أيها الأحباب.. هذا بناء الإسلام الخالد وهذه أصوله
03-07-2010
بقلم: الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب

وقف الإمام البنا- عليه الرضوان- يقول (أستطيع أن أتصور العمل العظيم الذي قام به المصطفى صلى الله عليه وسلم بقلعة شامخة تقوم على أركان أربعة، ولها سوران عظيمان يحميانها ويدفعان عنها)، هذا الحديث العظيم للإمام يجب أن نقرأه بدقة، وأن نفهمه، وأن نتصوره، فهو الباب الواسع الذي ينظر منه الإخوان، والأمل الكبير الذي يحرصون على تحقيقه ثم يقول: (أما الأركان الأربعة التي قامت عليها القلعة الأول منها: العقيدة الشامخة) العقيدة الصحيحة الصافية الصادقة التي تجعل الإنسان يمشي على الأرض وقلبه موصول برب الأرض والسماء، يتعامل مع الناس ولا ينسى رب الناس، إذا ناموا من الليل استيقظ مصليًا ساجدًا قائمًا مستغفرًا قارئًا للقرآن متدبرًا في معانيه، تهطل دموعه، يطرق أبواب الله ويلح في طرقها، يطبِّق قول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)﴾ (الحجرات).
وينطبق عليهم قول الله عز وجل: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)﴾ (التوبة).
وقوله تعالى: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ (آل عمران: من الآية 17).
فإذا أصبحوا تذكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم ينشق فجره إلا وفيه ملك ينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة".
يعملون للدين والدنيا، وللدنيا والآخرة، يعملون بجد، ويذكرون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم؛ فليغرسها فإن له بذلك أجرًا" في هذا الوقت العصيب الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، تأمرنا يا رسول الله ويا حبيب الله أن نغرس؟ ونغرس ثمرة النخل التي لا تعطي إلا بعد كثير! أليس هذا من الحقائق التي تدلنا بعمق على أن الإسلام جاء لعمارة الدنيا ولإقامة الدين معًا وأنه لا يصلح إلا بهما؟ ما هذه العظمة، وما هذا السمو أبعد هذا الوضوح في الإسلام يوجد شيء اسمه الدراويش، وما أدراك ما الدراويش؟ شيء مؤلم، وأمور مخزية ألصقت بهذا الدين العظيم.
هذا التوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين يمثل حيوية الإسلام، وعظمة الإسلام، ونحن نؤمن بأن ذكر الله على اللسان قبل العمل وأثناء العمل وبعد العمل، وكان الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم إذا نُودي للصلاة أسرعوا لاستجابة النداء، وصلوا، ثم خرجوا، ووقفوا على أبوب المسجد يقولون: اللهم إنا قد أجبنا دعوتك، وأدينا فريضتك، وانتشرنا كما أمرتنا فارزقنا وأنت خير الرازقين، هذه الأمة الغالية الفريدة ضيعها التفريط في السعي للدين وللدنيا معًا، للعلم وللمعرفة.
(ونستطيع أن نؤكد أن الإسلام وحده هو الذي يمكِّن أن يوجه القلوب هذا التوجيه، ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي يمكن أن يهتدي هذا الهدى ويهدي به الآخرين).
وهذا تاريخ الأرض كلها ودساتيرها وأفكارها، أتحدى أن يكون فيه لمحة واحدة تعدل هذه اللمحة أو تصل إلى مجرد الإحساس بها، فاشعروا أنتم بها أيها الأحباب، وعلِّموا الناس، وبينوا لهم حقائق هذا الدين وربوهم عليه بعد أن تربوا أنفسكم وتصنعوها على هذا الهدي.
أيها الأحباب.. أدركوا مقامكم، وقدِّروا موقفكم، واشرحوا لإخوانكم ولجميع المسلمين والمسلمات أن ينشئوا على حب العمل المثمر، والإنتاج المفيد، والعطاء الدائم بغير انتظار لشيء من هذا أو من ذاك، إنما الجزاء هناك في جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين.
أيها الأحباب.. العمل.. العمل في جميع الظروف وفي جميع الأحوال تنجحوا وتثمر حركتكم على ظهر الأرض؛ إنه العمل المثمر إلى آخر لحظة من لحظات العمر.
