منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلم ما يقعُ وما لم يقع

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلم ما يقعُ وما لم يقع


بقلم :الشيخ عبد الفتاح أبو غدة

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فقد عُرفَ من النظر في كلام السلف وكتبهم التي دونوا فيها علومهم وآراءهم: أنها تتسِمُ بسمة الإيجاز والجزالة في القول والبيان، ويشيع فيها طابع الاكتفاء بالإلماع عن التصريح، وبالرمز عن التلويح، في استحسان ما يستحسنونه، أو كراهة ما يكرهونه، أو ذمِّ ما يذمونه، أو شرح ما يشرحونه ويفسِّرونه، فكان كلامهم أغزر وأقل، وعلمُهم أدقّ وأجل، وكانت بصارتهم بمعاني الكتاب والسنة أعمق وأوفى، وإدراكاتُهم لمقاصد الشريعة أشملَ وأصفى. وذلك لصفاء نفوسهم، واستنارة قلوبهم، وغزارة علوهم، ودقة فهومهم، ووفرة تقواهم، بسبب ما كانوا عليه من بالغ التمسك بالكتاب والسنة وامتثال الأوامر واحتناب النواهي، فقد أُوتوا من ذلك كله ما لم يؤته الخلف والمتأخرون. ومع تمادي الزمن، وإظلام النفوس والقلوب، وضعف التمسك والعمل، وتناقص العلم وفتور الجدِّ في تحصيله: صار كثير من الخالفين يعسُرُ عليهم فهمُ جمل كثيرة من كلام السالفين، لاختلاف الأساليب، وتنوع المصطلحات، وكلالة الأذهان، وفتور الهمم، وخفة التقوى.

ولهذا اتسعت وكبُرت وطالت كتب المتأخرين، وكثر واستفاض وتكرر كلامهم فيها، على عكس الحال في كتب المتقدمين وكلامهم[1]. فصار بعضُ الواضح الجلي من كلام السلف شبه خفي عند بعض الخلف، لاكتنازه وجزالته الشديدة حيناً، ولسمو بلاغته ودقة تعبيره حيناً آخر، ولانفصاله عن قرائن توضحه كانت معه عند صدوره حيناً ثالثاً، ولغير ذلك، وصارت بعض عبارات السلف لا تفهم على وجهها السديد، لبعد الشقة والتباين بين السالف والخالف، إذ اعتاد الخالف رخاوة الأسلوب والتعبير، والإسهاب والإطناب في الكلام، وتكرار القول وبسطه، وإعادة شرحه وبيانه. وفي الصفحات التالية من هذه الرسالة: "منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلُّمِ ما يقع وما لم يقع"، ذكرت نماذج شرحتُ فيها هذا الذي ألمعتُ إليه هنا.

وأصلُ هذه الرسالة مقالةٌ كتبتها بطلب من (مجلة كلية أصول الدين) بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، نشرتها في العدد الأول منها، الصادر في سنة 1398. ثم أضفتُ إليها إضافات كثيرة واسعة، حتى غدت في هذه الصفحات الطوال. وأرجو من الله تعالى أن يمنحني الإخلاص والسداد في القول والعمل، والتوفيق والإمداد في خدمة الكتاب والسنة وعلوم السلف، وهو الكريم الوهاب، الغفور التواب، والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلّم تسليماً كثيراً.

وكتبه

في مكة المكرمة 21 من رجب سنة 1411

عبد الفتاح أبو غدة

[1] انظر التعليقة ص 73 بآخر هذه الرسالة، وكتاب الحافظ ابن رجب الحنبلي: "فضل علم السلف على علم الخلف" في ص 26 و28 و 47، أو ما نقلتُه عنه بأواخر كتابي "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل" ص 377 – 379 من الطبعة الثالثة.

محتويات الكتاب

الباعث على تأليف هذه الرسالة

قرأتُ في أوائل كتاب "الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف" للشيخ العلامة وليّ الله الدَّهلوي رحمه الله تعالى قوله: "عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض، كلهن في القرآن، منهن: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه﴾ [البقرة: 217] ﴿ويسألونك عن المحيض﴾ [البقرة: 222]، قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. قال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعتُ عمر بن الخطاب يلعنُ من سأل عما لم يكن". انتهى كلام العلامة الدهلوي.

وفي هذين الأثرين إشكال كبير إذا كانا على ظاهرهما، فإن الأثر الأول الذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: يخالفه ما نقلته كتب السنة المطهرة، من الأسئلة الكثيرة التي سألها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجابهم عنها. والأثر الثاني الذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من أنه كان يلعن من سأل عما لم يكن: مشكلٌ جداً، ويستنكره طالب العلم، لما يتبادر منه من منع السؤال عن شيء ما حتى يقع، وهذا أمرٌ يخالفه ما نرى عليه جمهور الأئمة الفقهاء، من ذكرهم في كتب الفقه: ما وقع، وما قد يقع، وما لم يقع.

فرأيت أن أبحث أولاً في سند كلٍ من هذين الأثرين، اللذين يبدوان أول وهلةٍ مخالفين للواقع المنقول عن سلفنا الصالح، الذين نقلوهما إلينا، ثم أنقل ثانياً: توجيه سلفنا الصالح لمعناهما وبيانهم المراد بهما، وأذكر ثالثاً: ما يتصل بهذا المقام، من كلام العلماء الأئمة الأعلام، إفادةً وإنارة لأبنائنا الطلبة، وفقنا الله وإياهم إلى أفضل العلم والعمل، ورزقنا جميعاً الهدى والرشاد، وهو وليُّ التوفيق والسداد، فأقول:

تخريج الأثر الأول - باب كراهة الفُتيا

تخريج الأثر الأول

أما الأثر الأول أثر ابن عباس، فقد رواه الدارمي في "سننه"[1]، في (باب كراهة الفُتيا)، بسند فيه راوٍ ضعيف، وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية"[2] إسناده حسن. قال الدارمي: "أخبرنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، حدثنا ابن فُضيل، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس قال: ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض، كلهن في القرآن، منهنّ: ﴿يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه﴾، ﴿ويسألونك عن المحيض﴾، قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم". انتهى. ورواه الحافظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"[3]، من طريق محمد بن فُضيل أيضاً بالسند المذكور. وشيخُ الدارمي في هذا السند هو الإمام الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة صاحبُ "المصنّف" ثقة مشهور. وشيخه (ابن فُضيل) هو محمد بن فُضيل بن غزوان الضبي الكوفي، ثقة، روى له الستة في كتبهم. ووقع اسمه محرّفاً في الطبعة الدمشقية والمصرية من "سنن الدارمي" إلى (ابن فَضل) وصوابه: (ابن فُضيل) بالتصغير كما جاء في الطبعة الهندية، وكما هو في ترجمته في "تهذيب التهذيب"[4] وغيره من كتب الرجال. وشيخه (عطاء) هو ابن السائب الكوفي ثقة، إلا أنه اختلط في آخر عمره، فمن سمع منه قديماً فسماعه – أي الحديث الذي سمعه منه – صحيحُ التلقي والضبط، ومن سمع منه بعد اختلاطه فسماعُه ضعيف، وابن الفُضيل روى عنه بعد اختلاطه، فمن هنا كان هذا الخبر فيه ضعف.

وشيخه (سعيد) هو الإمام سعيد بن المسيَّب الثقة الحجة أجلُّ التابعين. وهذا الأثر عن ابن عباس ذكره الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد"[5]، في (باب السؤال للانتفاع وإن كثُر)، ثم قال: "رواه الطبراني في "الكبير" عن عطاء بن السائب، وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات". انتهى.

فقول الشيخ ابن مفلح الحنبلي في كتاب "الآداب الشرعية"[6]، في هذا الأثر: "إسناده حسن" غيرُ سليم، لوجود الاختلاط المشار إليه. وقال الحافظ السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن"[7]، في (النوع الثاني والأربعين): "فائدة: أخرج البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلها في القرآن". ثم قال السيوطي: وأورده الإمام الرازي بلفظ (أربعة عشر حرفاً). ثم ذكرها السيوطي عنه تعداداً، ثم بينّ أن اثنين منها، وهما السؤال عن الروح، والسؤال عن ذي القرنين، سألهما مشركو مكة أو اليهود، لا الصحابة، ثم قال: "فالخالصُ اثنا عشر، كما صحت به الرواية". انتهى.

