معاً نحمي العراق

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
معاً نحمي العراق


بقلم : محمد أحمد الراشد

أليس التفكير بصوتٍ عالٍ وصيةُ كلِّ حكيم؟

أوَ ليسَ الهمسُ؛ في ركنٍ؛ وعلى انزواء: يكشف المغزى، ويوضح الحل؟ ثمَّ صياح المكلوم، واستنجاد المصدوم:فيهما تشجيع أصحاب الكفاية على أنْ يقطعوا استرسالهم مع الراحة، فيشمروا عن السواعد، وتكون منهم تلبية ونزول إلى الساحة ويبذلوا النجدات ويحاولوا إبراد الحروق؟!

فتأسيساً على هذه الحقائق يليقُ لنا أنْ نتبادل الرؤى سويعةً لنفحصَ محيطنا، ونحدد الواجب على كلٍّ منا، لنخطو خطوات منهجية كما يريدها دعاة التخطيط، بعيدةً عن الارتجال.

وتحليلُ أنماط"حركة الحياة"ينفعُ كثيراً في تسهيل الوصول إلى اكتشاف هذه المنهجية في العمل الإصلاحي وإجابة المستنجد، وإذا عرفنا أجزاء من سلوك النفس وآثار الأخلاق وطبائع ردود الأفعال فإنَّ الحل يوشك أنْ يتم وضوحه.

ومع أول هذه الطريقة التحليلية تنتصب أمامنا ملاحظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين يقول:(لا يقلُّ مع الإصلاح شيء، ولا يبقى مع الفساد شيء)، وهذا قانونٌ مطرد هو في القضايا الشخصية صحيح، ثمَّ هو في سياسة المجتمع والدولة أصح، لأنَّ الإصلاح ترسخهُ النية الصالحة التي تسبقهُ ثمَّ تقترن بهِ، وتزيدهُ ثباتاً عناصر التوافق مع الفطرة والتلاؤم مع المقاييس التي خلق الله الكون عليها، تبعاً لاعتمادهِ على الأحكام الشرعية، لذلك يؤذن لهُ أنْ يستمر، وأنْ يكثر، وأنْ يبقى أساساً لإضافة في البناء تأتي فوقهُ، لكنَّ الفساد يستلزم معاكسةً وشذوذاً عن قانون الخلائقِ وإزعاجاً للأنفس الساكنة، فهو بذلك قريبُ الزوال.

والفحص الواقعي يرينا صدق هذه الظاهرة في جميع حِقب التاريخ، ومن هو شيخٌ منا اليوم أسرع إدراكاً لصدقها في أكثر زوايا العالم الإسلامي، فحين عاش الشيخُ منا أيام شبابهِ قبل نصف قرن كانت تحيطهُ أحزابٌ غوغائية؛ وتوجهاتٌ هدمية، أصدق أوصافها أنها جزء من الفساد، لكن الأيام أذابتها، وتعيش فلولها مع مجرد الذكريات اليوم، ولكنَّ إصلاحاً إيمانياً ضامراً برز في ذاك الزمن كطارئ وليدٍ ضعيف: نما، وبارك الله فيه، واستقبله أصحاب القلوب السليمة بترحاب، فإذا هو به اليوم تيار إصلاحي عريض، هو أمل الأمة إذا فتشَ صالحوها عن منابع الآمال، وساحة العراق تتجلى فيها هذه الظاهرة لمن يُراقب، وهي اليوم قد كثرتْ فيها التوترات والآلام إلا أنَّ جميع مؤشرات التطور السياسي والاجتماعي العراقي تشير إلى أنَّ العراق يعيشُ المشهد الأخير لانتفاضاتِ الفساد والاعوجاج قبل أنْ يستسلم لعصبة الإصلاح التي تراكمت إيجابياتها وأصبحت على مشارفِ الوصولِ إلى عهدٍ يتعاملُ فيه الناسُ وفق قواعد الإيمان.

وقد سُئلَ بعض الأذكياء عن العقل فقال:(معرفةُ ما لم يكن بما كان)، وقال أبو حازم-الزاهد التابعي-:(العقل: التجارب)...

وهذا الذي نقولهُ-أو ما سنقولهُ-كلهُ يستند إلى هذه التجارب الجماعية، وبمثل هذا القياس في استنباط ما سيكون عبر المقارنةِ بما كان: اطمأنت قلوبنا إلى وجود تلك الآمال، وغذتنا خلال المسيرة عقوداً، ثمَّ ملأت قلوبنا اليوم ثقةً نرى فيها مستقبل العراق وضيئاً مُنيراً مع استمرار استيلاء بقية الظلام، مستدلين بأنها أواخرهُ.

ومثل هذه الرؤية المستبشرة لو تركناها لِتَناجي العاطلين الفرديين الذين يتجمهرون معاً لترويج اليأس لكانت قد استحالت إلى حُزنٍ وقنوط، ولكنَّ مماشاة علماء الشرع وقادة الدعوة الإسلامية أكسبتنا هذا الانشراح، ومنحتنا هذا التفاؤل، بما عرفوا من موازين الشرع وحكايات القرآن عن الأمم السالفة، فوضح لهم أنَّ بعدَ عسرٍ يُسراً، وأنَّ بعدَ كل فوضوية رجوع إلى المنهجية، وحالُنا هو حال قبيلةٍ عرفَ الناسُ عنها الصواب والعزائم والإصلاح، فسألهم السائل عنْ سرِ ذلك فقال:(نحنُ ألفٌ، وفينا واحدٌ حازم، ونحنُ نشاورهُ ونطيعهُ... فصرنا ألفَ حازم).

فحاضر العراق السياسي والفكري يظهر بوضوح وجود جيل مخضرم مُجرب، قولهُ هو القول العتيق، ونظرهُ يمزج بين دلائل الفقه ومفاد التاريخ، فكانَ لهُ من ذلك سببُ يقينٍ بأنَّ الحلَ الإسلامي هو الحل الوحيد لكلِّ مشاكل الحياة، وطفق يؤذن في الناس ويصدع فاستجابت لهُ أجيال الصاعدين من شباب الصحوة الإسلامية، وبذلك تطوَّر المخضرم الواعي إلى ألفٍ، ولأنَّ المخضرمين القادة ألفٌ: صارت كتلة الوعاةِ تُقاسُ بالمليون لا بالآلاف، وأصبحت طريقة الاستبشار هي طريقة العمل الصحيح، وبموجبها تسلك الدعوة الإسلامية العراقية اليوم مسالكها، واتخذها"الحزب الإسلامي العراقي"لهُ ديدناً وميثاقاً وقانوناً، يريد أنْ يعطي شعب العراق أدبارهم للعبوس والغموض والتعكير والتربص وأسواء الظنون، فاتحاً بذلك أبواب التصافح والإخاء والبناء والرفل بسكينة القلوب، والحزمُ الذي جعلتهُ الشورى عنوان قبيلة خيرية هو نفسه يتوالد لتتفرعَ منه عناصر الوعي والتخطيط والانتظام والتسامح والوسطية والواقعية، لتكون القبيلة الدعوية عبرَ الشورى والتربية كتلةً واسعة ضخمة في المجتمع تتمثل فيها جميع هذه الخيريات والإيجابيات، ثمَّ لتحتل بشجاعة مكان الريادة والقيادة والإمامة في الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، كابتةً وبشدة الصيحات النشاز وكلَّ حنجرةٍ لها حشرجةٌ وأنفٍ لهُ شخير، وتكاد الدعوة أنْ تكسب نصف معركتها من خلال هذا الانحياز الشجاع للحلم والحوار وتغليب البشائر، تاركةً من اختار التشاؤم ينعزل وتستهلكهُ توتراته، وتلك هي أجلى صور الملاحظة العُمَرية الفاروقية حين بذل لنا التهاني بكثرة الإصلاح وإنْ قلّ، وزوال الفساد وإنْ مدّ لهُ جذراً، والتي تكثف فيها المغزى عبر التحليل وصار نمط البداية النفسية في العملية السياسية هو المؤشر على نهايتها ضموراً أو نجاحاً.

