الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الفكر الإسلامي الوسط»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
(أنشأ الصفحة ب''''<center><font color="blue"><font size=5>الفكر الإسلامي الوسط </font></font></center>''' == مقدمة == الحمد لله رب العالمين. و...')
 
سطر ٣٬٣٨٢: سطر ٣٬٣٨٢:
ومعظم النكسات التي تصيب قلوب المتزوجين، وتنكد عليهم، وقد تعصف بهم مرجعها إلى سوء الاختيار والانبهار ببعض الجوانب على حساب الجوانب الأخرى.
ومعظم النكسات التي تصيب قلوب المتزوجين، وتنكد عليهم، وقد تعصف بهم مرجعها إلى سوء الاختيار والانبهار ببعض الجوانب على حساب الجوانب الأخرى.


قد يتم الاختيار نتيجة إعجاب سريع بموقف معين، وقد لا يتاح للخاطب أن يرى خطيبته إلا رؤية قصيرة، لا تعطي لأي منهما الفرصة في الاختيار السليم، وقد يكون نتيجة لمواقف عاطفية عابرة أو نزوة قاصرة، تنتهي مع انقضاء النزوة أو برود العاطفة. الصحيح أن ينظر الشاب إلى المرأة التي يريد التزوج بها فيمعن النظر.. ويدقق في شكلها.. ويدرس أوضاعها..
قد يتم الاختيار نتيجة إعجاب سريع بموقف معين، وقد لا يتاح للخاطب أن يرى خطيبته إلا رؤية قصيرة، لا تعطي لأي منهما الفرصة في الاختيار السليم، وقد يكون نتيجة لمواقف عاطفية عابرة أو نزوة قاصرة، تنتهي مع انقضاء النزوة أو برود العاطفة. الصحيح أن ينظر الشاب إلى المرأة التي يريد التزوج بها فيمعن النظر.. ويدقق في شكلها.. ويدرس أوضاعها..


فعندما خطب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه امرأة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) [7].
فعندما خطب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه امرأة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) [7].

مراجعة ١٢:٥٥، ٩ مارس ٢٠١٦

الفكر الإسلامي الوسط


مقدمة

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسولنا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين رضوان الله عليهم أجمعين، وعلى جميع القيادات التي اقتدت بالقدوة العظمى، والتي جاءت على قدر تجدد للناس أمر دينهم.

إن التاريخ الإسلامي في كل مراحله، يبرز فيه رجال يحتاج إليهم الموقف، فيسدون الثغرة، ويلبون الحاجة، ويقومون بالواجب المطلوب لزمانهم ومكانهم في إيقاظ الأمة، وترميم ما أصابه البلى أو التصدع في بنيانها.

قد يكون الرجل المنشود إماما أعظم كعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد يكون أميرا أو قائدا عسكريا مثل نور الدين محمود أو صلاح الدين، وقد يكون إماما فكريا ودعويا، مثل أبي حامد الغزالي، وقد يكون مربيا روحيا مثل عبد القادر الجيلاني، وقد يكون مجددا فقهيا وتربويا وإصلاحيا مثل أبي العباس ابن تيمية، فكل واحد من هؤلاء جدد فيما كان يفتقر إليه عصره وبيئته من جوانب التجديد الضرورية واللازمة[1].

وفي الربع الأول من القرن العشرين، وبعد سقوط الخلافة عام 1924، أصبح وضع العالم الإسلامي عامة، ووضع مصر والعالم العربي خاصة: يحتاج إلى رجل ذي فكر ثاقب، وحس مرهف، وإيمان دافق، وإرادة صلبة، يشعر بما تعانيه الأمة من أمراض وآلام، ويقدر على تشخيص الداء، ووصف الدواء، ويصبر على متابعة مريضه، حتى ينتقل به من مرحلة السقام إلى مرحلة العافية، ومنها إلى مرحلة القوة. كان هذا الرجل المنشود أو القائد المظفر، هو حسن البنا.

كان حسن البنا قد عرف غايته وتبين طريقه، وعرف أن غايته كبيرة وضخمة، وأن طريقه شاقة وطويلة.

أما الغاية فهي تجديد الإسلام في حياة الأمة، بدءا بمصر وانتهاء بالأمة الإسلامية كلها، وقيادتها به إلى الكرامة والعزة والاستقرار والحيـاة الطيبـة، سعيا إلى الوحدة المنشودة والخلافة المفقودة، وعملا على نشر الإسلام في العالم، كما أرادها الله )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين[2](.

وأما الوسيلة، فهي تعريف الأمة بالإسلام شاملا متكاملا، كما أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

بدأت هذه الدعوة منطلقة من فكر مؤسسها وشعوره الداخلي الغامر بأن عليه فرضا لأمته يجب أن يؤديه، وأن لديه طاقة يجب ألا يدخرها في إحياء الأمة، وتجديد دينها.

بدأت الدعوة بسيطة ولكنها عميقة، محدودة ولكنها قوية، صغيرة في كمها ولكنها كبيرة في كيفها، فقيرة في مالها ولكنها غنية بما تملك من إيمان لا يتزعزع، قليلة الإمكانات ولكن لديها يقين وطموح وآمال كبار.

من الإسلام حددت أهدافها، ومن الإسلام عينت وسائلها ومناهجها، وإلى الإسلام ردت مرجعيتها.

يسأل الناس: من أنتم أيها الإخوان؟

ويجيب البنا: قولوا لهؤلاء المتسائلين: نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة: طريقة صوفية، وجمعية خيرية، ومؤسسة اجتماعية، وحزب سياسي نظيف.

نحن (الإسلام) فمن فهمه على وجهه الصحيح، فقد عرفنا.

أيها الإخوان أنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة يحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم[3].

وإذا كانت الدعوة بدأت بالإمام البنا ونفر قليل من إخوانه في الإسماعيلية عام 1928.. فهي اليوم في كل قطر وعلى كل لسان، مالئة الدنيا وشاغلة الناس.. لا تكاد تغرب عنها الشمس.

وأخيرا

فإن كل الذي فعلته في هذا الكتاب هو تقديم رسالة التعاليم العظيمة:

أذكر الإخوان بمعانيها فالذكرى تنفع المؤمنين.

وأرد عن وجهها الصبوح بعض سوء التفسير الذي ألحقه بها بعض شراحها.

وأقدمها للمسلمين أجمعين، ليفهموا عظمة الإسلام الوسط العدل.. فهو الوحيد الذي يستطيع أن يعيد بناء الأمة على أساس سليم متين.

فإذا أحسنت فالحمد لله..

وإذا قصرت فأستغفر الله.

والحمد لله رب العالمين

المؤلف

المؤلف

الكويت 20/3/1423هـ
1/6/2002م

[1] رجال الفكر والدعوة- أبو الحسن الندوي.

[2] الأنبياء- 107.

[3] الإخوان المسلمون- يوسف القرضاوي، ص- 25.

الركن الأول - الفهم

تقديم

يقول الإمام حسن البنا في رسالته التعاليم: أيها الإخوان الصادقون، أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها: (الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والأخوة، والثقة).

ويتابع فيقول وأريد بالفهم: بأن توقن أن فكرتنا إسلامية صميمة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه، في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز..

ونحاول هنا أن نذكر بعض النقاط التي تُفصّل ما أُجمل.. وتكمّل السطور التي حذفها الإمام رغبة في المرونة والاختصار..

لماذا قُدم الفهم على بقية الأركان ..؟

والأمر في غاية الأهمية.. فكيف يستطيع محام أن يدافع عن قضيته في المحكمة دون أن يدرس القضية ويدرس مواد القانون..؟

وكيف يمكن لمدرس يحترم نفسه.. أن يشرح لتلاميذه درسا ما في الجبر أو الهندسة دون أن يكون استوعب الدرس وفهمه حق الفهم..؟

وعلى نفس المبدأ.. كيف يستطيع داعية ما.. يدعو للإسلام أو لغيره أن ينقل قضيته للآخرين ويشعرهم بأهميتها.. وينقل لهم حرارتها.. ما لم يفهم هو أولاً هذا المبدأ ويتفاعل معه ويحسّ نبضه ويؤمن بأهميته..

من هنا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع من يُقبل على الإسلام إلى إخوانه فيقول لهم: فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن.

ومن قبل اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا.. مكانا يلتقي فيه المؤمنون، يزكيهم ويفقههم في الدين ويعلمهم الكتاب والحكمة.

(والأمر كما يقول علماء النفس: عن الإدراك والانفعال والنزوع.. بمعنى أن الإنسان يعرف ويدرك، فيتأثر وينفعل رغبا أو رهبا، فينزع ويريد إيجابا أو سلبا).

وهذا الترتيب واضح في القرآن الكريم، قال تعالى: {وليعلم الذين أوتو العلمَ أنه الحق من ربّك، فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم([1].

والعطف بالفاء يفيد الترتيب والتعقيب، أي أن العلم يترتب عليه الإيمان، والإيمان يترتب عليه الإخبات، فهم إذا علموا آمنوا، وإذا آمنوا أخبتوا.

قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}.. شرح البخاري رضي الله عنه هذه الآية فقال: (أراد الله عز وجل بأن يكون العلمُ شرطاً في صحة القول والعمل)[2].

فإذا سلّمنا بهذه الحقيقة.. أدركنا كم جرّ الجهلُ بحقائق الإسلام، على المسلمين من مصائب.. ودماء.. وأوقات.. وحقوق.. وكم نحتاج في نهضتنا اليوم إلى فهم عميق لحقائق الإسلام.. وأن يشمل هذا الفهم:

• العلمَ الشرعي الذي هو الوسيلة لتمييز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ.

• وعلمَ التاريخ وحاضر العالم الإسلامي ليعرف (من يريد الإصلاح) عوامل المدّ والجزر التي أصابت الدولة الإسلامية، وأسبابَ نهضتها وقوتها، وأسبابَ تخلفها وانهيارها.. وأن يعرف أن المسيرة التاريخية إنما هي من السنن المتكررة.. التي إذا عرفنا مقدماتها عرفنا النتائج.

• وعلمَ السياسة.. الذي هو علم إدارة الحياة.. بحيث نربط هذا العلم مرة ثانية بالفقه الشرعي.. فلا تتهم السياسة بالدجل.. ولا تكون الميكيافيلية هي دينَ السياسيين.

• وعلمَ الحياة.. الذي تعلمه أسلافنا فسادوا وأشادوا حضارة تنحسر عن عظمتها العيون.. ابتكروا العلوم.. وطوروا الموروث منها.. حتى أصبحوا سادة العالم ومهندسيه.. ويوم بعث الخليفة الرشيد رضي الله عنه (الساعة) هدية إلى شارلمان إمبراطور أوروبا.. هرب منها فقد تصور أن الشيطان يحرك عقاربها!

• وعلمَ الإدارة.. فنحترم أوقاتنا.. ونخطط لأعمالنا.. ونؤمن بالحوار.. ونقيم المؤسسات.

• وعلمَ الاجتماع.

• وعلمَ الاقتصاد.

جميع هذه العلوم وغيرها.. يحتاج أن يفهم المسلم الداعية نبذة عنها، حتى يستطيع أن يفقه الحياة.. ولا يعجز.

فإذا عجز وجهل انطبقت عليه الآية: )قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا([3].

قال الحسن البصري: العامل على غير علم كالسائر على غير طريق، يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم.

وقال ابن القيم: صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطى عبدٌ عطاء بعد الإسلام أفضل منها[4].

[1] الحج - 54.

[2] نحو وحدة فكرية - د. يوسف القرضاوي، ص- 20.

[3] الكهف - 103.

[4] إعلام الموقعين 1: 87.

الأصل الأول - الإسلام نظام شامل

الإسلام نظام شامل، هو الأصل الأول من ركن الفهم.

يقول الإمام حسن البنا: الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعا. فهو:

  • دولة ووطن أو حكومة وأمة،
  • وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة،
  • وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء،
  • وهو مادة وثروة أو كسب وغنى،
  • وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة،
  • كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء.

وشمولية الإسلام كما عبّر عنها الإمام الشهيد.. هي الميزة الأهم في فكر الإخوان المسلمين.. وهي بعينها الفكرة التي أصرّت قوى التغريب والتخريب على إبعادها عن أذهان المسلمين.

بدأت الفكرة يوم ابتعثت هولندا أحد علمائها (هيروجرونج)، وقد ادعى الإسلام، إلى مكة المكرمة عام 1884م. كانت هولندا تستعمر إندونيسيا.. فبعثت هيروجرونج ليدرس ويتعمق في فهم الإسلام.. وعندما عاد عيّنته الإدارة الاستعمارية مستشارا مدنيا للحاكم العسكري في إندونيسيا.. وهو الذي أشرف مباشرة على وضع وتنفيذ البرنامج التعليمي الذي عُرف باسمه.

تتلخص خطته في تقسيم الإسلام إلى عام وخاص أو إلى دين وسياسة. ونصح الإدارة الاستعمارية بالتساهل مع الطبقة الدينية التي لا تهتم بالحياة العامة أو بالقضايا السياسية.. أما الطبقة الأخرى التي تهتم بشؤون الحياة فأمامها الأحزاب والفكر الليبرالي العلماني.. وأكبر المحظورات حسب هذه الخطة هو المزج بين العام والخاص أو بين الدين والسياسة..

وهكذا شاعت مقولة لا سياسة في الدين.. ولا دين في السياسة.. وانتقلت الفكرة من إندونيسيا الخاضعة للاستعمار الهولندي إلى جميع البلدان الإسلامية الأخرى، وقد كانت خاضعة في معظمها للقوى الاستعمارية[1].

عندما أسس الإمام حسن البنا دعوة الإخوان المسلمين.. كانت مصر والمنطقة العربية تضج بالفكر الغربي، الذي أُطلق عليه فكر النهضة، والذي تولى كبره: لطفي السيد، وسعد زغلول، وطه حسين، وإسماعيل مظهر، ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى، وفرح أنطون، ويعقوب صروف، ومنصور فهمي، وعلى عبد الرازق وغيرهم.. وهو الفكر الذي يحصر الدين في دائرة المسجد والتدين في داخل الفرد..

ولقد واجه الإمام المودودي عندما أسس حركته الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية المدرسة ذاتها والتي كان السيد أحمد خان أبرز رجالها.

كما واجهت الحركة الإسلامية في تركيا هذه المدرسة التغريبية التي قادها خالدة أديب وكوك ألب وغيرهم.. وتبناها مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.

ونتيجة للاحتلال العسكري لمعظم بلدان المسلمين.. ولجيل المفكرين الذي نشأ في معاهد الاستعمار وتشبع بفكره.. أصبح الفكر العلماني هو السائد.. خلاصته أن الدين قضية شخصية.. وأن الذي يريد التقدم لا يؤمن بالغيبيات أو بالخرافات.

هذا من حيث الفكر العام..

أما بالنسبة للفكر الإسلامي فقد كان فكرا تجزيئيا..

فأنصار السنة يهتمون بالعقائد، والجمعية الشرعية تهتم بالعبادات، والشبان المسلمون يهتمون بالجانب الرياضي، وشباب سيدنا محمد يهتمون بقضية المرأة، وحزب التحرير يهتم بالسياسة، والحركات الصوفية تهتم بالجانب الروحي والأذكار.. وهكذا..

فلما أسس الإمام البنا حركة الإخوان المسلمين، والتي هي صدى الدعوة الأولى.. كانت شاملة شمول الإسلام ذاته.. يقول تعالى: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعلُ ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردّون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عمّا تعملون([2].

وعبارات الإمام البنا التي ذكرها حول هذا الأصل واضحة.. ولا تحتاج منّا إلا إلى مسّ خفيف نثبت فيها بعض المعاني ومعها بعض الملاحظات.

مكانة الدولة من الإسلام

وهو الأمر الذي أرادت القوى المستغربة، والفكر الدخيل، استبعاده من حياة المسلمين. فيكون للإسلام المسجد، ويكون للعلمانية المدرسة والجامعة والمحكمة والإعلام، والاقتصاد والاجتماع والإدارة والحكم وبعبارة مختصرة الحياة كلها.

وهذا الفكر الذي يعتبر الدولة والوطن والأمة والحكومة والسياسة من أركان الإسلام وأصوله لم يكن ابتكارا من حركة الإخوان.. بل هو ما تنطق به النصوص وتثبته وقائع التاريخ الإسلامي..

قال تعالى: )إن الله يأمُركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. إن الله نعمّا يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسنُ تأويلا([3].

فالخطاب في الآية الأولى للولاة والحكام، وفي الثانية للرعية وللمؤمنين أن يطيعوا أولي الأمر منهم في دولة الإسلام.

قال الإمام أبو حامد الغزالي: الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان[4].

ويقول الإمام البنا في بعض رسائله: إذا كان الإسلام شيئا غير السياسة وغير الاجتماع وغير الاقتصاد وغير الثقافة فما هو إذن..؟

أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر، أم هذه الألفاظ التي هي كما تقول رابعة العدوية: استغفار يحتاج إلى استغفار، ألهذا أيها الإخوان نزل القرآنُ نظاما كاملا مفصلا )تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين([5].

أما الوطن والوطنية

فقد وضحها الإمام فقال: يخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين يتبرمون بالوطن والوطنية، فالمسلمون أشد الناس إخلاصا لأوطانهم وتفانيا في خدمة هذه الأوطان. ولكن الفارق بين المسلمين وغيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين العقيدة الإسلامية. كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدود الوطن، بل يشركون معه فيه كل أرض إسلامية وكل وطن إسلامي[6].

الحكومة والأمة

يقول الإمام الشهيد: لو كانت لنا حكومة إسلامية صحيحة الإسلام، صادقة الإيمان، مستقلة التفكير والتنفيذ، تعلم حق العلم عظمة الكنز الذي بين يديها، وجلال النظام الذي ورثته، وتؤمن بأن فيه شفاء شعبها، وهداية الناس جميعا.. لكان لنا أن نطالبها أن تدعم الدنيا باسم الإسلام، وأن تطالب غيرها من الدول بالبحث والنظر فيه، ولاستطاعت أن تجدد حيوية الشعب، وتدفع به نحو المجد والنور، وتغير في نفسه الحماسة والجد والعمل.

أما الأمة.. فكما يُعنى الإسلام بالسلطة الحاكمة، يعني كذلك بالأمة التي تختار السلطة، وتنبثق عنها الدولة..

وأمة الإسلام.. أمة ربانية أنشأها الوحي:

)اليومَ أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا([7].

وأمة وسط.. قال تعالى: )وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا([8].

وأمة دعوة.. قال تعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله([9].

وهي أمة تتوحد فيها الأعراق والألوان والطبقات.

قال تعالى: )وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون([10].

هذا هو الجانب السياسي في الأصل الأول الذي تحدث عن شمولية الإسلام.. وهناك جوانب أخرى تحدث عنها وهي:

الجانب الأخلاقي، والجانب الثقافي والعلمي، والجانب القانوني والقضائي، والجانب الاقتصادي، والجانب الجهادي والجانب الدعوي..

بالإضافة إلى قضايا العقيدة والعبادة.. وهو شمول يليق بدعوة الإسلام وعظمة الدعوة التي نزل بها الوحي على قلب النبي الأمين رحمة للعالمين.

[1] في التدريب التربوي - مصطفى محمد الطحان ، ص- 25.

[2] البقرة - 85.

[3] النساء- (58-59).

[4] إحياء علوم الدين 1: 71.

[5] النحل - 89.

[6] رسالة إلى الشباب - حسن البنا.

[7] المائدة - 3.

[8] البقرة - 143.

[9] آل عمران - 110.

[10] المؤمنون - 52.

الأصل الثاني - الكتاب والسنة معا

في الأصل الثاني يقول الإمام الشهيد: (القرآن الكريم، والسنة المطهرة، مرجعُ كل مسلم في تعرّف أحكام الإسلام. ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلّف ولا تعسّف، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات).

والقرآن الكريم هو الكتاب الذي )لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد([1].

وهو (كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)[2].

(وليس المقصود من القرآن الكريم مجرد التلاوة أو التماس البركة وهو مبارك حقا، ولكن بركته الكبرى في تدبره وتفهم معانيه ومقاصده، ثم تحقيقها في الأعمال الدينية والدنيوية على السواء، ومن لم يفعل ذلك، أو اكتفى بمجرد التلاوة بغير تدبر ولا عمل فإنه يخشى أن يحق عليه الوعيد الذي يرويه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه: (يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا)[3].

وحتى لا يشتط قارئ القرآن يمينا أو شمالا.. كانت الحاجة إلى التفسير الذي تتضح به المعاني والمقاصد بحسب مدارك البشر وما تتسع له عقولهم، وإن كان القرآن في الحقيقة قد يسّره الله للناس تيسيرا عجيبا. )ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر([4].

وأقرب طرائق الفهم أن يقرأ القارئُ بتدبر وخشوع، وأن يستلهم الله الرشد والسداد، ويجمع شوارد فكره حين التلاوة، وأن يلمّ مع ذلك بالسيرة النبوية المطهرة، ويعنى بنوع خاص بأسباب النزول وارتباطها بمواضعها من هذه السيرة فسيجد في ذلك أكبر العون على الفهم الصحيح السليم، وإذا قرأ في كتب التفسير بعد ذلك، فللوقوف على معنى لفظ دق عليه، أو تركيب خفي أمامه معناه، أو استزادة من ثقافة تعينه على الفهم الصحيح لكتاب الله، فهي مساعدات على الفهم. والفهم بعد ذلك إشراق ينقدح ضوؤه في صميم القلب[5].

ولقد اتفق المسلمون على أن القرآن الكريم هو المصدر الأول لتعاليم الإسلام، والمعجزة الباقية أبد الدهر لنبيه عليه الصلاة والسلام، كما واتفقوا على أن السنة المطهرة هي مصدره الثاني. قال تعالى: )فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر([6].

والرد إلى الله رد لكتابه، والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى سنته صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان المسلمون في أنحاء الدنيا على اختلاف مذاهبهم قد سلموا بالحقيقة الأولى، غير أن السنة النبوية تواجه هجوما شديدا.. وهو هجوم خال من العلم ومن الإنصاف، وقد قامت جماعات تدّعي الاكتفاء بالقرآن وحده.

ولو تم لهذه الجماعات ما تريد لأضاعت القرآن والسنة جميعا، فإن القضاء على السنة ذريعة للقضاء على الدين كله. وهل السنة إلا امتداد لكتاب الله.. وتفسير لمعناه.. وتحقيق لأهدافه ووصاياه..؟ )ومن يطع الرسولَ فقد أطاع الله([7].

وإذا كان القرآن الكريم يفهم طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، فإن السنة يُرجع في فهمها إلى رجال الحديث الثقات.

[1] فصلت - 42.

[2] الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا.

[3] السلام في الإسلام - حسن البنا، ص- 82.

[4] القمر - 17.

[5] السلام في الإسلام - حسن البنا، ص- 99.

[6] النساء - 59.

[7] النساء - 80.

الأصل الثالث - مصادر ليست من أدلة الأحكام الشرعية

يقول الإمام الشهيد في الأصل الثالث : (وللإيمان الصادق، والعبادة الصحيحة، والمجاهدة، نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى، ليست من أدلة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه).

أما الإيمان الصادق فيتحقق بصحة الاعتقاد وصدق الاتباع.

وتتحقق العبادة الصحيحة بإخلاص النية ومتابعة عمل الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما المجاهدة فمتعددة بين مجاهدة النفس، والهوى، والشيطان.

والعبد لابد له من أمر يفعله، ونهي يجتنبه، وقدر يصبر عليه.. وهو في ذلك عرضة للشيطان الذي يحاول أن يفسدَ سلوكه بالشهوات، ويُفسدَ فكره وتصوره واعتقاده بالشبهات.. ولكن من فضل الله عليه أن منحه ما يواجه به عدوه:

• منحه الصبر يجاهد به الأهواء والشهوات.

• واليقين يجاهد به الشكوك والشبهات.

وصدق الله القائل: )وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون([1].

إن الإيمان الصادق الذي يتحلى به المسلم هو الحياة الطيبة )من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة([2].

وهو النور الذي يمشي به )وجعلنا له نورا يمشي به في الناس([3].

وهو الروح التي يحيا بها )وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا([4].

يعيش صاحبه مطمئن النفس، مرتاح البال )فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا([5].

وللإيمان الصادق حلاوة يتذوقها المؤمن الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، عبد اللهَ بما يحبه ويرضاه فشكره وأحبه وخشيه، فتفضل الله عليه بهذا المذاق فكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

بهذا الإيمان الصادق يعيش المؤمن بين الناس، يصل من قطعه، ويعفو عن من ظلمه، ويعطي من حرمه فيُنْزل الله له القبول في الأرض ويعيش في مودة ورحمة بين الناس )إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا([6].

أي سعادة، وأي حلاوة، وأي نور وأي أمن وأمان يحسّ به المؤمن الصادق )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون([7].

ولك أن تسأل وكيف يحبنا الله حتى نفوز بهذه الحلاوة..؟

قال تعالى: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم([8] أي إذا سلكنا طريق الدعوة التي وضع معالمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبنا الله. وهذا الطريق يحتاج منّا إخلاص النية وبذل الجهد والجهاد والصبر والمصابرة )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا([9].

تمحيص الغاية..

ومن أهم الأمور في معركة الإيمان هذه هو تمحيص الغاية.. بأن يكون الله هو الغاية.. ورسول الله هو الأسوة والقدوة..)لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا([10].

خلوف تنكبت الطريق

وجاءت بعد ذلك خلوف تنكبت الطريق وخلطت عملا صالحا بآخر سيئ..

وبدأت الانحرافات تأخذ دورها..

في الجاهلية القديمة صنعوا تماثيل لبعض الرجال الصالحين يتبركون بهم، ومع الزمن عبدوهم من دون الله.. وفي الجاهليات الحديثة بدأ بعض الناس ينظرون للرجل الصالح، تعجبهم عبادته فيحكمون عليه بأنه ولي من أولياء الله الصالحين. كل ما يقوله إلهام، وكل خواطره حقائق، وكل رؤاه مكشوف عنها الحجاب، فهو يصلي الفجر في القاهرة والظهر في مكة والعصر في المدينة والمغرب في بيت المقدس ثم يعود ليصلي العشاء في السيد البدوي.

بعض هؤلاء يقول: حدثني قلبي عن ربي، ويقول: أنتم تأخذون كلامكم من ميت إلى ميت ونحن نأخذ كلامنا من الحي الذي لا يموت، ويقول: صحّ عندنا كشفا ولم يصح عندنا سندا.. وكله تخريف لا يقبله مسلم يحترم عقله.

لا نريد أن نتعرض للولاية والكرامة.. ولكننا نقول: أن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه.

يدخل أنس بن مالك على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهما فيقول له: مالكم تدخلون علـيّ وأثر الزنا في وجوهكم، قال أنس: أوحي بعد رسول الله [ قال: لا ولكنها الفراسة..

فراسة صادقة من مؤمن صادق ينظر بنور الله.. ولكنها حديث نفس تخطئ وتصيب، ومهما بلغت قوتها فلن تعدو روع صاحبها.. وهي ليست بحال من أدلة الأحكام الشرعية[11].

يقول الشيخ محمد الغزالي: وقد رأيت ناسا طيبين، شديدي الثقة بطيبتهم، يستمدون منها حكمهم على الأشخاص والأشياء، وربما صدرت لهم أحكام بالطيبة والخبث، أو الحل والحرمة، أو التقديم والتأخير لا مصدر لها إلا ذوقهم ومزاجهم!!

وهذا مسلك قد يصل بذويه إلى الزيغ أو الدجل، وعندما أتدبر أزمة الإيمان في عالمنا المعاصر أو أزمة التدين خلال تاريخ الإنسانية أشعر بأن أصل البلاء نجم عن أقوام يظنون حكمهم على الأمور هو حكم الله، ووصايا المرسلين.

إن الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأحكام المكلفين، فليس لأحد أن يقول: نفث في روعي كذا، أو ألهمت كذا، أو رأيت في منامي كذا، أو روى قلبي عن ربي كذا!! فذلك كله فوضى مردودة[12].

[1] السجدة – 24.

[2] النحل - 97.

[3] الأنعام - 122.

[4] الشورى - 52.

[5] طه - 123.

[6] مريم - 96.

[7] الأنعام - 82.

[8] آل عمران - 31.

[9] الكهف - 28.

[10] الأحزاب - 21.

[11] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- (51-63).

[12] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين - محمد الغزالي، ص- (38- 39).

الأصل الرابع - منكرات تجب محاربتها

يقول الإمام حسن البنا في الأصل الرابع: (والتمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة، وادعاء معرفة الغيب، وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته. إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة).

هذه المنكرات.. إنما هي دجل وشعوذة تعطل الأعمال، وتهمل سنن الله التي وضعها للسعادة والشقاء وتتعامى عن الأخذ بالأسباب.

قال تعالى: )قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا، ونُرَدُّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلمَ لرب العالمين([1].

وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما مرفوعا: (من تعلق تميمة فلا أتمَّ الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)[2]، وفي رواية (من تعلق تميمة فقد أشرك).

وفي الصحيحين عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً أن لا يبقينّ في رقبة بعير قلادة إلا قطعت.

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك[3].

كل هذه الأشياء.. التمائم والرقى والودع والرمل وما شابهها منكرات تجب محاربتها، إلا ما كان رقية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) أو (اللهم ربَ الناس اذهب البأس واشفه أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما)، أو تقرأ الراقية (فاتحة الكتاب والمعوذتين) وغير ذلك من الأدعية والرقى المأثورة.

والإنسان بطبعه شديد التعلق بالمستقبل..

أما المسلم فيؤمن أن المستقبل بيد الله.. )وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير([4].. وهو يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا.. صحح الإسلام عقيدته، وهذب معارفه وأعماله.. يسير على قاعدة (اعقلها وتوكل على الله).. ومع التوكل يلجأ إلى الله بالدعاء.

أما الذي لا يؤمن بالإسلام فهو في شقاء حقيقي.. شديد الخوف من الغد.. تشعل مخاوفه وسائل الإعلام الحديثة.. في كل ركن منها تجد : برجك.. أسرار النجوم.. قراءة الكف.. التنجيم.. قراءة الفنجان.. وغير ذلك من الشعوذات والدجل.

والأمر غير قاصر على بعض من يتسكع في أسواق الصحافة.. فقد قرأنا أن قارئة الفنجان وقارئة الكف تزور البيت الأبيض باستمرار وأن رجالات السياسة في أمريكا وغيرها يستعينون بهن في اتخاذ القرارات الهامة..

في ضوء ذلك ندرك لماذا حارب الإسلام الأوهام والخرافات.. ونقّى العقائد الإسلامية مما شابها من مؤثرات.. فالعقيدة الصحيحة وحدها التي تخلّص الإنسان من المعوّقات وتسمو به في معارج الكمال.

[1] الأنعام - 71.

[2] أي لا جعله في دعة وسكون.

[3] شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته وهو نوع من السحر.

[4] لقمان- 34.

الأصل الخامس - بين النصّ والمصلحة

يقول الإمام حسن البنا في الأصل الخامس من ركن الفهم: (ورأي الإمام ونائبه فيما لا نصّ فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد).

أنواع الأحكام من حيث مصدرها

تنقسم أحكام الفقه الإسلامي من حيث مصادرها إلى أربعة أنواع:

النوع الأول:

أحكام مصادرها نصوص صريحة قطعية في ثبوتها، وقطعية في دلالتها على أحكامها، وهذه أحكام لازمة وعلى كل مسلم اتباعها ولا يجوز أن يختلف المسلمون فيها، كافتراض الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكإيجاب الايفاء بالعقود واشتراط التراضي في البيوع. فآي القرآن الصريحة القطعية الدلالة، والسنة المتواترة القطعية الدلالة يجب اتباع حكمهما دائما.

النوع الثاني:

أحكام مصادرها نصوص ظنية في الدلالة على أحكامها. وهذه فيها مجال للاجتهاد لكن في حدود تفهم النص ولا يخرج عن دائرته، وعلى المجتهدين أن يرجحوا باجتهادهم أن الحكم الذي يدل عليه النص هو ثبوت الخيار للمتبايعين في المجلس أو عدم ثبوته، وافتراض مسح الرأس كله في الوضوء أو بعضه، وتحريم الذبيحة لمجرد ترك اسم الله عمداً أو لذكر اسم غير الله عليها. وما يترجح للمجتهد يكون هو حكم الله في الواقعة على غلبة ظنه، وعليه أن يعمل به وعلى من يستفتيه أن يتابعه في العمل به، ويجوز التقنين للأمة بمجموعة من هذه الأحكام التي لا تخرج عن حدود النصوص الظنية الدلالة. ويجوز أن يكون الحكم في بلد إسلامي أن عدة المطلقة ثلاثة أطهار، وفي بلد آخر أن عدة المطلقة ثلاث حيضات. ولله الحكمة في أنه صاغ النص محتملا للدلالة على أكثر من حكم.

النوع الثالث:

أحكام لم تدل عليها نصوص لا قطعية ولا ظنية، ولكن انعقد عليها إجماع المجتهدين في عصر من العصور، كتوريث الجدات السدس، ومنع توريث إبن الإبن مع وجود الإبن، وبطلان زواج المسلمة بغير المسلم، وهذه لا مجال للاجتهاد فيها ويجب على المسلم أن يعمل بها، لأن المجتهدين إذا أجمعوا على حكم فهو حكم الأمة، والأمة لا تجتمع على ضلالة، ولأنهم أولو الأمر التشريعي والله أمرَ بإطاعة أولي الأمر من المسلمين. ولكن يجب التحقق من أن الحكم انعقد عليه إجماع المجتهدين في عصر من العصور ولا يكفي مجرد ادعاء هذا الإجماع.

النوع الرابع:

أحكام لم تدل عليها نصوص لا قطعية ولا ظنية ولم ينعقد إجماع عليها من المجتهدين في عصر من العصور كأكثر الأحكام الفقهية التي زخرت بها كتب الفقه الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والشيعة الإمامية. فهذه الأحكام ما هي إلا استنباطات لأفراد من المجتهدين استنبطوها حسب ما وصلت إليه عقولهم وما أحاط بهم من الظروف والأحوال والملابسات، وليست أحكاما لازمة لوقائعها. فيجوز لأهل الاجتهاد في عصرهم وبعد عصرهم أن يخالفوهم في استنباطهم كما جاز للمجتهدين المتعاصرين أن يخالف بعضهم بعضا وكما جاز للمجتهد الواحد أن يرجع عن اجتهاده السابق إلى اجتهاد لاحق[1].

مصالح العباد

ومصلحة العباد، ورفع الحرج عنهم هي أصل الشريعة.. )وما جعل عليكم في الدين من حرج([2]، بنيت شريعة الله على ذلك فلا يوجد نصّ في الكتاب والسنة يصطدم بمصلحة العباد، قال تعالى: )النبـي الأمي الـذي يجدونـه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم([3]. ولقد قسّم الفقهاء المصالح إلى ثلاثة أنواع:

• مصالح معتبرة : وهي التي أعطاها الشارع الحكيم درجة الاعتبار ونصّ على حِلّها كالزواج، والبيع والشراء، وكل ما أمر الله به فعلاً للمأمور وتركًا للمحظور، ولايمكن أن يكون هناك حكمٌ من الله يضاد مصلحة العباد على القطع.

وهي مصالح ضرورية لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا إذا فقدت لم تحصل المصالح وهي حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

ومصالح حاجية وهي التي توسع على المكلفين وترفع الضيق الذي يؤدي إلى الحرج (كرخصة السفر، والفطر في المرض، وقصر الصلاة، وإباحة الصيد.. الخ).

ومصالح تحسينية كستر العورة، والزينة، وآداب الأكل...الخ).

  • • ومصالح مهدرة: أي غير معتبرة وهي المصالح التي أعطاها الشارع الحكيم درجة الإهدار ونصّ على حرمتها بالرغم من أن فيها بعض المنافع للناس فالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وغير ذلك كثير..

(كالذي يأمر بالإفطار في رمضان لمصلحة الإنتاج، أو يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث، أو يقيد الطلاق ويحدد عدد الزوجات بواحدة.... الخ)

وهي مصالح مهدرة لأنها تصطدم إما بقاعدة شرعية أو نص.

  • • ومصالح مرسلة: وهي التي أرسلها الشرع فلم ينصّ عليها باعتبار أو إهدار، ولا تصطدم بقاعدة شرعية مثل :
  • • لا ضرر ولا ضرار.
  • • درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
  • • ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
  • • الضرر يدفع بقدر الإمكان .. وهكذا.

وهذه المصالح المرسلة مثل : زراعة صنف معين كالذرة أو القمح أو القطن لحاجة البلاد، والصناعات المختلفة، وكل شيء فيه مصلحة للناس لم ينص عليها الشرع كالترع والمصارف والجسور والمشافي والمدارس وغيرها[4]..

قال القرافي: (ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف، وترشيح أبي بكر لعمر للخلافة، وكذلك ترك الخلافة شورى، وتدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن وغير ذلك مما عمله الصحابة لمطلق المصلحة).

في القديم والحديث حاولت بعض الجماعات أن تنال من قدسية النصوص تحرّف الكلام عن مواضعه باسم المصلحة.. في هذه الأيام (على سبيل المثال) تعقد المؤتمرات الكثيرة تحت اسم العولمة وحقوق الإنسان وغيرها من الأسماء.. وكلها تركز على ضرورة تطوير النص القرآني بما يتناسب مع حقوق الإنسان.. ففي رأيهم أن الزواج بأكثر من واحدة.. وإعطاء المرأة نصف ميراث الرجل.. مما يتناقض مع حقوق الإنسان.. الأمر الذي يتطلب تعديل النصوص حتى يتمكن الإسلام من مسايرة الحياة العصرية. وكذلك حاول البعض الآخر الاستناد على بعض الحوادث في سيرة الأصحاب مدعيا أن النصوص عُطّلت من أجل المصلحة، مثل ذلك ما ذكر أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقف العمل ببعض النصوص، لأنه رأى المصلحة في ذلك!

وهذا كلام خطير، معناه أن النص القرآني قد يخالف المصلحة العامة، وأن البشر لهم -والحالة هذه- أن يخرجوا عليه أو يوقفوا العمل به.

قالوا: منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم الزكاة أن يُصرف للمؤلفة قلوبهم بحجة أن الإسلام استغنى عن تألفهم. وفَهمُ صنيعِ عمر على أنه تعطيل للنص خطأٌ بالغٌ، فعمر حَرَمَ قوما من الزكاة لأن النصّ لا يتناولهم لا لأن النص انتهى أمده.

لقد رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه إعطاء بعض شيوخ البدو ما كانوا ينالونه من قبل تألفا لقلوبهم أو تجنبا لشرورهم، بعدما استطاع الإسلام أن يهزم الدولتين الكبريين في العالم، فهل يظل على قلقه من أولئك البدو النهابين أمثال عباس بن مرداس والأقرع بن حابس؟

إن مصرف المؤلفة قلوبهم باق إلى قيام الساعة يأخذ منه من يحتاج الإسلام إلى تألفهم، ويُذاد عنه من لا حاجة للإسلام فيه.

ولا يستطيع بشر مهما كانت منزلته أن يعطل النصّ.

وزعموا : أن عمر رضي الله عنه عطّل حدّ السرقة عام المجاعة! ونقول إنّ الجائع الذي يسرق ليؤكِل أولاده لا قطع عليه عند جميع الفقهاء فما الذي عطّله عمر؟!

إن قطع يد السارق المعتدي هو حكم الله إلى آخر الدهر، ولا يقدر بشر على وقف حكم الله.

ولإقامة الحدّ شروط مقرّرة، فمن سرق دون نصاب، أو سرق من غير حرز لم تقطع يده، ولا يقال: عُطّل الحد، بل يقال: لم يجب الحدّ.

إن عمر درأ الحدّ بالشبهة -كما أمرت السنة الشريفة- عندما قال: أنّا لانقطع في عام جدب، وكما رفض قطع أيدي الغلمان الذين سرقوا ناقة لابن حاطب بن أبي بلتعة. لقد نفذ عمر رضي الله عنه الحد عندما وجب، ودرأ بالشبهة عندما لم يقم. وقالوا: إن عمر رضي الله عنه حرّم الزواج بالكتابيات معطلا بذلك قوله تعالى: )والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهنّ محصنين غير مسافحين([5].

فالزواج باليهوديات والنصرانيات مباح على الصفة التي ذكر الكتاب العزيز، من شاء فعل ومن شاء ترك، وقد تقوم حوافز على الفعل، أو على الترك لا تغير الحكم الأصلي.

فإذا رأى شخص أن ذلك الزواج وسيلة هداية إلى الحق فعل.

وإذا رأى أحد أنه يجعل سوق المؤمنات كاسدة ترك، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه.

تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر: خلّ سبيلها! فكتب إليه حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال عمر: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف على المؤمنات، أن تزهدوا فيهن ولا تقبلوا عليهن.

ونظرة عمر لا تلغي نصا كما رأينا، ولكنها تلفت النظر إلى مصلحة اجتماعية هامة[6].

رأي الإمام ونائبه

الأحكام كما رأينا أنواع:

  • • أحكام مصادرها نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة على أحكامها،
  • • وهي نهائية، ملزمة، لا مجال فيها للاجتهاد.
  • • أحكام مصادرها نصوص ظنية في الدلالة على أحكامها.. وهذه فيها مجال للاجتهاد.
  • • أحكام انعقد عليها إجماع المجتهدين في عصر من العصور.. وهذه لا مجال فيها للاجتهاد.
  • • أحكام لم تدل عليها النصوص ولا أجمعت عليها الأمة.. فهي مجال للاجتهاد.

ولكن من الذي يملك حق الاجتهاد؟

الذين لهم الاجتهاد بالرأي هم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب واستكمل من المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية بالفقه الإسلامي كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي.

ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة، إلا إذا توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته إلا بالطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي والاستنباط فيما لا نص فيه[7]. فإذا اختلف الفقهاء في مسألة ما فيها أكثر من رأي، فرأي إمام المسلمين ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات[8].


الأصل في العبادات التعبد

يقول ابن تيمية : إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان:

عبادات يصلح بها دينهم،

وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.

أما العبادات التي أوجبها الله لا يثبت الأمر بها إلا بشرع.

وأما العادات فهي ما اعتاد الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله.

ويقول الإمام أحمد : إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله. والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه.

ومن هنا فإن القاعدة أن الأصل في العبادات التوقيف والتعبد بها لله سبحانه وتعالى، والأصل في العادات البحث في الحكم والمقاصد، فإن فهمنا حكمة الله في شيء حمدنا الله على ذلك، وإن عجز العقل عن إدراكها اتهمنا العقل بالعجز ولا نتهم الشرع بالنقص[9].

[1] مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه – عبد الوهاب خلاف، ص- (11-12).

[2] الحج - 78.

[3] الأعراف - 157.

[4] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- (82-84).

[5] المائدة- 5.

[6] دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي، ص- (43 - 48).

[7] مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه- عبد الوهاب خلاف، ص -13.

[8] رسالة التعاليم - حسن البنا، يراجع في هذه الموضوعات كتاب السياسة الشرعية في ضوء الشريعة ومقاصدها- د. يوسف القرضاوي، ص- 70 وما بعدها.

[9] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز ، ص- (79 - 87).

الأصل السادس - بين السلفية والسلفيين

يقول الإمام الشهيد حسن البنا في الأصل السادس من ركن الفهم:

(وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف الصالح رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه وإلا فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أولى بالإتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص - فيما اختلف فيه - بطعن أو تجريح ونكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا).

يتناول هذا الأصل عددا من القضايا الهامة في حياة الدعوة والدعاة..

أولا- كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم:

وهو تأكيد لما جاء في الأصل الثاني من ركن الفهم عندما قال الإمام: والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرّف أحكام الإسلام، أما غير ذلك فيؤخذ منه ويردّ، ولا عصمة لبشر إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ادعاء بالعصمة لغير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مردودٌ وباطل.

ولقد أساء البعض فهم هذا الأصل.. فاعتقد بأن من حقه التطاول على الآخرين، ونسي ما للعلم والعلماء من فضل تجب معرفته حتى تستقيم الأمور.. فإذا كانت الحكمة ضالة المؤمن فينبغي البحث عنها في إطار رائع من التناصح والتحابب والاحترام. في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يأخذ بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنه ويقول: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا، وعن سعيد بن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ههنا رجالا هم أسنّ منّي)[1]، وفي الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن من حق العالم عليك:

  • • أن تسلّم على القوم عامة وتخصه بالتحية.
  • • وأن تجلس أمامه.
  • • ولا تعينه في الجواب.
  • • ولا تطلبنّ عثرته.
  • • وإن زلّ قبلت عثرته.
  • • ولا تقولنّ له سمعت فلانا يقول كذا، ولا إن فلانا يقول بخلافك.
  • • ولا تصفن عنده عالما فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر حتى يسقط عليك منها شيء.

ويقول ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع، وقال صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط.

صحيح أن الحكمة ضالة المؤمن وأن لصحاب الحجة مقالا.. ولكنه صحيح أيضا أن من يضع نفسه هذا الموضع يجب أن يتحرى: الحق والصدق والأسلوب الحسن والأدب الرفيع..

فهل يتصور أحد أن إصلاح الأمر وإصلاح ذوي الأمر يكون بالتلميح والتجريح والهمز واللمز وبمجالس الغيبة والبهتان؟

وهل يتصور أحد أن مجتمعا كريما يمكن أن يقوم، لا يوقر فيه صغير كبيرا ولا يعطف فيه كبير على صغير..؟

وليس معنى ذلك أن هؤلاء العلماء معصومون أو لا يخطئون.. فكل ابن آدم خطاء.. ولكن معناه أن تقوم مجتمعاتنا على التقوى والأدب والأخلاق.. فلا خير في مجتمع لا تُعرف فيه الحقوق.. ولا قيمة لمعرفة لا يزينها الأدب.

ثانيا - السلفية الحقيقية

ويقول الإمام البنا (رحمه الله): وكل ما جاء عن السلف الصالح موافقا للكتاب والسنة قبلناه.. وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالإتباع.

والسلف الصالح هم المعنيون بقوله تعالى: )والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار([2]، وقوله تعالى: )لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة([3]، وقوله تعالى:{لقد تاب الله عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه([4]. هؤلاء السلف رجال عظماء نهلوا من المعين الصافي.. وقامت الدعوة الإسلامية وانتشرت بفضل إيمانهم وجهادهم.. وكل ما جاء عن هؤلاء موافقا للكتاب والسنة.. تلقاه المسلمون بالقبول.. أما إذا أخطأ أحدهم فكتاب الله وسنة رسوله هما المرجع والأولى بالإتباع.. فالمعصوم هو الرسول وحده.

ولقد غالى البعض في مواقفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا وبغضا.. وهذا الأمر بعيد عن الصواب بعيد عن الإنصاف.. والموقف الذي يذكره الإمام حسن البنا بخصوص السلف الصالح هو السلفية الحقيقية، فالسلفية هي نزعة عقلية وعاطفية ومنهجية ترتبط بخير القرون، وتعمق ولاءها لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتبذل الجهد لإعلاء كلمة الله على الأرض ولذلك فهي لها منهج للعقيدة يفسر الكون والحياة والإنسان بعيدا عن علم الكلام مستمدا من منهج القرآن، ومنهج للعبادة يقوم على الشمول والعموم والكمال والسمو ينبع من صحة الاعتقاد وصدق الاتباع، ومنهج للحركة تعريفا وتكوينا وتنفيذا. فالسلفية منهج وليست مجرد شكل من أشكال التنظيم.

ثالثا- تلك أمة قد خلت

والسلف الصالح رجال عظماء.. ولكنهم بشر يجوز عليهم السهو والخطأ والخلاف.. ولقد نشبت بين الأصحاب خلافات فكرية وكلامية ووصلت في بعض الأحيان إلى التقاتل فيما بينهم..

ومعظم الأضرار التي أصابت المسلمين ومازالت تفرق صفهم تكمن في انحياز المسلمين إلى فريق من هؤلاء دون فريق.. والغلو في الحب والبغض.

والمنهج الأمثل في مثل هذه الحالة ما قاله الإمام حسن البنا وهو مستمد من منهج العلماء عندما سئلوا عما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فقالوا: تلك دماء قد طهر الله منها أيدينا، فلا نلوث بها ألسنتنا.

ولا يمنع ذلك من الدراسات العلمية وتحليل المواقف لأخذ العبرة واستخلاص الدروس.. فأحداث الماضي هي المختبر الذي تتمحص فيه الأفكار.. وتربط به الأحداث بالنتائج.. وترسم على ضوء ذلك خطوات المستقبل.. وفي نفس الإطار ينبغي البعد عن التعصب لبعض السلف والمغالاة في تقدير مواقفهم التي قد تؤدي إلى الانحراف.

هذا هو الأدب العالي والمنهج القويم في التعامل مع السلف الصالح كما يقرره الإمام البنا في هذا الأصل[5].

[1] متفق عليه.

[2] التوبة - 100.

[3] الفتح - 18.

[4] التوبة - 117.

