حَتَّىَ لا نُجَرِّم أَدَبَ الْمُرَاجَعَات

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حَتَّىَ لا نُجَرِّم أَدَبَ الْمُرَاجَعَات

حمدي شعيب

مقدمة

"غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يَتْبَعْني رجلٌ مَلَكَ بُضْعَ امرَأَةٍ وهو يريدُ أن يبني بها، ولا أحدٌ بنى بُيُوتاً، ولم يرْفَعْ سُقُوفَهَا، ولا آخر اشترى غنماً أو خَلِفَاتٍ ـ أي النوق الحوامل أو الغنم الحوامل ـ وهو ينتظرُ وِلادَهَا، فغزا فدنا من القريةِ صلاة العصرِ أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: إنكِ مأمورةٌ، وأنا مأمورٌ، اللهم احْبِسْهَا عَلَيْنَا.

فَحُبِسَتْ حتى فتحَ اللهُ عَلَيْهِم. فجمَعَ الغنائمَ، فجاءَتْ يعني النارَ لِتَأْكُلَهَا فلم تَطْعَمْهَا.

فقال: إن فيكُمْ غُلُولاً، فلْيُبايعني من كلِّ قبيلةٍ رجلٌ.

فلزقت يدُ رجلٍ بيده.

فقال: فيكم الغُلُولُ فلْيُبايعني قبيلَتُكَ.

فلزقت يدُ رجلين أو ثلاثةٍ بيده.

فقال: فيكم الغُلُول.

فجاءوا برأس بقرةٍ من الذهب، فوضعوها فجاءت النارُ فأَكَلَتْهَا. ثم أحلَّ اللهُ لنا الغنائمَ، رأى ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا". [1]

يقص علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة الطيبة؛ ذكراً من قصة النبي يوشع بن نون، وهو ذلك الفتى الذي رافق موسى عليه السلام أثناء رحلته مع الخضر، وقد استخلفه على بني إسرائيل من بعده، وهو الذي تم على يديه فتح الأرض المقدسة.

وبعيداً عن تفصيلات القصة، فإننا وبتدبرنا لهذه الغزوة، نجد أن لها بعدان:

البعد الأول، الظاهر القريب؛ وهو ما يبرز المدلولات والمعاني القريبة للحدث المذكور؛ والتي منها:

(أ)أن هذه القراءة التاريخية تبين أن أمماً قبلنا قد جاهدت وقاتلت وغزت في سبيل الله، ولابد من قراءة ملفاتها للوقوف على دروسها الجهادية، وتجربتها التغييرية الحضارية، واعتبار سيرتها رصيداً فكرياً، يمثل جولة من جولات التدافع الحضاري.

وذلك كما أُمرنا بالسير في الأرض والنظر والتفكر: "قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ". [الأنعام11]

(ب)أن نبي الله المجاهد قد حرص قبل انطلاقه لفتح المدينة، على التخلص من كل عوامل الهزيمة، ومواطن الخلل؛ وذلك بتنقية جيشه من مشغولي القلوب، وهم كل من انشغل بأي أمور دنيوية، على تعدد صورها وأشكالها؛ سواء من تعلق قلبه بزوجة يريد الدخول عليها، أو ببناء يريد أن يسكنه، أو بماشية أو أنعام ينتظر نتاجها وولادتها.

(ج)أنه أعطى المثل الرفيع في ضرورة فقه السنن الإلهية الكونية، وحرصه على المحافظة على ربانية وسائله أثناء مسيرته، وذلك بشعوره بجنديته وجندية كل الوجود بما فيه الظواهر الكونية؛ كالشمس، في تحقيق مراد الله سبحانه، خاصة في الجولات الجهادية، ثم في دعائه ربه سبحانه، أن يسخر كل العوامل والظواهر الكونية معه، وشعوره أن كل الوجود يجب أن يشاركه هذه المسيرة المباركة المظفرة.

(د)أنه استمر على سلوكه ومنهجيته الربانية حتى بعد النصر، حيث استمر في الحرص على تنقية جيشه، وحفظ صفه المؤمن، من عوامل الضعف الأخرى، والتي تظهر في مرحلة النصر، وأهمها وجود الغالين، والضعفاء أمام السفاسف المادية كالغنائم، والتي كانت غير مباحة في شرعه.