توجيه الحصر في أثر ابن عباس

قال عبد الفتاح: وهذا الحصرُ الذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، بأنهم ما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن ثلاث عشرة مسألة، كلها في القرآن: حصرٌ إضافي، وذلك بالنظر إلى ما ذُكر من سؤالهم له الذي جاء في القرآن، أما سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الذي جاء في السنة المطهرة، فأكثر من أن يُحصى، قال الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين"[8]، بعد ذكره كلام ابن عباس رضي الله عنه: "قلتُ: ومراد ابن عباس بقوله: (ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة): المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبينّ لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى". انتهى. وقد جمع رحمه الله تعالى في آخر كتابه المذكور جملةً كبيرة من أسئلة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وفتاواه فيها، فجاء ذلك في نحو 150 صفحة، انظر الجزء الرابع منه[9].

[1] 1: 48.

[2] 2: 77.

[3] 2: 141.

[4] 9: 405.

[5] 1: 158.

[6] 2: 77.

[7] 2: 315.

[8] 1: 77.

[9] ص 266-414.

تخريج الأثر الثاني - أثر ابن عمر

أما الأثر الآخر، وهو أثر ابن عمر، عن عمر أنه كان يلعنُ من سأل عما لم يكن، فرواه الإمام الحافظ الدارمي في "سننه" أيضاً[1]: في (باب كراهية الفُتيا)، بسند فيه انقطاع، فقال: "أخبرنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن زيد المنقري، حدثني أبي، قال: جاء رجل يوماً إلى ابن عمر، فسأله عن شيء لا أدري ما هو، فقال له ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعنُ من سأل عما لم يكن". انتهى. ورجالُ هذا الأثر ثقات، سوى أن (زيد بن درهم) والدَ حماد بن زيد لم يلقَ ابن عمر، فكان في السند انقطاع، والانقطاع علة من علل الضعف. وروى الدارمي أيضاً بعدَه من طريق أخرى أثراً يصلُح شاهداً له عن عمر، فقال: "أخبرنا محمد بن أحمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس قال: قال عمر على المنبر: أُحرِّجُ على رجل – أي أُأثَّمهُ على ذلك وأزجره عنه زجراً شديداً – سأل عما لم يكن، فإن الله قد بين ما هو كائن". انتهى. و (محمد بن أحمد) هو البغدادي القطيعي، ثقة. و (سفيان) هو ابن عُيينة، إمام مشهور. و (عمرو) هو عمرو بن دينار المكي، ثقة. فرجالُ هذا الإسناد ثقات، غير أن طاوساً لم يلق عمر بن الخطاب، فالسند فيه انقطاع أيضاً. وروى الإمام ابن عبد البر حافظ المغرب في كتابه "جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله" أثر عمر الأول من طريقين موصولاً، أحدُهما من طريق (طاوس عن ابن عمر)[2]، والآخرُ من طريق (مجاهد عن ابن عمر)[3]، ولكن في كل من الطريقين (ليثُ بنُ أبي سُليم الكوفي) ضعيف الحديث، واختلط في آخر عمره. وروى ابن عبد البر أيضاً الشاهد بسند منقطع (عن طاوس قال: قال عمر....)[4]، ورواه أيضاً بسند منقطع أيضاً باللفظ المذكور عند الدارمي[5]: "عن طاوس قال: قال عمر: إنه لا يحل لأحد أن يسأل عما لم يكن، إن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن".

توجيه معنى الأثر الثاني

والأثرُ المذكورُ ثابتٌ عن عمر رضي الله عنه لتعدد طرقه وشواهده، ولكن الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى، ساقه في كتابه المذكور، ووجّه معناه توجيهاً حسناً، على غير ما يتبادر من ظاهره لنا، على عادة السلف والأقدمين، فإنهم يوردون النصوص والأحاديث والآثار المشكلة، تحت عنوان الباب وترجمة تُوجِّه معناها، وتُبين المراد منها، وتدفع ما هو غيرُ مراد عنها، ويستغنون بذلك عن شرح ذلك النص وبيان تأويله، اكتفاءً بالعنوان، إذ جعلوه بمثابة شرح للنص، أو توجيهٍ له، أو تبيينٍ لما ينبغي أن يُفهم عليه. ومن أمثلة ذلك صنيعُ الإمام البخاري رحمه الله تعالى، في مواضع كثيرة من عناوين الأبواب في "صحيحه"، وإليك مثلاً واحداً منها، وهو قوله في كتاب الجنائز: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يُعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوحُ من سنته...)، وذكر بقية عنوان هذا الباب وترجمته في نحو أربعة أسطر، ثم ساق فيه خمسة أحاديث، منها حديثُ ابن عمر: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"[6]، في شرح هذا الباب: "قول البخاري: (بابُ قول النبي صلى الله عليه وسلم: يُعذب ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوحُ من سنته)، هذا تقييدٌ من المصنف لمطلق الحديث، وحملٌ منه لرواية ابن عباس المقيدة بالبعضية، على رواية ابن عمر المطلقة، كما ساقه في الباب عنهما، وتفسيرٌ منه للبعض المبهم في رواية ابن عباس بأنه النوح، ويؤيده أن المحذور بعضُ البكاء لا جميعُه كما سيأتي بيانه". انتهى.

ثم أسهب الحافظ ابن حجر وأطال في الكلام على ما يتصل بعنوان البخاري المذكور لهذا الباب، وتوجيه الأقوال في المسألة في نحو أربع صفحات. ويُلحظ من هذا أنّ في كلام الإمام البخاري رحمه الله تعالى اختصاراً بالغاً، اقتضى من الحافظ ابن حجر ذلك الشرح والبيان الطويل، ويبدو أنّ كلام السلف لا يخلو من مثل هذا الاختصار الشديد، فلا يفهمُ كلامهم على وجهه إلا من عاشرهم أو خالطهم أو أطال دراسة كلامهم، فيفهمُه بدون شبهة ولا تردد. أما سواهم ممن تأخر عنهم، ولم يطل دراسة كتبهم وكلامهم كأمثالنا، فيجدون عسراً وتوقفاً في فهم بعض كلامهم، وإليك مثالاً شاهداً على ذلك: جاء في كتاب "الحث على التجارة والصناعة والعمل" للإمام أبي بكر الخلاّل تلميذ عبد الله بن أحمد بن حنبل، في الخبر السادس منه قولُ الخلال: "أخبرني زكريا بن يحيى أبو يحيى الناقد، قال: سألتُ أبا عبد الله رحمه الله، قلتُ: إني أعملُ بكِرَىً، وأبواي يُريدوني على أخذِ دُكانٍ لنفسي؟ قال: فخذ دكاناً، تكون جنازةُ، يكون مريض، قلتُ: هو عملٌ شاق، والشريك، أعني: لا يقومُ، قال فترجعُه". انتهى. وهذا كلام جزلٌ جداً في غاية الاختصار، ويعني الإمام أحمد به: إذا كنت تعمل في التجارة لنفسك، تستطيع أن تشهد الجنازة، وتستطيع أن تزور المريض، فتقوم بهذه الأنواع من الأعمال الصالحة والطاعات المرغّب فيها. وأما إذا كنت أجيراً فلا تملك ذلك، لأنك مستأجر الوقت، فلا تستطيع القيام بالنوافل والمستحبات في أثناء عملك المستأجر فيه.

وهذا الأسلوب من الاختصار والإيجاز في العبارة، يغفل عن إدراكه كثير من المتأخرين، فيقع منهم الغلط في فهم بعض النصوص. قال ابنُ عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه المذكور[7]: (بابُ ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن، والقياس على غير أصل، وعيب الإكثار من المسائل دون اعتبار)، وساق جملة كثيرة من الأحاديث والآثار، فيها التحذير من العمل بالرأي، ثم قال[8]: "اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم والعيب، في هذه الآثار المذكورة في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه رضي الله عنهم، وعن التابعين لهم بإحسان. فقالت طائفة: الرأيُ المذموم هو البدعُ المخالفة للسنن في الاعتقاد، كرأي جهم وسائر مذاهب أهل الكلام...