[5] فهم الإسلام - جمعة أمين، ص- (91-101).

الأصل السابع - بين الاجتهاد والتقليد

يقول الإمام حسن البنا في الأصل السابع:

(ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية، أن يتبع إماما من أئمة الدين. ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صحّ عنده صلاح منْ أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر).

يختلف الناس في درجات العلم، فمنهم العالم ومنهم الأمي الجاهل وعليه فمن الطبيعي أن يتوجه الجاهل إلى العالم يسأله عما يجهله، قال تعالى: )فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون([1].

وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نهلوا العلم من منبعه.. تجدهم وقد غابت عنهم بعض الأمور، فابن عباس حبر الأمة رضي الله عنه يقول: كنت لا أعرف ما (فاطر السموات)..

وهذا عدي بن حاتم الصحابي الجليل رضي الله عنه حين قرأ {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر([2] أتى بعقالين أحدهما أبيض والآخر أسود حتى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصرفه.

والقرآن الكريم كما يقول ابن عباس رضي الله عنه نزل على أربعة أوجه:

وجه تعرفه العرب من لغتها، ووجه لا يعذر مسلم بجهله، ووجه لا يعلمه إلا العلماء، ووجه لا يعلمه إلا الله.

فالناس إذن من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بين عالم ومتعلم، وتابع ومتبوع، ومجتهد ومقلد.

تعريف التقليد

هو قبول قول الآخرين من غير معرفة الدليل.

حكم التقليد

بعض الأئمة حرمه، وبعضهم أوجبه، وبعضهم سلك في الأمر مسلكا وسطا..

الفريق الأول: يوجب النظر على كل أحد

قال ابن تيمية: (من غالية المتكلمة والمتفقهة من يوجب النظر والاجتهاد في المسائل الفرعية على كل أحد، حتى على العامة، وهذا ضعيف، لأنه لو كان طلب علمها واجبا على الأعيان فإنما يجب مع القدرة. والقدرة على معرفتها من الأدلة المفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة)[3].

والفريق الثاني: يوجب التقليد على كل أحد

قال ابن تيمية: (وبإزائهم من أتباع المذاهب من يوجب التقليد فيها (أي المسائل الفرعية) على الجميع من بعد الأئمة علمائهم وعوامهم)[4].

وكلا طرفي الأمر قد حاد عن جادة الاعتدال والصواب.

والفريق الثالث : معتدل متوسط

وهو الذي عليه جماهير الأمة، أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة:

• لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد.

• ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد.

• وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد.

• والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد.

فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟

هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز عن الاجتهاد، إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت على الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له.

وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزء والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز[5].

وبذلك يكون الناس بالنسبة للاجتهاد والتقليد ثلاثة أصناف:

الأول: عالم بفقه الآيات ودلالاتها، والأحاديث ومضامينها، راسخ في معرفة قواعد الاستنباط، ومدارك الأدلة، وضوابط الاستدلال، وأصول التوفيق في ما ظاهره الاختلاف، ملمّ بلغة العرب، وتصاريفها، له خبرة بمدلولات الألفاظ، عارف بمواقع الاختلاف والإجماع ومسالك المجتهدين.. فهو (في هذه الحالة) مكلف في السير على ما يوصله إليه اجتهاده.

الثاني: متبع ليست عنده القدرة على الاستقلال في البحث، واستخراج الدلالات من النصوص، واستنباط الأحكام منها لكنه في الوقت نفسه يفهم الحجة ويعرف الدليل.. وهو (في هذه الحالة) مكلف أن يسير على رأي من اقتنع أن معه الحق من الأئمة.

الثالث: عامي لا يفقه معاني النصوص من القرآن والسنة ولا يستطيع الاستنباط منهما، ولا معرفة ما يطلبان منه.. وهو (في هذه الحالة) مطالب باتباع إمام من أئمة الدين[6].

المذاهب الفقهية

والمقصود بأئمة الدين هنا.. أئمة المذاهب الفقهية.

والمذهب يتكون من منهاج علمي لفريق من الدارسين والباحثين، يبنون فيه أصولا لتفكيرهم متميزة واضحة، ثم يكون لكل منهاج طائفة أو مدرسة تعتنق هذه الأصول، وتدافع عنها وتقويها بموالاة البحث والدراسة[7].

لقد عاش أهل العراق أمدا طويلا وهم يلتزمون مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه متمثلا في شخصه أو أشخاص تلاميذه من بعده، كما عاش أهل الحجاز أمدا يلتزمون مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنه وتلاميذه وأصحابه، وكان منادي الخليفة في مكة ينادي أن لا يفتي الناس أحد إلا الإمامان عطاء بن رباح ومجاهد.

والمذاهب الإسلامية الكبرى اختلفت في الفروع لا في الأصول، وكان من الممكن أن يتعاون الأتباع فيما اتفقوا فيه، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا عليه، ولكنهم مع الزمن أخذوا أقوال أئمتهم على أنها الأصل الذي يشرح، ونظروا إليها كأنها الدين الذي يتبع. ونشأ عن هذا جفوة شديدة بين مقلدي المذاهب المختلفة، كما نشأت جفوة بين كتب الحديث وكتب الفقه[8].

وغالى الأتباع في التعصب.. حتى أصبح الحنفي لا يصلي وراء الشافعي.. والحنبلي وراء المالكي.. وأصبحت هذه المذاهب التي قامت أساسا مدارس فقهية ترشد الأمة.. معسكرات يعادي كل معسكر الآخر..

ومع تمادي الجهل يزداد التعصب.. فلما كتب الإمام حسن البنا رسالته التعاليم كانت الحرب المذهبية الضروس على أشدها.. فذهب كعادته المذهب الوسط الذي اتخذه أئمة المسلمين من قبله.. وسار بالقضية على الشكل التالي:

1- على كل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة أحكام إمامه الفرعية أن يقلد إماما من أئمة الدين.

وهو بهذا القول وضع حدا للمعركة بين من يرون اتباع المذهب وبين من لا يرون.

2- وإذا كان مقتضى التقليد قبول رأي المذهب من غير معرفة الدليل.. فإن الإمام البنا حث المقلد أن يتعرف ما استطاع على أدلة إمامه.. ومحاولة التعرف ذاتها ترفع من المستوى العلمي للمقلد.. وتجعل اتباعه أثلج للصدر، وأهدأ للنفس، وأكثر نورا وبصيرة[9].

3- ثم خطا الإمام البنا خطوة ثالثة.. فالمقلد عندما يتعرف على الأدلة عليه كذلك أن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صحّ عنده صلاح من أرشده وكفايته.. وهكذا وجد المقلد نفسه باحثا يتعرف على الدليل يتابع رجال العلم والصلاح يسألهم عن المسألة ودليلها..

وهذا العلم وحده يكفي لإنهاء التعصب المذموم.. ولذلك رأينا المنضمين لحركة الإخوان المسلمين في الأقطار المختلفة نسوا خلافاتهم وتوحدت آراؤهم..

4- أما الخطوة الرابعة.. فهي توجيه لهؤلاء الذين عندهم نصيب من العلم.. ولكنه غير كاف للاجتهاد.. أن يستكملوا نقصهم العلمي حتى يصبحوا من أهل النظر والاجتهاد.. وقد كان من عادة الأئمة الكرام أن ينهوا من يلمسون فيهم قدرة على الفهم والنظر، ينهوهم عن تقليدهم، بل يدربوهم على استنباط الأحكام من أدلتها، والترجيح بينها، ويشجعوهم على ذلك[10].

[1] النحل - 43.

[2] البقرة - 187.

[3] الفتاوى - ابن تيمية 20: 203.

[4] الفتاوى - ابن تيمية 20: 203.

[5] الفتاوى - ابن تيمية 20: 204.

[6] أضواء على الأصول العشرين - عصام البشير، ص- (64-66).

[7] المذاهب الإسلامية - أبو زهرة 1: 23.

[8] دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي، ص- 51.

[9] نظرات في رسالة التعاليم - محمد عبد الله الخطيب ومحمد عبد الحليم حامد، ص- 109.

[10] المرجع السابق، ص- 110.

الأصل الثامن - حقيقة الخلاف

يقول الإمام البنا في الأصل الثامن:

(والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة أو بغضاء. ولكل مجتهد أجره. ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب).
الخلاف وما جره من مصائب

إن المطارق التي هوت على أمّ رأس الأمة الإسلامية،وجعلتها تجثو بين أيدي أعدائها كانت من الداخل لا من الخارج ! حدث ذلك في تاريخها القريب والبعيد، وجنت الأمة من وراء انقساماتها الصّاب والعلقم!

وفي تجوالي بأرجاء العالم الإسلامي رأيت اختلاف الفقهاء من ألف عام أو يزيد يقسّم المسلمين طوائف متباعدة، ويغري الرجل أن ينظر إلى أخيه شزرا في قضية خفيفة الوزن، وربما رفض الصلاة خلفه!

ثم تنضم إلى الخلاف الفقهي قضايا شخصية ومنفعية تخصّ هذا أو ذاك، فإذا الإخاء الإسلامي يذوب والخصومات الخبيثة تضرى وينشغل المسلمون بعضهم ببعض[1].

والخلاف نوعان

• خلاف منهي عنه، وهو الخلاف الذي يفرق الأمة، كالاختلاف الذي حدث بين الفرق الإسلامية، التي اختلفت في أمور تتصل بالأصول والعقائد التي لا يجوز الخلاف فيها.

قال تعالى: )وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبلَ فتفرق بكم عن سبيله([2].

• وخلاف جائز حول فروع الأعمال والعبادات، وهو خلاف لا يحرج صدرا، ولا يؤذي أحدا، وأمره دائر بين خطأ وصواب فإذا عرفنا أن المخطئ والمصيب مأجوران، هان الخطب واستطعنا في ظل الإخاء والحب أن نصل إلى الحقيقة.

والخلاف في فروع الدين أمرٌ لابد منه لأسباب عدة:

1- منها اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وإدراك الدلائل أو الجهل بها، والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض.

والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جد متفاوتين فلابد من خلاف.

2- ومنها سعة العلم وضيقه وأن هذا بلغه ما لم يبلغ الآخر. وقد قال الإمام مالك رضي الله عنه لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة.

3- ومنها اختلاف البيئات.

4- ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية.

5- ومنها اختلاف تقدير الدلالات فهذا يعتبر عمل الناس مقدما على خبر الآحاد مثلا وذاك لا يقول معه به وهكذا.

كل ذلك جعلنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل ويتنافى مع طبيعة هذا الدين[3].

أمثلة على الاختلاف الجائز

  • خلافات ذات طبيعة لغوية

هناك كلمات تفيد الشيء وضده، في مثل قوله تعالى: )والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قُروء([4].

فكلمة (قرء) تحمل معنى الحيض أو الطهر، وعليه فقد اختلف الفقهاء فرأى بعضهم أن المطلقة تعتد بثلاث حيضات.. ورأى آخرون أنها تعتدّ بثلاثة أطهار.

وقوله تعالى: )أو لامستم النساء([5].

اختلف الفقهاء هل اللمس المراد أيُّ لمس؟ أو هو لمس خاص؟ ونشأ عن ذلك القول بأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء لأن الآية تعني الاتصال الجنسي، والقول الآخر أن اللمس ينقض الوضوء لأن المراد عموم اللفظ.

وقد يختلفون في معنى الأمر الوارد في النص: هل هو للوجوب أم للندب؟

في مثل قوله تعالى: ) فإذا بلغْنَ أجلَهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله([6]. فالأمر بالأشهاد للوجوب عند البعض، وللاستحباب عند البعض الآخر.

ولقد عدّد ابن تيمية عشرة أسباب للخلاف الفقهي ودور أحاديث الآحاد في تعدد المذاهب وهي:

ربما لا يبلغ الحديث الفقيه المجتهد. ومن لم يبلغه الحديث ربما اعتمد على ظاهر آية أو على حديث آخر، أو على قاعدة عامة، أو لجأ إلى القياس.. إلى غير ذلك. فالأحناف (مثلا) لم يجيزوا الجمع بين الصلاتين في السفر (وأحيانا في الحضر) لأن السنن في ذلك لم تبلغهم.

قد يبلغ الحديث الفقيه، ولكنه يرفض سنده لعلل قادحة فيه، وربما بلغ غيره بسند أجود فيأخذ به. والخلاف بين العلماء في تقويم الرجال، وبالتالي قبول المتون أمر معروف.

من الفقهاء من يشترط في قبول خبر الواحد شروطا لايوافقه غيره عليها، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على كتاب الله وسنة رسوله، أو اشتراطه أن يكون المحدّث فقيها، أو اشتراطه في كل أمر شأنه العموم أن يجيء من طرق كثيرة فإن انفراد واحد وحسب في قضية عامة مشهورة قد يثير التهمة.

اعتقاد ضعف الحديث لفكرة خاصة. فإن كثيراً من الحجازيين مثلا يرون ألا يحتجّوا بحديث رواته عراقيون أو شاميون.

  • • أو أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ولكنه نسيه. (كنسيان عمر رضي الله عنه لحديث التيمم).
  • • وعدم العلم بدلالة الحديث.. مثل ما ورد: لا طلاق في إغلاق.

هل الإغلاق هو الإكراه؟ أم انسداد أبواب الفهم والذهن لسبب طارئ كالغضب الشديد. أو سبب مستمر كالجنون.. وقد يكون اللفظ مشتركا أو مجملا، أو مترددا بين الحقيقة والمجاز، في مثل قوله تعالى: )وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر([7].

  • • اعتقاد الفقيه أن لا دلالة في الحديث على ما يراد، مثل حديث (لا يدخل الجنة نمّام) هل يمتنع دخوله على التأبيد، أم لا يدخلها مع الأفواج الأولى..؟ وحديث: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، هل يكون كافرا، أم الإيمان موجود مشلول؟
  • • وقد تتساوى الدلالات المختلفة في إفادة معان كثيرة، ويصعب ترجيح وجهة على أخرى..

مثل كلمات الأذان.. فقد وردت ببضع عشرة صيغة، وظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرها كلها.. ومثل القراءة في صلاة الجنازة.. وغيرها كثير.

  • • وقد يكون الفقيه (مع جودة حفظه واستنتاجه) قد أخطأ في تقرير المقدمات التي انتهت بالنتيجة التي رآها، وذلك مثل من يقول:

لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد! مع أن قبول شهادته محفوظة عن علي وأنس وشريح وغيرهم رضي الله عنهم.

  • • وأخيرا من الفقهاء من يردّ الحديث الصحيح إذا خالف القياس الجليّ، ومنهم من يردّه إذا كان عمل أهل المدينة المنورة على خلافه[8].

ولكل مجتهد أجره

فإن صاحب الرسالة (عليه الصلوات والتسليمات) أمضى نتائج الاجتهاد وقبلها، وصحّ في السنة الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم : (إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر)[9]. أي أن لكل مجتهد أجره.

في ظلال المحبة والاحترام

ومن الممكن طرح القضايا على بساط البحث العلمي، وبذل الجهد في تعرّف الخطأ والصواب، ويغلب أن تتساوى وجهات النظر، وأن يكون لكل إمام ملحظ محترم يصعب تجاهله[10].

والفقهاء المجتهدون يحترم بعضهم بعضا ويحترم حريته في مخالفته، وقد رأينا الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه يرفض حمل الناس على مذهبه في الموطأ.

وقد أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إتمام الصلوات الرباعية أيام التشريق لمّا بلغه أن عثمان فعل ذلك، وقد صلّى ابن مسعود وراء عثمان متمما، فلما كلّم في صنيعه هذا قال: أكره الخلاف[11].

في هذه الأجواء الكريمة التي تعمق الحب ولا تتحول المناقشة فيها إلى شحناء وكراهية..، لا مانع من مناقشة الفروع والقضايا الخلافية لمعرفة الراجح من المرجوح.. يقول ابن تيمية:

(لقد كان العلماء من الصحابة والتابعين من بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا([12].

كانوا يتناظرون في المسائل مناظرة مشاورة ومناصحة ومحبة)[13] ، لا مناظرة مراء وتعصب مذموم، يقسي القلب، ويوغر الصدر، ويعمي عن الحق، ويسير وراء الهوى.

يقول الإمام حسن البنا: نلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن الخلاف لا يكون أبداً حائلا دون ارتباط القلوب، وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته.

[1] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين - محمد الغزالي، ص- 49.

[2] الأنعام - 153.

[3] رسالة دعوتنا - حسن البنا.

[4] البقرة - 328.

[5] النساء - 43.

[6] الطلاق - 2.

[7] البقرة - 187.

[8] دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين- محمد الغزالي، ص- (58-64).

[9] مسلم.

[10] دستور الوحدة الثقافية (المرجع السابق)، ص- 38.

[11] المرجع السابق، ص - 84.

[12] النساء - 59.

[13] الفتاوى 24: 172.

الأصل التاسع - تنظيم الوقت والابتعاد عن التكلف

يقول الإمام الشهيد في الأصل التاسع:

(وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا. ومن ذلك: كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف. ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأول مندوحة).

يتناول الإمام الشهيد في هذا الأصل قضية من أخطر القضايا التربوية في بناء الفرد المسلم.. وهي أن ينشغل بما يفيد ويدع ما لا ينبني عليه عمل، فيحفظ جهده من الضياع، وطاقته من التبدد، والقلوب من التفرق، ويكون بذلك إنسانا عمليا إيجابيا بناء، لا نظريا جدليا متكلفا[1].

وهو بذلك:

  • • يهذب لسانه .. فلا ينطلق في جدال عقيم، ومناقشات فارغة، تبدد الطاقة.. وتشحن النفوس.. وتزيد الفرقة.. ونظرة متفحصة إلى معظم النكبات التي أصابت المسلمين في القديم والحديث نجد وراءها هذا اللسان السليط.. وهذا الجدال العقيم.. وهذه المناظرات التي لا تبتغي سوى حب الظهور ومغالبة الآخرين.

ومن منهج القرآن في التربية أن نمسك اللسان عمّا لا يعنينا، وألا نتكلم إلا فيما يفيدنا، وأن تكون مناقشاتنا وأسئلتنا ومجادلاتنا بالتي هي أحسن في كل ما يخدم دعوتنا ويحقق رسالتنا {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره([2].

  • • وينظم وقته.. والوقت هو الحياة.. فما من يوم ينبثق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة..

والمسلم الذي لا يحترم وقته لا قيمة للحياة عنده.. والأمة التي تفرط بزمانها.. تعيش خارجه، كماً مهملاً لا تفيد ولا تستفيد.. تنشغل بالجزئيات وتنسى أصول البناء.

)إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب([3].

واختلاف الليل والنهار هو الزمان.. وأولو الألباب هم المسلمون الذين يتحكمون بهذا الزمان لصالح أنفسهم ومجتمعهم والإنسانية، ويتجنبون الخوض في كل مسألة لا ينبني عليها عمل نافع فالخوض فيها مضيعة للوقت وتبديد للجهد.

  • • ويحترم عقله.. فلا يبدد قدراته في جدليات فارغة.. أو في عبث ماجن.. أو في جزئيات لا أهمية لها.. أو في ساحات لا يستطيع العقل أن يدلي فيها برأي، مثل الأمور الغيبية.

قال تعالى: )يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه([4].

كدح وعمل وتعب.. وجدٌ واجتهاد ومجاهدة تعمّر النفس والمجتمع.. وتفيد العباد والبلاد.. كان صدّيق هذه الأمة رضي الله عنه يدعو ربه فيقول: اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين.

وكان الفاروق رضي الله عنه يدعو ربه فيسأله: البركة في الأوقات وإصلاح الساعات..

بهذا المنهج التربوي الجاد ألزم الإسلام أتباعه فأصبحوا بناة هداة عظماء..

لقد كان من فضل الله على سلفنا الصالح أنه كان جيلا جادا منشغلا بنشر الإسلام شرقا وغربا.. ولو أنه اشتغل بالمناظرات الكلامية والنقاشات العقيمة ما صنع أمة ولا حضارة، ولا خرج الإسلام من جزيرة العرب.

يسألونك عن الأهلة

يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة.. فيقولون: (يا رسول الله إن الهلال يبدو ضعيفا ضئيلا ثم يكبر إلى أن يصير بدرا، ثم يأخذ في النقص).وهذه قضية علمية يعرفها أهل هذا الزمان.. ولكن الذين نزل عليهم القرآنُُ لا يعرفونها، فعدل بهم سبحانه وتعالى إلى ما يفيد وما ينبني عليه عمل. )يسألونك على الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج([5].

مواقيت للناس في حلهم وإحرامهم، وفي صومهم وفطرهم، وفي نكاحهم وطلاقهم وعدتهم، وفي معاملاتهم وتجارتهم وديونهم، وفي أمور دينهم وأمور دنياهم على سواء. لقد اتجه الجواب إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري، فحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم.. ولم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية. والإجابة العلمية عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علما نظريا في الفلك، إذا هم استطاعوا - بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين - أن يستوعبوا هذا العلم، ولقد كان ذلك مشكوكا فيه كل الشك، لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة، كانت تعدّ بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان من المعضلات. من هنا عدل القرآن عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية، ولا تفيدها كثيرا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها[6]، وأجابهم بما ينبني عليه عمل.

إن هذا الأسلوب القرآني الرفيع يسميه أهل البلاغة.. (أسلوب الحكيم).. وهو أسلوب يصرف السائل نحو ما يفيده، ويتوجه بالحوار نحو الإيجابية والبناء..

يسألونك عن الساعة

ومثل ذلك من سأل عن الساعة: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها([7].

فكان الجواب: )فيم أنت من ذكراها([8] أي أن السؤال عن هذا، سؤال عما لا يعني، إذ يكفي من علمها أنه لابد منها، ولذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال للسائل:

وما أعددت لها؟ إعراضا عن صريح السؤال.. وتوجيها لما فيه الفائدة.

عمر ينكر على صبيغ

ولقد أنكر عمر رضي الله عنه على صبيغ، وأنكر علي رضي الله عنه على ابن الكواء كثرة سؤالهما الناس عن أشياء من القرآن لا ينبني عليها حكم تكليفي، وعن أمور لا ينبني عليها عمل.

السؤال عما لم يقع

والسؤال عما لم يقع، وعما عفا الله عنه، ليس من هدي الإسلام.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)[9].

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)[10].

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان إذا سئل عن مسألة، قال: أوقعت؟ فيقال له: يا أبا سعيد ما وقعت ولكنا نعدها، فيقول: دعوها، فإن كانت وقعت أخبرهم.

وكان عبد الملك بن مروان رضي الله عنه إذا سأل ابنَ شهاب قال له ابن شهاب: أكان هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال فدعه فإنه إذا كان، أتى الله بفرج. هكذا كان هدي الصحابة والتابعين ألا يخوضوا فيما لم يقع.

في عصر الترف العلمي.. نشأت فرق تسأل: أرأيت لو أن أمرا ما وقع.. فما حكمه.. وتفرعوا في الأمر حتى وصلوا إلى المضحكات المبكيات.

لقد صنعت البطالة منهم أناسا يحسنون اللغو ويطيلون الفكر العابث، وأوجد الفراغ مجالس كلامية كان لها في تاريخنا أسوأ الأثر.

إن وقت الإنسان وجهده أثمن من أن يضيعه في خيالات لا طائل وراءها، فالجدية والواقعية هي منهج الأمة العاملة المجاهدة.

قال تعالى: )قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين([11].

وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا وصالح أمتي براء من التكلف).

الخوض في معاني الآيات التي لم يصل إليها العلم بعد..

ولقد افتتن فريق من الناس بالاكتشافات العلمية الحديثة.. فحاول أن يتلمس لها وجودا في الآيات القرآنية، فيلوي أعناقها، ويتعسف في تفسير معانيها.. ولقد شغل أهل هذا المسلك أنفسهم، وشغلوا الناس معهم.. ونسوا حقائق لا يجوز نسيانها:

الأولى:

تخيل هؤلاء أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع.. فحاولوا تثبيت القرآن بالعلم. والاستدلال له من العلم.

وكيف تستقيم نظريات العلم التي تنقض اليوم ما أثبتته بالأمس.. مع حقائق القرآن النهائية؟!

الثانية:

سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنه حقيقة نهائية تعالج بناء الإنسان بما يتفق مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي. حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته. نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل، لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة!

والثالثة:

هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف - لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر.

وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي.

ولنأخذ بعض الأمثلة على هذا الخطأ..

يقول القرآن الكريم: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين([12] فيحمل البعض هذا النص، ويقول: هذه هي نظرية النشوء والارتقاء التي قال بها دارون. على ما في هذه النظرية من خلل وتهافت.

ويقول القرآن الكريم: )والشمس تجري لمستقر لها([13]. يقول علماء الفلك إن معنى ذلك أن الشمس تجري بسرعة (كذا) بالنسبة لما حولها من النجوم.. وبسرعة (كذا) في دورانها مع المجرة.. ربطوا الحقيقة القرآنية.. بنظريات ينقضها العلم كلما اكتشف علماء الفلك المزيد من المعلومات..

ويقول القرآن: )أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما([14]. ثم تظهر نظرية فصل الأرض عن الشمس..

لا بأس من الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق.. وفرق بين هذا وذاك[15].

المفاضلة بين الأصحاب

لقد أثنى الله تبارك وتعالى ورسوله على الصحابة الكرام.

قال تعالى: )لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة([16].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)[17].

ولقد حدث بين الصحابة الكرام خلافات وصلت إلى حد الشجار في موقعة الجمل وصفين، ولكنهم جميعا كانوا يتأولون الحق، وفي التآويل ما يبعد الشبهة.. وما كان دافع أحد منهم -فيما شجر بينهم- الدنيا ولا زخرفها.. ومن ثم كان لأهل السنة رأي وسط معتدل فيما حدث يتفق مع مكانتهم ووقارهم رضي الله عنهم، وهو الإمساك عما شجر بينهم، فلكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأول مندوحة. ولقد أجاب

سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما سئل عن ذلك فقال: (تلك دماء قد طهر الله منها أسنتنا، فلنطهر منها ألسنتنا).

والإمام البنا في حثه على تجنب الكلام في المفاضلة بين الأصحاب وما شجر بينهم من خلاف.. لا يعني (بكل تأكيد) ما ورد في الأحاديث الصحيحة من تفضيل بعض الأصحاب على غيرهم.. إنما يشير إلى الفتنة التي وقعت بين الأصحاب فقسمت صفهم ومزقت وحدتهم وجعلتهم طوائف متخاصمة وأحزابا متعادية.

ولقد نفخ في هذا الخلافات أصحابُ المكر على مدار التاريخ.. حتى أصبحت فجوات ملأتها الدماء.. وصار المسلمون أهل سنة وأهل شيعة بينهم من الحقد والكراهية أكثر مما بينهم وبين أعدائهم..

لقد كان الأحرى بهم أن يطووا هذه الصفحة، شعارهم ما قاله الخليفة الراشد الخامس، وليس ذلك إلا لأنها مسألة لا ينبني عليها عمل، لا لأنها صفحة قاتمة في تاريخ مشرق، فكتاب الزمن لا يغفل حدثا.

إن في المسلمين اليوم سنة وشيعة وفرق أخرى.. وباب النقاش في الأصحاب باب إن دخله هؤلاء ما استطاعوا الخروج منه.. ولذا يرشدهم الإمام المجدد إن هم أرادوا وحدة الأمة أن يلتقوا على الصمت في هذا الموضوع.. فالصمت هو ساحة اللقاء وهو والله أثمن من الذهب.

وهذا ما دفع الإمام حسن البنا إلى إنشاء دار التقريب في القاهرة لحصر الخلاف في دائرة البحث العلمي والعبرة التاريخية.. ومنع امتداده إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم.. مسترشدا بقوله تعالى: )تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون([18].

[1] نظرات في رسالة التعاليم - محمد عبد الله الخطيب ومحمد عبد الحليم حامد، ص- 117.

[2] الأنعام - 68.

[3] آل عمران - 190.

[4] الانشقاق - 6.

[5] البقرة - 189.

[6] في ظلال القرآن 2 : 180.

[7] النازعات - 42.

[8] النازعات - 43.

[9] الدارقطني وغيره.

[10] مسلم.

[11] سورة ص - 86.

[12] سورة المؤمنون - 12.

[13] سورة يس - 38.

[14] سورة الأنبياء - 30.

[15] في ظلال القرآن - سيد قطب، 2 : 184.

[16] سورة الفتح - 18.

[17] فتح الباري 11 : 248.

[18] سورة البقرة - 134.

الأصل العاشر - العقيدة الإسلامية

قال الإمام حسن البنا في الأصل العاشر:

(معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من التشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل).

ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه )والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا([1].

قضية العقيدة

يتناول هذا الأصل مسألة العقيدة.. وهي حجر الأساس والركيزة الأهم للدعوة الإسلامية، فجميع الأعمال الصالحة يتوقف قبولها على صحة الاعتقاد، وصدق الاتباع )فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا([2].

لأن أي انحراف عن أصول العقيدة الصحيحة انحراف عن الإيمان، والانحراف عن الإيمان يؤدي إلى إبطال العمل )وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا([3]. ولأهمية القضية فقد كثر فيها اللغط واختلطت فيها المفاهيم وكثر حولها الكلام، وأتهم فيها علماء أفاضل.

مسلك الأنبياء والسلف في تقديم العقيدة

إن مسلك الأنبياء والرسل في تقديم العقيدة لم يكن تقديما نظريا ولا مصطلحيا إنما كان منهجا متحركا باعثا للحياة الأفضل التي ينشدها كل عامل في مجتمعه[4].

وكذلك فعل سلفنا الأول الذي لم يتقعّر في بحوث ما وراء المادة، ولم يحاول استكناه الغيبيات، بل أحسن علاقته بالله في العبادة الخاشعة، وأحسن علاقته فيما التزمه من خلق حسن وعدالة مطلقة، وقد أعانه ذلك على إبلاغ رسالة الإسلام، فتألق وتأنق، واندكت أمام عزماته الصعاب والعقبات.

ولو أنه اشتغل بالفلسفة اللاهوتية، والمناظرات الكلامية ما خرج من جزيرة العرب.

فلما ذهبت الأجيال الزاكية، وولّى رهبان الليل وفرسان النهار، خلقت البطالةُ ناسا يحسنون اللغو ويطيلون الفكر العابث والنظر الشرود. فنشأت فرق كالخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، وغيرهم، وفكر هؤلاء لا وزن له من ناحيتي العقل والنقل، ولكن المتأثرين بالغزو الثقافي تبنوه وشغلونا به، وأقحموه إقحاما على تفكيرنا النظيف[5].

وإذا كانت هذه الفرق القديمة قد انتهت واندثرت.. إلا أن فرقا جديدة ظهرت بأسماء أخرى ليس على لسانها إلا لغة التكفير.. لا يكاد يسلم من تطرفها مسلم.

تنبيه لابد منه

في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلّم ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه حين آمن به دليلا واحدا، كما أنه (أي ضمام) حين دعا قومه للإيمان لم يقدم لهم أدلة على ذلك[6].

لذلك لما اتُهم ابن تيمية بأنه يثير البلبلة بكلامه في آيات وأحاديث الصفات.. قال رحمه الله:

(وأما قول القائل أني أتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، فأنا ما فاتحت عاميّا بشيء من ذلك قط)[7].

أما الإمام مالك فيقول: لا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأمّا الكلام في الدين وفي الله عز و جل فالسكوت أحب إلي.

نسوق ذلك لنبين كم يخطئ البعض بحق نفسه والمسلمين حين يحصر همه في الكلام في الدين وفي الله عز و جل.. يفسق هذا ويكفر آخر[8]...

تعريف العقائد

والعقائد هي الأمور التي يجب أن يصدّق بها قلبك، وتطمئن إليها نفسك، وتكون يقينا عندك، لا يمازجه ريب، ولا يخالطه شك.

تقدير الإسلام للعقل

أساس العقائد الإسلامية - ككل الأحكام الشرعية- كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن كل هذه العقائد يؤيدها العقل، ويثبتها النظر الصحيح، ولهذا شرف الله تعالى العقل بالخطاب، وجعله مناط التكليف، وندبه إلى البحث والنظر والتفكير. قال الله تعالى: )قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون([9].

وذم الذين لا يتفكرون ولا ينظرون فقال تعالى: )وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون([10].

وطالب الخصوم بالدليل والبرهان حتى فيما هو ظاهر البطلان، تقديرا للأدلة، وإظهارا لشرف الحجة )ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون([11].

فالإسلام لم يحجر على الأفكار ولم يحبس العقول، وإن أرشدها إلى التزام حدها، وعرّفها قلة علمها، وندبها إلى الاستزادة من معارفها، قال تعالى: )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا([12]، وقال تعالى: )وقل رب زدني علما([13].

أقسام العقائد الإسلامية

العقائد الإسلامية تنقسم إلى أربعة أقسام رئيسة، تحت كل قسم منها فروع عدة.

القسم الأول- الإلهيات

وتبحث فيما يتعلق بالإله سبحانه وتعالى (صفاته وأسمائه وأفعاله). ويلحق بها ما يستلزمه اعتقاده من العبد لمولاه.

القسم الثاني- النبوات

وتبحث في كل ما يتعلق بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من حيث صفاتهم، وعصمتهم، ومهمتهم، والحاجة إلى رسالتهم. ويلحق بهذا القسم ما يتعلق بالأولياء رضوان الله عليهم، والمعجزة والكرامة، والكتب السماوية.

القسم الثالث- الروحانيات

وتبحث فيما يتعلق بالعالم غير المادي، كالملائكة عليهم السلام، والجن، والروح.

القسم الرابع- السمعيات

وتبحث فيما يتعلق بالحياة البرزخية، والحياة الأخروية: كأحوال القبر، وعلامات القيامة، والبعث، والموقف، والحساب، والجزاء.

وسيقتصر تناولنا هنا على القسم الأول لاتصاله بموضوع البحث.

الإلهيات

ذات الله تبارك وتعالى

إن ذات الله تبارك وتعالى أكبر من أن تحيط بها العقول البشرية. وإن عقولنا، من أكبرها إلى أصغرها تنتفع بكثير من الأشياء ولا تعلم حقائقها.

فالكهرباء، والمغناطيس، وغيرهما، قوى نستخدمها وننتفع بها ولا نعلم شيئا من حقيقتها، ويكفينا أن نعرف من خواصها ما يعود بالفائدة علينا.

فإذا كان هذا شأننا في الأمور التي نلمسها ونحسها فما بالك بذات الله تبارك وتعالى؟! وقد ضل أقوام تكلموا في ذات الله تبارك وتعالى، فكان كلامهم سببا لضلالهم وفتنتهم واختلافهم، لأنهم يتكلمون فيما لا يدركون تحديده، ولا يقدرون على معرفة كنهه، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفكير في ذات الله، وأمر بالتفكر في مخلوقاته.

أسماء الله الحسنى

إن الخالق المتصرف جلّ وعلا تعرف إلى خلقه بأسماء وصفات تليق بجلاله، يحسن بالمؤمن حفظها تبركا بها، وتلذذا بذكرها، وتعـظيما لقدرها.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله تسعةٌ وتسعون إسما مائةٌ إلا واحدا، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)[14].

الأسماء الزائدة عن التسعة والتسعين

هذه التسعة والتسعون ليست كل ما ورد في أسماء الله تبارك وتعالى، بل وردت الأحاديث بغيرها من الأسماء، مثل: الحنان، المنان، البديع، المغيث، الكفيل، ذو الطول، ذو المعارج، ذو الفضل، الخلاق.

الأحاديث التي وردت فيها ألفاظ على أنها أسماء لله تعالى على المجاز

ولكن قرائن الحال وأصل الوضع يدل على غير ذلك، فذلك من قبيل المجاز لا الحقيقة، ومن قبيل تسمية الشيء باسم غيره لعلاقة بينهما أو على تقدير بعض المحذوفات.

مثل ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبو الدهر فإن الله هو الدهر)[15]. فلا يراد هنا ظاهر اللفظ، بل المقصود إن الله هو المسبب لحوادث الدهر فلا يصح أن ينسب إلى الدهر شيء ولا أن يسب ويذم.

التوقيف في أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته

والجمهور على أنه لا يصح أن نطلق على الله تبارك وتعالى اسما أو وصفا لم يَرد به الشرع، بقصد اتخاذه اسما له تعالى وإن كان يُشعر بالكمال. فلا يصح أن نقول مثلا: مهندس الكون الأعظم، على أن يكون هذا ومثله أسماء أو صفات له تعالى يصطلح عليها، ويتفق على إطلاقها عليه تعالى.

العَلَمية والوصفية في هذه الأسماء

من الأسماء التسعة والتسعين عَلَمٌ واحد وضع للذات القدسية وهو لفظ الجلالة: الله، وباقيها كلها ملاحظ فيها معنى الصفات.

وهل هو مشتق أو غير مشتق، مسألة خلافية، لا يترتب عليها أمر عملي.

خواص أسماء الله الحسنى

يذكر البعض أن لكل اسم من أسماء الله تعالى خواص وأسرار تتعلق به على إفاضة فيها أو إيجاز، وقد يتغالى البعض فيتجاوز هذا القدر إلى زعم أن لكل اسم خادما روحانيا يخدم من يواظب على الذكر به. وهكذا، والذي نعلمه في هذا، أن أسماء الله تعالى ألفاظ مشرّفة، لها فضل على سائر الكلام، وفيها بركة وفي ذكرها ثواب عظيم، أما ما زاد على ذلك فلم يرد في كتاب ولا سنة، وقد نُهينا على الغلو في دين الله تعالى، والزيادة فيه، وحسبنا الاقتصار على ما ورد.

اسم الله الأعظم

ورد ذكر اسم الله الأعظم في أحاديث كثيرة.

والعلماء يختلفون في تعيينه لاختلافهم في ترجيح الأحاديث بعضها على بعض. فإذا تقرر هذا، فما يدّعيه بعض الناس من أنه سر من الأسرار يمنح لبعض الأفراد، فيفتحون به المغلقات، ويخرقون به العادات، ويكون لهم به من الخواص ما ليس لغيرهم من الناس، أمر زائد على ماورد عن رسوله.

صفات الله تعالى

صفاته تعالى في نظر العقل

إن الناظر إلى هذا الكون وما فيه من بدائع الحكم، وغرائب الخلق، ودقيق الصنع، مع العظمة والاتساع، والتناسق والابداع، بحيث يتألف من مجموعه وحدة كونية، كل جزء منها يخدم الأجزاء الأخرى، كما يخدم العضو في الجسم الواحد بقية الأعضاء، لخرج من كل ذلك من غير أن يأتيه دليل أو برهان، أو وحي أو قرآن، بهذه العقيدة النظرية السهلة وهي: أن لهذا الكون خالقا صانعا موجدا، وأن هذا الصانع لابد أن يكون عظيما فوق ما يتصور العقل البشري الضعيف من العظمة، قادرا فوق ما يفهم الإنسان من معاني القدرة، وحيّا بأكمل معاني الحياة، وأنه مستغن عن كل هذه المخلوقات، لأنه كائن قبل أن تكون، وعليما بما وسع حدود العلم، وأنه فوق نواميس هذا الكون لأنه واضعها، وأنه قبل هذه الموجودات لأنه خالقها، وبعدَها لأنه الذي سيحكم عليها بالعدم. واجمالا سترى نفسك مملوءا بالعقيدة بأن صانع هذا الكون ومدبره يتصف بكل صفات الكمال فوق ما يتصورها العقل البشري المحدود. ومنزه عن كل صفات النقص، وسيرى هذه العقيدة وحيَ وجدانه لوجدانه وشعورَ نفسه لنفسه )فطرةَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون([16].

بين صفات الله وصفات الخلق

إن المعنى الذي يُقصدُ باللفظ في صفات الله تبارك وتعالى يختلفُ اختلافا كليا عن المعنى الذي يُقصد بهذا اللفظ عينه في صفات المخلوقين، فالعلم والحياة والسمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة، مدلولات الألفاظ فيها تختلف عن مدلولاتها في حق الخلق من حيث الكمال والكيفية اختلافا كليا.

آيات الصفات وأحاديثها

وردت في القرآن الكريم آيات وفي السنة المطهرة أحاديث، توهم بظاهرها مشابهة الحق تبارك وتعالى لخلقه في بعض صفاتهم، مثل قوله تعالى: )كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام([17].

وقوله تعالى: )الرحمن على العرش استوى([18].

ومثلها كل آية ورد فيها لفظ الوجه والعين واليد ونسب فيها الاستواء على العرش إلى الله تبارك وتعالى.

أو مما يؤخذ منه نسبة الجهة لله تعالى في مثل قوله تعالى: )أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور([19].

وكذلك وردت في الأحاديث الشريفة ألفاظ كالتي وردت في القرآن منسوبة إلى الله تعالى: كالوجه واليد ونحوهما.

انقسام الناس في هذه المسألة على أربع فرق

1- فرقة أخذت بظواهرها كما هي

فنسبت إلى الله وجها كوجوه الخلق، ويدا أو أيديا كأيديهم، وضحكا كضحكهم، وهكذا حتى فرضوا الإله شيخا، وبعضهم فرضه شابا، وهؤلاء هم المجسمةُ و المشبهةُ، وليسوا من الإسلام في شيء، وليس لقولهم نصيب من الصحة، ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير([20]. وقوله تعالى: )قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد([21].

2- فرقة عطلت معاني هذه الألفاظ على أي وجه

يقصدون بذلك نفي مدلولاتها مطلقا عن الله تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، لأن ذلك لا يكون إلا بجارحة، والجوارح يجب أن تنفى عنه سبحانه وتعالى، فبذلك يعطلون صفات الله تعالى ويتظاهرون بتقديسه، وهؤلاء هم المعطلة، ويطلق عليهم بعض علماء تاريخ العقائد الإسلامية: الجهميّه، ولا أظن أن أحدا عنده مُسحة من عقل يستسيغ هذا القول المتهافت! وها قد ثبت الكلام والسمع والبصر لبعض الخلائق بغير جارحة، فكيف يتوقف كلام الحق تبارك وتعالى على الجوارح؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

هذان رأيان باطلان لاحظَّ لهما من النظر، وهناك رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد وهما رأي السلف ورأي الخلف[22].

3- مذهب السلف

أما السلف رضوان الله عليهم فقالوا: نؤمن بهذه الآيات والآحاديث كما وردت، ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى، فهـم يثبتـون اليـد والعين والأعين والاستواء والضحك والتعجب.. إلخ.، وكل ذلك بمعان لا ندركها، ونترك لله تعالى الإحاطة بعلمها، ولاسيما قد نهينا عن ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروه قدره)[23] ، مع قطعهم رضوان الله عليهم بانتفاء المشابهة بين الله وبين الخلق.

4- مذهب الخلف

أما الخلف فقد قالوا: إننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات والأحاديث، لا يراد بها ظواهرها، وعلى ذلك فهي مجازات، لا مانع من تأويلها، فأخذوا يؤوِّلون (الوجه) بالذات، و(اليد) بالقدرة وما إلى ذلك، هربا من شبهة التشبيه.

وفيما يلي نماذج من أقوالهم:

• قال أبو الفرج بن الجوزي الحنبلي في كتابه (دفع شبهة التشبيه): قال تعالى: (ويبقى وجه ربك) أي يبقى ربك، وكذلك قالوا في قوله تعالى: (يريدون وجهه) أي يريدونه.

وعقد ابن الجوزي في أول الكتاب فصلا ضافيا في الرد على من قالوا: (إن الأخذ بظاهر هذه الآيات والأحاديث هو مذهب السلف)، وخلاصة ما قاله:

إن الأخذ بالظاهر هو تجسيم وتشبيه، لأن ظاهر اللفظ هو ما وضع له، فلا معنى لليد حقيقة إلا الجارحة، وهكذا.

• وقال فخر الدين الرازيّ في كتابه (أساس التقديس): وأعلم أن نصوص القرآن، لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه:

الأول: أن ظاهر قوله تعالى: (ولتصنع على عيني) يقتضي أن يكون موسى عليه السلام، مستقرا على تلك العين، ملتصقا بها، مستعليا عليها، وذلك لا يقوله عاقل.

والثاني: أن قوله تعالى: (واصنع الفلك بأعيننا) يقتضي أن يكون آلة تلك الصنعة، هي تلك العين.

والثالث: أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح، فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل، وذلك هو أن تُحمل هذه الألفاظ على شدة العناية والحراسة.

• وقال الإمام الغزالي في الجزء الأول من كتابه (إحياء علوم الدين) أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحا لفهم، ولم يكن فيه ضرر، ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز، ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب.. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة على النار)[24]. ومعناه أن روح المسجد وكونه معظما، ورمي النخامة فيه تحقير له، فيضاد معنى المسجدية، مضادة النار، لاتصال أجزاء الجلدة.

وأنت ترى أن ساحة المسجد، لا تنقبض من نخامة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار)[25].

وذلك من حيث الصورة لم يكن قط ولا يكون، ولكن من حيث المعنى هو كائن،، فقد صار رأسه رأس الحمار، في معنى البلادة والحمق، وهو المقصود دون الشكل.

وإنما يعرف أن هذا السر على خلاف الظاهر، إما بدليل عقلي أو شرعي. أما العقلي فأن يكون حمله على الظاهر غير ممكن، كقوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع، فعلم أنها كناية عن القدرة، التي هي سرّ الأصابع وروحها الخفي، وكنّى بالأصابع عن القدرة، لأن ذلك أعظم وقعا في تفهم تمام الاقتدار.

بين السلف والخلف

وقد كان هذان الطريقان مثار خلاف شديد بين علماء الكلام، من أئمة المسلمين، وأخذ كل يدعم مذهبه بالحجج والأدلة، ولو بحثت الأمر لعلمت أن مسافة الخُلف بين الطريقين لا تحتمل شيئا من هذا، لو ترك أهل كل منهما التطرف والغلو.

وبيان ذلك من عدة أوجه:

أولا: اتفق الفريقان على تنزيه الله تبارك وتعالى، عن المشابهة لخلقه.
ثانيا: كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله تعالى، غيرُ ظواهرها، التي وضعت لها هذه الألفاظ في حق المخلوقات، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفي التشبيه.
ثالثا: كل من الفريقين يعلم، أن الألفاظ، توضع للتعبير عما يجول في النفوس، أو يقع تحت الحواس مما يتعلق بأصحاب اللغة وواضعيها، وأن اللغات، مهما اتسعت، لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم، وحقائق ما يتعلق بذات الله تعالى، من هذا القبيل، فاللغة أقصر من أن تواتينا بالألفاظ، التي تدل على هذه الحقائق، فالتحكمُ في تحديد المعاني بهذه الألفاظ تغرير.

وإذا تقرر هذا، فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد، حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك، حفظا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا اعناتا.

ترجيح مذهب السلف

الإمام حسن البنا ومدرسته تعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى، أسلم وأولى بالاتباع، حسما لمادة التأويل والتعطيل. كما تعتقد هذه المدرسة أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعي هذا النزاع الطويل بينهم، وبين غيرهم قديما وحديثا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله. وقد لجأ أشد الناس تمسكا برأي السلف، رضوان الله عليهم، إلى التأويل في عدة مواطن، وهو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، من ذلك تأويله لحديث: (الحجر الأسود يمين الله في أرضه)[26] وقوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن)[27] وقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن)[28].

وقال الإمام النووي بما يفيد قرب مسافة الخلاف بين الرأيين، مما لا يدع مجالا للنزاع والجدال، ولاسيما وقد قيد الخلف أنفسهم في التأويل بجوازه عقلا وشرعا، بحيث لا يصطدم بأصل من أصول الدين.

وخلاصة هذا البحث

أن السلف والخلف قد اتفقا على أن المراد، غيرُ الظاهر المتعارف بين الخلق، وهو تأويل في الجملة، واتفقا كذلك على أن كل تأويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز، فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع، وهو هين كما ترى، وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم، وأهمّ ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف، وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك من سبيل(1).

شبهات وردّها

بعض الآراء المتطرفة، حمّلت كلام الإمام حسن البنا ما لا يحتمل.. واعتبرته وأتباعه منحرفي العقيدة.. كتبوا في ذلك رسائل.. وأدلوا بأقوال.. تنم عن تعصب وجهل. ولننظر في هذه المسائل لنرى هل تستقيم.. أم أنها مجرد اتهامات بغير دليل؟

يقول الإمام البنا:

(ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع حسما لمادة التأويل والتعطيل).

يقول هؤلاء: إن التفويض معناه تفويض معاني صفات الله تعالى مع الاعتقاد بأن ظواهرها غير مرادة وليس هذا مذهب السلف لأن الله لا يخاطبنا بما لا نعقل معناه فهم يفوضون الكيف لا المعنى.

والجواب: أن المنهج العلمي يقتضي فهم العبارة ملتئمة مع سائر النصوص والأقوال دون أخذها مجتزأة.