أما البعد الآخر؛ وهو البعد التربوي العظيم، والمغزى العميق البعيد لسلوك هذا النبي الكريم، ومنهجيته الربانية، وهو ما يهمنا في هذا المقام؛ ألا وهو الالتزام بباب عظيم، ومبدأ راشد؛ وهو الحرص البالغ على التقييم العميق لكل مرحلة، والتقويم والتصحيح لكل ظواهر الخلل المستحدثة. فلقد كانت له وقفة أولى قبل التحرك، نقى فيها صفه، من كل أسباب الهزيمة والنكول والنكوص. وكانت له وقفة ثانية، أثناء التحرك، يرجو فيها الحق سبحانه أن يسخر له كل العوامل الكونية لتحقيق غايته الربانية الخالصة.

ثم كانت له وقفة ثالثة، بعد النصر، حرص فيها على تنقية صفه من الغالين؛ الضعفاء أمام أطماع الدنيا.

أدب الوقفات

وهذا الباب يُعرف بأدب الوقفات، أو المراجعات، أو ما يسمونه بالنقد الذاتي، والتفتيش عن مواطن الخلل، في كل مرحلة من مراحل أي عمل أو خطة، خاصة في المجال الدعوي التربوي، أو الحركي.

وهو الباب الذي لم نزل نفتقده كثيراً، أفراداً وجماعات؛ وذلك إما عن عدم فقه لأهميته، أو لعدم فقه طبيعة ممارسته، أو التزاماً بالقناعة المخدرة أننا بخير، وليس في الإمكان أبدع مما كان، أو وهذا هو مصدر الخطورة أن يكون عن تجاهل وتعمد، بدعوى حفظ الصف، ومراعاة المشاعر والنفوس، أو وهو الأخطر؛ وهو دعوى عدم فتح المجال للطاعنين من الخارج، وغلق فرص التشفي، والتشكيك!.

وقد نتج عن غياب هذا المبدأ، الكثير من صور الخلل في الفهم، وفي التطبيق والممارسة، وأخطر صوره ـ وهو ما أصاب العقلية المسلمة في مقتل ـ؛ ألا وهو تعميق هالة القدسية على الاجتهادات البشرية، وعلى الأشخاص، مما أدى إلى حالة من التوثين، أو التصنيم، وهو ما نُهِينَا عنه شرعاً؛ من باب: (كلٌّ يؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم).

وهو الباب التربوي العظيم الذي ينبغي ألا يغيب عن كل متدبر للقرآن الكريم.

وهو أدب الوقفات والمراجعة والنقد الذاتي، الذي يلمسه كل متدبر للقرآن الكريم عامة، ثم للقصص القرآني خاصة.

حيث نلمح كثيراً من صور التطبيق، على كل المستويات؛ سواء الجماعي أو الفردي.

وقفات قرآنية على المستوى الجماعي

أما على المستوى الجماعي، فتدبر كيف كان القرآن الكريم هناك، يتابع مسيرة الدعوة؛ مع حركة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة المسلمة، في كل المواقف، وفي كل المراحل، ومن خلال الأحداث، يقيِّم بجدية، ويراجع بصراحة، ويقوِّم بشدة، ويصحِّح بقوة، ويعالج دون مجاملة.

أولاً: في مواطن النصر، كانت الآيات تتجاوز حالة الفرحة العارمة بالغلبة والانتصارات، وتركز على مواطن الخلل، ومراكز الداء.

(أ)تأمل كيف يخاطب القرآن الكريم أولئك المنتصرين، في أعظم المواضع؛ وهي موقعة بدر، ليعالج الأمراض اللقلبية، ويقول لهم دون مجاملة: "فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ". [الأنفال1]

(ب)ثم يعود بهم إلى وقفة أخرى، فيبين لهم مصدر النصر الذي حققوه، حتى لا تغيب عنهم ربانيتهم، ولا تغرهم المظاهر، ولا يركنوا إلى الأسباب: "وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". [الأنفال10]

(ج)ثم يمن عليهم، مذكراً بالماضي، موضحاً عِظَم فضل الله عليهم، في حركة التغيير: "وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ". [الأنفال26] (د)وفي نفس الوقت، يقف بهم، ليراجع ويصحح دون مجاملة، ويقرر الموقف الصحيح من الأسرى: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ". [الأنفال67]

ثانياً: أما في حالة الانحسار، فلقد كانت الآيات تتنزل لتقيَّم وتصحَّح المفاهيم.