حاجة الدعوة إلى"سُكّر زيادة"

والحوار بين الدعاة حول حاضر الدعوة ومستقبلها: هو دوماً من الضرورات، وأقل منازله أنهُ عرف صحيح بين صالح المؤمنين، وحين تتصادم الرؤى المتعاكسة في الأنفس الدعوية وتكاد تحشرج الأرواح أمام ضغط التحديات واختلاف المذاهب الخططية وتنوع الأذواق القيادية: تكون مباحث فقه الدعوة وهمسات تناجي الخير… المخرج الأوسع، ومورد السكينة، وسبب الطمأنينة، وهو ما كان صاحب الشأن يفعله ويقول:

وأبثـثتُ عَمراً بعضَ مــــا في جــوانحي

وجـرّعــــــــته من مُرّ مــــا أتجرعُ

ولا بدَّ من شكوى إلى ذي حـــفيظةٍ

إذا جَعَـــــلتْ أسرار نفسٍ تطلعُ

وهي لبشار، يروي شأنه المنحرف، والسوي المستقيم أولى بهذا المنحى منه، فمن زوايا هذا التجرع المرّ يكون الإبداع وتستبين الحلول، ومن ثنايا قنوات أسرار النفس إذ هي تعلو صُعداً: تتكامل قواعد التعامل مع الموقف، فأول المتناجين يقترح سلوكاً، فيضع الثاني شرطاً، فيعود الأول يذكر مقدمة تمهد، وينتبه لمعنى ملازم قرين، ويكتشف الآخر ضرورة خطوة تالية لاحقة، فيكون التصرف نسقاً تاماً.

هكذا تتحرك الدعوة بحركة عقول حملتها، ولن يأبه أهل الجد خلال ذلك لفضولي يجنح بالتناجي الإبداعي إلى زاوية يريد فيها أن يوسوس بتخذيل سلبي، والطرائق الإيجابية هي أعمر دوماً، وأصدق، وأنفذ، والنفوس السوية غالبة أبداً.

وما مال صاحب المنظار الأسود إلى مواقف الأحزان واللبث مع هفوةٍ هفاها داعيةٌ بحكم بشريته إلا ونحتت السوداوية من همته واتزانهِ وأخلاقه، ويستمر النحتُ حتى يصيرَ عاطلاً، ولربما انعكس حالهُ على أهلهِ وعيالهِ فيكون بينهم مكروهاً، ويظل يفتاتُ على حقوق نفسه وفطرته الزكية إلى درجة تغزوه فيه الوساوس فينتابه القلق والتوزع وتهبط معنويتهُ، فيكون أقل من أنْ يجد له محلاً في المجموعة الإصلاحية، بل وقد يستروح آنذاك لمقولاتٍ تثبيطية تُسرع إلى لسانهِ فتكون العقوبة لهُ مزيداً من الشكوك ومعيشةً على هامش الحياة، لا ينفع صديقاً ولا ينكأ عدواً.

لكن بإزائهِ عادل أطربت قلبَهُ نسائم الثقة فصارَ عضيداً للمصلح يشجعهُ ويسندُ ظهره، ويخلف المجاهد في أهلهِ، ويفخر بكلمةٍ طيبةٍ يفوهُ بها شابٌ جديدٌ فينميها وُيربيها ويضيف لها قصةً تجريبية ويجعلها موعظةً رائجة.

ومثل هذا الواثق المبتسم في وجه الصاعدين هو المؤهل لأن ينكر على القادة، وهو الذي يعنيهِ إمام السُنة المُبجل أحمد بن حنبل حين قال:(لا نزالُ بخيرٍ ما كان في الناس من ينكر علينا)، فالمنهجية التربوية الإيمانية ترحب بنزعة التدقيق في أوساط الدعاة والفقهاء، وتجعل ذلك علامة خير إيجابية، وأما حرص الشيخ والقائد على أنْ يكون من الصاعد الاستسلام فحريٌ أنْ يصنف في السلبيات وأنْ يُسمى: الطريق المسدود، وليس أحدٌ من رجال الدعوة يستطيع احتكار الصواب، وإنكار الخطأ واجب، ولكن ينبغي أنْ ينظر الناظر مثل بيئة أحمد ومن كانَ فيها من الأطهار والشجعان وأصحاب الدين المتين الذين كان يرجو من أحدهم أنْ ينصحهُ ويُصوبهُ إذا بدرت فلته، وقد قالها رحمه الله تأسيساً لمبدأ وإقراراً بحق يخاطب بها إقراناً رباهم الإيمان، لذلك لم يتعرض لقول يؤذيه أو إنكار انتظره، لوفور ما ذكرناه من أخلاق البشارة، وبذلك صار الطريق مقفلاً أمام ناقد معاصر يأخذ الحق لنفسهِ بموجب هذا التخويل ثمَّ يبرأ من مستلزمات المروءةِ التي تحلى بها جيل أحمد، وآية ذلك أنَّ هذا النمط صار مفهوماً عاماً عند الأجيال القديمة حتى صاغهُ محمود الورّاق-الشاعر-بنداً من الحكمة في بيتين فقال:

أخو البِشر محمودٌ على كلّ حــــالةٍ

ولم يعدِم البغضاءَ من كانَ عابسا

ويُسرع بخـل المـرء في هتك عـرضهِ

ولمْ أرَ مثلَ الجودِ للعِرضِ حــــارسا

وكان أحمد بن حنبل يستظرف هذا البشر، مع أنهُ كان يعيش عيشة الجد والعمل الدائب والمبالغة في الزهد، وقد سُئل عن إسماعيل بن زكريا فقال:(ليس بهِ بأس، إلا أنهُ ليسَ لهُ حلاوة).

وهي الحلاوة عند الحكماء؛ والظرفاء؛ والوسطيين؛ والشموليين؛ وأهل التفاؤل؛ والطموح؛ والنظر الواقعي، فلسنا نريد الثقة فقط، بل نريد الحلو الذي هو طيب، الذي إنْ جالسته أحاطك بحسن الظنّ وآنسك وأنساك الآلام ومرارات الأيام.

وفي مثل المرحلة الحرجة التي يمرُ بها العراق تحت الاحتلال الأميركي والانفلات الأمني بعد عصر من الظلم: تزداد حاجة الناس إلى هذه الحلاوة، وطريقتها أنْ يمثلها دعاةٌ يحسُ منهم الجليس طعم السكر فعلاً، وخطط حلوةٌ تعتمد الحُسنى والإغاثة والتنمية، ومواقفُ تضمُ الشمل وتجمع المتفرق وتعفو عن مسيء تورط أمسُ وجاءنا تائباً، وليس ينفع عند منعطف اليوم قانون اجتثاث وعقاب جزافي، كما لا تنفعنا معلقات سبِ الظلم.

التودّد يمنع التنهّد

وإنما ينفعنا ترويج الصداقة، ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل الحنبلي أنه قال في كتاب الفنون:(الذي ينبغي أنْ يكون حد الصداقة: اكتساب نفس إلى نفسك، وروح إلى روحك. وهذا الحـد يريحك عن طلب ما ليس في الوجود حصوله، لأنَّ نفسك الأصلية لا تعطيك محض النفع الذي لا يشوبه إضرار).

