الحلقة التاسعة عشرة: رحلة إلى لندن للعلاج

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رحلة إلى لندن للعلاج

موقع القرضاوي/5-11-2005

السفر الى مدينة لندن طلبا للعلاج

في منتصف شهر نوفمبر سنة 1980م، قررت أن أسافر إلى مدينة لندن طلبا للعلاج مما أعانيه من مرض (الدوخة) الذي أعاني منه منذ بضعة عشر عاما ولم أجد له علاجا.

فمنذ سنة 1968 تقريبا، وأنا أشكو من هذا الداء، وأول ما أصبت به، كان بعد رمضان في إجازة العيد، حيث نهضت من فراشي في صباح يوم، فإذا بي أسقط، ثم نهضت مرة أخرى إذا بي أسقط. وكان ذلك أمام أهلي الذين فوجئوا بهذا السقوط لأول مرة.

وكلمنا صديقنا الدكتور عادل القوصي طبيب الصحة المدرسيــة – رحمـه الله [1] - وكنا على مودة وتعارف من قديم، وقد حضر بسرعة، فلما رآني وسألني عرف أنها (الدوخة) ولكن ما سببها؟ وصحتي العامة جيدة؟ وهنا قال: لا بد أن نعرض الأمر على الطبيب الباطني المختص، وهو الدكتور أحمد حقي، وهو استشاري بارع معروف في تخصصه.

وجاء الدكتور حقي إلى منزلي، وهو في إجازة العيد، وسألني جملة أسئلة تتعلق بالناحية الباطنية، فلم يجد عندي سببا معروفا للدوخة من إمساك أو غير ذلك. فقال: أنصح أن تعرض نفسك على الدكتور شوقي الصيرفي طبيب الأنف والأذن والحنجرة. فإني لا أرى سببا باطنيا لهذه الدوخة.

وبعد فحص د. الصيرفي لي، قرر أن هناك شيئا يتعلق بالأذن، وليس له علاج، إلا الراحة، ويمكن الاستعانة ببعض الفيتامينات ونحو ذلك، وظللت أتردد عليه بضع سنوات.

ثم قال لي: أنصحك إذا نزلت إلى مصر أن تكشف عند أستاذنا الدكتور علي المفتي الأستاذ الكبير، وعميد طب عين شمس، وكتب لي رسالة إليه.

وفي الصيف ذهبت إلى د. المفتي، وقد اعتنى بي، وأجرى لي فحوصات على أجهزة متعددة، وانتهى إلى ما انتهى إيه تلميذه د. الصيرفي، النصيحة بالرفق والراحة عند الشعور بالإجهاد، وكتب لي نوعا من الفيتامين، لا أظنه علاجا، ولكن لمجرد التقوية، ولإشعار المريض بأن الطبيب كتب له دواء.

تشتهر العاصمة البريطانية لندن باحتضانها لأشهر أطباء العالم وظللت هكذا حتى سنة 1980 كلما غرقت في العمل، وأجهدت ذهني بالكتابة، واضطرب عندي النوم: شعرت بهذه الدوخة، فرأى بعض المحبين: أن أذهب في رحلة علاجية إلى لندن، أفحص فيها كل ما له صلة أو قرابة بالدوخة. ووافق الديوان الأميري على السفر للعلاج على نفقة الدولة. وكانت ترافقني زوجتي.

ذهبت إلى لندن، واستقبلني مندوب السفارة، وحجزوا لي في فندق في وسط البلد يسمى (فندق بورتمان) هادئ إلى حد ما، ليس كالفنادق المطروقة من العرب مثل الهيلتون والشيراتون ونحوهما.

وخصصت السفارة سيارة وسائقها في خدمتنا، وهو أخ مصري يجيد الإنجليزية، اسمه محمد عبد الرحمن، كما خصصت لي مترجما في بعض الأحيان، التي تحتاج إلى ترجمة متخصصة في لقاء الأطباء.

سلمت نفسي للقسم الطبي التابع للسفارة القطرية، فقاموا بالحجز اللازم مع الأطباء الذين يجب أن يروني.

طبيب الباطني العام.

وطبيب الأعصاب والدماغ.

وطبيب العيون.

وطبيب الأذن.

وكل هؤلاء، قرروا: أن لا شيء يسبب هذه الدوخة، لا في الباطني ولا في الدماغ، ولا في العين، إلا طبيب الأذن، فهو الذي قرر أن الخلل فيها، وهو ما قاله د. شوقي الصيرفي، وأكده د. علي المفتي من قبل. ورفض طبيب الأذن المختص أن يعطيني أي دواء، ولو كان شيئا كالفيتامين ونحوه. وقال: أنت طبيب نفسك. انظر متى تأتيك هذه الدوخة، وما السبب وراءها؟ واجتهد أن تتجنب الأشياء التي تثيرها أو تحركها.