وقال جماعة من أهل العلم: إنما الرأي المذموم المعيب المهجور: الرأي المبتدع، وشبهُهُ من ضروب البدع.... وقال آخرون وهم جمهور أهل العلم: الرأيُ المذكور في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، والتابعين، هو القولُ في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغالُ بحفظ المعضلات والأغلوطات، وردُ الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها، فاستُعمل فيها الرأي قبل أن تنزل، وفرّعت وشُقّقت قبل أن تقع، وتُكلم فيها قبل أن تكون، بالرأي المضارع للظن. قالوا: ففي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل للسنن، والبعثُ على جهلها وتركِ الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه. واحتجوا على صحة ما ذهبوا إليه من ذلك بأشياء:

1- منها ما أخبرنا به خلف بن أحمد....، عن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن.

2- وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن...، عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات. فسرّه الأوزاعي قال: يعني صعاب المسائل.

3- وحدثنا خلف بن سعيد....، عن معاوية أنهم ذكروا المسائل عنده، فقال: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عُضَل المسائل. أي صعابها ومشكلاتها.

واحتجوا أيضاً بحديث سهل بن سعد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها، وبأنه صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال[9]. واحتجوا أيضاً بما رواه ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعظمُ المسلمين في المسلمين جُرماً من سأل عن شيء لم يُحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته.

حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد...، عن طاوس، قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: أحرّج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإن الله قد بين ما هو كائن. وذكروا من الآثار أيضاً ما حدثنا سعيد بن نصر...، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لا تفعلوا أوشك أن يكون فيكم من إذا قال سُدّد أو وفق، فإنكم إن عجلتم تشتتت بكم الطرق ها هنا وها هنا. وحدثنا أحمد بن عبد الله...، عن طاوس، قال: قال عمر: إنه لا يحلُ لأحد أن يسأل عما لم يكن، إن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن. حدثنا عبد الوارث بن سفيان...، عن ابن عمر قال: يا أيها الناس لا تسألوا عما لم يكن، فإنّ عمر كان يلعن من سأل عما لم يكن. أخبرنا عبد الوارث...، عن الأوزاعي قال: إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم، ألقى على لسانه الأغاليط!.

وروينا عن الحسن أنه قال: إنّ شرار عباد الله: الذين يجيئون بشرار المسائل، يفتنون بها عباد الله. وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى...، عن ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، قال: بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون: إذا أراد الله أن لا يُعلّم عبده خيراً، شغله بالأغاليط". انتهى كلام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى. وقد أبان فيه أن كلام سيدنا عمر رضي الله عنه ليس على ظاهره، وأن المراد به ما كان من قبيل السؤال عن المعضلات والأغلوطات، أو المسائل الفضول التي لا حاجة بالسائل إليها، وإنما تكون من بطر الذهن وفراغ النفس ونحو ذلك، مما لا يترتب على السؤال عنه فائدة عملية، ولم يرد به تكليفٌ من الشارع أو خطابٌ، فالسؤال عن مثل هذا منهيٌ عنه ولا ريب، ومثلُهُ السؤال إذا كان على سبيل التعنّت والمغالطة وتصفير الوجوه.

[1] 1: 47.

[2] 2: 139.

[3] 2: 143.

[4] 2: 141.

[5] 2: 142.

[6] 3: 152.

[7] "جامع بيان العلم وفضله" 2: 133.

[8] 2: 138-147.

[9] جاء في "صحيح البخاري" بشرح "فتح الباري" 3: 267 و 270، في كتاب الزكاة في (باب قول الله عز وجل، لا يسألون الناس إلحافاً)، والباب قبله (باب من سأل تكثّراً) عن المغيرة بن شعبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة الأموال، وكثرة السؤال". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 3: 270 شرحاً لقوله صلى الله عليه وسلم "وكثرة السؤال": "قال ابن التين: فهم منه البخاري سؤال الناس، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المشكلات أو عما لا حاجة للسائل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ذروني ما تركتكم. قلت – القائل ابن حجر – وحملُه على المعنى الأعم أولى. وقال ابن رُشيد: حديث المغيرة في النهي عن كثرة السؤال يحتمل أن يكون المرادُ بالسؤال: النهي عن المسائل المشكلة كالأغلوطات، أو السؤال عما لا يعني، أو عما لم يقع مما يكره وقوعه". وقال الحافظ ابن حجر أيضاً في كتاب الأدب: 10: 341 في (باب عقوق الوالدين من الكبائر) وأورد فيه البخاري حديث المغيرة الذي فيه (وكثرة السؤال)، قال الحافظ هنا: "تقدم في كتاب الزكاة بيان الاختلاف في المراد منه، وهل هو سؤالُ المال أو السؤالُ عن المشكلات والمعضلات أو أعمُّ من ذلك، وأن الأولى حملُه على العموم. وثبت عن جمع من السلف كراهةُ تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة، أو يندر جداً، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع، والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ".

نماذج مما لا ينبغي السؤال عنه ولا يجابُ عنه السائل

ومن صور السؤال المنهي عنه: ما حكاه القاضي عياض رحمه الله تعالى في "ترتيب المدارك"[1]، في ترجمة (زياد بن عبد الرحمن القرطبي الملقّب بشبطون) تلميذ الإمام مالك، ونصّه: "قال حبيب: كنا جلوساً عند زياد، فأتاه كتاب من بعض الملوك، فمد مدّة – أي بلّ قلمه من الحبر بلة – فكتب فيه، ثم طبع الكتاب ونفذ به مع الرسول. فقال زياد: أتدرون عما سأل صاحبُ هذا الكتاب؟ سأل عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة، أمن ذهب هي أم من ورق – أي فضة - ؟ فكتبت إليه: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرءُ تركه ما لا يعنيه". وستردُ فتعلم". انتهى كلام القاضي عياض. من سؤال الفراغ والفضول ما سُئل عنه الإمام الشعبي، فقد أتاه رجل فقال له: ما اسم امرأة إبليس؟ قال: ذاك عرسٌ ما شهدته[2]! وجاء في "ترتيب المدارك" للقاضي عياض[3]: "سأل رجلٌ مالكاً عن رجل وطئ دجاجة ميتة – أي داس بقدمه عليها – فأخرجت منها بيضة. فأفقست البيضة عنده عن فرخ، أيأكله؟ فقال مالك: سل عما يكون، ودع ما لا يكون! وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه، فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ فقال له: لو سألت عما تنتفعُ به لأجبتك.

وجاء فيه أيضاً[4] "وسأله رجل عمن قال لآخر: يا حمار؟ قال: يُجلد، قال: فإن قال له: يا فرس؟ قال: تُجلد أنت! ثم قال: يا ضعيف، وهل سمعت أحداً يقول لآخر: يا فرس!". ومن سؤال الفراغ والفضول الذي لا يجاب سائله: أن يسأل: كيف هبط جبريل؟ وعلى أي صورة رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وحين رآه على صورة البشر هل بقي ملكاً أم لا؟ وأين الجنة والنار؟ ومتى الساعة؟ ومتى نزول عيسى عليه السلام؟ وإسماعيل أفضل أم إسحاق؟ وأيهما الذبيح؟ وفاطمة أفضل من عائشة أم لا؟ وأبَوَا النبي صلى الله عليه وسلم كانا على أي دين؟ وما دينُ أبي طالب؟ ومن المهدي؟ إلى غير ذلك مما لا حاجة بالإنسان إليه، ولا ينبغي أن يسأل عنه، لأنه ليس تحته عمل، ولا تجبُ عليه معرفته، ولم يرد التكليف به، ذكره العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته على "ردّ المحتار على الدر المختار" في مباحث الحظر والإباحة[5].

