القرضاوي سيرة ومسيرة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
القرضاوي سيرة ومسيرة


الاحتفال بمرور عشرين عاما على تأسيس حركة الإخوان

ومن المناسبات التي مرت في تلك الآونة: الاحتفالات بمرور عشرين عاما على تأسيس حركة الإخوان.

وقد أصدرت جريدة الإخوان اليومية عددا ضخما خاصا بهذه المناسبة، تضمن بعض تاريخ الإخوان، وألوانا شتى من أنشطتهم المتنوعة، ومساهماتهم في خدمة المجتمع.

كما احتفلت شعب الإخوان في أنحاء مصر بهذه المناسبة، وكان لي نصيب من المشاركات في عدد من البلدان.

وكان مما أسهمت به في هذه المناسبة (قصيدة) بعنوان (الدعوة تتحدث عن نفسها) ألقيتها في طنطا وفي أكثر من بلد، وقد أخذها مني إخوان (محلة أبو علي) لتنشر في مجلة أو نشرة خاصة تظهر بهذه المناسبة، وكان لا بد لرجال المباحث أو القسم المخصوص كما كان يسمى: أن يوافق على مادة المجلة قبل أن تنشر، ولكن المجلة بقيت عنده مدة، فلم يوافق، ولم يرد مواد المجلة إلى أصحابها. وضاعت النسخة الوحيدة التي أملكها لهذه القصيدة.

ولكني ما زلت أحفظ أبياتا متناثرة منها، أنتهز هذه الفرصة لأسجلها هنا. منها:

يا دعوة الحق قصِّي ما لقيت فقد يؤذى الهدى ويعان الباطل البور
قال: ولدت وحق الشرق مكتئب وباطل الغرب مسرور ومغرور
لا عدل في الأرض، بل ظلم وتفرقة والعدل أعظم ما تحوي الدساتير
حـق الإباحي محفوظ ومحترم وحق ذي الدين مهضوم ومـهدور
وفيها
ظنوا وراء اللحى بُلْهًا ودروشة مهلا، فخلف اللحى أسد مغاوير
للغرب هم أجل، للشرق هم أمل للدين نصر، وللأوطان تحرير

وعن دعوة الإخوان:

كـم أنشأت شعبا كالأنجم انتشرت
في مصر، دور هدى، يا نعمت الدور
أكرم بها شعبا، بل يا لها شـعلا
تكوي وتهدي، كذاك النار والـنـور
تكوي أناسيّ أعيى الطب داؤهمو
والكـيّ آخـر مـا تأتي العقـاقـير
وترسل النور يهدي من له بصر
والعُمْي تنكـر، والخـفـاش مذعـور

ومنها:

كم من سفيه تعدَّى فابتسمت له أصون ذيلي، فـإن الكلب مسعور
وكـم كبير تحداني يناطـحني فعاد من صخرتي والرأس مكسور

وبمناسبة ضياع هذه القصيدة أذكر أنه ضاع لي عدد من القصائد التي أنشأتها في تلك المرحلة، وجلها في الوطنيات والمناسبات الإسلامية، مثل قصيدتي في ذكرى الهجرة من بحر الطويل، وكان مطلعها:

سهـرت إلـى نجم السها أتطلع وأصبحت من جام الأسى أتجرع
وما بي هوى ليلى ولا عشق زينب ولا غرني قرط وعقد مرصع
ولكنني أهـوى الـعلا فـي محمد وليس لقلبي في ســواه تطـلع

ومن هذه القصيدة:

فهل كان أسطول، وكانت قنابل وكـانت مـظـلات تقيه وتمنع؟
عـديم عـديم كل هذا، وإنما هو النصر من أفق السماوات يطلع
بحسبك نسج الـعنكبوت مظلة وقنبلة مـن صنع ورقـاء تسجع

وكنت ما أزال على الاعتقاد الشائع بأن هناك حمامة عششت على الغار، وعنكبوتا نسجت عليه، ولم يثبت هذا بحديث صحيح، وبخاصة ما يتعلق بالحمامة، والقرآن يقول: (وأيده بجنود لم تروها) التوبة: والحمام والعنكبوت جنود مرئية.