ماذا نقول اليوم وأولاد المسلمين يسهرون في الشارع إلى قرب صلاة الفجر، يا حسرة كيف تحولوا إلى هذا الوضع؟!
من الذي حوَّلهم وضَّيعهم؟ وأصبح اللقاء التافه والحديث التافه، والمعاني التافهة هي التي تشغلهم، والله عز وجل ينادينا جميعًا ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)﴾ (التوبة).
هذا هو الركن الأول الذي أقام صلى الله عليه وسلم عليه القلعة، أما الركن الثاني فهو (العبادة) وهي خضوع وحب وإقرار بالوحدانية، ولا بد لها من أمرين، الأول: الالتزام الكامل بما شرعه الله عز وجل، والثاني: أن يصدر هذا الالتزام من قلب يحب الله تعالى، فليس في الوجود كله من هو أجدر من الله تعالى بأن يحب، وكان رسول صلى الله عليه وسلم بمعرفته بربه أشد الناس حبًّا لله، يقول ثوبان رضي الله عنه (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم أحضر له وضوءه، فإذا أوى إلى حجرته جلست خارج الباب، فأسمعه صلى الله عليه وسلم يقرأ، ويركع فيطيل الركوع ويرفع فيطيل الرفع، ويسجد فيطيل السجود، ويستغفر فيطيل الاستغفار، ويتوب فيطيل التوبة، وأظل أتابعه وأتابعه، وهو يمضي حتى تغلبني عيني وأنام).
إنه صلى الله عليه وسلم في فهمنا القاصر كسفينة أقلعت من مينائها، وانطلقت فوق صفحة اليمّ ركضًا بأسرع ما يكون كما قال الشاعر:
ركضًا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد
وكل زاد عرضة النفاد إلا الهدى والبر والرشاد
إنه لقاء المحبين لا ينتهي حتى يأتي بلال رضي الله عنه، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بدخول وقت الفجر.
جاء في الحديث القدسي "إن ما تذكرون من جلال الله وتقديسه وتسبيحه يتعاطفن حول العرش، لهنَّ دوي كدوي النحل يذكِرّنَّ بصاحبهن عند ربه"، ثم يقول صلى الله عليه وسلم "ألا يحب أحدكم أن يكون له ما يُذكر به عند ربه"، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أريد مرافقتك في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود" وهذا هو الركن الثاني باختصار.
أما الركن الثالث، فهو (المنهج) وهو أعظم منهج إلى يوم القيامة؛ لأنه القرآن العظيم نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين؛ لينذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين.
والقرآن الذي بنى عليه النبي القلعة، كركن ركين هو المنهج لكل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، قال تعالى: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)﴾ (الأنعام)، وهو دستور هذه الأمة، وهو روحها، وهو محفوظ بحفظ الله عز وجل إلى يوم القيامة ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ (الحجر)، وفرق بين حفظ الذكر الذي تكفَّل الله به، وتطبيقه وفهمه وتحكيمه، كما أمر الله عز وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)﴾ (النساء)، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ (النساء).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢)﴾ النور).
والقرآن كتاب الله الخالد، وكل المسلمين يقرءونه ويعرفونه، ويعرفون أنهم مطالبون بالحكم به وبتحكيمه، ولست أدري ما سر هذا السكوت، وهذا النوم الذي طال، حتى أصبحنا لا نطالب بتحكيمه بين الناس، ولقد أفلح المهرِّجون في ملء فراغ الناس بالكرة، وأجهزة الإعلام التي اكتفت بترديد آيات من القرآن وشرحها، وهي تضحك على ذقون المسلمين وتزيدهم إليها.
