حصاد عام هجري.. وقفات وتأملات

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حصاد عام هجري.. وقفات وتأملات

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه، وبعد:

فمع انصرام عامٍ هجري 1424هـ، وبداية عام جديد، يجدر بنا أن نقف لنتأمل في أهم أحداث ذلك العام الذي ودَّعنا منذُ أيام، فهكذا يجب أن يكون المؤمن حيث أمر الله تعالى موسى عليه السلام: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ (إبراهيم: 5)، وأمرنا الله تعالى عقب الحوادث الهامة والعظيمة بالاعتبار فقال: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ﴾ (الحشر: 2).

ونحن لا نقف لنبكي على حالنا وحال المسلمين، أو لنتحسر- فقط- على ما فاتنا؛ ولكننا نتأمل الأحداث لنأخذ منها العبرة والعظة، ولنعزم على تغيير حالنا إلى ما هو أفضل، ولنتذكر مواقفنا فيها، فإن وجدنا من خير حمدنا الله على توفيقه لنا، وإن وجدنا غير ذلك صححنا أوضاعنا وأعدنا النظر؛ لعل الله يلهمنا الرشد والصواب: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

لقد كان العام المنصرم مليئًا بالوقائع والأحداث على كل المستويات؛ عربيًّا وإسلاميًّا ودوليًّا، ولم نستطع أن نحصيها عددًا، أو نقف أمامها جميعًا، ويكفينا هنا أن نستعرض أهم الأحداث.

المبادرات الأجنبية

لم يكد العام ينقضي إلا وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية نواياها تجاه المنطقة العربية في إطار مشروعها الإمبراطوري الجديد، وقدمت مبادرة جديدة حول (الشرق الأوسط الكبير)، وقد جاءت في سياق مبادرات عديدة، تقدمها أطراف مختلفة داخل الإدارة الأمريكية ومن أوروبا، وسط عجزٍ عربيٍّ رسميّ، وحصار للقوى الشعبية الحية في الأمة، وكما يقول الشاعر:

ويُقْضَى الأمْرُ حِينَ تَغِيبُ تَيْمٌ

وَلاَ يُسْتَأذَنُونَ وَهُمْ شُهُودُ

ومن الواضح أن أمريكا لا تريد إلا التمكين للكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين وسط تنامي الرفض الشعبي لهذا الكيان العنصري، وتريد- أيضًا- السيطرة على ثروات وأسواق المنطقة، في مقدمتها النفط، كما تريد حصار التيار الإسلامي المقاوم والرافض لسياستها في المنطقة عبر تغيير المناهج التعليمية، وتحديث الخطاب الديني، والتدخل في المعاهد والجامعات الإسلامية إلى الحد الذي وصل لمحاولة إلغاء مادة التربية الدينية، وإحلال مادة دخيلة باسم (الأخلاق)، وكأن تدريس الدين الإسلامي أو المسيحي لا يتضمن ولا يكفي لبناء أخلاقي متين.

والسؤال: مِن أين ستستمد أخلاقُ أمريكا جذورَها؟! أمن دين جديد؟! أم من أخلاق (الكاوبوي) الأمريكي، التي أحالت العالم كله اليوم إلى ساحة حروب متصلة؟!

إن الحاجة إلى الإصلاح والتغيير قائمةٌ في بلادنا منذ عقودٍ، وإن غياب الحريات الأساسية بسبب استبداد الحكام، والذين تدعمهم أمريكا، هو الذي أدَّى إلى الفشل المتوالي على كافة الأصعدة، وإننا لقادرون عبر التلاقي الوطني العام والتلاحم العربي والتضامن الإسلامي على بناء نهضة فتية تُعيد للعرب والمسلمين مكانتهم المفقودة منذ قرون، والبداية هي إطلاق الحريات، وعلى أمريكا أن توفر مبادراتها، ويكفينا منها أن ترفع يدها عن المنطقة، وأن تتوقف عن دعم الاستبداد، وعن رعاية الكيان الصهيوني، وإلا فإنها ستخوض حروبًا خاسرة ضد الشعوب التي تتسلح بعقيدتها وإيمانها.

احتلال العراق

من أبرز أحداث هذا العام احتلال العراق بسهولة، وبمساعدة عربية مباشرة أو غير مباشرة؛ وهو ما شجع الإدارة الأمريكية على تصور سهولة التغيير، واستسلام بقية الأنظمة العربية كما حدث مع ليبيا؛ لكن الذي فاجأ الأمريكيين هو انتفاضة الشعب العراقي للمقاومة المسلحة، ورفض كل الشعب العراقي للاحتلال، وإصراره على جلاء القوات المحتلة.

إن المقاومة ضد الاحتلال حق مشروع لكل الشعوب، وإن العام الذي بدأ منذ أيام سيشهد- إن شاء الله تعالى- تصاعد المقاومة العراقية، وتميزها عن عمليات العنف العشوائية، التي لا يعرف أحدٌ مَن وراءها، ولا شك أن هذه المقاومة ستتبنى برنامجًا للمستقبل، وسيخوضها الشعب العراقي الذي يعاني من جرَّاء الاحتلال، وفشل الإدارة المدنية للاحتلال في توفير الأمن والاستقرار، وغياب الحاجيات الأساسية للحد الأدنى من المعيشة، وسينضم اليائسون من الحلول السلمية مع الاحتلال إلى صفوف المقاومة كما حدث في فلسطين السليبة.