وقال الإمام أبو العباس القرافي رحمه الله تعالى، في آخر كتابه الفريد العُجاب "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام"[6]: "وينبغي للمفتي: إذا جاءته فُتيا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فيما يتعلق بالربوبية، يُسألُ فيها عن أمور لا تصلحُ لذلك السائل، لكونه من العوام الجلف، أو يسألُ عن المعضلات ودقائق أصول الديانات، ومتشابه الآيات والأمور التي لا يخوض فيها إلا كبار العلماء، ويعلمُ أن الباعث له على ذلك إنما هو الفراغ والفضول، والتصدي لما لا يصلح له: فلا يجيبه أصلاً، ويظهر له الإنكار على مثل هذا، ويقول له: اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك، ولا تخض فيما عساه يهلكك لعدم استعدادك له. وإن كان الباعث له شبهة عرضت له: فينبغي أن يقبل عليه، ويتلطف به في إزالتها عنه، بما يصل إليه عقله، فهداية الخلق فرضٌ على من سُئل. والأحسن أن يكون البيان له باللفظ دون الكتابة، فإن اللسان يفهم ما لا يفهم القلم، لأنه حيٌّ والقلم موات، فإنّ الخلق عيال الله، وأقربهم إليه أنفعهم لعياله، لا سيما في أمر الدين وما يرجع إلى العقائد". انتهى. وقد عقد الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى، في أواخر كتابه "الموافقات"[7] فصلاً حسناً، ساق فيه عشرة نماذج مختلفة للأمور التي يُكره السؤال فيها، ثم قال: "ويُقاس عليها ما سواها". انتهى، وكأنه قعّد فيها ما رسمه الإمام القرافي، فيما نقلته لك عنه، فعدْ إليها فإنها مما يسافر إلى تحصيله.

[1] 3: 120.

[2] من ترجمته في "تذكرة الحفاظ" للذهبي 1: 88.

[3] 1: 191 و 2: 30 من طبعة المغرب.

[4] 2: 145.

[5] 5: 480 – 481.

[6] ص: 282.

[7] 4: 319-321.

جواز تفريع مسائل لم تقع لتفقيه الطلبة وتعليمهم

أما تصوير المسألة على وجوه متعددة، لبيان حكم كل وجه منها إذا وقع، فهذا شيء لا يتناوله كلامُ سيدنا عمر رضي الله عنه، وقد قرّر العلماء جوازه، وخاصةً إذا كان لطلبة العلم للتفقيه والتعليم، وترسيخ القواعد وتفريع الفوائد، فإنه مستحسن. وقد عقد الإمام ابن عبد البر حافظ المغرب، رحمه الله تعالى، في كتابه "جامع بيان العلم وفضله"[1]، باباً مطولاً بعنوان (باب حمد السؤال والإلحاح في طلب العلم، وذمّ من منع)، وساق فيه الأدلة الكثيرة في مدح السؤال للتفقه والاستفادة، والازدياد من العلم والمعرفة، واستهل الباب بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "شفاء العِيِّ السؤال". وهو الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه"[2]، في (باب المجروح يتيمّم)، بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؟! فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده". ثم أتبع ابن عبد البر الحديث السابق بقول عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياءُ أن يتفقهن في الدين. وفي لفظ: لم يمنعهن الحياءُ أن يسألن عن أمر دينهن. وقال ابن شهاب: العلمُ خزائن ومفاتيحها السؤال.

[1] 1: 87-92.

[2] 1: 142.

جواز الجدل فيما لم يُنْزَل ليعرف حكمه إذا نزل

جاء في "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي[1]، في ترجمة الإمام أبي حنيفة: "عن النضر بن محمد، قال: دخل قتادة الكوفة، ونزل في دار أبي بردة، فخرج يوماً وقد اجتمع إليه خلق كثير، فقال قتادة: والله الذي لا إله إلا هو، ما يسألني اليوم أحد عن الحلال والحرام إلا أجبتُه. فقام إليه أبو حنيفة فقال: يا أبا الخطاب، ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواماً، فظنت امرأته أن زوجها مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول، ما تقول في صداقها؟ فقال قتادة: ويحك، أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: فلم تسألني عما لم يقع؟ قال أبو حنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه". انتهى. قال عبد الفتاح: وهذا الذي ذهب إليه الإمام أبوحنيفة رحمه الله تعالى، من تعرف حكم الشيء قبل وقوعه، للعمل به إذا وقع: يشهدُ له الحديث الصريح الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في "صحيحه"[2]، في كتاب الإيمان، في (باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه وإن قتل كان في النار):

"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار". انتهى. فهذا الحديث نصٌّ قاطع في جواز فرض المسائل المحتملة الوقوع قبل وقوعها، وبيان حكمها إذا وقعت، فقد سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم ما لم يقع إذا وقع، وشقّق السؤال على وجوه مختلفة، وأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل الوجوه التي جوّز السائل احتمال وقوعها، ولم ينهه أو يقل له: حتى يقع. وفيه السؤال بلفظ (أرأيت)، فليست (الأرأيتية) مستنكرة ولا مذمومة إلا فيما يدخل في المستحيلات وشبهها مما لا يتصور وقوعه، فالسؤال عنه من الفضول الذي يتنزه المرءُ عن الدخول فيه، لشغل الوقت والعقل بما لا يحتاج إليه.

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحِكَم"[3]، في شرح الحديث التاسع: "وقد كان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له: إنا لاقو العدو غداً وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده، وعن طاعتهم وقتالهم، وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها". انتهى. ثم أشار الحافظ ابن رجب بعد ذلك[4]، في شرح الحديث التاسع نفسه، إلى ملحظٍ هامّ جداً، وهو سببُ كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة، فقال رحمه الله تعالى: "واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة، إنما هنّ من ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، فلو أنّ من أراد أن يعمل عملاً سأل عما شرعه الله تعالى في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فيه فاجتنبه، وقعتْ الحوادثُ مقيدة بالكتاب والسنة.

وإنما يعملُ العاملُ بمقتضى رأيه وهواه! فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما شرعه الله، وربما عَسُرَ ردّها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة، لبعدها عنهما". انتهى. وهو كلام وجيه للغاية، وهذا من أسباب وقوع الكسب والمال الحرام. ولما نقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"[5]، في كتاب تقصير الصلاة في (باب إذا لم يطق قاعداً صلّى على جنب): قول الإمام الخطابي: "لعلّ قوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين وكان به بواسير: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب. كان جواب فتيا استفتاها عمران، وإلا فليست علة البواسير بمانعة من القيام في الصلاة على ما فيها من الأذى". استدرك الحافظ على الخطابي بقوله: "ولا مانع من أن يسأل عن حكم ما لم يعلمه، لاحتمال أن يحتاج إليه فيما بعدُ" انتهى. وروى الإمام مالك في "الموطأ"[6]، في كتاب الطهارة في (باب الطهور للوضوء): "عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته". انتهى. وفيه إفادة النبي صلى الله عليه وسلم حُكم ما يُسأل عنه ولم يقع، لاحتمال وقوعه، وهو حلّ ميتة البحر.

وقال الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، في كتابه "الفقيه والمتفقه"[7] في (باب ذكر ما تعلق به من أنكر المجادلة، وإبطاله)، في آخر هذا الباب "ومباحٌ النظر والجدل فيما نزل وفيما لم ينزل، حتى يُعرف حكم ما لم ينزل، فإذا نزل عُمل به، وذهب قومٌ إلى كراهة القول فيما لم يكن، ومنعوا من ذلك، وتعلّقوا بما نحن ذاكروه إن شاء الله". ثم قال: (باب القول في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها)، وروى فيه كثيراً من الأحاديث والآثار الناهية عن السؤال عما لم يكن، ثم روى بسندٍ معضل من طريق "عمرو بن مرّة، قال: خرج عمر على الناس فقال: أحرِّج عليكم أن تسألونا عما لم يكن، فإنّ لنا فيما كان شُغلاً". ثم روى بسندٍ متصل فيه (ليث بن أبي سُليم الكوفي) من طريق نافع ومجاهد "عن ابن عمر قال: يا أيها الناس لا تسألوا عما لم يكن، فإنّ عمر كان يلعن أو يسُبُّ من سأل عما لم يكن". ثم أورد الخطيب جملةً من الأحاديث والآثار التي أوردها الحافظ ابن عبد البر، حتى كأنهما على اتفاق في إيرادها، ثم قال الخطيب[8]: "فهذا ما تعلّق به من منع من الكلام في الحوادث قبل نزولها، ونحن نجيب عنه بمشيئة الله وعونه: أما كراهية رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، فإنما كان ذلك إشفاقاً على أمته، ورأفةً بها، وتحنناً عليها، وتخوفاً أن يحرّم الله عند سؤال سائل أمراً كان مُباحاً قبل سؤاله، فيكون السؤال سبباً في حظر ما كان للأمة منفعة في إباحته، فتدخل بذلك المشقة عليهم والإضرار بهم. وهذا المعنى قد ارتفع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقرت أحكام الشريعة، فلا حاظر ولا مبيح بعده. ويدل على جواز السؤال عما لم يكن: الحديثُ الذي رواه عباية بن رفاعة، عن جده رافع بن خديج رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله إنا نخاف أن نلقى العدو غداً وليس معنا مُدىً، أفنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكُل، ما خلا السِّنّ، والظفر". فلم يعب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألة رافع عما لم ينزل به، لأنه قال: غداً، ولم يقل له: سألت عن شيء لم يكن بعد.