إن القرآن لم ينزل ليُقرأ فقط، ولا ليُتلى هنا وهناك، ولكنه نزل من عند الله؛ ليسود ويهيمن ويسيطر ويُوجه من خلال المسئولين في الأمة العربية والإسلامية جميعًا، فمهمتهم الأولى أن يحافظوا على القرآن، وأن يحكِّموه فيما بينهم، وفيما بينهم وبين غيرهم؛ لكن للأسف هذا الركن طوى أيضًا، وحل محله الملاهي والاحتفال بمولد السيدة زينب ومولد البدوي والحسين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الركن الرابع الذي أقام صلى الله عليه وسلم القلعة عليه (الأمة) التي تحمل الرسالة وتطبقها على نفسها أولاً، ثم تبشر بها الشرق والغرب وتبلغها للناس جميعًا، ولقد بلّغ من سبقونا وأقاموا الحجة وجاهدوا في الله حق جهاده، وهم الذين قال الله لهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)﴾ (الحج).
وكما قال الإمام في تصوره لعمل النبي صلى الله عليه وسلم: إنه أقام سورين، سور حول القلعة وهم الجند المجاهدون في سبيل الله، والخليفة الذي يحرس هذه القلعة، وهو السور الثاني لها.
أما عمل الجند فهو فريضة الجهاد، وهو فريضة لدفع الأذى ورد العدوان، وأما عمل الخليفة فهو العدل بين الأمة والحكم فيها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يُنفَّذ فيها شرع الله، كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يخرج متخفيًا، فيلقاه الناس الذين قدموا من الريف، فيسألهم وهم لا يعرفونه: كيف تركتم العباد؟ فيقولون: تركناهم الظالم بها مقهور والمظلوم منصور، والغني موفور، والفقير مجبور؛ فيقول: هذا كلمات ما أحب أن لي بها الدنيا.
والحق أن هذا ميزان شرع الله، فالظالم لا يقف بجواره أحد ولا يشجعه، وهو مكروه ومبغض، والمظلوم كل الناس يشدون أزره ويعينونه، والغني في ظل الشرع الإسلامي يوسع عليه، والفقير بجبر خاطره.
هذا هو الإسلام في تطبيقاته التي ظلت 1000 سنة أو تزيد، والخليفة يسهر ولا ينام فهو الحارس الأول، وهو الراعي الأول، ولقد ظلت هذه القلعة شاهقة قائمة تضيء للعالم، وتنير الطريق، وتهدي الضال، وترشد الحائر 1000 سنة تطبِّق الإسلام وتنفِّذ تعاليمه، وتحكم بما أنزل الله في الشرق والغرب، وما زالت الآن- رغم جراحها- فوق كل الأمم، ومن أطهرها وأزكاها- رغم جراحها ورغم ما نزل بها- لكن أهل القلعة بعد 1000 سنة ناموا قليلاً، وغفلوا عن الأبالسة والشياطين الذين يتربصون بهم، وفي مقدمتهم اليهود، فما إن نام أهل القلعة حتى هجم هؤلاء على القلعة، ففعلوا فيها الأعاجيب، سيول الجيوش من هنا وهناك تقتل وتذبح، وتدمر وتخرِّب بغير سبب.
وبهجومهم وصل الخط البياني إلى الصفر، ثم ارتفع مرة أخرى بمن يدعو إلى الإسلام بكامله، وللعودة إليه على الأساس الذي كانت عليه القلعة، وهو العقيدة والعبادة والمنهج، والأمة التي تحمل هذا وتجاهد في سبيله، ارتفع الخط البياني مرة أخرى؛ ليعلن أن الإسلام لا يموت، وخاب ظن العلمانيين والشيوعيين، والصليبيين، وكل أشرار الأرض، الذين فرحوا بما نزل بالمسلمين، سمعوا الصيحة تنادي بالعودة إلى عهد القلعة الأول، وإصلاح ما خرب منها.
واستجاب من وفَّقه الله وشرح صدره، واستمع لهذه الصيحة، فلحق بالركب الذي يلاحق المستعمرين والمجرمين والدجالين، وأولهم أعداء الإسلام اليهود؛ لطردهم جميعًا من بلاد المسلمين، وردَّ الحكم إلى شريعة الله؛ لتعود الأيام إلى سابق عهدها، وتأخر من تأخر في اللحاق بالركب المجاهد المضحي، الذي يعطي ولا يأخذ، ويسهر ولا ينام، والأمل في كل من تخلَّف أو قعد أن يدرك الركب المجاهد السائر على سنة الأسلاف، وفوق طريق الصالحين وعلى الصراط المستقيم ﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)﴾ (الشورى).