فالعبارة جاءت منكّرة وليست معرّفة فهي لا تعني المذهب المذكور ولكنها استعملت بمعناها اللغوي بمعنى عدم الخوض في كيفية الاستواء أو غيره من الصفات وترك ذلك إلى الله تعالى. فإذا أضيف إلى ذلك أن الرجل (حسن البنا) أكّد ترجيحه لمذهب السلف، وارتضاءه له، واستشهاده بأقوالهم، وأن هذه العبارة وردت في كلام غيره من الأعلام فإنه يتعين فهم مراده على هذا الوجه. وإليك بعضا من نصوصه في هذه المسألة لنصل إلى فهم النص المذكور.

1- قال رحمه الله: أن السلف رضوان الله عليهم يؤمنون بآيات الصفات وأحاديثها كما وردت ويتركون بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى مع اعتقادهم بتنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه. فإن كنت ممن أسعده الله، بطمأنينة الإيمان، وأثلج صدره ببرد اليقين، فلا تعدل به بديلا[29].

2- عند احتجاجه بأقوال السلف ذكر منهم اللالكائي في (أصول السنة)، ونقل عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، ونقل عن الخلال في (كتاب السنة) نصوصا عن أحمد بن حنبل ثم نقل عن مالك بن أنس، وذكر (أبو بكر الأثرم) و(أبو عمر الطلمنكي) و (أبو عبد الله بن بطة) وغيرهم من الأئمة الأثبات الذين ساروا على نهج السلف الصالح.

ولقد سار ابن تيمية على نفس الطريق، قال رحمه الله:

(وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة مثل كتاب السنّة للالكائي والإبانة لإبن بطة، والأصول لأبي عمرو الطلمنكي والسنة لأبي بكر بن الأثرم، والسنّة للخلال، والسنّة لأبي بكر بن أبي عاصم)[30].

3- أنه صرّح بمراد الكيفية تصريحا بيّنا في قوله: (وإنما علم الله تبارك وتعالى علم لا يتناهى كماله، ولا يعدّ علم المخلوقين شيئا إلى جانبه، وكذلك الحياة، وكذلك السمع.. فهذه كلها مدلولات الألفاظ فيها تختلف عن مدلولاتها في حق الخلق. من حيث الكمال والكيفية اختلافا كليا لأنه تعالى لا يشبه أحدا من خلقه، فتفطن لهذا المعنى فإنه دقيق. ولست مطالبا بمعرفة كنهها[31] وإنما حسبك أن تعلم آثارها في الكون، ولوازمها في حقك)[32].

من مجموع هذه النصوص يتضح أن مراد الإمام البنا هو تفويض الكيفية لا المعنى. على أن العبارة التي اشتد فيها النكير وفسرنا مراده فيها قد جاءت في كلام الأئمة ممن هم على منهج السلف الصالح.

• روى أبو القاسم الالكائي في (أصول السنة) عن محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما قال: (اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز و جل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسّروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنّة ثم سكتوا).

• وذكر الخـلاّل في كتاب (السنة) عن حنبل، وذكره حنبل في كتبه، مثل كتاب (السنة والمحنة). قال حنبل: سألت أبا عبد الله، عن الأحاديث التي تروى (إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا) و(إن الله يرى) و(إن الله يضع قدمه) وما أشبه هذه الأحاديث؟ فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله تبارك وتعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية، (ليس كمثله شيء)[33].

• وروى حرملة بن يحيى قال: سمعت عبد الله بن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: من وصف شيئا مع ذات الله مثل قوله: (وقالت اليهود يد الله مغلولة) فأشار بيده إلى عنقه، ومثل قوله: (وهو السميع البصير) فأشار إلى عينه أو أذنه أو شيء من يديه، قطع ذلك منه، لأنه شبه الله بنفسه.

• وروى أبو بكر الأثرم وغيره كلاما طويلا في هذا المعنى ختمه بقوله: (فما وصف الله من نفسه، فسماه على لسان رسوله، سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف.

• وجاء عن ابن رجب الحنبلي في فضل علم السلف على الخلف: والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها.. ولا يصح منهم خلاف ذلك البتة خصوصا الإمام أحمد ولا خوض في معانيها، وكذلك ما جاء عن ابن قدامة في لمعة الاعتقاد حين عرض لمسألة الصفات، وتلقيها بالتسليم والقبول أشار إلى ترك التعرض إلى معناها، ورد علمها إلى قائلها[34].

فهذه العبارات ونحوها حملت على معنى الكيفية من خلال الجمع بين أقوالهم تحقيقا للإنصاف، وإحسانا للظن بهم وبالمنهج نفسه نتعامل مع أقوال البنا لما عرف عنه من شدة الحرص على اتباع السنة ولزومها، وسلوك منهج السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.

أما الشبهة الثانية: وهي إطلاق لفظ المتشابه على الصفات فإنه محمول على معنى أن كيفية اتصاف المولى تبارك وتعالى بهذه الصفات مما استأثر سبحانه بعلمه، ولا سبيل للبشر إلى إدراكه والإطلاق بهذا المعنى سائغ ومقبول.

يقول الشيخ الشنقيطي في جواز إطلاق لفظ المتشابه على الصفات من هذه الحيثية: (اعلموا أن آيات الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المتشابه وهذا من جهة غلط، ومن جهة قد يسوغ، كما بيّنه مالك بن أنس بقوله: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول،والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب) فكون الاستواء غير مجهول يدل على أن معناه غير متشابه بل هو معروف عند العرب، والكيف غير معقول يدل على عجز البشر عن إدراكه، وما استأثر الله بعلمه يسمى متشابها بناء على الوقف في قوله تعالى: )وما يعلم تأويله إلا الله([35] فهو بالنسبة إلى الصفة غير متشابه، وبالنسبة إلى كيفية الاتصاف به متشابه على أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه)[36].

ثم إن مفهوم المتشابه مما اختلفت فيه أنظار العلماء فيما ذكره السيوطي في (الاتقان) في تفسير المحكم والمتشابه فبعضهم يقول: إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل أوجها وعزاه السيوطي لابن عباس.

وعلى هذا التفسير كتب الإمام أحمد بن حنبل كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله).

ومنهم من يقول المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل. والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور.

ومنهم من يقول المحكم الذي يؤمن به ويعمل به والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به.

ومنهم من قال المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه[37] خلافه.

وقد جاء في القرآن الكريم: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها([38] أي يشبه بعضه بعضا وجاء وصفه كله بأنه محكم:)كتاب أحكمت آياته([39] أي بمعنى الإتقان.

وجاء وصف بعضه بالمتشابه: )منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات([40]. وهذا ما وقع الخلاف في تفسيره على النحو الذي أسلفنا.

وخلاصة القول أن منهج البنا جاء مقررا لعقيدة السلف، داعيا إلى لزومها وتثبيتها.

[1] آل عمران - 7.

[2] الكهف - 110.

[3] الفرقان - 23.

[4] فهم الإسلام - جمعة أمين، ص- (163 - 164).

[5] دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي. ص- (111-112).

[6] مسلم.

[7] الفتاوى 5 : 226.

[8] فهم الإسلام- جمعة أمين، ص- 174.

[9] يونس - 101.

[10] يوسف - 105.

[11] المؤمنون - 117.

[12] الإسراء - 85.

[13] طه- 114.

[14] رواه البخاري ومسلم.

[15] رواه مسلم.

[16] الروم - 30.

[17] الرحمن - 27.

[18] طه - 5.

[19] الملك - 16.

[20] الشورى - 11.

[21] الإخلاص.

[22] رسالة العقائد - حسن البنا.

[23] قال الحافظ العراقي: رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد ضعيف، ورواه الاصبهانيّ في الترغيب والترهيب بإسناد أصحَ منه، من كتاب نظرات في رسالة التعاليم - محمد عبد الله الخطيب ومحمد عبد الحليم حامد، ص- 431.

[24] قال الحافظ العراقي: هو من قول أبي هريرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في المسجد في القبلة فقال: ما بال أحدكم مستقبل ربه فينخع أمامه! أيحب أحدكم أن يستقبل فينخع في وجهه؟ من كتاب نظرات في رسالة التعاليم (المرجع السابق)، ص- 139.

[25] فتح الباري 2 : 214.

[26] الحاكم.

[27] مسلم.

[28] أحمد.

[29] العقائد- حسن البنا، ص- 70.

[30] الفتاوى 5: 24.

[31] أي كيفيتها.

[32] العقائد- حسن البنا، ص- 49.

[33] العقائد- حسن البنا، ص- 67.

[34] اللمعة بشرح ابن عثيمين ص- 20، من كتاب أضواء على الأصول العشرين- عصام البشير، ص- 61.

[35] آل عمران - 7.

[36] منهج دراسات الأسماء والصفات ص- 32، من كتاب أضواء على الأصول العشرين (المرجع السابق)، ص- 62.

[37] انظر مبحث المحكم والمتشابه في الإتقان وغيره من كتب علوم القرآن، من كتاب أضواء على الأصول العشرين (المرجع السابق)، ص- 63.

[38] الزمر - 23.

[39] هود - 1.

[40] آل عمران- 7.

الأصل الحادي عشر - البدعة الضلالة التي تجب محاربتها

يقول الإمام حسن البنا (رحمه الله) في الأصل الحادي عشر:

(وكل بدعة في دين الله لا أصل لها -استحسنها الناس بأهوائهم، سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه- ضلالة تجب محاربتها، والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شرٌ منها).

يعالج الإمام البنا في هذا الأصل قضية البدعة.

والبدعة لغة: الاختراع على غير مثال سابق.

والبدعة شرعا: (طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يُقصد بالسلوك عليها، المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى)[1].

والإسلام يرفض الابتداع في دين الله للأسباب التالية:

1- إنّ دين الله أكملُ من أن يفتقر إلى إضافة شيء له، فلقد أتمّ الله نعمته على عباده وأكمل لهم دينهم، قال تعالى: )اليومَ أكملتُ لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلامَ دينا([2].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)[3].

وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)[4].

2- إن إقرار هذه الإضافات التي صنعها الناس يعني إعطاء البشر حق التشريع في العقائد والعبادات وما إليها.. وهذا الحق انفرد به رب العالمين، قال تعالى: )أم لهم شركاءُ شرعوا لهمْ من الدين ما لم يأذنْ به الله([5].

3- التعلّق بالبدع المحدثة يتم على حساب السنن الأصيلة نفسها، والذين يخترعون أشياء ليعبدوا الله بها يتحمّسون لها وتكون أقرب إلى هواهم من التعاليم الثابتة عن الله ورسوله[6].

وعليه فالابتداع المرفوض هو:

ما كان في الدين، يفعله العباد على أنه من العبادات التي تقربهم إلى الله، بينما هو يخرج بهم عن دائرة الرسالة الإلهية.

وألا يكون له أصل في الشرع.

من رغب عن سنتي فليس منّي

في الحديث الشريف أن ثلاثة جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم.. فلما أُخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا.

وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر.

وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟

أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منّي[7].

ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟

عن أبي سعيد قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم، يُقسّمُ جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال:

اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أضرب عنقه، فقال: دعه إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة[8].

لقد حاول هؤلاء أن يفتحوا باب الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخروج عن حد التسليم الكامل للهدي النبوي وتعاليم الدين، فكان الرد الحاسم الذي أبقى المسلمين على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

البدعة في عهد الصحابة والتابعين

ظهرت الخلافات بين المسلمين أواخر عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه وجرى ما جرى وقتل عثمان مظلوما. وفي عهد سيدنا علي رضي الله عنه ظهرت الخوارج والشيعة ثم المرجئة. وفي أواخر عصر بني أمية أظهر معبد الجهني القول بالقدر. ثم جاء تلميذه جهم بن صفوان وقال ببدعة التعطيل.

ثم جاء المعتزلة في العصر العباسي فكانت بدعة خلق القرآن.

والابتداع يكون بالزياة والنقصان وهما في الحكم سواء.

فمن أمثلة الزيادة: الطواف ببعض الأضرحة على نحو ما يفعل الحجيج بالكعبة المشرفة، والرهبنة.

ومن أمثلة النقصان: تعطيل الجهاد في سبيل الله، وتعطيل الحكم بما أنزل الله، والاكتفاء بالقرآن الكريم دون السنة النبوية عند من يعرف بالقرآنيين.

البدعة بين الدين والدنيا

والبدعة الضلالة هي ما كانت في أمور الدين.. أما ما كانت في شؤون الدنيا فهي مطلوبة يحض الإسلام عليها.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)[9].. ولقد أهمل المسلمون (وخاصة في عصور الانحطاط) العلوم التي تطور شؤون حياتهم الصناعية والزراعية والطبية والعلمية فانحدروا.

ولن تستطيع الأمة المسلمة أن تتبوأ مكانها اللائق بين الأمم حتى تأخذ بأسباب النماء الفكري والعلمي.. وأن تسبق غيرها في الاكتشافات المفيدة.. لتكون خير أمة أخرجت للناس.

فلم ينكر الله سبحانه وتعالى على سبأ (مثلا) أن تكون لهم جنتان عن يمين وشمال، ولم ينكر على قارون أن كان له من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وأمتنّ على داوود عليه السلام بإلانة الحديد له، ورضي عن دعوة سليمان )ربّ اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي([10]. فالإنكار إذن على الذين بدلوا عقائدهم الصحيحة، وغيّروا في عباداتهم المشروعة، وحرّموا ما أحل الله[11]، )وقالوا هذه أنعامٌ وحرثٌ حِجْرٌ لا يطعمُها إلا من نشاء([12].

لقد وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي في حفر الخندق، وما مشروعات عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تنظيم الدولة، وإنفاذ الجيوش، وترتيب الخراج، وحبس ما أفاء الله على المؤمنين، وتعيين الولاة وتغييرهم، إلا أثرا من آثار هذه الانطلاقة الكبرى في علوم الدنيا وشؤون الحياة.

ولقد وجدت مجموعات من المسلمين لا يفرقون بين بدعة في الدين وبدعة في الدنيا.. فتراهم يتشددون في بدعة الدين.. ويفعلون الأمر ذاته في بدع الدنيا.. ابتداء من اللباس والوسائل المختلفة التي يسّرها الله لعباده.. وهذا الأمر من أسباب تخلف المسلمين وتراجع مكانتهم بين الأمم.

بالحكمة وبالتي هي أحسن

وإذا كان من واجب المسلمين إنكار البدعة في دين الله ومحاربتها والقضاء عليها، فهم مطالبون عند إنكار البدعة باتخاذ أفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى شر منها.

فالذي أمرنا بالإنكار، هو الذي أمرنا بإحسان الوسائل ولا يصح شرعا أن نحارب بدعة بجلب شر أكبر منها.

يقول ابن القيم:

سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي. فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم[13].

[1] الاعتصام- الإمام الشاطبي 1: 28.

[2] المائدة - 3.

[3] أبو داوود.

[4] مسلم.

[5] الشورى - 21.

[6] دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي، ص- (143-144).

[7] البخاري.

[8] مسلم.

[9] مسلم.

[10] ص - 35.

[11] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- 198.

[12] الأنعام - 138.

[13] نظرات في رسالة التعاليم- محمد عبد الله الخطيب، ص- (148-150).

الأصل الثاني عشر - البدعة المختلف في الحكم عليها

يقول الإمام حسن البنا (رحمه الله) في الأصل الثاني عشر:

(والبدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة، خلاف فقهي لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان).

والبدعة والابتداع موضوع شغل المسلمين (ومازال يشغلهم).. خصص له الإمام حسن البنا في تعاليمه المختصرة أصلين:

تناول في الأصل الأول البدعة في دين الله التي لا أصل لها و تتعلق بالعقيدة أو العبادة أو الحل والحرمة، وهي بدعة تجب محاربتها، ولا خلاف في ذلك بين العلماء..

وتناول في الأصل الثاني البدع الأخرى التي اختلف فيها العلماء. فمنهم من جوّزها ومنهم من منعها. وهي على ثلاثة أشكال:

1- البدعة الإضافية.
2- البدعة التركية.
3- الالتزام في العبادات المطلقة.

أما البدعة الإضافية: فهي كل بدعة أصلها مشروع، ولكن اختلفت كيفية تطبيقيها.

فالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان مباشرة، وكأنها بعض كلمات الأذان، كما يفعل بعض المسلمين، مشروعة من حيث الأصل، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي عليه بعد الأذان. ولكن الكيفية هنا هي التي اختلفت. ولذلك كانت الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية بدعة إضافية.

وكذلك قراءة سورة الكهف في بعض المساجد من قارئ معين بصوت مسموع والجميع ينصت له. فقراءة سورة الكهف مشروعة، ولكن كيفيتها على هذه الصورة غير مشروعة، فكانت بذلك بدعة إضافية.

المأثورات وورد الرابطة

الأدعية والأوراد التي وردت في المأثورات مشروعة.. ولكن قراءتها بهذا الترتيب الذي وضعه الإمام حسن البنا غير مشروعة وليس له أصل.. ولذلك كانت بدعة إضافية.

ولقد كان الإمام البنا يدرك ذلك فقال في ورد الرابطة بعد أن ذكر المأثور من الدعاء، قال: يدعو الأخ بمثل هذا الدعاء.. حتى لا يظن أحد أنه واجب.

وقد علق الأستاذ القرضاوي على هذا الموضوع فقال: يمكن قراءة المأثورات بأن نقدم بعضها مرة، ونؤخر بعضها مرة، حتى لا يُظن ما هو ليس بواجب واجب.

وهكذا فكل بدعة لها أصل في الدين مشروع، ولكن اختلفت كيفية تطبيقها فهي بدعة إضافية وهي من مسائل الخلاف الفقهي.

البدعة التركية

والبدعة كما تشمل الفعل المخالف للسنة، تشمل الترك المخالف للسنة كذلك.

من هذا الباب ترك المباح تقربا إلى الله.. كما يفعل الزهاد والمتصوفة.

قُدمت لأحد هؤلاء تفاحة فرفض أن يأكلها، فقيل له لمَ؟

قال: لا أستطيع أداء شكرها، قال له الحسن البصري رضي الله عنه: وهل يستطيع الأحمق شكر نعمة الماء البارد؟

ومثل ذلك من يترك الزواج انشغالا بالدعوة أو العبادة...

وهكذا فالبدعة التركية هي ترك الأشياء المشروعة بغية التقرب إلى الله تعالى.. وهي من المسائل الخلافية بين العلماء.

الالتزام في العبادات المطلقة

وهي أن يلتزم المسلم بعبادة لها أصل مشروع، ولكنه يحدد لها مكانا أو زمانا محددا أو عددا بعينه مكررا ذلك.

مثل قراءة (قل هو الله أحد) مائة مرة بعد الفجر أو في أي وقت معلوم.

أو استمرارية قراءة الكهف كل يوم جمعة بطريقة معينة.

فإلزام المسلم نفسه بعبادة لها أصل في الدين مشروع واستمراره عليها تسمى التزام عبادة مطلقة وهي كالبدعة الإضافية سواء بسواء. وهي من المسائل الخلافية بين العلماء.

تمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان

وهكذا فإن هذا النوع من البدع (الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة) صنفه العلماء في دائرة المسائل الاجتهادية، الراجحة والمرجوحة التي يتناصح المسلمون فيها بلا إغلاظ ولا جفاء ولا هجر ولا تخاصم ولا تناحر.. وإنما مناقشة بالدليل والبرهان تحت ظلال الأخوة والمحبة في الله، لأنه ليس هناك حسم ولا قطع[1].

بين الابتداع و الاستصلاح

يختلط الأمر في أذهان البعض بين البدعة والمصلحة المرسلة، فيعتقد أن كل ما فعله الناس مما لم يفعله المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما يندرج في إطار البدعة.. والحق أن الأمر ليس كذلك، ولبيان قاعدة ذلك يقول الإمام ابن تيمية: (ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود الداعي له، وانتفاء المانع منه فتركه سنة وفعله بدعة)[2].

فإحياء ليلة النصف من شعبان مثلا، أو تكرار الصلاة على رسول الله بأعداد معينة وهيئات معينة، أمور لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا السلف الأول رغم وجود الداعي لفعل ذلك وهو طلب الثواب وانتفاء المانع من ذلك فهو أمر سهل ميسور، ومادام الأمر كذلك فترك هذه الهيئات والأعمال سنة وفعلها بدعة.

أما الأمور التي وجد الداعي لفعلها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يوجد في حياته، فإنها لا تعتبر بدعة بحال من الأحوال مادامت مندرجة ضمن الإطار العام للشريعة، وإنما هي من قبيل المصالح المرسلة التي تعتبر من أهم الوسائل التشريعية التي تمكن من مواجهة التطورات وتلبية الحاجات المتغيرة بتغير الأزمان.

ومن ذلك مثلا جمع القرآن الكريم بين دفتي مصحف، فإن الداعي لهذا العمل الجليل لم يكن على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنما برز بعد وفاته بزمن، حيث خُشي على كتاب الله من الضياع بفقد الحفاظ من القراء.

وكذلك أيضا فإن العمل الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم لوجود مانع من فعله، لا يعتبر فعله من بعده صلى الله عليه وسلم بدعة إذا انتفى المانع.. ومن ذلك صلاة التروايح، فقد فعلها الرسول ثلاث ليال، ثم تركها لوجود مانع من الاستمرار عليها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خشيت أن تفرض عليكم).. ولكن هذا المانع زال بعد وفاته، حيث انقطع الوحي ولا احتمال لحصول الفرضية، فلا تعتبر صلاتها في جماعة بدعة بحال من الأحوال[3].

[1] نظرات في رسالة التعاليم (المرجع السابق)، ص- (154-155).

[2] اقتضاء الصراط المستقيم- ابن تيمية، ص- 279.

[3] النهج المبين لشرح الأصول العشرين – عبد الله الواشلي، ص- 249 وما بعدها بتصرف.

الأصل الثالث عشر - محبة الصالحين واحترامهم

قال الإمام حسن البنا في الأصل الثالث عشر:

(ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى. والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: )الذين آمنوا وكانوا يتقون([1]. والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية. مع اعتقاد أنهم (رضوان الله عليهم) لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم).

يعالج الإمام البنا في هذا الأصل قضايا مهمة يحتاجها الداعية المسلم.. غالى فيها بعض الناس وأهملها آخرون.. فترتب على ذلك من الأخطار والفرقة الشيء الكثير. من هذه القضايا:

  • حب الصالحين من الحب في الله.
  • احترام الصالحين والثناء عليهم.
  • من هم أولياء الله؟
  • الكرامة وشرائطها الشرعية.
  • لا يملك الضر والنفع إلا الله.
حب الصالحين من الحب في الله

تقوم الدعوة على ركيزتين أساسيتين: قوة الإيمان وقوة الحب.

وقوة الإيمان تتحقق بصحة الاعتقاد، وإسلام الوجه لله.

وقوة الحب تتحقق بصدق الاتباع.

قال تعالى: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم([2].

وحب الله تعالى يعني: فعل المأثور، وترك المحظور، والصبر على المقدور. فإذا أنعم عليك شكرت، وإذا ابتلاك صبرت، وإذا أذنبت استغفرت، فترضى بقضائه، وتقنع بعطائه، فإذا تحقق ذلك فيك نادى المولى: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، ثم ينادي جبريل ملائكة الله يا ملائكة الله إن الله يحب فلانا فأحبوه ثم يُنزل لك المولى القبول على الأرض مصداقا لقول الله تعالى: )إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا([3].

حينئذ تدخل في عداد الصالحين )والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين([4].

فالصالحون هم صناعة الله، وعطاء الله، وهم الذين أحبهم الله، قال تعالى: )يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم([5].

بهذا الحب الذي يسود مجتمع الصالحين تتكون الجماعة المسلمة المتآلفة المتحابة، وتتوثق عرى المحبة التي لا تنفصم لأنها من الله، قال تعالى: )وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم([6]. فإذا بهم صفا مرصوصا بين يدي الله يقولون: )إياك نعبد وإياك نستعين([7] فاهدنا يا رب صراط الصالحين ) الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين([8]، فهم معا في الدنيا في صلاح وتقوى ومحبة، وهم في الآخرة مـع النبييـن والصديقيـن والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا[9].

محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم

من هنا كان محبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم من العبادة التي يتقرب بها العبد لربه، ومن الإيمان الذي وقر في القلب (فليس منّا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)[10]. وفي الحديث القدسي: (من عادى لي وليا فقذ آذنته بالحرب)[11].

القرآن يثني على الصالحين

ويعلمنا ربنا الثناء على الصالحين لأنه سبحانه أثنى عليهم ونوه بأخلاقهم ومسالكهم فقال تعالى: )واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا([12]. وقال تعالى: )واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا([13].

ويتابع الأنصار المنهج القرآني فيثنون على إخوانهم المهاجرين و )يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة([14].

ويستمر هذا الموكب الكريم المتحاب يورث بعضه بعضا هذا الحب، )يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم([15].

يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقا غلقا في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبي حب لأهل طاعته ولا بغض لأهل معصيته ما نفعني ذلك شيئا.

كيف نحترم الصالحين ونثني عليهم ونتبرك بهم

• تقبيل اليد: بعض العلماء كره تقبيل يد الصالحين.. ورخّص أكثرهم كالشافعي وأحمد (رحمهما الله)، إن كان للدين لا للدنيا فلا يكره تقبيل اليد لزهد وعلم وكبر سن بل يستحب.

• التبرك بالصالحين: يكون التبرك بما عُلم شرعا أن فيه بركة، وأذن الشارع في طلبها منه، والتماسها فيه، كبيت الله الحرام، وزمزم، والمساجد الثلاثة، والأرض المقدسة، وكمجالس العلم والذكر، وقراءة القرآن، ومجالسة الصالحين، وطلب دعائهم ومرافقتهم[16].

ولقد ثبت أن الصحابة كانوا يتبركون بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يتبركوا بآثار غيره..

قال الشعبي: صلى زيد بن ثابت رضي الله عنه على جنازة، فقربت إليه بغلة ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه. فقال زيد: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء، فقبل زيد يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم[17].

أولياء الله

أولياء الله هم أهل الإيمان والتقوى )الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا([18] في دنياهم، وهم الذين تبشرهم الملائكة عند موتهم )ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة([19]، فهم لا يخافون ولا هم يحزنون )ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون([20] إنهم )الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة([21].

فالولي هو كل مؤمن تقي.. بنيت له قبة أم لا، جرت له كرامة أم لم تجر.. قال تعالى: )الله ولي الذين آمنوا([22].

في الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فإنا نحبهم لذلك، قال: هم قوم تحابوا في الله بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ: )ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون([23].

بعض الطوائف الإسلامية حصرت الولاية بفريق خاص أو بأهل بيت معين.. وادّعوا لهم العصمة.. وخوارق العادات..

وبعض المشعوذين يترك الفرائض ويقول: )واعبد ربك حتى يأتيك اليقين([24] ولقد آتاني الله اليقين فسقطت عني الفرائض. أين هذا الدجل من الحديث القدسي. عن أبي هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن: يكره الموت وأكره إساءته)[25].

هؤلاء هم الأولياء الذي يحافظون على الفرائض والنوافل فيرزقون الفراسة والإلهام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيما قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فهو عمر). قال تعالى: )إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون([26].

الكرامات وشرائطها الشرعية

الكرامة هي ما يكرم الرب تبارك وتعالى به عباده من أنواع الإفضالات وهي عامة.. لقوله تعالى: )ولقد كرمنا بني آدم([27].. وخاصة وهي ما يكرم الله تعالى به بعض عباده من هدايتهم إلى الإيمان وتوفيقهم إلى طاعته فهذه الاستقامة على الإيمان والطاعة، من أعظم الكرامات[28].

يقول الإمام ابن تيمية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها. وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة. وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة) [29].

ويتابع الإمام ابن تيمية : إن لبعض الناس كرامات وأن بعضهم يجري الله على يديه خوارق العادات ولكنهم غير معصومين من الخطأ.. ولا يملكون نفعا ولا ضرا.. لا لأنفسهم ولا لغيرهم.. )قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء( [30].

(وبين كرامة الأولياء، وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة: منها أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله) [31].

[1] يونس - 63.

[2] آل عمران - 31.

[3] مريم -96.

[4] العنكبوت - 9.

[5] المائدة - 54.

[6] الأنفال - 63.

[7] الفاتحة - 5.

[8] الفاتحة - 7.

[9] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- (221 - 222).

[10] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- 223.

[11] فتح الباري 11 : 348.

[12] مريم - 41.

[13] مريم - 54.

[14] الحشر - 9.

[15] الحشر - 10.

[16] عقيدة المؤمن - أبو بكر الجزائري، ص - 166.

[17] أخرجه الطبراني والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

[18] فصلت - 30.

[19] فصلت - (30-31).

[20] يونس - 62.

[21] يونس - 64.

[22] البقرة - 257.

[23] يونس - (62-63).

[24] الحجر - 99.

[25] حديث قدسي صحيح.

[26] المائدة - (55-56).

[27] الإسراء - 70.

[28] عقيدة المؤمن - أبو بكر الجزائري، ص- 175.

[29] الفتاوى- ابن تيمية 3 : 156.

[30] الأعراف - 188.

[31] الفتاوى - ابن تيمية 11 : 287.

الأصل الرابع عشر - زيارة القبور حكمها وآدابها

قال الإمام حسن البنا في الأصل الرابع عشر:

(وزيارة القبور أيا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين أيا كانوا ونداءهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم وتشييد القبور وسترها والتمسح بها، والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات، كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سدا للذريعة).

تعلق الإنسان بمن يحب جزء من مكنونات الفطرة البشرية. ويمتد هذا التعلق في كثير من الأحيان إلى ما بعد افتراق الأجساد، وانتقال الأرواح إلى الدار الآخرة.. وكعادة العاطفة المتوقدة تجمح بالإنسان أحيانا إلى ما لا يقبله الدين والعقل.. فكان لابد أن تنضبط العواطف بضوابط الشرع حتى تؤدي دورها الصحيح في بناء النفس البشرية.

والأصل الذي بين أيدينا يعالج بعض القضايا ذات الصلة بهذا الأمر..

زيارة القبور

زيارة القبور مشروعة للرجال بإجماع الأمة. فهي من الأمور التي ترقق القلب، وتزكي النفس، وتزهد بالدنيا، وتذكر بالآخرة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. فإنها تذكركم بالآخرة) [1]. كان النهي ابتداء لقرب عهدهم بالجاهلية.. فلما استقر الإيمان في نفوسهم واطمأنوا به، أذن لهم الشارع بزيارتها.

والزيارة جائزة لكل من في القبور.. مسلمهم وظالمهم وكافرهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن استغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروها، فإنها تذكر بالموت) [2].

فإن كانوا ظالمين وأخذهم الله بظلمهم، استحب البكاء وإظهار الافتقار إلى الله عند المرور بقبورهم.. ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لمّا وصلوا الحجر (ديار ثمود): (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم) [3].

وفي زياراته المتكررة لبقيع الغرقد مزيد من التعليم والتوجيه، من ذلك ما تذكره أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف. وكان يقول اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد [4].

آداب الزيارة

وللزيارة المشروعة آداب وأحكام وضّحها الشارع.

في الحديث عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم فرطنا ونحن لكن تبع، ونسأل الله لنا ولكم العافية) [5].

وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه وقال: (السلام عليكم يا أهل القبور ويغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) [6].

زيارة النساء

رخّص مالك وبعض الأحناف ورواية عن أحمد وأكثر العلماء، في زيارة النساء للقبور. في الحديث عن عبد الله بن أبي مليكة، أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت نعم. كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها [7].

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة عند قبر تبكي على صبي لها، فقال لها: اتقي الله واصبري. فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهبت قيل لها إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت، فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله لم أعرفك. فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى [8].

ووجه الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم رآها عند القبر فلم ينكر عليها ذلك.

وكره قوم الزيارة لهنّ لقلة صبرهن وكثرة جزعهن، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن الله زوارات القبور [9].

قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة. ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والبيت. فإذا أُمن ذلك فلا مانع من الإذن لهن. لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء.

قال الشوكاني: وهذا الكلام (أي كلام القرطبي) هو الذي ينبغي الاعتماد عليه في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر[10].

الاستعانة بأهل القبور

تلك هي الزيارة المشروعة، وطريقتها المأثورة، دعاء للأموات، وعبرة للأحياء، أما ما أحدثه البعض من خلاف هذا كدعاء الأموات، والاستصراخ بهم، والاستغاثة بهم، وسؤال الله بحقهم، وطلب الحاجات إليه تعالى بهم، فهذا من البدع والجهالات[11].

فالاستعانة لا تكون إلا بالله لا بأحد سواه.

قال تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) [12].

ومن ذلك غفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر، والرزق، ونحو ذلك.

قال تعالى: )ومن يغفر الذنوب إلا الله( [13].

وقال أيضا: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) [14].

وقال أيضا: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) [15].

إن الأحياء لا يقدرون على فعل شيء مما اختص به رب العزة، فكيف بالأموات؟! إن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، كل هؤلاء في ذلك سواء.. فلا استعانة إلا بالله..

في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف) [16].

وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه) ومن كلام بعض السلف: (يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك، وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك).

وأخرج الطبراني في معجمه الكبير أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال أبو بكر: قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله). فمراده صلى الله عليه وسلم أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله.

وكذلك الدعاء والاستغاثة لا تكون إلا بالله.

قال تعالى: )ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين( [17].

ولذا فإن مناداة الأموات ودعاءهم أيا كانوا من أقبح المنكرات التي تتنافى مع إخلاص التوحيد لله، ويستوي في هذا أن يكون الدعاء والمناداة قريبا من القبر أو بعيدا عنه، فالعبرة بالألفاظ ومعتقداتها لا بالأمكنة والأزمان.

النذر لأهل القبور

وهو مما يحرم صنيعه لزائري القبور أو غيرهم، والنذر في اصطلاح أهل العلم (إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر أو بدونه تبررا).

ومن ذلك ما يفعله بعض الجهلة من أن يأتي قبر ولي من الأولياء، ويوجب على نفسه شيئا إن تحقق له ما يطلبه عند هذا القبر، أو إن انصرف عنه سوء ببركة دعائه عند هذا القبر، فنجده يأتي بالذبائح والأموال ليضعها عند القبور إيفاء لنذره.

إن النذر للقبور حرام بإجماع العلماء، وباطل لا يصح الوفاء به، وذلك لوجوه:

1- أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق غير جائز لكونه عبادة.

2- أن المنذر له ميت والميت لا يملك.

3- أنه إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور من دون الله واعتقد ذلك فقد كفر[18].

تشييد القبور وسترها

إن كل مظهر يعطي المقابر شيئا من الإجلال، ويكون سببا في فتنة العوام، محرم منهي عنه، ومن ذلك بناء القبور وإحكام رفعها بالشيّد وهو الجص أو البلاط وما شاكله.

جاء في الصحيحين أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) [19].

وفي الصحيحين أيضا (لما نزل برسول الله مرض الموت طفق يطرح خميصة له على وجهـه فإذا اغتـم بها كشفها فقال: -وهو كذلك - لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذّر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبرز قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجدا) [20].

بل لقد أمر الرسول بتسوية القبور المرتفعة، ففي الحديث عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا إلا سويته) [21].

ويلحق بذلك في الحرمة ما يفعله البعض من ستر القبور وتغطيتها بالثياب الفاخرة. ووضع الشمع والسرج عليها للإعلام بها، وكذا التمسح بها بقصد التبرك. وقد عد ابن حجر كل ذلك من الكبائر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج) [22].

الحلف بغير الله

الحلف بغير الله من الأنبياء أو الأولياء أو سائر المخلوقات حرام ولا ينعقد ولا تجب به كفارة يمين باتفاق العلماء، لعموم النصوص الواردة، منها الحديث عن ابن عمر أن الرسول سمع عمر يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) [23].

أما الأحاديث (من حلف بغير الله فقد كفر) [24] أو (أشرك) فهي محمولة على الشرك الأصغر غير المخرج من الملة إن كان الحالف لا يقصد تعظيم المحلوف به ولا يعتقد فيه أنه ينفع أو يضر، أما إن اعتقد ذلك فهو كفر مخرج من الملة.

محاربة الكبائر

لقد حرص الإسلام كل الحرص على حماية عقيدة التوحيد من أي شائبة، لذلك سدّ كل الذرائع المكدرة لصفوه.

إن إزالة المنكر واجب كل مسلم، فماذا لو كان من الكبائر.. والإزالة تكون بحدود الاستطاعة وفي ظل الحكمة التي لا تؤدي إلى منكر شر منه.

ومع ذلك فلا يجوز للمسلم فضلا عن العلماء إذا رأوا مثل هذه الكبائر أن يتأولوا للعامة وهم يفعلونها، بل الواجب بيان حكمها ومن ثم تغييرها، حتى لا يقع الناس في الابتداع والمنكرات بسبب السكوت والتبرير.

بين إفراط وتفريط

(يذكر الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - حادثة وقعت له فقال: لقيني أحدهم وقال لي مغاضبا: بلغنا أنك صليت في مسجد الصنم! فقلت دهشا: أي صنم قال: في مسجد الحسين!!

لو قدرت على جلد هذا السفيه لجلدته.. إنني نظرت إليه في تغيظ ثم قلت: مِسْعَرُ فتنة، ما يجد الشيطان خيرا منك في إذكاء العناد وتمزيق الأمة!

نعم صليت في المسجد مع جمهور كثيف، يوحّد الله ويرجو رضاه ويخشى بأسه. فيهم كثيرون أطيب منك قلبا، وأسرع إلى ميادين الجهاد يبذلون دمهم في ذات الله.

رفضت استئناف الكلام، فما جدوى الكلام مع امرئ مسعور يريد دفع الناس بالشرك بدل أن يحبّبهم في الحق، وما أكثر هؤلاء الدعاة الفاشلين) [25].

نستشهد بقول الشيخ الغزالي.. لندلل على حكمة الإمام البنا الذي وصف الأعمال التي ذكرها في هذا الأصل، بأنها كبائر..

ثم أتبعها (تجب محاربتها)...

ثم أنكر أن يُتأول لها سدا للذريعة..

كم هي المسافة بينه وبين من يتهم المسلمين بالشرك وكأنه شقّ عن قلوبهم.. ويحاربهم وهو يعتقد أنه يجاهد في سبيل الله.. أليس هو مسعر فتنة؟

[1] رواه مسلم وأحمد.

[2] رواه مسلم وأحمد.

[3] البخاري.

[4] مسلم.

[5] رواه مسلم وأحمد.

[6] الترمذي.

[7] رواه الحاكم والبيهقي وقال الذهبي صحيح.

[8] الشيخان.

[9] رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه.

[10] فقه السنة - سيد سابق 1 : 565.

[11] النهج المبين لشرح الأصول العشرين- الوشلي، ص- 283.

[12] الطبراني.

[13] آل عمران - 135.

[14] القصص - 56.

[15] فاطر- 3.

[16] الترمذي.

[17] يونس - 106.

[18] فتح المجيد، ص- 129.

[19] الشيخان.

[20] الشيخان.

[21] مسلم.

[22] الترمذي.

[23] مسلم.

[24] جامع الأصول 11: 651.

[25] دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي، ص- 158.

الأصل الخامس عشر - التوسل.. ما يجوز منه وما لا يجوز

قال الإمام حسن البنا في الأصل الخامس عشر:

(والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة).

في هذا الأصل يعالج الإمام الشهيد قضية طال فيها النزاع.. وتفرقت بسببها القلوب.. وتبادل حولها علماء الإسلام تهم التكفير والتجهيل.. في الوقت الذي هم أحوج ما يكونون فيه لوحدة الصف ووحدة الكلمة.

وجاء رأي الإمام (كعادته) معتدلا وسطا يجمع الكلمة ويوحد القلوب.

تناول الإمام البنا في هذا الأصل ثلاث قضايا:

  • الدعاء..
  • التوسل.. ما يجوز منه وما لا يجوز..
  • الدعاء إذا قرن بالتوسل..
الدعاء مخ العبادة

اللجوء إلى الله أمر فطري.. فلا يكاد الإنسان يستشعر ضعفه في قضية من القضايا حتى يلجأ إلى الله )وإذا مسّ الإنسان الضرُّ دعانا لجنبه( [1].

يلجأ إلى الله، يستعين به ويستنصره فهو وحده القادر على نصرته.

)أمّن يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون( [2].

والدعاء مخ العبادة، وسمة المؤمنين الصالحين، والرسل الكرام المبعوثين رحمة للعالمين، فهم يلجأون إلى الله في صغير الأمر وكبيره.. قال تعالى على لسان سيدنا آدم عليه السلام: )ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين( [3]، وجاء على لسان سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم( [4]، وجاء على لسان سيدنا نوح عليه السلام: )فدعا ربّه أني مغلوب فانتصر( [5].. وانتهى الموكب الكريم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتضرع إلى ربه فيقول: (إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين)...

والدعاء من أخص خصائص العبودية لله عز وجل، فعلى المسلم أن يخلص الدعاء لله ولا يشرك معه فيه أحدا، قال تعالى: )فادعوا الله مخلصين له الدين( [6].

والاستعانة نوعان

فإذا جاز للإنسان أن يستعين بأخيه ويطلب غوثه ويحتمي به في الأمور التي يقدر عليها.. (كحريق شب يساعده على إطفائه مثلا)..

فإنه لا يجوز أن يستعين مسلم بغير الله (في الأمور التي اختص الله عز وجل نفسه بها، ومما ليس في مقدور المخلوق)، ككشف الضر، وتفريج الهم، والشفاء من السقم، ودفع الفقر، وغفران الذنب، والهداية إلى سواء السبيل وغيرها من الأمور التي لا يملكها إلا الله عز وجل.

التوسل والوسيلة

قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة( [7].

أي اطلبوا القربة إليه بما يرضيه.

والوسائل للقربى لا تعد ولا تحصى (كالإيمان، والصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والاعتمار، والجهاد، والرباط، وتلاوة القرآن، والذكر والتسبيح، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، والدعاء، ودعاء المؤمنين لإخوانهم...) [8] فكل طاعة وسيلة، من إماطة الأذى عن الطريق إلى الجهاد في سبيل الله.

موقف العلماء من القضية

ولقد اتفق العلماء على أن التوسل المشروع هو:

1- توسل باسم من أسماء الله الحسنى، أو بصفة من صفاته العلى، لقوله تعالى: )ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها( [9].

ولما ورد من دعائه صلى الله عليه وسلم بأسمائه تعالى وصفاته في الكثير من أدعيته المشهورة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني عبدك ابنُ عبدك ابنُ أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همّي، لا حول ولا قوة إلا بالله) [10].

2- التوسل بعمل صالح قام به الداعي، لثبوت ذلك في صحيحي البخاري ومسلم في قصة أصحاب الغار الثلاثة الشهيرة.

فتوسل أحدهم ببره لوالديه، وتوسل الثاني بعفته من الزنا، وتوسل الثالث بتنمية أجر أجيره وإعطائه الأجرة كاملة بعد مضي فترة طويلة.

وعلى هذا يستحب للإنسان أن يدعو في حالة كربه وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله، فيقول: اللهم إني أسألك بعملي الفلاني أن تغفر لي أو تفرج كربي. قال تعالى: )إنه كان فريقٌ من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين( [11]. فقدموا التوسل بالإيمان على طلب الرحمة والغفران.

3- التوسل بدعاء الرجل الصالح. فإذا نابت المسلم نائبة، فمن المندوب أن يذهب إلى رجل صالح يدعو له.

وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل يوم الجمعة إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا، قال أنس: فطلعت سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت[12].

وإذا كان هذا عن التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن التوسل بدعاء غيره قد سنه لنا حينما قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد همّ بالعمرة: لا تنسنا يا أخي من دعائك [13].

كما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل رجل صالح.. ففي الحديث عن عمر ]قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين، رجل يقال له أويس، فمروه فليستغفر لكم[14]. وقد طلب عمر رضي الله عنه منه (حين لقيه) أن يستغفر له.

فدلّ ذلك على جواز التوسل بدعاء المسلمين ولو كان الداعي أقل درجة من المدعو له.

ومما يدلّ على ذلك أيضا حثه صلى الله عليه وسلم لنا أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، عند سماع الأذان.. وقد ورد الحث على دعاء المرء لأخيه عن ظهر الغيب. قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: )ربّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا( [15]. إنه لا حرج أن تقول لمؤمن تحسن به الظن: ادع الله لي، أو ادع الله معي، فلا حرج في هذا النوع من التوسل[16].

التوسل المختلف فيه بين العلماء

ومنه المسألة التي أشار إليها الإمام البنا في هذا الأصل.

1- التوسل إلى الله تعالى بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه.

أجازه بعضهم إذا كان بمعنى الشفاعة، فقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنّا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون[17].

واضح هنا أن توسلهم به هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فهو شفيع لهم وسائل لا مسؤول.. وهذا رأي من لم يجز التوسل بذات المتوسل به وقال: يتوسل بدعائه لا بذاته. والذي يقول بهذا الرأي هو الإمام ابن تيمية الذي يقول: ودعاء عمر في الاستسقاء يدل على أن التوسل المشروع هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته، إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السؤال بالعباس[18].

2- وأجازه بعض العلماء وإن لم يكن بمعنى الشفاعة بل بمعنى التوسل بجاه الوسيلة، نحو القسم على الله بنبيه صلى الله عليه وسلم.

في الحديث أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري فادع الله لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي اللهم فشفعه فيّ. قال ففعل الرجل فبرأ[19].

من أجل هذا الحديث استثنى الشيح عز الدين بن عبد السلام التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم من المنع الذي أفتى به، وقال إن ذلك ينبغي أن يكون مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده.

3- وأجازه بعض العلماء على إطلاقه كالإمام السبكي والشوكاني وغيرهما وقالوا إن ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام بأنه خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نظر لأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل.

خلاف في كيفية الدعاء

وخلاصة الأمر.. فالمسألة خلافية وليست من أمور العقيدة في شيء..

يقول الإمام ابن تيمية: نقل عن الإمام أحمد بن حنبل التوسل بالنبي ونهى عنه آخرون، فإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول[20].

ويقول الشيخ الألباني.. بعد أن أشار إلى التوسل المشروع، قال: وأما ما عدا ذلك من التوسلات ففيه خلاف. والذي نعتقده أنه غير جائز ولا مشروع.. مع أنه قال ببعضه بعض الأئمة فأجاز الإمام أحمد بن حنبل التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم وأجاز غيره كالإمام الشوكاني التوسل به وبغيره من الأنبياء والصالحين[21].

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز شيخ السلفية حين سئل عن هذا النوع من التوسل بأن من العلماء من أجازه ومنهم من منعه وليس بشرك.

والمسألة في مجملها خلاف فقهي -كما بين الإمام البنا- وخلاف في كيفية الدعاء.. وليست من مسائل العقيدة.. فلا تتصل بكفر وإيمان إنما تتصل بصواب وخطأ[22].

[1] يونس - 12.

[2] النمل - 62.

[3] الأعراف - 23.

[4] البقرة - 127.

[5] القمر - 10.

[6] غافر - 14.

[7] المائدة - 31.

[8] عقيدة المؤمن - أبو بكر الجزائري، ص- 116.

[9] الأعراف - 180.

[10] النسائي وابن حبان والحاكم والترمذي وأحمد.

[11] المؤمنون - 109.

[12] رواه أحمد والبخاري.

[13] الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وأبو داود وأحمد.

[14] مسلم.

[15] نوح - 28.

[16] دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي، ص- 161.

[17] البخاري.

[18] قاعدة جليلة في التوسل - ابن تيمية، ص - 58.

[19] أحمد والترمذي .

[20] الفتاوى- ابن تيمية 1 : 264.

[21] التوسل وأنواعه وأحكامه - الألباني.

[22] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- 266، ونظرات في رسالة التعاليم - محمد عبد الله الخطيب، ص- 176.

الأصل السادس عشر - بين العرف والشرع

قال الإمام حسن البنا في الأصل السادس عشر:

(والعرف الخاطئ لا يغير من حقائق الألفاظ الشرعية، بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها، والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء).

يعالج الإمام البنا في هذا الأصل عددا من القضايا التي تتعلق بالعرف.

والعرف هو الشيء المعروف المألوف عند الناس.

والأعراف منها العرف اللفظي كإطلاق اسم اللحم على غير السمك، ولفظ الولد على الذكر دون الأنثى. ومنها العرف العملي كتقسيم المهر إلى معجل ومؤخر.

والأعراف منها الحسن ومنها القبيح.

فقد يعتاد الناس عادات تقوم على جهالات وضلالات موروثة.. كاسترقاق المدين المعسر عند الرومان، وكوأد البنات عند العرب في الجاهلية، وكدفن الزوجة حية مع زوجها إذا مات عند الهنود الوثنيين..

في أيامنا هذه تعارف بعض الناس على أن يخلو الخاطب بمخطوبته دون ضوابط.. وتعارف آخرون على أن الخاطب ليس له أن يرى مخطوبته بل يكتفي بأن يصفها الآخرون له.. وكلا العرفين خارج الموقف الشرعي السديد ويتنافى مع الغاية التي توخاها الشارع[1].. وهي عادات وأعراف قبيحة يجب مكافحتها.