فلسطين الصامدة

إنَّ جُرح فلسطين ما زال ينزف، واشتد نزفه خلال العام الماضي، خاصة مع انكشاف رؤية (بوش- شارون) على أرض الواقع، التي بددت سحب الدخان التي أطلقتها تصريحات "بوش"، التي أراد بها تخدير الحكام العرب وخداع الشعب الفلسطيني حول (دولة فلسطين) على الأرض، ولقد كان بناء جدار العزل العنصري، الذي ابتلع قُرابة نصف أراضي الضفة الغربية، أكبر دليل على فشل المشروع الصهيوني، الذي أراد الهيمنة والسيطرة على الأرض والسكان والثروات، وأراد الامتداد خارج حدود فلسطين إلى النيل والفرات، فإذا به يحيط نفسه بجدار عازل؛ خوفًا من اشتداد هجمات المقاومة، ويبني (جيتو) جديد أو حارة يهود واسعة، ولا شكَّ أن إصرار الشعب الفلسطيني الأعزل على استمرار نهج المقاومة هو الذي سيحطم هذا الجدار، كما تحطَّم جدار (برلين) من قبل، وسينهار مع انهياره المشروعُ الصهيوني، كما انهارت الفكرة الشيوعية والمعسكر السوفيتي بانهيار جدار (برلين).

علينا أن نَدْعَم جهاد الشعب الفلسطيني البطل، وأن نَفُكَّ الحصار الذي فرضته أمريكا والحكومات العربية على العمل الخيري والإغاثي، فضلاً عن العمل الجهادي خلال العام الماضي، وأن نعمل بكل قوة على وصول الغذاء والدواء وكل صور الدعم إلى المرابطين على أرض فلسطين.

لقد نجح الشعب الفلسطيني في الالتفاف بكل فصائله إسلامية ووطنية، وبكل اتجاهاته الفكرية داخل السلطة وخارجها حول نهج المقاومة، وأفلت بفضل الله، ثم بجهود المخلصين، من خطر الفتنة الداخلية والاقتتال الأهلي، وهذه خطوة طيبة، وهاهو اليوم يحقق أولى بشائر الأمل في إعلان العدو عن نيته الانسحاب من قطاع غزة، ويقيننا أن الشعب الفلسطيني سيوظف هذا الانسحاب الذي جاء تحت اشتداد وطأة المقاومة والانتفاضة؛ لتمتين وحدته الوطنية، ولترسيخ نهج المقاومة حتى تمام الجلاء عن كامل الضفة الغربية.

وبذلك يمكن تحقيق المرحلة الأولى من الاستقلال بإقامة دولة فلسطينية بسواعد المقاومة وليس بمنحة أمريكية؛ دولة قادرة على تحقيق أماني الفلسطينيين في استكمال حق تقرير المصير، وجمع الشتات الفلسطيني، ورفع راية الحرية وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية، وفي مقدمتها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.

الحصار على العالم الإسلامي

شهد هذا العام اشتداد الحصار العلمي والتقني المفروض على أمة الإسلام وحرمان المسلمين من الالتحاق بركب التقدم عبر تهديد (إيران) لتوقف برنامجها النووي السلمي، وإرهاب باكستان وتهديدها واتهامها ببيع التكنولوجيا النووية، وإجبار ليبيا على تفكيك برنامجها البدائي، وحرمان مئات الطلاب العرب والمسلمين في أمريكا من الالتحاق بدراسات العلوم المتقدمة، كما اشتد الحصار على العمل الخيري في أمريكا وأوربا ومطاردة العمل الإغاثي في كل بلاد الدنيا بما فيها بلاد العالم الإسلامي.

وفي الوقت الذي تتدفق فيه المعونات والمنح على العدو الصهيوني، وعلى الجماعات التبشيرية، وعلى الجماعات العرقية الإثنية، يُحاصَر فيه المسلمون، ويُمنعون من أداء فريضة من فرائض دينهم، وهي الركن الثاني من الإسلام (الزكاة)، كما تُمنع الفتيات المسلمات من حقهم الطبيعي، وحرمانهم من الالتزام بأوامر ربهم بارتداء الحجاب في المدارس الحكومية الفرنسية؛ أهي حرب على فروض الإسلام؟ أم هي بداية الحرب على القرآن الذي هو دستور المسلمين، كما أعلن ذلك مسئول أمريكى مؤخرًا؟!

ونحن على ثقة أن ملايين المسلمين لن يزيدهم ذلك إلا تمسكًا بدينهم، والتفافًا حول قرآنهم، وتطبيقًا لشعائر إسلامهم، ليس تحديًا لأحد؛ بل خضوعًا لأمر الله تعالى، وفي مقدمة أوامر الله لنا أن نأخذ بأسباب القوة جميعًا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60).