قلت له: الذي عرفته بالممارسة والتجربة: أنها تأتي بعد الإجهاد الذهني واضطراب النوم عندي. وأنا نومي غير سهل، وعندي مشكلة مزمنة معه.

قال: عندما تشعر بذلك حاول أن تتوقف قليلا، وتريح نفسك، والإنسان ـ مهما تكن قوته وحيويته ـ في حاجة إلى محطات للاستراحة. وحتى الأجهزة الميكانيكية في حاجة إلى أن تستريح وتتوقف بعض الوقت للتنظيف والصيانة وغيرهما.

وعرض عليّ القسم الطبي أن أستكمل فحص بقية الجسم، من باب الاطمئنان، ما دمت قد جئت للعلاج، وكان قد بقي فحص الأسنان، والمسالك البولية، وقد فوجئت في كشف المسالك: أن عندي بداية التهاب أو تضخم في (البروتستاتا) وهو في أوله، وينبغي متابعته بعد ذلك.

داعبني بعض الإخوة قائلا: حتى المشايخ يطلبون العلاج عند الخواجات الأوربيين؟!

قلت له: وهل في ذلك من حرج؟ والله تعالى الذي خلق الداء، خلق الدواء، وأجرى سننه بنفع التداوي إذا أصاب محله. وقال رسوله: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله"[2] ولم يستثن داء من ذلك إلا الموت والهرم، فعلم أنه لا يوجد مرض عضال لا دواء له. وفي هذا فتح لباب الأمل لدى الأطباء والمرضى جميعا: أن لا يأس من الشفاء أبدا.

وقد حل الإسلام معضلة دينية وفكرية قديمة، وهي تعارض التداوي مع القدر السماوي، وذلك حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها؟ هل ترد من قدر الله شيئا؟! قال: "هي من قدر الله"[3].

صورة متخيلة للعالم الموسوعي ابن النفيس الذي جمع بين الطب والفقه ومعنى هذا: أن المرض من قدر الله، والدواء من قدر الله، والمؤمن يدفع قدر الله بقدر الله، كما يدفع قدر الجوع بقدر الغذاء، وقدر العطش بقدر شرب الماء: يدفع قدر وقوع الداء بقدر تناول الدواء، كلها بقدر الله.

ولقد روى أبو داود: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه: أنه مفؤود (أي مصاب في فؤاده أي كبده) فأمره أن يذهب إلى الحارث بن كلدة (الطبيب الثقفي) يطلب العلاج عنده. قالوا: ولم يكن الحارث أسلم بعد، فاستنبط الفقهاء منه مشروعية العلاج عند غير المسلم ما دام ثقة ومأمونا.

قال صاحبي: وما قولك في الاستشفاء بالرقى والأدعية والعلاج بالقرآن وغير ذلك من الأدوية الروحية؟

قلت: إن كان المقصود بهذه الأدوية الروحية: أنها مكملة للأدوية المادية العضوية، فلا بأس باستعمالها، بل إن الرسول رغب فيها، وحث عليها. ولا ريب أنها تمد المريض بمدد روحي، وقوة معنوية يحتاج إليها في رفع معنوياته التي لا غنى عنها في محاربة المرض وتحدياته، وهي سبب من الأسباب الروحانية في الشفاء.

وأما إن كان القصد: الاستغناء بها عن الطب القائم على الملاحظة والتجربة، والمبني على شبكة الأسباب والمسببات، فهذا مرفوض شرعا. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تداوى في نفسه، وأمر غيره بالتداوي، ووصف أشياء من البيئة للتداوي وفق خبرته، وكذلك أصحابه من بعده.

وما جاء في القرآن الكريم أنه {شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] لا يعني: أنه شفاء من كل الأمراض العضوية والمادية، بل هو {شِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] شفاء لها من الشك والشرك والجهل والكبر وأمراض القلوب.

ولو أن المسلمين اكتفوا بالاستشفاء أو العلاج بالقرآن ـ كما يزعم بعض الناس في عصرنا ـ ما قامت للمسلمين قائمة في علم الطب، ولكنهم سبقوا الأمم في إقامة صرح طبي علمي عملي شامخ البنيان، قام عليه أطباء نوابغ لمعت أسماؤهم في سماء العالم، وتعلمت منهم أمم شتى.