الشريعة الإسلامية والعرف

ولقد أقرت الشريعة الإسلامية كثيرا من الأعراف، وهذّبت بعضها ونهت عن كثير. فالشريعة إنما تبغي بأحكامها المدنية تنظيم مصالح البشر وحقوقهم، فتقر من الأعراف ما تراه محققا لغايتها. وترفض من الأعراف ما يتنافى والغاية المتوخاة. فلقد أقرت الشريعة بعض الأعراف التي تعارف عليها العرب في الجاهلية مثل: فرض الدية على العاقلة، وإقرار بعض المعاملات كالمضاربة، واشتراط الكفاءة في الزواج، وكسوة الكعبة ونحو ذلك[2].

والعرف في نظر بعض الفقهاء دليل شرعي كاف.. حيثما لا دليل سواه، أما إذا عارض العرف نصا تشريعيا.. فالمحكم هو النص الشرعي.

كيف يفهم النص الشرعي..؟

يفهم النص الشرعي بحسب مدلولاته اللغوية والعرفية في عصر صدور النص.. لأنها هي مراد الشارع ولا عبرة لتبديل الألفاظ في الأعراف الزمنية المتأخرة.. وإلا لم يستقر للنص التشريعي معنى.

فمثلا لفظ (في سبيل الله) من آية مصارف الزكاة له معنى عرفي إذ ذاك وهو مصالح الجهاد الشرعي، أو سبل الخيرات مطلقا على اختلاف بين العلماء في ذلك.. ولفظ (ابن السبيل) معناه العرفي من ينقطع من الناس في السفر، فإذا تبدل عرف الناس، فأصبح لفظ (في سبيل الله) يعني طلب العلم خاصة.. (وابن السبيل) الطفل اللقيط الذي لا يعرف له أهل، فإن النص التشريعي يظل محمولا على معناه العرفي الأول عند صدوره ومعمولا به في حدود ذلك المعنى لأنه هو مراد الشارع... ولا عبرة للمعاني العرفية أو الاصطلاحات الحادثة بعد ورود النص[3].

بين العرف والنص الشرعي

إذا ترتب على العمل بالعرف تعطيل لنص شرعي أو أصل قطعي في الشريعة لم يكن عندئذ للعرف اعتبار لأن نص الشارع مقدم على العرف.

أما إذا لم يترتب على العمل بالعرف مثل هذا التعطيل بل كان العرف مما يمكن تنزيل النص الشرعي عليه أو التوفيق بينهما فالعرف عندئذ معتبر وله سلطان محترم، فمثلا:

  • • عرف التبني في الجاهلية لا اعتبار له، لاصطدامه بنص قرآني )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله( [4].
  • • وكذلك تجارة الخمر.
  • • والربا.
  • • وزواج الشغار (وهو أن يتفق شخصان فيزوج كل منهما الآخر قريبته فتكون كمهر للأخرى).
  • • وكل ما كان عرفا سائدا وجاء القرآن بمنعه.

العبرة بالمسميات لا بالأسماء

هناك مصطلحات بدأت تشيع بين الناس حتى أصبحت أعرافا بينهم.. وهي مصطلحات خادعة براقة يخدعون بها المسلمين باستخدام ألفاظ مقبولة لها، معناها (في اللغة) معنى حسن، بينما معناها في الشرع مرفوض، بل منهي عنه.. وإليك بعض الأمثلة:

  • • المشروبات الروحية، معناها اللفظي مقبول.. أما معناها الحقيقي لديهم فهي الخمور بأنواعها المحرمة شرعا.
  • • والفائدة.. ويقصدون الربا المحرم.
  • • واليانصيب الخيري.. ويقصدون به الميسر..
  • • والتطرف.. ويقصدون به التمسك بالإسلام.. وهكذا.

ولذلك قال العلماء: لو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته اللغوية دون العرفية (التي هي معناه في عرف المتكلم) لترتب عليه إلزام المتكلم في عقوده وإقراره وحلفه وسائر تصرفاته القولية بما لا يعنيه هو ولا يفهمه الناس من كلامه.

ولذا وضع الفقهاء المبدأ العام القائل: (يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه وإن خالف لغة العرب ولغة الشارع).

وعلى هذا الأساس قرر الفقهاء أحكاما كثيرة منها أنه[5]:

  • • لو حلف الإنسان أن لا يضع قدمه في دار فلان، انصرفت اليمين إلى معنى دخول الدار لأنه المعنى العرفي لا إلى مجرد وضع القدم الذي هو الحقيقة اللغوية، فلو دخلها راكبا دون أن تمس قدمه أرضها يحنث في يمينه شرعا.
  • • إذا تعارف الناس على إيقاع الطلاق بألفاظ وتعابير جديدة فشى استعمالها بينهم، فإنها يقع بها الطلاق[6]، ولو كانت في أصل اللغة لا تقتضي الوقوع، كلفظة علي الطلاق الذي يستعمله الرجال في هذا الزمان.

يتضح من ذلك أن العرف اللفظي بوجه عام تنشأ به لغة جديدة تكون هي المعتبرة في تنزيل كلام الناس عليها، وتحديد ما يترتب على تصرفاتهم القولية من حقوق وواجبات بحسب المعاني العرفية، وبالنسبة للغة العامية يحمل كلام الناس فيها على معناه المتعارف بينهم، فالعبرة بالمسميات لا الأسماء، وقد يختلف المعنى من بلد عن آخر فيعتبر في كل مكان عرفه الخاص في التخاطب حتى تنضبط الأعراف بضوابط الشرع الحكيم.

الخداع اللفظي

وبهذه المناسبة فإن بعض الناس تشيع بينهم أعراف ظاهرها كأنه عمل مشروع، ولكن يقصد به إسقاط واجب أو ارتكاب الحرام ليكون حلالا في الظاهر. فمثلا[7]:

1- البيع مثلا له مقاصد ومصالح هي حاجة المشتري إلى السلعة وحاجة البائع إلى الثمن، فإذا باع شخص سلعة بعشرة قروش إلى أجل ثم اشتراها نفس البائع قبل الأجل بخمسة نقدا.. هذا البيع يحقق مفسدة وقد استخدم الخداع اللفظي بكلمة البيع بينما الحقيقة هي الإقراض بالربا بعينه.

2- الهبة مشروعة لما لها من مقاصد كريمة، ولكن إذا وهب شخص ماله في آخر الحول هربا من الزكاة فإن الهبة في هذه الحالة لا تحمل إلا إسمها لأنها لم تحقق الغرض منها ولكن مآل هذه الهبة المنع من الزكاة وهي مفسدة.

3- عقد الزواج ينعقد بالألفاظ -الإيجاب والقبول- وهي الصيغة، والألفاظ إنما هي معبرة عن الرضا، ولكن إذا قصد بالألفاظ غير ما وضعت له فإن الرضا بالعقد يكون منعدما، وعلى ذلك فإن المحلل يقول نفس الألفاظ، ولكن الألفاظ في هذه الحالة لا تكون سببا لترتب الآثار إلا إذا كان القصد منها معناها وموجبها فلفظ النكاح لم يوضع ليحلل مطلقة وإنما هو لدوام العشرة وحفظ النسل وغير ذلك من المقاصد الكريمة.

وعلى ذلك إذا كان ظاهر الفعل موافقا للشرع، والمصلحة مخالفة له، فالفعل غير صحيح وغير مشروع، لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لذاتها، وإنما قصد بها أمور هي المعاني والمقاصد التي شرعت لها، فالألفاظ لا عبرة بها إذا لم توافق المعاني الشرعية التي قصدها الشارع.

وهكذا يطهر المسلم باطنه، وتصح نيته، ويتقبل الله قوله حتى لو خالف المعني الذي يقصده -دون قصد- كالذي كاد يهلك في الصحراء بعد أن فقد راحلته فلما وجدها فإذا به من شدة فرحه يقول: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) من - سعادته الغامرة - وهو يقصد أن يقول: (اللهم أنت ربي وأنا عبدك) فالعبرة بالمقاصد وعلى المسلم أن يطهر قوله كما يطهر فعله حتى يصبح ظاهره كباطنه ويستشعر قول الله تعالى: )ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد( [8].

[1] نظرات في رسالة التعاليم - محمد عبد الله الخطيب، ص- 180.

[2] المدخل إلى الشريعة - د. عبد الكريم زيدان، ص- 205.

[3] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- 272.

[4] الأحزاب - 5.

[5] المدخل العام - مصطفى الزرقا 2 : 853.

[6] أكثر الفقهاء بما فيهم الأئمة الأربعة يرون وقوع الطلاق، وعارض بعضهم ذلك .

[7] نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي - د. حسين خالد، ص- 269.

[8] (سورة ق - 18) من كتاب فهم الإسلام - جمعة أمين، ص - 276.

الأصل السابع عشر - عمل القلب وعمل الجارحة

قال الإمام حسن البنا في الأصل السابع عشر:

(والعقيدة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعا، وإن اختلفت مرتبتا الطلب).

تناول الإمام في هذا الأصل عدة أمور هي:

1- العقيدة أساس العمل،

2- عمل القلب وعمل الجارحة،

3- تحصيل الكمال في كليهما مطلوب.

العقيدة أساس العمل

والعقيدة هي التصديق بالشيء، والجزم به، دون شك أو ريبة، فهي بمعنى الإيمان. يقال: اعتقد في كذا أي آمن به. والإيمان بمعنى التصديق. يقال: آمن بالشيء أي صدّق به تصديقا لا ريب فيه ولا شك معه[1].

والعقيدة حين تستقر في قلوب المؤمنين.. تغير مجرى الحياة وتصنع المعجزات.. فأصحاب الأخدود.. وسحرة فرعون.. وأصحاب رسول الله الذين.. ) قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل( [2].

والعقيدة هي مفترق الطرق.. بين سبيل الله وسبل الشيطان، بين الحياة الإسلامية والحياة الأخرى..

فالمسلم حين يقبل على الإسلام، يشعر في اللحظة ذاتها أنه إنسان آخر، في التصور والاعتقاد والقيم والسلوك، تطبق عليه الدنيا لتثنيه عن إيمانه.. فلا يتزحزح أو يضعف.

)وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون( [3].

والعقيدة الإسلامية التي تستقر في القلب :

  • • تسمو بالنفس الإنسانية فتشغلها بالفضائل، بالصدق والوفاء والكرم والشجاعة والإيثار والتضحية.
  • • وتقرن الإيمان بالعمل )الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب( [4].

فلا قيمة لعمل لا توجهه نحو الخير عقيدة صحيحة.. )ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله( [5].

ولا قيمة لعقيدة لا تتحول إلى عمل مفيد في واقع الحياة.. ومعظم آيات القرآن الكريم قرنت العقيدة بالعمل.. )الذين آمنوا وعملوا الصالحات( [6] ذلك أن الإيمان اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح وتهذيب للسلوك، ولا يكمل إيمان المؤمن إلا بكمال هذه الأمور الثلاثة.

والإيمان يزيد وينقص.. يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.

إن عقيدة الإسلام ليست مجرد إيمان يستقر في الوجدان وينزوي بعد ذلك في ركن من أركان الحياة.. إنها منهج حياة فاضلة تتدخل في كل المجالات تعيد بناءها.. وترفع من مستوى أدائها.. تبدأ بسعادة الفرد.. لتنتهي في سعادة العالم وأمنه.

)الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون( [7].

ومازالت القوى التي تحارب الإسلام.. تقنع المسلمين بأن الإسلام هو الشعائر وأن المساجد مفتوحة لأدائها.. وانه علاقة بين المرء وخالقه.. أما شؤون الحياة الأخرى فتنظمها القوانين الوافدة والنظم المستوردة.. ومازالت هذه القوى تحارب المسلم الذي يفهم عقيدته على أنها منهج شامل كامل للحياة.

عمل القلب وعمل الجارحة

والعقيدة محلها القلب.. (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله).. والقلب السليم هو الذي سلم من كل عبودية لغير الله، ومن كل شهوة تخالف أمره ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فآمن بالله وتوكل عليه وذلّ له وأخلص إليه..

)يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم( [8].

والتربية النبوية كانت موجهة ابتداء إلى القلب لأنه مفتاح التحويل )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( [9].

وعمل القلب أهم من عمل الجارحة. يدخل في أعمال القلوب المطلوبة: الإيمان، والإخلاص، والتوكل، والإحسان، والشكر، والندم على المعصية، ويدخل في أعمال الجوارح المطلوبة: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والذكر والتلاوة، ويدخل في أعمال القلوب المحرمة: النفاق، والرياء، والحسد، والعجب، والكبر، والغرور، ويدخل في أعمال الجوارح المحرمة: الزنا، وأكل الربا، وإيذاء المسلمين، واستعمال اللسان في غيبة أو نميمة.

يقول الإمام علي رضي الله عنه: إن الإيمان ليبدو لمعة بيضاء، فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهك المحرمات نمت وزادت حتى يسوّد القلب كلّه..

والمعاصي البدنية (الجوارح) شهوات محدودة الخطر على قبحها وسوء مغبتها.. أما معاصي القلوب أو الرذائل النفسية فإنها تسيطر على أصحابها فلا يعرفون منها متابا.. لأنهم لا يحسّون دمامتها، تأمل في موقف إبليس بعد ما عصى الأمر بالسجود، لقد مضى في تحديه يقول لله أهذا آدم الذي فضلته علي؟ )قال أرأيتَكَ هذا الذي كرمت علي لئن أخرتنِ إلى يوم القيامة لأحتنكنّ ذريته إلا قليلا( [10].

)فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية( [11].

فمعاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح.. وتقوى القلوب هي التي تقود تقوى الجوارح.. قال تعالى: )ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب( [12]. فإذا سلمت القلوب.. وصحّ القصد.. كفى الإنسان العمل القليل.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (اخلص العمل يجزك منه القليل) [13].

والمؤمن الصادق هو الذي يتفقد ويحاسب نفسه، ويزن أعماله بميزان التقوى.. أما الغافل فيمضي مع حظوظ نفسه.. غير عابئ بغير تلك الحظوظ..

في الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مُرْبادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض) [14].

وعلى الثلة المؤمنة الصادقة.. التي أخذت على عاتقها مهمة التغيير.. أن تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر.. وأن تكون أشد احتراسا من المعاصي.. فإنما ينصر الله جنده بمعصية عدوهم.. )إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم( [15].

كلاهما مطلوب

إن واجب المسلم أن يسعى للتخلق بشعب الإيمان، التي جمعت كل الأعمال، أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ولا يجوز له الاكتفاء بأحدهما.

قال تعالى: )إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم( [16].

فمهمة المسلم أن يجد ويسعى للكمال في كل الأعمال، مركزا على أعمال القلوب، بادئا بها، غير مهمل ولا مستهين بأعمال الجوارح، لكن مراعيا للترتيب والأولويات مقدما الأعلى على الأدنى[17].

[1] العقائد الإسلامية - سيد سابق، ص- 8.

[2] آل عمران - 173.

[3] إبراهيم - 12.

[4] الرعد - 29.

[5] المائدة - 5.

[6] الرعد - 29.

[7] الأنعام - 82.

[8] الشعراء - 89.

[9] الرعد - 11.

[10] الإسراء - 62، دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي، ص- 189.

[11] المائدة - 13.

[12] الحج - 23.

[13] فهم الإسلام - جمعة أمين، ص- 290.

[14] مسلم.

[15] محمد - 7.

[16] الأنفال- (2-4).

[17] نظرات في رسالة التعاليم - محمد عبد الله الخطيب ومحمد عبد الحليم حامد، ص- 187.

الأصل الثامن عشر - الإسلام يحرر العقل ويرفع قدر العلم والعلماء

يقول الإمام حسن البنا في الأصل الثامن عشر:

(والإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع من كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها).

يعالج الإمام حسن البنا في هذا الأصل عدة قضايا هامة هي:

  • الإسلام يحرّر العقل.
  • ويرفع قدر العلم والعلماء.
  • ويرحب بكل صالح نافع أنى كان مصدره.
الإسلام يحرر العقل

• العقل من أعظم نعم الله على الإنسان، به يدرك ويميّز، ويفهم ويستنبط، ويبتكر ويخترع، ويبني ويعمر. وهو الوسيلة لتدبر آيات الله في النفس والآفاق، وتدبر حقائق الوحي وحقائق الحياة[1].

• وللعقل شرف ومكانة في الإسلام.. جعله الله نورا يهتدي به المؤمنون. قال تعالى: )أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس( [2].

أما أولئك الذين عطلوا أسماعهم وأبصارهم وعقولهم، وغفلوا عن الحق، واتبعوا الباطل.. يقولون يوم القيامة: )لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير( [3].

• والعقل مناط التكليف، والذكاء أساس الوعي، وأن الدين لا يكمل مع القصور في العقل والقلة في الذكاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُرفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، وعن المولود حتى يبلغ الحلم).

• ولقد حرص الإسلام على تحرير العقول من كل سلطان يكبلها ويعيقها عن أداء دورها في الحياة. حررها من قيود الأوهام والخرافات والكهنوت، فحرّم إتيان العرافين والكهنة وتصديقهم، والاعتقاد في التمائم والرقى الشيطانية والودع.. وكل ما كان من هذا الباب[4].

• عندما تحكمت الكنيسة الغربية بالسلطة والشعب.. حاولت إجبار الناس على تبني نظريات علمية خاصة بها.. واعتبرت الخروج عليها والتفكير والنظر وإعمال العقل في مسائل الدين والدنيا، هرطقة وكفرا.. ودفع العلماء ثمنا باهظا لخروجهم على تعاليم الكنيسة فصلب بعضهم وسجن آخرون.. وعندما ضعف سلطان الكنيسة وانتصر العلماء.. طالبوا بالفصل الكامل بين الدين والعلم.. وإبقاء الدين مجرد علاقة خاصة بين الفرد والرب.. ومن هنا نشأت الخصومة بين الدين والعلم.. انزوى بعدها الدين في زاوية مهملة من زوايا المعابد.. وانطلق العلم.. المفيد منه والضار.. يتحكم بالإنسان والحياة..

• وكما كبلت الكنيسة العقل بالأوهام ومنعته من النظر في ملكوت الله، فحرمت الإنسان من عطائه وخيره.. كذلك جاءت نظريات تطلق العقل بلا حدود مما أدى إلى الانحراف.. فالعقل مثل كل الحواس.. محدود بالزمان والمكان.. ويختل ميزانه إن حاول الحكم علي غير المحدود.. مثل أمور الروح والقدر وأسماء الله وصفاته وغيرها من المسائل التي لا حكم للعقل عليها.. فتكبيل العقل مثل تبديد طاقته بإطلاقه بغير حدود..ولهذا حدد الإسلام مجال النظر العقلي في النافع والمفيد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فإنكم لن تقدروه قدره) [5].

• إن عبادة العقل والتحاكم إليه ليس بجديد، بل هو من يوم أن قال إبليس لربه: )أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين( [6]. لقد جعل إبليس لنفسه رأيا مع أمر الله.. استخدم عقله خارج حدود قدرته فضل وأضلّ. فالعقل لابد أن يقوده الوحي يبصره الطريق، ويهديه السبيل القويم[7].

لقد هلكت وضلت أمم من قبل ومن بعد حكّمت عقولها بمنأى عن هدي ربها، قال تعالى: )ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون([8].

تربية العقل

والعقل أثمن ما وهبه الله لعباده وهو لا يولد تاما ناضجا.. وإنما يتم وينضج بوسائل شتى تعالج بها معادن الرجال والنساء، فإذا لم تتوفر تلك الوسائل كان التخلف والقصور، واختفى أو ندر أولو الألباب الذين يقدرون على الإفادة من الدين[9].

أما المنهج الإسلامي في التربية العقلية فقد حدده القرآن الكريم الذي يبدأ بتفريغ العقل من كل المقررات السابقة التي لم تقم على يقين: )قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون( [10].

وينعى على الذين يتبعون الظن: {إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا( [11].

ثم هو يأمر بالتثبت من كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه: )ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا( [12].

مسؤولية يحس معها الإنسان بعظم التبعة وهو يقدم على الأمر، فلا يأخذ الأمور باستخفاف، ولا يأخذها بلا تثبت[13].

ثم يوجه القرآن نظر الإنسان إلى إعمال العقل في النظر في ملكوت الله في السموات والأرض والإنسان. قال تعالى: )إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار( [14]. وقال أيضا:

)فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبا، ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا، وعنبا، وقضبا، وزيتونا، ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة، وأبا، متاعا لكم ولأنعامكم( [15].

هذا النظر والتفكر في خلق الله، يوجه العقل البشري إلى الإيمان بالله خالق الكون بالحق. ويعمل على ترسيخ اليقين في قلوب عباده المستبصرين، الذين استدلوا عليه سبحانه بصنعته فعلموه، وتحققوا أن لا إله إلا هو فوحدوه، وشاهدوا عظمته وجلاله فنزهوه، فهو القيّم بالقسط في جميع الأحوال، وهم الشهداء على ذلك بالنظر والاستدلال[16].

قال تعالى: )كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون( [17].

وقال أيضا: )ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار( [18].. وقال أيضا: )فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض، فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرنّ عنهم سيآتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله، والله عنده حسن الثواب( [19].

تعكس الآيات وجها من وجوه التربية العقلية في الإسلام.. وذلك من خلال توجيه العقل لتدبر آيات الله في الكون حيث تبدأ هذه العملية بالتفكر وتنتهي بالعمل.. العمل بمقتضى الدستور (الحق) الذي نزل به القرآن.. والجهاد في سبيل إقرار هذا الدستور، وتسيير دفة الحياة على نهجه وشريعته. ثم تصل إلى الغاية القصوى. تصل إلى الجزاء في الآخرة، فتصل الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة وتصل البشر بالله .. وحين يقيس الإنسان هذا اللون من التوجيه للطاقة العقلية في تدبر حكمة الله وتدبيره، بالفلسفة

قديمها وحديثها، يدرك في الحال عظم الفرق وعظمة المنهج الإلهي في تربية العقل البشري[20].

ويرفع قدر العلم والعلماء

ولقد رفع الإسلام قدر العلم.. وعظّم من قدر العلماء.. فبدأ الوحي بالأمر بالقراءة والإشادة بالعلم.. قال تعالى: )اقرأ باسم ربك الذي خلق([21].. وأقسم بمادته ) ن، والقلم وما يسطرون( [22]، واعتبر العلم عنصرا من عناصر تكوين الإنسان، وسرا من أسرار تكريمه، وفريضة من فرائضه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [23].

وقال تعالى: )قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون( [24].

وقال أيضا: )يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات( [25].

ورسول الله صلى الله عليه وسلم أول معلم في الإسلام.. فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة من بعض حجره، فدخل المسجد. فإذا هو بحلقتين من الناس: إحداهما يقرؤون القرآن، ويدعون الله والأخرى يتعلمون ويعلّمون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم كل على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن، ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. وهؤلاء يتعلمون ويعلمون وإنما بعثت معلما. وجلس معهم[26].

ولقد كرم الإسلام العلماء فجعلهم ورثة الأنبياء[27].

والعلم المطلوب.. هو العلم بمفهومه الشامل الذي يشمل كل ما يتصل بشؤون الحياة.. من أمور الدنيا والدين. فلا حظ لأمة بالسؤدد بدون علم.. ولا قيمة لعلم لا يرفع شأن الأمة، ويلبي احتياجاتها ويرفع من شأنها بين الأمم.

الحكمة ضالة المؤمن

وإذا كان المسلم لا يملك أن يتلقى في علوم تختص بحقائق العقيدة، أو التصور العام للوجود، أو تختص بالعبادة، أو بالخلق والتربية والسلوك والقيم والموازين، أو تختص بالمبادئ والأصول في النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، إلا من ذلك المصدر الرباني المرتبط بالعقيدة المطبق لتعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة[28]، فإنه يعتبر أن العلوم.. كالكيمياء والفيزياء والفلك والطب والصناعة والإدارة والهندسة وغيرها.. إرث إنساني مشترك، ساهمت في إيجاده وتطويره المجتمعات البشرية المختلفة.. وبإمكان كل مجتمع أن يستفيد من تطبيقاتها دون حرج.. على قاعدة: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها[29]..

أين نحن من هذا..؟

أين المسلمون اليوم من نداء ربهم: )أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء( [30].

لقد جاء من وراء الحدود من استخرج النفط من أرضنا، ومن أقام الجسور على أنهارنا، ومن صنع لنا حتى الإبرة التي نخيط بها ملابسنا.

لقد انحسر الفقه الإسلامي داخل حدود ضيقة لا تتجاوز العبادات والمسجد.. أما دواوين السلطة، ومشكلات المال، ومفاصل الحياة الحقيقية للمجتمع والدولة.. فلم يقترب الفقه منها.

ونتج عن ذلك أن الاستبداد السياسي عربد دون حذر، وأن الخلل الاقتصادي شاع دون علاج، وأن الأعصاب التي تشد الكيان الإسلامي استرخت ثم انقطعت، وتاه المسلمون بعضهم عن بعض، وأن الشخصية المعنوية للأمة الإسلامية ولرسالتها الكبرى تلاشت في طول الدنيا وعرضها.

ثم ازداد قتام المأساة بوجود فقهاء يذرفون الدمع لأن التصوير الشمسي انتشر، والتلفزيون دخل كل بيت.. ويغضون أبصارهم وأسماعهم عن أنين الشعوب المسحوقة، وعن الحريات المضيعة، وعن الاستبداد والمستبدين.. حتى أصبحت الأمة المسلمة أثرا بعد عين.. وصار المسلم ضائعا تائها شاردا في صحراء الحياة..

هل يعود المسلمون مرة أخرى فيتفكروا ويعملوا بنداء ربهم.. )أولم ينظروا إلى السموات والأرض وما خلق الله من شيء( [31]..

نظر عمل.. لا نظر متعة وجدل[32]؟

[1] خصائص التصور الإسلامي - سيد قطب، ص- 141.

[2] الأنعام - 122.

[3] الملك - 10.

[4] نظرات في رسالة التعاليم - محمد عبد الله الخطيب، ص- 190.

[5] أبو نعيم في الحلية مرفوعا بسند ضعيف ومعناه صحيح.

[6] الأعراف - 12.

[7] فهم الإسلام - جمعة أمين، ص - 294.

[8] الأحقاف - 26.

[9] دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي، ص- 192.

[10] البقرة - 170.

[11] النجم - 28.

[12] الإسراء - 36.

[13] منهج التربية الإسلامية - محمد قطب، 1 : 77.

[14] آل عمران - (190 - 191)

[15] عبس - (24 - 32).

[16] مجموعة رسائل الإمام الغزالي 1 : 3.

[17] البقرة - 242.

[18] آل عمران - 191.

[19] آل عمران - 195.

[20] منهج التربية الإسلامية - محمد قطب 1 : 83.

[21] العلق - 1.

[22] ن - 1.

[23] رواه مسلم.

[24] الزمر - 9.

[25] المجادلة - 11.

[26] رواه مسلم.

[27] أبو داود والترمذي.

[28] معالم في الطريق - سيد قطب، ص- 126.

[29] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- 310.

[30] الأعراف - 185.

[31] الأعراف - 185.

[32] دستور الوحدة الثقافية - محمد الغزالي، ص- 212.

الأصل التاسع عشر - النظر الشرعي والنظر العقلي

يقول الإمام حسن البنا في الأصل التاسع عشر:

(وقد يتناول كل من النظر الشرعي، والنظر العقلي، ما لا يدخل في دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا في القطعي، فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة. ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالإتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار).

يعالج الإمام البنا في هذا الأصل عدة موضوعات هامة منها:

  • النظر الشرعي والعقلي.
  • النظرية العلمية والحقيقة العلمية.

النظر العقلي

هو ما يُتوصل إليه عن طريق البحث والملاحظة والتجربة والاستقراء والاستنباط والتحليل في مسائل الكون والحياة والعلوم المختلفة.. وغيرها من المسائل الدينية والدنيوية.

والنظر الشرعي

هو ما تتضمنه نصوص القرآن والسنة من أحكام الحلال والحرام في كل مجال سواء كانت العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والمعاملات..، وما تضمنته من مسائل الكون والحياة والعلوم المختلفة كالطب والفلك وغيرها.

وللشرع دوائر خاصة

هناك مجالات اختص بها الشرع دون العقل كالغيبيات (الجنة والنار، والملائكة والجن... الخ) والتحليل والتحريم.. فهذه مجالات لا يفتي فيها العقل ويؤسسها، إنما يفهمها ويفسرها.

وللعقل دوائر خاصة

وهناك مجالات خاصة للعقل، لم يتدخل فيها النظر الشرعي مثل كثير من أمور الدنيا والكون والحياة التي تخضع للملاحظة والتجربة والاستقراء فيستنبط منها العقل قوانين علمية في الكيمياء والفيزياء والنبات، تساعد على الكثير من الاكتشافات العلمية والمخترعات.

ودوائر للشرع والعقل

هناك مجالات يشترك فيها كل من الشرع والعقل، وهي مجالات قطعية لا مجال فيها للتأويل والتردد إنما هي جلية واضحة كالشمس في وضح النهار مثل: الإيمان بالله تعالى وتوحيده وكماله.

والإيمان باليوم الآخر والرسل...

وفضل شرع الله على كل ما سواه.

فهذه مسائل تحدث عنها كتاب الله وسنة رسوله، وشهد بها العقل بالملاحظة والمشاهدة والأدلة السليمة.

موقفنا من القضايا العلمية

بادئ ذي بدء نقول: إن القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد ونظام حياة للسمو بإنسانية الإنسان، قال تعالى: )إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم( [1]، وليس كتاب طب أو فلك أو كيمياء.

هناك في طياته بعض الإشارات العلمية التي تتعلق بالكون والحياة، وذلك للتنبيه على عظيم قدرة الله، وتثبيت الإيمان في قلوب المؤمنين..

بعد هذه الملاحظة نأتي إلى السؤال: ما موقفنا من القضايا العلمية..؟

• بعضهم وقف من العقل وما توصل إليه من مسائل علمية سواء حقائق أو نظريات، موقف الرافض والمنكر لربطها بالشرع وإن كانت الإشارة إليها صريحة واضحة.

• وبعضهم وقف من العقل واكتشافاته موقف المنبهر المتلمس لكل اكتشاف، حقيقة كان أو نظرية، قطعيا كان أو ظنيا، دليلا من الشرع، ويلوي في سبيل ذلك الربط أعناق النصوص، ويتكلف في تفسيرها.

• وفي كلا الرأيين مآخذ، وكلاهما فيه إفراط وتفريط. ولقد جاء الإمام البنا كعادته بالرأي الوسط:

نظر في النصوص الشرعية من القرآن الكريم فوجد فيها القطعي الدلالة وظنيها.

وفي السنة المطهرة القطعي والظني الدلالة والثبوت.

ونظر في المسائل العلمية فوجد فيها الحقائق القطعية والفروض والنظريات الظنية.

ومن المعلوم أن الله هو الذي أوحى القرآن والسنة وهو الذي خلق العقل والكون وعلم الإنسان. فمادام الأمر كذلك، فقد قرر الإمام الشهيد بالنسبة لموقفنا من القضايا العلمية ما يلي:

1- لا مانع من ربط الحقائق العلمية الصحيحة بالحقائق الشرعية الصريحة، فهذا سبيل من سبل زيادة الإيمان.

2- يؤول الظني من القضايا العلمية ليوافق القطعي من النصوص الشرعية.

ويؤول الظني من النصوص الشرعية ليوافق القطعي من القضايا العلمية. 3- إن كانت النصوص الشرعية ظنية والقضايا العلمية ظنية وقفنا في صف النصوص الشرعية لأنها تنزيل العزيز الحميد حتى تستقر القضايا العلمية على حال: إما الثبوت أو الانهيار.

أمثلة ونماذج:

1- حقيقة شرعية وحقيقة علمية:

تحدث القرآن عن أطوار الجنين فقال تعالى:

)ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين( [2].

ونفس الحقائق القرآنية هي هي ما توصل إليه علماء الأجنة.

وقال تعالى: )والقمر قدرناه منازل( [3] فهذا حكم شرعي.. وحقيقة علمية في نفس الوقت.

2- حقيقة شرعية ونظرية علمية:

تحدث القرآن عن خلق الإنسان وبدايته، فالإنسان الأول هو آدم عليه السلام، خلقه الله من تراب قال تعالى:

)ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون. والجان خلقناه من قبل من نار السموم. وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين( [4].

وهناك بعض النظريات السقيمة الزائفة في خلق الإنسان (مثل نظرية دارون) تزعم أن الإنسان متطور عن سلالة من الحيوانات. وهذه النظرية تتعارض مع الحقيقة الشرعية، فواجب المسلم أن يأخذ بالحقيقة الشرعية، ويضرب بالنظرية العلمية الظنية عرض الحائط.

3- حقيقة علمية وظني شرعي:

فقد أثبتت التجارب والاكتشافات العلمية بالبراهين القاطعة أن الأرض كروية.

وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الأرض ممدودة منبسطة وإلى أنها كروية.

فقال تعالى: )والأرض مددناها( [5].

وقال تعالى: )والأرض بعد ذلك دحاها( [6].

وفي مثل هذه الحالة نحمل الظني الشرعي على الحقيقة العلمية.

ويجدر بالذكر أن نشير إلى أن انبساط الأرض وامتدادها لا يتعارض مع كرويتها وذلك لأن التعبير يوضح حالتها وصورتها التي يراها الناس وهي لاشك ترى مبسوطة ممدودة.

أما شكلها العام فهي كالدحية (كروية بيضاوية) [7].

[1] الإسراء - 9.

[2] المؤمنون - (12 - 14).

[3] يس - 39.

[4] الحجر - ( 26-29).

[5] ق - 7.

[6] النازعات - 30.

[7] نظرات في رسالة التعاليم- محمد عبد الله الخطيب، ص- (196-202).

الأصل العشرون- قضية تكفير المسلم

قال الإمام حسن البنا في الأصل العشرين:

(لا نكفر مسلما -أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض - برأي أو بمعصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر).

مقدمة

عالج الإمام البنا في هذا الأصل قضية هامة.. قديمة حديثة.. هي قضية تكفير المسلم. ولقد استشرت هذه الفتنة في السنوات الأخيرة حتى صار المسلم يكفّر أخاه لأبسط الأمور.. وقامت أحزاب وجماعات تتبنى مثل هذا الفكر المتطرف الذي لم يترك لمسلم حرمة ولا لمؤمن عصمة.. ولقد حذر الإسلام من مثل هذا السلوك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء أحدهما بها) [1].

يظن بعض الناس -خاصة الشباب منهم- أن الحكم على إنسان بالكفر أو الإسلام في حياته إنما ينصرف إلى آخرته، وهذا فهم خاطئ. فالحكم بإسلام المرء أو كفره في الدنيا لا شأن له بما يؤول إليه مصيره في الآخرة، إنما هذا الحكم يتصل بدنياه ولا شأن له بآخرته، فنحن نحكم عليه لنجري عليه أحكام الإسلام في مجتمع المسلمين فإن كان مسلما فله ما لنا وعليه ما علينا، وإن كانت الأخرى فلا يُصلى عليه إن مات ولا يورث ولا يدفن في مدافن المسلمين وتنزع منه الولاية والنصرة إلى غير ذلك من الأحكام[2].

ولا بأس أن نتوسع قليلا في شرح هذا الأصل.. فالحركة الإسلامية وأبناؤها مازالوا يعانون من هذه الفتنة وأهلها الشيء الكثير.

تعريف الإيمان

الإيمان هو: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، على النحو الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام.

تعريف الكفر

والكفر في الدين: صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمانَ به، بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه.

والجحود يكون بالقلب دون اللسان.. أو باللسان دون القلب (من غير إكراه).. أو بهما معا.

حكم الناطق بالشهادتين

لنتدبر معا هذه الأحاديث الصحيحة:

1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) [3].

2- وقوله صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس الوشي من الثوب، فيأتي أقوام يقولون لا إله إلا الله، ويقولون أدركنا آباءنا يقولونها – ولا يدركون معناها - فيقول الراوي: ماذا تفيدهم لا إله إلا الله؟ فقال إنها تنجيهم من النار) [4].

3- عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فعزل إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ بشجرة وقال: إني أسلمت لله، أأقتله بعد أن قالها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته) [5].

وفي حديث مشابه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال يا رسول الله: إنما قالها خوفا من السلاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا شققت على قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟[6].

4- روى أحمد عن أبي صخر العقيلي أن رجلا من اليهود كان يقرأ التوراة على ابن له عند الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه هكذا أي لا. فقال ابنه: إي والله إنا لنجد في كتابنا هذا صفتك ومخرجك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أقيموا اليهودي عن أخيكم ثم تولى دفنه والصلاة عليه[7].

5- وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده وقد أمرهم به، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله[8].

نستدل من هذه الأحاديث الصحيحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالإسلام لمن أعلن النطق بالشهادتين[9].. وأنه من أهل القبلة، وليس مخلدا في النار ولو ارتكب الكبائر.. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شفاعتي لمن قال: لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه).

شبهة وردها

ولقد ذهب بعض الكتاب الفضلاء إلى أن كل من دخل الإسلام أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدرك بغير لبس ولا إبهام معنى كلمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله.. فحين ينطق بالشهادتين يعرف معناها.. وكل أبعادها.. باعتبارها منهج حياة كامل، أما المسلمون اليوم فهم يجهلون ذلك.

وهذا الرأي لا يتناسب مع واقع المسلمين أيام النبي صلى الله عليه وسلم وبعده.. ويحتاج قولهم إلى دليل. بل إن الدليل لا يؤيده..

ولنتدبر معا بعض الأحاديث الصحيحة حول هذا الموضوع:

1- جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه بني خزيمة فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر.. وأمر من معه أن يقتل كل منهم أسيره وامتنع عبد الله بن عمر رضي الله عنه حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد (مرتين) [10].

قال الشوكاني في نيل الأوطار: وهو دليل على أن الكناية مع النية بصريح لفظ الإسلام لا يتوقف على الإحاطة بمعاني الإيمان والكفر، ولم يقل أحد من الصحابة بالتوقف في الإيمان لهؤلاء حتى يحيطوا بذلك علما.

2- عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أهدى رسول الله قربة خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل علمت أن الله حرمها؟ فقال: لا. فسارّ رجل رجلا آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بم ساررته؟ قال: أمرته ببيعها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها[11].

وهكذا نرى أن الجهل عذر.. خلافا لما يدعيه البعض. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [12].

الإيمان والعمل

يقول الإمام أبو حامد الغزالي: اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل[13]. فالتصديق هو الذي ينقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان وهذا الذي كان عليه العمل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الأخيار.

واستمر الأمر كذلك، حتى جاء الخوارج فقالوا:

إن الإيمان ليس اعتقادا وإنما هو اعتقاد وعمل ومرتكب الكبيرة كافر بل منهم من يرون تكفير أهل الذنوب ولم يفرقوا بين ذنب وذنب بل اعتبروا الخطأ في الرأي ذنب.

وبدعة الخوارج من البدع البارزة المشهورة التي لازالت آثارها تتردد بين أنحاء العالم الإسلامي إلى الآن، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن شرها وحذر من الأخذ بها، وطالب بالقضاء عليها ومحاربتها.

قال علي رضي الله عنه : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرأون القرآن ويحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية[14].

ومن أصدق ما يصور حال الخوارج ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يراهم شرار خلق الله يقول فيهم: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين[15] وقال: (يكفرون المسلمين ويستحلون دماءهم وأموالهم وينكحون النساء في عدتهم، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج، فلا أعلم أحدا أحق بالقتال منهم)[16].

الردة

هي الرجوع إلى الكفر بعد الإسلام - بعد نقض الشهادة بشروطها - وحكم المرتد القتل قال صلى الله عليه وسلم:(من بدّل دينه فاقتلوه) وقال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)[17].

والإجماع أن من جحد شيئا مما افترض الله تعالى عليه الإيمان به فقد كفر وارتد عن الإسلام إلا أن يكون الجاحد غير عالم بالنص فيبلغ إليه ويعرّف بما هو واجب عليه الإيمان به فمن أصر على الجحود والتكذيب كان كافرا مشركا.

هل يكفر مرتكب الكبيرة؟

أما رأي أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة فقالوا: هو مؤمن عاص، أمره بيد الله، إن شاء عذبه بقدر ذنبه وإن شاء عفا عنه.

أما التكاليف الشرعية والأعمال من جهاد وحج وصوم وصلاة فيزيد الإيمان بوجودها وينقص بتركها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ذرة) [18]. والخير هنا هو الإيمان.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه) [19].

كفر دون كفر

والذين يقولون بتكفير أهل المعاصي يتعلقون بما ورد من الأحاديث التي تصف مرتكبي الكبائر بالشرك أو ما يقتضيه مثل:

قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) [20].

وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (إنك امرؤ فيك جاهلية) [21].

وقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) [22].

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) [23].

وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفـارا يضرب بعضكم رقاب بعض) [24].

وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن) [25].

وليس في كل ما سبق من هذه النصوص دليل صريح على كفر مرتكب الكبيرة، ذلك لأن الأدلة قد قامت على ضده.

قال تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( [26].

وقال تعالى: )قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا( [27]. أي ما عدا الشرك الذي بينت الآية السابقة أن الله لا يغفره.

وقال تعالى: )وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما( [28].

فسماهم رغم القتال مؤمنين.

وسمى الله القاتل مؤمنا، وجعله أخا لولي المقتول، ولم يخرجه بالقتل عن الإيمان في قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة( [29].

ومما يدل على أن هناك كفرا دون كفر أن لفظ الكفر قد يرد في القرآن والسنة النبوية بمعنى آخر غير الكفر المخرج من الملة والذي من نتائجه:

مفارقة الزوجة المسلمة للمسلم الذي كفر.

وخروج أولاده عن ولايته.

وانعدام التوارث عند الوفاة.

مع دفنه في مقابر غير المسلمين.

ذلك لأن لفظ الكفر أو الشرك يطلق على بعض المعاصي من قبيل المجاز للزجر وبيان عظم أمر هذه المعصية، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو فقد أشرك) فهذه الألفاط لا تعني الكفر الأكبر المخرج من الملة.

وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم للصحابيات: تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار. سألت امرأة عن السبب فقال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير[30].

وفي رواية البخاري ورد سبب دخول النساء النار، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنهن يكفرن، فسئل يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان.

على هذا فإن الكفر والظلم والفسق مراتب، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: كفر دون كفر. قد يوصف المؤمن بالفسق أو الظلم أو الشرك أو عدم الإيمان لفعل منكر فعله ولكن لا يعدّ مرتدا عن الملة. فالذي شرب الخمر وأقيم عليه الحدّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لعنه: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ولكن قولوا اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) [31].

واستنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من لعن ذلك الذي أكثر من شرب الخمر ثم قال: (لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) [32].

وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي جاء فيه: (من أتى حدا فأقيم عليه فهو كفارة له، ومن ستر الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) [33].

الإيمان والعمل مرة أخرى

ذكرنا قبل قليل أن العمل ليس شرطا للإيمان.. ولا يعني هذا أننا ندعو إلى التكاسل وترك العمل.. أو أننا نزعم بزعم هؤلاء الذين ألهتهم الأماني وخرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا نحسن الظن بالله، كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

قال تعالى: )إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة وزرق كريم( [34].

فوجل القلب أي خوفه وخشيته وزيادة الإيمان أي التصديق في القلب وتأكيده، والتوكل على الله كل هذا استجابة حسية يحسها القلب المؤمن، ومعنى هذا أن حقيقة الإيمان ليس مجرد تصديق خامل في القلب وإنما هو تصديق مستجيب حي ثم يأتي بعد ذلك إعمال الإيمان وأثره.

والمسلم لا يستهين بذنب، ولا يستصغر إثما، فالإصرار على الصغائر كبائر، وباب التوبة مفتوح وشرط قبولها العمل الصالح )وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى( [35].

والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

قال تعالى: )فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا( [36].

نقض الشهادة

إن الذي يترك العمل مطمئنا لإيمانه، هو على شفا جرف هار. وإذا كانت الشريعة قد حددت كلمات للدخول في الإسلام فهي أيضا حددت أقوالا وأفعالا إذا قالها أو فعلها المسلم خرجت به عن الملة السمحاء إلى الكفر، وهذه الأقوال والأفعال حددت تحديدا واضحا لا لبس فيه ولا إبهام حتى لا يحكم على مسلم بكفر وهو من أهل القبلة.

إن إنكار الأصول: الإيمان بالله، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، أو إنكار ما لا يحتمل التأويل في نفسه مما تواتر نقله كإنكار الحشر والجنة والنار، وعلم الله تعالى بتفاصيل الأمور وأركان الإسلام ونحو ذلك كفر.

وأما ما تطرق إليه احتمال التأويل ولو بالمجاز البعيد فيجب التريث فيه قبل الحكم.

ولا يكفر المسلم هكذا باطلاق إذ لابد من التحقق من وجود شروط التكفير فيه وانتفاء موانعه عنه فإذا توافرت هذه الأمور حكم عليه بالكفر وهكذا ترى أن أمر التكفير من الأمور الدقيقة التي ضبطها الشارع الحكيم.

هل الجماعة شرط للإيمان؟

نحن نؤمن أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا. جاء بعقيدة لتوحيد المشاعر، وبعبادات لتوحيد الشعائر، ثم بشريعة تنظم الحياة في كافة مجالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية.. والإسلام دعوة عامة للناس كافة.. فمن ذا الذيسيطبق المنهج الإسلامي الشامل.. من سيقيم الحدود ومن يقيم العدل ويرد الظلم؟ ومن يحدد المال الحلال والحرام؟ ومن يحدد أنواع العمل ووسيلة الكسب؟ ومن يسوس الأمة ويحمي البيضة وينشر الدعوة؟

إن المسلمين إذا لم يحققوا ذلك في واقع حياتهم ويكتفوا بالمشاعر والشعائر فإنهم يقعون في تناقض اعتقادي لا مخرج منه وهم يستمعون إلى ربهم يقول: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون( [37].

من هنا أجمع المسلمون من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على من يخلفه ليُحفظ الدين، وتستمر الدعوة، ويُحمى الأمن، وتبلغ رسالة الإسلام إلى سائر أنحاء الدنيا.

ومع أهمية الإمامة التي تحرس الدين وسياسة الدنيا.. فهل هي شرط للإيمان..؟ وبعبارة أخرى: فهل ترك الجماعة منكر يخرج صاحبه من الملة؟

أما جماعة المسلمين التي تقيم شرع الله على الأرض، وتحكم بالشورى ولها إمام للمسلمين.. فالخروج عليها فتنة.. والانضمام إليها فريضة، ولكنه ليس شرطا من شروط الإيمان.

يقول ربنا عز وجل: ) إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر. إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير( [38].

فالذين لم يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعته- وهي الجماعة المسلمة الوحيدة - أي جماعة المسلمين لم يسلب الله إيمانهم بل حكم لهم بالإيمان.

يقول الشهيد سيد قطب في معنى الآية: (ثم وجد آخرون دخلوا هذا الدين عقيدة ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلا لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدير أمرها القيادة المسلمة ثم يقول: إن هؤلاء ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ومن ثم لا يكون بينهم وبينه ولاية ولكن هناك رابطة العقيدة) [39] نعم رابطة العقيدة ولكنهم مقصرون أو معذورون أو جاهلون أو آثمون لكنهم ليسوا كافرين.

هذا بالنسبة لجماعة المسلمين فما بالك بمن يلتحق بجماعة من جماعات المسلمين (!) فليتق الله من لا همّ لهم إلا تكفير المسلمين وبدل أن يفتحوا للناس بابا للتوبة يلقون بهم في النار فهل هذه رسالة المسلم في الوجود؟ {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين( [40].

حكم من لم يحكم بما أنزل الله

اختلف علماء الأمة بمن لم يحكم بما أنزل الله. فبعضهم أخذ بظاهر النص: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون( [41]. فاعتبر الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله كافرا. ولم يقف الأمر عند تكفير الحاكم بل على كل مسلم مكلف أن يعتقد بكفر ذلك الحاكم اعتقادا بقلبه وإعلانا بلسانه، فمن لم يفعل فهو قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر أيضا.

والأمر فيه خلاف

قال ابن عباس إن الآية ليست على ظاهرها وإطلاقها، وكذلك التابعي الجليل طاووس اليماني قال: إن الكافر هو من حكم بغير ما أنزل الله جاحدا وأما من أقر بحكم الله وحكم على خلافه فهو ظالم فاسق[42]. وبذلك قال السدي وعطاء وطاووس وكثير من أئمة الفقه، وهذا هو المدون في كتب الفقه وتفاسير القرآن المتداولة بين الناس مثل القرطبي وابن كثير وصفوة البيان وغيرهم[43].

ولذلك فإننا نقول: من اعتقد أن شخصا أو هيئة ما أو جماعة ما كائنا من كان له الحق أن يحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله وثبت حكم التحليل أو التحريم القطعي، وكان هذا الاعتقاد بعد أن بلغه الحق وقامت عليه الحجة ولم يكن متأولا لنص من كتاب الله أو السنة فهو كافر مشرك خارج عن ملة الإسلام )أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله( [44].