ومن هذه القصيدة:

وماذا ستجدينا القصور شوامخًا وأخـلاق أهــلها خـراب وبلقع؟
وماذا يفيد القز والجلد أجرب وهل ينفع الطربوش والرأس أقرع؟
ومن القصائد الضافية قصيدة وداع الشهداء في فلسطين، وهي من بحر الخفيف، ولا أذكر إلا مطلعها:
زملوهم بما بهم من ثياب لن يعيب الحسام بالي القراب!

ومن هذه القصائد قصيدة اجتماعية عنوانها (نساء اليوم) ألقيتها في دار الإخوان، تعليقا على ما نشر في الصحف من أن بعض الجمعيات النسائية، اجتمع أعضاؤها، وكان لهن مطالب منها: ضرورة حذف (نون النسوة) من لغة الخطاب! فكان مما جاء في القصيدة:

ما الذي طالب النساء به اليو م: أطالبن إنجلترا بالجــلاء؟
طلب الغيد حذف نون إناث يا لها مـن مـطـالب شماء؟
وغدا يطبن (الذين) و(وهذا) معرضات عن (هذه) و(اللائي)
وغدا يلتمسن بكرا وعـمْرا بدلا مـن سعـاد أو أسـمـاء
لا تقولوا: هـذا بعيد وناء ليس شـيء عـلى أولاء بناءِ!

ومن أهم القصائد الضائعة التي أسفت عليها: قصيدة تأملية أنشأتها مبكرا تحمل نزعة فلسفية، وكنت في السنة الأولى الثانوية، وعنوانها (مناجاة القبر) لا أذكر إلا بيتين منها، هما:

حنانيك ماذا في حناياك يا قبر بربك خبِّر قبل أن يفـدح الخُبْر
ألا ليت شعري ما تكنُّ ليوسفٍ أروح وريحان أم النار والجمر؟

وقصيدة أخرى أنشأتها بمناسبة سكناي في بيت كان مشبوها، وقد اتخذ وكرا للفساد، ولم نكتشفه إلا بعد سكنانا فيه، فبقينا فيه شهرا واحدا، ثم رحلنا عنه، وفيه قلت:

إن أنس لم أنس دارا كنت ساكنها تبا لـساكـنها، تبا لـكاريهـا
قد خيم الشر فيها، واستطال بها زرع الـمفاسد إذ دارت سواقيهـا
ابن الـفضيلة يبدو كـاليتيم بها وابن الـرذيلة يعـلي رأسـه تيها
كم من عجوز بها شمطاء شائهة هـي (العُزلاء) حقـا ليس تشبيها
تميس في الخز كالطاووس تائهة والخز يخزى ويأسى من مخازيها
قـوادة فـي اقتناء الغيد بارعة صيادة لشباب الشر تغـويهـا
أمضيت شهرا بها قـد خلته سنة ساءت نهارها، ساءت لياليها
إلى آخر القصيدة وكانت أكثر من ثلاثين بيتا.

وقصائد في مناسبات وطنية، أو دينية مثل المولد النبوي، وقصيدة في رثاء الشيخ المراغي، وغيرها، كلها ذهبت فيما ذهب.

تخلص منها إخواني الذين أودعتها عندهم خوف مداهمات التفتيش، وهذه ستكشفهم وتدل عليهم، فلم يكن منهم إلا أن أحرقوها، وهم لا يعلمون أنهم إنما أحرقوا معها قلبي، سامحهم الله، وجزى من خوفهم إلى هذه الدرجة ما يستحق.

حادث السيارة الجيب.. القاضي يحاكم الإخوان ثم ينضم إليهم

ومن الحوادث التي وقعت في هذه الفترة: حادثان مهمان، كان لهما أثر في تاريخ جماعة الإخوان.

الحادث الأول، هو ما سمي بحادث (سيارة الجيب) وهو سيارة ضبطت فيها أوراق خطيرة تتعلق بالنظام الخاص في الإخوان، وما يخطط له من تدبير انقلاب لنظام الحكم الملكي المصري، وتحويله إلى نظام شورى إسلامي، وقد هرب الذي كان يسوق السيارة، ولكن الأوراق كشفت كل شيء.