ففي أثناء مصيبة أحد، كانت الوقفات القرآنية الجادة، تركز على نقاط عدة منها:

(أ)أنه لابد من قراءة التاريخ، ودراسة السنن الإلهية: "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ". [آل عمران137]

(ب)وأن الحركة التاريخية، وجولات النصر والهزيمة، وعملية التغيير الحضاري، حركة تبادلية وتداولية مستمرة: "إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ". [آل عمران140]

(ج)والهزيمة تعود إلى عوامل داخلية، لابد من التفتيش عنها: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". [آل عمران165]

(د)لابد من التمحور والقتال حول الفكرة لا الأشخاص: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ". [آل عمران144]

(هـ)الخطأ لا يصحح بالخطأ، والمبادئ لا محيد عنها، والمطلوب هو تقويم الممارسة: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". [آل عمران159]

أما عن غزوة حنين، فلقد كانت الآيات تتجاوز جولة النصر الأخيرة في معركة حنين، لتقف عند أسباب الهزيمة في جولة المعركة الأولى: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ". [التوبة25]

وقفات قرآنية على المستوى الفردي

أما على المستوى الفردي، فلقد كانت الوقفات والمراجعات القرآنية، لا تترك أي فرصة لأي ظواهر مرضية، من باب التقييم والتقويم.

وهذه مجرد أمثلة تمثل غيضاً من فيض.

على سبيل الدراسة لا الحصر.

ففي مجال تصحيح المفاهيم، والتقييم الراشد للأشخاص والأحداث والأشياء والغايات، كانت آيات مطلع (سورة عبس)، تقف لتعاتب، وتقيِّم وتقوِّم، مجرد انشغال الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مكتوم رضي الله عنه، ببعض كبراء قريش.

وفي مجال ضرورة الحفاظ على ربانية البيت المسلم، وحماية الجبهة الداخلية للداعية، كانت هذه الوقفة والمراجعة القرآنية، لتعاتب خير الخلق: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". [التحريم1]

المراجعات ركن ثابت في العملية التربوية

لذا كان منهج الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، أنه كان يقف، وينصح ويوصي مسترشداً بالقراءة التاريخية لما حدث للأمم الغابرة، وهو من باب الفقه الجيد لسننه سبحانه الإلهية.

وتأمل تلك القصة العجيبة؛ التي توضح عاقبة العجب، ثم وهو الأهم كيف كانت شدة المراجعة، وجدية التصحيح، وقوة العلاج، وذلك فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن صهيب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى همسَ شيئاً لا أفهمُهُ، ولا يُخْبْرُنا به. قال: أفطنتم لي؟.

قلنا: نعم.

قال: إني ذَكَرْتُ نبياً من الأنبياء أُعطيَ جنوداً من قومه، ـ وفي روايةٍ أُعْجِبَ بأمته ـ فقال: من يُكافئُ هؤلاء؟.

أو من يَقُومُ لهؤلاء؟.

أو غيرَها من الكلام.

فأوحى إليه أن اختر لقومك إحدى ثلاثٍ: إما أن نُسَلِّطَ عليهم عدواً من غيرهم، أو الجوعَ، أو الموتَ، فاستشار قومَه في ذلك، فقالوا: أنت نبي الله، فكلُّ ذلك إليك، خِرْ لنا، فقام إلى الصلاة، وكانوا إذا فَزِعوا، فَزِعوا إلى الصلاة، فصلى ما شاء الله. قال: ثم قال: أَيْ ربِّ، أما عدوٌّ من غيرهم فلا، أو الجوعُ فلا، ولكن الموتُ، فسلطَ عليهمُ الموتُ، فمات منهم سبعونَ ألفاً.

