الذي يعاني منه "بوش" هوس ديني وليس هوسا أمنيا
بقلم : الدكتور عبد العزيز الرنتيسي
لا يختلف اثنان في عالمنا على أن أمريكا قوية، وأنها قوة عظمى إذا ما قورنت بباقي دول العالم، ولكن هناك العديد من الناس من اختلط عليه الأمر في غمرة انبهاره بقوة أمريكا فظن أنها إله يعبد من دون الله، وأنها قوة لا تقهر، وأنها قادرة على التصرف في مصائر الشعوب كيف تشاء، تحيي وتميت، تبني وتدمر، ترفع من تشاء وتخفض من تشاء، وأنها المتصرف الوحيد في شؤون هذا الكون، ومن هنا بدأ الانحراف الذي كان من ورائه الاعتماد في تقدير الأمور وتقييمها على الواقع الملموس فقط، ولكن التاريخ القديم والحديث يصفع هذه النظرة المادية البحتة بقوة، فلقد ظن "هتلر" سابقا كما يظن "بوش" اليوم أنه يشكل قوة لا تقهر، ولكنه انتهى إلى هزيمة بشعة أنهت دولته كقوة عظمى بعد أن قتل الملايين بسبب الحالة النفسية التي كان يعاني منها وهي "جنون العظمة" وهي نفس الحالة التي يعاني منها "بوش" اليوم، ولو أن الذين يملكون القوة الغاشمة لا يقهرون أبدا لاستقر الكون على صورة واحدة لا تتبدل، الأقوياء أقوياء أبدا والضعفاء ضعفاء أبدا، ولكن ذلك لم يحدث، وصدق الله إذ يقول (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
إن المتدبر لكلمات "بوش" يرى فيها جنون العظمة من جانب، والهوس الأمني من جانب آخر، وكل حجته الواهية التي يروج لها أنه يخشى من أن يطور العراق أسلحته فيصبح قادرا على تهديد أمريكا في المستقبل، لأجل ذلك يريد "بوش" أن يقتل ويدمر ويخرب ويحرق، إنه لا يبالي بقتل مئات الآلاف طالما أن القتلى من المسلمين، ولأجل هذا الوهم المصطنع يعلن حربا كونية لا يعرف مدى ما ستلحقه بالمسلمين بل وربما بالأمريكان من دمار إلا الله سبحانه، إن "بوش" يذكرني بذلك السجين الجنائي الذي كان في الزنزانة المجاورة لزنزانتي في قسم العزل في سجن "السبع"، وكان يخرج إلى الساحة مع زميله وصديقه ساعة في كل يوم، وكلاهما كان قد حكم عليه بالمؤبد، وفجأة ودون سابق إنذار انقض على صاحبه بسكين كانت بحوزته حتى أفقده الوعي، ثم تركه مغشيا عليه ظنا منه أنه قد فارق الحياة، ولقد أذهلني هذا التصرف فسألت المعتدي لماذا فعلت بصديقك هكذا؟ فقال خشية أن يفاجئني هو فيغدر بي فأردت أن أتخلص منه قبل أن يبادرني هو ويضربني.
والآن هيا بنا نقارن بين ما فعله هذا المهووس وهو على أية حال كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وبين ما قاله "بوش" في خطابه حيث يقول "ومع هذه القدرات يمكن لصدام حسين وحلفائه أن يختاروا متى يشنون نزاعا قاتلا عندما يكونون في موقع أقوى. ونحن نختار أن نواجه هذا التهديد الآن في مكان ظهوره قبل أن يظهر فجأة في سمائنا ومدننا"، فهل كان بوش فعلا يخشى أن يأتي يوم يهدد فيه العراق أمن أمريكا في عقر دارها؟!! وهل تخشى فعلا أقوى دولة في العالم أن يغزوها العراق الذي خرج لتوه من حربين طاحنتين ولا يزال يعيش حصارا دوليا منهكا؟!! أم أن هناك دوافع أخرى دفعت هؤلاء القتلة للإقدام بشراهة على سفك دماء المسلمين؟؟؟
كل المعطيات تؤكد أن ما ذكره "بوش" في خطابه لم يكن هو الدافع الحقيقي من وراء إقدامه على ارتكاب هذه الجريمة بحق المسلمين في العراق، ولم يكن هذا الادعاء إلا ستارا حاول به "بوش" أن يستر دوافعه الحقيقية من وراء هذه الحرب ولكنه على أية حال لم يكن إلا ستارا شفافا، فالدوافع الحقيقية لا تأتي في إطار الهوس الأمني الذي عبر عنه "بوش"، ولكنها تأتي في إطار الهوس الديني، "فبوش" مشبع بالعقيدة المسيحية الصهيونية المتأثرة بالفكر التوراتي الأسطوري، فهو يؤمن أن اليهود هم شعب الله المختار، ويؤمن أن الله قد أعطى ميثاقاً إلهياً لليهود منحهم فيه فلسطين إلى الأبد، ويؤمن أن عودة المسيح عليه السلام مرتبطة بقيام دولة صهيون وتجميع يهود العالم في فلسطين وإعادة بناء الهيكل، وفي اعتقاده أن ذلك يكون قبل نهاية العالم، حيث سيملك المسيح عليه السلام في الأرض مدة ألف سنة مع المسيحيين المؤمنين وبعد ذلك تنتهي الدنيا، فهو يؤمن أن أمريكا بعظمتها هي نهاية التاريخ.