أما إذا انتفى عنه اعتقاد ذلك وآمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق ولكنه لم يضعه موضع التنفيذ فهو -كما قلنا من قبل- عاص ظالم فاسق حسب ما بين علماء الأمة وليس بكافر كفرا يخرج من الملة.

وهكذا ترى فقه الإمام البنا ودقة حكمه حين قال: لا نكفر مسلما -أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض -برأي أو معصية إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر[45].

مقدمة فضيلة المرشد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

فيسعدني أن أقدم للقراء الفضلاء الكرام كتاب الفكر الإسلامي الوسط للأستاذ الباحث الأخ مصطفى محمد الطحان، وهو دراسة واعية عميقة في رسالة التعاليم للإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، الذي وصفه المؤلف في صدر الرسالة بقوله: (كان حسن البنا قد عرف غايته، وتبين طريقه، وعرف أن غايته كبيرة وضخمة، وأن طريقه شاقة وطويلة).

ولقد بذل الأخ مصطفى جهدا طيبا في شرح الرسالة وبيان أهميتها، وضرورة الإقبال على فهمها، والالتزام بها والعمل بما فيها، فهي بحث من أهم رسائل الإمام البنا، فمن فهمها فقد عرف ما يريد الإخوان، إن الفهم الصحيح للإسلام، هو الذي حفظ جماعة الإخوان وحافظ على وحدة صفها، وتوجهاتها، رغم ما مر بها من أزمات ومحن وشدائد وسجون وتعذيب، وافتراءات، كلها بحمد الله ذهبت أدراج الرياح وبقي صف الإخوان سليما وهدفهم واضحا، والتزامهم بدينهم وإسلامهم أغلى عندهم من الدنيا وما فيها.

قضية الفهم

إن قضية العلم والفهم شرط أساس في هذا الدين، وهذا ما جاء به الإسلام الحنيف، وحث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الحق سبحانه: )فاعلم أنه لا إله إلا الله( [46]، وفي الحديث الصحيح: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).

كما يفرض علينا الإسلام أن نعمل عقولنا وأفكارنا، فالتفكير فريضة إسلامية، فلا عقل إلا بالفهم، ومن غيره تذل الأقدام، وتضيع الجهود، وتتشتت الأمة، وتضل الطريق، ولقد وضع الإمام الشهيد حسن البنا ركن الفهم بأصوله العشرين كأس ثابت يجتمع عليه الإخوان، فلا نستطيع أن نؤدي دورنا إلا بعد الفهم الصحيح لأصول هذا الدين ومقاصده، وكيف حافظ على الإنسان كله، على عقله، وقلبه، ونفسه، وماله، وعرضه. الفهم الذي ننطلق منه لنحدد دورنا على ظهر الأرض، وعلينا في هداية العالم. الفهم الذي يعرّفنا سرّ وجودنا وغايتنا في هذه الحياة، وفهم ما يدور حولنا، وما يدبَر لنا من مكائد، وما يبيّت للمسلمين من شرور، فهم التيارات المختلفة، والمذاهب المتصارعة، وسرّ هذه الصراعات التي تجري هنا وهناك.

ولقد أفاض المؤلف في شرح أصول الفهم العشرين، وأورد ما نادى به السلف من ضرورة العلم والمعرفة لكل من يتصدر للدعوة إلى الله، يقول الحسن البصري: (العامل على غير علم، كالسائر على غير طريق، يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم) وهذه هي الوسطية التي لا يقبل الإخوان بديلا عنها في كل شؤونهم لأنها الحق الفاعل، قال تعالى: )وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنتَ عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى اللهُ وما كان اللهُ ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم( [47]. ولقد وفّق المؤلف في إيراد ما قاله الإمام ابن القيم: (صحة الفهم وحسن القصد، من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطى عبدٌ عطاء بعد الإسلام أفضل منها).

ولقد عالج المؤلف الكثير من المفاهيم غير الصحيحة التي تتردد أحيانا على الألسنة ولا نصيب لها من الصحة، ومنها على سبيل المثال القول: بأن جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة المسلمين، وإمامها إمام المسلمين الذي حدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه (أن تلتزم جماعة المسلمين وإمامهم) وهذا القول خطير بكل المقاييس ونتيجة لم يقُل بها أحدٌ، ولا تقرُّها أدبيات الجماعة أبداً، ولم يذكر ذلك أحدٌ يقدر خطورة هذا الأمر، ولقد أصاب المؤلف حين ردّ بوضوح، قائلا: (فالإخوان المسلمون هم جماعة من جماعات كثيرة، قامت أساسا لخدمة الإسلام وتمكين شرع الله في الأرض).

ولقد بيّن المؤلف المصادر المحددة التي نص عليها الإمام البنا كمرجع لكل مسلم، وهي الكتاب والسنة، كما تحدث عن أثر الإيمان الصادق والعبادة الصحيحة ومجاهدة المسلم لنفسه، وأفاض بعد ذلك في القواعد التي تضمن للمسلم طريق الصواب والسداد، من حرص الإسلام على تحرير العقول من كل ما يعوقها عن أداء وظيفتها في الحياة، وحررها من الخرافات والضلالات والأوهام، كما رفع قدر العلم والعلماء، واعتبر العلم عنصرا من عناصر تكوين الإنسان، وكرم العلماء ورفعهم درجات، ولقد توسع في مدلول العلم المطلوب، بمفهومه الشامل الذي يتصل بكل شؤون الحياة، من أمور الدنيا والدين، فلا حظ لأمة بدون علم، ولا قيمة لعلم لا يرفع شأن الأمة.

ثم أفاض المؤلف في قضية حيوية هامة، وهي قضية تكفير المسلم وكيف عالجها الإمام البنا العلاج الصحيح، وصحح المفاهيم حول هذا الأمر، وتحدث عن حكم الناطق بالشهادتين، وأورد الأحاديث الصحيحة في هذا الأمر، وجاء بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، أن رسول الله[ قال لوفد عبد القيس: (هل تدرون ما الإيمان بالله وحده -وقد أمرهم به- قالوا: الله ورسوله أعلم، قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) [48] ومدلول هذا الحديث في غاية الوضوح وهو الحكم لمن نطق بالشهادتين بالإسلام فورا، وأنه من أهل القبلة، وليس مخلدا في النار، ولو ارتكب الكبائر. وفي الحديث الصحيح: (شفاعتي لمن قال لا إله إلا الله مخلصا، يصدق بها قلبُه لسانَه ولسانُه قلبَه).

كما شرح المؤلف باقي أركان البيعة العشرة، شرحا وافيا، ثم ألحق بالكتاب عدة بحوث جيدة تدور حول: البيعة والعمل الجماعي، والشورى، ودور المرأة في الإسلام، وحق المرأة في التعليم، وحقها في الدعوة، وحقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكل هذه البحوث مؤصلة التأصيل الشرعي الصحيح، ولقد وثق المؤلف أدلته بذكر المصادر التي استقى منها مما زاد في قيمتها العلمية.

إن دعوة الإسلام الصحيح التي يحمل لواءها الإخوان المسلمون من سبعين عاما بفهمهم الصحيح للإسلام والتزامهـم به قدمت للعالم كله النموذج الرائع في التسامـح وحسن الخلق، وحسن التعامل مع جميع الطوائف، وأكدت في كل مراحلها على أنه بالإمكان أن تسود حضارة الإسلام التي تحمي الإنسان وأن تتعايش الشعوب في ظل هذه الحضارة الربانية العالمية، مطمئنة سعيدة، بعيدا عن الصراعات والحروب والتدمير والتخريب، لكن اليهود وهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، يصرون دائما على إنكار حقائق هذا الدين والتشويه له والكيد لحملته والحقد عليه، والافتراء على العاملين للإسلام، خاصة حملة المنهج الإلهي والدعوة الإسلامية الذين يبغون الخير للبشرية، والاستقرار والأمان للشعوب، وهذه الأعمال من أعداء الإنسانية وتجار الحروب، إنما تدل على ضيق الأفق ونوايا الشر، وسوء الظن، وخشيتهم من الحق الذي يحمله الدعاة إلى الله عز وجل، ومن نور الإسلام الحنيف.

إن الإسلام الذي نؤمن به وندعو إليه، هو الذي طبقت حضارته، قيم التسامح وقيم الإنسانية، والبر والعدل والأخوة، بين الجميع وليس صحيحا أبدا ما يزعمه البعض، من أنه انتشر بالقوة أو بالسيف أو بإكراه الشعوب )لا إكراه في الدين( [49] فالدين الإسلامي يرفض الإكراه والعنف، والظلم، والأنانية، ويرفض العدوان، ويعمل على تحرير الشعوب، من الظلم والظالمين والمفسدين.

إننا على يقين بأن الغرب الذي ارتفعت فيه صيحات العداء للإسلام في هذه الأيام والتي بدأت تتعالى وتنادي كذبا بعدم الاطمئنان للمسلمين، والشك في توجهاتهم، وضرورة القضاء عليهم، نؤمن بأن هذه الصيحات تجافي الحقيقة، وتتناقض مع التاريخ، ومن ورائها دعاة الشر، الذين يوقدون الحروب، ويبغون الفتن، والإسلام وحملته أبرياء من كل هذه الأحقاد، وهذه التهم )كبُرت كلمةٌ تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا( [50].

إن الإخوان المسلمين رغم الأحداث والفتن والافتراءات عليهم يلتزمون بدعوة الإسلام دعوة الحق، دعوة التسامح والحكمة، ويلتزمون دائما بقوله تعالى: )ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( [51]، وبقوله تعالى: )ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفعْ بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم( [52]، كما يلتزمون بقوله تعالى: )قلْ هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومَنِ اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين( [53].

إننا نعمل على دعوة جميع الناس إلى هذا الحق وإرشادهم إليه، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم (نتبع ولا نبتدع) ونعمل على تطبيق هذا الحق كما جاء من عند الله، فهي أمانة ومسؤولية ألقى الله تبارك وتعالى بها على أكتافنا، وأكتاف جميع المخلصين من أبناء هذه الأمة الغيّورين على مستقبلها، إننا نأمل من الجميع أن يحكموا العقل والمنطق، وأن يجتنبوا الهوى واتباع الشيطان ويبتعدوا عن طريق الشر، فالله عز وجل يراهم ويعلم سرائرهم وأن رحمته ونصره لجنده وأحبابه وحمايته لهم ودفاعه عنهم قد تكفل سبحانه به، كما أن عقابه شديد، وأخذه إليه لمن يفتري على عباده ويحارب أولياءه وأتباعه ويعمل على تشويه الإسلام وحضارته.

جزى الله الأخ مصطفى عن إخوانه وطلاب العلم والمعرفة ما هو أهل له وبارك له في وقته وأهله وحياته.

إنه سميع مجيب.

مصطفى مشهور
المرشد العام للإخوان المسلمين
17 شوال 1422هـ
1/1/2002م

[1] فتح الباري 01 : 531.

[2] فهم الإسلام - جمعة أمين، ص- 324.

[3] متفق عليه.

[4] سلسلة الأحاديث الصحيحة - الألباني.

[5] رواه الشيخان.

[6] رواه الشيخان.

[7] الإمام أحمد.

[8] البخاري.

[9] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- 327.

[10] البخاري.

[11] مسلم.

[12] رواه ابن ماجه بسند صحيح.

[13] الإحياء 1 : 25.

[14] مسلم.

[15] البخاري.

[16] الاعتصام - الشاطبي 5 : 158.

[17] الشيخان.

[18] البخاري.

[19] رواه أحمد.

[20] مسلم.

[21] البخاري.

[22] البخاري.

[23] أبو داود.

[24] البخاري.

[25] البخاري.

[26] النساء - 48.

[27] الزمر - 53.

[28] الحجرات - 9.

[29] البقرة - 178.

[30] مسلم.

[31] أبو داود.

[32] البخاري.

[33] مسلم.

[34] الأنفال - 74.

[35] طه - 82.

[36] مريم - 59.

[37] البقرة - 85.

[38] الأنفال - 72.

[39] في ظلال القرآن- سيد قطب.

[40] الأنبياء - 107.

[41] المائدة - 44.

[42] البخاري.

[43] دعاة لا قضاة - حسن الهضيبي.

[44] الشورى - 11.

[45] فهم الإسلام - جمعة أمين عبد العزيز، ص- 357.

[46] محمد - 19.

[47] البقرة- 143.

[48] البخاري.

[49] البقرة- 256.

[50] الكهف- 5.

[51] النحل- 125 .

[52] فصلت- (34و35).

[53] يوسف- 108.

نظرات في التعاليم

رسالة التعاليم هي إحدى الرسائل التي كتبها الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله) وقال في مقدمتها: فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين، الذين آمنوا بسموّ دعوتهم وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها. وهي ليست دروسا تحفظ ولكنها تعليمات تنفذ.

ورسالة التعاليم رسالة موجزة تناولت أركان البيعة التي يلتزم بها أفراد الإخوان، والواجبات التي ينبغي على الأخ الصادق أن يلزم نفسه بها.. ثم يقول الإمام البنا في نهاية الرسالة.. هذا مجمل لدعوتك وبيان موجز لفكرتك.. تستطيع أن تجمع مظاهرها في خمس كلمات هي: البساطة والتلاوة والصلاة والجندية والخلق.

ورسالة التعاليم شأنها شأن جميع الرسائل التي كتبها الإمام الشهيد حسن البنا، سهلة موجزة شديدة الوضوح.

ويكفي أن يقرأها المسلم متوسط الثقافة ليفهمها، ولا تحتاج إلى شروح كثيرة أو دراسات مستفيضة فكثيرا ما ضاعت أو تاهت دررها في خضم الشروح والتعليقات.

فإذا كان الأمر كذلك.. فما هي طبيعة عملنا في هذه الدراسة التي نقدمها لإخوإننا حول رسالة التعاليم..؟

إن عملنا ينحصر في إعادة تقديم رسالة التعاليم للشباب المسلم، كما أراد لها كاتبها لا كما أراد لها شرّاحها.

لهذا فقد حرصنا أن نبعد بعض النظرات التي ألصقها البعض -عن حسن نية أو سوء تقدير من خلال دراستهم للتعاليم - بجماعة الإخوان المسلمين.. فقالوا مثلا:

• (إن الواجب الكبير على المسلم أن يكون ملتزما بجماعة المسلمين وإمامهم،وهذا هو المفتاح الأول لفهم قضية الإخوان المسلمين، فقد ضاعت فكرة الجماعة الإسلامية أصلا، وغاب عن المسلمين الطريق الصحيح للوصول إلى الجماعة والإمام. ووفق الله عز وجل حسن البنا إلى رسم الطريق الكامل للوصول إلى الجماعة باعتماد كل ما يلزم لذلك، وبالسير العملي لما يحقق ذلك، إذ أنه حتى تعتبر مجموعة ما جماعة المسلمين فإن ذلك يقتضي توافر شروط كثيرة في فهمها ووعيها وصفاء قيادتها، ولا نعلم أن مجموعة ما في عصرنا توافرت فيها هذه الأمور كالجماعة التي أقامها الأستاذ البنا) [1].

هذه النتيجة التي وصل إليها أحد شراح رسالة التعاليم.. والتي تقدم جماعة الإخوان المسلمين على أنها (جماعة المسلمين) وأمامها هو (إمام المسلمين) الذي حدّث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه (أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم).. هي نتيجة خطيرة لم يقل بها الإمام حسن البنا.. ولا تقرها أدبيات الجماعة.. ولم يذكر ذلك أحد ممن يقدر أبعاد هذا الادعاء. فالإخوان المسلمون هم جماعة من جماعات كثيرة قامت أساسا لخدمة الإسلام وتمكين شرع الله في الأرض. وفي بلدإن أخرى قامت حركات إسلامية أخرى.. بأسماء مغايرة وبمناهج متقاربة وأساليب متنوعة.. ومع ذلك فإن حركة الإخوان المسلمين تعتبرها حركات شقيقة موازية تضمر لها كل حب ومودة وتمدّ يدها إليها للتعاون المثمر، على قاعدة: يعاون بعضنا بعضا فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.

• ورسالة التعاليم.. هي رسالة كل مسلم آمن بسمو دعوة الإسلام.. وعزم صادقا أن يعيش بها أو يموت في سبيلها..

ولا صحة لما أوضحه بعض شراح رسالة التعاليم بأنها رسالة خاصة لصنف خاص.. يبايعون بشكل خاص ولأهداف خاصة!

فهذه الصفوية التربوية نظرية خاطئة في العمل الإسلامي.. فلا درجة في الإسلام لأحد على أحد إلاّ بالتقوى وبما يقدمه من جهد صادق لخدمة الإسلام. (ورب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره).

[1] في آفاق التعاليم - 3، ص- 27.

الركن الثاني - الإخلاص

تقديم

يقول الإمام حسن البنا في الإخلاص (الركن الثاني بعد الفهم):

وأريد بالإخلاص: أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله، وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته، من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو تقدم، أو تأخر، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة، لا جندي غرض ومنفعة. )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت( [1].

معنى الإخلاص

والإخلاص هو إرادة وجه الله تعالى بالعمل، وتصفيته من كل شوب دنيوي. فلا يمازج عمله ما يشوبه من الرغبات العاجلة للنفس، من إرادة مغنم، أو منصب، أو مال، أو شهرة أو منزلة في قلوب الخلق، أو طلب مدحهم، أوالهرب من ذمهم أو اتباع هوى خفي، أو غير ذلك من العلل والشوائب.

والإخلاص بهذا المعنى ثمرة من ثمار التوحيد الكامل الذي هو إفراد الله بالعبادة. ولهذا عُدّ الرياء - وهو ضد الإخلاص- من الشرك، قال شداد بن أوس رضي الله عنه: (كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشرك الأصغر) [2].

العمل المقبول

وإن لكل عمل صالح ركنين لا يُقبل عند الله إلا بهما:

أولهما: الإخلاص وتصحيح النية.

وثانيهما: موافقة السنة والشرع.

وبالركن الأول تتحقق صحة الباطن، وبالثاني تتحقق صحة الظاهر، وقد جاء في الركن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) فهذا هو ميزان الباطن.

وجاء في الركن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) [3] أي مردود على صاحبه وهذا ميزان الظاهر.

وقد جمع الله الركنين معاً في أكثر من آية في كتابه، فقال تعالى: )ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى( [4].

فإسلام الوجه لله: إخلاص القصد والعمل له.. والإحسان فيه.. ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.

قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: )ليبلوكم أيكم أحسن عملا( [5] :

أحسن العمل أخلصه وأصوبه.. قيل له يا أبا علي، ما أخلصه وما أصوبه؟ قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. ثم قرأ الفضيل قوله تعالى: )فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا( [6].

نعلم مما تقدم أن إخلاص النية لا يكفي وحده لقبول العمل، ما لم يكن موافقا لما جاء به الشرع وصحت به السنة. كما أن ورود الشرع بالعمل لا يرقى به إلى درجة القبول ما لم يتحقق فيه الإخلاص وتجريد النية لله عز وجل[7].

ميزان الإخلاص

عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) [8].

فالعمل مرتبط بالنية: إذا صحّت صحّ العمل، وإذا فسدت ضاع العمل وباء الجهد بالخسران. فالنية قصد الشيء مقترنا بفعله. والإنسان يقوم بالعمل كالآخرين، والنية وحدها تجعله عملا للبناء أو عملا للتخريب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما يبعث الناس على نياتهم) [9].

[1] الأنعام - 162.

[2] مجمع الزوائد 01: 225.

[3] مسلم .

[4] لقمان - 22.

[5] الملك - 2.

[6] الكهف - 110.

[7] نظرات في رسالة التعاليم - محمد عبد الله الخطيب، ص- (214 - 215).

[8] البخاري ومسلم.

[9] ابن ماجه.

إنسان يُنفق

الإنسان يبذل المال، فإن كانت صدقة يبذلها في سبيل الله، لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، لا يمنّ ولا يؤذي، ولا يتظاهر ولا يتفاخر، لا يؤذي نفسه بالتعالي ولا يؤذي غيره بإشعاره بالنقص.. عندها تستقيم مع الصدقة نفسه، ويتغلب على حب المال قلبه، ويغيث ذا الحاجة الملهوف، وتستقيم الحياة ذاتها ضمن منظومة التعاون البناء والعطاء الكريم الذي يزكي نفس المعطي ونفس المحتاج على السواء.

وقد يكون المال المبذول للشهرة، وحب التظاهر، وليقال أن فلانا كريم، فهذا يؤذي نفسه فقد شجعها على التعالي والكبر.. وآذى غيره عندما حاول إذلاله.. وآذى المجتمع الذي نمت فيه الأحقاد والأطماع وتقسّم المجتمع الآمن إلى طبقات يحقد بعضها على البعض الآخر..

مع الأول: عطاء يزكي النفس ويكرّم الحياة..

ومع الثاني: عطاء يفسد النفوس ويكرّس الأحقاد.

والفيصل بين العطائين: النية.

قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا، لا يقدرون على شيء مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين( [1].

وإنسان يقاتل

والإنسان يقاتل.. فإذا كان قتالا في سبيل الله لا لمغنم مادي يكسبه، ولا لوجاهة دنيوية ينتظرها، ولا لمجرد إذلال الآخرين.. ولا من أجل التمكن والاستعلاء في الأرض.. فهو قتال، يبارك العمر ويزكي النفس ويصلح الآخرين ويعمّر الأرض.

إذا قُتِل فهو شهيد، وإذا عاش فهو كريم.. يريد الحياة والهداية لأعدائه قبل أن يريد لهم الموت أو الهوان.

أما إذا كان القتال لمغنم يؤمله.. أو لذكر ينتظره.. هدفه استعباد الآخرين وامتصاص دمائهم.. فهذا وحش كاسر عدو لنفسه، ولكل إنسان من بني جنسه..

الأول: مجاهد يصلح الحياة..

والثاني: قاطع طريق يعتدي على الإنسانية والحرمات..

والفيصل بين الإثنين: النية.

(قال رجل: يا رسول الله أحدنا يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [2].

وإنسان يدعو

والإنسان يدعو.. ويكّرس وقته للدعوة.. يبذل في سبيلها وقته وجهده وماله.. فإن فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله.. وحبّا في هداية الآخرين، كان من الدعاة الصادقين الفائزين..

وإن كان يفعل ذلك رياء أو سمعة أو تظاهرا أو تعالما.. أو من أجل مكاسب دنيوية أو من أجل هذا أو ذاك.. فهو من الدعاة الكاذبين الخاسرين..

الأول: داعية إلى الله يصلح نفسه ويدعو غيره في تجارة مباركة مع الرحمن لن تبور.

والثاني: داعية سوء، خسر نفسه وأفسد غيره. خسر الدنيا والآخرة.

والفيصل بين الإثنين: النية.

جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد فأُتِي به فعرَّفه نعمه، فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال فلان جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن فأتي به فعّرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت؟ قال: تعلمت العلم وعملت به، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارىء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟

قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار) [3].

إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له. يقول تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) [4].

إن النية الصادقة المتجهة إلى الله تعالى تحوّل كل عمل إلى عبادة.. فالكلمة الطيبة صدقة، والتبسم الصالح صدقة، ومداعبة الزوجة من أجل إحصان النفس صدقة، والجهاد في سبيل الله لنشر دين الله أعظم عبادة، والإنفاق في سبيل الله عبادة، والداعية إلى الله إن اهتدى به إنسان واحد خير له من الدنيا وما فيها..ورد في الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة).

وقال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) [5].

والنية السيئة تحوّل العبادة إلى عمل باطل لا قيمة له ولا وزن. فرب قائم ليس له من قيامه إلا السهر، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.. بل ورب مجاهد أو منفق أو داعية أول مَنْ تُصلى بهم النيران.

وأنت أيها المسلم الداعية...

يا من رغبت في بناء الحياة باسم الله، وعزمت على إقامة شرع الله ليصون الإنسان والمجتمع، وبذلت في سبيل ذلك الغالي والنفيس، ألا تعتبر نفسك مفرّطا إن أنت أهملت قلبك.. تلك المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله أو فسدت فسد الجسد كله. ولن تصلح إلا بالنية الصالحة.. (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) [6]. ولن يبقى الضمير حيا مستيقظا حارسا إلا بذلك.. وتذكر دائما قول الرسول الكريمصلى الله عليه وسلم:

(فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

وتذكر أيضا أن من تلبيس إبليس على الإنسان أن يعمل لحظوظ نفسه وهو يحسب أنه يعمل لوجه ربه وهو في هذا مخادع أو مخدوع، فلو وُضعت بواعثه الكامنة تحت مجهر مكبر، لاستبان أن كثيرا من دواعي غضبه وسروره، وتعبه وراحته، يصلها بوجه الله خيط واهٍ، على حين تصلها بحظوظ النفس حبال شداد[7].

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (طوبى للمخلصين الذين إذا حضروا لم يُعرفوا وإذا غابوا لم يُفتقدوا. أولئك مصابيح الهدى، تنجلى عنهم كل فتنة ظلماء) [8].

)وما أمروا إلا ليعبدوا اللهَ مخلصينَ له الدينَ حنفاءَ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة( [9].

[1] البقرة -264.

[2] رواه الشيخان.

[3] رواه مسلم.

[4] رواه مسلم.

[5] رواه الخمسة إلا البخاري.

[6] رواه مسلم.

[7] محمد الغزالي - الوعي الإسلامي ( العدد 72 ).

[8] رواه البيهقي عن ثوبان.

[9] البينة - 5.

دلائل الإخلاص

وللإخلاص دلائل وعلامات.. تظهر على سلوك الداعية:

• فهو يخاف من الشهرة

خصوصا إذا كان من أصحاب المواهب.. في الأثر عن الحسن قال: (خرج ابن مسعود يوما من منزله، فاتبعه ناسٌ، فالتفت إليهم فقال: علام تتبعوني؟ فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان).

وقال الفضيل بن عياض: إن قدرت على ألا تُعرف فافعل، وما عليك ألا تُعرف؟ وما عليك أن يُثنى عليك؟ وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تعالى؟

والشهرة في ذاتها ليست مذمومة، فليس هناك أشهر من الأنبياء والخلفاء الراشدين.. ولكن المذموم أن يحرص عليها صاحبها.. فيجري الناس حوله من أمامه ومن خلفه، وهو يشعر أنه يستحق ذلك ويطلب المزيد..

• ويتهم نفسه بالتفريط في جنب الله

عن السيدة عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة( [1]، قالت عائشة رضي الله عنه: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يُقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات[2].

أما أولئك المعجبون بعملهم، المتحدثون عن مآثرهم، الذي يحبون أن يحمدوا بما فعلوا أو لم يفعلوا.. فبينهم وبين الإخلاص مدى بعيد.

• ويحرص على العمل بصمت

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن يسير الرياء شرك، وإن من عادى لله وليا، فقد بارز الله بالمحاربة. إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة) [3].

• ولا يهمه أن يعمل جنديا أو قائدا

المهم عنده حسن أداء العمل ونجاحه. شعاره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) [4].

قدوته في ذلك سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، سيف الله المسلول الذي لم يفتر نشاطه يوم كان قائدا لجيوش المسلمين أو جنديا تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.

• وأن يكون من أولئــك الذيــن يسعون إلى مرضـاة الله ولو أسخط كل الناس (فمن أرضى الله في سخط الناس، رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن أرضى الناس في سخط الله، سخط الله عليه وأسخط الناس منه)، قال تعالى: )إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب( [5].

فليتك تحلـو والحيـاة مـريرة

وليتك ترضى والأنــــام غضاب

ولـيت الذي بيني وبينك عـامر

وبينــي وبين العالمين خــراب

إذا صح منك الودّ فالكل هيــن

وكل الذي فـوق التــراب تـراب

• وأن يكون من هؤلاء الذين يصبرون ويصابرون

مهما اشتدت المحنة.. أو طال الطريق.. يعملون لمرضاة ربهم.. ونجاح دعوتهم..

والداعية المخلص هو الذي إذا ضاقت به الأمور يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت وهو متمسك بدينه ملتزم بدعوته، )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين( [6].

والداعية المخلص.. يبذل الخير ولا يرى لنفسه في ذلك فضلا، ولا يمنّ على أحد، )بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين( [7].

• ومن الإخلاص أن يحب الداعية أخاه لا يحبه إلا لله.. وأن يكره من يكره لأنه عدو لله ورسوله..

إن الحياة لا يسود فيها الحق، وينتشر الخير، وتعلو كلمة العدل، وتخفق أعلام الفضيلة، بتجار المبادئ الذين لا يعملون إلا ليغنموا ويستفيدوا في الدنيا، ولا بالمرائين الذين لا يعملون إلا ليراهم الناس ويسمعوا بهم ويتحدثوا عنهم ويشيروا إليهم بالبنان، بل ينتصر الحق والخير والفضيلة بالمخلصين الذين يعتنقون المبادئ مؤثرين لا متأثرين، مضحين لا مستفيدين معطين لا آخذين.

إن أمراض القلوب التي تشوب الإخلاص وتفسد النية أفتك بأصحابها من أمراض الأجسام، فهي تحبط الأجر وتبعد بصاحبها عن طريق الدعوة الصحيح، وهي موجودة فينا ولكننا نقاومها بالإيمان وبالتقوى، والأمر يحتاج منا إلى يقظة وانتباه ودوام مراجعة للنية وخلوصها من أي شائبة من أمراض القلوب[8].

سهام القدر ودعوات السحر

وعندما تشتد الخطوب ويتكالب أعداء الدين (في الداخل والخارج) على المسلمين، وتضيق عليهم الأرض بما رحبت، وتضيق عليهم أنفسهم، ويعلمون أن لا ملجأ من الله إلا إليه.. عندها يحتاجون إلى دعوة صالحة صادقة مثل دعاء أولئك النفر الذين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة فسدت عليهم الغار.. فقالوا: إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم.. فانفرجت الصخرة قليلا مع دعاء أولهم.. وزادت انفراجا مع دعاء الثاني.. ودعا الثالث وقال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة.

على الدعاة المخلصين الصادقين أن يستعينوا على أمورهم بسهام القدر.. ودعاء السحر.. وبالصدق بالقول والعمل.. لعل الله يفرج عنهم وعن إخوانهم ما هم فيه.

[1] المؤمنون - 60.

[2] الترمذي.

[3] ابن ماجه.

[4] فتح الباري 6 : 95.

[5] هود- 88.

[6] يوسف- 108.

[7] الحجرات- 17.

[8] نظرات في رسالة التعاليم، محمد عبد الله الخطيب، ص- (216-223) باختصار.

الركن الثالث - العمل

تقديم

قال الإمام حسن البنا في الركن الثالث من أركان البيعة ما يلي:

وأريد بالعمل ثمرة العلم والإخلاص )وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون( [1]. ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق:

1- إصلاح نفسه حتى يكون قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدا لنفسه، حريصا على وقته، منظما في شؤونه، نافعا لغيره، وذلك واجب على كل أخ على حدته.

2- وتكوين البيت المسلم بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن اختيار الزوجة وتوقيفها على حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم على مبادئ الإسلام، وذلك واجب كل أخ على حدته كذلك.

3- وإرشاد المجتمع بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائما، وذلك واجب كل أخ على حدته، وواجب الجماعة كهيئة عامة.

4- وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي، سياسي أو اقتصادي أو روحي.

5- وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها، والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين، مؤدين لفرائض الإسلام، غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه، ولا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة، ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه في نظام الحكم الإسلامي.

ومن صفاتها: الشعور بالتبعة والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام والاقتصاد فيه.

ومن واجباتها: صيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة، والعمل على قيام الدولة الصالحة التي تنفذ تعاليم الإسلام.

ومن حقها متى أدت واجبها: الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والأموال، فإذا قصرت فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

6- وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية بتحرير أوطانها، وإحياء مجدها، وتقريب ثقافتها، وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة.

7- وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله( [2] و {ويأبى الله إلا أن يتم نوره( [3].

وهذه المراتب الأربعة الأخيرة تجب على الجماعة متحدة وعلى كل أخ باعتباره عضوا في الجماعة.

وما أثقلها تبعات، وما أعظمها مهمات، يراها الناس خيالا ويراها الأخ المسلم حقيقة، ولن نيأس أبدا، ولنا في الله أعظم الأمل )والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون( [4].

ملاحظات حول ركن العمل

1- لقد وُفق الإمام حسن البنا في وضع ركن العمل بعد الفهم والإخلاص.. فلا عمل بدون فهم.. ولا قبول بغير إخلاص.

والعمل القائم على أصلي الفهم والإخلاص، هو العمل الذي يصلح العاملين، ويعين على تحقيق الإصلاح الذي جاءت به الرسالة الخاتمة.

وعلى مدار التاريخ الإسلامي.. فاز العاملون الذين فهموا الإسلام باعتباره إيمانا وعملا.. وأخفق المنظّرون الذين اهتموا بكل شيء وأهملوا العمل فانحرفوا في أحد الاتجاهات.

ومع تأسيس دعوة الإخوان المسلمين، على يد الإمام حسن البنا.. بدأ الناس في مصر (بلد نشأة الدعوة).. يدركون أن هذه دعوة من نوع جديد.. دعوة تدفع منتسبها إلى العمل البناء على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع والحكومة والدولة.. ولا تترك بابا من أبواب الإصلاح إلا وتطرقه..

لم تكتف بالجلسات الروحية التي تغذي الوجدان.. ولا بالمناقشات العقلية التي تخط خطوطا في ميدان الفكر.. ولكنها درست الأوضاع.. ووضعت خطة عملية لإصلاح كل خطأ قائم في المجتمع.

2- أن يبدأ منهجُ الإصلاح الإخواني بالفرد ثم بالأسرة ثم بالمجتمع ثم ينتهي بالخلافة، فهذا يعني اتباع الطريق الطبيعي المتدرج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه.. فقد استبعد كل الوسائل المفتعلة: كالثورة، والانقلاب، والصراع الطبقي، أو الحضاري، وغير ذلك من الوسائل التي ابتكرها الفكر المتطرف عبر التاريخ.. وفي تاريخنا المعاصر هناك من يريد اختصار المراحل والقفز مباشرة إلى الهدف الأخير.. فلم يزدد إلا فشلا وتعسرا.

3- عندما يحتل العمل المرتبة الأولى بعد الفهم والإخلاص.. فهذا يعني أن هذه الدعوة يتسنم ذروتها العاملون المخلصون الواعون.. وليس أي شيء آخر.

والصف المسلم الذي تربّى على عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جيلا عاملا.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة إمامهم في الصف وأمامهم في العمل.. إذا اشتدت عليهم الأمور لاذوا بالقائد المجاهد.. الذي لم يزده عمله ونصبه إلا أن يقول: (ألا أحب أن أكون عبدا شكورا؟).

ويوم استراحت القيادات، ترهلت الصفوف.. وضعفت الهمم.. وأصبحت الدعوة نظريات يفوز فيها المتكلمون والمنظرون.. مثلهم مثل المسلمين في بغداد عندما هاجمهم التتار يجتثون دولتهم وكيانهم.. فكان قولهم: وهل يجرؤ أحد أن يهاجمَ المسلمين؟!

[1] التوبة - 105.

[2] الأنفال - 39.

[3] التوبة - 32.

[4] يوسف - 21.

أولا- إعداد الفرد المسلم

لقد حدّد الإمام حسن البنا للأخ العامل واجبات، طالبه أن يستكملها، حتى يستحق شرف الانتساب إلى صفوف العاملين الصادقين من أبناء الدعوة العظيمة، وهي أن يكون:

  • قوي الجسم

والجسم هو الوسيلة لبلوغ الأهداف السامية.. فالعبادات.. وجميع الأعمال.. والفكر الصحيح.. والعقل السليم.. إنما تكون في الجسم السليم.. فعلى الأخ المسلم أن يأخذ نفسه بأسباب الصحة والإعداد والقوة فالمسلم القوي أحب إلى الله من المسلم الضعيف.

  • متين الخلق

والخلق فطرة الإنسان السوي. وضعت بذرته الرسالات.. وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستكمال شجرته.. وعندما تُثني العناية الإلهية على معلم الخير، تصفه بأنه على خلق عظيم.. وتصفه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: (كان خلقه القرآن)..

والداعية لابد أن يكون خلوقا.. يستوعب الناس ويصبر على أذاهم.. وإذا فقد الداعية خلقه فلن ينفعه علمه أو عمله.. )قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون( [1].

)وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما( [2].

  • مثقف الفكر

ويكون الفكر بالمعرفة.. والمعرفة تكون بالقراءة.. والقراءة تكون باسم الله الذي خلق.. ولا يستوي في كل العصور الذين يعلمون والذين لا يعلمون.. والأخ الداعية يحتاج إلى توسيع مداركه ومدّ معارفه لتشمل علوم الدنيا والدين..

وإذا كانت علوم الدين هي الأساس الذي يقوم عليه البناء الفكري للإنسان، فإن علوم الحياة هي التي تسخّر للإنسان ما في السماوات والأرض وتزيده إيمانا على إيمانه ويقينا على يقينه.. )إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ( [3].

  • قادرا على الكسب

ولقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على العامل الكاسب.. ونهى عن السؤال المعيب.. واعتبر الكسب الحلال لصيانة الأسرة وإعفافها نوعا من الجهاد في سبيل الله.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده).

ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة).

وفي الحديث: (لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم).

والأخ الداعية الذي يريد أن يلتحق بركب الدعوة العظيمة.. عليه أن يكون عاملا نشيطا كاسبا، يده الأعلى.. وكسبه الأوفى.. ينظر لدعوته بعين عزيمته.. وتشمخ دعوته بعزم الدعاة الصادقين العاملين.

  • سليم العقيدة

أدام النظر، وأعمل الفكر، واستعان بطاعة الله وامتثال أمره وإحسان

عبادته، فأشرقت مصابيح الهداية في قلبه فرأى بنور بصيرته ما أكمل إيمانه وأتمّ يقينه وثبّت فؤاده )والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم( [4].

وأن يوقن بأن المعين الصافي الذي يتزود منه بالعلم والمعرفة عن العقيدة الإسلامية هو كتاب الله الكريم وسنة نبيه المعصوم صلى الله عليه وسلم، فإن غمّ عليه شيء فليرجع إلى ما قاله السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين[5].

  • صحيح العبادة

يتعبد الله تعالى وفق ما شرع، وكما بين عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وسيرته المباركة، )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( [6].

والعبادة هدف في ذاتها، وهي وسيلة كذلك من باب أنها عمل صالح يتقرب بها العبد إلى الله، )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( [7].

وكل عمل أو ترك يمارسه الإنسان بنية التقرب إلى الله، والتقوي على طاعته فهو عبادة مشكور مأجور صاحبها بفضل من الله ورحمة.

والأخ الداعية.. هو الذي يعبد الله وفق شرعه.. ويبتغي في كل عمله مرضاة ربه.

  • مجاهدا لنفسه

والنفس أمارة بالسوء إلا من رحم الله، ومجاهدتها ومنعها من ممارسته واجب شرعي.

ومن مجاهدة النفس التقرب إلى الله بالطاعات، عن أبي فراس الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل الصُّفة رضي الله عنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوَضوئه وحاجته، فقال: (سلني) فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: (أغير ذلك)؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) [8].

وجهاد النفس في مجال التربية درجات وأنواع:

فهناك جهادها كي لا تقع في الشر أو المعصية.

وهناك جهادها كي لا تستسلم للقعود والتخلي عن واجبها في الدعوة إلى الله والتقرب منه.

وهناك جهادها بمعنى عدم تركها على حالة من السلبية لا تفعل الخير ولا تنشط إليه[9].

وهناك النفس التي تقتصد في فعل الخير، وتكتفي منه بالحد الأدنى، وجهادها حثها وتشجيعها على الاستزادة من الخير.

والأخ الداعية.. هو الذي يفتش نفسه فيحاسبها قبل الحساب ويزنها قبل أن توزن عليه.

  • حريصا على وقته

وتنظيم الوقت والاستفادة منه.. هو فعل الإنسان الجاد المتحضر.. وفي المكتبات الآن الكثير من الكتب التي تتكلم في إدارة الوقت وتنظيمه، وتحث الإنسان على الاستفادة من وقته وعدم إهداره بما لا يفيد.. وهذا التصور هو الذي رفع الأمم الغربية وأوصلها إلى المكتسبات المادية التي هي عليها اليوم.

إن قلة عدد المسلمين في مكة، وضعف إمكاناتهم المادية، ومحاصرتهم ومطاردتهم وتعذيبهم حتى الموت، وملاحقتهم بالدعايات المضادة.. وأخيرا طردهم من بيوتهم وأملاكهم.. كل ذلك لم يحل بينهم، وبين التعبير عن أنفسهم بدولة كانت النموذج الأرفع لكل دول العالم في الماضي والحاضر والمستقبل. فقد كانت إرادة التغيير والسمو والتجاوب مع منهج الله أقوى بكثير من إرادة الظلام والتخلف.

فهل يعتقد أحدٌ أن هذه العشرات القليلة من المسلمين استطاعت أن تسجل كل هذه الانتصارات الباهرة باستهتارهم بالوقت..؟ وتزجيتهم الأيام بالأحلام.. أم أنهم حسبوا أعمارهم بالثواني.. ووضعوا كل ثانية في محلها.. وهم يرددون قول الرحمن: )إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب( [10].

واختلاف الليل والنهار هو الزمان.. وأولو الألباب هم المسلمون الذين يتحكمون بهذا الزمان لصالح أنفسهم ومجتمعهم والإنسانية جمعاء.

إن الله سبحانه وتعالى يقسم بالوقت: بالفجر والضحى والشمس والعصر والليل والنهار للدلالة على أهمية الوقت في حياة المسلم والمجتمع الإسلامي.

الأمم الناهضة تضع خططا خمسية أو عشرية.. تربط الواقع والمستقبل بالزمن.. ثم تحاسب نفسها على هذا الأساس.

الزمن يمضي ولا يعود.. وهو ما عبّر عنه الإمام الحسن البصري رضي الله عنه بقوله: (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود منّي فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة) [11].

أخي المسلم الداعية

إذا كان الأمر كذلك، وللوقت كل هذه الأهمية، فعلى الداعية المسلم أن يعيد حساباته ويحدد أولوياته ويجعل تنظيم وقته من أهم العناصر في حياته العملية.

تنظيم وقت العمل، ووقت النوم، ووقت الطعام، ووقت الراحة، وتخصيص وقت للعلاقات الاجتماعية والأسرية.. وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ينبغي للعاقل- ما لم يكن مغلوبا على عقله- أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي بها ربه، وساعة يحاسب بها نفسه، وساعة يتفكر في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها لحاجته) [12].. والداعية يدعو ربه في كل حين:

اللهم إنا نسألك صلاح الساعات، والبركة في الأوقات[13].

  • منظما في شؤونه

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم.. وخلق السموات والأرض وسنّ لها نظاما يدهش العالمين.. وجعل النظام سمة الحياة الناجحة الموفقة.. تنحدر كلما اختل هذا النظام أو تعثر.. وتعلو بقدر التزامها بالنظام الرباني المتوازن الشامل المنسجم )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون( [14].

والداعية المسلم.. هو الذي يلزم نفسه بهذا النظام..

فيكون جزءا من النظام الكوني الدقيق..

فلا يضيع وقته بلا فائدة، ولا ينسى الأولويات لحساب الكماليات، ولا يؤخر عمل اليوم إلى الغد.. ولا يعتذر عن العمل الجاد بحجة عدم وجود الوقت... فإنه لا ينجز الأعمال إلا الرجل المشغول.. كل ما يحتاجه في معركة البناء أن يكون إنسانا جادا منظما.

  • نافعا لغيره

والمسلم عضو في الجسد الإسلامي.. فإذا كان عضوا سليما، كان الجسد قويا فاعلا.. ولقد عالج الإسلام قضية الفرد وحثه أن يكون إيجابيا نافعا لنفسه وللآخرين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) [15].

وقال أيضا: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) [16].

والأخ الداعية.. مطالبٌ بما طالبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام).

[1] المؤمنون - 1.

[2] الفرقان - 63.

[3] فاطر - 28.

[4] محمد - 17.

[5] ركن العمل - د. علي عبد الحليم محمود، ص- 33.

[6] الحشر - 7.

[7] الذاريات - 56.

[8] مسلم.

[9] ركن العمل (المرجع السابق)، ص- 37.

[10] آل عمران - 190.

[11] شخصية المسلم المعاصر - مصطفى محمد الطحان، ص- (213-214).

[12] ابن حبان في صحيحه.

[13] دعاء لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

[14] يس - 40.

[15] مسلم.

[16] الشيخان.

ثانيا- إعداد البيت المسلم

والبيت المسلم نواة المجتمع المسلم ثم الأمة المسلمة. وبقدر ما تكون هذه النواة سليمة معافاة.. بقدر ما يكون المجتمع قويا صلبا متماسكا.

ولقد ذكر الإمام حسن البنا جملة أمور حددت للدعاة طريقهم لإعداد البيت المسلم. من هذه الأمور:

  • أن يحمل أهله على احترام فكرته

وهذا الموضوع يحتاج إلى وقفة.. فمازال فريق من الناس ينظر للمرأة نظرة دونية.. يكفيها (في نظره) اهتمامها ببيتها، وتربية أطفالها، وحسن تبعلها لزوجها.. فهي مربية للأطفال ساهرة على رعايتهم، ومديرة للبيت، إن أمرها زوجها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله. إذا أحسن إليها شكرت، وإن قصّر معها صبرت.

هذا الفريق لا يقر للمرأة المسلمة مزيدا من الحقوق مثل حقوقها السياسية والدعوية بحجة أن الزمان فاسد والفتنة كبيرة وأن ما أعطته الشريعة للمرأة إنما كان لزمان غير هذا الزمان.. زمان كانت الأخلاق فيه حميدة.. والآداب قرآنية.. والمرأة شديدة الالتزام.. والرجال شديدو الحرص.. في هذه الأجواء يدعو الإمام حسن البنا الرجلَ الداعية بأن يحمل أهله على احترام فكرته..

فكيف يحملها..؟

في تقديرنا أن الرجل يحمل زوجته على احترام فكرته:

بتعليمها ورفع مستوى ثقافتها حتى تدرك معنى الدعوة.. وتتجاوب مع الأمر الرباني الذي يدعوها إلى فهم رسالة الإسلام والدعوة إليه.. فالتزام المرأة الجاهلة مجرد التزام قاصر.. والتزام المرأة المثقفة التزام مسؤولية وفهم.

وأن يعاملها معاملة الشريك الكامل في كافة شؤون الحياة.. ابتداء من تربية الطفل.. وانتهاء بإدارة المجتمع.. معاملة تشاور وتفاهم لا معاملة زجر وأمر وإكراه.

وأن يأخذ بيدها -إن كانت من أصحاب الكفاءات والاهتمامات- للقيام بدورها الدعوي إلى جانب الرجل.. فالنساء نصف المجتمع.

والأخذ بيدها يعني التنازل عن بعض خدماتها له أو لأولادها.. ورعاية الأطفال أثناء غيابها.. والاهتمام برأيها ونظراتها في الإصلاح.. وهكذا.

وأن يكون القدوة الحسنة لزوجه وأبنائه.. قدوة تعين الزوجة والأبناء على تلمس الطريق الصحيح.. وأشقى الأسر هي تلك التي يكون الرجل فيها مزدوج الشخصية.. في خارج البيت داعية محترم.. وفي داخل البيت سيء الخلق رديء الطباع. ومهما حاول الرجل أن يخفي طباعه عن الآخرين فإنه لا يستطيع ذلك في بيته مع زوجه وأولاده.

وليس من المتوقع أن تكون الزوجة مثالية ولا الأبناء كذلك.. ولهذا فلابد أن يتعاون الرجل مع الجميع على رياضة طباعهم وترقية سلوكهم، فالطبع يسرق من الطبع والأخلاق تكتسب من الآخرين..

بهذه الطرائق يلزم الرجل أهله باحترام فكرته.. يحملهم بالعلم، والمعرفة، والتشاور، وحسن الخلق، والقدوة الحسنة، وإعادة تشكيل الطباع.. وليس بأي شكل آخر.

  • المحافظة على آداب الإسلام

وآداب السلوك، الملتزمة بتعاليم الإسلام، وإشاعتها في البيت، بين الصغار والكبار.. أمر في غاية الأهمية.. ولقد حرص الإسلام -كما هو الأمر عند جميع الأمم والشعوب- على تميزه في هذه الآداب.

والآداب تغرس، والسلوك يقوّم، حتى يصبح صورة لتعاليم الإسلام.. فالمسلم يأكل بطريقة معينة، ويلبس بأسلوب محدد، ويسلّم بكيفية، ويجلس بكيفية، وقل مثل ذلك في الكلام والحديث والاستماع وغير ذلك..

مرشدة مادة السلوك في المنزل هي الأم.. يعينها ويساعدها الأب.. وبإشراف الاثنين معا يستقيم السلوك ويتحوّل إلى عادة تتأصل في نفس الطفل لاتفارقه.. تذكره في كل منعطفات حياته أنه من هذا السرب المؤمن.. فيؤوب إلى سربه إذا تعثر أو شرد..