وقد اتهم فيها عدد من الأفراد، سيقوا إلى السجن، ثم إلى المحاكمة، وقد طنطنت الصحف ـ على عادتها ـ بهذه الواقعة، وشنعت على الإخوان باعتبارهم إرهابيين يعملون على قلب نظام الحكم بالقوة، ولو أنهم نجحوا في تدبيرهم لأصبحوا أبطالا، ونثرت لهم الزهور، ووضعت على رؤوسهم التيجان، واعتبروا محررين للوطن، ومنقذين للأمة، وتسابق رجال القانون الدستوري يبررون عملهم هذا في ضوء (الفقه الثوري) كما حدث لرجال ثورة يوليو من بعد.

ولكن لأنهم لم ينجحوا، صوبت لهم السهام من كل جانب، وسمي عملهم هذا تخريبا وإرهابا وعنفا، وجريمة يعاقب عليها القانون. وصدق الشاعر الجاهلي حين قال:

والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل!

على كل حال، لقد أحيلت هذه القضية إلى محكمة مدنية، برئاسة المستشار أحمد بك كامل، وكان قد اتهم فيها أكثر من ثلاثين شخصا، منهم عبد الرحمن السندي، ومصطفى مشهور، ومحمود الصباغ، وأحمد حسنين، وأحمد زكي وغيرهم.

وكان الجو السياسي قد تغير، بعد سقوط حكومة إبراهيم عبد الهادي، وكانت فرصة ليصول فيها المحامون الإسلاميون والوطنيون، أمثال مختار عبد العليم، وشمس الدين الشناوي، وعبد المجيد نافع، وعزيز فهمي، وأحمد حسين وغيرهم. وأن تسمع شهادات رجال كبار مثل اللواء المواوي، واللواء فؤاد صادق وغيرهما.

وقد أصدرت المحكمة فيها حكما تاريخيا، برأ أكثرية المتهمين، وحكم على أفراد قليلين منهم بأحكام مخففة، ما بين سنة وثلاث سنوات، ولكن الشيء المهم في الحكم أنه أنصف الإخوان بوصفهم جماعة إسلامية وطنية. وأبرز دورهم الوطني والجهادي في مصر وفلسطين، ودورهم الثقافي والاجتماعي في خدمة مصر، ثم كانت المفاجأة أن انضم رئيس المحكمة المستشار الكبير أحمد كامل بعد ذلك إلى الإخوان، ونشرت ذلك الصحف بالخط العريض: حاكمهم ثم انضم إليهم!

قتل الخازندار.. خطايا الأفراد تلصق بالجماعة

والحادث الثاني من الحوادث التي وقعت في هذه الفترة، وكان لها أثر سيئ على الإخوان: قتل القاضي أحمد الخازندار، قتله اثنان من شباب الإخوان من المنتمين إلى النظام الخاص. هما محمود سعيد زينهم، وآخر نسيت اسمه. وقد قبض عليهما وسيقا إلى المحاكمة وحكم عليهما بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة.

لم يكن للأستاذ حسن البنا المرشد العام علم بهذه الحادثة، ولا أذن فيها، ولا أخذ رأيه فيها. إنما الذي تولى كبرها، وحمل تبعتها هو النظام الخاص ورئيسه عبد الرحمن السندي، الذي دبر العملية وخطط لها، وأمر بتنفيذها، ولما سئل: كيف تقوم بمثل هذا العمل، دون أن تأخذ أمرا صريحا من المرشد العام؟

قال: إني سمعت من المرشد ما يفيد جواز قتل هذا القاضي، وإن لم يكن تصريحا.

قيل له: وماذا سمعت من المرشد؟

قال: عندما أصدر القاضي الخازندار حكمه على بعض شباب الإخوان في إحدى الحوادث بالحكم سبع سنوات، في حين حكم في قضية أخرى من أخطر القضايا على المتهم بالبراءة، قال: ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله.

قيل له: وهل مثل هذه الكلمة تعطيك فتوى بشرعية قتله، مع أن مقصود الأستاذ: ربنا يريحنا منه بتعيين القضاة العادلين الصالحين، أو بالموت أو بالغزل، وليس بالقتل. فالقتل لا يحل المشكلة قط.