هذا هو المسوغ الوحيد لدى "بوش" لكي يسفك دماء المسلمين في العراق في حرب أطلق عليها بنفسه حربا صليبية حتى وإن زعم أنها مجرد زلة لسان، وهذا هو الدافع القوي الذي يدفع "بوش" لتوفير الغطاء للإرهاب اليهودي في فلسطين، وتقديم كل أشكال الدعم للقتلة اليهود الذين يذبحون الأطفال والشيوخ والنساء على مرأى ومسمع من العالم، والذين يصرون على اغتصاب فلسطين والمسجد الأقصى وعدم السماح لأصحابها الشرعيين بالعودة إلى ديارهم، والذين يدمرون حياة الشعب الفلسطيني بطريقة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
إن ما يريده "بوش" من وراء هذه الحرب هو الهيمنة على المنطقة بأسرها، ومنع كل أشكال التهديد لهذا الكيان الصهيوني، بل يريد تهديد الأنظمة العربية والإسلامية ودفعها لتطبيع علاقاتها مع ما يسمى "بإسرائيل"، وجعل هذه الدولة الصهيوني قوة عظمى في هذه المنطقة تهابها دولنا العربية والإسلامية، فهي الدولة الوحيدة المسموح لها بامتلاك أسلحة الدمار الشامل بينما العراق لا يجوز له ذلك، ومن هنا فهناك خشية على أن توجه سهام الفتك الأمريكية لباكستان بعد العراق، ويظن "بوش" المهووس دينيا أن كل ذلك سيعجل بعودة المسيح عليه السلام ليمكن لأمريكا ألف عام من الهيمنة على العالم قبل نهاية هذا الكون، لذا فإن الذي يعاني منه "بوش" هو هوس ديني وليس هوسا أمنيا.
وأمام هذا العدوان السافر على الأمة الإسلامية لابد للمسلمين من النهوض ومواجهة هؤلاء الوحوش، ومواجهة الخونة الذين يتعاونون مع أعداء الأمة أمنيا، الذين يمكنون الأعداء من رقاب شعوبهم، ويمكنون لهم من اغتصاب ديار المسلمين، ويبررون لهم جرائمهم، فغدا سيقول "بوش" للعالم بعد ذبح مئات الآلاف أنه قد حقق إرادة العراقيين، ثم يقدم للعراقيين وللعالم الخونة والمرتزقة على أنهم الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي المنكوب، ليمكن هؤلاء القادة السماسرة للأمريكان من رقاب شعوبهم، وثروات المسلمين، بل واستقلال المسلمين، وكل همهم الحصول على كراسي صنعت من دماء المسلمين، يتاجرون بمعاناة شعوبهم وبعدالة قضاياهم لتصبح قضايا الأمة العادلة مشاريع استثمار خاصة فلا نامت أعين الجبناء.
ومن هنا فإن أملنا كبير في أن تنهض مقاومة إسلامية على أرض العراق تعرف كيف تهزم أمريكا عبر الاستنزاف اليومي الذي لا طاقة لأمريكا به، وأملنا أكبر في أن يقف المسلمون بجانب إخوانهم في العراق دفاعا عن عقيدتهم وبلادهم وثرواتهم، فكأني بأمريكا إنما تحفر قبر استعلائها في العراق بإذن الله.
المصدر
- مقال:الذي يعاني منه "بوش" هوس ديني وليس هوسا أمنياالمركز الفلسطينى للإعلام