أيها الأحباب هذا كتابنا ينطق بالحق وهذا قرآننا المعجزة الخالدة دستور العالمين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أيها الأحباب هذا كتابنا ينطق بالحق وهذا قرآننا المعجزة الخالدة دستور العالمين

بقلم فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب*

في هذا المقال بيان لبعض خصائص القرآن، وأيضًا بيان لخصائص الإعجاز القرآني، وأنه معجزة دائمة خالدة وصدق من قال (القرآن دستورنا).. يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾ (الفرقان) وقال سبحانه: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (٨٧)﴾ (ص)، وقال جل شأنه: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٣)﴾ (الأعراف)، وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (٧٨) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠)﴾ (الواقعة)، وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)﴾ (إبراهيم).

لهذا وضع المسلمون جميعًا هذا الكتاب المقدَّس في مكانته، وعرفوا له منزلته وقدسيته، وأدركوا حقه عليهم أن ينزلوا على حكمه، وأن يحكِّموه بينهم وبين البشرية، وأن يُقدموه ويُظهروه ويُعظموه، فإذا جاء أي شخص مهما كان وفي أي مكان على ظهر الأرض، وحاول أن يُسيء إلى ما عظَّمه الله عزَّ وجلَّ، فإن المسلمين جميعًا يعتقدون أن بشرًا ما لا يستطيع أن ينال منه، بل هو في الواقع يهين نفسه، وينال من آدميته.. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)﴾ (التوبة)، وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام علي بن أبي طالب ما يبين بعض هذه الخصائص: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إنها ستكون فتنة، قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟! قال: كتاب الله.. فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعت به حتى قالت: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢)﴾ (الجن)، من قال به صدق، ومَن عمل به أجر، ومن حَكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".

ولقد تأكد على مرِّ الأزمات والعصور أن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي أنزلها الله على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "بقيت الأدلة تتجدد على مر الزمن شاهدة بأن القرآن حق، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم حق، وأن الإسلام العظيم حق ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)﴾ (فصلت)، وتمر القرون بعد القرون والعصور بعد العصور لتُشهد الناس على أنه ليس بعد التوحيد عقيدة، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبوة، ولا بعد هديه هدي، ولا بعد البصائر التي أنارت العالمين شيء يستنير به العالمون".

ويقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: "بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تُشده لها العقول وتقف عندها القدرة البشرية فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذهان والتسليم والإيمان والاطمئنان".

إن كل معجزة كانت تناسب الزمن الذي بعث فيه النبي عليه السلام، فموسى عليه السلام كان السحر قد تقدم في عصره، فكانت معجزته في العصا الفرق بينه وبين السحرة أن عصاه تتحول إلى حية حقيقية تبتلع عمل الذين سحروا أعين الناس، ولم يغيروا حقيقة حبالهم وعصيهم التي بأيديهم، فلما رأوا ما عند موسى عليه السلام كان السجود والإذعان والإيمان؛ لا بموسى، ولكن برب موسى، وتحمَّلوا في سبيل ذلك ما نقلهم النقلة الخالدة العظيمة.. يقول ابن عباس رضي الله عنهما "أصبحوا سحرة، وأضحوا شهداء، وأمسوا يرتعون في الجنة".

ومعجزة سيدنا عيسى عليه السلام كانت لأقوام خضعوا للمادة، ولم يعترفوا بغيرها، فكانت معجزته لإثبات ما وراء المادة، بل إن ولادته نفسها كانت من هذا النوع، وقال وهو في المهد: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١)﴾ (مريم).

ولكن المعجزة الخالدة للقرآن الكريم لم تكن من هذا النوع، بل كانت أمرًا معنويًّا تتأمله العقول والأفهام، وتتعرفه المدارك البشرية في كل الأزمان، ولم يفقد حجيته، ولم يزل إعجازه كرّ الغداة ومرّ العشي.

وهنا قد يثور سؤال في الأذهان: لماذا كانت معجزة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم معنويةً خالدةً ومعجزة الأنبياء قبله حسية موقوتة؟!

يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في الإجابة عن هذا التساؤل: "إن الجواب عن ذلك مشتق من شريعة محمد ذاتها ومن حقيقة القرآن الكريم؛ فشريعة محمد خالدة باقية، خوطبت بها الأجيال من مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد خوطب بها الناس جميعًا في كل الأرض مهما اختفت أجناسهم وتباينت أقاليمهم، وتضاربت عاداتهم، فكان لا بد أن تكون معجزة النبي متفقةً مع هذا العموم ومتلائمةً مع هذا الخلود".

