا عن أوضاعكم في الأسر؟
في المستشفى ركَّبوا لي فتيل ثم أعادوني للسجن بعد يومين، وكان عبارة عن عنابر خشبية يحشرون في كل منها 100 أسير مصري، أما الأسرى السوريين فقد عادوا سريعًا إلى بلادهم، وفور دخولي سألني مندوب الصليب الأحمر عن بياناتي، وأمرني اللواء المصري المسئول عنا في الأسر، ويتحدث باسمنا إلى الصهاينة أن أُجيب، وسألني المندوب عن سلاحي، فقلت له: (س6 هاون120 ) فإذا بأحد الجنود الصهاينة يأتي من خلفي ويضربني بكعب بندقيته على رأسي ضربة أفقدتني الوعي أربعة أيام كاملة، فلقد كان اللواء (س6 هاون129 ) من أكثر العناصر التي قاومتهم وأفقدتهم الكثير، أما الطعام فكان عبارة عن خبز جاف يقسمون الرغيف الواحد على خمسة ومع كل جزء حبة طماطم ويسمونها (البندورة )، وبعد فترة كانوا قد استولوا على الأطعمة المحفوظة التي خزنها الجيش المصري في سيناء كطعام لقواته ووحداته، فقاموا بتوزيعها علينا في الأسر وفوجئنا أنها فاسدة، وعندما سألهم اللواء المسئول عن ذلك أخبروه أنها كانت فاسدة في مخازن المصريين قبل أن يستولوا هم عليها، وهذه حقيقة فقد كانت أوضاعنا سيئة جدًا قبل الحرب، كما وزعوا علينا أغطية وبطاطين تعود لأيام الحرب العالمية الثانية، فكان أحدنا يتغطى بها فتخرج قدمه من وسط البطانية وتتمزق بين يديه.
  • بالرغم من أن كل أيام الأسر تكون أسوأ من بعضها إلا أنَّ هناك يومًا يكون الأسوأ على الإطلاق.. فهل تذكره؟
أسوأ يوم رأيناه في الأسر هو الذي تمَّ فيه تدمير إيلات، فلم نكن ندري بما حدث، ولكننا فوجئنا بالجنود الصهاينة يطوقون العنابر الخشبية التي نقيم بها من كل جانب ويطلقون علينا رشاشاتهم، وراح زملاؤنا يتساقطون حولنا صرعى كأننا في مصيدة، ولم نجد بدًا من الموت الذي أغشى عيوننا بأجنحته التي حجبت ضوء القمر، فرحنا نحطم الألواح الخشبية في جدار العنبر وفوانيس الإضاءة ونقذفهم بها.
  • هذا هو اليوم الأسوأ.. فماذا عن الأيام الأقل سوءًا؟
بالطبع كلها أيام سيئة ولا يمكن أن يكون بها طرائف أو لطائف، ولكن هناك بعض المواقف التي تعلق بالذهن، وهي مواقف مضحكة ومبكية في نفس الوقت، في أحد المرات وجدنا بعض من حبات الفول الجاف بالمعسكر فقمنا بزراعتها، وعندما رآنا الجنود اليهود تعجبوا لحالنا وسألونا لماذا نفعل ذلك فقلنا لهم: لأنه لا أحد يسأل عنا، ومن الواضح أننا سنقضي باقي حياتنا في هذا السجن، كما كان الجوع يستبد بنا في الأسر خاصةً مع نوعية الطعام الرديء الذي يقدموه لنا، وتعمَّد الجنود أن يحملوا عناقيد العنب والتفاح والفاكهة والأطعمة الشهية التي يحصلون عليها في التعيين ويسيرون بها أمام عنابرنا كنوعٍ من الإذلال، وبعد قليل استطعنا تحديد مخزن الأطعمة الخاص بالجنود الصهاينة، وكنا في ذلك الوقت قد وزعنا أنفسنا على مجموعات تبعًا للمحافظة التي ننتمي إليها، فهناك مجموعة تضم أبناء الإسكندرية، وأخرى