وأرجعَ ذلك إلى تغاير الأمزجة، فالمزاج عندهُ:

(إن استقام بالعقل: ترنحَّ بالهوى…

وإنْ خشعَ بالموعظة: قسا بالغرور…

وإنْ لطُفَ بالفِكْر: غلظ بالغفلة…

وإنْ سخا بالرجاء: بخل بالقنوط…

فإذا كانت الخلال في الشخص الواحد بهذه المشاكلة من التنافر: كيف يُطلب من الشخصين المتغايرين بالخلقة والأخلاق: الاتفاق والائتلاف؟

فإذا ثبتت هذه القاعدة أفادت شيئين: إقامة الأعذار، وحسن التأويل الحافظ للمودات).

بمعنى أنْ تلتمس لأخيك الأعذار إذا بدر منهُ ما يؤذيك، وأنْ تتأول لهُ على أحسن وجوه التأويل، وتلجأ إلى: لعلَّ…وربما.

وهذه القاعدة في الصداقة والتعاون نرشحها أنْ تكون الأساس الشرعي والعاطفي الذي يبنى عليه حلفٌ عريض بين الأحزاب العراقية والتوجهات والتكتلات والجمعيات لتحقق جميعاً الوحدة العراقية بين أبناء الشعب، بما يكفل استثمار العطاء الحضاري القديم ودفعهِ إلى أنْ يؤدي دوراً قيادياً جديداً في الأمة الإسلامية وفي مسيرة المعرفة الإنسانية، والمفروض أنْ يبادر أهل الفكر السياسي إلى تدوين واسع لتفاصيل هذه الأعذار والتأويلات، لتساهم في إبعاد هاجس"الحرب الأهلية"الذي أرهق أذهان المخلصين تخوفاً من سوء العقبى والمنقلب، وجرها إلى قطيعةٍ طويلة سوف لا ترحم ولا تراعي تشابك العلاقات الاجتماعية السلمية السائرة على سجيتها منذ قرون طويلة.

إنَّ موعظة ابن عقيل عقلانية حقاً، فإنَّ المزاج تـُقومهُ التربية المنطقية دهراً حتى يعتدل ويستقيم فتأتيهِ أهويةٌ مفاجئةٌ تعصفُ بهِ إذا صاح عدوٌ صيحة التفريق، وهو إنْ خشع بالموعظة وأخبت ومالَ إلى تسهيلٍ: أتتهُ موجة غرور طارئة فَتُسلمهُ إلى خشونة، وهو إنْ راق بالفكر وأحيط بالمحبة وتأسيس المودات معرض إلى أنْ تجتاحهُ غفلة فيكثف الحجاب، ثمَّ هو إنْ دفع به الرجاء إلى اقتحامٍ وإسراعٍ في دروب الخير نكصَ بهِ القنوط إذا همست في الأذن نبرة يائسٍ شحيح.

طموح الأنفس القانعة: يُحرك الحياة القابعة

وما هذه الملاحظات مجرد خواطر وحدوي عاطفي، ولكنها لمنْ أمعنَ النظر وتأمل: تقريرات خططية تمزج فقه الأحكام الشرعية بالحقائق الإيمانية ثمَّ بمفاد الواقع، لتصبح طريقةً في استيعاب حركة الحياة وفهمها، وهي إلى الفلسفة أقرب، ويجدر أنْ يضعها قادة"الحزب الإسلامي العراقي"كميثاق بينهم وبين أنصارهم ومؤيديهم وكل أحرار العراق الذين ينوون المساهمة في عملية الإصلاح والاستدراك على الافتراق، ثمَّ هي أيضاً نظام لتحديد العلاقة بين كل مجموعة قيادية دعوية وأتباعها في أنحاء الأرض، وفي كلّ جيلٍ.

وبهذا النظام تتضح واجبات الأتباع في إجابة نداء القادة، والإسراع إلى الانضمام معهم وفي أحزابهم وحركاتهم وجمعياتهم، ووضع طاقاتهم وأموالهم تحت تصرف الخطة الدعوية، وأخذ النداء مأخذ الجد، والالتزام بمفاد الظرف، والتصدي لسد ثغرة من ثغرات العمل، والاستعداد لكفاية مرفق، والوقوف عند ثنية ومنعطف، والتجول في عرصة إيمانية، حراسة وتثبيتاً لمن فيها وإعلاناً لملكيتها، وإنْ يكون كل ذلك بمبادرة ذاتية من الأتباع، واستجابةً للنداء العام دون تخصيص يتحرج القيادي من اللجوء إليه، وبلا دق للأبواب واستعمال للهواتف وتوسيط رُسل يتحركون بالشفاعة الحسنة بين رعاة الخطة الإسلامية الدعوية وبين رجال الإحسان والغيرة والنجدة.

ويشرح ذلك: الفهم المُجتَمِع عند فقهاء الدعوة، والذي به يرون أنَّ أصل المحور الذي تدور عليه حركات الحياة إنما هو حالة النفس لرجلٍ وضعتهُ الأسباب في موضع التأثير إذا انتفض وأراد وصمم وأتيح لهُ أنْ يطبع طبعة الإيجاب على الأحداث ويضع ختمه إذا أذن الله تعالى، أو العكس: إنْ جبن أو انغلق وأحجم وهابَ واستبدَّ به يأس وأذهلتهُ زحمة السلب، فمن عزمات النفوس يبدأ الصعود، وعند قلقها تترى النكسات، وهي قوانين حيوية يكتشفها صُناع الحياة على السَجية، فيفيق من تأملٍ فإذا هو يرفل بثقة النفس والانشراح، فيَشرع يُبشر أصحابهُ بما يشعر من سموٍ في قناعة، وإقدام في وعي، واقتحام في ريث، كأنهُ يملك ما هنالك وبيدهِ الزمام، كذاك الذي تحدث عنه ابن عقيل الحنبلي حين قال:

(جرى مجلسُ مذاكرة، فقال قائل:

إني لا أجدُ في نفسي ضيقاً وإنْ قصرت يدي، بل طِيب النفس، كأني صاحب ذخيرة!!

فقال رئيسٌ فاضلٌ قد جرّب الدهرَ وحنكتهُ التجارب:

هذه صفة رجل إما قد أعدت لهُ الأيام سعادةً شعرت نفسهُ بها، لأنَّ في النفوس الشريفة ما يُشعر بالأمرِ قبل كونهِ. أو يكون ذلك ثقةً باللهِ لكلِ حادث، لعلمهِ أنهُ من عندِ حكيمٍ لا يضعُ الشيء إلا في موضعهِ، فيستريح من تعب الاعتراض وعذاب التمني.

قال:وبالضدِ من هذا إذا كانَ باكياً شاكياً حزيناً لا لسبب، بل نعم الله عليهِ جَمة، فذلك شعورُ النفسِ بما يؤول حالهُ إليهِ).

ثمَّ نقلَ عن قدماء المشايخ أنهم كانوا يقولون:

(لا بدَّ من أنْ يكون مقدمة النحس وزوال السعادة: كسوف البال؛ وتكاثف الهمّ؛ وضيق الصدر؛ وتغير الأخلاق).