وكذلك الحديث الآخر الذي رواه يزيد بن سلمة، عن أبيه[9] أن رجلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت لو كان علينا أمراء يسألونا الحق، ويمنعونا حقنا، فنقاتلهم؟ فقام الأشعث بن قيس فقال: تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ لم يحدث بعدُ؟ فقال: لأسألنّه حتى يمنعني، فقال: يا رسول الله، أرأيت لو كان علينا أمراء يسألونا الحق، ويمنعونا حقنا، أنقاتلهم؟ قال: لا، عليكم ما حُملتم وعليهم ما حُملوا". – رواه مسلم في صحيحه[10] بنحو هذا اللفظ - . فلم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرجل عن مسألته، ولا أنكرها عليه، بل أجابه عنها من غير كراهة. وفي الآثار نظائر كثيرة لما ذكرناه. وأما تخريج عمر في السؤال عما لم يكن، ولعنه من فعل ذلك، فيحتمل أن يكون قصد به السؤال على سبيل التعنت والمغالطة، لا على سبيل التفقه وابتغاء الفائدة، ولهذا ضرب صبيغ بن عسلٍ ونفاه[11]، وحرمه رزقه وعطاءه، لّما سأل عن حروفٍ من مشكل القرآن، فخشي عمر أن يكون قصد بمسألته ضعفاء المسلمين في العلم، ليوقع في قلوبهم التشكيك والتضليل، بتحريف القرآن عن نهج التنزيل، وصرفه عن صواب القول فيه إلى فاسد التأويل.

وقد رُوي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما من الصحابة، أنهم تكلّموا في أحكام الحوادث قبل نزولها، وتناظروا في علم الفرائض، والمواريث، وتبعهم على هذه السبيل التابعون ومن بعدهم من فقهاء الأمصار، فكان ذلك إجماعاً منهم على أنه جائز غيرُ مكروه، ومباحٌ غير محظور". ثم أورد الحافظ الخطيب البغدادي كلاماً طويلاً في صفحات، للإمام المزني المتوفي سنة 264 وهو من كبار تلامذة الإمام الشافعي رضي الله عنهم. وقد مدحه الشافعي بقوة الحجّة فقال فيه: لو ناظر الشيطان لغلبه. قال الخطيب[12]: "ولأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المُزني كلامٌ مستقصى فيمن أنكر السؤال عما لم يكن، أنا أسوقه لما يتضمن من الفوائد الكثيرة والمنافع الغزيرة. قال المُزني رحمه الله تعالى: يقال لمن أنكر السؤال في البحث عما لم يكن: لم أنكرتم ذلك؟ فإن قالوا: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسألة، قيل: وكذلك كرهها بعد أن كانت تُرفع إليه، لما كره من افتراض الله الفرائض بمُساءلته وثقلها على أمّته، لرأفته بها وشفقته عليها، فقد ارتفع ذلك برفع رسول الله – أي موته - صلى الله عليه وسلم -، فلا فرض بعده يحدُث أبداً. وإن قالوا: لأن عمر أنكر السؤال عما لم يكن، قيل: فقد يحتمل إنكاره ذلك على وجه التعنت والمغالطة، لا على التفقه والفائدة، وقد رُوي أنه قال لابن عباس: سلني عما بدا لك، فإن كان عندنا وإلا سألنا عنه غيرنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما روي عن علي من إنكاره على ابن الكواء أن يسأل تعنتاً، وأمره أن يسأل تفقهاً. وقد رُوي عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم في الرجل يُخير امرأته، فقال عمر وابن مسعود: إن اختارت زوجها فلا شيء، وإن اختارت نفسها فواحدة، يملك الرجعة. وقال علي: إن اختارت زوجها فواحدة، يملك الرجعة، وإن اختارت نفسها فواحدة بائن. وقال زيد بن ثابت: إن اختارت نفسها فثلاثٌ، وإن اختارت زوجها فواحد بائن. فأجابوا جميعاً في أمرين أحدهما لم يكن، ولو كان الجواب فيما لم يكن مكروهاً لما أجابوا إلا فيما كان، ولسكتوا عما لم يكن.

وعن زيد أنه قال لعلي في المُكاتب: أكنتَ راجمه لو زنا؟ قال: لا، قال: أفكنت تقبلُ شهادته لو شهد؟ قال: لا، فقد سأله زيد، وأجابه عليٌّ فيما لم يكن، على التفقه والتفطن. وعن ابن مسعود في مُساءلته عبيدة السلماني: أرأيت أرأيت. وقد ذكرنا فيما مضى ما رُوي من قول عمر لابن عباس: سلني، ومن قول علي: سلُوني، وقول أبي الدرداء: ذاكروا هذه المسائل. ولو كان هذا السؤال لا يجوز إلا عما كان، لما تعرّض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جواباً لا يجوز أبداً إن شاء الله. ويقال لمن أنكر السؤال في البحث عما لم يكن: هل تخلو المسألة التي أنكرتم جوابها قبل أن تكون، من أن يكون لها حُكم خفيّ حتى لا يوصل إليه إلا بالنظر والاستنباط، أو لا يكون لها حكم. فإن لم يكن لها حكم، فلا وجه لذلك، وإن كان لها حكم لا يوصل إليه إلا بالمناظرة والاستنباط، فالتقدم بكشف الخفيّ ومعرفته وإعداده للمسألة قبل نزولها أولى، فإذا نزلت كان حكمها معروفاً، فوصل بذلك الحق إلى أهله، ومُنع به الظالم من ظلمه، وكان خيراً وأفضل من أن يتوقفوا إلى أن يصح النظرُ، في المسألة عند المناظرة، وقد يبطئ ذلك ويكونُ في التوقف ضررٌ يمنعُ الخصمَ من حقه، والفرج من حلّه، ويترك الظالم على ظلمه،...." انتهى كلام الخطيب البغدادي باختصار.

[1] 13: 348.

[2] 2: 163.

[3] 1: 195 و 1: 243.

[4] 1: 204.

[5] 2: 588.

[6] 1: 75 بشرح الزرقاني.

[7] 2: 7.

[8] 2: 9-12.

[9] كذا في المطبوعة من "الفقيه والمتفقه". والذي في "صحيح مسلم" 12: 236 و "تهذيب التهذيب" لابن حجر 4: 161 "عن علقمة بن وائل، عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا؟ فما تأمرنا...". قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب"، في ترجمة (سلمة ابن يزيد الجعفي): "ويقال: يزيد بن سلمة، والأول أصح، كوفي له صحبة. له ذكر في "صحيح مسلم" في حديث علقمة بن وائل، عن أبيه قال: سأل سلمة....". وذكر في (يزيد بن سلمة) 11: 333 الخلاف في اسمه، وقال: "ثم إن وائل بن حجر لم يرو عنه، وإنما حكى أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت..." انتهى.

والحيدث الذي رواه الترمذي في (أبواب الفتن) 3: 221، في (باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم) ولفظه: ".... عن علقمة بن وائل بن حجر، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم". انتهى.

[10] 12: 236.

[11] صبيغ بالصاد المهملة، بوزن سميع وعليم. ويقع في كثير من الكتب محرّفاً إلى (ضبيع) بالضاد المعجمة. وهو خطأ.

[12] 2: 15 – 16 من "الفقيه والمتفقه".