ولقد سمعت من الأخ الكبير الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، وكان رئيسا لقسم الطلاب في ذلك الوقت، وكان من القريبين من الأستاذ البنا، يقول: إنه دخل على الأستاذ البنا، بعد نشر وقوع الحادثة، فوجده أشد ما يكون غضبا وحنقا، حتى إنه كان يشد شعره من شدة الغضب، وقال له: أرأيت ما فعل إخوانك يا فريد؟ أرأيت هذه الجريمة الحمقاء؟ إني أبني وهو يهدمون، وأصلح وهم يفسدون. ماذا وراء هذه الفعلة النكراء؟ أي مصلحة للدعوة في قتل قاض؟ متى كان القضاة خصومنا؟؟ وكيف يفعلون هذا بدون أمر مني؟ ومن المسؤول عن الجماعة: المرشد العام أم رئيس النظام الخاص؟

هؤلاء سيدمرون الدعوة. إلى آخر ما قال الأستاذ حسب رواية الأستاذ فريد، وقد سمعت منه هذه القصة أكثر من مرة.

لقد كان هذا خطأ، بل خطيئة ارتكبها النظام الخاص، وهو الذي يتحمل وزرها، وقد شعر الأستاذ البنا في الآونة الأخيرة أن النظام بدأ يستقل بنفسه، ويتمرد على سلطانه، ويجعل من نفسه جماعة داخل الجماعة، أو دولة داخل الدولة، بل يرى أن كلمته يجب أن تكون هي العليا، وهي مشكلة عويصة يبدو أن الأستاذ بدأ يفكر في حلها، ويسر إلى بعض المقربين منه بخصوصها، وإن لم يهتد سبيلا إلى حلها، أو لم يمهله القدر حتى يجد طريقا لعلاجها.

ولقد اتخذت هذه الحادثة (حجة) لاتهام الإخوان بالعنف، ووصمهم بالإرهاب، وقد ناقشت تهمة (الإخوان والعنف) في كتاب (الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد) وفندت كل الشبهات المطروحة، وخصوصا شبهة قتل الخازندار، التي كانت حادثة فريدة لم تتكرر في تاريخ الإخوان، على كثرة ما صدر ضدهم من أحكام قاسية من قضاة مدنيين وعسكريين، ولم يفكروا يوما في الانتقام من أحد منهم.

بل إن الإخوان قد رأسهم وتولى زمامهم بعد مرشدهم الأول أحد كبار القضاة، وهو المستشار حسن بك الهضيبي المرشد الثاني للإخوان.

وهو مستشار بمحكمة النقض الكبرى. وكان وكيله بعد ذلك أحد القضاة المرموقين، وهو القاضي الفقيه عبد القادر عودة، صاحب الموسوعة الجنائية الإسلامية (التشريع الجنائي الإسلامي) في جزأين.

وسأعود للحديث عن (النظام الخاص) ورأيي فيه، في مرحلة لاحقة إن شاء الله.

وقفة تأملية مع الإخوان.. لانضمامي إليهم مكاسب كبيرة

وأحب أن أرجع إلى الوراء أكثر من نصف قرن، بعد مضي خمسة أعوام عليّ في جماعة الإخوان؛ لأقف مع نفسي وقفة تأمل ومحاسبة، أريد أن أسأل نفسي: هل كان انضمامي إلى دعوة الإخوان المسلمين خيرا لي في ديني ودنياي؟ وهل استفدت من هذه الدعوة أو لا؟

وأود أن أقول بكل صراحة وجلاء: إنني حققت مكاسب دينية كبيرة، واجتنيت فوائد جمة بانضمامي إلى دعوة الإخوان:

1- أنها وسعت أفقي بفهم الإسلام فهما شاملا، كما شرعه الله تعالى، وكما أنزله في كتابه، وكما دعا إليه رسوله، وكما فهمه أصحابه، فهو دين ودنيا، ودعوة ودولة، وعقيدة وشريعة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف، وقد قال تعالى لرسوله: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل:90.

وقد قرر جميع الفقهاء: أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، فلا يخرج فعل منها عن حكم شرعي تقرره الشريعة.

فأصبحت أفهم الإسلام بهذا الشمول، ولم يعد مقصورا على أداء الشعائر، كما كنت أتصور من قبل، وكما لا يزال الكثيرون يتصورون إلى اليوم.