والشاهدُ في ذلك تحليل هذا الرئيس الفاضل ثمَّ المشايخ القدماء، وهو تفسيرٌ مقبولٌ وصوابٌ تعضدهُ تواريخ الرجال ومآلات من ابتدأ بحزمٍ وهو فقيرٌ فردٌ فوَصل وتمَكن، ومن أتيحَ له التفوق فخار…فجارَ على مستقبلهِ وانتكس. وما ذكروهُ من كسوف البال إنما هو مرض الكآبة في الاصطلاح الطبي الحديث، وكلّ ذلك شاهدناه في الناس، وصراع السياسة يحوي ألوف القصص، وفي منافسات التجارة والإدارة مثل ذلك، ومن مثل هذه التقريرات تبدأ حركة الحياة، وأول ما ينبغي أنْ يفعله صاحب الخطة الإصلاحية والأنفاس الجهادية: إتقان التعرف على قوانين علم النفس الإيماني، وعلم النفس الدعوي، بما فيهما من التفاتات كثيرة مشابهة لظنون الرؤساء الفضلاء من أصحاب ابن عقيل، ثمَّ يكون الاستئناس بعلم النفس العام، بعد النخل والتمحيص وطلب الشاهد الشرعي لبعض مذاهبهِ، فمن عرفَ النفس: تسلّطَ على ناسٍ كثيرٌ عددهُم واستطاع تحريك الحياة.

ورأس هذه المعرفة النفسية: الثقة بالله، والجزم بانتصار الدعوة، واليقين بصحة الوعد الرباني الذي منحتهُ آية:

}وَكَانَ حَقّاً علَيْنَا نصْرُ الْمُؤْمِنِينَ{الروم: 47

وكلُّ حقٍ منهُ تعالى فهو واجب له، لا عليه، كما قال الشيخ محمد رشيد رضا في مثل هذا"الحق"وأمثاله:

(الحقُ: الأمر أو الشيء الثابت المتحقق بما يثبت به عند الناس منْ شرعٍ وعُرف، وأثبتُهُ وأقواه: ما جعلهُ الله تعالى حقاً بوعدهِ، سواءً كان جزاءً على عمل، أو زائداً عليهِ، أو إحساناً مستأنفاً، ومنهُ ما تقتضيهِ صفة العدل، وما تقتضيهِ صفات الرحمة والرأفة والعفو والفضل، وكلُّ حقٍ منهُ فهو واجبٌ لهُ، لا عليه، لأنهُ يجب لهُ كل كمالٍ لذاتهِ وصفاتهِ وفعالهِ، ولا يجبُ عليهِ شيء بإيجاب غيرهِ، إذ لا سلطان فوق سلطانهِ، فيوجب عليهِ، ولا يَسع مسلماً مخالفة هذا التحقيق).

وهذه الأحرف هي من دقائق قضايا العقيدة، ومن نوادر الفهم الصحيح لها.

والقلوب المؤمنة ترى هذا النصر أقرب وأسرع إذا تعرضَ الدعاة وصُلحاء الناس لظلم ظالمٍ مستبدٍ، أو جمهرة تطيشٍ، وكان محمد بن مهران الكاتب قد قال قديماً:

(أنا منتظرٌ من نصر الله سبحانه على هذا الباغي وانتقامهِ من الظالم ما ليسَ ببعيد، وإنْ كان قومٌ مستدرجين بالإمهال فإنَّ وعد الله سبحانه ناجز، وهو من وراء كلّ ظالم).

وهذا الموقف النفسي هو موقف كل داعية كان في العراق حين أسرف"صدام"، فنجز الوعد، وهو أيضاً موقف الدعاة في العراق اليوم في ظل ظُلمين: الاحتلال الأمريكي، والنمط الغوغائي الشوارعي، ونجزم بأنَّ الوعد سينجز، وبئسَ مُعتقد المستعجل اليائس، وقد سألني المبهور بتفوق السلاح الأمريكي: هل نأذن لأنفسنا بتخيّل هزيمتهِ أو تصور انكماشهِ؟ فقلتُ: نعم، لأنَّ أفعال النفوس هي التي تحرك الحياة لا السلاح، والانتكاس مُتصور في غرور القائد العسكري أو الجالس في البيت الأبيض؛ فيتخذ القرار الخاطئ، تسوقهُ له النفس حين تزهو وتحيطها الخيلاء، خلافاً لمفاد الواقع ومُعطيات الحساب، فتكون المهلكة التي أهلكت"نابليون"و"هتلر"وغيرهما.

ثمَّ سأل آخر: أيعود الغوغائي ضعيفاً وقد نهبَ أموال الدولة وسلاح الجيش وأخاف الناس بالقتل الانتقامي؟ فقلتُ ثانيةً أنْ: نعم، إذا تمادى ولم يُدرك وجود التحدي ونوازع الدفاع في أنفس الجمع المقابل إذا أفاق من دهشة المفاجأة فانتظم وجذبهُ عشق الحرية ودفعتهُ موازين الإيمان نحو إحدى الحُسنيين!!

ويؤكد فقه الدعوة صحة هذه الأطوار النفسية، ثمَّ يذهب لمزيد عبر قناعة بأنَّ هذا الانشراح النفسي الذي يمنح المؤمن شعور الثراء وإن أملق. والذي يُحرك الحياة: يلزمهُ شعورٌ آخر مُـكمل له لكي تبلغ حركة الحياة درجة العنفوان وتمام التحول والانتقال من حالٍ إلى حال، ويكمن ذلك في أنَّ هذا الثري المترفع الطَموح عليهِ أنْ يثق بالناس، وأنْ يوقن بوجود عصبةٍ في كلّ جيل يمكن أنْ تستقبل توجيهات الخير، وأنْ تعضد المصلح وتنصرهُ وتبذل معهُ وتقدمهُ وترضى بهِ زعيماً وقائداً، وكلُّ ذلك مفتاحهُ فهم الحديث الصحيح الذي(رواهُ مُسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قال الرجلُ: هلكَ الناس: فهو أهلكُهم)).

برفع الكاف، قال الحُميدي في الجمع بين الصحيحين:وهو أشهر، أي أشدهم هلاكاً. ورويَ في حلية الأولياء في ترجمة سفيان الثوري: فهو من أهلكِهم، ورويَ:أهلكَهم-بفتح الكاف-أي جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة، وهذا النهي لمن قال ذلك على سبيل الاحتقار والإزراء على الناس وتفضيل نفسهِ عليهم. قال الخطابي: معناه: لا يزال الرجل يُعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول: فسدَ الناس وهلكوا، ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم-أي أسوأ حالاً منهم-).

فهذا الحديث وشروحهُ أصلٌ من أصول فقه الدعوة، ويوفر الخلفية التعليلية لمذهب الإصلاح، إذ فيهِ إقرار واعتراف بأنَّ الناس على خيرٍ مهما سرى فيهم من عِرقٍ مريضٍ وأنواع من السوء يضع لها المحصون أوصافاً رديئة، لأنَّ الخلال السلبية تبقى مقرونة بخصال إيجابية توازيها، من بقايا العزة والطموح والتحدي، فيكون ارتكاز المُصلح إلى هذه البقايا سهلاً، ينميها ويوقظها، ثمَّ يشرع مع الاستجابة الأولى يعالج السلبيات والرداءة عبر تربية طويلة، فيسل النفسَ من ورطاتها، ويجلو سخيمة القلب، ويحكُ الصدأ، حتى يُطلق كل الخيريات من عقالها الذي حبسها من قبل تحت الوسخ، ويجعل سباق الأرواح نحو المعالي شغلاً دائباً لها، فيكون الإصلاح.