كراهية الإمام أحمد السؤال عما لا ينفع السائل

وتعرض الإمام الفقيه المحدث ابن مفلح الحنبلي تلميذ الحافظ ابن تيمية لهذا المبحث في كتابه النافع العظيم "الآداب الشرعية والمنح المرعية"[1]، فقال رحمه الله تعالى: وقال المروذي: قال أبو عبد الله – أحمد بن حنبل - : سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج، أمسلمون؟ فقلت له: أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟! وقال أيضاً: قال أبو عبد الله: سأل بشر بن السري سفيان الثوري عن أطفال المشركين؟ فصاح به! وقال: يا صبي أنت تسأل عن ذا؟! وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله، وسأله ابن الشافعي الذي ولي قضاء حلب، قال له: يا ابا عبد الله، ذراري المشركين أو المسلمين لا أدري أيهما سأل عنه؟ فصاح به أبو عبد الله! وقال له: هذه مسائل أهل الزيغ! ما لك ولهذه المسائل؟!

ونقل أحمد بن أصرم عن أحمد أنه سُئل عن مسألة في اللعان، فقال: سل رحمك الله عما ابتليت به. ونقل عنه أبو داود أنه سأله رجل عن مسألة، فقال له: دعنا من هذه المسائل المحدثة. وقال الأثرم: سمعت أحمد سُئل عن مسألة؟ قال: دعنا! ليت أنّا نُحسن ما جاء فيه الأثر. وقال مهنّا: سألتُ أحمد عن المريض في شهر رمضان يضعف عن الصوم؟ فقال: يُفطر، قلت: يأكل؟ قال: نعم، قلتُ: ويجامع امرأته؟ قال: لا أدري! فأعدت عليه، فحول وجهه عني. وقال أحمد بن حيّان القطيعي: دخلتُ على أبي عبد الله، فقلتُ: أتوضأ بماء النّورة؟ فقال: ما أحبُ ذلك – يعني به: لا يجوز – فقلت: أتوضأ بماء الباقلاء – أي القول - ؟ قال: ما أحب ذلك. قال: ثم قمت، فتعلق أبو عبد الله بثوبي وقال: أيش تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت! فقال أيش تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت! فقال: اذهب فتعلم هذا!

[1] 2: 76 – 79 في طبعة، و 2: 69 – 71 في طبعة.

كراهية السلف السؤال عما لم يقع وجوازه للمتفقهة

وروى أحمد من رواية ليثٍ عن طاوس عن ابن عمر، قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر ينهى أن يُسأل عما لم يكن. وروى أيضاً من رواية مُجالد عن عامر عن جابر، قال: ما أنزل البلاء إلا كثرةُ السؤال! وروى ذلك الخلاّل. وقد تضمن ذلك أنه يُكره عند أحمد السؤال عما لا ينفع السائل، ويترك ما ينفعه ويحتاجه، وأنّ العامي يسأل عما يتعلم به. وقال البيهقي في كتاب "المدخل": كره السلفُ السؤال عن المسألة قبل كونها، إذا لم يكن فيها كتاب ولا سنة، وإنما تعرف بالاجتهاد، لأنه إنما يباح للضرورة، ولا ضرورة قبل الواقعة، وقد يتغير اجتهاده عندها. واحتج البيهقي بحديث: "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". وقال طاوس عن عمر: لا يحلّ لكم أن تسألوا عما لم يكن، وقال ابن وهب: أخبرني الفتح بن بكر، عن عبد الرحمن بن شريح، أن عمر قال إياكم وهذه العضل – أي الدواهي المعضلة من المسائل - ، فإنها إذا أنزلت بعث الله لها من يقيمها أو يفسرها، وروي عن أبي نحو ذلك. وقال ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن الصّلت بن راشد، قال سألت طاوساً عن شيء فقال: أكان هذا؟ قلت: نعم، فحلّفني فحلفت له، فقال: إنّ أصحابنا حدثونا عن معاذ أنه قال: أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم ها هنا وها هنا، إنكم إن لم تعجلوا لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدّد أو قال وفق.

وقال البيهقي: وبلغني عن أبي عبد الله الحليمي أنه أباح ذلك للمتفقهة، ليرشدوا إلى طريق النظر والرأي. قال: وعلى ذلك وضع الفقهاء مسائل الاجتهاد، وأخبروا بآرائهم فيها". انتهى كلام الشيخ ابن مفلح الحنبلي.

توجيه النهي عن السؤال عما لم يقع في العهد النبوي

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "فتح الباري"[1]، في كتاب (الاعتصام بالكتاب والسنة) في (باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، عند حديث أبي هريرة المرفوع، وفيه: "إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" ما يلي: "قال ابن العربي: كان النهيُ عن السؤال في العهد النبوي، خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعدُ فقد أمن ذلك، لكن كثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع. قال: وإنه لمكوره إن لم يكن حراماً، إلا للعلماء، فإنهم فرّعوا ومهّدوا، فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم". انتهى ملخصاً.

[1] 13: 212 و 223 – 226.

شرط جواز تفريع المسائل للعالم

وينبغي أن يكون محلّ الكراهة للعالم، إذا شغله ذلك عما هو أهمّ منه. وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجرداً عما ينذر، ولا سيما في المختصرات، ليسهل تناوله، والله المستعان. وفي حديث أبي هريرة المذكور إشارةٌ إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلاً، عما لا يحتاج إليه في الحال، فكأنه قال: عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فاجعلوا اشتغالكم بها عوضاً عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع. فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله، ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به، ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العلميّات تشاغل بتصديقه واعتقاد حقِّيَّته، وإن كان من العمليات بذل وسعه في القيام به فعلاً وتركاً، فإن وجد وقتاً زائداً على ذلك، فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرف حكم ما سيقع، على قصد العمل أن لو وقع. فأما إن كانت الهمة مصروفة عند سماع الأمر والنهي، إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع، مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع، فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال.

خطأ بعضهم في فهم {لا تسألوا عن أشياء....}

وقد اشتد إنكار جماعة من الفقهاء على من استدل بقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]، على النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن. وممن اشتد إنكارهم على هذا الاستدلال القاضي أبو بكر ابن العربي، فقال: اعتقد قومٌ من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع، تعلقاً بهذه الآية، وليس كذلك، لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المساءة في جوابه. ومسائل النوازل ليست كذلك، انتهى. وهو كما قال، لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي. ويؤيده حديث سعد بن أبي وقاص الذي صدّر به البخاري الباب التالي: (باب ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه وقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم})[1]

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسئلته". فإنّ مثل ذلك قد أمن وقوعه. وأما ما ثبت من الأحاديث من أسئلة الصحابة، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك.

[1] والمراد بالأشياء: ما لا خير لهم فيه، من التكاليف الشاقة عليهم، والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، وكل يسوء، أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلأن السؤال عما لم يكلف به ربما سبباً في التكليف عقوبة، لخروجهم عن الأدب، وتركهم ما يليق بهم من التسليم لله تعالى من غير تعرض للكميات والكيفيات، كما يشير إليه حديث الحج – الآتي ذكره قريباً -، وإن لم يقع هذا النوع من العقوبة في هذه الشريعة السمحة. انتهى من تعليق الشيخ العلامة عبد الله دراز على كتاب "الموافقات" للشاطبي 4: 313. وحديث الحج هو ما رواه مسلم في "صحيحه" 9: 100 "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

توجيه النهي عن كثرة السؤال وذكر ما يكره السؤال عنه

وقد عقد الإمام الدارمي في أوائل "سننه" باباً في كراهة كثرة المسائل عما لم يقع، وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثاراً كثيرة في ذلك: منها عن ابن عمر: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن. وعن عمر: أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلاً. وعن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء، يقول: كان هذا؟ فإن قيل: لا، قال: دعوه حتى يكون. وعن أبي بن كعب، وعن عمار نحو ذلك. قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نصّ على قسمين:

أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب، لا مكروه، بل ربما كان فرضاً على من تعيّن عليه من المجتهدين.

ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع، مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلاً، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: "هلك المتنطعون"، أخرجه مسلم.

فرأوا أنّ فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جداً، فيصرف فيها زماناً كان صرفه في غيرها أولى، ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه. وأشد من ذلك في كثرة السؤال: البحث عن أمور مغيبة، ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهدٌ في عالم الحس، كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدة هذه الأمة، إلى أمثال ذلك، مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء. فيجب الإيمان به من غير بحث. وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، ومثال ذلك حديث أبي هريرة رفعه: "لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟"!.

ومثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع، بعد أن يفتى بالإذن: أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق: هل يُكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه؟ فيجيبه المفتي بالجواز. فإن عاد فقال: أخشى أن يكون من نهب أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج المفتي أن يجيبه بالمنع، ويقيد ذلك: إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى. ولو سكت السائل عن هذا التنطع، لم يزد المفتي على جوابه له بالجواز.

تفصيل الأحكام في شأن التعرض للمسائل

وإذا تقرر ذلك، فمن سدّ باب المسائل، حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقل فهمه وعلمه. ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها، ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف. ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصّل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلّت عليه كذلك، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها: فإنه الذي يحمد وينتفع به. وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم، حتى حدثت الطائفة الثانية، فعارضتها الطائفة الأولى، فكثر بينهم المراء والجدل، وتولدت البغضاء، وتسموا خصوماً وهم من أهل دينْ واحد. والواسط هو المعتدل من كل شيء، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم". فإن الاختلاف يجرّ إلى عدم الإنقياد.

وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم. وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة، والتشاغل به، فقد وقع الكلام في أيهما أولى؟ والإنصاف أن يقال: كلّ ما زاد على ما هو حق المكلف فرض عين، فالناس فيه على قسمين: من وجد في نفسه قوةً على الفهم والتحرير، فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه وتشاغله بالعبادة، لما فيه من النفع المتعدي. ومن وجد في نفسه قصوراً، فإقباله على العبادة أولى، لعسر اجتماع الأمرين. فإنّ الأول لو ترك العلم، لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه. والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة، فاته الأمران، لعدم حصول الأول له، ولإعراضه به عن الثاني، والله الموفق". انتهى كلام الحافظ ابن حجر ملخصاً.

تفسير آية: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}

تفسير آية:

{لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}

وبيان أنها لا تمنع السؤال للتفقه

قال الإمام أبو بكر الجصاص الرازي في كتابه "أحكام القرآن"[1]، عند تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم...}، ما يلي: "روى قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان قد احمرّ وجهه، فجلس على المنبر فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم، فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ فقال: في النار، فقام إليه آخر فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد نبياً، يا رسول الله، كنا حديثي عهد بجاهلية وشرك، والله تعالى يعلم من آباؤنا، فسكن غضبه ونزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم}. وروى إبراهيم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة أنها نزلت حين سُئل عن الحج: أفي كل عام؟ وعن أبي أمامة نحو ذلك، وروى عكرمة أنها نزلت في الرجل الذي قال: من أبي؟ وقال مقسم – نزلت – فيما سألت الأمم أنبياءهم من الآيات – أي: المعجزات - .

قال أبو بكر: ليس يمتنع تصحيح هذه الروايات كلها في سبب نزول الآية، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم، سأله عبد الله بن حذافة عن أبيه من هو؟ لأنه قد كان يتكلم في نسبه، وسأله كل واحد من الذين ذكر عنهم في هذه المسائل على اختلافها، فأنزل الله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء}، يعني عن مثلها، لأنه لم يكن بهم حاجةٌ إليها[2]. فأما عبد الله بن حذافة فقد كان نسبه من حذافة ثابتاً بالفراش، فلم يحتج إلى معرفة حقيقة كونه من ماء من هو منه، ولأنه كان لا يأمن أن يكون من ماء غيره، فيكشف عن أمرٍ قد ستره الله تعالى، ويهتك أمه، ويشين نفسه بلا طائل ولا فائدة له فيه، لأن نسبه حينئذٍ مع كونه من ماء غيره ثابت من حذافة، لأنه صاحب الفراش، فلذلك قالت له: لقد عققتني بسؤالك! فقال: لم تسكن نفسي إلا بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

فهذا من الأسئلة التي كان ضرر الجواب عنها عليه كان كثيراً لو صادف غير الظاهر، فكان منهياً عنه، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنّ من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله. وقال لهزّال – وكان أشار على ماعزٍ بالإقرار بالزنى - : لو سترته بثوبك كان خيراً لك!. وكذلك الرجل الذي قال: يا رسول الله، أين أنا؟ قد كان غنياً عن هذه المسألة، وأن يستر على نفسه في الدنيا، فهتك ستره، وقد كان الستر أولى به. وكذلك المسألة عن الآيات مع ظهور ما ظهر من المعجزات منهيّ عنها، غير سائغ لأحد، لأن معجزات الأنبياء لا يجوز أن تكون تبعاً لأهواء الكفار وشهواتهم. فهذا النحو في المسائل مستقبحة مكروهة. وأما سؤال الحج في كل عام، فقد كان على سامع آية الحجّ الاكتفاء بموجب حكمها من إيجابها حجة واحدة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها حجة واحدة، ولو قلت: نعم لوجبت، فأخبر أنه لو قال: نعم لوجبت بقوله دون الآية، فلم يكن به حاجة إلى المسألة، مع إمكان الاجتزاء بحكم الآية.

وقد احتجّ بهذه الآية قومٌ في حظر المسألة عن أحكام الحوادث، واحتجوا أيضاً بما رواه الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يكن حراماً، فحرّم من أجل مسألته. قال أبو بكر: ليس في الآية دلالةٌ على حظر المسألة عن أحكام الحوادث، لأنه إنما قصد بها إلى النهي عن المسألة عن أشياء أخفاها الله تعالى عنهم واستأثر بعلمها، وهم غير محتاجين إليها، بل عليهم فيها ضرر إن أبديت لهم كحقائق الأنساب، لأنه قال: الولدُ للفراش، فلما سأله عبد الله بن حذافة عن حقيقة خلْقه، من ماء من هو؟ دون ما حكم الله تعالى به من نسبته إلى الفراش، نهاه اللهعن ذلك. وكذلك الرجل الذي قال: أين أنا؟ لم يكن به حاجة إلى كشف غيبه في كونه من أهل النار، وكسؤال آيات الأنبياء. وفي فحوى الآية دلالةٌ على أن الحظر تعلّق بما وصفنا.

وقوله تعالى: {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}، يعني الآيات التي سألوها الأنبياء عليهم السلام فأعطاهم الله إياها، وهذا تصديق تأويل مقسم. فأما السؤال عن أحكام غير منصوصة فلم يدخل في حظر الآية، والدليل عليه: أن ناجية بن جندب لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معه البدن لينحرها بمكة، قال: كيف أصنع بما عطب منها؟ فقال: انحرها واصبغ نعلها بدمها، واضرب بها صفحتها، وخلّ بينها وبين الناس، ولا تأكل أنت ولا أحدٌ من أهل رفقتك شيئاً، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله. وفي حديث رافع بن خديج أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أنّا لاقو العدو غداً، وليس معنا مدىً، فلم ينكره عليه. وفي حديث يعلى بن أمية في الرجل الذي سأله عما يصنع في عمرته، فلم ينكره عليه. وأحاديث كثيرة في سؤال قوم سألوه عن أحكام شرائع الدين فيما ليس بمنصوص عليه غير محظور على أحد[3]. وروى شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: قلت يا رسول الله، إني أريد أن أسألك عن أمرٍ ويمنعني مكان هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء}، فقال: ما هو؟ قلت: العمل الذي يدخلني الجنة، قال: قد سألت عظيماً، وإنه ليسير: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان. فلم يمنعه السؤال ولم ينكره.

وذكر محمد بن سيرين، عن الأحنف، عن عمر، قال: تفقهوا قبل أن تسوَّدوا. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون في المسجد يتذاكرون حوادث المسائل في الأحكام. وعلى هذا المنهاج جرى أمر التابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا. وقوله تعالى: {إن تبد لكم تسؤكم} معناه: إن تظهر لكم، وهذا يدلّ على أن مراده فيمن سأل مثل سؤال عبد الله بن حذافة، والرجل الذي قال: أين أنا؟ لأنّ إظهار أحكام الحوادث لا يسوء السائلين، لأنهم إنما يسألون عنها ليعلموا أحكام الله تعالى فيها. ثم قال الله تعالى: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم}، يعني في حال نزل الملك وتلاوته القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله يظهرها لكم، وذلك مما يسوءكم ويضركم. وقوله تعالى: {عفا الله عنها قد سألها قومٌ من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}، قال ابن عباس: قوم عيسى عليه السلام، سألوا المائدة، ثم كفروا بها. وقال غيره: قوم صالح، سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها. وقال السدي: هذا حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول لهم الصفا ذهباً. وقيل: إنّ قوماً سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء التي سألها عبد الله بن حذافة، ومن قال: أين أنا؟ فلما أخبرهم به نبيهم ساءهم فكذبوا به وكفروا". انتهى[4].