ومع اقتناعنا بأن أسلحة الدمار الشامل مما حرَّمه الله؛ لأنها لا تفرق بين محارب وغير محارب، ولا تميز بين مذنب وبريء، وأنها تُزهق آلاف الأرواح، إلا أن أمريكا هي التي بدأت السباق النووي في العالم، وهي التي استخدمت السلاح النووي، وأن العالم اليوم وصل إلى حال من الردع المتبادل، والتوازن النووي باستثناء المنطقة العربية، التي يتترس فيها العدو الصهيوني بأكثر من 200 رأس نووي.

بينما تقف كل الدول العربية عاجزة ومكشوفة أمام ذلك التهديد الخطير، ولا تستجيب أمريكا للدعوات المتكررة لنزع السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل من المنطقة كلها، وإزاء ذلك التهديد لا تملك الشعوب العربية إلا السعي لتحقيق التوازن في القوي والردع المتبادل، وهذا ما مارسته كل دول العالم، بدءًا بالاتحاد السوفيتي، مرورًا بالصين والهند، وانتهاء بباكستان، ولن تكون الأخيرة.

لقد شهد العام الماضي نهاية لبعض الطغاة، مثل: "صدام حسين"، و"إدوارد شفرنادزة"، وعند المقارنة نجد أن الأول زال حكمه بغزوٍ عسكريٍّ، أدَّى إلى احتلال بلاد الرافدين؛ أما الثاني فقد أطاحت به ثورة شعبية، بأيادٍ وطنية؛ وهو ما أدَّى إلى بدايةٍ جديدةٍ؛ حيث تمَّت انتخابات حرة تولَّى بها رئيسٌ جديدٌ الحكم، فيا للمفارقة! ويا للعجب!

أحَرَامٌ عَلَى بَلابِلِهِ الدَّوْحُ

حَلالٌ للطَّيْرِ مِنْ كُلِّ جِنْسِ

ونحن على يقين أن الأمةَ العربية والإسلامية- التي يدين غالبية سكانها بالإسلام، وقد استظل جميعهم بحضارته الوارفة، التي تعلي من شأن الحرية "متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"، والتي تقرر من أصول الحكم (الشورى): ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ (آل عمران: 159)- قادرةٌ على إدارة مجتمعاتها بكفاءة واقتدار، بعيدًا عن المخططات الأجنبية التي لا تريد بها خيرًا.

موجة العنف الأخيرة

ولقد شهدت بلاد إسلامية عديدة موجةً من عمليات العنف التي استهدفت أمن واستقرار هذه البلدان في (بالي) بإندونيسيا، و(الرياض) بالمملكة العربية السعودية، و(إستانبول) بتركيا، و(الدار البيضاء) في المملكة المغربية.. موجة تثير الشكوك في توقيت مريب، توقفت بعد ذلك باستثناء مطاردات في السعودية، وكأنها جاءت لإرهاب الحكومات لتنضم إلى الحرب الأمريكية العالمية على ما تُسميه "الإرهاب"، الذي لم تجد له تعريفًا حتى اليوم، وهي لا تستهدف إلا الإسلام المقاوم والمعارض لسياستها وهمينتها.

لقد أدان (الإخوان) جميع تلك الأحداث وقتها، وأكدوا تمسكهم بنهجهم الإصلاحي السلمي المتدرج، وحذَّروا الشباب المسلم من الانسياق لمغامرات طائشة، وطالبوه بالاستفادة من التجارب الفاشلة السابقة، كما أعلنوا أن هذه النزعة العنيفة لن تتوقف، ولن يتم علاجها إلا بعلاج جذورها، وأن في الالتزام بالإسلام الصحيح الكفاية والعون على منع وتقليل آثار هذه الأحداث.

الأحباب الذين رحلوا

لا نستطيع أن نختم هذه الوقفة مع العام المنصرم إلا بالتَّرحُّم على الذين فارقونا، وفي مقدمتهم ضحايا الزلازل العنيفة، التي ضربت عددًا من البلاد الإسلامية، خاصةً في (بام) بإيران- عشرات الآلاف في غمضة عين- دليل على قدرة الله القاهر فوق عباده، وذكرى لنا أن نستحضر دائمًا نيةَ الطاعة والجهاد في سبيل الله، كما نتذكر الأحباب الذين رحلوا عن دنيانا، وفي مقدمتهم مرشدنا المستشار "محمد المأمون الهضيبي"، وإخواننا "حسن جودة"، و"عبدالمنعم سليم جبارة"، و"عزالعرب فؤاد"، وغيرهم كثير.

نسأل الله لهم الرحمة والمغفرة والرضوان، كما ندعوه- تعالى- ألا يحرمنا أجرهم، ولا يفتننا بعدهم، وأن يغفر لنا ولهم.. عامٌ مضى بكل أحداثه، لنا فيها العبرة والدروس، وعامٌ بدأ نسأل الله فيه التوفيق والسداد: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 140).