2- أسقطت عني فريضة (العمل الجماعي لنصرة الإسلام) فمن المؤكد اليوم: أن نصرة الإسلام بالقول والعمل والدعوة والبذل، حتى يستعيد القيادة التي عزل عنها، ويعود حكم شريعته ليشمل كل جوانب الحياة، والوقوف في وجه التيارات المعادية للإسلام ودعوته وشريعته وحضارته وأمته: كل ذلك لا يمكن أن يتم بالجهود الفردية المبعثرة، بل لا بد من عمل تقوم به جماعة، تجتمع على أهداف واضحة، ومفاهيم بينة، يجمعها الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والترابط الوثيق، لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية، بعد أن هدمت الخلافة الإسلامية، ولم يعد للأمة خليفة ولا إمام، ولا رباط ولا نظام.

ومن المعلوم أن يد الله مع الجماعة، وأن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، وأن الذئب إنما يأكل من الغنم الشاردة، وأن التعاون على البر والتقوى من فرائض الإسلام.

وإذا كان أعداء الإسلام يعملون مجتمعين مترابطين، فلا يجوز أن نقابلهم منفردين متناثرين، والله تعالى يقول: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) فأشار إلى أن النصر إنما يتحقق بالمؤمنين المترابطين المؤتلفين.

3- انتقلت من مجرد (واعظ ديني) في القرية أو القرى المجاورة إلى (داعية إسلامي) فلم يعد همي محصورا في الحفاظ على التدين الفردي في نفس المسلم، وإن كان هذا ضروريا ولا بد منه، ولكن لا بد من (يقظة إسلامية) عامة، تصحو بها العقول، وتحيا بها القلوب.

الواعظ الديني معني بترقيق القلوب، وتذكير الناس بالموت، واستخدام الرقائق والحكايات وأحاديث الترغيب والترهيب، صحت أم لم تصح. والداعية الإسلامي مهمته أن يثقف الفكر، ويوقظ الشعور، ويشد العزائم، ويعلي الهمم، ويحشد الطاقات، ويجمع القوى، ويوثق الروابط، ويجمع الأمة ما استطاع في ساحة الإسلام.

4- وبانضمامي إلى دعوة الإخوان، انتقلت من الهموم الصغيرة إلى الهموم الكبيرة، ومن المطامح التي تتعلق بشخصي إلى الآمال المتعلقة بأمتي. لم يعد كل طموحي أن أتخرج، ثم أتوظف، ثم أتزوج، وأكون لنفسي مستقبلا خاصا، بل أصبح طموحي أعمق وأكبر من ذلك، وغدت آمالي أعرض وأوسع من مجرد المكاسب الشخصية، والمستقبل الفردي.

أصبحت أطمح إلى تحرير وادي النيل وديار العرب والإسلام من كل سلطان أجنبي. وأطمح إلى طرد الأفكار والأنظمة والقوانين الوضعية المستوردة، وإحلال الأفكار والأنظمة والأحكام الإسلامية محلها.

وأطمح إلى أن تتقدم الأمة المسلمة، وتأخذ مكانها في ركب العلم والتكنولوجيا، وتخرج من سجن التخلف الرهيب.

وأطمح إلى أن تتوحد الأمة بعد أن فرقتها العصبيات الجاهلية، والمذاهب المستوردة، والأنانيات الحاكمة، ناهيك بالفتن الاستعمارية التي كان شعارها: فرق تسد. وأطمح إلى أن تعود الخلافة الإسلامية، لتقود الأمة تحت راية القرآن، وزعامة محمد صلى الله عليه وسلم.

لقد استحالت همومي الصغيرة، إلى هموم كبيرة، هموم أمة كبرى من المحيط إلى المحيط.

5- ومما استفدته من مدرسة الدعوة: الخروج من العزلة التي فرضت على أبناء الأزهر، نتيجة التعليم المزدوج، فكان أبناء مصر طائفتين: (دينية) لمن يتخرج في الأزهر، و(مدنية) لمن يتخرج في التعليم العام، وبين الفريقين حواجز ثقافية ونفسية تفصل بينهما، ولا يكاد يلتقي أحدهما الآخر. فكان من فضل دعوة الإخوان أن أزالت الحواجز، وأذابت الفوارق المتوارثة بين الفئتين، وكانت شعبة الإخوان هي (الخلاط) الذي يمزج الجميع، ويجمع بينهم في رحاب الدعوة.