فهمسي الذي تَروْنَ أني أقول: اللهم بك أُقاتلُ، وبكَ أُصاولُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ". [2]

فتدبر الدروس العظيمة في هذه القصة والتي منها:

(أ)كيف أدى العجب، إلى تلك الخسارة الفادحة، وفقد هذا العدد الكبير من الجيش.

(ب)جدية الوقفة الإلهية، وجدية الحرص على ربانية النفوس المجاهدة، وذلك باختيار حل من ثلاثة حلول أحلاهما مر.

(ج)حرص نبي الله والمسدد بالوحي على مبدأ الشورى.

(د)لجوء المجاهدين إلى سلاحي الدعاء والصلاة.

(ج)وتدبر الحرص البالغ من الحبيب صلى الله عليه وسلم، على الاتزام الدائم بالدرس العظيم للقصة؛ وهو اللجوء دوماً، إلى الله عز وجل والاحتماء بحوله وقوته، وعدم إلى الركون إلى الأسباب المادية، وإن كان من الضرورة العمل والأخذ بها.

أهمية استمرارية الوقفات

ولو تدبرنا آيات قصة ذي القرنين، خاصة في تكرار عبارة "فَأَتْبَعَ سَبَبا". [الكهف85] في كل جولة من جولاته المظفرة الثلاث.

فإننا نستشعر من ذلك، جانبين مهمين:

الجانب الأول القريب الظاهر: أن ذا القرنين قد أحسن استغلال كل الأسباب التي وهبها الحق سبحانه له، بل وطورها وتفنن في تنميتها، وتطبيقها وتوظيفها.

وأن ذا القرنين قد بلغ الأوج في النضوج العقلي والفكري والعملي، فكان مثالاً رفيعاً في حسن حمل أمانة التكليف والاستخلاف والإعمار، وذلك مما يدل من ناحية، على أنه قد فقه السنن الإلهية. ففهم تلك الأسباب الموهوبة، وقبلها وانضبط معها، فلم يهملها، أويصطدم معها.

وأنه قد أحسن استغلال تلك السنن في مرحلته التمكينية، الراشدة؛ أثناء رحلاته المظفرة، ولم يكتف بهذه الأسباب الموهوبة له، بل أدخل عليها التطوير. وامتلك العقلية المبدعة.

ومن ناحية أخرى، أن سلوكه هذا لم يك حماسة عارضة أو فورة مؤقتة بل كان ديدناً ثابتاً، ومنهجاً دائماً. وذلك عندما نتأمل أن القصة قد أوردت عبارة أنه قد أتبع الأسباب ثلاث مرات.

وهذا مما يدل على ثباته المستمر، وطول نفسه، ونضجه ورشده.

وأنه كان يحمل عقلية متجددة، وحيوية، وقابلة للتطور والنمو.

ويتميز بالإبداع الفكري والمادي.

ويدل أيضاً على أن ذا القرنين كان يتطور من مرحلة إلى مرحلة، ويبدع من رحلة إلى أخرى، حسب ما يحصل عليه من أسباب ووسائل تمكينية.

أي أنه بتجدده وإبداعه قد أعطى درساً رفيعاً في حسن التعامل مع المتغيرات في كل مرحلة، مع التزامه بثوابته. وذلك في توازن مبهر.

وكم من أفراد، وجماعات ركنت إلى الثوابت فقط، فطوتها أحداث التاريخ التي لا تعرف الركون!؟.

وكم من أفراد، وجماعات انبهرت بمتغيرات الحركة التغييرية التاريخية، فانسلخت عن جذورها، وفقدت أصالتها!.

والعاصم من ذلك التخبط ـ بعد الاعتماد على توفيقه سبحانه ـ، هو التوازن بين الالتزام بالثوابت، من جانب، وحسن التعامل مع متغيرات كل مرحلة، والمرونة في قبول معطياتها، من جانب آخر.

والتوازن بين الثوابت والمتغيرات، له معنى آخر؛ وهو التوازن بين الأصالة والمعاصرة.

أما الجانب الآخر؛ وهو البعد التربوي العظيم الذي نستشعره من تكرارعبارة: "ثم أتبع سبباً".

وهو البعد الأهم؛ وهو استمراريته على مبدأ الوقفات والمراجعة والتقييم للمنجزات، والمحاولة المستمرة للتقويم والتصحيح والتجديد على ضوء المعطيات المستجدة.