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة الإنقاذ والحياة للبشرية كلها، للأحمر والأسود والأبيض، على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم وثقافاتهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى الناس كافةً" قال تعالى: ﴿(١٠٦) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾ (الأنبياء).

والقرآن الكريم بحر لا شاطئ له، متدفق، يعطي الجميع، وهو نور للبصائر والأبصار، وفي متناول جميع الخلق على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وللأسف فإن البعض ممن طمس الله على بصيرتهم ليتهم يعرضون عنه لكنهم يأبون إلا أن يلمزوه.

وهذا صنف قديم له امتداد مع الزمن، قال الله عزَّ وجلَّ في شأنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَـكِن لَّا يَعْلَمُونَ (١٣)﴾ (البقرة).

إن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم خالدة باقية، تُرى وتُتلى إلى يوم القيامة، يعلم حقيقة القرآن من التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاينه وخاطبه، ومن جاء بعد عصر الرسول بعشرة قرون، بل بعشرات القرون، ولقد حفظه منزِّله في الأجيال كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ (الحجر).

ونبادر بالقول للذين يفهمون أن حفظ الذكر هو تطبيقه والحكم به، إن تطبيق الذكر كدستور للحياة يحتاج إلى جهد بشري صحيح يُقتدى فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن جاء من بعده، من التزام كامل به، وجهاد دائم في سبيل تطبيقه وهيمنته.

أما حفظه كنصوص فنحن في عالم الواقع المشاهد ننظر من خلال القرون إلى نفاذ وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر، فنرى من الشواهد الكثير، فقد مرت بالمسلمين محنٌ شديدةٌ قاسيةٌ كالتي تمر بها اليوم، وتنقل إلينا الأنباء أنهم في أمريكا يحاولون إحراق المصحف، ثم يأتي التلبيس بأن الذي يحاولون حرقه ليس هو المصحف، ثم يأتي التلبيس الأكبر بمن يشكك في بعض الآيات، وغفل ونسي ما يجب أن يعلمه القاصي والداني أن هذا البنيان من عند الله، وكل آية نزلت على قلب سيد الخلق كان يقول لمن حوله من الصحابة من كتَّاب الوحي: "اجعلوها في سورة كذا، في مكان كذا"، فهو بنيان شيَّده الرب سبحانه وتعالى، ونفَّذه المعصوم صلى الله عليه وسلم كلمةً كلمةً وآيةً آيةً، ووضعه لبنةً لبنةً في كل سورة في مكانها، وكل آية في مكانها، كلٌّ بتوجيه من الخالق سبحانه وتعالى لا دخل للبشر فيه، ولأنه بنيان ليس من صنع البشر بل من عند الله فإن الله عز وجل يحفظ دينه ويحفظ الدستور الخالد والبناء الباقي، حتى أهل الجنة، يقال يوم القيامة لقارئ القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت تفعل في الدنيا إلى أن يقف عند آخر آية يحفظها فيقال له: هذه درجتك وهذا مكانك.

يقول بعض المفسرين حول هذه الآية: "نرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصونًا محفوظًا لا تتبدل فيه كلمة، ولا تحرف فيه جملة، لولا أن هنالك قدرةً خارجيةً عن إرادة البشر أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل، وتصونه من العبث والتحريف".

عقبات

العقبة الأولى: الحكام الذين استساغوا أن يحكموا الأمة بغير القرآن، بينما في القرآن الدستور الإسلامي يوم أن طبق امتلأت الدنيا عدلاً ونورًا، وها هو عمر بن عبد العزيز يضرب مثلاً راقيًا للحاكم المسلم الملتزم، كان يخرج أحيانًا فيسأل القادمين من خارج العاصمة فيقول لهم: كيف تركتم البلاد؟ فيقولون: تركناها الظالم بها مقهور والمظلوم منصور، والغني موفور والفقير مجبور، فيقول رضي الله عنه: "هذه كلمات ما يسرني أن لي بها الدنيا"، والحق أن هذا هو الإسلام، الظالم والمعتدي لا مكان لهم، والمظلوم الجميع ينصرونه ويقفون إلى جواره ويساعدونه حتى يسترد حقه.