والعجيب أن نجد من هؤلاء الأطباء العباقرة كثيرا من النوابغ في علوم الدين، كما وجدنا العلامة ابن رشد (ت 595هـ): يؤلف (الكليات) وغيرها في علم الطب، كما يؤلف (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في علم الفقه المقارن.

ورأينا الإمام المفسر المتكلم الأصولي: الفخر الرازي (ت606هـ) يقول الذين ترجموا لسيرته: كانت شهرته في الطب لا تقل عن شهرته في علوم الدين.

ورأينا النابغة ابن النفيس (ت687) مكتشف الدورة الدموية الصغرى: يترجم له العلامة تاج الدين السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) بوصفه أحد فقهاء الشافعية.

الخطبة في المسجد المركزي

وبعد أن انتهينا من جولة الفحص الطبي، زرت بعض المؤسسات الإسلامية، ومنها: (دار الرعاية الإسلامية) وقد دعوني لإلقاء محاضرة فيها.

وكذلك زرت المسجد المركزي، وكنت قد زرته من قبل يوم كان يديره صديقنا الدكتور محمد الجيوشي رحمه الله.

ولا أذكر من كان مديره في ذلك الوقت، ولكنهم دعوني لإلقاء خطبة الجمعة في المسجد، على أن يترجمها واحد منهم، قبل الخطبة الثانية، كما هو المعتاد في مثل ذلك.

اختطاف حقيبة زوجتي

ومن الأحداث الغريبة التي وقعت لنا في تلك الفترة: اختطاف حقيبة زوجتي أم محمد حفظها الله، ثم عودتها إليها.

أذكر أنا كنا نشاهد التلفزيون البريطاني، وكان يعرض فيلما، وفيه: رأينا فتاة تمسك حقيبتها بيدها وتحركها يمنة ويسرة، من باب اللعب واللهو، فإذا شاب يثب إليها في خفة وسرعة، ويختطفها من يدها. ويركض سابقا الريح!

هنا قلت لزوجتي مازحا: إياك أن يخطف أحد هؤلاء حقيبتك من يدك ويطير!

قالت: وماذا فيها؟!

قلت: صحيح إنها ليس فيها نقود كثيرة، ولكن فيها ما هو أهم من النقود: فيها جوازات السفر، وتذاكر السفر، وشيكات سياحية، وكذا وكذا.

ولم يكد يمر يومان أو ثلاثة على هذا المشهد والتعليق عليه، حتى وقعت هذه الواقعة.

كانت زوجتي، وقد أوشكنا أن نعود إلى قطر، تريد أن تمر على بعض المحلات التجارية الشهيرة، تتسوق منها ما تحتاج إليه، مستفيدة من التنزيلات التي عمت سائر المحلات في تلك الأيام بمناسبة أعياد الميلاد (الكريسماس).

وكان الأخ المرافق لي محمد عبد الرحمن يعرف هذه المحلات جيدا، وكان يأتي بزوجته المصرية لترافق زوجتي، وهو يرافقني. وفي إحدى الليالي ذهبنا إلى متجر كبير ـ نسيت اسمه ـ لنتفرج على ما فيه، وأظن أننا لم نشتر منه شيئا، وخرجنا من المحل، لنذهب إلى السيارة التي ركنها السائق في بعض الشوارع الخلفية، وهي قليلة الإضاءة، وغير مزدحمة بالناس. سبقنا الأخ محمد ليأتي بالسيارة، ومشت زوجتي وزوجته معا، ومشيت أمامهما، وسرعان ما سمعت صرخة من زوجتي، فالتفت إليها، فوجدتها كادت تقع، ولم أجد الحقيبة في يدها، ووجدت رجلا أسود يمسك بالحقيبة في يده، ويركض في سرعة الحصان، وهنا استجمعت قوتي وركضت وراءه بكل قوة، وكانت ركبتي لا تزال سليمة والحمد لله، ودائما صاحب المتاع أقوى من اللص، وقد كنت منذ صباي أُحسن العَدْو. ورغم أن اللص أشب وأخف مني قطعا، إلا أني كنت ملاحقا له، ولما أوشك أن ينتهي الشارع الخلفي هذا ويدخل اللص في الشارع الكبير المضاء الحافل بالناس: أدركه الخوف، فرمى بالحقيبة، والتقطتها. ورجعت إلينا سالمة والحمد لله.

وقد عدنا إلى الفندق: فرأينا أن نضع الأشياء التي فيها في صندوق الأمانات، حفاظا عليها من مثل هذه المفاجآت، ولم يبق فيها إلا قليل من النقود، التي تحتاج للاستهلاك السريع.

