الفقيه الطبيب الدكتور حسن هويدي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الفقيه الطبيبالدكتور حسن هويدي
المرشد العام ينعي نائبة حسن هويدي.jpg

د. عامر حسين أبو سلامة

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبعه إلى يوم الدين.

وبعد:

الدكتور حسن هويدي أحد أعلام الحركة الإسلامية في قرن، وهو فقيه من فقهاء الأمة، وعالم من علمائها، ومن حقه علينا أن نذكره بخير ما عرفنا عنه، ومن حق الأجيال أن تعرف أعلامها وفقهاؤها، ليتمثلوا سيرهم قدوة على الطريق، وكلهم من رسول الله ملتمس، فهو الأسوة الحسنة، والقدوة المطلقة صلى الله عليه وسلم، أحاطه الله تعالى بالعصمة، وجعله نموذجاً يحتذى به إلى يوم الدين.

أما غيره من بعده، فكلهم معرض للخطأ والزلل والتعثر، لأنه لا معصوم بعده عليه الصلاة والسلام.

انقطع الوحي، وانتهت العصمة بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وبقيت العدالة، وغلبة الخير على الشر، (والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث). من هذا المنهج كتبت هذه الصفحات المتواضعة، لعلها تكون فاتحة كتابات، أكثر جدة، وأرقى منهجاً، وأفضل أسلوباً، وأعمق بحثاً، وأوسع معلومة، وأجود مادة ودرساً، وأبعد غوراً وسبراً وتقسيما ً.

والحمد لله رب العالمين، والله من وراء القصد.

كتبه: أبو المقداد. صنعاء

3/ذي الحجة /1430ه

- المبحث الأول -

المولد والنشأة

ولد الدكتور حسن هويدي رحمه الله تعالى رحمة واسعة، بمدينة دير الزور عام 1925 م، هذه المدينة الجميلة التي تنام على ضفة نهر الفرات، و بها نشأ وترعرع، وتلقى علومه الأولية إلى أن حصل على الثالث الثانوي العلمي بتقدير عال.

كل ذلك كان في ظل أسرة طيبة طابعها التدين والالتزام والمحافظة، في كنف والده الذي كان شيخاً معروفاً عند أهل الدير، وأثره كبير في إطار تعليم القرآن الكريم لجيل واسع من أهل ذلك البلد.

إضافة إلى العوامل المساعدة الكثيرة آنذاك التي تعين على النشأة الصالحة، فبلد مثل دير الزور ذو الطابع العشائري المحافظ، والذي كانت حياة أهله قائمة على الفطرة، فلا فجور ظاهر، ولا دور لهو واضحة، مع نظافة الشارع من أي اختلال ينسب إلى السفور أو التبرج الذي حدث بعد ذلك، إثر عوامل التغير الفاسدة، عبر الغزو المنظم، الذي كان قد دخل إلى الأمة من خلال الاستعمار الذي جثم على صدر هذه الأمة، وجاء (بأجندته) الوافدة الغريبة على تربيتنا الإسلامية، وحسِّنا الإيماني.

ومن ثم وقعت المؤامرة على (الثقافة الإسلامية) وحيكت المكائد والدسائس على (السلوك الإسلامي) للأمة، من خلال تيارات الشر، وأجنحة المكر الخبيثة المعروفة المعلومة.

و فقيدنا الدكتور رحمه الله تعالى الذي نشأ في هذا البيت الطيب، وفي هذه البيئة المحافظة، كانت الانطباعات الأولى لهذه الشخصية القادمة، وكان التكوين الأول لهذا الطفل الذي تربى على مائدة القرآن، وحب النبي صلى الله عليه وسلم، والتعلق بذكر الله تبارك وتعالى، ليكون له شان في قابل الأيام، والأيام تمضي بقدر الله تعالى. وقديماً قالوا: (العلم في الصغر كالنقش على الحجر) وكذلك التربية.

وجاء في الحديث الصحيح: (ما من مولود يولد إِلاَّ على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

وهذا تأكيد على عوامل التغيير والتأثير في الأجيال و النشء، ولعل أهمها الأسرة المحضن الأول للأجيال.

والوالدان لهما أكبر الأثر، لأنهما الأصل في بناء الأسرة، ولا يقتصر الأمر على هذا وذاك فقط، بل الشارع له أثره، وكذلك المدرسة، ومثل ذلك الكتاب ووسائل الإعلام وغير ذلك، لذا كانت المسؤولية على الجميع في صناعة هذه الأجيال، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.

ويقول د/ عبد الكريم زيدان في كتابه ( موجز الأديان ) ص24 تعليقاً على الحديث آنف الذكر: (ومن هنا كانت مسؤولية الوالدين عن تنشئة ولدهما، وتربيته التربية الإسلامية، مسؤولية عظيمة، وفائدة أخرى نستفيدها من الحديث الشريف، وهو أن المجتمع الفاسد يؤثر في الإنسان فيفسد فطرته ويحرفها عن وجهتها الصحيحة التي تستلزمها. ومسؤولية إصلاح المجتمع إصلاحا إسلاميا تقع على كل مسلم يستطيع أن يسهم في عملية الإصلاح، وتعظم هذه المسؤولية بعظم قدرة المسلم، وأعني بالقدرة: علمه وسلطته، فمسؤولية العالم أكبر من مسؤولية الجاهل، ومسؤولية ولي الأمر وأصحاب السلطة أعظم من مسؤولية آحاد الناس) إ.ه.

رحل فقيدنا الدكتور رحمه الله تعالى إلى دمشق ليدرس الطب هناك، وكان في فترة الدراسة مثالاً للطالب المسلم المجد الدؤوب الذي يعرف قيمة الزمن، ويدرك أهمية الوقت في حياة المسلم. فلم يعرف عنه إلا الجد والاجتهاد ومتابعة التحصيل العلمي حتى بزَّ أقرانه، وكان من المتفوقين في دراسته، ومن أبرز أساتذته الذين كانوا يثنون عليه، ويحبونه، ويشجعونه على إتمام دراسته، لما رأوا فيه من مخايل الذكاء والنباهة، الدكتور مدني الخيمي رحمه الله.

حتى أنه لما تقدم إلى (فحص) الدكتوراه قال له: الآن حصلت في الأمراض الباطنة على الدرجة الأولى (20 -20)، وهذه العلامة لم يحصل عليها أحد في تاريخ الجامعة، وكانت أعلى علامة (18- 20) وقال – أي الدكتور الخيمي للدكتور حسن -: هذه مقدمة لأننا سننظم بعثة إلى فرنسا في التخصص لك ولاثنين أو ثلاثة معك، وترجع أستاذا مساعداً في كلية الطب، قال الدكتور حسن: فشكرته واعتذرت... وعجب الدكتور الخيمي من هذا الاعتذار، لأنها فرصة يسيل لها اللعاب، ومن العادة أن مثل هذه الفرصة يتوسط لها كبار الناس للحصول عليها.

وهكذا ينبغي أن يكون الشباب المسلم، مثالاً يحتذى به، ونموذجاً للجد والاجتهاد وعدم تضييع الأوقات. ثم عاد إلى بلده (دير الزور) وهذه كانت رغبة أهله، وفي نفس الوقت عنده هاجس يلح عليه، ألا وهو هاجس الإصلاح والدعوة ونشر الفضيلة وهو ينظر نظر فاحص ومدقق وغيور إلى واقع الأمة، فكان العزم أنه لا بد من فعل شيء من أجل خدمة هذا الدين، والارتقاء بحال الأمة والنهوض بها. وكأني به كان يتمثل قول العلامة الزهاوي وهو يقول: (العالم الإسلامي يحترق رحم الله من حمل دلواً فأطفأ جزءاً من هذه النار).