إذا زار أحدا لابد أن يستأذن ويستأنس وإذا شعر بعدم رغبة الآخرين بزيارته فعليه أن يرجع.

وإذا لقي إخوانه لابد أن يسلّم.. والسلام ليس مجرد كلمات أو حركات بل سلام وأمان وحب وإيمان.. كما أشار لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) [1].

في المجلس يجلس حيث ينتهي به المجلس.. ولا يطالب أحدا بأن يمتثل له قياما.. ولا يفرق بين جليسين يتحدثان..

وإذا تحدث فبكلام واضح مفصل يفهمه كل من يسمعه، يحسن الحديث ويحسن الاستماع.. ويعطي لكل مجلس حقه.

على المائدة يتذكر دائما أن يبدأ باسم الله وأن يأكل مما يليه، وأن يأكل ويشرب ولا يسرف، وأن يكون نظيف اليد والفم، وأن يحمد الله إذا انتهى.

فإذا كانت تعاليم الإسلام هي صبغة المنزل.. وإذا كانت آداب السلوك عند الأفراد منبثقة من تعاليم الدين ومثله.. عندها فقط تكون الأسرة لبنة صالحة في بنيان المجتمع المسلم.

وبهذه الطريقة تساهم الأسرة في إعادة صياغة المجتمع فتغلب عليه الصبغة الإسلامية التي هي السبيل القويم للتغيير الإسلامي المنشود.

من أخطر الأمور التي ارتكست بسببها الأمة المسلمة.. هو هذا الفصام النكد بين القول والفعل.. بين أقوال الدعاة وبين سلوكهم داخل بيوتهم..

فإذا كان الداعية عاجزا عن صياغة بيته.. فهل هو قادر على إعادة صياغة المجتمع...؟ ثم هذا الطفل الذي ينمو بين يديه في البيت والذي سيسأله الله عنه.. كيف يستقيم عوده وهو يرى هذا التناقض بين كلام أمه وأبيه في التوجيه.. وبين تطبيقاتهم داخل البيت..؟

هل سيقلع الفتى عن المنكرات وهو يرى والده يشجبها في حديثه ويقترفها في بيته؟ وهل ستقلع الفتاة عن العبث إذا رأت أمها لا تلتزم بآداب السلوك..؟

  • حسن اختيار الزوجة

والأمر هنا في غاية الأهمية.. فكما تشرف الأم على تربية الأبناء، ورعاية الزوج، وتحصين بناء الأسرة بسلوكها وصبرها وعلمها.. فإن جزءا رئيساً من مواصفات الأبناء تنتقل إليهم من الأم بحكم الوراثة.. فإذا اختيرت الأم من بيئة صالحة مؤمنة.. انتقل الصلاح إلى الأبناء.. وإذا اختيرت الأم من منبت سيء.. انتقلت مواصفاتها إلى أبنائها.. هذا الأمر المقرر شرعا وتجربة وعلما، يحمّل الرجل مسؤولية كبيرة فلا يتساهل أو يفرط عندما يختار زوجه.

عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما استفاد المؤمن -بعد تقوى الله عز وجل- خيرا له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله) [2].

والنفس تميل إلى الجمال وتشتهي المرأة الجميلة. وحتى لا يترك الرجل لضعفه فيسقط في متاهات الجمال أو المال، بيّن له الإسلام الطريق السليم في اختيار شريكة حياته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوج امرأة لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة ليغض بها بصره، ويحصّن فرجه أو يصل رحمه، بارك الله له فيها، وبارك لها فيه) [3].

وليست هذه دعوة ضد الجمال.. فحب الجمال فطرة.. والله جميل ويحب الجمال.. والتجمل من خصائص المرأة . إنما المقصود أن لا يفتش الإنسان عن الجمال أو الحسب أو المال وحده على حساب المواصفات الأخرى.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء ذات دين أفضل) [4].

فليس الزواج صفقة تجارية تُراجع فيها الأرصدة..! وليس الزواج مجرد متعة حسية، تستعرض فيها المرأة فتنتها وجمالها في ميدان العرض.. !

بل الزواج توازن بين كل هذه العوامل مع تركيز شديد على جانب الأخلاق والدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) [5].

لقد حض الإسلام كلاً من الرجل والمرأة على السواء أن يحسنا الاختيار.. وأن يدققا فيه.. فليست القضية أياماً تنقضي ويعود كل فريق إلى رحاله.. بل بقية العمر يقضيانه معاً في سعادة غامرة تملأ قلوبهم وترفرف بأجنحتها على بيتهم، أو شقاء مستعر يدمر قلوبهم ويعصف بسلامهم وأمنهم وأمن أبنائهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أصابهن فقد أُعطي خيرَ الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجةً لا تبغيه حُوباً في نفسها وماله) [6].

ومعظم النكسات التي تصيب قلوب المتزوجين، وتنكد عليهم، وقد تعصف بهم مرجعها إلى سوء الاختيار والانبهار ببعض الجوانب على حساب الجوانب الأخرى.

قد يتم الاختيار نتيجة إعجاب سريع بموقف معين، وقد لا يتاح للخاطب أن يرى خطيبته إلا رؤية قصيرة، لا تعطي لأي منهما الفرصة في الاختيار السليم، وقد يكون نتيجة لمواقف عاطفية عابرة أو نزوة قاصرة، تنتهي مع انقضاء النزوة أو برود العاطفة. الصحيح أن ينظر الشاب إلى المرأة التي يريد التزوج بها فيمعن النظر.. ويدقق في شكلها.. ويدرس أوضاعها..

فعندما خطب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه امرأة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) [7].

ونصح رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً خطب امرأة من الأنصار، فقال له: (أنظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا) [8].

وكان جابر بن عبد الله يختبىء لمن يريد التزوج بها، ليتمكن من رؤيتها، والنظر إلى ما يدعوه إلى الاقتران بها [9].

بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض النسوة ليعرفن بعض ما يخفَى من العيوب، فيقول لها: (شميَّ فمهـا، شميَّ إبطيها، انظري إلى عرقوبيها).

وليست العناية بالمظهر فقط.. بل وبالمخبر أيضا. قال ابن الجوزي: (ومن قدر على مناطقة المرأة أو مكالمتها فليفعل) [10].

إلى هذه الدرجة راعى الإسلامُ هذا الأمر.. وهيّأ أسبابه.

هذا بالنسبة للشاب الخاطب.. وكذلك يصح مثله للشابة أن تنظر فتمعن النظر، وتقدر فتحسن التقدير، وتختار بحرية كاملة من ترتضيه أن يكون شريك مستقبلها[11].

وما لم يتفهم أولياء أمور الشباب والبنات هذه السعة في دين الله، فيتيحوا لأولادهم وبناتهم، مجال الرؤية عن قرب، والحديث المتبادل.. والجلسات المحتشمة التي تسبق الاختيار، في إطار الفضيلة والأخلاق الإسلامية.. ما لم يفعلوا ذلك فلن تكون النتائج حسنة لأبنائهم الأولاد والبنات.

  • مواصفات الزوجة الصالحة

وللزوجة الصالحة مواصفات فهي:

تطيع زوجها

والبيت المسلم، مجتمع مصغر مكون من الرجل والمرأة يقوم على: المودة والرحمة، والسكن النفسي والحسي، والمساواة من الناحية الإنسانية، قال تعالى:

)ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة( [12].

(وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى: )الرجال قوامون على النساء( [13].

فالحياة الزوجية هي حياة اجتماعية، ولا بد لكل مجتمع من رئيس، لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف، لئلا يعمل كلٌ ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي المطالبة بطاعته في المعروف) [14].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت الجنة) [15].

وتسرّه إذا نظر إليها

• تسرّه بجمالها، وحسن منظرها، وتأنق ملبسها، وطيب رائحتها.

• وتسرّه بترتيب منزلها، وتحويل بيتها إلى سكن حقيقي يأوي إليه الرجل المكدود. فيجد فيه: الحب والحنان، والراحة والأمان.

• وتسرّه بالعناية بأطفالها: مظهرهم ومخبرهم، مطعمهم ومشربهم، وبكل شيء من شأنهم.

• وتسرّه بجمال أدبها، وكريم خلقها، وحسن تبعلها، وبرّها زوجها، ورعايتها له في قلبه وشعوره وماله وعرضه.

• وتسرّه بالتزامها بأوامر دينها، في صلاتها وصيامها، في تصدقها وإحسانها )فالصالحـات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله( [16].

من هذه النظرة المؤنسة، والسكن الودود، والرحمة والمودة، يتولد الحب الذي يشعر فيه الرجل والمرأة براحة الجسم والقلب، واستقرار الحياة والمعاش، وأنس الأرواح والضمائر.. واطمئنان الرجل للمرأة والمرأة للرجل على السواء.

قال تعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون( [17].

وإن أقسم عليها أبرته

وهو تأكيد لمعنى (إذا أمرها أطاعته).. أو هو درجة أعلى في الطاعة.. فطاعة الزوجة لزوجها مجلبة للهناءة والرضا، والمخالفة تولد الشحناء والبغضاء، وتوجب النفور، وتفسد عواطف المودة، وتنشئ القسوة في القلوب.

وما من امرأة نبذت طاعة زوجها إلا حل بها الشقاء ولحقها البلاء. وكلما زادت طاعة الزوجة لزوجها ازداد الحب والولاء بينهما، وتوارثه أبناؤهما، لأن الأخلاق المألوفة إذا تمكنت صارت ملكات موروثة: يأخذها

البنون عن آبائهم، والبنات عن أمهاتهن[18].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تمسهم النار: المرأة المطيعة لزوجها، والولد البار بوالديه، والعبد القاضي حق الله وحق مولاه).

وقال أيضاً: (جهاد المرأة حسن التبعّل) أي إطاعة الزوج. وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي النساء أفضل؟ قال عليه السلام: التي تطيع زوجها إذا أمر، وتسره إذا نظر).

ولن يسر الرجل بمنظرها.. إذا كانت عنيدة مشاكسة عاصية متحدية!!

ومهما حسنت أخلاق الزوج أو الزوجة فلا بد من حدوث بعض الأمور التي تكدر العلاقات بين الحين والحين.. وهنا تتجلى الأخلاق.

قال أبو الأسود الدؤلي لامرأته: (إذا رأيتني غضبت فرضَّني، وإن رأيتك غضبت رضّيتك، وإلا لم نصطحب)!

وهنا يتجلى معنى: إذا أقسم الرجل على امرأته أمرا فعليها الوفاء والطاعة.. وخير النساء المبقيةُ على بعلها، المؤثرة راحته على راحة نفسها.

وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله

في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، وقرأ قوله تعالى )فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله( [19].

(والغيب هنا هو ما يستحيا من إظهاره، أي: حافظات لكل ما هو خاص بأمر الزوجية الخاصة بالزوجين، فلا يُطلِعُ أحدٌ منهما على شيء مما هو خاص بالزوج.

ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ولا سيما حديث الرفث، فما بالك بحفظ العرض.

وعندي أن هذه العبارة أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرؤها خرائد العذارى جهراً، ويفهمن ما تومىء إليه مما يكون سرا، وهن على بعدٍ من خطرات الخجل أن تمسّ وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات، التي تدفع الدم إلى الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب (بما حفظ الله) فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي، إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكير بما يكون وراء الأستار، من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبته عز وجل. فالمرأة الصالحة لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظةً من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة) [20].

هذا معنى أن تنصحه في نفسها.. أما أن تنصحه بماله فمعناه أن تحفظ وتصون مال زوجها. فلا تعطي أحداً من أهلها أو من غيرهم شيئا من مال زوجها أو متاعه، إلا إذا أذن لها.. لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تعطي شيئا من بيته إلا بإذنه، فان فعلت ذلك كان له الأجر وعليها الوزر) [21].

  • أن يوقفها على حقوقها وواجباتها

والحقوق الزوجية هي ما يلتزم به كل من الزوجين تجاه الآخر من حقوق يحميها القانون الإسلامي، وتتدخل السلطة لإجبار من أخلّ بشيء منها على أدائه كاملا لشريكه في الحياة الزوجية.

ولقد قرر القرآن الكريم هذه الحقوق في قاعدة تشريعيّة دقيقة هي قوله تعالى: )ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف( [22].

وهذا التوازن يتضح فيما قرره الفقهاء، أن تستحق الزوجة على زوجها: المهر، والإنفاق بالمعروف، والسكنى، وحسن العشرة )وعاشروهن بالمعروف( [23]، ورعاية دينها وحسن توجيهها )قوا أنفسكم وأهليكم نارا( [24].

وأن يستحق الزوج على زوجه: طاعته بالمعروف، واحترام رغبته، وأن تستجيب لزوجها كلما دعاها لفراشه (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة) [25] ، وحسن تبعلها فلا تقع عينا الزوج على ما يكره، و القيام بأعمال المنزل، ورعاية الأبناء، ومتابعته في السكنى.. هذا بالإضافة إلى الحقوق المتبادلة التي تقيم السعادة الزوجية[26].

  • حقوق الأولاد[27]

وإذا كان الإنجاب والذرية من أهم أهداف الأسرة.. فقد اهتم الإسلام برعاية الجنين قبل مولده.. والعناية بالمولود بعد ولادته، وتهيئة البيئة الصالحة لتنشئته. قال تعالى:

)المال والبنون زينة الحياة الدنيا( [28].

أما حقوق الأولاد.. فتبدأ بحسن اختيار أمهم.. وإحسان تسميتهم.. والإنفاق عليهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت) [29].

وبعد الرعاية المادية تأتي الرعاية المعنوية.

فللأولاد حق الحب والرحمة، قدم ناس من العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (فسألوا: تقبّلون صبيانكم؟

فقالوا: نعم.

فقالوا: لكنّا والله ما نقبّل!

فقال النبي: أوَ أمِلك! إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة) [30]!

وللأولاد حق التعليم والرعاية والتوجيه السليم.. في كل طور من أطوار نشأتهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم) [31].

وللأولاد حق معاملتهم بالعدل والتسوية بينهم في العطف واللطف.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (اعدلوا بين أبنائكم في النُّحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف) [32].

حسن تربية الأولاد والخدم

في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت) [33].

فالبيت أو الأسرة هو المحضن التربوي الأول الذي يعيش الطفل في كنفه، ويقضي فيه أهم سنين حياته. فإذا كان هذا المحضن واعيا لدوره، مقدرا لمسؤولياته، تجاه فلذة كبده.. استقام الطفل ونما نموا طبيعيا.. وإذا كان المحضن مستهترا جاهلا، ضاع الطفل.. كما ضاعت أسرته من قبل. فالطفل يولد مرتين.. أولاهما ولادة عضوية، وثانيهما ولادة اجتماعية. وإذا كانت الولادة الأولى ترتبط بعناصر الوراثة، فإن الولادة الثانية ترتبط بالمؤسسات الاجتماعية المختلفة.

والطفل أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن

عُوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عود الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له[34].

يريدون تحطيم الأسرة

هناك محاولات خطيرة تهدف إلى هدم الأسرة وإشاعة الفوضى..

بدأها دوركايم وليفي بريل ومدرسة العلوم الاجتماعية (الفكر النفسي التحليلي الفرويدي)، وتابع مسيرتها الأدب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحته ورواجه، والأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب، بل تلقنهم دروسا عملية في الفاحشة، وانحطاط المستوى الأخلاقي في عامة النساء الذي يظهر في ملابسهن بل عريهن، وفي إكثارهن من الشراب، واختلاطهن بالرجال

بلا قيد أو التزام[35]. وتفلسف سيمون بوفوار[36] دعوتها للإباحية في كتابها الجنس الثاني، فتدعو المرأة أن تناضل ضدّ الرجل الذي يتحكم فيها ويصوغ القوانين لمصلحته ضدها...

هذه الدعوات الفاسدة التي ينفخ فيها الشيطان وأعوانه.. هي التي تثمر هذا الانهيار الأخلاقي والاجتماعي الذي يعيشه العالم اليوم..

إن قضية الأسرة صارت في كثير من البلدان من مخلفات الماضي.. ومن رموز الرجعية.. ومن علامات التحكم بالمرأة.. يريدون تحطيم الأسرة، اللبنة الأولى في بناء المجتمعات.. ولم يدر هؤلاء أنهم بفعلهم هذا إنما يحطمون أنفسهم.. والمجتمع.

فهل ينتبه الدعاة إلى هذا المصير.. ويعيدوا للأسرة دورها في بناء المجتمع..؟.

[1] مسلم.

[2] ابن ماجة.

[3] رواه ابن حبان.

[4] رواه عبيد بن حميد.

[5] رواه البخاري ومسلم.

[6] رواه الطبري بسند جيد.

[7] الترمذي.

[8] مسلم.

[9] أبو داوود.

[10] صيد الخاطر - ابن الجوزي.

[11] المجموع شرح المهذب للشيرازي 15 : 295.

[12] البقرة - 228.

[13] النساء - 34.

[14] حقوق النساء - محمد رشيد رضا، ص- 38.

[15] رواه أحمد.

[16] النساء - 34.

[17] الروم - 21.

[18] المرأة في التصور الإسلامي - عبد المتعال محمد الجبري، ص- 93.

[19] النساء - 34، والحديث رواه ابن جرير والبيهقي.

[20] حقوق النساء في الإسلام - محمد رشيد رضا، ص- 49.

[21] رواه البيهقي، المرأة المسلمة - وهبي سليمان الغاوجي، ص- 151.

[22] البقرة - 228.

[23] النساء - 19.

[24] التحريم - 6.

[25] الشيخان.

[26] ماذا عن المرأة - د. نور الدين عتر، ص- 122.

[27] ماذا عن المرأة - د. نور الدين عتر، ص- 122.

[28] الكهف - 46.

[29] أبو داود والحاكم وأحمد.

[30] الشيخان.

[31] ابن ماجة.

[32] الطبراني.

[33] أبو داود والحاكم وأحمد.

[34] التربية الإسلامية عند الإمام الغزالي- أيوب دخل الله، ص- 261.

[35] الإسلام ومشكلات الحضارة- سيد قطب، ص- 155.

[36] الجنس الثاني - سيمون دي بوفوار.

ثالثا- إرشاد المجتمع

وهي المرحلة الثالثة التي يطّلع بها الإنسان المسلم الملتزم بعد إصلاح نفسه وأسرته.. ولقد كان الإمام البنا دقيقا موفقا في اختيار الموقف الصحيح في عملية التغيير..

ولم يتأثر الإمام بضغط الأحداث التي غلبت على عصره، والتي تمثلت بالثورات والانقلابات والاغتيالات.. ولم ير في هذه الوسائل فائدة ترجى، فهي كما تأتي بغتة تذهب كذلك، أما التغيير الإسلامي فيحتاج إلى نفوس أشربت حب دعوة الإسلام، واستقامت معه، وإلى أسر قامت على هدي الإسلام، وعلى مجتمعات غلبت عليها الصبغة الإسلامية.. وسنحاول فيما يلي، ومن خلال الخطوات التي ذكرها الإمام تلمس الطريقة التي اعتمدها في التغيير الإسلامي:

1- نشر دعوة الخير في المجتمع

والخير هو كل ما يحتاجه الناس في مجتمعهم.. في تأمين معاشهم، وسمو أخلاقهم، واستقامة سلوكهم.. وإقامة العدل بينهم.. والمساواة بين طبقاتهم.. فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب... لا فضل لأحمر على أبيض.. ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

حرية العقيدة مكفولة للجميع فلا إكراه في الدين..

وحرية التملك لا يعتدي عليها أحد..

وحرية التجمع مصانة لا تحدها إلا مصلحة المجتمع نفسه..

هذا الخير الذي وضع بذرته الإسلام.. يتعهده المسلم الفرد بالرعاية والعناية..

وتدافع عنه الجماعة المسلمة ما وسعها الدفاع..

بعض الأفكار السقيمة تنظر للأمور نظرة معكوسة..

فإذا تكلم خطيب جمعة في مكان ما.. بحديث جريء بيّن فيه الخير، ودعا للمعروف، وحذر من شرور المنكر، قالوا: إنه يفرّغ عواطف الجماهير.. والأصل (في رأيهم) تراكم العواطف الثائرة حتى تنفجر دفعة واحدة في وجه الحاكم..

ومن هذا السقم فكرة تعدد الجماعات الإصلاحية.. (ففي رأيهم) أن ذلك يخدّر الجماهير ويفرغها من طاقاتها.. والأصل (في رأيهم) أن توجد جماعة وحيدة.. ولكن من طراز مبدع وقيادة مبدعة تقوم بعملية التغيير!

إن المجتمعات لا تتحول إلى الإسلام.. إلا باستنبات الخير في كل جوانبها..

فالكاتب الذي يعمل على نشر الخير وتصحيح المسار الفكري في المجتمع، والصحيفة أو المجلة التي تبتعد عن الإسفاف وتهتم بمعالي الأمور وتسهم في تكوين الرأي العام،

وجمعيات النفع العام التي تساعد الفقراء، وتستر المتعففين، وتساعد طالب العلم، وتنشر المكارم في المجتمع،

والأحزاب السياسية التي تحافظ على وحدة الأمة وكرامتها وتدافع عن حرية الوطن بالمال والنفس والجهد،

والجماعات الإسلامية المتنوعة التي تعمل على صبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية..

والوزير الصالح الذي يصلح أمور وزارته،

والفرد المسلم الذي ينافح ويبذر الخير في كل جوانب المجتمع...

المسرح الإسلامي هو البديل عن المنكرات التي تعج بها السينما والمسرح السيء وبرامج التلفزيون،..

والبنوك الإسلامية هي التي توقظ في حسّ المسلم خطورة الربا بعد أن كاد يستسلم لشرور الاقتصاد الربوي..

والنائب الذي يدافع عن القيم والأخلاق في البرلمان،

والمرأة التي تصرّ على لباسها الساتر في الجامعة،

والمدارس التي تقوم على أساس الإسلام فتربي النشء على مبادئه ومثله..

كل هؤلاء وغيرهم يعمل على صناعة الخير وإبعاد الشر وأسلمة المجتمع.

2- محاربة الرذائل والمنكرات

والرذائل والمنكرات هي كل ما حرّمه الشرع أو قبّحه أو كرّه فيه، أو ما حكم عليه العقل السليم بالقبح.. فلا تناقض بين حكم الشرع وحكم العقل السليم.

وإشاعة المنكرات اليوم من أهم وسائل المكر العالمي في إفساد الأفراد والمجتمعات.. وما هذا الجنس المتعري المكشوف.. وممارسة العهر علنا على شاشات التلفزيون.. والمخدرات والخمور التي تغيب العقول.. والاختلاط الآثم الذي تسقط فيه كل القيود والحدود..

وهذه المؤتمرات التي تطالب بإضفاء الصفة القانونية على الخنا والرذيلة واللواط والزواج المتماثل... هذه الوسائل الشاذة هي اليوم من أهم أسباب الفساد والإفساد.. إذا قلنا أن الصحوة الإسلامية اليوم تعمّ تركيا ومصر وإندونيسيا وبقية بلدان المسلمين.. فكيف يحاربها أعداء الإسلام..؟ يحاربونها بعشرات القنوات التلفزيونية التي تبث هذا الهبوط الفاحش.. وإذا منعت دولة ما استخدام المستقبلات.. هددوا بأن جميع القنوات في تلفزيونات المستقبل سيستقبلها كل بيت بدون جهاز استقبال..

ودور المسلم الملتزم أن يشيع الخير ويحارب الرذيلة بكل وسيلة ممكنة. فيحسن اختيار الزوجة الصالحة.. التي تحسن تنشئة الأبناء على الفضيلة.. ويختار لأبنائه الصحبة الجيدة، والمدرسة الجيدة، ويصاحبهم إلى المسجد.. في هذه البيئات والمحاضن الصالحة يعيش الفتى والفتاة حياة شريفة نظيفة تستنكر المنكر وتحاربه. ومهما بلغت درجة التزام الإنسان فلن يستطيع وحده مقاومة التيار.. ولهذا فلابد له من صحبة تعينه ومجتمع نظيف يؤويه ومعلم صالح يرشده وقدوة في الدعوة يتأسى بها.

وعندها لن يكتفي المسلم الملتزم بالإقلاع عن الرذائل والمنكرات بل لابد له من أن يحاربها في كل مجال يستطيع أن يحاربها فيه، بادئا بأهله ومن يليهم، ثم في أقاربه وجيرانه وأصدقائه، ثم في العمل ثم في الشارع..

فالسكوت عن الرذائل والمنكرات إثم ومعصية.. قال تعالى: )لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) [1].

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم.. ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم) [2].

الأسلوب

في بلد من بلدان المسلمين.. خرجت مجموعة من الناس تحطم الحوانيت التي تضم بعض المنكرات.. فأطلقت عليهم الحكومة النار فأردت بعضهم قتيلا.. وسجنت البقية.. ليس هكذا تحارب المنكرات.. إنما بالأسلوب الشرعي وهو أن لا يؤدي إلى منكر أشد منه.. والعاقل من وسّع دائرة الرفض حتى تختفي هذه المظاهر الفاسدة من الرذائل والمنكرات.

3- تشجيع الفضائل

والفضائل ضد الرذائل.. وإذا انشغل المسلم والمجتمع بمحاربة الرذائل والمنكرات واقتلاعها.. فلابد أن يزرع مكانها الفضائل.. فالناس إن لم يجدوا الخير انشغلوا بغيره.

يصوّر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أهمية الفضائل فيقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.. فمهمة الرسالات السماوية منذ كانت وحتى ختامها برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .. هي الأخلاق والفضائل.. ومن يتابع مكوّنات الشخصية الفاضلة الفردية عند المسلم والجماعية في المجتمع يجدها مجموعة من الفضائل مثل: الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدل، والاستقامة، والصدق، والأمانة، والوفاء بالعهد والوعد، والمروءة، والكرم، والعفو، والتسامح، وأداء الواجب، وتحمل المسؤولية، والحلم، والصبر، وحب الخير للناس، وغيرها كثير..

ولكن كيف نشجع على الفضائل..؟

• بلفت النظر إلى أن الفضائل تبني المجتمعات العزيزة.. وبالرذائل تنهدم المجتمعات العامرة.. وفي قصص الأقوام الغابرة.. والمجتمعات الحاضرة.. عبرة لمن أراد الاعتبار.

• بأن يكون الداعية المسلم قدوة خيّرة للآخرين.. يقابل الإساءة بالإحسان.. ويحارب المنكرات بزراعة الفضائل..

• بإبراز سيرة الفضلاء الدعاة.. كيف آمنوا بفكرتهم.. وضحوا في سبيلها.. وكيف انتصرت الفضيلة على لسانهم وفي سلوكهم.. فالأمم الأخلاق.. فإذا انهارت الأخلاق انهارت الأمم.

4- الأمر بالمعروف

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) [3].

يتناول هذا الحديث الصحيح قضية من أهم القضايا الإسلامية التي يكثر حولها الجدل.. قضية واجب المسلم، وضرورة العمل الجماعي، وفرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجاهدة باليد أو اللسان، ومعنى المجاهدة بالقلب.. وكلها أمور تستحق أن نقف عندها لتوضيح ما استشكل فهمه، وتبسيط ما حاول البعض تهويله أو التهوين من شأنه.

قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال الله عز وجل: )ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون( [4].

(فالمهمة التي شاء الله عز وجل أن يلقي أعباء القيام بها على عاتق الأمة المسلمة عبّرت عنها الآية الكريمة بمصطلحين: أحدهما الدعوة إلى الخير، والآخر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) [5].

أما الدعوة إلى الخير

فقد روى أبو جعفر الباقر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا الآية الكريمة {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} فقال: الخير اتباع القرآن وسنتي[6].

وبذلك يصبح معنى الآية: إنه لا بد من وجود أمة (أي جماعة) تعمل على نشر الإسلام وتطبيقه، واتباع تعاليم القرآن الكريم وسنة الرسول الأمين فيما يخص أمور الدنيا والدين.

أما المصطلح الآخر فهو مصطلح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو موضوع البحث:

ذكر الإمام الغزالي في كتابه القيّم (إحياء علوم الدين) وهو يتحدث عن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة التي ابتعث الله لها النبيّين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد) [7].

• فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مهمة الأنبياء. قال الله تعالى يصف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: )يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر( [8].

• ومهمة الأمة المسلمة من بعد النبي، قال تعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( [9].

• وهو عبادة واجبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسليمك على أهلك، فمن انتقص شيئا منهن فهو سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره) [10].

وهو واجب فرض على المسلم وليس نافلة يؤديها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر) [11].

وعن جابر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها. فقال يا رب إن فيهم عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين. قال، فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعّر فيّ ساعة قط) [12].

• الإمام محمد عبده يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين[13]، بينما يراه الإمام ابن تيمية أنه فرض على الكفاية[14].

يقول الشوكاني:

(وجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها) [15].

• فإذا كان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل هذه الأهمية في دين الله، فما جوهر هذا الأمر أو النهي؟

يقول المفكر المسلم عبد القادر عوده: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل فيه الأمر بكل ما أوجبت الشريعة عمله، أو حبّبت للناس فعله من صلاة وصيام وحج وتوحيد وغير ذلك. والنهي عن كل ما خالف الشريعة من أفعال وعقائد) [16].

• فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجمع - في الأصل - بين عملين: عمل الدعوة وعمل التربية والتنظيم، ويتم هذان العملان بترتيب طبيعي. فيدعو الداعية الناس أولا إلى دين الله ثم يُعنى بتربية الذين يؤمنون به وتنظيمهم. وعلى هذه التربية وهذا التنظيم يتوقف نجاح الدعوة أو إخفاقها.

فإن كان التنظيم محكما موطدا، والتربية سليمة قوية أفلحت الدعوة، وإلا كان الإخفاق مصيرها المحتوم.

ولذلك كان بين الدعوة والإرشاد وبين التنظيم والتربية صلة قوية وارتباط وثيق. فلا توجد التربية والتنظيم بدون الدعوة، كما أن من المستحيل بلوغ الدعوة إلى غايتها المنشودة من غير تربية وتنظيم. ولا شك أن من توجه إليه الدعوة والإرشاد غير من يجري عليه عمل التربية والتنظيم، لأن الدعوة توجه إلى الذين لم يؤمنوا بها، أما عمل التربية فيجري على من آمن بها. ويتحتم على الأمة الإسلامية أن تنهض بالعملين معا أي أن تقوم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخلها وخارجها جميعا.

أما العمل الذي تقوم به في خارجها فيسمى الدعوة والإرشاد، وأما الذي تقوم به في داخلها فيقال له التربية والتنظيم[17].

قال الله تعالى: )كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( [18].

أي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمل دعوي.. تقوم به الأمة المسلمة بين الناس وفي نفسها، فهي إذا لم تلزم نفسها بالمعروف ولم تنته هي عن المنكر فكيف يصح لها أن تأمر غيرها وتنهاه؟ قال تعالى:

)وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( [19].

والشهادة على الناس تعني أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. قد يظن البعض أن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مهمة سياسية فقط يقوم بها الحاكم المسلم فيوطّد شؤون الأمة والناس على المعروف مستخدما سلطانه في قمع المنكر.. وهذا ظن في غير محله فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره ربه فقال: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين( [20].

والعرف في لغة العرب هو المعروف والآية من سورة الأعراف التي نزلت في مكة عندما لم يكن للمسلمين دولة ولا سلطان.. ولقد جاهد النبي قومه ودعاهم إلى عبادة الإله الواحد وتحمّل منهم كل صنوف الأذى والاضطهاد.. حتى أذن الله له بالهجرة.. وأقام في المدينة دولة الإسلام.. وجاهد في سبيل الله الكفار والمشركين..

بهذا يمكن تقسيم فعل النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعثته وحتى أكمل دعوته إلى ثلاثة أقسام:

1- الدعوة والتبليغ لجميع الناس وفي كل مكان،
2- وإقامـة الدولـة الإسلامية وتطبيق شـرع الله،
3- والجهاد في سبيل الله.. وكل ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.. وطالب أمته والمسلمين من بعده أن يستمروا في أداء هذه المهمة الماضية إلى يوم القيامة.

الجانب السياسي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال الله تعالى: )الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور( [21].

ومعنى ذلك أنه كما أن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جانبا دعويا تربويا، فكذلك له جانب سياسي. أي أن الأمة المسلمة وأولي الأمر فيها مطالبون بتطبيق شرع الله فريضة من الله. وأداء هذه الفريضة من أهم مسؤولياتها وأكبر واجباتها لا يجوز لها شيء من التهاون فيها، فضلاً عن إهمالها، ولأنها هي التي تضفي عليها الطابع الإسلامي والصبغة الإسلامية.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) [22].

فإذا جاء هؤلاء الخلوف وانحرفوا بالمجتمع المسلم عن هدي الرحمن وسنة نبيه ولم ينفع معهم النصح والتذكير فقد وقع واجب التغيير على أبناء الأمة كل حسب قدرته.

ولكن لماذا تتحمل الأمة هذا الواجب؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لم يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب) [23].

وقال تعالى: )فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين( [24].

فالطائفة التي عصت وطغت أصابها عذاب الله. والطائفة التي وعظت وذكّرت أنجاها الله.

أما الطائفة الثالثة التي لم تعص ولكنها لم تنه الذين اقترفوا المعاصي.. أصيبت بما أصاب الطائفة الأولى.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(لما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض ثم قال: (لـُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم) [25].

والواضح من هذه الآيات البينات، والأحاديث الصحيحة أن الأمة تراقب الحاكم في وظيفته الأصلية وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا قصّر نصحته وإذا تمادى قوّمته.. فإن البيئة الفاسدة تفسد الناس وخلائق السفهاء تعدي الآخرين.

ولكن كيف تكون مقاومة المنكر؟

• فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن

وحول هذا الموضوع قال العلماء كلاما كثيرا.. منه أنه ينبغي على العصبة المؤمنة المقتدرة ماديا أن تجاهد المنكر وتزيله بيدها، وقد اشترط الفقهاء أن لا يؤدي الأمر بالمعروف إلى منكر، و ألا يؤدي النهي عن المنكر إلى منكر أشد..

• ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن

والإصلاح باللسان متقدم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد. ولقد نعى الإسلام على الأمة أن تهاب الظالم وتخشاه فلا تردعه عن ظلمه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:

(سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).

• ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن

والمجاهدة بالقلب تعني أن الإنسان إذا لم يستطع أن يجاهد بيده ولا بلسانه لظروف خاصة به مثل شدة بطش الحاكم أو الخوف منه.. فتكون مجاهدة بالقلب. وهي ليست مجرد الإنكار القلبي والاستكانة بعد ذلك، بل تعني أن يتحول هذا الإنكار إلى فكرة يبثها المنكر بقلبه بين أقرانه يجمّع عليها جميع المنكرين بقلوبهم، حتى يتكون منهم تيار غالب يقوّى أفراده بعضهم بعضا، بحيث تصبح لهم قوة مادية يستطيعون بها أن ينكروا بألسنتهم أو بأيديهم. وهؤلاء هم الذين يكوّنون الجماعة المسلمة في كل وقت وحين.. غايتها تجميع القوى المختلفة التي تؤمن بالتغيير ولكنها لا تستطيع منفردة القيام به.. فتجمع قواها لتصبح تيارا غالبا وقوة مادية تتغلب على المنكر والمنكرين.

• وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان

فالقوي الذي لا ينكر بيده، والعالم الذي لا ينكر بلسانه، والآخرون الذين لا ينكرون بقلوبهم.. ليس عندهم حبة خردل من إيمان.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:

(ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لم يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب) [26].

وفي الحديث: (إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه. فإذا فعلوا ذلك، عذب الله الخاصة والعامة) [27] [28].

الأمر بالمعروف وإرشاد المجتمع

هذا الأمر على أهميته البالغة أسيء فهمه كما أسيء تطبيقه. ولقد انحرفت جماعات بسبب هذه المفاهيم الخاطئة.. فالأصل في الأمر بالمعروف أن لا يؤدي إلى منكر، وألا يؤدي النهي عن المنكر إلى منكر أشد.

5- المبادرة إلى فعل الخير

والمبادرة تعني المسارعة،

والمبادرة قضية تربوية على درجة عالية من الأهمية.

فهناك إنسان ينظر في الأمور.. ويستمر في النظر إلى ما شاء الله.. وهناك إنسان آخر.. ينظر في الأمور ويبادر على الفور إلى العلاج.

الإنسان الأول يتحول نظره إلى معرفة ذهنية لا قيمة لها.. والإنسان الثاني يتحول نظره إلى فعل إيجابي يساهم في إصلاح المجتمع..

هب أن حريقا شب في بيتك أو في بيت جارك.. فهل تكتفي بالتفكير في أسباب الحريق.. وأضرار الحريق.. أم تبادر من فورك إلى استدعاء الإطفاء، وتساهم مع إخوانك وجيرانك في إطفائه ما وسعك الأمر..؟

الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. منذ اللحظة التي نطق فيها بالشهادتين.. بادر النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ألسنا على الحق.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى.. قال عمر: فلنخرج إذن.. وكانت مبادرة مثلت تحولا في مسار الدعوة..

والصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه .. يستمع إلى التوجيهات النبوية بالتجهز لغزوة تبوك.. كان يغدو ويروح إلى السوق.. ومع ذلك يسوف الأمر.. ويقنع نفسه أنه قادر على الجهاز في أي وقت شاء.. أقعده تسويفه مع المخلفين.. وفرق كبير بين من يسوف الأمور ومن يبادر إلى إصلاحها..

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفريضة الواجبة على كل مسلم.. ماذا تعني إن لم يبادر المؤمن إلى القيام بها..؟

فهل إذا رأى مسلم منكرا.. يسوف وينتظر.. أم يبادر إلى فعل المعروف وإنكار المنكر..؟

القرآن الكريم يحث المؤمنين على المبادرة إلى فعل الخير..

قال تعالى: )فاستبقوا الخيرات( [29].

وقال تعالى: )وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين( [30].

وقال تعالى: ) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير( [31].

ورسول الله صلى الله عليه وسلم المربي الأول والقدوة العظمى للمؤمنين.. علّمنا بفعله وقوله أن نبادر إلى فعل الخيرات.. فليس في الوقت متسع..

روي أبو مسروعة رضي الله عنه قال: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلّم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: ذكرت شيئا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته) [32].

وكيف لا يبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فعل الخير، وهو القائل: (بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض الدنيا) [33].

يحب المؤمن أن يبادر إلى فعل الخيرات ولكنه لا يستطيع لسبب من الأسباب.. فيدل أخاه على الخير.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله) [34].

ولكن كيف تكون المبادرة..؟

• تكون بمحاسبة النفس.. فيبادر المؤمن إلى إصلاحها.

• وتكون بمبادرة المؤمن الداعية إلى تفقد إخوانه.. فيساعد المحتاج.. ويصلح بين المتخاصمين.. ويستر العاني.. ويغيث الملهوف.. ويزور المريض.. ويعين على نوائب الحق..

• وتكون بتشكيل فريق عمل من إخوانه في الحي.. فقد لا يستطيع وحده القيام بذلك.. ويد الله مع الجماعة.

6- كسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية

هذا الموضوع على درجة عالية من الأهمية.. فمن يتمعن في واقع البلاد الإسلامية والعربية على وجه الخصوص يجد الإعلام - وهو من أهم وسائل كسب الرأي العام - يسير في الاتجاه الخطأ.. ويجد بالمقابل صوت الإسلام خافتا لايكاد يملك القدرة على رد الشبهات المثارة ضده وضد مبادئه.

ولقد أوقع هذا الأمر، المواطن العادي في أزمة تناقضات، وبلبلة في المشاعر والأفكار والمواقف.

• ففي المجال السياسي أصبحت التجزئة التي هي إحدى مخلفات الاستعمار هدفا يدافع عنه الجميع.. وأصبحت العنصرية التي هي من أنواع الجاهلية التي حاربها الإسلام وحذّر منها عقيدة تنافح الأمة عن وجودها.. وأصبح الاستسلام للعدوان الغاصب وعيا سياسيا وموقفا حضاريا ينبغي الدفاع عنه.. أصبحت الوحدة حلما لا يفكر فيه أحد.. وأخوة الإسلام فكرة قديمة لا تصلح لعالم اليوم.. والتطبيع مطلب دولي يهرع الجميع إلى تنفيذه.

• وفي المجال الاقتصادي.. تسير مواقفنا مع التيار الغالب..

كنّا نتسابق لمحاربة الشيوعية يوم كانت فكرة يقاومها الغرب لأسباب تتعلق فيه، واليوم نتسابق للسير في إطار العولمة دون أن نعرف -في كثير من الأحيان- معناها أو إلى أين تتجه بنا.. قالوا لنا أن أسعار النفط تدنت بسبب الأزمة الاقتصادية في جنوب شرق آسيا.. وأن تدفق النفط إلى الأسواق العالمية بوفرة كبيرة لا يؤثر في الأسعار.. صدقناهم في هذه، وصدقناهم أيضا في تفسيرهم لأسباب أزمة جنوب شرق آسيا.. كل دول العالم التي تحترم نفسها لها إطار اقتصادي تنتسب إليه، وأسواق مشتركة تعمل معها.. إلا العالم العربي والعالم الإسلامي، ويوم فكّر البروفيسور نجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا (السابق) بمثل هذا التفكير اتهموه في فهمه ثم أسقطوه..

• وفي المجال العلمي.. الأمة المسلمة في المؤخرة. يوم قامت إسرائيل على أرضنا كانت جامعتها التخنيوم في حيفا، تزيد نسبة أبحاثها عن النسبة في الولايات المتحدة الأمريكية..

• وخلاصة الأمر.. أن الإعلام الذي يتحكم بالرأي العام يسير في الاتجاه المعاكس فلا يخدم وطنا ولا دينا ولا كرامة ولا حقوقا للإنسان أو للأوطان..

فكيف يستطيع الحركة الإسلامية وأبناؤها.. (وهم في أغلب الأحيان مضطهدون مغلوبون على أمرهم) التغلب على هذا التضليل الإعلامي.. الذي يشوه الحقائق.. ويؤكد الأباطيل.. ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف...؟

كيف يستطيع الحركة الإسلامية وأبناؤها.. الخروج من الدائرة الضيقة التي وجدوا أنفسهم بها..؟.

نذكر هنا بعض الوسائل في كسب الرأي العام

• الإعلاميون في معظم البلاد الإسلامية هم من أبناء اليسار أو اليمين.. ومن النادر أن تجد إعلاميين أكفاء من أبناء الحركة الإسلامية في وسائل الإعلام الرسمي أو الشعبي.. مع أن هذا الأمر ميسور ولا يحتاج إلا إلى اهتمام ودراسة متخصصة..

فإذا كان الإعلام اليوم من أهم أسلحة المعركة.. فما بالنا متخلفين في هذا الميدان؟

• وحتى عندما تتاح بعض الفرص لأبناء الحركة الإسلامية للظهور والتحدث في بعض القنوات التلفزيونية.. تراهم يتحدثون بنفس اللغة لا فرق عندهم بين السياسة والإعلام وخطبة الجمعة..

فأين منطق التخصص؟

وأين الإسلاميون من تعاليم دينهم الذي أوضح لهم أن كل إنسان ميسر لما خلق له؟

• لماذا يصدر الإسلاميون مئات النشرات في كل بلاد الإسلام.. ومعظمها لا يصلح لشيء.. أين هم من الإعلام الراقي المتخصص الذي يتمكن بالصورة والمقال من إقناع الجمهور؟

• لماذا يصر الإعلاميون الإسلاميون على كتابة ما يتمنون.. فيحسّنوا صورتهم ويشوهوا الآخرين.. مع أن الحقيقة المجردة هي التي تستحق الإبراز. وعند الحقيقة يظهر التصرف، إذا كان صوابا تابعناه وإذا كان خطأ قومناه.

• أين الإعلام اليوم في أولوياتنا؟

هل هو في الدرجة الأولى..

أم من نافلة القول والعمل؟

• ولنفترض أن أبواب الإعلام سدّت في وجوهنا.. وضاقت الساحة أمامنا..

فأين الشارع الذي نستطيع عن طريق لجان الحي.. أو الجمعيات المحلية.. أن ننقل إليه أفكار الإسلام ومواقف المسلمين الصحيحة؟

أين المسجد الذي يلتقي فيه المسلم مع ثلة من أبناء حيه خمس مرات كل يوم.. هل يتحدث معهم وينقل إليهم ما ينبغي التحدث عنه؟

حزب الرفاة في تركيا كان عنده مسؤول لكل شارع.. وكان هذا المسؤول يعرف كل شيء عن شارعه.. يزور السكان.. يبارك لهم أفراحهم ويحزن معهم في مصائبهم.. وعن هذا الطريق يبث أفكاره ومواقفه؟

• هل يتحدث المسلم مع جيرانه في البناية التي يسكنها.. وفي كل بناية عدد لا يقل عن خمسين شخصا بين رجل وامرأة وشاب وشابة وطفل وطفلة..

الأمر ميسور لمن أراد التيسير.. كل ما يحتاجه هو تصحيح الفكرة التي ينطلق منها..

• فإذا كنّا نعتقد أن دعوة الإسلام هي حركة صفوية تهم فريقا مختارا من الناس.. عندها ينبغي أن نهتم بالدعوة الفردية ونحاول أن لا نقول شيئا، ولا يعرف أحد عنّا شيئا. مناهجنا سرية.. وأحسن الأشخاص عندنا أكثرهم تكتما وسرية..

• أما إذا كنّا نعتقد أن الدعوة الإسلامية هي خطاب الله لجميع الناس.. من يقصّر في إيصال الخطاب فقد أهمل وأثم.. وأن الحركة الإسلامية الحقيقية هي الدعوة والبلاغ.. عندها سننطلق في كسب الرأي العام بكل الوسائل.. وعندها فقط سينصبغ المجتمع بصبغة الإسلام وهي خطوة رئيسة في التغيير الإسلامي المنشود.

• مناهج التغيير التي ابتكرها البعض.. فأسماها بعضهم ثورة شعبية.. وبعضهم انقلابا عسكريا.. وبعضهم قتلا على الهوية..

ما هي إلا استعجال للمراحل قبل الأوان..

أما سبيل الحركة الإسلامية الواعية في التغيير فهو الفرد المسلم والبيت المسلم والمجتمع المسلم والحكومة المسلمة، حلقات يأخذ بعضها بيد بعض.. ويفضي بعضها إلى البعض الآخر.. حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

7- صبغ مظاهر الحياة العامة بالفكرة الإسلامية

وهذا الجزء هو النهاية التي تسبق عملية التغيير الإسلامي..

• فإذا كان الفرد المسلم نموذجا حيا لما يريده الإسلام.. في كلامه وعمله، في مطعمه ومشربه، في سلوكه وتربيته، في اهتمامه بالآخرين، في عفة لسانه وصدق مقاله، في حله وترحاله، في خلوته مع نفسه وتعاونه مع الآخرين.. إذا كان يعمل ما يعمل أو يقول ما يقول لوجه الله وحده، عندها سيكون هذا الفرد المسلم لبنة أولى في بناء المجتمع الإسلامي.

كم من أفراد قلائل.. ضربوا في الأرض.. وعن طريق تعاملهم مع الآخرين.. نشروا الإسلام في أصقاع تضم حاليا عشرات ملايين المسلمين..

إن الحروب العادلة قد ترد كيدا، ولكنها لا تعمق مفهوما.. فالذي نشر الإسلام في البلاد التي فتحها المسلمون.. لم تكن الحروب.. بل سلوك وأخلاق الفاتحين..

وكما يكون المسلم السوي المعتدل عاملا إيجابيا في صبغ الحياة بالصبغة الإسلامية، كذلك يكون المسلم الذي يهتم بالقشور في ملبس أو مطعم.. ويتقعر في الكلام.. ويتفاخر على الآخرين.. عاملا سلبيا.. في بناء الحياة الإسلامية السليمة.

• وكذلك الأسرة المسلمة.. التي تطبق الإسلام في فعلها وقولها.. وفي حقوقها وواجباتها.. الأدوار فيها واضحة.. دور الأم في التربية.. ودور الأب في القيادة.. ودور الأبناء في التعلّم والطاعة..

هذه الأسرة التي تبني أعمالها على القناعات.. فيكون التزام الرجل صادرا من أخلاقه وعلمه.. والتزام المرأة ناتجا من فهمها لحقوقها وواجباتها.. هي لبنة أخرى في صبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية.. وهي حلقة تالية من حلقات التغيير الإسلامي المنشود.

• وإذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة، وإنما الأمة مجموعة هذه الأسر وإنما الأسرة أمة مصغرة والأمة أسرة مكبرة، وقد وضع الإسلام للأمة قواعد الحياة الاجتماعية السعيدة، فعقد بينها آصرة الأخوة وجعلها قرينة الإيمان، ورفع مستوى هذه الصلة إلى المحبة بل إلى الإيثار، وقضى على كل ما من شأنه أن يمزق هذه الروابط أو يضعف هذه الوشائج، وحدد الحقوق والواجبات والصلات، فللأبوة حقها وعليها واجبها وللبنوة مثال ذلك، ولذي القربى حقوقها وعليهم واجباتهم، وفصّل مهمة الحاكم والمحكوم، وبيّن للمعاملات بين الناس أحكامها بأفصح بيان، ولم يجعل لأحد على أحد فضلا إلا بالتقوى، وكذلك حدد صلات الأمم بعضها ببعض، ولم يدع من ذلك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ووضع في كل ذلك قواعد كلية وترك الفرعيات والجزئيات لتغير الزمان والمكان.