إلا أنَّ هذه الثقة التي تحكم تعامل الداعية مع الناس ويبديها لهم ما هي منحةٌ يمنحها لهم متفضلاً عليهم وممتناً، ولا ينبغي أنْ تصاحبها مشاعر فوقية، بل الناس ثقات بتوثيق الله لهم وإيداعه عناصر إيجابية في خلقتهم التي خلقهم عليها، ولا ينافي ذلك ما يزعمهُ فقه الدعوة من وجود ضعفاء في الناس، لأنَّ هذا الضعف المقصود إنما هو ضعفٌ وقتي مُعرض للزوال بالتربية والتزكية والنصح والأمر بالمعروف، وتبقى خصال الخير المركوزة في أصل الفطرة هي مصدر التوثيق، وهي معالمهُ الدائمة، ويبقى الناس في دائرة التوثيق بتوثيق الله لهم.

لبسُ السَمَل…يُقرّبُ الأمل

لكنَّ هذا التوثيق للكتلة الإسلامية العامة لا يمنع انقسامها إلى درجات عديدة في الفضل، لأنَّ الإيمان يزيد وينقص، وله عمق وساحل ضحضاح، فساغ الانتقاء والترجيح والبدء بالأثرى وشد اليد مع العابد الجريء، والتمثل بما كانَ سفيان الثوري يتمثل به أن:

أبلُ الرجالَ إذا أردتَ إخـــاهمُ

وتــــــوسمنّ أمــــــــورهم وتفقّــدِ

وإذا ظفرتَ بذي الأمانة والتــقى

فبهِ اليدين-قريــرَ عينٍ-فاشْـــــــــدُدِ

فتتحرى الدعوة أنْ تجمع الأمناء، لا إهمالاً لرجال الكتلة العامة الرافلة بتوثيق الله لها إذا نطقوا الشهادتين، وإنما لتربية الأتقياء ومدهم بالوعي ودروس التجارب ليكونوا"قادة"يقودون سواد الكتلة.

ووسطية الإمام الشهيد"حسن البنا"وشموليتهِ أصلٌ في هذه التربية، وقد جمعَ الصواب من أطرافهِ يومَ وصفَ دعوتهُ بأنها"طريقةٌ سلفية"لنقاء عقيدته من البدع، وبأنها"حقيقةٌ صوفية"للتهجد الذي اختارهُ لأصحابهِ؛ والتلاوة؛ والدعاء؛ والتَّفكر، فربطَ معاقد الحسنى، وانتخبَ لخاصتهم"مدارج السالكين"منهجاً، فأتيتُ وهَذَّبتهُ وجَودتُهُ وأبرزتُ عبر العناوين الجزئية أصول المعاني، وجعلتهُ منهجاً لعامة الدعاة، ثمَّ تَخيَّرتُ نصف استشهاداتي في"إحياء فقه الدعوة"من أقوال الفضيل وإبراهيم بن أدهم والجُنيد وعبد القادر الكيلاني، ورَوَّجتُ"الفقه النفسي"الذي استنبطوهُ، فشاركتُ في طبع الصحوة الإسلامية المعاصرة بطابع التزكية القلبية، وأغريتُها أنْ تلتزمَ المفادات الحديثية، معاً، فكملت، وأصبحنا حين يتخرج الداعية من بين أيدينا نسمعهُ يتغنى بما اخترناهُ لهُ من أغاني"السري الرفّاء"، ويدعو إلى منازل الرضا والتوكل والستر والقناعة ويقول:

أسْترْ بصَبرٍ خَلَـلكْ

والبسْ عليهِ سَمَـلكْ

وكُــلْ رغيفيك على الراحةِ

واشـــربْ وَشَلكْ

إذا اعترتــكَ فاقـــةٌ

فارحلْ برفقٍ جَمَلكْ

وآخِ في اللهِ وَصِـــلْ

في ديــــنهِ مَنْ وَصَـلكْ

سُبحـــــــــــــــــــــــانكَ اللهمَّ

ما أجــلَّ عندي مَــــثَلكْ!!

أنتَ حفيٌ لمْ تُــخِبْ

دعـــــــــــوةَ راجٍ سَألكْ

وهذه الأبيات ليست في ديوانهِ المطبوع، بل هي من خارجهِ.

وهو خلل المعيشة يريد، والسَمَل هو الثوب الذي أبلاهُ الاستهلاك وطول اللبس، والوَشل: بقية الماء القليلة في الإناء، وكم من فاقةٍ أحاطت بالدعاة الأحرار في صورة تضييق مخابراتي وإغراء حكومي، فطلبوا العفاف، ورَحَّلوا جِمَالهم إلى أفقٍ بعيد يلوذون بالكرامة ولا يُعطون الدَنيةَ في دينهم.

وأنا الذي نقلتُ هذه الأغنية إلى مجتمع الدعاة، وعشتُ عمري -بحمد الله-في سعةٍ وترفٍ وثوبٍ حسنٍ وطعامٍ لذيذ، وكانت أمي تُدللني وتُلبسني وانا رضيع أغلى الملابس من محلات"أوروزدي باك"الراقية ببغداد قبيل الحرب العالمية الثانية، كما أخبرتني، لذلك لم أعرف الأسمال طول حياتي، ونسيت الأغنية حين دخلت السجن، فلما طالت أيامي فيه وكنتُ أرفضُ ما يُفرضُ على الآخرين من ملابس: صارت أثوابي أسمالاً مخرقة، فرآها حارسُ السجنِ يوماً، فأصابتهُ دهشة، واستغرب، وقال لي: أنتَ الشيخ الشريف تكون هكذا؟ وأجهشَ بالبكاء المرّ العميق، وصارَ لهُ شهيقٌ ونحيب، وطفقتُ أنا أهون عليهِ الأمر وأسليهِ بذكر الآخرة، ثمَّ تذكرتُ الأغنية فجأة، وكأني لم أعرفها منْ قبل، وصرتُ أترنم بذكر السَمَل، وعشتُ لدقائق فخوراً فرحاً رافعاً رأسي كأني مَلِك يزهو بالديباج والحرير، ولو علم رئيس الدولة بمشاعر الاستعلاء التي اعترتني لمنحني عرشه واستبدله بموقفي!!

والجاهل فقط هو الذي يغتر ويظن أنَّ لحظات العزة الإيمانية تدوم لهُ من دون استمرار في بذل الجهد وملازمة اليقظة وفحص القلب وخوف إلقاءات الشيطان، وإلا فإنَّ الإيمان يتأرجح، وبعد كل فرط في الجدِ: فتور، وشطر النفس: فجور، مما حملَ الفقيهِ ابن عقيل الحنبلي على أنْ يعظ ويصارح ويقول:

(تسمع قولهُ تعالى:}وجوهٌ يومئذٍ ناضرة{ …تهشُ لها، كأنها فيك نزلت!!

وتسمع بعدها :}ووجوهٌ يومئذٍ باسرة{ فتطمئنُّ أنها لغيرك!!

ومنْ أين ثبت هذا الأمر؟ ومنْ أينَ جاء الطمع؟

اللهَ …الله…هذه خدعةٌ تحولُ بينك وبين التقوى).