فكان الدكتور رحمه الله من أوائل من لبى لمثل هذا النداء، ليكون من الرعيل الأول على مستوى سورية ، نشراً للعلم الشرعي، وبثاً لأنوار الدعوة، وحملاً لهموم العمل الإسلامي، وبحثاً عن مخارج في جملة من المآزق التي تمر بها الأمة، واستثماراً للجهود من أجل غد أفضل للمسلمين، وتوظيفاً للطاقات الحيوية الفاعلة، لكن بطريقة منظمة، وبأسلوب جماعي، حتى يكون مؤثراً ومجدياً، والمرء ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه وأعوانه.

فولدت في (دير الزور) (دار الأنصار) كانت في بداية الأمر، على شكل مركز إسلامي، وفي حفل الافتتاح في جامع أبي عابد الذي كان مهجوراً، ففتح ورمم، وأنشأت فيه بعض القاعات من أجل الاجتماعات، وكان من ضمن الذين حضروا إلى هذه الدار، الدكتور العلامة الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وحدّث الناس عن الإسلام وضرورة التمسك به، وعن الاستعمار الفرنسي ومخاطرة وضرورة وأهمية مقاومته، وغير ذلك من المعاني الإيمانية والسياسية والاجتماعية.

والدكتور حسن رحمه الله، كان قطب الرحى في هذه الدار، رغم حداثة سنه، ونشاطه كان واضحاً ومؤثراً، مع وجود جملة من الأعلام الأفاضل الذين كان لهم فضل السابقة، وحمل أمانة العمل، رحم الله من قضى منهم، وحفظ الله من بقي.

يقول الأستاذ: علي العتوم، في مقالته الموسومة ب (الدكتور حسن هويدي القمر الذي غاب): (إنه أخونا الكبير، الداعية العريق، الدكتور حسن هويدي أحد مراقبي الإخوان في سورية ، ونائب المرشد العام للإخوان المسلمين عامة، الذي عرف في حياته بطيب منبته، وتدين بيئته، وحدبه على الدعوة إلى الله منذ نشأته في الأربعينات من القرن الغارب، على اختلاف الآراء، وتعدد الاتجاهات في بلد اجتاحته مبكراً رياح الأفكار الغربية، والمبادئ المستوردة، والنزعات القومية في ظلال الاستعمار الفرنسي، وأعقاب القضاء على الخلافة، فكان منذ فتوته مع أترابه داعياً إلى الإسلام، مقاوماً للاستعمار، يخرج هو وزملاؤه الطلاب في مظاهرات صاخبة، يهاجمون فيها دار الكولونيل الفرنسي، ويرشقونه بالحجارة) إ.ه.

وكانت الفترة الأولى من نشاطه الدعوي، تتسم بالجلد والنشاط، رغم المصاعب الجمة، والعوائق الكثيرة التي كانت تواجه العاملين للإسلام آنذاك.

كل هذا قبل أن تضم المراكز كلها في كيان واحد، وهو ما صار إليه الأمر بعد ذلك في شان الجماعة، فصارت الكيانات كياناً واحداً. والوحدة والاتفاق والاجتماع خير وبركه، وضرورة، وواجب، دعانا الله تعالى إليه، وحثنا عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم، واتفقت كلمة الأمة على هذا المعنى.

والفرقة شر وانحطاط وسوء وتراجع وفشل لذا كان هذا المطلب الشرعي في توحيد هذه المراكز، وتلك الدور، فانطلقت الجماعة بقيادة الدكتور السباعي رحمه الله تعالى. والدكتور حسن انسجم مع هذا الكيان الجديد للجماعة، وتحمس له، وكان من الرواد الأوائل الذين حملوا أمانة المسؤولية في هذه الجماعة، وبقي ثابتاً على هذا الطريق إلى أن وافاه الأجل رحمه الله تعالى.

قريباً من ستة وستين عاماً وهو على هذا الطريق، لم يلن، ولم ينثن، ولم يتراجع، بل كنا نراه في سنينه الأخيرة – رغم كبر السن – كأنه شاب في الثلاثين، يحمل همّ الأمة، ويفكر في مستقبل الجماعة، ويتحمس للعمل الإسلامي، ويسافر من بلد إلى بلد، ويحاضر ويوجه إلى آخر ليلة من حياته.

إذ في ليلة الجمعة التي توفي في فجرها، كان عنده درس لبعض الإخوة عن (الذكر) وفضله كما أخبرنا أحد الإخوة.

فالدكتور رحمه الله من أهل السابقة في هذه الجماعة، ومما لاشك فيه، أن السابقة لها وزنها وأهميتها وأثرها في الواقع العملي بشرائط محددة منها:

·أن يثبت المرء على الطريق، و فقيدنا نحسبه كذلك، وإلا فإِن المتساقطين على طريق الدعوة ما أكثرهم، نسال الله تعالى العافية.

·ومنها: المواظبة على العمل للدعوة، والاستمرار في الإنتاج، مع نكران للذات، والتطلع إلى ما عند الله تعالى من أجر وثواب.

لأن صاحب السابقة إذا لم يكن كذلك، فهذه طامة كبرى، إذ يصبح من الذين يتغنون بعدِّ السنين، وتكون هذه المسالة عنده (عقدة نقص). يغطي من خلالها عجزه وضعفه أو أنانيته وعشقه للذات، أو تحطيمه للذين يعتقد أنهم ينافسونه، أو محاولة الحط من قدر من نشط أكثر منه، وهو أصغر منه سناً.

فالطريق لمن صدق وعمل ونشط لا لمن سبق، رغم فضيلة السابقة، و أثرها في إثراء العمل الإسلامي، بحكم الخبرة والتجربة، وفضل تمهيد الطريق وتعبيده.

من هنا، تعلم خطا بعض الدعاة الذين لا همَّ لهم إلا هذا الجانب (عد السنين)، فبمناسبة وغير مناسبة، إن قام وان قعد، يترنم بتاريخ انتمائه للدعوة، خصوصاً إذا حدثت مماحكة أو منافسة، أو تسابق إلى منصب، أو عرض من أعراض الدنيا.

يقول: أنا لي عشرون سنة في الدعوة، أو أربعون سنة، أو ثلاثون سنة، وكأن هذه المسألة هي المقياس الوحيد الذي يؤهل المرء لان يكون كذا وكذا.

ويصل الأمر ببعضهم أن يقول: من فلان حتى يتقدم للعمل الفلاني ؟! أنا أقدم منه بكذا من السنين، أو لما كنت في الدعوة، فلان لم يولد بعد، وغير ذلك من العبارات والجمل التي تصب في هذا المصب، وهذا خلل تربوي واضح، وانتكاسة في عالم التزكية جلية، وهبوط في إطار الخلق، وانحطاط في مجال السلوك، يدلنا على مؤشر من مؤشرات واقع العمل الإسلامي، في عالم الضعف والتراجع.

أنصح من له سابقة من إخواننا، أن لا يضيع أجره بمثل هذه الأقوال، وهذا السلوك، وبدلاً من أن ينشغل بعدِّ السنين، عليه أن ينشغل في العمل للدعوة، ودع الآخرين هم الذين يشهدون لك بالفضل والسابقة.

بل علم نفسك التواضع، ونكران الذات، وعليك أن تشعر دائماً بعجزك وضعفك وقصورك، مهما قدمت من عمل.

وإياك من الغرور، فإنه قاصمة الظهور. أذكر أنه جمعنا بأحد كبار الدعاة مجلس، وتجاذب الناس فيه أطراف الحديث بمختلف الموضوعات التي تتعلق بالدعوة والعمل الإسلامي. وكان من ضمن كلام الشيخ المشار إليه آنفا أن قال: أنا يا أيها الإخوة (عمري الدعوي) أكبر من عمر الشيخ حسن البنا رحمه الله من الميلاد إلى الاستشهاد. وأنظر إلى نفسي وتاريخ عملي، لأقارنه بما قدم البنا رحمه الله، لأجد رجلاً صنع جيلاً على منهج الله تعالى، بل صنع أجيالا، وحقاً أنه أستاذ الجيل، وأنظر إلى عملي وتاريخي وواقعي، فلا أجد شيئاً.