ولهذا عرفت كثيرا من شباب المدارس الثانوية، واستمعت إليهم، كما استمعوا إلي، واستفاد كل منا من صاحبه، ولم تعد أي عقدة بين أهل (العمائم) وأهل (الطرابيش) أو بين المشايخ والأفندية.

لقد تعرفت إلى كثير من هؤلاء (الأفندية) من رجال الدعوة، يصعب حصرهم، أذكر منهم الأستاذ حسني الزمزمي، وكان رجلا حقوقيا، مثقفا داعية، عالما بالعربية، قارئا مجيدا للقرآن، له نظرات نقدية فيما يقرأ ويسمع، وكان له شيخ أخذ عنه، كثيرا ما يقول: حدثني شيخي الشيخ فهميّ. وللأستاذ الزمزمي حديث أطول سيأتي عندما نتحدث عن (المعتقل) في المرحلة القادمة، بإذن الله.

وكان من الشخصيات التي عرفتها في الإخوان: الأستاذ علي جعفر المدرس الأول للغة العربية في المدرسة الثانوية، وكان رجلا متضلعا في اللغة مع خفة الروح، فكان في أحاديثه الدعوية يمزجها بفوائد لغوية، أثناء حديثه، فيقول: ولن نتزحزح عن موقفنا قِيد شعرة، ولا يقال: قَيد شعرة، ولو قطعونا: إرْبا إرْبا، ولا يقال: إرَبا إرَبا. وسنطلق (العِنان) لشباب الأمة ليحملوا راية الجهاد، ولا يقال: (العَنان) إنما يقال: بلغ عَنان السماء.

ويقول الأستاذ جعفر: اعذروني، فأنا تغلبني مهنة المدرس، على مهنة الداعية.

وقفة نقدية مع الإخوان.. عتاب الأحباب

ومع ما اجتنيته من مدرسة الدعوة الإخوانية من ثمرات لا أجحدها، كما اجتناها أمثالي من الشباب الذين التحقوا بموكب هذه الدعوة، والتزموا بموقفها نحو إسلامهم ووطنهم وأمتهم، وتجنبوا ضياع (الشاة المنفردة) التي يلتهمها الذئب إذا بعدت عن القطيع، كما اجتنبوا متاهة الأحزاب التي أغرقت الشباب في دوامة من الصراعات من أجل السلطة، ولم تتعهدهم بأي قدر من التربية والتوجيه الديني.

مع هذا أود أن أقف في هذه المرحلة ـ المرحلة الثانوية بالنسبة لي ـ وقفة نقدية أعاتب فيها الإخوان، على نهج ما يسمونه في عصرنا (النقد الذاتي) أو ما نسميه بلغتنا الإسلامية (محاسبة النفس).

لقد التقطني الإخوان، فوجهوني في نشر الدعوة هنا وهناك، واعتصروني اعتصارا، دون أن يكون لهم أدنى اهتمام لتوجيه مثلي إلى ما يجب أن يقرأه وأن يعده للقاءاته ومحاضراته في البلدان المختلفة. فكنت أنا الذي أختار الموضوع، وأحدد عناصره، وأملأ فراغه بما يتراءى لي، وأقرأ له في إطار ما لدي من كتب وهي محدودة جدا في ذلك الوقت.

صحيح أنه كان عندي من الوسائل والإمكانات الشخصية ما يشد الناس إلي، ولكن كان يمكن أن يكون أدائي أفضل، وإنتاجي أغزر، وموضوعاتي أخصب، لو كان معها التوجيه والتنظيم والإعداد العلمي. ثم التقويم والمراجعة للدعاة وأدائهم وأثرهم في كل مدة من الزمن، كل ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو سنة.