للشرقاوية، وهكذا، فكانت كل مجموعة تتولى السطو على مخزن أطعمة الجنود مرة، وتأتينا بالطعام ليوزع على باقي المجموعات فنأكله إن كان مطهوًا، أو نعده للطعام بالوسائل المتاحة أمامنا، فمثلاً البطاطس كنا نقوم بسلقها في صفائح السمن الفارغة، وذات مرة ذهبت مجموعة الإسكندرية للسطو على المخزن فوجدته ممتلئ لآخره بمعلبات البولوبيف، فاستولوا على عدد كبير منها ووزعوه علينا، وفي اليوم التالي اكتشف الجنود نقص العلب، فقاموا بالتحقيق في الأمر، وتطوع اثنان من مجموعة الإسكندرية بالاعتراف على أنفسهم حتى لا يتعرض جميع الأسرى للإيذاء والتعذيب، وعُوقبوا بالحبس الانفرادي لمدة 15 يومًا، ولكنَّ المفاجأة كانت عندما أخبرنا مشرف المطبخ اليهودي- وقد كان من سكان شارع شيكلاني بشبرا قبل أن يذهب إلى فلسطين- أنَّ هذه العلب كانت معونة أمريكية لإطعام كلاب الجيش الصهيوني!! وبالطبع سقط عدد كبير منا مرضى.
  • ماذا كان موقف الحكومة المصرية منكم؟
الحكومة المصرية لم تقدم أي شيء من أجلنا، الصليب الأحمر فقط وزَّع على كل منا حقيبة بها بيجامة وبعض الأدوات للاستعمال الشخصي، كما كان يقوم بتوصيل الخطابات لأسرنا ويأتينا بخطاباتهم، ولكن كان التحيز والتعصب للصهاينة يبدو في تعامل الصليب الأحمر معنا.
  • متى أطلق سراحكم؟
لقد أسرت في 5 يونيو 1967م، وأفرج عني في 1 فبراير 1968م، وعند المعدية قام الصليب الأحمر بتسليمنا للحكومة المصرية، وكان يقف عدد من اللواءات والعمداء وأصحاب الرتب والمناصب الرفيعة لاستقبالنا، ومن المعتاد أن يقوم كل أسير بمصافحتهم، فقام أحد الأسرى من الجنود بتقبيل يد اللواء، فلم أدر بنفسي إلا وأنا أطوق عنق العسكري وأصفعه ما يزيد عن ثلاثين صفعة صائحًا به ومستنكرًا تقبيله ليد هذا اللواء وأمثاله من مسئولينا وحكامنا الذين تركونا نلعق الحنظل وهم يرفلون في نعيم الغرف المكيفة والسيارات الفارهة وعدسات رجال الإعلام، فقاموا بتهدئتي ونقلوني أنا وأربعة عشر شخصًا آخر إلى القاهرة في سيارة خاصة في حين تمَّ نقل باقي الأسرى في سيارات رديئة ومزدحمة بدلاً من تكريمهم، وفي القاهرة قام رجال المخابرات الحربية بطرح عدد من الأسئلة علينا من باب سد الخانات، ثمَّ أعطوني شهادة تسريحي من الجيش لأني أُسرت ولا يمكن للأسير المحرر طبقًا للقوانين الدولية أن يبقى في الجيش؛ حيث يصبح من حق قوات العدو إذا أسرته مرة أخرى أن تُطلق عليه النار في الحال، المهم أنه تمَّ إنهاء خدماتنا بالجيش دون أي مكافأة أو امتياز أو تعويض عمَّا لاقيناه أو حتَّى كلمة شكر، وعدت إلى شبرا وقبل أن أذهب إلى البيت مررت بمنزل عمي الذي فوجئ بي، وأقبل عليَّ كلبٌ كان يقيم بجوار منزل عمي ويعتاد رؤيتي وملاعبتي، ثم انطلق الكلب إلى منزلنا وراح يجر أبي من ثوبه ويدفعه أمامه حتى بيت عمي، وكان لقاءً حارًا، فلم تكن أسرتي تتوقع رؤيتي على قيد الحياة ثانيةً.