إن هذا الشيخ الذي يقول هذا، له جهود طيبة، وعمل جليل، وخدمات كبرى، في إطار العمل الإسلامي، لكنه التواضع البناء، والتعليم للسامعين من رجل له وزنه في عالم التربية والإعداد والدعوة.

وحقاً، أن المرء مهما علا كعبه في العلم والمعرفة والخبرة والتجربة والصلاح والإصلاح، فإنه ضعيف في نهاية المطاف، وتأتي القوة من معاني اللجوء إلى الله تبارك وتعالى، واستمداد العون من الله جل وعلا، وهنا تكمن دعائم التميز التربوي الرباني.

و يتذكر الأستاذ الكبير عصام العطار ، الدكتور حسن، يشهد له بالسابقة، مع الأسى لفقده، لأنه ترك فراغاً كبيراً بعده.

فيقول: (الحبيب العالم العامل التقي الصالح الدكتور حسن هويدي (أبو محمد) رحمه الله تعالى، أكثر من خمس وستين سنة من التعارف والتآلف والأخوة والمحبة والصداقة والتعاون في مجالات الدعوة والتربية والعمل الاجتماعي والسياسي. أكثر من خمس وستين سنة تفرقت بنا في بعضها البلدان، واختلفت الظروف والأحوال والاجتهادات، ولم تتفرق فيها القلوب، ولم تهن فيها الوشائج، بل ازدادت على الزمن والتجارب بصيرة وقوة وعمقاً، فكان يحرص أشد الحرص في سفراته الدعوية إلى أوروبا على أن يلقى أخي الدكتور محمد الهواري ويلقاني في المدينة التي نقيم فيها في ألمانيا: مدينة آخن، فنقضي في كل زيارة من زياراته ساعات من أثمن الساعات وأحلى الساعات، في جو من المحبة الخالصة، والثقة الصادقة، والشوق والبوح بما في السرائر... ساعات فيها العام والخاص، والعلم والفكر، وحديث العاطفة والقلب، وعبر الماضي، ومشكلات الحاضر، وتطلعات المستقبل.

بعض حياتي جزء من حياة حسن هويدي ، وبعض حياة حسن هويدي جزء من حياتي، بعض تاريخي جزء من تاريخه، وبعض تاريخه جزء من تاريخي.

وأبو محمد وبعض من بقي لنا من شيوخنا الأجلاء هم صلتنا بأصول دعوتنا، ونشأة حركتنا، وشبابنا وجهادنا، ونهوضنا وعثراتنا، ونجاحاتنا وإخفاقاتنا، وتجاربنا، ودروس تجاربنا، وذكريات من فقدنا على الدرب من أساتذتنا وإخواننا وأحبابنا... فلا غرو أن نشعر بفراغ كبير بعده في معرفته وتجربته وأمانته، وهمته وعطائه وقدرته، وأن نحزن هذا الحزن لفقده، وحرماننا وحرمان أجيالنا من مثله، نحزن لفقده، ولا نحزن له)إ.ه.

- المبحث الثاني –

الفقيه الواعظ

الدكتور حسن رحمه الله، لما تخرج في كلية الطب، عاد إلى دير الزور ليفتح عيادته المعروفة ممارساً لمهنة الطب، فكان يوزع أوقاته بين العيادة وبين العمل الدعوي، حتى غلب العمل الدعوي مهنته الطبية وتفرغ من بعد ذلك تفرغاً كاملاً للعمل الدعوي الذي صار يستغرق أكثر وقته.

والدكتور حسن رحمه الله استطاع أن يكوِّن شخصيته تكويناً متميزاً يجمع بين علوم قلَّ لأحد أن يجمع بينها.

فهو إضافة إلى أنه طبيب مميز، وصاحب علمية عالية في مجال الطب، بل كما عرفنا من قبل أنه حصل على (20 - 20) في فحص الدراسات العليا، استطاع أن ينهل من علوم الشريعة، حتى صار عالماً يشار إليه ب البنان ، ويرجع إليه في الفتوى، فالطب حصله من خلال الدراسة بالجامعة، مع متابعات شخصية دؤوبة وعالية المستوى.

أما العلوم الشرعية، مثل التفسير والحديث والفقه والأصول واللغة العربية، فقد درسها على العلماء والشيوخ، الذين كان يحبهم حباً جماً، ويختلف إليهم، ويرافقهم، ويجالسهم، ويحضر حلقهم، ويراجعهم ويفيد منهم.

وكأني به قد جعل من قول سيدنا سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قانوناً يسير على منواله، ونبراساً يهتدي بهداه، إذ قال – كما رواه الدارمي -: (لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم أو يعلم الآخر، فان هلك الأول قبل أن يعلم أو يتعلم الآخر هلك الناس).

فان تكوين العلماء، وصناعة الفقهاء، له جملة من مفردات البناء، لعل أبرزها التلقي على الأعلام، والأخذ من العلماء.

قال أبو جحيفة – رضي الله عنه – كما في رواية ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) (1/126): (جالس الكبراء، وخالل العلماء، وخالط الحكماء).

فمجالسة العلماء، والأخذ منهم، والتلقي عنهم، طريق الربانيين، الذي يوصل إلى بر الأمان، أما الاقتصار على المطالعة في الكتب – رغم أهمية هذا الأمر وضرورته – والولع بها واقتنائها والسهر معها، وحده لا يصنع العلماء، بل ربما كان هذا الأمر وبالاً على صاحبه، وخطراً على من حوله، لان من كان شيخه كتابه، كان خطؤه أكثر من صوابه.

جاء في تذكرة السامع ص87 لابن جماعة، قول الإمام الشافعي رحمه الله: (من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام).

وكان سلفنا يحذرون من مثل هذا، حتى شاع من مقولاتهم التحذيرية: (لا تأخذن القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفي).

وأول الشيوخ الذين تتلمذ عليهم والده رحمه الله تعالى، وأبرز الشيوخ الذين نهل من علمهم الشيخ العلامة حسين رمضان الخالدي([1]) رحمه الله تعالى رحمة واسعة، العالم المعروف عند العلماء، بعلمه الواسع الغزير، وبذكائه النادر، وصلاحه وتقواه، ومن الذين كانوا يثنون كثيراً على هذا الشيخ، حتى عدَّه في عداد شيوخه، المحدث العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

والدكتور حسن رحمه الله، كان يثني على الشيخ حسين، ثناء عاطراً، ودائماً يذكر محاسن الرجل ومناقبه، وتبحره في العلم، ومن ضمن ما كان يردده: الشيخ حسين رمضان لو كان في الأزهر أيام عزه، لاختاره العلماء شيخاً للأزهر بلا منازع . كما اخذ عن الشيخ سعيد المفتي([2]) رحمه الله جملة من العلوم، لعل أبرزها علم اللغة العربية، وكان الدكتور رحمه الله يصف هذا الشيخ بأنه عالم كبير في علوم اللغة.

والتلقي على العلماء يسرّ تحصيل العلوم الشرعية، بل لا يمكن لإنسان أن يكون عالما ً مهما بلغ من الفطنة والذكاء من غير الدراسة على العلماء، وكان الدكتور حسن قد استوعب هذه الحقيقة مبكراً، واستمر على هذا المنوال لما رحل إلى دمشق فلقي كبار علماء الشام وتتلمذ عليهم.