المنهجية والشخصية الجماعية تقودان الثقات

وبمثل هذا التوالي في المعاني، واندماجها وتكاملها: نستطيع أنْ نلبث في الجانب الإيجابي إذا انتقدنا المجتمع، ورثيناه، وتأسفنا لمظاهر الضعف والجحود، وضمور الخير، وانتشار الشر، مما هو حاصل في المجتمع العراقي المعاصر مثلاً، وفي جميع أجزاء أمة الإسلام، وللشعراء منذ القرون القديمة لسانٌ يتألم، وقلبٌ يتوجع، بسبب ظاهرة التناقص هذه، وذهاب القدوات، وبقاء الإمعات، ومن أفصح الواعظين بذلك الشهيد الأعمى جمال الدين الصرصري الحنبلي حين يدعوك في بكائيتهِ أنْ:

نُح وابكِ فــالمعروفُ أقــفر رسمهُ

والمنـــكر استـــعلى وأثر وسمُهُ

هذا الزمـــانُ الآخــر الكـدرُ

الذي تــزدادُ شِرتهُ وينقص حِلمُهُ

وهتِ الأمـــــــــــــــــانة فيه وانفــــــــــصمتْ عُرى

التـــــــــــــــقوى بهِ والبِّر أدبرَ نجمُهُ

والصالحون على الذهاب تــــتابعوا

فكأنهم عـــــــقدٌ تـَـنـــاثرَ نظمُهُ

لم يـــــبقَ إلا راغـبٌ هو مـُـــــــظهرٌ

للزُهـــــــــــدِ والدنيا الدنيةُ هـــــــمُهُ

لولا بقــــايا سُنةٍ ورجـــــــــــــــــالها

لم يـــبقَ نهــــــــــجٌ واضحٌ نــــــــــــــــأتمّهُ

فجميع هذا الوصف صحيح، والخطبُ كبير، والزمان كدر، لكنَّ هذا النوحُ والبكاءُ مفيد، لما فيهِ منْ تسلية النفس وإزالة عوامل التخذيل عنها، مهما طال تعداد المظاهر السلبية في ناس آخر الزمان، وذلك لأنهُ بكاء إيجابي إصلاحي لا يبدد العزائم، لأنهُ انتهى إلى استدراك صحيح جيد عبر الاعتراف بوجود"بقايا سُنة"و"رجال سُنة"بهما معاً يتضح النهج الذي ينتصب "إماماً"في الناس…

فالمناحةُ ما كانت سلبية إذن، وإنما هي استفزازية، وهي مجموعة تقريرات واقعية صادقة دقيقة الوصف غايتها تثبيت معنى وجوب الترميم وتقويم المعوج، وانتهى السرد الذي يوهم بالإحباط إلى تزكية رجال واقتراح منهج سُني، وذلك ما يترجمه اليوم شخوص"الحزب الإسلامي العراقي"ومنظومة واسعة من الجمعيات وهيئات الإفتاء والروابط والاتحادات، كمعالم إيمانية تلتزم الشرع وتتعاون على إقرار"منهج إسلامي عراقي"ومشروع حضاري عريض يرمي إلى إرجاع العراق إلى مكانتهِ القيادية الإبداعية في الأمة الإسلامية.

وموطن الأهمية في هذه المُقايسة: تثبيت معنى الشخصية المعنوية الاعتبارية التي تنتصب قدوةً للناس يتحلقون حولها وتكون هي القائدة، فكلُّ عالمٍ وزاهدٍ ومُصلح يمكن أنْ يكونَ قائداً منفرداً، ويسوغ التعاون معه، ولكنَّ التطور السياسي يجعل الحاجة إلى"كتلة قيادية"وارداً، بل مُرجحاً، بل حتمياً، لما في ثنايا ذلك من إتاحة فرصة تنفيذ خطة شاملة لنواحي الحياة كلها من خلال تقاسم أدوار المختصين والخبراء والمجربين، من بينِ فقيهٍ وأديبٍ ومؤرخٍ وسياسيٍ ومقاتلٍ مُجاهد ورجل أعمالٍ وإعلامي ومدرب إبداعي وتربوي وإداري، وهو ما أتاحتهُ الحياة السياسية بعد سقوط الظالم، وشخصت أبنية قيادية جماعية إسلامية، أعلاها"الحزب الإسلامي العراقي".

والمغزى المهم لانتصاب هذه"الشخصية القيادية الاعتبارية"أنها تتيح المواصلة والاستمرار على نفس الوتيرة إذا مات بعض رجال المسيرة، أو غيبته السجون أو الهجرة، وهي ميزة مهمة، المفروض أنها تجعل شباب الصحوة الإسلامية أكثر ثقةًبـ"الحزب الإسلامي"، وأسرع إلى الانضمام له، وتخويله صرف طاقاتهم في الميادين التي يستحسنها وترى خطته صواب تواجدهم فيها، وذلك هو مجمل المعنى الذي جعلتُ موت شاعر الإسلام الأستاذ"وليد الأعظمي"يشير إليه، حين قلتُ في رثائهِ عند جنازتهِ: أنَّ يوم موتهِ ما هو يوم حزن، وإنما هو يومٌ مشهود من أيام الإسلام، وأنَّ الحشد لم يجتمع للصلاة عليهِ فقط وتوديعهِ، بل لتأكيد العهد على المواصلة، وعقد صفقة المبايعة، ورؤية بشائر صحة المنهج وفضائل الوسطية وجدوى الطريقة السلمية، إذ غيرنا يجنح حين تمكن منه الغرور إلى وسائل الهدم والتوتير والاغتيال، مما ليسَ في صالحهِ هو نفسه، وتَـقلبهُ موازين القياس الفطرية عند الناس إلى أنْ يكون في صالحنا مهما تضررنا إذا صبرنا، وهو التحالم الذي ما زال المنافس يرتكب الخطأ في فهمهِ، فيوغل أكثر في الهجوم، يظن الصبر ضعفاً، وما هو بضعفٍ أبداً، ولكنهُ حسن السياسة في امتصاص الصدمات والجري مع مفاد التخطيط الصحيح والمنهجية العقلانية في العمل، والعاري عن الخبرة التجريبية من جمهورنا يخطأ بالمقابل أيضاً فيظن أنَّ أسلوبنا الانسحابي هو تراجع فعلاً، وأنهُ دليل على قوة المُقابل، ويذهل عن أنها خطة منا محسوبة مدروسة تريد مد الحبل للمعتدي، ليتورط أكثر، لتلتف عليه تراكمات أخطائهِ، فيكون صوت الإنكار عليهِ عالياً، فيخرج من الساحة، وتهزمهُ الانتخابات، وآثار القوانين، وأجواء الحرية القادمة، وأعمالنا المعرفية والتربوية الثقيلة في الميزان الاستراتيجي، مهما أغرت المنافس شرارات اللهيب السريع الخمود في ظرف الاحتلال وغياب الدولة.

لكنَّ هذه العاطفة التي استمددناها من مبادئ"وليد"والعقلانية التجريبية التي يلتزمها، وتسابق أصحاب"وليد": لا ينبغي أنْ تنسينا ضرورة عقلانية مكملة أخرى يمنحها لنا العلم الشرعي، فهو سبيل القيادة إلى إدراك طبائع مواقفها، وهو العاصم لها من ردةِ فعل لا يضبطها حساب، وعثرةٍ عند العجلة، وخدر عند الإبطاء، وذلك هو السبب الكامن وراء سيل الوصايا القيادية لكل تابعٍ صاعد أن…اقرأ…واجلسْ بين يدي المشايخ…وسَلْ…واستفتِ…

واطلبْ نفيسَ العلمِ تستأنس بهِ

فالعــلمُ للطــــــــلابِ خيرَ مؤانسِ

وتتبـــــــــــع السُنن المنـــيرة واطّرح

مُتجــــنباً إفـــــــــــكَ الغوي اليائسِ

وكانَ العراقيون يتبعون"إفك الغوي"هذا-مع الأسف-، وآنَ لهم أنْ يتوبوا وينأوا عن الغي بجانب، وما كانَ يلقن الناس غير اللغو، ويعلمهم العداوات وتجسس بعضهم على بعض، ففسدت الحياة الاجتماعية، وضاق العيش، وارتفعت البركة. وتارة يكون"الغوي"حزباً عنيفاً، أو توجهاً ثأرياً، وتكون النتائج: الهدم والإقلاق وتدمير النفوس، ونخشى اليوم أنْ يتحول جمال العراق إلى قُبحٍ، وتكون تشوهات تستديم…