بلغ من عظمته رضي الله عنه أن امرأةً في الجيزة فقيرة عجوز جدار بيتها قصير ودجاجها يهرب منها، واللصوص يقتحمون هذه الحوائط، فلم ترسل هذه المرأة لحاكم مصر، لكنها أرسلت مباشرةً إلى الخليفة تخبره بهذا الأمر، فأرسل إلى والي مصر وصلتني رسالة من فرتونة السوداء تقول فيها إن حوائطها قصيرة ودجاجها يهرب منها واللصوص يتسوَّرون هذه الحوائط فقم من الحال وابحث عنها وأمِّن لها دجاجها وابنِ لها الحوائط وأخبرني.

فقام من فوره وأخذ يبحث عنها ويبحث عن اسمها حتى عثر عليها فإذا هي امرأة سوداء عجوز، فقوَّى لها حوائطها وأمَّن لها دجاجها، ثم أرسل إلى الخليفة يخبره بما فعل.

حتى الحيوان في ظل الشريعة الإسلامية لا يُظلم ولا يُحمَّل ما لا يطيق، فهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمر أن كل رجل يحمِّل دابته أكثر مما تطيق يحاسَب ويُحبس إذا فعل ذلك.

جاءته رضي الله عنه هدية من شرق الأردن فقال: على أي شيء أحضرتموها، قالوا: حملناها على دواب البريد.

فقال: لقد ظلمتموها، وليست هذه مهمتها، وأمر ببيع هذه الهدية وشراء علف للتعويض عما نالها في حمل الهدية.

هذه الأمثلة تملأ التاريخ الإسلامي من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء الراشدين، ثم بعد ذلك في الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية على اختلاف في التطبيق، ثم جاء اليوم الذي ظهر فيه الشيوعيون والعلمانيون والملحدون؛ الذي يكرهون الشريعة الإسلامية وبيدهم أقلام مخرِّبة يصدون بها عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، فألفوا مساوئ للشريعة الإسلامية ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي أباطيل وأضاليل وتلفيق؛ حتى نفر البعض من العودة إلى دين الله وإلى منهجه.

وأقول لهؤلاء وغيرهم الذين صنعوا بالكذب هذه العقبات: إن الله عز وجل يدافع عن دينه ويدافع عن المؤمنين ويكره كل مختال يدعو إلى الباطل ويحارب دين الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)﴾ (الحج).

العقبة الثانية: قعودنا وتصبرنا واستسلامنا للباطل.. لقد قعدنا نحن عن نصرة هذا الحق، وأصبحت عقيدة الإسلام مجمدةً بدون حركة، والشريعة الغراء معطَّلة بدون عمل، والمجتمعات راكدة بدون ثقافة، وأمة متفرقة بدون كيان، وأصبحنا حقيقةً نعيش في زمان ضعفنا فيه عن حماية أنفسنا، وعن حماية عقيدتنا وعن حماية أخلاقنا، وعن حماية عقولنا وإدراكنا، وأصبحنا كلأً مباحًا لكل معتد أثيم، وبدل أعداؤنا علينا كل معروف، وأحلوا مكانه كل منكر من القيم والموازين والتعرِّي من كل خصائص الإنسان وردّه إلى حياة الغابة، حياة البغي والانحراف والظلم.

ووضع التطور والتقدم لهذه الأمراض التي أوردناها تحت عناوين برَّاقة مثل: (الانطلاق) و(التحرر) و(التجديد) و(التحديث)، وكل الألفاظ والعبارات التي لا معنى لها، حتى انطبق على أكثرنا هذا الحديث النبوي المعجز في ألفاظه وفي معانيه، يقول صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".

ومن العقبات التي عطلت الإقبال على الإسلام: إغلاق باب الاجتهاد والتجديد الصحيح في الحياة الإسلامية، وأحيانًا تحجر على بعض العقول أن تعمل في مجال التفكير، وجعلوا الشريعة- كما يقول ابن القيم- قاصرةً ألا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها.

بينما التفكير فريضة إسلامية، والنظر في الكون والتأمل والاختراع والابتكار كلها فرائض، قال تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (١٠١)﴾ (يونس) ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)﴾ (آل عمران).

والرسول صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: يا معاذ، بم تحكم إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجده في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجده في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو (أي لا أقصر)، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله.

وقد حبب الرسول صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد، فذكر أن المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران.

