البائعون أنفسهم لله
كفر الشيخ اون لاين | خاص
يقول ربُّنا عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .التوبة 111)، فواهبُ النفسِ وخالقُها ورازقُها وباريها، والذي سوَّاها وألهمها فجورها وتقواها، وحفظها وزكَّاها، يعرض علينا أن نبيعَها له، والثمنُ عظيمٌ، الثمنُ هو الجنة، (ألا إنَّ سلعة الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله هي الجنة).
وسوف تتركنا هذه النفس وتصعد إلى باريها، بعنا أو لم نبع، شئنا أو لم نشأ، رضينا أو لم نرضَ، فلكل نفسٍ موعدٌ ولكلِّ أجلٍ كتابٌ، ولن يُقدَّم الأجلُ ساعةً أن بِعتَ نفسك لله، ولن يؤخره ساعة ً إن بَخلتَ بها على الله ، قال الله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون. الأعراف 34)، وقال: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. يونس 49) وقال عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. النحل 61).
والذي يُؤخِّرُ بيعَنا لله هو حُبُّ الدنيا والتنافسُ عليها، وهوالأمر الذي حذَّرنا منه نبينا محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلَّم في حديثه الشريف: (..فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).
فالتنافس على الدنيا هو الانغماسُ بالكلية في طلبها وتوحيد الجهد في تحصيلها، فيمر العمرُ سريعاً دون إدراكها، وتُهلك الدنيا طلابَها كما أهلكت سابقيهم .
فالتنافس على الدنيا يسبب الإهلاك ، وهي سنة الحياة، ويبدأ هذا التنافس المؤدي إلى الإهلاك بالانحراف شيئاً فشيئاً، والانحرافُ يبدأ قليلاً وهي الزاوية الأولى للانفراج والبعد عن المسار السليم والطريق القويم، طريق الله المستقيم .
والمنحرفُ عن المسار إن لم يعد سريعاً إلى مساره زاد بعدُه عن الطريق، وكلما زاد بعدُه صعب رجوعُه – إلا من رحم ربي – فلنراجع أنفسنا جميعاً قبل أن تأخذنا الدنيا بغرورها إلى طريق اللاعودة.
وطلابُ الدنيا يحبونها ويعشقونها ويبيعون أنفسَهم لها، ولن يتركوها أبداً إلا إذا تحولت قلوبهم وأصبحوا طلاباً للآخرة وباعوا أنفسهم لله.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُطمئن أتباعَه البائعين أنفسهم لله، الثابتين على الحق فيما رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية، رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ".
يُلخِّصُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ويُشمل كل المعارضين للحق في فئتين اثنتين، المخذلين والمخالفين، فالمخالفة والخذلان بوابتان تحتويان كل المعارضين، يقلِّون أو يكثرون لا يهم، فالأهم أنهم لن يضروا الفئة المؤمنة الثابتة على الحق.
فالمخالفُ الذي تربى على المخالفة لن يرضيه أبداً إلا أن يقودَ حركتَك ويأكل لقمتَك ويعتلي هامتَك ويسخرُ من دعوتِك ويُسَفِّه رأيَك ويُحبط عملَك ويَحُّطُ من قدرِك، إنَّ المخالفة طبيعته، والأنا والأثرة تُحركه، مبدؤه خالف تعرف.
والمُخَذِّل يحاول جاهداً أن يُحبط همتَك ، ويكسر عزيمتك ، ويحقرُ من شأنِك، ويقلل من قدرِك، ويشكك في إمكاناتِك، ويخوِّفك من عدوِك، ويهددك بالانفصالِ عنك ، يشكك في نيتك، ويقلل من قدرتك، ويطعن في سلوكِك، وقد يبدي لك النصحَ يوماً وهو الأحرصُ أن يُوقعك في الشِّراك ، فهو مع المخالفين أقرب مما هو معك ، وضرره أشدُّ عليك من عدوك ، وهذا هو الإيذاء الذي لا ينفك عن أي مجاهدٍ في أي مرحلةٍ من مراحل جهاده، حتى في مرحلة التمكين، فالتمكين لا يعني عدم الإيذاء، فقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كما أوذي في مكة.
فعلى المرابطين البائعين لله أنفسهم أن يظلوا مرابطين جاهزين مستعدين دائماً ، كلما سمعوا هيعةً طاروا إليها كأنها نداءُ الجنَّة الذي ينتظره على شوق.
فاللهم ألهمنا السداد والرشاد لأن نبيع أنفسنا إليك، مرابطين على ثغور الحق، جاهزين دائماً للتضحية في سبيلك، متخففين من أثقال الدنيا، طامعين في رضاك يا أرحم الراحمين.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وسلم.
دكتور/ الغباشي الشرنوبي العطوي
المصدر
- مقال:البائعون أنفسهم للهموقع:كفر الشيخ أون لاين