وليس سبيل الاستدراك غير اتباع"السُنن المنيرة"كما رواها البُخاري وأبو حنيفة والشافعي، واجتماع أهل هذه السُنن وتَكتلهم في كتلةٍ واحدة، والعمل الإيماني لا ينطلق من شارع، أو تترجمه هتافات حماسية، بل:

من جانبِ المحرابِ يَبدأ سَيرُنا

كما حددها"وليد"، و"المنابر السياسية الإسلامية"إنما يصعدها ويفوه بالبشارة والنذارة من فوقها الداعية الذي أطال الجلوس دهراً تحتها في حلقةِ علمٍ شرعي يكتبُ فقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريقة:

مَنْ خدمَ المحابر…خدمتهُ المنابر

بلا زهوٍ شخصيٍ ولا خُيلاء، ولكنَّ ترويجاً للبيان الإسلامي، وصدعاً بالقول الجماعي، وشرحاً للإفتاء التشاوري، وتوكيداً لقرارات الحزب الرباني، كما قال الإمام أحمد-رحمه الله-:

(من أراد الحديث: خدمه).

قال الحافظ البيهقي مُعقباً، فيما رواهُ ابن مفلح عنه:

(قد خدمهُ أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فرحل فيه، وحفظه، وعَمِلَ بهِ، وعلّمهُ، وحملَ شدائدهُ).

والداعية المسلم اليوم، الذي يريد أنْ يصون الصحوة بنشر الحديث النبوي الكريم، تلزمهُ"خدمة منهجية متدرجة"له، أولها التعب في تحصيلهِ وحفظهِ، ثمَّ تجميل سيرته بفحواه، ثمَّ أنْ يأخذ بمعاصم أقرانهِ، يلتقطهم من أركان الشوارع وساحات البطالة، ويُجلسهم أمامه، يلقنهم القول الكريم، ثمَّ يقودهم كعصبةٍ زكيةٍ تأمرُ بالمعروفِ برفقٍ، فتأتيهم محنٌ وشدائد ورصاصات، كدأبِ الجُهال مع أتباع الأنبياء وحُماة الشرع، فيصبر ويصبرون معه، ويحمل الأثقال التي تنوء بها جمهرة، فتطفق رحمة ربٍّ لطيفٍ تنزل عليهِ، وتغشاه سكينة، هو وصحبه، ويعلوهُ نورٌ، هو ورَبعه، فيميز الناس إشراقة الفقه وحلاوة الثبات، ويأتونه مهنئين يطلبون بسط الأيادي التي طال وضوؤها، فتكون صفقة، وتكثر عُصب الخير، وتتأسس قبيلة خيرية ناهضة كان أولها مُبدع مُحلّق خدمَ الحديث.

ثمَّ"المعرفة"كلها خيرٌ لمؤمن عنده ميزان شرعي ونَقد، فيأخذ ويَدع، وإذا كانت بُندقية الثأري بيمينهِ، فإنّا أودعناها الشمال، وأيمَانُنا تحملُ"الأقلام"على المذهب الحضاري القديم الجديد، لأنّا وجدنا"القلم"كما وجدهُ عبد الله بن المغيرة قبل أكثر من ألف عامٍ من بعد أنْ أقسم اللهُ بهِ:

(يخدم الإرادة، ولا يملُّ الاستزادة…

ويسكتُ واقفاً، وينطقُ سائراً…

على أرضٍ بياضها مُظلم، وسوادها مُضيء).

وهذه بلاغة آسرة، وعواطف مولع بالعلم والأدب وأنواع المعارف ظل يتمعن فيها وبعلامات فضلها حتى نطقت لهُ مناقبها ولقنتهُ أنسابها ودلائل صفاتها، فإنَّ العلم إرادة وتصميم وعزائم تتفجر من دواخل أصحاب همم الصعود والاقتحام، فليست تملك الأدوات إلا الانقياد والطاعة والخدمة إذا طمعَ صاعد في زيادةٍ وعلو، وشرف المعرفة يترك بياض الأوراق إذ عجز عن إيطاء نفسهِ لتلقّي لؤلؤة المداد المضيئة بعد اللؤلؤة: حزيناً كالحاً، ويودع في خطوط الأحبار أسرار الأنوار، فتشع وتومض، تغري النفوس الرفيعة بانجذاب، ليبدأ من عند بريقها الارتقاء.

و"الحزب الإسلامي العراقي"يميز مناقب الأقلام تمييزاً واضحاً، ويعرف قيمة العلم، وآثار لمعات أنواره، فرفعَ نفسهُ أنْ ينافس في السوق الموسمي الاستهلاكي، والتزمَ نمطاً من النظر الاستراتيجي البعيد في إصلاح العراق، عبر إنماء المعرفيات واللمسات الحضارية، يريد أنْ يبذلها لأعضائهِ وجمهورهِ، في عملية بنائية تربوية طويلة المدى، ليعيد تكوين الفكر العراقي بالغوالي والنفائس والأداء المنهجي، ويحول العراقي عن رخيص بضاعة السياسة والأحزاب.

وقادة"الحزب الإسلامي"يهيبون بشباب الصحوة الإيمانية أنْ لا يُرخصوا أنفسهم وأوقاتهم لتذهبَ بدداً في ردود الأفعال، بل يدعوهم ليوقنوا معهم أنَّ طرائق الاغتيال التي يواجهونها خفيفةٌ جداً في موازنات الترجيح السياسي البعيد المدى ، وأنها ستذهب ويبقى العلم والعمل الحضاري، وسيرجع الاغتيالي الموسمي النظر بالوزر وملامة أشراف الناس والنبلاء والمثقفين والأحرار والعُقلاء وشيوخ العشائر، في جنوب العراق ووسطهِ وشمالهِ، ونرجعُ بالأجرِ والحمدِ وحسن الثناء والتأييد والتعضيد والأصوات الانتخابية والتمكين والتفاف الأخيار حول رايتنا الخضراء، راية"المنطلق"الراسخ، واجتياز"العوائق"من عندِ وادي"الرقائق"، الموازي لاستقامة"المسار"، قرب"منهجية التربية"، بعد"مدارج السالكين""نحو المعالي"، وفي مركز"صناعة الحياة"، وبؤرة"أصول الاجتهاد"التي تكشفها"مناقب أبي هريرة"وفضائل جميع الصحابة البررة y الذين أبعدوا القيصر القصير الهمة عن قصرهِ، وكبتوا شعوبية كسرى الكارهة للعرب.

ولقد كانَ من شأن"إحياء فقه الدعوة"خلال ثلاثين سنة: النأي عن التقليد، والتلّقي الجامد، واتخذت حملة الإحياء لها"الإبداع"وسيلة تربوية، على أمل تفجير الطاقات الاجتهادية الكامنة في دواخل الدعاة، وهذا ملحظ امتيازي إيجابي آخر يتيح تفوقاً آخر لشباب يبتغون التطور عبر الخضوع للمنهج التربوي للحزب الإسلامي العراقي، ومفهوم الحزب للإبداع أنهُ ما هو مُرسلٌ حرٌ عائم في كلّ أحوالهِ وأصنافهِ، بحيث يُبديهِ كلّ أحدٍ ذكيٍ أو منْ يشاء الابتكار والتجديد، وإنما هو يحتاج الرقابة أحياناً، والتراثية القديمة، في أحايين أخرى، أو الانتساب إلى ريادي سابق، أو الاقتفاء على سَـنن مجتهد يُبرم وينقض، أو التمحور حول مركز يضبط استدارات الرؤى في التفافاتها الخاطفة، وتلك هي قاعدة أبي حنيفة في فهمهِ لمخارج الإبداع، فإنهُ:

(قيل لأبي حنيفة: في مسجد كذا: حلقة يتناظرون في الفقه.