ومرد ذلك إلى عيب في الجماعة هو ضعف الجانب الثقافي أو العلمي أو الفكري فيها، حتى شيخنا البهي الخولي عندما وجهنا في (كتيبة الذبيح) كان أكبر همه التوجيه الروحي والسلوكي، وهو مهم ولا شك، ولم يكن همه التكوين العلمي أو الثقافي؛ ولذا لم يوجهنا إلى أي كتاب نقرأه، أو يكلفنا بأي شيء علمي نقوم به، كانت الفكرة المسيطرة: أن يدربنا على (السمع والطاعة)، فعلينا أن نقول لقادتنا ما قال إسماعيل لأبيه: يا أبت افعل ما تؤمر. فهو يريد جنودا مطيعين، لا دعاة مثقفين. كأنما كان هناك خوف من القراءة والثقافة أن تنشئ العقلية المتمردة، التي تقول في كل أمر: فيم؟ ولم؟ ولا تقول دائما: نعم، سمعا وطاعة.

ربما كان هذا الهاجس هو السبب في وهن الجانب الفكري والعملي لدى الإخوان في تلك الفترة. وربما كان سببه اعتمادهم على مرشدهم ومؤسس حركتهم الأستاذ البنا، فرسائله ومقالاته مصدر تثقيفهم، ودروسه الأسبوعية كل ثلاثاء معين توجيههم. فإذا شغلت الأستاذ البنا الشواغل الكثيرة: الدعوية والوطنية والإسلامية، خوى وفاضهم، ونفدت بضاعتهم، وقل المعروض في سوقهم.

وهو ما شعر به الأستاذ البنا، وجعله يفكر في إصدار مجلة (الشهاب) لتكون مددا ثقافيا مركزا للإخوان، كما ذكرنا من قبل. ولكن المجلة وحدها لا تكفي، فلا بد أن يتخلل ذلك كيان الجماعة، ويدخل مناهجها التثقيفية والتربوية، وأن يقدم العلم على العمل، كما هو منهج القرآن والسنة، فقد نزل قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك) قبل قوله تعالى: (يا أيها المدثر. قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر).

ولكن الإخوان شاع لديهم إيثار الجانب العملي والجهادي على الجانب العلمي والفكري، وهذا المناخ هو الذي ولد فيه الاتجاه الثقافي الذي سمي فيما بعد (لجنة الشباب المسلم) التي سعت إلى ترجمة رسائل الأستاذ أبي الأعلى المودودي، ومحاولة تلقيح فكر الإخوان بفكر (الجماعة الإسلامية) في شبه القارة الهندية.

وكنت أتمنى من الإخوان أن يكون لديهم تفكير (إستراتيجي) فيما يتصل بشبابهم، والانتفاع الأقصى بمواهبهم وقدراتهم الخاصة، ومساعدتهم في التوجه إلى أفضل ما ينفعهم وينفع دعوتهم وأمتهم.

كان يمكنهم أن يوجهوا مثلي إلى تدريب قلمه على الكتابة، بدل أن تستنفد كل طاقته في الخطاب الشفهي، ولم أكن أكتب إلا عناصر الموضوع الذي أتحدث فيه.

وكان يمكنهم أن يوجهوني إلى تعلم (اللغة الإنجليزية)، وأن يساعدوني ماديا عليها، وقد كان لدي قدرة لغوية غير عادية، ولدي وقت فراغ، خصوصا في عطلات الصيف، ولو تم هذا لكان فيه خير كثير، لي وللدعوة التي نذرت حياتي لخدمتها. ولكنهم لم يفعلوا، بل لم يخطر لهم ذلك ببال.

كان يمكنهم أن يرتبوا لقاءات منهجية لشباب الدعاة من الإخوان في الأقاليم بالأستاذ البنا، ليتعلموا منه، ويستمعوا إليه، ويلقوه وجها لوجه، في دروس معدة ومخططة، ولو في أثناء العُطَل، فيقبسوا من علم الأستاذ وثقافته، وحسن تجربته، ويشربوا من روحه.

وكذلك من يرسخهم الأستاذ البنا من الدعاة والعلماء الذين يراهم أهلا لتوجيه الدعاة.

ولكنهم للأسف لم يفعلوا، بل لم يفكروا مجرد تفكير في مثل ذلك، فقد كان الكثيرون تغيب عنهم النظرة الإستراتيجية أو الاستشرافية للمستقبل.

هذا ملاحظة ناقدة سريعة، ولكنها لا تمس جوهر الدعوة وسمو أهدافها، وعظم مجهودها في خدمة الدين والأمة بحال.

المصدر