وعدم الوقوف أو التحجر على مرحلة معينة، سواء كانت فكرية أو مادية.

وكذلك تدبر ما جاء في قصة النبي يوشع بن نون، ووقفاته المستمرة في كل مراحل مسيرته الجهادية.

ونخلص من كل ذلك؛ إلى أهمية هذا الباب في المنهج وهو أدب الوقفات أو المراجعات، والنقد الذاتي على المستوى الجماعي، وعلى المستوى الفردي. وأهمية استمراريته في كل مراحل أي عمل.

ضرورة أدب الوقفات

لهذا كان من الأهمية بمكان أن ندرك أهمية مبدأ أو أدب الوقفات، وأن (عملية المراجعة في حقيقتها هي جزء أساس من العمل على تجديد أمر الدين الوارد في الحديث الشريف: "إن اللهَ يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". [3] والتجديد هنا لا يعني التغيير وأننا في عصر نخرج طبعة جديدة منقحة لمبادئ الدين وتعاليمه، تساير حاجات الناس وتواكب التطور، لكن التجديد المراد هنا هو تجديد الفهم له، والإيمان به وتنزيل تعاليمه في ضوء ظروف المجتمع والمشكلات التي يعاني منها، فالتجديد للشيء ما هو إلا محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر، وإزاحة ما تراكم على صورته، بحيث يبدو على قدمه وكأنه جديد.

فعملية المراجعة، في أساسها نفي للخبث، ونزع لنابتة السوء، وتقويم للاعوجاج في المسيرة، وتصويب للخطأ في القول والفعل والممارسة، وإعادة إبراز للمعالم الغائبة.

وهي عملية تدريب للعقل المسلم وتمرينه على الحرية في التفكير، وتخليصه من عقدة الخوف من الخطأ، والتأكيد على أن المولى عز وجل لم يَثُبْ على الخطأ إلا في حالة الاجتهاد الفكري: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". [4]

كما يمرنه على قبول الرأي الآخر، والأخذ والرد، والتأكيد على أهمية نزع القدسية عن الاجتهاد والفهم البشري وتسويته بالنص الديني المعصوم). [5]

كيف نبدأ؟!:

وحتى لا تكون الوقفات كمبدأ مجرد حالة موسمية، أو رد فعل لأحداث وظروف معينة.

وحتى لا يفهمها الخصوم والمعارضون أنها نوع من النكوص أو التنازل عن المبادئ والأفكار.

وكذلك لا يفهم من يطالب بها أنه متمرد أو ساع لشق الصف أو خادم للخصوم!.

فإنة البداية تنبع دوماً من قناعة الفرد الشخصية ـ أو الجماعات ـ بأهمية هذا المبدأ، في حياته وفي سائر أحواله الفكرية والمادية، فيجب أن يتعلمه كركن ثابت في أدبياته فيتمرن عليه دوماً، ويحافظ على استمراريته، من باب محاسبة النفس اليومية، ثم الأسبوعية، ثم الشهرية، ثم في نهاية كل عام وبداية آخر.

فإذا اقتنع الفرد بوجوده وأهميته، وضرورة استمراريته، واقتنع بالنتائج العظيمة له، على ترشيد سلوكه وعلى تطور انتاجه، فسينعكس ذلك حتماً على صعيد العمل الجماعي.

وستتبلور على المستوى الفردي والجماعي، القناعة بأن الوقفات ضرورة بشرية وفريضة شرعية فهي تقيِّم وتصحح وتقوَّم المسيرة.

د. حمدي شعيب

زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS)

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

E-Mail: [email protected]

الهوامش

[1] [رواه البخاري 6/220 برقم 3124 ومسلم 3/1366 برقم 1747]

[2] [أخرجه الترمذي 2/236-237 وأخرجه مسلم 8/229-231 وأحمد 1/16-18]

[3] [رواه أبو داود في الملاحم]

[4] [رواه البخاري]

[5] [مراجعات في الفكر والدعوة والحركة: عمر عبيد حسنة ـ طبعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ سلسلة قضايا الفكر الإسلامي (7) ـ من تقدمة: د. طه جابر العلواني ـ بتصرف]


المصدر