المشير عبد الحكيم عامر
  • ما رأيك فيما قيل في هذا الوقت عن أسباب النكسة؟
أنا رجل بسيط.. وسمعت كما يسمع الناس أنَّ قادة الجيش كانوا مجتمعين في منزل أحدهم يقضون ليلة حمراء قبل فجر الخامس من يونيو بساعات، وأنَّ المشير عبد الحكيم عامر انتحر لأنه المسئول عمَّا حدث، ولكن أيًّا كانت التبريرات فالحكومة كلها مسئولة عن النكسة، سواء بفساد أحوال البلاد أو الجيش في تلك الفترة.
  • وكيف ترى خطاب التنحي الذي ألقاه عبد الناصر بعد النكسة؟
طبعًا كنت في ذلك الوقت أسيرًا ولم أسمع بما جرى، ولكني علمت بعد عودتي أنهم كانوا يجمعون العمال من المصانع في سيارات ويخرجونهم في مظاهرات تأييد لعبد الناصر حتى يتراجع عن التنحي، ويجبرون الناس على الخروج من بيوتهم للمشاركة في هذه المظاهرات!!
  • وكيف قضيت حياتك بعد الخروج من الجيش؟
    • عملت سائقًا بالهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة، ثمَّ انتدبتُ إلى مرفق الحدائق والبساتين، حتى وصل راتبي قبل خروجي على المعاش ما يقرب من1000 جنيه شهريًّا، ولكن الموظف المختص بشئون العاملين وإتمام إجراءات المعاش طلب مني ألف جنيه رشوة، وعندما رفضت خرَّجني على معاش 250 جنيه، وبالرغم من أنه قد توفاه الله إلا أنَّ هناك قضيةً لا زالت قائمة في مجلس الدولة، وهذا هو التكريم الذي تلقيناه على ما كان من الحرب والأسر.
  • أشرت إلى الفساد الذي استشرى قبيل نكسة يونيو.. فهل ترى تشابه بين وضع مصر اليوم وما كانت عليه قبل نكسة 1967؟
الأوضاع الآن أسوأ بكثير، والنكسات أكبر، وعلى عدة مستويات، أخبرك فقط عمَّا لامسته بنفسي في قطاع الزراعة بحكم عملي؛ حيث كنت أقوم بنقل الأسمدة للحدائق والبساتين، ورأيت كيف نستورد أسمدة ومبيدات ومواد من اليهود تضر بالمزروعات وتنشر الأورام الخبيثة في أجسادنا، منها نوع من الرش يجعل شجر التفاح الذي من المفترض أن يثمر خلال أربع سنوات يثمر في عام واحد، بل يقوم صاحب البستان برش هذه المواد على التفاح الأخضر، وما يكاد ينتهي من رش جميع الشجار حتى يتحول التفاح إلى اللون الأحمر في الحال، ولقد رأيت ذلك عن قرب عندما كنت أزور زميلاً لنا فأحضر شتلة خيار صغيرة جدًّا لا تتعدى فيها ثمرة الخيار عقلتي الإصبع، وقام برشها، ولم تمض ثلث ساعة حتى كانت ثمرة الخيار ناضجة وكبيرة الحجم كأنها استوت على ساقها، حتى مشمش العمار الذي كنا نتفاخر به، حتى كنا نرى شجرة المشمش محملة بخمسة أو سبعة أدوار من الثمار ويزيد ارتفاعها عن الخمسة عشر مترًا، حتى وزعت وزارة الزراعة على الفلاحين رشًا للثمار ما كادوا يستعملونه حتى فوجئوا في اليوم التالي باحتراق الشجر والمحصول، وهذ هو حال بلادنا في كل القطاعات والمجالات، حتى أصبحنا نحيا في نكسة دائمة.

المصدر