كان طبيب المسالك قد طلب مني أن أراجعه، ولكن بعد إجازة الكريسماس، وهي عنده أسبوعان، ولم أجد ضرورة لذلك: فأبلغت السفارة بقرار سفري، وضرورة الحجز لي.

وجاء مندوب السفارة ليحاسب الفندق، ففوجئ بالنفقات التي يطلبها الفندق. إنه رقم لا يصدق؛ الإقامة والأكل والتليفونات لا تبلغ ثلاثة آلاف جنيه!! فقال المندوب: ما هذا يا أستاذ؟ هل كنتم صائمين طوال هذه المدة؟ إن الرجل من الإخوة القطريين يأتي لمدة أسبوع، فيكلفنا أضعاف هذا المبلغ! إنكم لم تتكلموا في الهاتف طوال هذا الشهر إلا خمس مرات، كل مرة نحو ثلاث دقائق. وإخوانكم يحسب عليهم التليفون بالساعات كل يوم!

قلت له: إن الفقهاء اعتبروا المال العام ـ مال الدولة ـ كمال اليتيم، وشددوا في الأخذ منه؛ ولذلك آثرنا ألا نأخذ منه إلا بقدر الحاجة. كنا نأكل وجبتين في اليوم: الإفطار، وأظنه تبع الحجرة، والعشاء. وكنا نختار أرخص الأشياء لطعامنا: دجاج مع البطاطس (اتشكن إن ذا باسْكت) وكنا نكلم الأولاد مرة واحدة كل أسبوع للاطمئنان عليهم. وهذا يكفينا.

وظل مندوب السفارة كلما لقي واحدا، يقول له: أتدري كم كلف الشيخ وأهله السفارة إقامة ومعيشة لمدة شهر كامل؟ إنه لم يكمل ثلاث آلاف باوند!

سرقة حقيبة يدي

في أحضان الحضارة المادية لا يأمن الإنسان على نفسه وماله وفي يوم السفر من لندن إلى قطر؛ حدث لي حادث غريب، فقد كنت أقف في طابور أمام موظف الفندق الذي أوقع له التوقيع الأخير قبل المغادرة، وإعطائي ما يسمح بترك الفندق، ونظراً لزحام المغادرين في ذلك الوقت، ظللت في الطابور عدة دقائق كنت أحمل في يدي حقيبة اليد (الهند باك)، فلما طال الوقوف بعض الوقت، وضعتها على الأرض بجواري، وما هي إلا ثوان، حتى نظرت فلم أجد الحقيبة. لقد أخذت في لمح البصر. كانت زوجتي هي وزوجة السائق المرافق لي في انتظار فراغي من مهمتي. سألتهما: ألم تريا الحقيبة؟ قالتا: لقد كانت بجوارك منذ لحظات، وذهبت يمنة ويسرة، لأبحث عن أي أثر للحقيبة، فلم أجد. أين ذهبت وآخذها؟ لا جواب. كما يقول المصريون: (فص ملح وذاب).

يبدو أن هذا اللص كان يراقبني، وعرف من خبرته أني سأتعب بعد فترة، وأضع الحقيبة من يدي، وكان بالمرصاد، بمجرد أن وضعتها اختطفها وولى الفرار، أو لعله يجلس في المكان بعد أخذها وقد أخفاها بطريقة أو أخرى. وقلت: الحمد لله، فلم يكن فيها شيء ذو بال، فقد كانت التذاكر وما بقي من نقود في حقيبة زوجتي، أما حقيبتي فلم يكن فيها إلا نقود قليلة، ونظارة قراءتي، وكشكول صغير، فيه بعض الكتابات القليلة، وهي أثمن ما ضاع مني. فلم يظفر اللص بصيد سمين كما كان يتوقع، من حقيبة رجل قادم من الخليج!

وهذا هو الأمن في لندن، اختطفت حقيبة زوجتي، ثم استردت بفضل الله، وسرقت حقيبتي ولم تعد.

فالحمد لله على نعمة الأمان في بلادنا.’

طالع في الحلقة القادمة:

رحلة إلى أمريكا وأحداث سبتمبر 1981م

[1] كان هو وزوجته السيدة وفاء من ضحايا الطائرة المصرية التي سقطت أو أسقطت في المحيط قرب السواحل الأمريكية سنة 2000 رحمهما الله.

[2] رواه أحمد (4334) عن أبي هريرة.

[3] رواه الترمذي (2065)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة (3437) عن أبي خزامة.