ومما لاشك فيه، أن هذا الشغف بالعلماء، والتعلق بهم، والاقتباس من مناهجهم، والنهل من مناهلهم، والاغتراف من بحر علومهم، والمزاحمة بمجالستهم، وثني الركب بين أيديهم أخذا للعلم من أفواههم مشافهة، والإفادة من تجاربهم، وحرق المراحل في اختصار العلوم قراءة للمتون من خلالهم... كل ذلك يكسب طالب العلم و فقيدنا واحد منهم – علماً واسعاً، وفقهاً مؤصلاً، ودقة في الفهم، وتحقيقاً للمسائل، وروية في الحكم، وصبراً للوصول إلى الحقيقة، وتمسكاً بالدليل، وبعداً عن التعصب، تجعله في قابل الأيام، من العلماء الذين تعقد عليهم الأنامل، ويعدون على الأصابع، ويصبحون مراجع في الفتوى والتحقيق في العلم، ونحسب أن فقيدنا الدكتور من هذا الصنف من العلماء... والله تعالى أعلم. وقد شهد له القاصي والداني بهذه الحقيقة.

يقول م/ سعد الحسيني، عضو مجلس الشعب، وعضو مكتب الإرشاد، في مقالته الموسومة ب(د/ حسن هويدي : علامة مضيئة في طريق الدعوة): (عاش الرجل ربانياً يدعو إلى الله بلسان حاله قبل مقاله، حسن الخلق، شديد الحياء، حلو المعشر، ينتقي أطايب الكلام، ولا يذكر أحدا بسوء أبدا، يتحدث العربية الفصحى بطلاقة، عرفه السوريون طبيباً بارعاً بكل مناحي الطب وشؤونه، وعالماً محققاً، ثري الثقافة، واسع الاطلاع، حجة بالعلوم الشرعية لا يبارى، يبارز العلماء ويباريهم، دارت بينه وبين عالم سورية محمد المبارك – رحمه الله – في عام 53م مساجلات ونقاشات وحوارات حول دعوة العالم الجليل لتنقية السنة الإسلامية من الشوائب، فرجح رأي هويدي على حداثة سنه، وكان يرى أن هذه الدعوة قد تكون وسيلة يستغلها بعض ضعاف النفوس، وأعداء الإسلام في النيل منه، والتشكيك فيه، والإساءة إليه عين عضوا باتحاد المجلس الأوروبي للإفتاء)إ.ه ([3]) ويقول الأستاذ زهير سالم مدير مركز الشرق العربي في مقالته الموسومة ب (في وداع الراحلين...الأخ الكبير الداعية حسن هويدي في ذمة الله): (يتقدم إليك برأيه – أي الدكتور حسن – وإن سألته، فان حاولت مراء أو جدلاً أغضى، فهو يرى للعلم مهابة ينبغي لأهله أن يصونوها، وربما التفت معك أو بك إلى باب آخر من أبواب الحديث، تلك طريقة ورثها من شيوخ ثقات تربى على أيديهم، ونهل من معينهم،

فأبى أن يغادرهم أو يغادر مناهجهم حتى وهو يمزج الفقه بالطرافة اللطيفة، حين يطلق على المسؤول الأول في نظام يعطي القرار للأكثرية العددية معلم (عد الأصوات) طريقة في التعبير عن اعتراضه على القائلين أن الشورى للأمير ملزمة، وان دوره ينحصر في إدارة الحوار، وإحصاء الأصوات... وينهج مع إخوانه على ذلك، دون أن يتنازل عن رأيه الفقهي في أن دور الأمير في الإسلام أكبر وأعظم من أن يعد أصوات من حوله، وفي أن المسؤول الأول هذا هو صاحب المسؤولية الأولية في اتخاذ القرار، وفي تحمل تبعاته من بعد) إ.ه.

نعم يحرم على العالم أن يكون مقلداً، بل يجب أن عليه أن يتبع ما ظهر له من راجح، بناء على الدليل، وإعمالا لقواعد الترجيح لدى الأصوليين، وفي نهاية المطاف لابد أن يحوط الجميع ما يعرف بأدبياتنا الإسلامية ب(أدب الخلاف) لأن الفروع كثيرة، والاختلاف فيها متعدد ومتشعب، فلا بد من عودة إلى مرجع مرجح، يلتزم به الجميع حسماً لمادة الفوضى والاضطراب، والتحقق بمعنى المسيرة الواحدة التي تضبط المجموعة وتجمعهم ولو على رأي من الآراء الاجتهادية.

لذا نجد من قواعد العلماء، أن رأي الحاكم أو القاضي، يكون ملزماً للناس إذا اعتمد قولاً من أقوال الفقهاء، حتى تسير القافلة، وينضبط السير، وتسكت لغة العرقلة.

ولو لم يكن ذلك كذلك لحدث مالا تحمد عقباه، وهذا فقه ينبغي أن يلتزم... ورحم الله الإمام الشافعي الذي كان يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. والاحتفاظ بالرأي المخالف، أو الاجتهاد الآخر لا يلغى، ومن حق صاحبه أن يدافع عنه، ويروج له، ويحاول إقناع الآخرين به، لكن في الوقت المناسب، ضمن الدائرة المقررة، بحدود الضوابط الشرعية والمرعية، ولا يكون سبباً في عرقلة المعمول به المقرر، أو المشاغبة عليه.

والدكتور ذو أدب جم، ويلتزم أدب الخلاف، ومن أدبه انه لا يجعل خلاف الرأي وترجيح اجتهاد سبباً في فرقة، أو عاملاً من عوامل نشر البغضاء، أو تكأة لتصفية حساب، أو فرصة للوقيعة بأحد.

كان الدكتور صاحب ثقافة عالية جمعت بين علم الطب والفقه إضافة إلى استيعاب (فقه الواقع) و (فقه الدعوة) ومعرفة العلل والأدواء، والتيارات المناوئة، وطبيعة المعركة، وحقيقة الأزمة التي تمر بها الأمة.

يتجلى مثل هذا الأمر على لسان الدكتور البليغ، فكان خطيباً مفوهاً، ومتكلماً بارعاً، تلتف حوله الجماهير، ويشد سامعيه إليه، ويشنف آذانهم، ولعل خطبه في جامع أبي عابد بدير الزور، خير مثال على هذا، لمن كان يتذكر هذه المرحلة، من طلابه وتلامذته ومحبيه، بل على مستوى جماهير دير الزور التي أحبت الدكتور وشهدت له بالخير، كما هو مشهور ومعروف ومتداول، وما الخطبة التي ألقاها في جامع الجامعة بدمشق تحت عنوان (عنزة ولو طارت) بقوتها وحجمها، إلا مثال من الأمثلة على حقيقة ما ذكرنا، ومن الذين ذكروا هذا الشيخ منير الغضبان في مقالته عن الدكتور وشهد له بهذا، ولقد سمعنا هذا عن كثير من الإخوة الذين عاصروا تلك المرحلة.

ومما هو معلوم للقاصي والداني من الذين حضروا دروس الدكتور، وسمعوا مواعظه، إنه متحدث متقن، وصاحب موعظة مؤثرة، وإنه إذا تكلم يملأ العين، سواء في المؤتمرات التي يتكلم فيها، أو الدروس في الإطار المحدود – حيث كان يلقيها.

والدكتور رحمه الله كثير الوعظ والإرشاد، بل الغالب على دروسه وخواطره وكلماته – خصوصاً بين إخوانه – الوصية بالتقوى والإخلاص، والنصيحة بكثرة ذكر الله جلَّ وعلا، والتركيز كثيراً على التعلق بكتاب الله جل وعلا، فيذكر – من خلال الأحاديث الواردة – بفضل تلاوة القرآن الكريم، وتدبر معانيه، والعمل بمبادئه وقواعده وأحكامه، وأكثر حديث كان يردده ويشرحه، الحديث المتفق عليه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مُرٌّ).