فقال: ألهمْ رأس؟

فقالوا: لا..

فقال: لا يفقهونَ أبداً).

فالإبداع مدارُ الفقه، وهو في مذهب أبي حنيفة لا يظهر بين أهل طبقة واحدة يتساوون، وإنما الاحتكام إلى مرجح ضرورة، والاستنجاد بمنْ يفهم روح النص وفحواه ومعناهُ الخفي لازم، وقد يُدرك النظراء أصل الأمر بعد طول عناء وتقليب وجوه الأمر مئين مرات، لكن تدخلات الأستاذ تختصر الطريق، فيكون صعود المبدعين أسرع، ثمَّ أسلم.

وحينَ لا يكون عدد الأساتذة كافياً: تنوب عنهم المؤسسات الجماعية التي تتراكم فيها مع الأيام عوامل تكوين الشخصية المعنوية الاعتبارية لها عبرَ ممارساتها العلمية والسياسية والاجتماعية، وذلك ما يُفصح عنهُ حال"الحزب الإسلامي العراقي"اليوم تجاه رجال الصحوة الإيمانية في العراق وجمهرة التائبين من متابعة الأحزاب الظالمة التائهة الأخرى، فالحزب الإسلامي يتصدر في الساحة العراقية الآن كشاخص واضح يرمز إلى معاني الأستاذية الفكرية والتجريب العملي والإصلاح الاجتماعي والمبادرة الإغاثية والعواطف التحررية الجهادية، وصار محوراً تدور حوله محاولات الإبداع الفردية التي تريد أنْ تثري المسيرة وتضيف لبنة إلى البناء، والنجاح المتعاقب المتكرر للحزب في كل ذلك يغري طبقات واسعة من طلبة العلم الشرعي؛ وأساتذة الجامعات؛ والمهندسين؛ والأطباء؛ وعموم الخريجين؛ والموظفين؛ والطلاب؛ وأبطال العشائر، ونبلاء العوائل، ورجال الأعمال: أنْ يدوروا في مدار الحزب وعلى قربٍ منهُ طمعاً في أنْ تكون حركتهم الموازية لهُ سبباً في إثارة إبداعهم ومواصلة عطائهم وتفجير نخوتهم، وما ذاك إلا لأنَّ الكتلة الفكرية والتجريبية التي يملكها الحزب قد أقامته مقام الأستاذية الجماعية التي لا تنتسب إلى فرد بل إلى جمهرة دعاتهِ العاملين في كلّ أجيالهم، حتى منْ مضى وماتَ منهم تظلُّ وصاياه حية تعظ الرهط الجديد.

وكلُّ أمرٍ إذا ما ضاقَ…يتسعُ

لكن لكي تؤثر الموعظة، وتظهر فضائل الأستاذية، ويجد الإبداع لهُ شارياً: ينبغي أنْ يسود التحالم، ونتعلم الصبر المديد المستطيل…

فما تجرّع كـأسَ الصبرِ مُعتصمٌ

باللهِ إلا أتــــــــاهُ اللهُ بالفرجِ

ومنْ يقرأ التاريخ يُدرك أنَّ الحالات متعاقبات، ولا يؤذن للشدة أنْ تدوم، ولا للمعتدي أنْ يتربع في المرابع الخضر، وأبو محجن الثقفي يعلمك أن:

إذا اشتدّ عُسرٌ فــارجُ يسْراً فـإنهُ

قضى الله أنَّ العـسرَ يتبعهُ اليسرُ

وأساس ذلك: أنْ نتقصد صناعة الوضع السلمي مهما اشتدت عرامة الانفلات الأمني، لأنَّ البلد هو الضحية، وبلدنا محتلٌ مستعمر، يحتلهُ أميركي يريد أنْ يتحرش بكلِّ أمة الإسلام إذا نجح في ترسيخ قدمه في العراق، والعمل على إجلائهِ واجب شرعي وأداء سياسي ونظر مصلحي ووفاء لميثاق الحرية العالمي.

ونعظ المظلوم أنْ لا يجهل فوق جهل الجاهلينا، وأنْ يبرأ من زعمَ بعض المعلقات العشر، ليُتاح لهُ أنْ يعيش"في ظلال القرآن"الناصح بأخذ العفو، وإفشاء السلام، ونحنُ على يقينٍ من أنهُ:

قدْ يمكث الناس دَهراً ليس بينهمُ

ودٌ فيَزرعـــــــهُ التسليمُ واللطفُ

وقد لا نسمع جواباً لتحيتنا الأولى، فنُثني ونُثلث ونُلح، ثمَّ نبالغ في اللطف، حتى تمتد يد المقابل بالمصافحة، لا عن ضعفٍ وهوان، بل العزة لكلّ مؤمن، ولكن تحقيقاً لشرف"الإسلام"الجامع، كما قال الواعظ القديم:

(إنَّ اللهَ-بحمدهِ-نزّه الإسلام عن كلّ قبيحة، وأكرمهُ عن كلّ رذيلة، ورفعهُ عن كلّ دنيئة، وشرّفهُ بكلّ فضيلة، وجعلَ سيما أهله: الوقار والسكينة)&.

لا التنافس والتقاتل وتبادل الاغتيال…

ومن نعم الله أنْ أضاف إلى شرف هذه الفضائل من النصوص القرآنية والسُنية وجمهرة معانيه العوالي: شرفاً ثانياً مُكملاً يكمنُ في كتلة التاريخ الإسلامي الناصع البياض، وما في هذه الكتلة من انتصارات، ووقفات مع الحق، وسِيرَ أبطال ومصلحين وفقهاء وزُهاد وذوي عدلٍ ورحمةٍ وخيريات وسلوك حضاري رفيع، حتى أصبح الانتساب إلى الإسلام ملاذاً لمنْ ليس لهُ عنوان، وسبب زيادة في الجاه لمن وهبهُ الله إحساناً فاحترمهُ الناس، بل وأصبح الإيمان الضابط المنهجي الذي يمنح الموزونية والاستقرار لكلّ من تتحرش به الفوضوية وأنماط الارتجال، حتى تخرّجَ من مدارس التوكل والإخبات والتوبة رجال من صُناع الحياة لهم رسوخ موقف، وقوة منطلق، وعمق تفكير، وسلاسة منطق، ومقايسات صحيحة تدعهم يعرفون نتائج خططهم إذ هم ما يزالون عند الخطوة الأولى، وقادة الدعوة الإسلامية اليوم يريدون أنْ تقرّ أعينهم بإنصاتٍ يُبديهِ كلّ صاحٍ ويضيفُ لهُ حزماً، ليقرر الانتساب الواضح لهذا الرهط الإيماني، لتتواصل المسيرة…

نعم، إياكَ أعني أخيّ…
لتأتي إلى دارنا ومقراتنا…
تدقُّ أبوابنا…
وتنتسبُ لنا…


نحنُ رهطُ الإصـلاح
والســـلام
والأمــن
والجــهـاد…


رجال…"الحزب الإسلامي العراقي"1 1 1