نحن نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، ولكنا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام وبدون ذلك فلن نصل إلى شيء، نريد أن نفكر تفكيرا استقلاليا يعتمد على أساس الإسلام الحنيف لا على أساس الأفكار المستوردة من الشرق أو الغرب.. نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخر والمجد[35].

[1] المائدة - (78-79).

[2] أبو داود والترمذي.

[3] مسلم.

[4] آل عمران - 104.

[5] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - جلال الدين العمري ص- 17.

[6] فتح القدير 1: 338.

[7] الإحياء 2: 269.

[8] الأعراف - 157.

[9] آل عمران - 110.

[10] رواه الحاكم.

[11] رواه أحمد والترمذي.

[12] رواه البيهقي في شعب الإيمان.

[13] تفسير القرآن الكريم 2: 27.

[14] الحسبة في الإسلام ص- 66.

[15] فتح القدير 1: 337.

[16] التشريع الجنائي- عبد القادر عودة 1: 497.

[17] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- جلال الدين العمري، ص- 109.

[18] آل عمران - 110.

[19] البقرة - 143.

[20] الأعراف - 199.

[21] الحج - 41.

[22] مسلم.

[23] سنن أبي داوود - كتاب الملاحم.

[24] الأعراف- (164 - 166).

[25] أبو داوود.

[26] أبو داوود.

[27] الإمام أحمد.

[28] شخصية المسلم المعاصر - مصطفى محمد الطحان، ص- (184 - 192).

[29] البقرة - 148.

[30] آل عمران - 133.

[31] آل عمران - 104.

[32] البخاري.

[33] مسلم.

[34] مسلم.

[35] المؤتمر الخامس - الإمام حسن البنا، ص- (21-25).

رابعا- تحرير الوطن الإسلامي

وهي النقطة الرابعة في ركن العمل.. كما قررها الإمام حسن البنا في التعاليم.. وقبل أن نذكر بعض الكلمات حول هذه النقطة.. نحب أن نحذر من الفكر السقيم الذي تصور أن تحرير الوطن الإسلامي مرحلة مؤجلة حتى ننتهي من القضايا الثلاث التي سبقته.

فالمراحل هنا تسير كلها في آن معا.. نصلح أنفسنا.. ونكوّن بيوتنا.. ونصبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية.. ونحرر الوطن الإسلامي من كل رجس واحتلال.. قضايا يقوى بعضها بعضا.. والداعية الموفق هو من ينجح في العمل فيها معا..

فكيف أكون مسلما جيدا.. إذا أهملت أسرتي؟

وكيف أزعم تحرير الوطن الإسلامي.. إذا أهملت صبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية..؟

إنه دين الله، لا يخدمه إلا من حازه من جميع جوانبه.

ونحاول فيما يلي أن نذكر بعض الملاحظات حول هذا الجزء الهام من ركن العمل.

1- تحرير الوطن وتخليصه من كل سلطان غير إسلامي، سياسي، أو اقتصادي، أو روحي، مهمة كل المواطنين.. ومن الخطأ البالغ أن يحتكر الإسلاميون ذلك.. وكأنهم وحدهم المعنيون بتحرير أوطانهم.. قد يستشعر الإسلاميون مسؤولياتهم في هذا الأمر أكثر من غيرهم.. وقد يستسهلون الاستشهاد في سبيل الله لتحرير الأوطان فقد وطنوا أنفسهم لمثل هذه المهمة..

قد يكون ذلك صحيحا.. ولكنه ليس صحيحا أن نعتبر جميع الآخرين غير مهتمين بتحرير أوطانهم.. والتاريخ يشهد أن رجالا من نوعيات مختلفة خاضت معارك التحرير الوطنية في الكثير من البلدان..

في عصر الفتوحات الإسلامية ساهم الأقباط في مصر، والأرثوذكس في البلقان إلى جانب الفاتحين المسلمين في معارك التحرير ضد اضطهاد قومهم وأبناء جنسهم ودينهم.

وفي فلسطين خاض المسيحيون معركة الدفاع عن الوطن إلى جانب الأغلبية المسلمة.. حتى أن أميل الغوري المسيحي الأرثوذكسي كان نائبا لمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني في إدارة الهيئة العربية العليا وناطقا باسمه في الكثير من المحافل الدولية، ينافح عن قضية فلسطين ضد الهجمة الصهيونية ومن يؤيدها في العالم.

في حروب الاستقلال الوطني التي قامت بها الشعوب في العديد من الأقطار الإسلامية كانت هناك مساهمات جادة من غير المسلمين في معارك التحرير. الإمام حسن الهضيبي (رحمه الله) أكدّ على ضرورة مشاركة الجميع في المعركة ضد الانكليز في قناة السويس في أوائل الخمسينات.. وأصرّت القيادة الإسلامية على أن تكون الجامعة هي المنطلق، وبالفعل ضمت الصفوف المقاتلة أغلبية من شباب الإخوان وأقلية من رجال الأحزاب الآخرين.

2- الوطن الذي يدافع عنه المسلم.. ويستشهد في سبيل الله من أجل تحريره.. هو قطعة الأرض التي يعيش فيها.. ولد في ربوعها.. وتربطه بها كل معاني الحنين والحب والفخر والانتماء.. ولكن الوطن في حسّ المسلم ليس هذا فقط.. إنما كل أرض فيها مسلمٌ مظلوم ينافح عن حقه.. وكل أرض مسلمة ينوء مسلموها تحت نير الاحتلال..

هذا الامتداد في مفهوم الوطن.. لا يعني أن يكون تصرفنا واحدا تجاه كل قضايا العالم الإسلامي.. ففي قضية فلسطين (على سبيل المثال) يكون الجهاد فرض عين على المسلم الأقرب لها.. ثم فرض كفاية على الدائرة التالية.. وهكذا، حسب الحاجة والقرب.. ولقد ظهر مثل هذا التقسيم والدوائر في النظام الأساسي للإخوان المسلمين، فبدأ بتحرير وادي النيل، فالبلاد العربية، فالوطن الإسلامي بكل أجزائه، فالأقليات المسلمة في كل مكان.

3- وتحرير الوطن.. لا يعني حمل السلاح فقط، بل قد يكون المشاركة في جهد مالي أو إعلامي أو سياسي.. فكلها معارك.. وكلها تساهم في التحرير..

4- ومعارك التحرير.. لاتقتصر على إخراج المحتل الغاصب من الوطن الإسلامي.. بل لابد أن تتبعها معارك من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي والتشريعي..

فما معنى أن يخرج المحتل من أرضنا، بينما يحكمنا رجاله حكما أقسى وأشنع.. ويطبقون علينا كل ما في جعبة الاستعمار من أفكار دخيلة غريبة؟

كل الفروق بين هذين النوعين من تحرير الأوطان.. أن الاحتلال العسكري يقاوم بالسلاح.. بينما المعارك الأخرى السياسية والاقتصادية والثقافية والتشريعية سلاحها الدعوة والفكر والكتاب والندوة والصحافة والإعلام.. وغيرها من الوسائل السلمية. ولا بأس أن نقف قليلا عند هذه المصطلحات.

الاحتلال العسكري

مع بدايات هذا القرن وقع العالم الإسلامي بأطرافه المترامية تحت الاحتلال الأجنبي، والمستعمر المتغطرس جاء هذه المرة بحقد السنين يريد أن يفعل في بلاد المسلمين أفعالا لا تقتصر على الاحتلال العسكري الذي سينتهي في يوم طال عمره أو قصر.. ولهذا عقد المؤتمرات وأشرك مع خبرائه العسكريين مستشارين في التخطيط والتعليم والتشريع.. وسارت جيوش المبشرين إلى جانب جيوش الغزو.. وعندما تركوا العالم الإسلامي بعد نصف قرن أو يزيد تركوه قضية أخرى لا تمت إلى الإسلام إلا ببعض المسميات التاريخية.

لم تبق فيه ناحية من النواحي ولا جانبا من الجوانب إلا وغيروها.. ومسخوها وشوّهوها وأقاموا بديلا عنها.. زعموا لنا أنهم يستعمرون بلادنا لترقيتها.. وأنهم أصدقاء، فماذا فعل هؤلاء الأصدقاء الألداء؟

في الجانب السياسي قامت سياسات الاستعمار على :

أولا - التجزئة

أول عمل قام به الاستعمار في العالم الإسلامي أن قسّم هذا العالم إلى أجزاء ودويلات، في الخطوة الأولى أقنع العرب بأن يثوروا ضد الأتراك باعتبارهم أحق منهم بالخلافة، ومناهم إذا فعلوا بإمبراطورية عربية تضم كل منطقتهم.. وكانت النتيجة التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى أن انعزلت تركيا كيانا محاصرا صغيرا، وتقسمت المنطقة العربية إلى أكثر من عشرين دولة ودويلة، ومازالت تعاني هذه الأجزاء، التي أصبحت دولا مستقلة ذات سيادة، من مشاكل حدودية، ومطالبات فيما بينها، تركها لهم الاستعمار تركة تشكل فتيلا مستمرا للصراع يتجدد كلما هدأ. والغريب أن بريطانيا وحّدت الهند عندما استعمرتها.. ولكنها فرقت بلاد المسلمين بعدما كانت موحدة.. إن هذه التجزأة، التي أفرزت كيانات وطنية، أصبحت هدفا مع الزمن يدافع عنه حكام هذه الأجزاء وأحزابها ورجالاتها.. بل وأصبح الجزء فكرة وطنية يتغنى بها الصغار والكبار.. ومع مرور الزمن لم تعد هذه الكيانات قائمة بحراب المستمعرين فقط.. بل وتحميها صدور الوطنيين.. وصارت القومية التي كانت يوما إسلامية ثم عربية.. صارت سورية وأردنية ولبنانية وإقليمية تصغر كل يوم..

ثانيا - اللادينية

في منتهى الإحكام أطلقوا الأقلام الخارجية والداخلية تروّج للحضارة الجديدة، كوك ألب في تركيا، طه حسين وقاسم أمين وعلي عبد الرازق في مصر، أحمد خان في الهند، وغيرهم هنا وهناك يكتبون على استحياء في البداية وبانطلاق بعد ذلك بأن الدين عبارة عن علاقة بين الشخص وخالقه.. لا علاقة له البتة بما وراء ذلك.. وأن الأمة إذا أرادت أن تنفض عنها غبار الجهل والتخلف، فعليها أن تتجاوز المرحلة الدينية أي مرحلة الخرافات إلى المرحلة العلمية المادية أي مرحلة أنبوبة الاختبار. إذا شاء شخص أن يصلي ويدعو الله ويستغيثه فهذا شأنه.. أما ما عدا ذلك فلا دور للدين في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو العلوم أو الآداب أو الفنون أو الأخلاق.. ولا يجوز إقامة أحزاب سياسية على أساس الإسلام، وأن السياسي هو إنسان وصولي كذاب يعرف كيف يصل إلى هدفه بغض النظر عن الوسائل أو الأخلاق!!

ثالثا- القومية

والقومية التي روجوا لها في بلادنا هي قومية علمانية، ولقد نصّت الاتفاقيات التي عقدت بين الشريف حسين والإنكليز في مراسلاته معهم، أن الدولة العربية المنتظرة هي دولة قومية لا دينية. والقومية عندما تتخلى عن الدين تبحث لها عن شعارات ورموز أخرى تربط بها شعبها، فوُجدت الفرعونية في مصر والآشورية في سوريا، ثم صارت الإقليمية نفسها رموزا تحاط بهالة خاصة، فاللبنانية صارت حضارة والأردنية والسورية حضارة وهكذا..

رابعا - الديموقراطية

وهي حكم الشعب للشعب كأسلوب للحكم.. ولقد نجح الغرب إلى حد ما في تطبيق هذا النظام وحصل الإنسان على الكثير من حرياته في ظله. أما في العالم الثالث فباسم الديموقراطيات ارتكبت جميع أنواع المظالم، وتحت اسم الديموقراطية تقوم كل أنواع الأنظمة، وكلها ديكتاتورية تمتهن حرية الإنسان وتستذل المجتمع وتستهتر بمقومات الأمة.

في الجانب التشريعي

الجانب التشريعي هو أكثر الجوانب التي اهتم الاستعمار بها.. فكان يرفض الخروج من بلد ما، حتى يطمئن إلى أن حكومة هذا البلد قد قبلت بتبني القوانين الغربية بدلا من الشريعة الإسلامية.

بمناسبة مرور خمسين سنة على معاهدة لوزان، أذاع التلفزيون التركي مقابلة مع عصمت أنينو رئيس الجانب التركي في المعاهدة المذكورة.. سأله التلفزيون عن المعاهدة بعد مرور خمسين سنة عليها، فأجاب أنينو: لقد وافق الغرب على مطالبنا بالاستقلال، وسحب قوات الاحتلال من بلادنا، بشروط: أهمها إلغاء الخلافة، وطرد جميع آل عثمان من البلاد، وإحلال القوانين الغربية بدلا من الشريعة الإسلامية. واشترطوا أن يرسلوا بعثة تراقب تطبيق البند الأخير من هذه الشروط!

جميع البلدان التي حصلت على استقلالها السياسي ألغت الشريعة الإسلامية وتبنت بدلا منها قوانين الغرب، وحصرت الأمور الشرعية فيما عرف بقوانين الأحوال الشخصية.. وكان ذلك مرحلة أولى ثم جاء من تجرأ فألغى حتى القسم الأخير.. (والقانون له صلة وثيقة بأخلاق الناس ومجتمعهم، فإذا وضع الإنسان قانونا من القوانين، فلابد أن تكون وراءه فلسفة من فلسفات الأخلاق والاجتماع، وأن يكون نصب عينيه صورة خاصة يريد أن يفرغ في قالبها الحياة الإنسانية قاطبة. وكذلك إذا نسخ الإنسان قانونا من القوانين، فكأنه نسخ النظرية الخلقية والفلسفة المدنية التي كان ذلك القانون مستندا إليها، وبدّل صورة الحياة التي كانت مستمدة من ذلك القانون، فلما اقتلع المستعمر ما كانت لدينا من قوانين شرعية واستبدلوها بقوانينهم المدنية، فلم يكن معنى ذلك أنه مضى قانون وحل مكانه قانون آخر فحسب، بل كان معنى ذلك أنه قد اقتُلع من أرض هذه البلاد نظام للأخلاق والمدنية وأُسس مكانه نظام آخر للأخلاق والمدنية) [1].

في الجانب الثقافي

منذ وطئت أقدام الاستعمار بلاد المسلمين.. حاول تبديل بنيتها الثقافية، فألغى معظم مدارسها التقليدية، وقلل من قيمة الجامعات الإسلامية وأهمل خريجيها، أما الطلبة النابهون فأرسلوا إلى جامعاته ليعودوا بعد فترة مبشرين بثقافات الغرب وآرائه في الحياة المدنية.. واليوم وبعد مضي أكثر سني هذا القرن، نجد معاهدنا القائمة في بلادنا، وطلابنا الذين هم عدة مستقبلنا، مازالوا يدرسون ثقافات الغرب ويقرأون نظرياته في الحكم والاقتصاد والاجتماع والتاريخ وتفسير موقع الإنسان من الكون والحياة.. ولقد صرح دهاقنة الغرب مرات كثيرة بأننا نعتمد على المعاهد أكثر من اعتمادنا على الجيوش.. ولا بأس أن نقول أن هذه المعاهد المستغربة هي التي تخرج أجيال الصحوة الإسلامية.. ولكننا مع ذلك نؤكد أنه لو استقامت بنية هذه المعاهد لاستقامت معها بنية الأبناء ولكان العطاء أغزر وأعمق وأوعى.

في الجانب الاقتصادي

ويمكننا أن نحدد بنفس الطريقة أوضاعنا الاقتصادية، وكيف قلبوها إلى معاملات ربوية بعيدة عن مصالحنا قريبة من مصالحهم.. تدعم وتقوي الجهاز الاستعماري العالمي بإرادة منا أو بدون إرادة.. وقضية ديون العالم الثالث وعجزه عن الوفاء حتى بفوائد الديون هي نوع من الاستعمار الجديد الذي ابتكروه حديثا لإيقاع جميع هذه البلدان في حبائلهم..

وما العولمة التي ابتكروها مؤخرا.. والتي تعمل على إعادة صياغة العالم.. والهيمنة على دوله عن طريق الشركات العملاقة والقوانين التجارية المتحيزة والمضاربات المالية.. والإعلام الذي يزين الجريمة.. إلا ضرب من ضروب الاستعمار الاقتصادي.

في الجانب الاجتماعي

وكذلك أوضاعنا الاجتماعية وخاصة قضية المرأة.. ومحاولتهم إخراج القضية عن طبيعتها وتحميلها ما لا تحتمل. ولقد انساق المسلمون للأسف الشديد في كثير من البلدان وراء الغرب وقلدوهم في حياتهم الاجتماعية خطوة بخطوة.. وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).

الشخصية الإسلامية

وليست هذه هي الجوانب التي شملها التغيير والتبديل في حياتنا فقط. فإن أمة تتنكر لدينها وتسقط أخلاقها وتحاول استعارة شخصية غيرها.. هي أمة مهزومة من داخلها، كما هي مهزومة في كل ميادين حياتها. لقد مسخت الشخصية الإسلامية المتميزة.. التي كانت يوما عنوانا لكل عظمة.. أساسا لكل تقدم وبناء[2].

تحرير الوطن الإسلامي

بناء على ما تقدم.. فقد كان واضحا للإمام البنا أن الاستقلال السياسي وحده لا يحل كل المشكلة.. وأن عملية الإصلاح لابد أن تتناول كل الجوانب الأخرى التي غيّر المستعمر بنيتها.. القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.. وعلى الرغم من نيل معظم أقطار العالم الإسلامي استقلالها السياسي.. إلا أن المواجهة السلمية للحصول على بقية الحقوق مازالت مستمرة.

[1] واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم - المودودي، ص- 177.

[2] دور الطلبة في إعادة بناء الأمة- مصطفى محمد الطحان.

خامسا- إصلاح الحكومة

وفي البند الخامس من ركن العمل.. تحدث الإمام حسن البنا عن إصلاح الحكومة فقال: وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها. والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه، ولا بأس أن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة، ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه في نظام الحكم الإسلامي.. ثم تحدث الإمام عن صفات الحكومة المسلمة وواجباتها وحقوقها.. ولا بأس أن نقف عند كل نقطة من هذه النقاط نحدد معالمها ونزيل بعض الشبهات عنها..

وقبل أن نفعل ذلك نؤكد على أهمية هذا التسلسل فتحرير الوطن الإسلامي مقدم على إصلاح الحكومة.. فبعض الحركات الإسلامية ترى أن إصلاح الحكومة وقيام الخلافة مقدم على معركة التحرير.. وبعض الكتاب المسلمين لا يجد فرقا بين طاغوت يهودي وطاغوت عربي.. والإمام البنا مع الموقف الصحيح وهو تحرير الأوطان مقدم على ما سواه.. فكيف تنجح دعوة بين ظهراني محتل...؟!

1- إصلاح الحكومة

دعا الإمام البنا إلى إصلاح الحكومة في كل شأن من شؤونها.. بما يتفق مع الشريعة الإسلامية. وكلمة إصلاح تعني أن الحكومات القائمة في بلدان المسلمين إسلامية تحتاج إلى إصلاح.. فلم يدع إلى إيجادها عن طريق الانقلاب أو الثورة أو الإرهاب، وإنما دعا إلى إصلاحها عن طريق الدعوة الشعبية بالحكمة والموعظة الحسنة.

2- والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائضَ الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه

ولا يلمس القارئ في وصف الإمام البنا للحكومة المسلمة.. أي أثر للمثالية التي تسيطر على عقول الجمهرة من الدعاة المسلمين.. فيكفي أن يكون أعضاؤها مسلمين غيرَ متجاهرين بعصيان.. وفرق كبير بين من يرتكب معصية وبين من يجاهر بالعصيان..

3- ولا بأس أن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة..

وهذه نقطة أخرى تستحق أن نتمعن فيها.. فالحكومة الإسلامية يمكن أن تستعين بغير المسلمين من أهل الكتاب أو ممن سنّ المسلمون بهم سنة أهل الكتاب.. أو من عامة المسلمين من غير أبناء الحركات الإسلامية..

ولقد استعانت الحكومات الإسلامية عبر التاريخ بوزراء من أهل الكتاب وكان لهم دور مهم في مسيرة هذه الحكومات.. ولم يستثن من المناصب إلا مناصب الولاية العامة التي تمثل شخصية الأمة المسلمة.

وعلى الرغم من وضوح هذه التعاليم التي تعبّر عن فكر حركة الإخوان المسلمين.. إلا أن البعض منهم لم يستطع أن يستوعب مشاركة الإسلاميين مع غيرهم في تركيا والأردن ومصر وغيرها من البلدان.. حتى أن بعض المفكرين رأى أن المشاركة في الوزارة بهذه الشروط كفر.

ولقد تأثر هؤلاء بالفكر المتطرف السائد.. ولم ينطلقوا من الفكر الذي تحدث عنه الإمام البنا في التعاليم.

4- ولا عبرة بالشكل

وهذه نقطة مهمة أخرى.. ففي العصور التاريخية.. أخذت الحكومات الإسلامية أشكالا متعددة.. ويؤكد الإمام البنا هنا ما أكده غيره من رجال العلم والسياسة أنه لا عبرة بالشكل مادام المضمون صحيحا.

صفات الحكومة الإسلامية

ثم تحدث الإمام البنا عن صفات الحكومة الإسلامية فذكر عدة نقاط موجزة كل الإيجاز معبرة عن المسألة أعظم تعبير.

من هذه الصفات:

1- الشعور بالتبعة

أي الإحساس بالمسؤولية عن الأفراد والمجتمع.. لقوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته) [1].

من قمة السلطة.. حتى أدنى رجل فيها.. يستشعر المسؤولية عن نفسه وعن الآخرين. والمسؤولية هنا حق وواجب..

واجب على كل إنسان أن يستشعرها ويؤديها حقها.. وحق له يطالب به كل مسؤول في الأمة.

وبقدر سعة السلطة تكبر المسؤولية أو تصغر.. فمسؤلية الحاكم غير مسؤولية الرعية.. ومسؤولية العالم غير مسؤولية الجاهل.. كان سيدنا عمر رضي الله عنه يشفق على نفسه مخافة أن يحاسبه الله عز وجل عن بغلة عثرت في أرض العراق لم لم يمهد لها عمر الطريق..

وإذا كانت مسؤولية الحاكم أكبر.. لأن سلطاته أشمل.. فإن مسؤولية الفرد أساسية كذلك.. فهي التي تسهّل للحاكم مهمته.. تؤيده إذا استقام وتسدده إذا انحرف..

قال تعالى: )وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسئلون( [2].

2- والشفقة على الرعية

هذا المعنى الأبوي.. لا يكاد يحسه مواطنو هذه الأيام في أي بلد من البلدان.. وليس له مثال إلا في ظل الحكم الإسلامي.. ربنا عز وجل يطالب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: )واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين( [3].

ويحذره فيقول: )ولو كنت فظا غليظ القلب، لانفضوا من حولك( [4].

ومازالت سير خلفاء الإسلام وعظمائه مضرب المثل في تواضعهم مع الرعية والشفقة عليهم.. وتحسس آلامهم وآمالهم.. وحلّ إشكالاتهم.. والمساواة بينهم.. فلا كبير ولا صغير أمام القانون.. ولا محاباة لأحد على أحد أمام القضاء.. ولا يفوز أحد بفرصة هي لغيره مهما بلغ ماله أو جاهه..

هذه هي الحكومة الإسلامية التي يستشعر القائمون بأمرها الخوف من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به) [5].

ويوم تحوّلت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض جبري، وانشغل الحكام بأنفسهم وبقصورهم.. ضاع المواطن، ولم يشعر بالأمن والأمان فهو خائف يترقب.. وهو متهمٌ حتى يثبت ولاؤه.. يومها شقيت الأمة وشقي المواطن فلم يعد أحد يشفق عليه.

3- والعدالة بين الناس

والعدل أساس الملك.. والأديان جميعا تقوم على العدل. قال تعالى: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان( [6].

والعدل الإسلامي ليس عدلا بين المسلمين فقط.. بل بين الناس جميعا. قال تعالى: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به( [7].

وعليه فإن من أهم صفات الحكومة المسلمة أن تحكم بين الناس بالعدل. شعارها قول الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه.. والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له).

4- والعفة عن المال العام

ولقد سقط في هذه المتاهة كثير من حكام المسلمين.. في القديم والحديث.. فتصوروا أن المال العام.. وأموال الناس من حقهم أن يأخذوا منها ما يشاؤون.. قال تعالى: )وما كان لنبي أن يغلّ، ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة( [8].

ولقد تنوعت تسميات السطو على أموال الناس.. فهي تارة تأميم.. وتارة إصلاح.. وقال بعضهم بل هي مصادرة أموال أعداء الشعب..

تنوعت الأسماء والغلول واحد..

استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، والله لا يأخذن أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه فقال: اللهم هل بلغت؟[9].

5- والاقتصاد في المال العام

فإذا حرّم الإسلام الإسراف في المال الخاص، فهو حرام في المال العام كذلك..

قال تعالى: )ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين( [10].

ولكن كيف تسرف الحكومات في المال العام..؟

• تخصص أجمل الأماكن ليقضي كبار رجالات الحكومة إجازاتهم فيها.. الفيلا والسيارة والموظفون كلهم في خدمة السيد.. والكل على حساب الدولة.

• تشق أوسع الطرق وأجملها لتمر من أمام أبواب علية القوم.

• تشتري السلع التموينية.. وتوزعها على محاسيب السلطان..

• في كل مكان توجد لجنة للمناقصات لاعتماد المشاريع.. ومع ذلك فبإمكان اللجنة أن تختار (الجهة) بغض النظر عن السعر أو المواصفات...

• وسيجد المتتبع مئات الأساليب من هذا الصنف.. كلها في إطار الإسراف في المال العام..

والحكومة الإسلامية الملتزمة بشرع ربها هي الوحيدة البريئة من هذا الإسراف الحرام.

واجبات الحكومة الإسلامية

وقد حددها الإمام البنا فقال: من واجباتها:

  • 1- صيانة الأمن،
  • 2- وإنفاذ القانون،
  • 3- ونشر التعليم،
  • 4- وإعداد القوة،
  • 5- وحفظ الصحة،
  • 6- ورعاية المنافع العامة،
  • 7- وتنمية الثروة،
  • 8- وحراسة المال،
  • 9- وتقوية الأخلاق،
  • 10- ونشر الدعوة.

وسنقف وقفات قصيرة عند كل بند من هذه البنود.

1- صيانة الأمن.. أمن المواطن.. المسلم وغير المسلم.. المعارض والموافق. وأمن الدولة بالمحافظة على أمنها ضد أي عدوان خارجي.. وفي كثير من الأحيان يستخدم مصطلح (أمن الدولة) لقمع المواطن لمصلحة الحاكم.. لا لمصحلة الدولة والوطن.

2- وإنفاذ القانون.. أي تطبيقه بما يكفل للناس حقوقهم.. وعلى الجميع دون محاباة لأحد.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف المنحرفين من بني إسرائيل: (كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).

ولقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جاءه أسامة يشفع في قرشية سرقت.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أتشفع في حد من حدود الله؟ والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

3- ونشر التعليم.. بين جميع طبقات المجتمع بلا تفريق أو تمييز. والمقصود هنا علوم الدنيا والدين.. فكلها علوم نافعة يتفوق بها المواطن وتسعد بها الأمة.

4- وإعداد القوة.. بتأمين السلاح وتصنيعه.. فلا كرامة لأمة تستورد سلاحها من عدوها..

وبإعداد المواطن.. ماديا ومعنويا.. ولقد حض الإسلام على القوة وأسبابها.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير).

5- وحفظ الصحة .. من أوجب واجبات الحكومة المسلمة.. وذلك بتوفير أسباب الصحة والنظافة ومقاومة الأوبئة.. وتوعية الناس بالأمراض.. وتوقيتهم منها.. وتهيئة المستوصفات والمستشفيات لعلاج المواطنين دون تمييز.

6- ورعاية المنافع العامة.. وهي كل ما يهم المواطن كالطرق والجسور، وشبكات المياه، وشبكات الصرف، وشبكة المواصلات، وشبكة الكهرباء والغاز، والمصانع، والحدائق، والمدارس والجامعات.. وصيانة ذلك جميعا.. بحيث يشعر المواطن أن الحكومة تعمل لمصلحته.. فيندفع في خدمتها.. فتعاون المواطن مع الحكومة لا يكون بالبطش إنما يكون بإعطاء كل ذي حق حقه.

7- وتنمية الثروة.. الثروة الخاصة والثروات العامة.. حمايتها وتنميتها وتطويرها بأحسن الأساليب العلمية.. من أولى واجبات الحكومة الصالحة..

8- وحراسة المال.. المال الخاص.. والمال العام.. تشجع التصنيع وتحمي الصناعات الوطنية.. وتوازن الصادرات مع الواردات.. ولا تلجأ إلى القروض فهي مهلكة للاقتصاد، ولا تفرض الضرائب إلا في أضيق الحدود.. وتنمي الزراعة حتى تأكل مما تزرع وتستهلك مما تصنع.. وتتعاون مع الدول الأخرى لتنقذ نفسها من الأخطبوط الاقتصادي العالمي الذي يمتص دماء الجنوب لحساب الشمال المترف.

9- وتقوية الأخلاق.. وهو أهم واجب من واجبات الحكومة الصالحة.. وهو البداية الحقيقية للإصلاح. وإن أي خلل في إصلاح الأخلاق يجعل الأمة ترتكس بعيدا عن ميدان التحضر والرقي.

والإسلام إنما جاء ليتمم مكارم الأخلاق..

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ولكن كيف تقوي الحكومة الصالحة أخلاق الناس؟

أن تعطي القدوة في أخلاقها وأخلاق مؤسساتها وأجهزتها والقائمين عليها.. فالناس على دين زعمائهم.. وصدق سيدنا علي رضي الله عنه عندما خاطب سيدنا عمر رضي الله عنه فقال له: (رأوك عففت فعفوا، ولو رأوك رتعت لرتعوا).

أن تلزم الناس إلزاما بالخلق الفاضل، وأن تأطرهم على الحق أطرا..

أن تجعل تقوية الأخلاق وتقويمها وتربية النشء عليها ضمن برامجها الإعلامية والتربوية، وأن تشرف على ذلك إشرافا دقيقا ومباشرا.

10- ونشر الدعوة.. وإذا كان كل مسلم مطالب بأن يدعو إلى الله على بصيرة، لقوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [11].

فإن الحكومة مطالبة بذلك أيضا.. وإذا كان مجال الفرد في الدعوة محدودا فإن مجال الحكومة أوسع وأشمل.. في داخل القطر وخارجه.. بحيث تصل كلمة الدعوة إلى كل الناس في كل مكان وزمان..

حقوق الحكومة الصالحة

فإذا أدت الحكومة الإسلامية ما عليها من واجبات.. نشأ لها في أعناق المسلمين حقوق.. ووجب عليهم أن يؤدوا هذه الحقوق وجوبا شرعيا قبل أن يكون وجوبا اجتماعيا وسياسيا.. ومن قصر في أداء هذه الحقوق فقد أثم.

ولكن ما هي هذه الحقوق؟

1- الولاء والطاعة..

قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا( [12].

فطاعة أولياء الأمر واجبة شرعا، والحكومة ولي أمر من تحكمهم.

عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة) [13].

وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني) [14].

2- والمساعدة بالنفس والمال..

الأصل الشرعي في ذلك هو قوله تعالى: )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم( [15].

وهذا الجهاد بالمال والنفس هو حق الحكومة المسلمة على مواطنيها مادامت المعركة في سبيل الله.

أما في غير الحرب.. فعلى المواطن أن يساهم بجهده ووقته وماله في كل مشروع أو خطة إصلاح تقوم بها الحكومة المسلمة.

3- والنصح للحكومة وإرشادها..

عندما تخالف الحكومة المسلمة شيئا من منهج الإسلام ونظامه، أو تخل بشيء من أخلاقه وآدابه، فيترتب على ذلك ما يترتب من شر وإثم. يتضمن تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، فإن هذا الموقف منها يوجب على الناس جميعا أفرادا وجماعات أن يقدموا لهذه الحكومة النصح والإرشاد مخلصين في نصحهم مشفقين في إرشادهم سالكين السبل الصحيحة التي يقرها الإسلام للنصح والإرشاد، فهذا واجبهم وهو في الوقت نفسه: حق الحكومة عليهم.

أما الشغب على الحكومة دون نصحها والعمل على خلعها والثورة ضدها قبل إرشادها فلا يرضاه الإسلام ولا تقره الشريعة.

عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) قلنا لمن؟ قال: (لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) [16].

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) [17].

وإنما جعل الإسلام هذه النصيحة حقا للحكومة وواجبا على المسلمين ليؤكد أن أحدا في المجتمع الإسلامي كله حكاما ومحكومين ليس فوق مستوى النصيحة والتوجيه، وذلك هو الترشيد الحقيقي لسلوك الناس حاكمين ومحكومين.

وتاريخنا الإسلامي - وبخاصة في القرون الثلاثة الأولى - قرون السلف الصالح رضي الله عنهم- حافلة بالنصائح التي كانت توجه من العلماء أو عموم الناس إلى الخلفاء والحكام والولاة، وكان المنصوحون يتقبلون النصح، وكان الناصحون يخلصون فيما ينصحون به، وإن الاستشهاد على ذلك بمواقف من تاريخنا الإسلامي يعجز عنها العد والإحصاء، وبحسبنا أن نتذكر نصائح الحسن البصري وغيره من علماء المسلمين الذين أدوا ما عليهم نحو حكامهم، وحكوماتهم لنعلم بل لنستيقن أن النصيحة واجب على كل مسلم قادر يوجهها إلى أخيه المسلم أو إلى حاكمه أو حكومته. وأنه ما ينبغي أن يترتب على تقديم النصيحة للمنصوح غضاضه أو ضيق فضلا عن غضب أو انتقام، فهذا هو ديننا وهذا هو منهجه ونظامه بين الناصح والمنصوح ولا يسعنا إلا اتباعه.

4- تغيير الحكومة:

عندما تقوم أي حكومة مسلمة بعمل من الأعمال فيه ضرر عام للمسلمين، كالظلم والاستبداد وإهدار حقوق الناس وهضم حقوقهم أو عدم احترام إنسانيتهم، أو عندما تأمر بمعصية لله سبحانه، أو عندما تقوم جهارا بممارسة عمل حرمه الله تعالى غير متأولة، أو عندما تخالف معلوما من الدين بالضرورة.

عند وقوع شيء من ذلك فإن على أهل النصح أن ينصحوها ويرشدوها، بل على الناس جميعا أن يقوم كل منهم بنصحها بالأسلوب الإسلامي في النصيحة الذي حددناه آنفا في حديثنا عن نصح ولي الأمر.

وعلى العلماء بالإسلام ومنهجه ونظامه أن يوضحوا للحكومة الصواب من الخطأ والحلال من الحرام، وأن ينصحوا بالكف عن أي عمل من تلك الأعمال التي ذكرنا، فإن استجابت لذلك ففضل من الله ورحمة، أما إذا رفضت الإصغاء إلى النصيحة المخلصة التي تستهدف الحق، فإن على الأمة بواسطة مؤسساتها وقادتها وأحزابها وأصحاب الرأي والفكر فيها أن تعمل على تصحيح الأمور بالوسائل المشروعة. فتغيير الحكومة التي لا يرتضيها الشعب حق مشروع للشعب عن طريق البرلمان والمؤسسات الشرعية[18].

وإنما جعل الإسلام هذه النصيحة حقا للحكومة وواجبا على المسلمين ليؤكد أن أحدا في المجتمع الإسلامي كله حكاما ومحكومين ليس فوق مستوى النصيحة والتوجيه، وذلك هو الترشيد الحقيقي لسلوك الناس حاكمين ومحكومين.

[1] الشيخان

[2] الزخرف - 44.

[3] الشعراء - 215.

[4] آل عمران - 159.

[5] مسلم.

[6] النحل - 90.

[7] النساء - 58.

[8] آل عمران - 161.

[9] الشيخان.

[10] الأنعام - 141.

[11] يوسف - 108.

[12] النساء - 59.

[13] البخاري.

[14] البخاري.

[15] التوبة - 111.

[16] مسلم.

[17] مسلم.

[18] ركن العمل - د. علي عبد الحليم محمود، ص- 163.

الركن الرابع - الجهاد

كلمة بين يدي الموضوع

يقول الإمام حسن البنا في الجهاد (الركن الرابع) من رسالة التعاليم: وأريد بالجهاد: الفريضةَ الماضية إلى يوم القيامة، والمقصودَ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية). وأول مراتبه إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك: جهاد اللسان والقلم واليد، وكلمة الحق عند السلطان الجائر.

ولا تحيا الدعوة إلا بالجهاد، وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها، وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها، وجزالة الثواب للعاملين فيها )وجاهدوا في الله حق جهاده( [1]، وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: الجهاد سبيلنا.

كلمة بين يدي الموضوع

والحديث عن موضوع الجهاد مهم وشائك في الوقت نفسه.

أما أهميته فتنبع من كونه الفريضة اللازمة الجازمة الماضية إلى يوم القيامة، فرضه الله تعالى على كل مسلم، ورغّب فيه أعظم ترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، وتوعّد المخَلفين القاعدين بأفظع العقوبات.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبة من النفاق) [2].

وأما صعوبة الحديث عن الجهاد.. فتكمن في الهجوم السافر الذي شنه المستشرقون والمستغربون، القدامى منهم والمحدثون على الجهاد، فكرته وأهدافه. فالإسلام في رأيهم انتشر بالسيف، وأنه شريعة العدوان، وتفننوا في رسم صورة للمجاهد المسلم كلها رعب وفزع، فهو إنسان متوحش سلّ سيفه وتطاير الشرر من عينيه، وانحصر كل تفكيره في القتل والنهب، فبمجرد أن يرى كافرا، ينقض عليه، ويمسك بخناقه، فإما أن يقول: لا إله إلا الله، فينجو، وإمـا أن يضـرب عنقـه. يقـول كرومر، وهو المبشر والمستعمر الحاقد على الإسلام: (أما الجهاد فهو فكرة العدوان ذاتها، أعطاها الإسلام صبغة شرعية، كي يدفع بها المسلم لمهاجمة غير المسلم، في وقت أمن على نفسه، وماله وعرضه، إنها فكرة الغدر وتشجيع العدوان) [3].

لقد تفنن الإعلام الغربي في إبراز كلمة (الجهاد)، ووضعها في إطار مقزز منفر ليصرف المسلمين عنها أولا، وليشوه صورة المسلمين وتاريخهم وأفكارهم عند الأمم الأخرى من ناحية ثانية.

هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) أنتجت فيلما عرضته بكل اللغات عن الجهاد، اقتطعت منظر دماء من هنا، ومنظر خطيب مسجد ينادي ويقول: الدم الدم.. فقرة من هنا، ومنظر من هناك، ومتحدث هنا، وخطيب هناك، يتحدث فقط عن الدم.. أنتجته وعرضته لتشويه فكرة الجهاد عند المسلمين.

والإعلام اليوم هو الحرب الحقيقية التي تدخل كل بيت، وتغير مفاهيم الناس. وفي عرف هذا الإعلام أن كل مسلم متطرف وإرهابي، على الجميع أن يكونوا على حذر منه.. فإذا جاء اليهود من أنحاء العالم لينتزعوا فلسطين من أهلها فهم ديمقراطيون مسالمون.. أما إذا سُحق المسلمون وقتلوا وشردوا وطردوا من بيوتهم، وتاهوا في كل أرض، وعملوا على استرجاع أرضهم ومقدساتهم، فهم مجاهدون مجرمون متطرفون..

ولقد تأثر المسلمون (سلبا) بهذا الهجوم الغربي الشرس، وذهبوا في فهمهم للجهاد مذاهب شتى:

• فريق منهم، يعتقد كفر من ارتكب المعصية، ومن هؤلاء العصاة الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ويمتد هذا الحكم ليشمل أعوان الحاكم من شرطة وجنود وعمال ومستخدمين.. وقد يُقتل في أتون هذه الفتنة بعض البرءاء الآمنين.. ويرى هؤلاء أن الكفار (أي الحكام) تترسوا بهم.. فلا بأس من اقتحام هذا الترس.

في أيام الإسلام الأولى وجدت مثل هذه الفئة.. كانت صائمة قائمة.. ولكنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.. أحلوا قتل المسلمين بمعصية توهموها.. وكانت من جرائمهم قتل الخليفة العظيم علي بن أبي طالبرضي الله عنه وهو قائم يصلي في المحراب!

وفي أيامنا هذه وجدت مثل هذه الفئات.. التي تقتل وتتحرى القتل.. يفجرون القطارات، وينسفون العمارات على من فيها.. وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا.. وأنهم هم المجاهدون. وهذه الأفعال التي ينفذها هؤلاء جهلا بأحكام الدين.. هي المبرر الذي يستند إليه كثير من حكام السوء للبطش بالحركات الإسلامية الواعية الفاهمة.. وهي كذلك الدليل الذي يريده المكر الغربي ليشوه فكرة الجهاد ويصف جميع المسلمين بالعنف والإرهاب.

• وفريق آخر، بدافع رد الفعل، يطالب بحذف كلمة الجهاد من لغة الخطاب العام وكأنها وصمة. وكأن الشعوب المسلمة ليس لها أن ترفع راية الجهاد في وجه من يغتصب الأرض والعرض، بل ويذهبون إلى أن وضع الجهاد يتعارض ويتناقض مع السلام. وهذا بالضبط ما يسعى له العدو، وهو ما طالب به اليهودي المحتل اسحق شامير في مؤتمر مدريد بإلغاء كلمة الجهاد[4].

هذه الأفعال، وما اقتضته من ردود أفعال، جعلت من الضرورة البالغة وضع هذا الركن الهام من أركان الدين، وهذه الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، تحت المجهر.. والعودة به إلى الأصول وإلى الأحكام الفقهية التي قررها فقهاء الأمة وأئمة الدين.

[1] الحج- 78.

[2] مسلم.

[3] نظرات في رسالة التعاليم- محمد عبد الله الخطيب، ص- 241.

[4] قضية الإرهاب (الرؤية والعلاج)- جمعة أمين، ص- 42.

المفهوم الواسع للجهاد

يقول الإمام حسن البنا في هذا الركن: وأول مراتب الجهاد إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك: جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة الحق عند السلطان الجائر.

ويقول الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد: الجهاد على أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

فجهاد النفس، وهو أيضا على أربع مراتب:

  • أن يجاهدها على تعلم الهدى.
  • وعلى العمل به بعد علمه.
  • وعلى الدعوة إليه.
  • وعلى الصبر على مشاق الدعوة.

فإذا استكمل المسلم هذه الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به، ويعلمه، ويدعو إليه.

وجهاد الشيطان، وهو على مرتبتين:

جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات.

وجهاده على دفع ما يلقي من الشهوات.

فالأول يكون بعدة اليقين، والثاني يكون بعدة الصبر، قال تعالى: )وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون( [1].

وجهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب:

  • بالقلب .
  • واللسان .
  • والمال .
  • والنفس.

وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

وجهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع، وهو ثلاث مراتب:

الأولى باليد إذا قدر،

فإن عجز انتقل إلى اللسان،

فأن عجز جاهد بقلبه.

ويتابع ابن القيم فيقول: فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد و(من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق). ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجون لرحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة، قال تعالى: )إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم( [2].

وكما أن الإيمان فرض على كل أحد، ففرض عليه هجرتان في كل وقت: هجرة إلى الله عز وجل بالإخلاص، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة، وفرض عليه جهاد نفسه وشيطانه فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد. وأما جهاد الكفار والمنافقين، فقد يكتفى فيه ببعض الأمة[3].

[1] السجدة- 24.

[2] البقرة- 218.

[3] مختصر زاد المعاد- ابن القيم، ص- (181-183).

الجهاد عزنا

واتساقا مع هذا الفهم الأصيل الواسع لمعنى الجهاد وأنواعه كتب الإمام حسن البنا في رسالة هل نحن قوم عمليون فقال:

• من الجهاد في الإسلام: عاطفة حية قوية، تفيض حنانا إلى عز الإسلام ومجده، وتهفو شوقا إلى سلطانه وقوته، وتبكي حزنا على ما وصل إليه المسلمون من ضعف وما وقعوا فيه من مهانة، وتشتعل ألما على هذا الحال الذي لا يرضي الله ولا يرضي محمداصلى الله عليه وسلم ولا يرضي نفسا مسلمة، وقلبا مؤمنا، (ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم).

• ومن الجهاد في سبيل الله: أن يحملك هذا الهم الدائم والجوى اللاحق على التفكير الجدي في طريق النجاة، وتلمس سبيل الخلاص، وقضاء وقت طويل في فكرة عميقة تمحص بها سبل العمل، وتتلمس فيها أوجه الحيل لعلك تجد لأمتك منفذا أو تصادف منقذا، ونية المرء خير من عمله، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

• ومن الجهاد في سبيل الله: أن تنزل عن بعض وقتك، وبعض مالك وبعض مطالب نفسك لخير الإسلام وبني المسلمين فإن كنت قائدا ففي مطالب القيادة تنفق، وإن كنت تابعا ففي مساعدة الداعين تفعل، وفي كل خير، )وكلا وعد الله الحسنى( [2].

• ومن الجهاد في سبيل الله: أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر وأن تنصح لله ورسوله، ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأن تدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وما ترك قوم التناصح إلا ذلوا، وما أهملوا التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، إلا خذلوا، {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون( [3].

• ومن الجهاد في سبيل الله: أن تتنكر لمن تنكر لدينه، وأن تقاطع من عادى الله ورسوله، فلا يكون بينك وبينه صلة ولا معاملة، ولا مؤاكلة ولا مشاربة، وفي الحديث (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض) [4].

• ومن الجهاد في سبيل الله: أن تكون جنديا لله، تقف له نفسك ومالك، لا تبقي على ذلك من شيء، فإذا هدد مجد الإسلام وديست كرامة الإسلام، ودوى نفير النهضة لاستعادة مجد الإسلام، كنت أول مجيب للنداء، وأول متقدم للجهاد )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم( [5].

• ومن الجهاد في سبيل الله: أن تعمل على إقامة ميزان العدل، وإصلاح شؤون الخلق، وإنصاف المظلوم، والضرب على يد الظالم مهما كان مركزه وسلطانه.

جاء في الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر) [6]. وجاء أيضا: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) [7].

• ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى: إن لم توفق إلى شيء من ذلك كله: أن تحب المجاهدين من كل قلبك، وتنصح لهم بمحض رأيك، وقد كتب الله لك بذلك الأجر، وآخلاك من التبعة، ولا تكن غير ذلك فيطبع الله على قلبك، ويؤاخذك أشد المؤاخذة. قال تعالى: )ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا ألاّ يجدوا ما ينفقون. إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون( [8].

[1] هل نحن قوم عمليون- حسن البنا، ص- 80.

[2] الحديد- 10.

[3] المائدة - 79.

[4] أبو داود.

[5] التوبة-111.

[6] البخاري.

[7] ابن ماجه بإسناد صحيح.

[8] التوبة- ( 91-93).

القتال في سبيل الله

• يفهم مما تقدم أن من أهم أنواع الجهاد التي شرعت مع فجر الإسلام، مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، ومن ورائه أصحابه، بدعوتهم إلى الحق، وتفنيد ما كانوا يعكفون عليه من تقليد الآباء والأجداد..

• وإن من أهم أنواعه ثباته وثباتهم معه على الصدع بكلمة الحق، مهما جرّ ذلك عليهم من أنواع الشدة والإيذاء..

• وإن من أهم أنواعه مضيّهم في التبصير بكتاب الله والتعريف به والتنبيه إلى إخباراته وأحكامه، دون أي مبالاة بالأخطار التي كانت تحدق من جراء ذلك بهم.. كيف لا وقد سماه الله تعالى جهادا في صريح بيانه، عندما قال لرسوله وهو لا يزال في مكة: )فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا( [1]. أي وجاهدهم بالقرآن وحججه جهادا كبيرا.

وكل هذه الأنواع التي تعدّ أسّ الجهاد وجوهره، والتي لا شأن لها بالقتال، هو المعنيّ بكلمة (جاهدوا) في قوله تعالى في سورة النحل (وهي مكية) [2]: ) ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا، ثم جاهدوا وصبروا، إن ربك من بعدها لغفور رحيم( [3]. ومما يؤكد هذه الحقيقة ويزيدها وضوحا، قوله صلى الله عليه وسلم : (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) [4]. وقوله صلى الله عليه وسلم : (أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله تعالى) [5].

فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بقيت هذه الأصول الجهادية مشروعة كما هي.. واستمر -ومعه أصحابه- في نشر الإسلام والتعريف به من منطلق هذا الأصل الجهادي الراسخ.