فأسلوبه الجميل المؤثر القوي، لعل مرجعه إلى جملة من الأسباب منها ما ذكرناه من تمكنه العلمي، ومنها أنه عالم عامل كما وصف أحد الإخوة الكبار الدكتور بهذه الصفة – ونحن نحسبه كذلك والله حسيبه – إذ أن الفقيد يشهد له كل من عرفه عن قرب – ولو كان خصماً – أنه صوّام قوام كثير الذكر لله جلَّ وعلا، وقّاف عند حدود الله لا يتعداها، عفّ اليد واللسان، محب لله ورسوله، كل ذلك منذ نعومة أظافره.

وعندما يكون العالم والداعية قدوة، فانه يترك أعظم الأثر في نفوس وسلوك سامعيه والمتتلمذين على يديه، خصوصاً عندما يكون مربياً، صاحب رسالة، وحامل دعوة، ومخططاً لإنشاء جيل يحمل أمانة الدين.

لذا قالوا: (حال رجل في ألف رجل، خير من قول ألف رجل في رجل).

من هنا يكون الالتزام والتطبيق للعالم خير وبركة، وعلامة عن رضا الله عنه، وإذا لم يكن كذلك، بان يخالف قوله فعله، فيا ويله من الله تعالى، فلا تجد له أي اثر، لأنه منزوع البركة.

قال الله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [البقرة:44].

وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) [الصف:32] وجاء في الحديث المتفق عليه، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ الم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه). فما أحوجنا إلى العالم القدوة والداعية القدوة، والمسلم الذي يعلم ويعمل.

والدكتور رحمه الله نتيجة لما ذكر وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى ترك بصماته في جيل واسع من تلامذته وسامعيه حيثما حل، وأينما رحل، لكنه بذل أكبر الجهد في بلده (دير الزور) حيث كان يقيم، حتى التف حوله ثلة طيبة من الرجال الذين كانوا نعم الدعاة، ورجال الدعوة، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، من كل شرائح المجتمع، ففيهم الطبيب، ومنهم المهندس والمحامي والمدرس والتاجر، بل والأمي...وهكذا.

ولا نريد أن نخوض في ذكر الأسماء في هذه العجالة لأنهم كُثر.

المهم أن نشهد – من خلال ما نلمس، وبشهادة الشهود– بان الدكتور كان على جانب كبير من الاهتمام العملي بالدعوة إلى الله تعالى، والسير على مناهج من صنعوا الحياة على وفق مبادئ الكتاب والسنة، ولا شك أنه كان واحداً من هؤلاء الذين كانوا كذلك.

يقول د/ عطيه الوهيبي، في مقالته الموسومة ب (نجم أفل وداعية رحل): (وسقياً لتلك الأيام التي كنت تلقانا – يعني الدكتور حسن – فيها ونلقاك على مأدبة الإيمان، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فتلقي علينا أبلغ المواعظ، وأجمل العبر، وأروع الكلمات، فتوجل القلوب، وتهدأ الخواطر، وتسيل العبرات، أي والله !!

لقد كنت نطاسياً بارعاً، واسياً حاذقاً، تمتص رضاب الصبر والمصابرة والثبات، وتزجيه لإخوانك في اللزبات، غذاء لعقولهم، وزاداً لنفوسهم، فتوري عزمهم وتوقد حزمهم، وتأسو آلامهم وجراحهم، وتبرأ بإذن الله تعالى أوجاعهم وأتراحهم، وتبين لهم أن الدرب أصيل طويل، وأن الهدف سام نبيل) إ.ه.

-المبحث الثالث -

الدكتور كاتباً

يمتلك الدكتور قلماً سيالاً، لما حباه الله فيه، من ثقافة عامة قوية، وعلم شرعي راسخ، وموهبة أدبية واضحة، وتمكن من اللغة العربية، بل من المتذوقين لها.

فمن مؤلفاته (الوجود الحق) (من نفحات الهدى) (محاذير الاختلاط) (الشورى في الإسلام ) (مفهومات في ضوء العلم)، إضافة إلى مقالات كتبها هنا وهناك، ومنها مقالاته الشهيرة في (مجلة حضارة الإسلام)، وبيانات كتبها في مناسبات متفرقة.

وهنا انتهزها فرصة لأدعو أولاد الفقيد أن يهتموا بتراث والدهم الدكتور، وأعول كثيراً في هذا المشروع على الأستاذ خالد لعلمي أنه أكثر أولاد الدكتور اهتماماً بالقلم و النشر والإعلام. وأنصح أن تجمع كل مكتوبات الدكتور في كتاب واحد تحت عنوان (الأعمال الكاملة للدكتور حسن هويدي )، وترسل إلى عالم أو طالب علم يعتني بها ويرتبها، ويقدم لها بمقدمة ضافية تتضمن السيرة الذاتية للدكتور رحمه الله.

والدكتور غم موهبته الظاهرة في الكتابة، وقدرته الفائقة في التعبير وصناعة الكلمة، إلا أنه كان مقلاً من الكتابة.

ولا أدري ما سبب ذلك، ولعل السبب كثرة المشاغل والأسفار والالتزام بواجبات لا يسعه تركها، والكتابة تحتاج إلى وقت، ووقت طويل، كما هو معلوم ومعروف لمن اشتغل بمعاناة القلم والتعامل معه.

وكان كثير من الإخوة يستغربون هذه الظاهرة – ظاهرة قلة الكتابة – عند الدكتور، وقد حاول بعض الشباب مفاتحة الدكتور بهذا، إلا أنهم لم يجدوا الفرصة المناسبة للحديث في هذا الشأن، هذا من جانب، وعندما تتاح الفرصة يشعرون بالحرج أن يفتحوا موضوعاً كهذا مع الدكتور، لأنه يعتبر – برأيهم – أمرا شخصياً من الفضول إقحام المرء نفسه فيه.

وكنا نتمنى لو أن الدكتور كتب مذكراته، ويا لها من مذكرات طويلة من المشاهدات والتجارب والدروس والعظات والعبر، خصوصاً في (تاريخ الجماعة) وفي الجانب السياسي.

وشهد مراحل في غاية الدقة والتعقيد، ولا شك أنه سيبث من خلال هذه المذكرات أفكاره ورؤاه فكان أن يكتب الدكتور رحمه الله مذكراته، أملا من الآمال التي تتطلع لها النفس

وفي الحقيقة لا أدري، هل كتب هذه المذكرات أم لا؟ لأنني لم أسمع يوما لا منه ولا من المقربين منه أنه كان يكتب هذه المذكرات، والله تبارك وتعالى أعلم

امتاز أسلوب الدكتور رحمه الله في الكتابة بجملة من الميزات منها:

الالتزام والانضباط: تراه محققا في الأمر الشرعي كعادته في تقليب وجهات النظر في المسألة، وبعد التدقيق يطلق حكمه من خلال ما يظهر له استنادا إلى أدلة الكتاب والسنة

وهذا أمر معروف في الدكتور رحمه الله الذي ما يفتأ يبين ويوضح ويصوب ويدقق، يطلب تقييدا لجملة، أو توضيحا لمبهم حتى يزول الإشكال، ويندفع اللبس.

لا يخلو مجلس من مجالس الدكتور طال أم قصر، من تأصيل شرعي، أو بيان لمسألة وكيف يكون الانضباط فيها بشرع الله تبارك وتعالى، لأن رأس مالنا نحن المسلمين، الالتزام بدين الله تبارك وتعالى في حركاتنا وسكناتنا، في أقوالنا وأفعالنا، في أمورنا كلها أفرادا وجماعات، أسرا ومجتمعات، حكومات ودولا، وهكذا.

لذا تجده يحذر من ظاهرة كانت قد شاعت في بدايات الأمر، فكانت رسالته (محاذير الاختلاط)، وغير هذا من المظاهر التي كتب فيها.