[1] 2: 483.

[2] قلت: وكان عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أحد العقلاء النبلاء والمجاهدين الصناديد الشجعان من الصحابة الكرام، فأراد من سؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على رؤوس الأشهاد في الجمع الحافل عن أبيه، قطع دابر القالة التي يوسوس بها الشيطان على لسان بعض الأفراد، فلما أجابه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: أبوك حذافة، ماتت القالة وانقطع دابرها. وإليك كلمةً في ترجمة عبد الله بن حذافة، لتعرف من هو رضي الله عنه. هو أن حذافة أو أبو حذيفة عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي القرشي السهمي. وأمه بنت حرثان من بني الحارث بن عبد مناة من السابقين الأولين. أسلم عبد الله قديماً، وكان من المهاجرين الأولين، هاجر إلى ارض الحبشة الهجرة الثانية مع أخيه قيس بن حذافة، ويقال: إنه شهد بدراً، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على بعض البعوث، كان فيه فطانة وحصافة ودعابة، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه رسولاً وسفيراً إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، فمزّق كسرى الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مزّق ملكه، وقال: إذا مات كسرى فلا كسرى بعده، فسلّط الله على كسرى ابنه شيرويه، فقتله ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى سنة سبع. وحديث سؤاله: (من أبي؟) رواه أنس رضي الله عنه. قال أنس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس، فصلّى الظهر، فلما سلّم قام على المنبر فقال: من أحبّ أن يسأل عن شيء فليسألني عنه، فوالله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمتُ في مقامي هذا، فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة بن قيس. فقالت له أمه – بعد أن رجع من مجلس الرسول إلى البيت - : ما سمعت بابن قط أعقّ منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟! فقال لها عبد الله: والله لو ألحقني رسول الله بعبدٍ أسود للحقت به. رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم. وفهمت من قوله: (لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقت به) أنه كان أبيض اللون، لأن المراد من كلمته هذه أنه لو نسبني إلى نقيض ما أنا عليه، وما لا أنسب إليه، لانتسبت. ووجّه عمر جيشاً إلى الروم سنة 19، وفيهم عبد الله بن حذافة، فأسرته الروم في بعض المعارك، فأرادوه على الكفر فأبى، فقال له ملك الروم: تنصّر أشركك في ملكي، فأبى، فأمر به فصلب وأمر برميه بالسهام فلم يجزع، فأنزل وأمر بقدر فصب فيها الماء وأُغلي عليه، وأمر بإلقاء أسير فيها، فإذا عظامه تلوح، فأمر بإلقائه إن لم يتنصر، فلما ذهبوا به بكى. قال الملك: ردوه، فقال: لم بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مئة نفس تلقى هكذا في الله، فعجب فقال: قبل رأسي وأطلقك، قال: لا، قال: قبل رأسي وأطلقك ومن معك من المسلمين، فقبل رأسه، ففعل وأطلق معه ثمانين أسيراً، فقدم بهم على عمر، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله، وأنا أبدأ ففعلوا. وشهد عبد الله بن حذافة فتح مصر، ودفن في مقبرتها في خلافة عثمان رضي الله عنهما. ومن دُعابته ما حكاه عبد الله بن وهب، عن الليث بن سعد، قال: بلغني أن عبد الله بن حذافة حلّ حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع، قال ابن وهب فقلت لليث: ليضحكه؟ قال: نعم، كانت فيه دعابة.

[3] هكذا وقع في المطبوعة من "أحكام القرآن".

[4] وقد تعرّض الحافظ ابن حجر لتسمية أصحاب هذه الأسئلة في "فتح الباري" 13: 269 – 270، في كتاب الاعتصام في (باب ما يكره من كثرة السؤال).

خلاصة ونتيجة

قال عبد الفتاح: وبهذا الذي أسلفته من النقول النفيسة، تبين لنا أن كلام سيدنا عمر رضي الله عنه ليس على ظاهره، وأنّ العلماء قديماً وقفوا عنده وتبينوا المراد منه، وأوفوا هذا الموضوع حقه من البحث والنظر والتوجيه، وهم كانوا أعلم وأنبه ممن جاء بعدهم[1]، فجزاهم الله عنا خيراً وأحسن إليهم خير إحسان. وبهذا الذي أسلفته أيضاً يتبدّى لنا أن كثيراً من الجمل، جاءت في كلام السلف، وكانت معها قرائن تعين المراد منها عند المخاطبين بها، وتجعلها واضحة المعنى لا لبس فيها ولا غموض، ثم نقلت تلك الجمل إلينا دون القرائن التي صاحبت صدورها، فغمض معناها، واستبهم فهمها، واستنكر قبولها وصدورها عن قائليها، وما كان ذلك إلا لفقدها المقام الذي قيلت فيه. وما يكشف هذا ويجلّيه على وجهه السديد، إلا العلماء الأفذاذ، الذين فقهوا الشريعة، وخبروا السنة والآثار وكلام السلف، فعرفوا من طول تفقههم بالشريعة، وممارستهم للنصوص: مراد القائل في مثل هذه الجمل، استناداً منهم على فقه الشريعة التي نهل منها السالف قبل الخالف، فتوحدت فيهما جميعاً المفاهيم والمدارك ومقاييس الأحكام. وهذه فائدة نفيسة عزيزة، فلتكن منها على ذكر دائماً، تنتفع بها في مواضع كثيرة من العلم، والله يتولانا وإياك بسداد العلم والعمل، ورشاد الفهم والتوفيق.

[1] وأستحسن أن أورد هنا بعض الكلمات التي جاءت في هذا المعنى عن السلف، المشهود لهم بالعلم والخير والدين، لتكشف غرور المغترين في أيامنا، ولتهتك دعوى المدعين، المصابين بالانتفاخ والتعاليم وتجهيل السلف الصالحين!. قال حماد بن زيد: قيل لأيوب السّختياني – أحد التابعين المحدثين والفقهاء النبلاء - : العلم اليوم أكثر أم أقل؟ قال: الكلام اليوم أكثر، والعلم كان قبل اليوم أكثر. من كتاب "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان الفسوي 2: 232. وقال مجاهد بن جبر، التابعي الكبير، وشيخ العلم بالتفسير: ذهب العلماء! فلم يبق إلا المتعلمون، وما المجتهد فيكم اليوم، إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم! من "التاريخ الكبير" لابن أبي خيثمة. وقال التابعي الجليل أبو عمرو بن العلاء، أحدُ القراء السبعة، وأعلم أهل عصره بالقرآن الكريم والقراءات: ما نحن فيمن مضى، إلا كبقلٍ في أصول نخل طوال. من "كتاب السبعة في القراءات" لابن مجاهد ص 48، ومن "موضح أوهام الجمع والتفريق" للخطيب البغدادي: 1: 5، ومن ترجمته في "نزهة الألباء في طبقات الأدباء" لابن الأنباري ص 26. وقال التابعي الجليل بلال بن سعد الأشعري الدمشقي أحدُ الفضلاء العباد، والثقات الزهاد: زاهدكم راغب، ومجتهدكم مقصّر، وعالمكم جاهل، وجاهلكم مغتر. من كتاب "الزهد" لعبد الله بن المبارك، ص 60. فإذا كانت هذه أقوال طائفة من كبار علماء التابعين عن أنفسهم، قبل ثلاثة عشر قرناً، فماذا يقال اليوم؟! ورحم الله تعالى الإمام الشعبي علاّمة التابعين إذ يقول: العلم ثلاثة أشبار، فمن نال منه شبراً شمخ بأنفه وظنّ أنه ناله! ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله. وأما الشبر الثالث فهيهات! لا يناله أحدٌ أبداً! من كتاب "أدب الدنيا والدين" للماوردي ص 8.