إن أعداء الإسلام كانوا- وما زالوا- من أحرص الناس على تغيير هذا الدين أو تبديل نصوص القرآن الكريم، ولو كانوا يستطيعون، وقد ثبت- كما تبينا- أن هذا الأمر مستحيل على بشر أن يغيِّر أو يبدل او يأتي بآية أو سورة أو كلمة أو حرف حتى من مثل هذا القرآن، وقد تحدَّى القرآن على هذا الإنس والجن والشياطين، قال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)﴾ (الإسراء).

والمؤسف أن البعض من المسلمين- أو من غيرهم- لم يعرفوا إلى الآن أن في حفظ القرآن وتطبيق الشريعة الإسلامية الحياة الطيبة والسعادة والاستقرار والشفاء من أمراض القلوب، بل ومن أمراض الأبدان وإشاعة العدل بين جميع الناس والحب والتعاون بين الأمة كلها.. لا فرق فيها بين مسلم وغير مسلم، كما بينا من سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

وإن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن هاجر إلى المدينة كان من أول ما بدأ به العمل على استقرار أهل المدينة بجميع طوائفهم، فكان دستور المدينة المحفوظ إلى اليوم في كتب السيرة، وفيه وضع النبي صلى الله عليه وسلم لكل طائفة حقوقها، وبيَّن الواجبات عليها، وحرَّم القتل والبغي والعدوان، وأقام الوحدة الوطنية بمعناها الحقيقي، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ردَّ مسلمًا كان يستعد للذهاب إلى غزوة خيبر مع المسلمين؛ لأن يهوديًّا من تجار المدينة له دين، فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تخرج معنا حتى تؤدي الدين إلى صاحبك"، والمسلم عرض على اليهودى أنه حين يرجع من خيبر سيعطيه من سهمه هذا الدين، فقال له اليهودي: وما الذي يضمن لي أن تعود من خيبر؟ واشتكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصدر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرار، فجلس المسلم في طريق المدينة يبكي، ومرت عليه مسلمة فسألته: ما يبكيك؟ قال: دين عليَّ، وأنا عاجز عن سداده والنبي صلى الله عليه وسلم منعني من الخروج معه إلى خيبر، فقالت له المرأة المسلمة: انتظر مكانك حتى آتيك، وذهبت إلى بيتها وكان زوجها قد استُشهد قريبًا وترك ثيابًا، فأحضرتها، وقالت له: خذ هذه الثيات فالبس بعضها وبِعْ بعضها وسدِّد دينك، ثم تخرج مع المسلمين، ففرح الرجل وسدَّد دينه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالخروج.

هذا واقع سكان المدينة بفضل الإسلام الذي طبِّق، وبفضل الوحدة الوطنية التي أقامها صلى الله عليه وسلم، وهي الوحدة الوطنية الحقيقة الخالصة الصادقة، في المساواة في الحقوق والواجبات، لا مجاملات ولا قرابة، بل الكل يعمل، والجميع عرفوا طريقهم الصحيح بفضل الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها والبركات التي حلَّت، والفيوضات التي نزلت، والرحمات التي أحاطت بالجميع، الذين عاشوا في أمن وأمان.

ونقول لمن يتلاعب بهم الشيطان، ويدعوهم إلى العبث: إن المسلمين يحترمون جميع الأديان التي نزلت، ويؤمنون بها ويقولون: نحن نؤمن بنوح عليه السلام، ونؤمن بموسى عليه السلام، ونؤمن بيوسف عليه السلام، ونؤمن بعيسى عليه السلام، ونؤمن ونصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ونحبهم جميعًا ونثني عليهم جميعًا، ونوقرهم جميعًا، ونعتقد أنهم جميعًا أدَّوا الرسالة، وبلَّغوا الأمانة، ونصحوا الأمم التي بعثهم الله إليها، كما أمرهم الله عز وجل.

وصدق الله العظيم ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥)﴾ (النساء).

ويقول الحق سبحانه في أخذه العهد والميثاق على جميع النبياء والرسل أن يؤمنوا ويصدِّقوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأن ينصروه ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)﴾ (آل عمران).

اللهم قنا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ووحِّد بين صفوف هذه الأمة، وقوِّ رابطتها، واهدها السبيل، وأعنا على العودة إلى شريعتك، واشرح صدورنا بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك.. إنك نعم المولى ونعم النصير.


المصدر

إخوان اون لاين