نهج اجتهادي: لأنه من أهل العلم، فلا يجوز أن يكون مقلدا، بل لابد له من تقليب النظر في آراء الفقهاء، أو التدقيق في معرفة أنظار العلماء، مع المعرفة التامة لأدلتهم، وبعد إعمال قواعد الترجيح المعروفة عند علماء الأصول، يخرج بالنتيجة بعد ذلك مرجحا هذا القول أو ذاك ورسالته (الشورى في الإسلام ) خير شاهد على هذا الذي نذكر، فإن له رأيا معروفا في المسألة، وبغض النظر عن الموافقة له، أو المخالفة لما ذهب إليه، فإن النتيجة هي ما ذكرناه آنفا من روحية (الاجتهاد) التي ما أحوج العلماء لها.

نبذ التعصب والانغلاق: ورغم أنه يميل إلى هذا القول أو ذاك، فإنه في نهاية المطاف تراه يلتزم بالذي يذهب إليه الأكثر ويطبق ذلك، محتفظا بالرأي الذي ذهب إليه.

فليس من منهج الدكتور رحمه الله (رأيي أو الطوفان) وأكبر مثال على ذلك رأيه في قضية الشورى، إلا أنه التزم بالرأي المخالف، لأنه المعتمد الذي مضى عليه العمل، وهو فتوى لكثير من أهل العلم، خصوصا من المعاصرين.

فالدكتور رحمه الله رغم صلابته في بعض المسائل، وتدقيقه وتحقيقه في المواقف حتى تكون منضبطة بدين الله جل وعلا، إلا أنه بنفس الوقت كان هينا لينا مع إخوانه، إلا إذا رأى أمرا لا يحتمل وجهة النظر، أو الاجتهاد الآخر، والمخالفة فيه صريحة، فإنه لا يهادن ولا يداهن، ولكنه يبقى منضبطا بالضوابط الشرعية، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، متجنبا للتجريح، ومحذرا من الفتنة، نابذاً الشقاق، ملتزما بأدب الخلاف، داعيا لنبذ الفرقة، حاثا على الألفة والأخوة والمحبة، مطالبا بالصبر، وحبس النفس عن الخطأ والحق أنك وأنت تقرأ للدكتور أو تستمع له حتى وهو يناقش قضية غير مؤمن بها، أو يرد على فكرة معينة يرى عدم صوابيتها، لا تسمع أو تقرأ كلمة نابية، أو لفظا لا يليق، بل ينتقي كلماته انتقاء دقيقا بحيث يصل إلى الفكرة التي يريد، لكن بألطف العبارات، وأجمل الجمل، وكأني بالدكتور رحمه الله لسان حاله يردد المثل الدارج (نريد العنب لا قتل الناطور)، وفي هذا درس لكل من أراد أن يكتب، بحيث إنه يلتزم (أدب الخلاف) ويتجنب الأسلوب المثير، الذي يعقد الأمور، ولا يوصل إلى نتيجة بحال من الأحوال، وجبلت النفوس على حب النصح الهادئ المتزن القائم على اللين والرفق، أو الذي يعتمد منهج (ما بال أقوام).

لذا فإن الذي يراجع آداب النصيحة في كتب العلماء من فقهاء التزكية، يجد هذا المعنى واضحا

يمتاز أسلوب الدكتور رحمه الله بالفصاحة العالية، مع سلاسة وإشراق عبارة، وحسن عرض، وإعطاء الفكرة حقها من غير تطويل ممل، أو اختصار مخل يقول الدكتور (عطية الوهيبي) في مقالته آنفة الذكر: (رحمك الله أبا محمد، لقد جاهدت باللسان والسنان والقلم، وكنت تأمل أن تعود أمتك إلى قيادة الأمم تغسل عنها الذل والعار والألم، فصال قلمك وجال، فحبر مؤلفات نفيسة جادت بها قريحتك وتفتقت عنها عبقريتك، منها: (الوجود الحق) و (الشورى في الإسلام) و (من نفحات الهدى) وغيرها وخط المقالات الحسان التي تفيض بالعلم والحكمة والفقه والإيمان، على صفحات مجلة (حضارة الإسلام) ا. ه

ومن أمثلة فصاحته وبلاغته تلك المقولة الرائعة التي قالها في الدكتور السباعي رحمه الله، ونشرت في حضارة الإسلام :

إن في الحياة عبرا لا تنسى، ومآثر لا تبلى، ومثلا حية ناطقة على مر الزمن ترسم الطريق للشاردين، وتنير السبيل للسالكين فتقوي العزم، وتذكي الحزم، وتحدو الركب، وإن كانت هذه العبر تتجلى تاريخيا في حياة الأمم، فإنها تتجلى بارزة في الأفراد من الرجال، الذين تتجسم فيهم الفضيلة، تنطق حياتهم بالمكارم حتى لكأن أحدهم فضيلة تتكلم، أو شجاعة تتجسم، أو بلاغة ينبي عنها اللوح والقلم، ومن هذه المآثر الخالدة، والمفاخر الباقية، حياة أستاذنا القائد، شيخنا المجاهد الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله وأكرم مثواه، وإني لا أشهد بهذا انفعالا لعاطفة، ولا مجاملة للباطل زائفة، ولكنها شهادة حق يمليها الواقع، ويحس بها الضمير

فلقد رأيتنا أنا وصحبي لا نزال نحيا مع أبي حسان رحمه الله ن في صدقه وشجاعته، في فدائه وتضحيته، في بلاغته وخطابته، في شعره ونثره، في علمه وتقواه، في هدفه ومرماه، في صبره ومضائه، في محنته وبلائه وقد مضى على وفاته ما يقارب السنتين، تعن إن الذي يحيا هذه الحياة الفاضلة، ويحقق هذه المآثر العظيمة، ويضربها للناس مثلا واضحا، لا لبس فيه ولا غموض يشهد به العدو كما يشهد به الصديق، لا يمكن أن يُنسى، أو تزول صورته الجميلة عن العين أو القلب، ولو مضى على وفاته مئات السنين بدل السنة والسنتين، إن الأستاذ السباعي رحمه الله، لم يكن ليصطنع هذه المثل اصطناعا، كما يفعل بعض الساسة الذين يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة، ولو كان كذلك لتمزق هذا الرداء المستعار وزال كما تزول الصبغة الزائفة،

ولم يجبر نفسه على التضحية والفداء بل كانت فطرته النقية، منسجمة بصورة عفوية مع جميع تلك الفضائل، بل كان مأخوذا بتلك المآثر، منفعلا لها، مسوقا بحماسة إليها، حتى لكأنه رحمه الله، لا يرى غيرها، ولا يدرك سواها، وهذا الذي أسرع في تقويض بنيانه، وإيهان قواه، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولقد رأيته رحمه الله، وكأنه أمامي الآن، يمسك بزجاجة الماء المثلج، ونحن في السيارة، في حمارة القيظ في إحدى المناطق الحارة يحاول أن يطفئ فيها أوار العطش لما يعانيه من (مرض السكر)، وهو غافل عن المرض ومضاعفاته، سادر عن السقم واختلاطاته، نلاحظ نحن الخطر ولا يلاحظ، ونشفق عليه ولا يشفق على نفسه، بل ولا يخطر ذلك منه على بال فسبحان الله يخشى السليم وينسى المريض، وما أنساه مرضه إلا حبه لمولاه، وشغفه بتحقيق هدفه، أو هكذا تكون الرجال، وتخلد الأبطال، ويتحدث التاريخ وتبقى العبر!

دخلت الجامع الأموي مرة ومعي أحد الشباب ممن لم يكن تلميذا للأستاذ في يوم من الأيام، واعتلى المنبر خطباء عدة تكلموا في الشؤون الإسلامية في إحدى المناسبات، فما كان من صاحبي بعد أن سمع وأصغى، وكأنه لم يروِ غليله واحد في الخطباء، إلا أن انفجر قائلا: (أين مصطفى السباعي )

(كل الذي سمعت لم يحرك فيَّ عاطفة ولم يثر في نفسي غيرة، على الرغم مما فيه من فصاحة وبيان !)

يصدع قلبي ما تسلق منبرا

خطيب ونادى أن هلمَّ إلى الذكر

نعم إنه يصدع قلوبنا يا أبا حسان ذكر المنابر بعد أن غاب شيخ المنابر، وينغص عيشنا ذكر القيادة، بعد أن قضى نبراس القيادة، ويحنننا ذكر الصدق والشجاعة، بعد أن غادرنا شيخ الصدق والشجاعة ولكنه حزن لا يخالطه يأس، وأسف لا يعتريه قنوط، بل هو التقدير الحق، والشهود اليقين، والاعتراف الصادق بما كنت عليه أيها القائد الفذ، والبطل العظيم، وكيف نيأس أو نقنط والله سبحانه يقول (إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (يبعث الله على رأس كل مئة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها)

وأذكر مرة، حينما أسس كلية الشريعة، وقد أوجس من أكبر المسؤولين خيفة، وأحس أنفي الأمر ريبة، بعد الوعد القاطع، والعهد المبرم، فثار ثورة الأسد الهصور، وغضب لله غضبة مَنْ لا يخشى لومة لائم، وكأني أرى حمرة عينيه، واحتقان وجنتيه، وحركة شدقيه، وتقلص جبهته، وتوتر غرَّته، واندفع في تلك الثورة العارمة إلى حيث يبغي مجاهدا، مصرّا، فلم يرجع إلا بالنصر والظفر، وأسست كلية الشريعة، وأعظم به من نصر وظفر، وخير باق ما بقي الدهر إن شاء الله

هكذا تكون ثورة الرجال قوة وإخلاصا، ونفعا عاما، وإيثارا، وبُعد نظر، وليست ثورة من أجل المطامع، أو الشهوات، ولا تعبدا في محاريب الأنانيات نعم إن ثورة الرجال وتضحيتهم بالنفس والمال، في سبيل سعادة الناس، هي التي تخرج كنوز النفس البشرية، فتجعل منها المآثر والعبر، ومحط النظر لجميع البشر، وعلى العكس تبعث ثورة الأنانيات، والعكوف على الشهوات، أسوأ الأثر في نفوس الأفراد والجماعات، ما عدا ما تفصح به نفوس أصحابها بإظهار عوراتهم، وكشف سوءاتهم التي لا يمحو سوء منظرها الزمن، ولا يعفي أثرها الدهر، ولقد رأيته بعد مرضه، يتكئ على العصا، غاديا إلى الجامعة ورائحا، في الوقت الذي قعد فيه الأقوياء وخمل فيه الأصحاء ، ويا رُب مريض مشلول، أشد من سيف مسلول،

وما كان استمراره في الجهاد رحمه الله على الرغم من شلله وإصابة قلبه، وضغط دمه، إلا دلالة صادقة، وحجة ساطعة، على أن الرجل سجيته الجهاد، وطبيعته الكفاح، وغريزته التضحية، وفطرته الشجاعة والفداء، فأنَّى يجد الرياء إلى نفسه سبيلا، أو الفتور إلى بأسه مسلكا، أو التردد إلى عزيمته منفذا، فسبحان من منحه وأعطاه، وتفضل عليه وأرضاه، ولهذه الفطرة السامية النقية، استمر، أكرمه الله، في جهاده، بقلمه ولسانه، وروحه وجثمانه، في حالتي صحته ومرضه، حتى وافته المنية وهو عاكف على الكتاب يدافع عن السنة العلية فأعظم به من جهاد مستمر إلى القبر، متصل إلى الآخرة، ومرتفع إلى السماء (ومثل كلمة خبيثة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)

وإننا في ذكرانا هذه لا نريد تقديس الأشخاص كما يفعل أتباع الزعماء ولا نعتمد على البشر كما يفعل الوثنيون، ولا نضيف إليهم ما ليس لهم بحق، كما يفعل السذج المغرورون ولكننا نذكرهم شهادة حق ونمدحهم أثارة صدق، ونحبهم بحب الله (اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك) وتأسيا بقول الله تعالى حين يقص علينا في كتابه الكريم قصص الأنبياء والصالحين (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)

ألا رحمك الله يا أبا حسان، وأجزل مثوبتك وأكرم مثواك ن فلقد كنت في هذا العصر، نبراس المجاهدين، ومثلا للعلماء العاملين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين

المبحث الرابع

الدكتور (حسن) من المحنة إلى الوفاة

المؤمن في هذه الحياة يتعرض للابتلاء والاختبار، إنها سنة الله تبارك وتعالى الماضية في عباده

قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [العنكبوت 2 3]

وقال تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) [البقرة 100]

وقال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) [محمد 31]

وجاء في الحديث الذي في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: (من يرد الله به خيرا يصب منه)

وفي الحديث الصحيح بشواهده كما قال أهل العلم عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم) رواه الترمذي وقال حديث حسن.

والمؤمن ليس له خيار أمام البلاء، إلا الصبر والاحتساب عند الله تبارك وتعالى، فمن صبر ورضي فله الرضى، ومن سخط فليس له إلا السخط.

جاء في صحيح مسلم رحمه الله عن صهيب رضي الله عنه قال: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له).

والصبر والصلاة، محطتان في غاية الأهمية بالنسبة للمؤمن عامة، والمؤمن الداعية خاصة، يتزود منهما زاده الذي لا بد منه، وهو سائر في طريق الدعوة، لأن هذا الطريق مليء بالمتاعب والمحن والعقبات، وليس مفروشا بالورود والرياحين، من هنا كان لا بد من الاستعداد لمثل هذا الأمر المتوقع المعروف، ولنا في الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام قدوة، وفي خاتمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أسوة، وفي الصالحين وما جرى لهم، والصحابة وما حدث لهم سلوة.

وتبقى هذه السنة الإلهية إلى يومنا هذا بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها

والدكتور رحمه الله تعرض لجملة من الابتلاءات، لعل في مقدمتها (السجن) فقد سجن مرارا، فأول اعتقال له كان (64 65)، وقد توترت مدينة دير الزور لهذا الاعتقال تعاطفا مع الدكتور رحمه الله، فأطلق سراحه تهدئة للمدينة، واعتقل بعدها بعدة أشهر في دمشق (بسجن الشيخ حسن) واعتقل أيضا في بداية السبعينيات في سجن المزة، بسبب ما يعرف بأحداث الدستور.

والدكتور دقيق غاية الدقة، فأوقاته ينظمها بشكل قل مثيله، وهو دقيق في مأكله، أنيق في ملبسه....إلا أنه لما دخل السجن كان مثالا يحتذى في الصبر والاحتساب، الرضا غطى على نفسه ليتحمل أذى السجن ومصاعبه وآهاته وأناته، وروتينه القاتل

وجاءت المحنة الأخيرة التي وقعت في بلدنا الحبيب سورية ، وحدثت خلالها أحداث جسام حلت بالإسلاميين عامة، و الإخوان منهم خاصة، فمنهم من قضى شهيدا بإذن الله تعالى، ومنهم من سجن طويلا، وكثير منهم هاجروا في سبيل الله إن شاء الله تعالى

وكان نصيب الدكتور من هذه المحنة، أن ترك أهله وبلده وإخوانه وعيادته، مهاجرا في سبيل الله تعالى إن شاء الله

وكان خلال فترة الهجرة هذه فيما نلاحظ ونحسبه صابرا محتسبا راضيا متألما للذي حدث في بلدنا، ولما وقع بالجماعة من مصاب.

وتحمل المسؤولية مرارا في الجماعة عناية بأبنائها، ولإيجاد حل ومخرج من الأزمة التي تعيشها

وبقي هكذا ثابتا صابرا محتسبا إلى أن وافاه الأجل في عمان فجر يوم الجمعة / 16 / ربيع الأول ه الموافق 13 / آذار/ 2009 م عن عمر يناهز الرابعة والثمانين

وصية الدكتور رحمه الله

الوصية في حكمها خلاف بين العلماء، منهم من جعلها سنة، ومنهم من أوجبها، ومنهم من فصل في المسألة

وهذا الحكم يغيب عن كثير من المسلمين، حتى إنك لو سألت مئة إنسان عن كتابته لوصيته، لفوجئت أن من بين المئة، واحدا أو اثنين، هما من كتب وصيته، والبقية غافلون عنها، نسأل الله تعالى العافية

والدكتور رحمه الله بحسه الإيماني، ويقظته الربانية، وتحققه الفقهي، وعلمه الشرعي، يدرك تمام الإدراك أهمية الوصية من الناحية الشرعية، وضرورتها ونفعها من الناحية الواقعية، وإن المتأمل في وصية الدكتور رحمه الله يجد ما يلي:

أ جمال السبك، وإشراق العبارة، وقوة البيان، ودقة الألفاظ في الدلالة على المعاني

ب الحرص على اتباع السنة، وهذا دليل علم، وبرهان صدق إن شاء الله

ج الفقه الدقيق، في مسائل الجنائز، وضرورة الالتزام بهذا الفقه

د من خلال الوصية، على المرء أن يجعل الموت نصب عينيه، وأن لا يغفل لحظة عن هذا المصير، ومن مات قامت قيامته

ومن ثم فإن هذه الذكرى تدفعه نحو العمل الصالح، وتشده نحو الاستقامة على منهاج الكتاب والسنة وسيرة وفهوم سلف هذه الأمة من الصالحين

وسوف نذكر نص الوصية كما وردت

وصيتي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) رواه البخاري ومسلم

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأوصي أهلي جميعا أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله، ويوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا، وأوصيهم بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أوصى به إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)

وأوصي بما يلي:

1 أوصي أن يحضرني عند الوفاة، إن أمكن، من تتوسمون بهم الصلاح، يذكرونني بحسن الظن بربي عز وجل وبرجاء رحمته ومغفرته، كما يذكرونني بكلمة التوحيد، ليكون آخر كلامي من الدنيا: لا إله إلا الله محمد رسول الله

2 وأوصي إذا خرجت روحي إلى بارئها أن يغمض عيني من حضرني ويدعو لي بالخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون وتدعون عند الميت

3 وأوصي الجميع بأن لا يلطم على خد، ولا يشق جيبا ولا يناح، فقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصالقة والحالقة والشاقة

4 - وأوصي الجميع بمسامحتي، ولا أذكر أن لأحد علي دينا حتى كتابة هذه الوصية (عدا بعض ما يخص بعض رواتبي بين تقديم وتأخير، فيجب أن يضبط حسب القيود التابعة لذلك بحيث لا يبقى بذمتي شيء إن شاء الله)

5 وأرجو أن يتولى تغسيلي وتكفيني من يتوسم به الصلاح وأن يعجل بدفني وأن يكون ثمن كفني من مالي الذي تركت

6 وأوصي بأن أدفن في البلد الذي مت فيه، وأرجو أن يجعل الله وفاتي في المدينة بجوار الحبيب صلى الله عليه وسلم

7 وأوصي من يضعني في اللحد أن يقول: (بسم الله وعلى ملة رسول الله) وأوصي أن يمكث الحضور بعد دفني قليلا وأن يسألوا الله لي التثبيت والمغفرة والرحمة.

8 وأوصي أن لا يبنى قبري بإسمنت ولا جص ولا رخام ولا يرفع عليه بناء.

9 وأوصي أبنائي وبناتي ببر والدتهم، وأن يتعاونوا جميعا على البر والتقوى وأن يبتعدوا عن المنازعة والاختلاف، وأن يحرصوا على صلة أرحامهم ويستوصوا بأصهارهم خيرا، وأن لا يحرموني من الدعاء وقراءة القرآن، وجزى الله الجميع عني كل خير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الفقير إلى رحمة الله تعالى

حسن هويدي

شعبان 1426 ه

نسأل الله تعالى للدكتور الرحمة والغفران، وأن يعافيه ويعفو عنه، وأن يكرم نزله، ويدخله الجنة، وأن يحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا

([1]) الشيخ العلامة حسين بن رمضان بن فهمي الخالدي ، واسمه الحقيقي محمد رئيس وغلب عليه اسمه حسين ، والخالدي نسبة إلى سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه ، إذ يرجع نسب الشيخ لسيدنا خالد .

ولد عام 1887م ، وتلقى علومه على كثير من الشيوخ الذين أجازه بعضهم بجملة من العلوم ، ومنهم الشيخ محمد سعيد النقشبندي رحمه الله .إضافة إلى انه كان قارئاً نهماً ، وأديبا وشاعراً ، آتاه الله تعالى حافظة مدهشة ، وذاكرة حادة ، وافقاً واسعاً .

مارس جملة من الأعمال ، وتولى مجموعة من الوظائف في العشارة والسبخة والميادين والبوكمال . كما عمل في التدريس أكثر من خمسة عشر عاماً في التكايا الثلاث بدير الزور ، تكية الرواي ، والشيخ عبدالله ، والشيخ ويس.

عاش أربعة وسبعين عاماً وتوفاه الله تعالى يوم الخميس سنة 1959 م . من مؤلفاته : ( مفتاح الغيوب ) ( النصال الشفوية في الرد على القاديانية ) ( رد على بنت الشاطئ ) ( المذاهب الأربعة ) .

يقول د/ حسن حسني عن شعره : ( نفثة قلب ، وومضة فكر ، وديباجة يراع ) والدكتور حسن حسني كان موضوع رسالته للماجستير عن الشيخ حسين رمضان بعنوان : ( محمد رئيس الخالدي – حياته وشعره ) .

([2]) محد سعيد بن عبدالقادر المفتي ولد بدير الزور عام 1905 م ، تلقى العلم على جملة من العلماء منهم والده والشيخ حسين رمضان وغيرهما . فقد بصره في سن مبكرة ، تبحر في علوم التفسير والحديث والفقه والعربية ، كان حاضر البديهة ، سريع الجواب ، حاد الذكاء .

ولما زار العلامة الدكتور أبو اليسر عابدين دير الزور واجتمع بالشيخ سعيد . قال بحضور العلماء في تكية الراوي : ( زرت المدن السورية ، واجتمعت مع العلماء ، فما وجدت للشيخ محمد سعيد المفتي مثيلاً ).

توفي يوم الجمعة 19تموز 1968 م .

([3]) التحقيق في علوم السنة ، ومعرفة الصحيح من غيره ، على طرائق علماء مصطلح الحديث ، هذا أمر مطلوب من الناحية الشرعية ، لهذا فقد اضطلع بهذه المهمة كثير من العلماء في القديم والحديث ، وما من عصر من الأعصر ، إلا وقد هيا الله تعالى لهذه المهمة من أهل العلم بهذا الفن ما قدموا من خلاله خدمات جليلة للعناية بالسنة النبوية .

والمراد من هذا الذي اعترض عليه الدكتور، إطلاق دعوة عامة لمن هب ودب – وقد وقع من بعضهم هذا – ليكون مسرحاً للمشاغبة على السنة النبوية ، والعبث بهذا العلم الشريف ، بل والقفز على قواعده وقوانينه وعلومه ، تشهياً ، أو بالهوى ، أو من خلال الدس ، أو الكيد والعداء للدين . وشتان بين الأمرين ، وفرق كبير بين الدعوتين .

المصدر

قالب:روابط حسن هويدى