غير أن ظروفاً جديدة نشأت مع استقراره صلى الله عليه وسلم في المدينة، اقتضت قيام المسلمين بواجبات إضافية في هذا المجال.

أما الظروف الجديدة فهي :

1- نشأة أول مجتمع إسلامي متماسك، ضمن نظام دولة وافية الشروط والأركان.

2- نشأة أول دار للإسلام، قامت على أرضها أول دولة إسلامية بكل مقوماتها الأساسية.

وأما الجديد الذي أضيف بسبب هذه الظروف، إلى أصول الجهاد الأولى: فهو ضرورة حماية المكاسب التي دخلت في حوزتهم، ويتم ذلك باتخاذ الأسباب التالية:

1- بتحصين الحدود وحراستها والمرابطة على الثغور، تحسباً لأي عدوان قد يتسرب ضد هذا المجتمع الجديد.

2- التصدي بالقتال لكل من أقبل يتربص بأي من مقومات هذه الدولة ونظامها، أو جاء طامعا بأي جزء من ديار الإسلام.

3- مقاتلة كل من أبى إلا أن يقاوم الدعوة الإسلامية السائرة على منهج التعريف والحوار (وهي الدعوة الجهادية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهض بها من قبل مع أصحابه، سلماً ودون أي حرب).

وإنما شرعت مقاتلة المقاومين لها اليوم، أي بعد الهجرة، لأن الدعوة الآن أصبحت مكلوءة بحماية دولة ورئيس مسؤول عنها.

4- مقاتلة من أصرّ من سكان الجزيرة العربية على عبادة الأوثان. بعد قيام المسلمين بواجب بيان حقيقة الإسلام لهم ودعوتهم إلى الإقلاع عن هذا الباطل الذي لا يقرّه منطق ولا عقل، والانصياع بدلا من ذلك لدين الله عزّ وجلّ. (على خلاف في ذلك بين الفقهاء) [6].

فما هي أسباب هذا الخلاف؟

أسباب الخلاف هي فهم متباين لبعض النصوص.

ففريق يقول:

• إن دعوة الناس إلى الإسلام عن طواعية ودون إلزام، إنما كانت في صدر الإسلام، أي قبل مشروعية الجهاد القتالي. ثم إن هذا الحكم نُسخ فيما بعد بآية السيف في قوله تعالى )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم( [7].

أي على المسلمين بعد انقضاء فترة الإنذار وهي أربعة أشهر، أن يقتلوا المشركين حيث وجدوهم، فإن تابوا (أي أسلموا) فخلوا سبيلهم.

• ويستند هذا الفريق إلى دليل آخر، هو الحديث الصحيح، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى) [8].

يرى هذا الفريق أن الحديث صريح في مقاتلة الناس كلهم.. وأن هذه المقاتلة لا تنتهي إلا عند غاية واحدة هي الإسلام.

• وفريق آخر فهم النصوص ذاتها بطريقة مختلفة فقال:

أن حكم دعوة الناس إلى الإسلام عن طواعية ودون إكراه باق، وأن الآيات التي تدل على ذلك محكمة وليست منسوخة. وأن حديث ابن عمر رضي الله عنه لا يتعارض مع هذا الفهم.. والدعوة الإسلامية لا يجوز أن تقترن بأي إكراه لا في حق الكتابيين ولا في حق غيرهم. والأمر بقتل المشركين في قوله تعالى: )فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم( [9] إنما هو لوصف الحرابة فيهم لا بسبب كفرهم. وبه قال الإمام مالك وأصحابه والأوزاعي وجمع كبير من الفقهاء[10].

قال الرازي في تفسيره الكبير: (إنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للمعذرة، قال بعد ذلك إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل عذر للكافر في الإقامة على كفره إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والإمتحان). يؤكد هذا قول ابن تيمية في آية )لا إكراه في الدين(: (جمهور السلف على أنها ليست منسوخة ولا مخصوصة، وإنما النص عام فلا تكره أحدا على الدين... ولا يقدر أحد قط أن ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره أحدا على الإسلام، لا ممتنعا ولا مقدورا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا) [11] .

• وتشعبت الآراء بهذا الفريق، فقال بعضهم:

إن كلمة (الناس) في الحديث.. تعني الوثنيين ومن في حكمهم كالملاحدة. وأما من عداهم فهم المعنيون أصلا بقوله تعالى: )لا إكراه في الدين( [12]. وقوله تعالى: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين( [13]. وبالآيات الكثيرة الدالة على الأمر بالدعوة دون إكراه[14].

• ورأى آخرون:

أن الآية )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم( [15]، فغاية ما تدل عليه هو وجوب قتال المشركين بعد انسلاخ الأشهر الحرم. ولكن هل في الآية ما يدل على أن موجب القتال هو الكفر دون غيره؟

لننظر في الآية التي تلي هذا النص مباشرة وهي قوله تعالى: )وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون( [16].

إذ لو كانت غاية القتل هي التوبة من الكفر حصرا دون غيره، لتناقض ذلك مع الحكم بإجارة المشرك إن هو طلب ذلك، ولتناقض مع الحكم بإيصاله بعد ذلك مع الحماية والرعاية له إلى حيث يجد طمأنينته ومأمنه، على الرغم من أنه لا يزال متلبسا بكفره، ولم ينته إلى غاية التوبة منه.

• ويدعّم أصحاب هذا الرأي حجتهم بالنظر في قوله تعالى: )ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول، وهم بدؤوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين( [17].

فقد أعلنت هذه الآية حيثية الأمر بقتل المشركين وأوضحت سبب ذلك، وهو نكثهم الإيمان التي التزموا بها، وخرقهم المعاهدة التي تمت بينهم وبين المسلمين، وبدؤهم بالغدر والعدوان. وهذا تصريح حاسم بأن موجب القتل الذي نزلت به آية السيف، إنما هو الحرابة.

• وأما ما جرى عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكثير أيضا. من ذلك ما رواه سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأربعة أشهر فيسمع كلام الله أو يأتيه بحاجة، قتل؟ فقال علي: لا، إن الله تبارك وتعالى يقول: )وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه(.

• وروى الحاكم في صحيحه من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: (قدمت قُتَيْلة بنت عبد العزى على بنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا وثياب وسمن وأقط، فلم تقبل هداياها ولم تدخلها منزلها، فسألت عائشة لها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فتلا عليها قول الله عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين( [18]. فأدخلتها عندئذ منزلها وقبلت هداياها) [19].

ولعلك لن تجد أصرح ولا أبين، من هذه الآية التي استشهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، دلالة على أن المشركين الذين نزلت آية القتال في حقهم، إنما أنزل الله في حقهم ذلك للحرابة التي كانوا يمارسونها لا للكفر الذي كانوا يتصفون به.

• تبقى مشكلة الدليل الثاني، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله..) الحديث. وأقول في الجواب عنها:

إن المشكلة تنشأ في ذهن الباحث في هذا الموضوع، من عدم تنبهه إلى الفرق بين كلمتي (أُقاتل) و(أَقتل) مع أن بينهما فرقا كبيرا لا يخفى على العربي المتأمل.

لقد كان الحديث مشكلا حقا لو كان نصه هكذا: (أمرت أن أقتل الناس حتى...)، أما كلمة (أقاتل) على وزن أفاعل تدل على المشاركة. فهي لا تصدق إلا تعبيرا عن مقاومةٍ من طرفين، بل هي لا تصدق إلا تعبيرا عن مقاومةٍ لبادئ سبق إلى قصد القتل. فالمقاوم للبادئ هو الذي يسمى مقاتلا. أما البادئ فهو أبعد ما يكون عن أن يسمى مقاتلا، بل هو في الحقيقة يسمى قاتلا بالتوجه والهجوم أو بالفعل والتنفيذ. إذ لا ينشأ معنى الاشتراك إلا لدى نهوض الثاني للمقاومة والدفاع.

وبهذا يصبح معنى الحديث على ضوء ما تقدم: أمرت أن أصدّ أيَّ عدوان على دعوتي الناس إلى الإيمان بوحدانية الله، ولو لم يتحقق صدّ العدوان على هذه الدعوة إلا بقتال المعادين والمعتدين فذلك واجب أمرني الله به ولا محيص عنه.

وهذا من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي) [20].

• ولقد حكى البيهقي عن الإمام الشافعي قوله: (ليس القتال من القتل بسبيل. وقد يحلّ قتال الرجل ولا يحلّ قتله).

وهكذا تبقى النصوص الآمرة بالدعوة والإبلاغ مع ترك المدعوين أحرارا إن شاؤوا استجابوا وآمنوا، وإن شاؤوا ركبوا رؤوسهم بالجحد والكفران، ناصعة الدلالة، لا تحوم حولها أي شبهة ولا يتسرب إليها أي إشكال[21].

هل القتال لدرء الحرابة أم للقضاء على الكفر؟

ذهب الجمهور، وهم الحنفية والمالكية والحنابلة، إلى أن علة الجهاد القتالي هي درء الحرابة.

وذهب الشافعي في الأظهر من قوليه إلى أن العلة هي الكفر، وهو مذهب ابن حزم أيضا[22].

دليل الجمهور، قوله تعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين( [23].

وقوله تعالى: )ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول، وهم بدؤوكم أول مرة( [24].

وقوله تعالى: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون( [25].

وقوله تعالى: )وقاتلوا المشركين كافة، كما يقاتلونكم كافة( [26].

فهذه الآيات صريحة الدلالة على أن علة الجهاد القتالي للكافرين هي الحرابة.

وأما الأحاديث فنذكر منها

• في الحديث عن حنظلة الكاتب قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على امرأة مقتولة قد اجتمع الناس عليها، فأفرجوا له، فقال: ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل. ثم قال لرجل: انطلق إلى خالد بن الوليد، فقل له إن رسول الله يأمرك يقول: لا تقتلن ذرية (أي النساء) ولا عسيفا (أجيرا) [27].

• وفي الحديث عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (انطلقوا باسم الله، ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) [28].

ومناط الاستشهاد في هذه الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مقاتلة غير الذين يواجهون المسلمين بالعدوان والقتال وإن كانوا كافرين.

وأما دليل الشافعية والظاهرية

هو آية السيف التي اعتبروها ناسخة لما سبقها من الآيات.. وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.. وقد تحدثنا عنهم وبينا ضعف موقفهم[29].

معنى الحرابة وسبل مقاومتها

وإذا كان القتال في سبيل الله، محصورا في مقاومة الحرابة ودرء شرها عن المسلمين، فماذا تعني هذه الحرابة.. وكيف نفهمها في ظل مواقف ونصوص تدل على غير ذلك؟

• كيف نوفق بين هذا الرأي وبين قوله صلى الله عليه وسلم عندما انصرف من غزوة الأحزاب: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) [30].

• أو في الموقف من غزوة خيبر التي فاجأ المسلمون بها اليهود.

• أو في غزوة مؤتة التي بدأها المسلمون في قتالهم للروم.

يقول الشيخ البوطي:

إن سبب هذا الإشكال، يعود إلى التفسير غير الدقيق لكلمة الحرابة. إن الحرابة ليست محصورة في وقوع عدوان فعلي على المسلمين، بل الحرابة تنشأ مع ظهور قصد عدواني، ثم إنها قد تتطور من القصد إلى الكيد والتخطيط، ثم إنها قد تنتهي بمباغتة عدوانية. وهذا المعنى هو المعتمد اليوم في تعامل الدول بعضها مع بعض. فإذا تبين المسلمون (بالدليل القاطع) أن جهة مّا تبيت العدوان ضدهم.. فهل ينتظرون حتى يبدأ هؤلاء بالهجوم.. أم أن للمسلمين الحق في التصدي لهذا العدوان؟ الجواب المنطقي هو أن للمسلمين الحق في التصدي بل الهجوم على من بيتوا في أنفسهم هذا القصد. وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.. يسابق بذلك كيد المشركين ومن معهم، كي يفوت عليهم الفرصة.

• لقد أحيط رسول الله صلى الله عليه وسلم علما بأن بني المصطلق يخططون لعدوان على المسلمين. فلما تأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، بدأ فخرج عليهم[31].

• وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حلفا خفيا قد تم بين يهود خيبر وقبيلة غطفان، لمحاربة المسلمين.. فكان أن أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبيتهم بغارة مباغتة.

وقد روى ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكر في واد يقال له الرجيع، يقع بين اليهود وبين غطفان، حتى يفسد عليهم خطتهم[32].

• وأما غزوة مؤتة، فقد جاءت بعد عدوان وحشي من ملك بصرى، عندما أخذته العزة، فعدا على رسول رسول الله إليه، الحارث بن عمير الأزدي، فقتله وقد كان الرسل، ولا يزالون، في عرف العالم كله، فوق مستوى التعرض لأي إيذاء.

وقد كان هذا أظهر دليل على قصد العدوان لدى الرومان.. وعميلهم بالشام شرحبيل بن عمرو، ضد الإسلام والمسلمين.

وهكذا فالجهاد الذي شرعه الله درءا للحرابة بأشكالها، قد يتخذ في بعض الأحيان طريقة الحرب الدفاعية (مثل غزوة أحد والأحزاب وحنين)، وقد يتخذ أحيانا أخرى طريقة الحرب الهجومية (مثل غزوة بني المصطلق، وخيبر، ومؤتة، وتبوك) [33].

إعلان الجهاد القتالي من أحكام الإمامة

يعد الجهاد القتالي من أحكام الإمامة، فلا يملك الإعلان عنه، ولا إدارة شؤونه وسياسته، ولا إنهائه بصلح أو أمان، إلا إمام المسلمين أو من يقوم مقامه. ولا بد أن ندرك أن الجهاد القتالي شيء، ومقاتلة الصائل شيء آخر. ولقد أفرد الفقهاء على اختلافهم، بابا للجهاد، وبابا آخر للصيال الذي هو هجوم إنسان أو فئة ما على حياة إنسان أو على ماله أو عرضه. وقد شرع الله عز وجل في هذه الحال دفاع الإنسان عن حياته وعن ماله وعن عرضه، ضمن حدود وآداب معينة، سواء كان المهاجم فردا من الناس أو فئة صغرت أو كبرت، بطريق قرصنة أو بقيادة دولة. ومقاتلة الصائل، داخلة في أحكام التبليغ لا في أحكام الإمامة. وأساس ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد) [34].

ويدخل في هذا الباب أيضا ما يسمى بحالة النفير العام، وهي أن يقتحم عدو أيا كان بلدة من بلاد المسلمين، فيجب على المسلمين جميعا أن يهبوا هبة رجل واحد، لدرء العدوان، ولا يتوقف وجوب ذلك على إذن الإمام.

ولكن ما الحكمة من كون الجهاد القتالي داخلا في أحكام الإمامة؟

الحكمة من ذلك أن هذا الواجب الخطير لا يمكن أن يحقق ثمرته المرجوة للمسلمين إلا إذا كانت قيادته بيد جهة ذات شوكة تتمتع بسلطة نافذة. بحيث تنقاد له الجموع وتستجيب له العسكر والجيوش من جهة المسلمين، وبحيث تسري من سلطانه النافذ هذا هيبة في أفئدة الأعداء والطامعين. ومهما كانت هذه الشوكة موجودة ذات فاعلية في جمع الكلمة وحشد القوى في وجه العدو، فإن جور الحاكم صاحب هذه الشوكة لا أثر له ولا ضرر منه، أمام ما يتمتع به من نفوذ جامع وسلطة تبعث الهيبة والرهبة في نفوس الأعداء. وفي المقابل مهما كان في فئات الناس وأفرادهم وعلمائهم من الورع في السلوك، والعدالة في التعامل، فإن شيئا من ذلك لا يقوم مقام الشوكة التي هي المطلوبة في هذا المقام، ومن ثم فلا يجوز لهم أن يتجاوزوه أو يخرجوا عليه بسبب جوره، ويجمعوا الناس على أنفسهم بسبب أرجحيتهم عليه في العدالة والاستقامة الدينية اللتين يتمتعون بها[35].

من هو الحاكم الذي يجوز الخروج عليه؟

يقول الإمام حسن الهضيبي: (قال البعض: إن الطاغوت مصطلح شرعي لا يسمى به إلا من كان كافرا مشركا. ولو صح هذا القول فإنه ولا بد - حتى يكون الواجب على كافة الناس الحكم بكفر الطاغوت وشركه - أن يكون معلنا بالكفر وآن يكون متبرئا من دين الإسلام جملة وعلانية بحيث لا يجوز الاختلاف في حقيقة صفته. أما من يظهر الإسلام ويأتي علنا شعائره ولكن يكون كفره من جهة تحتاج إلى علم ببعض أعماله وأقواله على حقيقتها وعلى حقيقة أمر الله تعالى فيها. فهذا في الأغلب مما تختلف فيه الآراء، ويخفى أمره على كثير من الناس خاصة عامتهم) [36].

ويقول الشيخ البوطي: إن الحاكم على كثرة من الناس مسلمة في دولة إسلامية، إذا أعلن خروجه عن الإسلام بكفر بواح صريح لا يحتمل التأويل، يجب الخروج عليه ونزع البيعة عن يده. فإذا اتخذ هذا الحاكم من الخارجين عليه موقف المقاومة بالقوة، فقد تلبس عندئذ بالحرابة فوق الكفر الذي أعلنه. وعلى المسلمين التصدي لمقاومته والوقوف في وجه عدوانه.

أما الحاكم المسلم الذي لم يتلبس بأي كفر صريح، فقد ذهب جماهير الفقهاء إلى أنه لا يجوز عزله لطروء الفسق عليه.

قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين[37].

وأساس هذا الإجماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم) [38].

والحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج على السلطان شبرا فمات، مات ميتة جاهلية) [39].

والحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدايتي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) [40].

وواضح أن هذه النصوص بعيدة كل البعد عن التكفير بالجملة الذي يطلقه البعض ويرتبون عليه مواقفهم في مقاومة الحاكم ومحاربته.

[1] الفرقان - 52.

[2] وخالفت قلة، فذهبت إلى أن هذه الآية مما نزل في المدينة.

[3] النحل - 110.

[4] أبو داود والترمذي وابن ماجة.

[5] الترمذي وابن حبان.

[6] الجهاد في الإسلام - د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص- (19-26) باختصار.

[7] التوبة- 5.

[8] الشيخان.

[9] التوبة- 5.

[10] أحكام القرآن لأبي بكر العربي 2: 889 (من كتاب الجهاد للبوطي، ص- 54).

[11] رسالة القتال- ابن تيمية، ص- 123.

[12] البقرة- 256.

[13] الممتحنة- 8.

[14] ممن ذهب إلى هذا الرأي الشافعية والحنفية وكثير من الحنابلة. مع اختلافهم في بعض التفاصيل (الجهاد للبوطي، ص- 54).

[15] التوبة - 5.

[16] التوبة- 6.

[17] التوبة- 13.

[18] الممتحنة- 8.

[19] أصل الحديث من رواية الشيخين.

[20] البخاري.

[21] الجهاد - د. سعيد رمضان البوطي، ص- (52 - 63)باختصار.

[22] بداية المجتهد لابن رشد 1: 369، والمغني لابن قدامة 9: 301، وفتح القدير لابن الهمام 5: 452، والشرح الصغير على أقرب المسالك 2: 275، ومغني المحتاج للشربيني 4: 234، والتحفة لابن حجر 9: 241 (عن كتاب الجهاد للبوطي، ص- 94).

[23] البقرة- 190.

[24] التوبة- 13.

[25] الممتحنة (8-9).

[26] التوبة- 36.

[27] ابن ماجة وأبو داود وأحمد، وقال الألباني حسن صحيح.

[28] أبو داود.

[29] الجهاد في الإسلام- البوطي ص- (98-107) باختصار.

[30] البخاري.

[31] سيرة ابن هشام 2: 290.

[32] ابن هشام 2: 330.

[33] الجهاد في الإسلام- د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص- (107-111).

[34] أبو داود والترمذي وابن ماجه.

[35] الجهاد - د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص- (107 - 117) باختصار.

[36] دعاة لا قضاة - الإمام حسن الهضيبي، ص - 216.

[37] الجهاد- البوطي، ص- (147 - 149) باختصار.

[38] متفق عليه.

[39] متفق عليه.

[40] مسلم.

وقفة مع ركن الجهاد

ولا بأس أن نقف بعض الوقفات القصيرة حول كلمات الإمام حسن البنا (رحمه الله) في ركن الجهاد..

1- فهو الفريضة الماضية إلى يوم القيامة.. بكل ما تتطلبه من إعداد واستعداد وتربية.. حتى يكون الداعية جندياً قوياً صادقاً متأهباً.. يلبي نداء دينه عندما يحتاجه.

2- والحديث الشريف: (من مات ولم يغز، ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية)..يعني استحضار نية الجهاد في سبيل الله في كل عمل يقوم به المسلم. وهذه النية الحية في نفس الإنسان.. تجعله أقرب إلى الله.. أقرب إلى ميدان الجهاد.. أبعد عن الدنيا وزخارفها.

3- أما مراتب الجهاد:

فأولها إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك الجهاد باللسان والقلم واليد، وكلمة الحق عند السلطان الجائر..

كل ذلك جهاد يوطد أمرالدعوة حسب القدرة.. وحسب الحاجة.. وإذا كانت البداية في القلب.. فعلى الداعية أن يتحسس قلبه ويسأل نفسه هل يشعر بالفتور والكسل؟ هل أصابه الملل؟ هل يحسب الأمور بمقاييس الدنيا؟ هل يموت فرقاً من أهل الباطل؟

4- ولا تحيا الدعوة إلا بالجهاد، وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها، وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها، وجزالة الثواب للعاملين فيها، )وجاهدوا في الله حق جهاده( [1].

إن دعوة الإسلام تواجه كل يوم عدوا، من شياطين الإنس والجن.. من مكر الأعداء وكيد العملاء.. من انحراف القادة والرؤساء ومن جهل الأبناء وتخاذل العلماء.. من ضعف دعاة الحق وركونهم للدنيا.. من الإعلام المنحرف.. والاقتصاد الربوي الجائر.. والحكم بغير ما أنزل الله.. من المشانق يعلق عليها الدعاة.. والسجون المفتوحة على مصاريعها للشرفاء.. والدعاة إلى الله مطالبون بأن لا ييأسوا فلا ييأس من رَوح الله داعيةٌ فاهم.. وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ولهم مقابل ذلك كله الجنة[2].

5- وإذا كان السلم هو المحور الذي تدور عليه شرائع الإسلام وأحكامه لقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة( [3].

غير أن السلم لا يوجد ولا يتنامى إلا في إطار العدل، والاهتمام بترسيخ دعائم العدل، لا يكون إلا بتحطيم تضاريس الظلم، ومن هنا كانت ضرورة الجهاد وأهميته.

جاء في الوثيقة الدستورية التي أقام رسول اللهصلى الله عليه وسلم على أساسها الدولة الإسلامية في المدينة قولهصلى الله عليه وسلم: (إن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم).

[1] الحج - 78.

[2] ركن الجهاد - د. علي عبد الحليم محمود. والجهاد هو السبيل - مصطفى مشهور (باختصار).

[3] البقرة- 208.

الركن الخامس - ركن التضحية

تقديم

يقول الإمام الشهيد حسن البنا في الركن الخامس من رسالة التعاليم:

وأريد بالتضحية: (بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية. وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه. ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل، والثواب الجميل.. ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم. قال تعالى: )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة( [1]. وقال عز وجل: )قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين( [2]. وقال تعالى: )ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح( [3]. وقال تعالى: )فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً( [4]. وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا).

[1] التوبة - 111.

[2] التوبة - 24.

[3] التوبة - 120.

[4] الفتح - 16.

مسؤولية المسلم

لقد حمّل الله تبارك وتعالى المسلمين أعظم تبعة وأثقل أمانة )وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا( [1].

والدعوة إلى الله تعالى، التي هي: (علم وعمل وإخلاص وجهاد)، تتطلب من الدعاة الشهداء على الناس، أن يبذلوا الوسع من أوقاتهم وأموالهم وأنفسهم، خالصة لوجه ربهم.. لا ينتظرون مقابل ذلك كله إلا مرضاته سبحانه وتعالى.. وبغير هذه التضحية الخالصة الغالية لا تقوم دعوة، ولا ينتصر دين، ولا يستمر جهاد.

التضحية بالنفس

قال تعالى: )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم( [2].

لقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم، ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم. كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها: لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة.. هكذا أدركها عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في بيعة العقبة الثانية. قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل.

هكذا.. (ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل).. لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين، انتهى أمرها، وأمضى عقدها، ولم يعد إلى مرد من سبيل. ومن أوفى بعهده من الله[3]؟

إن المجاهد المسلم، قد باع نفسه وأهله، وتجرد من عصبيته وقوميته، فهو لا يغزو لعصبية ولا يغلب لقومية ولا ينتصر لجنسية، ولكنه يعمل لله وحده لا شريك له.

جاء في الحديث: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أحب أن أجاهد في سبيل الله، وأحب أن يُرى موقفي.. فنزلت الآية الكريمة: )فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا( [4].

أرأيت كيف اعتبر الإسلام تطلع هذا الشخص إلى الثناء والمدح وهما من طبائع النفوس شركا خفيا يجب أن يتنزه عنه ويسمو بشرف الغاية النبيلة عنه ويجعل جهاده تضحية خالصة في سبيل الله.. مثله مثل ذلك الصحابي الذي كان يعانق الموت وهو يهتف: ركضا إلى الله بغير زاد..

والتضحية بالمال

سمع أبو الدحداح (الصحابي الجليل رضي الله عنه) قوله تعالى: )من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة( [5]. قال: يا رسول الله! وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله فيه ستمائة نخلة. فجاء أبو الدحداح فنادى زوجه: يا أم الدحداح! قالت: لبيك. قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل.

وكذلك فعل أبو بكر رضي الله عنه فقد تصدق بكل ماله.. وعندما يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله.

وهذا صهيب رضي الله عنه يضحي بكل ما يملك من أجل نصرة دين الله، فينزل الله تعالى فيه وفي أمثاله: )ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد( [6]. ويستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ربح البيع أبا يحيى.

وهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه الفتى الشاب الثري المدلل يضحي بكل شيء ويصبح آية من آيات الجهاد والتضحية للشباب المسلم في كل زمان.

وتاريخ الصحابة مليء بصفحات التضحية والفداء، والبذل والعطاء، من أجل نصرة دين الله.

وأولئك الصحابيات الجليلات يبذلن ويضحين من أجل الإسلام كذلك، فهذه خديجة، وأم سلمة، وأم سليم، ونسيبة، وأسماء... لهن مواقف مشهودة، وحياة عامرة بالتضحية الغالية[7].

والتضحية بالأوطان

وحب الأوطان وإلفتها والحنين إليها والإنعطاف نحوها، أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهة أخرى.

• قائد الدعوة محمد صلى الله عليه وسلم.. حين هجر موطنه في مكة، وهي أحب بلاد الله إليه، لم يكن فارا بنفسه، وإنما كان فرارا بدعوته التي وقفت قريش لها بكل سبيل.. فدعوته أحب إليه وأغلى عنده من كل الأوطان..

• وهذا بلال رضي الله عنه الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه، هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة:

ألا ليــت شعري هل أبيتـن ليلـة

بــواد وحولــي إذخر وجليل

وهــل أرِدَنْ يــوما ميـاه مجنة

وهـل يبدونْ لي شامة وطفيـل

هو حب الأوطان.. ولكن حب الدعوة والتضحية في سبيلها حب أكبر.

• واليوم لا تكاد تجد أرضا إلا وأصحاب الدعوة مشردون فيها.. اضطروا لترك أوطانهم ومراتع صباهم وذكرياتهم.. فلا معنى لإيمان لا يتبعه عمل، ولا فائدة في عقيدة لا تدفع صاحبها إلى تحقيقها والتضحية في سبيلها.

فالمسلم الحق هو من باع لله نفسه وماله ووقته ووطنه فليس له فيها شيء، وإنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس. )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة( [8].

لا جهاد بلا تضحية

هذه حقيقة يجب أن تعيها الأفئدة بكل صراحة ووضوح، ومن ظن أنه يمكنه أن يخدم الإسلام، ويساهم في رفع راية الدعوة، وهو يضن بروحه وماله ووقته فليراجع نفسه، وليقرأ كتاب الله جيدا، وليتأمل سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليا، ولينظر في التاريخ، فإنه سيخرج بحقيقة هي أوضح من الشمس في رابعة النهار: (فلا حياة للدعوة إلا بالجهاد، ولا جهاد بلا تضحية).

تضحية مأجورة

ومما يطمئن المؤمن، ويدفعه للبذل والتضحية أن ما يفعله لا يضيع بل يقابل بالإحسان، وأعظم الجزاء، وأجزل العطاء من الله تعالى، فهو القائل: )وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين( [9]، والقائل: )ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون( [10].

إن أي شيء يبذله المسلم يؤجر عليه سواء كان صغيرا أو كبيرا.. قال تعالى: )ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون( [11].

إن كل ما يقدمه المرء من تحمل للجوع والعطش، والألم والتعب، والخطوات التي يمشيها من أجل الدعوة، وتغيظ أهل الكفر والطغيان، وكل ما يسهم به من أجل نصرة الإسلام قليلا كان أو كثيرا، صغيرا أو كبيرا يحفظه الله لعبده ويقابل الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة[12].

إثم القاعدين عن التضحية

وكما تكون التضحية مأجورة.. فإن القعود عنها والتقصير في أداء متطلباتها.. إثم يحاسب عليه المسلم.

أواصر الدم والنسب

قال تعالى: )قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين( [13].

تسبق هذه الآية آية أخرى تقول: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان(.

وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة. وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله. فلله الولاية الأولى، وفيها ترتبط البشرية جميعا، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك، والحبل مقطوع والعروة منقوضة.

ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ، ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاع الحياة ولذتها).. وفي الكفة الأخرى: حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله. الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته. الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب، وما يتبعه من تضييق وحرمان، وما يتبعه من ألم وتضحية.

وعلى الداعية صاحب العقيدة، أن يختار الله ورسوله والجهاد في سبيله.. وإلا تعرّض لمصير الفاسقين )والله لا يهدي القوم الفاسقين( [14].

التثاقل إلى الأرض

قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير( [15].

وهنا لفتة أخرى.. توضح مصير القاعدين المتثاقلين. )يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض( إنها ثقلة الأرض، وثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع.. ثقلة الراحة والاستقرار.. ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب.. ثقلة اللحم والدم والتراب..

)أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة(؟ وما يحجم ذو عقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من شعب النفاق).

)إلا تنفروا يعذبكم الله عذابا أليما(. والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والتضحية، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل.

)ويستبدل قوما غيركم(.. يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله. ولا يقام لكم وزن، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب[16].

ومنكم من يبخل

قال تعالى: )ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم( [17].

وهنا لفتة أخرى.. توضح مصير الذين يبخلون ولا ينفقون في سبيل الله.. وإذا وُجدت نماذج سامقة سجلت أروع صور العطاء والبذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء.. ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال. ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال!

)ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه(.. فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد، يوم يحشرون مجردين من كل ما يملكون، فلا يجدون إلا ذلك الرصيد المذخور.

)وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم(.. إن اختيار الله لكم لحمل دعوته تكريم ومنّ وعطاء. فإن لم تحاولوا أن تكونوا أهلا لهذا الفضل، وإذا لم تنهضوا بتكاليف هذه المكانة، وإذا لم تدركوا قيمة ما أعطيتم فيهون عليكم كل ما عداه.. فإن الله يسترد، ما وهب، ويختار غيركم لهذه المنّة ممن يقدر فضل الله.

إن الإيمان هبة عظيمة، لا يعدلها في هذا الوجود شيء، والحياة رخيصة رخيصة، والمال زهيد زهيد، ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن، وهو يتلقاه من الله[18].

لقد أدرك الإمام البنا (رحمه الله) هذه المعاني، وعلم العاقبة الوخيمة التي تنتظر القاعدين، فمن ثم أعلن بكل قوة وصراحة أن (من قعد عن التضحية معنا فهو آثم). يده في أيدينا للقيام بأمر هذا الدين العظيم، مضحين في سبيله بكل ما نملك من مال أو جاه، منحازين إليه على حساب وشائج الدم والنسب.. خائفين إن تولينا أن يستبدل بنا قوما آخرين.. والله لا يهدي القوم الفاسقين.

مواقف عملية

لقد ربى الإمام الشهيد إخوانه على أن يكونوا عمليين لا نظريين ولا جدليين، ولا أصحاب شعارات جوفاء. ومن ثم فقد أبلى الإخوان بلاء حسنا في مجال البذل والتضحية بكل غال وثمين، بالنفس والمال والوقت وكل شيء، واستطاعوا أن يحافظوا على رفع الراية، وأن ينهضوا بالأعباء الثقيلة مع أن أكثرهم رقاق الحال.

• فهذا يبيع دراجته ليسهم بثمنها في بناء دار الإخوان ومسجدهم في الإسماعيلية، ويذهب بعد ذلك كل ليلة ستة كيلو مترات ذهابا ومثلهاإيابا. ولا يذكر ذلك لأحد.

• وهذا أحد الإخوان المزارعين يسجل اسمه في كتائب المتطوعين ولا يكتفي بذلك بل يبيع جاموسته ليشتري بها سلاحا يقاتل به في فلسطين، فلما قال له رئيس المنطقة: يا أخي، دع الجاموسة للعيال، وحسبك أنك تطوعت بنفسك.. فقال له الفلاح البسيط العملاق: هل اشترى الله منا النفس وحدها، أم النفس والمال جميعا ليعطينا الجنة؟ )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة( [19].

• وسل أرض فلسطين، ومدن القناة تنبئك عن قصص البطولة، ومواقف التضحية والرجولة للإخوان[20].

• وحري بشباب اليوم أن يعرف كيف كانت تضحية السابقين من الإخوان، يقول الإمام الشهيد: (قليل من الناس من يعرف أن الداعية من دعاة الإخوان قد يخرج من عمله في عصر الخميس، فإذا هو في العشاء بالمنيا يحاضر الناس، وإذا هو في صلاة الجمعة يخطب بمنفلوط، فإذا هو في العصر يحاضر بأسيوط، وبعد العشاء يحاضر بسوهاج، ثم يعود أدراجه فإذا هو في الصباح الباكر في مركز عمله بالقاهرة قبل إخوانه من الموظفين.

أربع حفلات جامعات يحضرها الداعية من دعاة الإخوان في أطراف القطر في ثلاثين ساعة، ثم يعود أدراجه هادئ النفس مطمئن القلب يحمد الله على ما وفقه إليه ولا يشعر به إلا الذين استمعوه. هذا مجهود لو قام به غير الإخوان لملأ الدنيا صياحا ودعاية، لكن الإخوان.. يؤثرون ألا يراهم الناس إلا عاملين، فمن أقنعه العمل فبها، ومن لم يؤثر فيه العمل فلن يرشده القول.

قد يقضي الأخ شهرا أو شهرين بعيدا عن أهله وبيته وزوجه وولده يدعو إلى الله. هو في الليل محاضر وفي النهار مسافر، يوما بحزوى ويوما بالعقيق، فيلقي أكثر من ستين محاضرة من شرق القطر إلى غربه، وقد تضم الحفلات التي يحاضر فيها الآلاف من مختلف الطبقات، ثم هو بعد ذلك يوصي ألا يكون ذلك محل دعاية أو إعلان) [21].

أخي المسلم

تلك هي التضحية المطلوبة.

وهذه منزلتها العالية.

وذلك عظيم أجرها، وكذلك إثم القاعدين عنها.

فأعدوا للأمر عدته. واجعلوا الدعوة في المقدمة دائما، وكيفوا كل شيء لها، وطوعوا كل شيء من أجلها، وجندوا في سبيلها أنفسكم وأموالكم وأوقاتكم وأعمالكم وكل شيء عندكم، وستعترض طريقكم عقبات كثيرة.. تحاول تثبيط وتوهين عزيمتكم.. فلا تهنوا ولا تضعفوا وتذكروا دائما قول الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون( [22].

واعلموا أن هذه الدعوة لا يحملها إلا الرجال المخلصون الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا.

[1] البقرة - 143.

[2] التوبة - 111.

[3] في ظلال القرآن - سيد قطب 3: 1716.

[4] الكهف- 110.

[5] البقرة - 245.

[6] البقرة - 207

[7] نظرات في رسالة التعليم - محمد عبد الله الخطيب، ص- 256.

[8] التوبة- 111.

[9] سبأ - 39.

[10] آل عمران - 157.

[11] التوبة - (120-121).

[12] نظرات في رسالة التعاليم (المرجع السابق)، ص- (257-258).

[13] التوبة - 24.

[14] في ظلال القرآن - سيد قطب 3: 1616.

[15] التوبة- (38-39).

[16] في ظلال القرآن - سيد قطب 3: 1656.

[17] محمد - 38.

[18] في ظلال القرآن - سيد قطب 6: 3304.

[19] التوبة - 111.

[20] انظر كتاب الإخوان المسلمون في فلسطين- كامل الشريف .

[21] (رسالة المؤتمر الخامس، ص- (163-164)، وكتاب نظرات في رسالة التعاليم ( المرجع السابق)، ص- (258-264) باختصار.

[22] الصف - (10-11).

الركن السادس - ركن الطاعة

بين يدي الموضوع

يقول الإمام حسن البنا في الركن السادس من أركان البيعة: (وأريد بالطاعة: امتثال الأمر وإنفاذه تواً في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وذلك أن مراحل الدعوة ثلاث:

التعريف: بنشر الفكرة العامة بين الناس، ونظام الدعوة في هذه المرحلة نظام الجمعيات الإدارية، ومهمتها العمل للخير العام، ووسيلتها الوعظ والإرشاد تارة، وإقامة المنشآت النافعة تارة أخرى، إلى غير ذلك من الوسائل العملية. وكل شعب الإخوان القائمة الآن تمثل هذه المرحلة من حياة الدعوة، وينظمها (القانون الأساسي)، وتشرحها رسائل الإخوان وجريدتهم، والدعوة في هذه المرحلة عامة.

ويتصل بالجماعة فيها كل من أراد من الناس متى رغب المساهمة في أعمالها ووعد بالمحافظة على مبادئها. وليست الطاعة التامة لازمة في هذه المرحلة بقدر ما يلزم فيها احترام النظام والمبادئ العامة للجماعة.

التكوين: باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد، وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة (في هذه المرحلة) صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العملية. وشعار هاتين الناحيتين دائما(أمر وطاعة) من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج، وتمثل الكتائب الإخوانية هذه المرحلة من حياة الدعوة، وتنظمها رسالة (المنهج) سابقا. وهذه (الرسالة) الآن. والدعوة فيها خاصة لا يتصل بها إلا من استعد استعدادا حقيقيا لتحمل أعباء جهاد طويل المدى كثير التبعات، وأول بوادر هذا الاستعداد (كمال الطاعة).

التنفيذ: والدعوة في هذه المرحلة جهاد لا هوادة معه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية. وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا (كمال الطاعة كذلك).

وعلى هذا بايع الصف الأول من الإخوان المسلمين في يوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1359هـ (نيسان - 1940).

وأنت بانضمامك إلى هذه الكتيبة، وتقبلك لهذه الرسالة، وتعهدك بهذه البيعة، تكون في الدور الثاني، وبالقرب من الدور الثالث. فقدر التبعة التي التزمتها وأعد نفسك للوفاء بها).

بين يدي الموضوع

الحديث عن ركن الطاعة في غاية الأهمية لأسباب:

السبب الأول: أن السمع والطاعة لازمتان من لوازم الاجتماع، وهما في الحقيقة بمثابة العمود الفقري من الإنسان لكل أمة من الأمم، حيث لا يتأتى دفع عدو، أو انتصار جيش إلا إذا كان السمع والطاعة خلقا متأصلا في كل فرد من أفراد هذه الأمة، والأمة متماسكة قوية ثابتة ما كانت لها الكلمة ومن ورائها كل فرد يسمع ويطيع. إنّ من يشيد الأساطيل، ويبني الطائرات ويجتهد في اختراع شتى أنواع الأسلحة، ثم لا يجد هذا الجيش الذي ينفذ مخطط الأمة ممثلا في رأي نوابها أو أصحاب شوراها، إنما يشيد قصرا فوق كثيب من رمال سرعان ما يتلاشى هذا الكثيب ويتهدم البناء[1].

(والجماعة التي لا يحكمها أمر واحد أو التي تغلب على أفرادها وطوائفها النزعات الفردية النافرة، لا تنجح في صدام، بل لا تشرِّف نفسها في حرب أو سلام. والأمم كلها - مؤمنها وكافرها - تعرف هذه الحقيقة، ولذلك قامت الجندية على الطاعة التامة) [2].

وما غزوة أحد عنا ببعيد، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرماة ألا يغادروا أماكنهم، حتى ولو تخطفتهم الطير، ولكنهم مع بشائر النصر للمسلمين، وهزيمة المشركين ظنوا أن المعركة قد انتهت، فنزلوا وتركوا أماكنهم، مخالفين بذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، مما حول خط سير المعركة وألحق بالمسلمين الأذى وذلك لتكون درسا على مر التاريخ يؤكد وجوب الطاعة ويحذر من مغبة المعصية.

وأعظم مثل نضربه للسمع والطاعة هو عمل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه حيث أتاه كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمصلحة قدرها يأمره فيه بأن يسلم إمرة الجيش لأبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، والراية بيد خالد والمسلمون يخوضون أعنف معركة عرفها التاريخ فجيش المسلمين لا يزيد على أربعين ألفا أمام جيش في الحديد والزرد من فرسان الرومان تعداده لا يقل عن مائتي ألف، ولم تضطرب الراية في يد خالد ولم يوقف القتال وإنما أمضى المعركة حتى أنهاها بانتصار جند الله ثم لم يذهب إلى خيمته حتى نادى أبا عبيدة وأمام الجميع أمسك الراية وألبسه عمامة القائد بيده وتلى أمر الخليفة وقال له أنا جنديك السامع المطيع يا أبا عبيدة.

والسبب الثاني: يتعلق بأفراد التجمع الذين ألزموا أنفسهم بأمور معينة.. فعليهم شرعا الوفاء بتعهداتهم.. ما لم يكن في الأمر معصية. وبالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين.. فعلى من ينضم إليهم أن يوفّي بأركان البيعة التي بايع عليها وألزم نفسه بها..

والسبب الثالث: أن المراحل التي يقطعها الأخ في خدمة دعوته.. لا تتعلق بمدة معينة يقضيها، أو بموقع معين يحتله، وإنما هي بمقدار وعيه بأهمية هذه الدعوة، وجنديته الحقة فيها، وكمال طاعته لقيادتها بالمعروف.

[1] نظرات في رسالة التعاليم- محمد عبد الله الخطيب، ص- 267.

[2] فقه السيرة - محمد الغزالي، ص- 268.

تعريف الطاعة

الطاعة هي امتثال الأمر. والمعصية ضدها، وهي مخالفة الأمر.

والطاعة أمر لابد منه لكل جماعة تريد أن تحقق أهدافها، سواء كانت تعمل للدين أو للدنيا.

قال تعالى: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا( [1].

قال القرطبي في تفسيره: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمر، فأمرهم بأداء الأمانات، وأن يحكموا بين الناس بالعدل.. والآية الثانية نزلت في الرعية، فأمرهم بطاعة الله عزّ وجلّ أولا، ثم بطاعة رسوله ثانيا، ثم بطاعة الأمراء ثالثا، على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس.

إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر

فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر[2].

وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك) [3]. والمعنى أن يسمع المسلم ويطيع حتى لو شعر بأن في هذه الطاعة ما يفضّل به غيره على نفسه.

وفي الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا. وعلى ألا ننازع الأمر أهله) [4] ، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف) [5].

الطاعة أصل في العمل الجماعي

يجب على المسلم أن يروض نفسه على الطاعة. إذ العمل مع الغير لنشر الإسلام والدعوة إلى الله، يحتاج إلى فقه دقيق، وصبر جميل، وترويض للنفس، وقدر كبير من ضبط النفس، ونكران الذات والتواضع، وقابلية الانسجام مع سير المشتركين معه في العمل لنشر الإسلام، وقبول الرأي المخالف لرأيه إذا أقرته الجماعة المسلمة، أواختاره الرئيس، إلى غير ذلك من المعاني اللازمة لأي عمل جماعي إسلامي.

لهذا كله فليس كل مسلم يصلح للعمل الجماعي، لأنه ليس كل مسلم فيه المعاني اللازمة لهذا العمل. فقد يكون صالحا في نفسه لكنه لا يفقه معنى النظام والطاعة. كأن يعتبره تقييدا على حريته ونوعا من التعسف، أو يعتبر الطاعة مذلة واستكانة لا متابعة لأمر الله وإطاعة له. ومثل هذا المسلم قد ينفع للعمل بمفرده ولكنه يضر إذا عمل مع غيره[6].

(وإحسان الجندية كإحسان القيادة، فكما أن إصدار الأوامر يحتاج إلى حكمة، فإن إنفاذها يحتاج إلى كبح وكبت ولكن عقبى الطاعة في هذه الشؤون تعود على الجماعة بالخير الجزيل. وأسرع الناس إلى الشغب والتمرد من أقصوا عن الرئاسة وهم إليها طامحون) [7].

يقول الإمام البنا (رحمه الله) حين عالج هذا الموضوع: (والأخ الذي له أساليب خاصة به. وينظر إلى القيادة نظرة أقران، ولا يصغي لأرائها إلا قليلا، فإن الاعتماد عليه مخاطرة مهما بلغ من الصلاح، لأنه حينئذ يغري الجماعة بصلاحه ويفرقها بخلافه) [8].

[1] النساء - (58-59).

[2] تفسير ابن كثير 1: 491.

[3] مسلم.

[4] مسلم.

[5] مسلم.

[6] أصول الدعوة - د. عبد الكريم زيدان، ص- 467.

[7] فقه السيرة - محمد الغزالي، ص- 268.

[8] مذكرات الدعوة والداعية - الإمام حسن البنا، ص- 94.

إمامة كبرى وإمامة موقوتة

هناك إمامة كبرى وهي: (الخلافة، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع، ومهمتها: حراسة الدين وسياسة الدنيا به) [1] ، وطاعة هؤلاء واجبة. قال الإمام الطحاوي: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّ وجلّ فريضة مالم يأمروا بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة) [2].

وإمارة موقوتة أو محدودة كإمارة السفر، وإمارة الحج، وإمارة الجهاد، ولكل من هؤلاء حقوق وعليه واجبات. في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) [3]. وفي رواية: (لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمرّوا عليهم أحدهم) [4].

يقول ابن تيمية (رحمه الله) تعليقا على هذا الحديث: (فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوجب الإمارة في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات، كان هذا تنبيها على وجوب ذلك، فيما هو أكثر من ذلك) [5].

والأمير في الجماعات الإسلامية مثل أمير السفر، تجب له الطاعة بحكم البيعة التي التزم بها العضو التابع لهذه الجماعة.. فمن قبل نظام هذه الجماعة، والتزم تجاهها ببيعة، فعليه الوفاء بجميع الأركان التي بايع عليها ومن جملتها طاعة الأمير.

يستطيع هذا الفرد أن يفارق الجماعة الإسلامية التي التزم بها، إذا رأى في ذلك صلاحا لدينه ومصلحة لدعوته. والمفارق لأية جماعة إسلامية لا ينطبق عليه الحديث النبوي: (من فارق الجماعة شبرا فمات، مات ميتة جاهلية) [6] ، فالجماعة المقصودة في الحديث هي جماعة المسلمين.. أما الجماعات الإسلامية على اختلاف أسمائها فليست جماعة المسلمين.. ولكنها جماعات تسعى لتحقيق المنهج الرباني وفق خطة محددة ووسائل مشروعة معروفة. والمسلم تلزمه طاعة الخليفة ولا يستطيع شرعا مفارقة جماعة المسلمين.. أما في الجماعات الإسلامية أو غيرها فلا يلزمه إلا ما ألزم نفسه به.

طاعة أمير الجماعة

الإسلام يدعو إلى أن يكون أمير لأقل الجماعات وفي أقل الأغراض المباحة، فلأن يكون للجماعة المسلمة أمير أولى. وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) [7]. والحديث هنا يدل على مشروعية اختيار أمير للجماعة بل ووجوب هذا الاختيار لأن الحديث الشريف يقول: (فليؤمروا أحدهم) والأصل في الأمر أنه للوجوب. وهذا في أقل الجماعات وفي أقل الأغراض فكيف بالجماعة التي تقوم لخدمة الإسلام والدعوة إليه ويحتاج عملها إلى ضبط ونظام وتنظيم؟[8]. وطاعة الجماعة المسلمة لأميرها هي طاعة لله ولرسوله.

ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله.، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) [9]. وخلاصة ما جاء في شرح هذا الحديث لابن حجر العسقلاني: (أن من يتولى إمرة شيء بموجب الشرع ويقضي بموجب الشرع، فهو يعتبر أميرا من قبل الشرع، وطاعته واجبة. فمن أطاعه فقد أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بطاعة مثل هذا الأمير. ومن أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، . ومن يعص الأمير المذكور فإنه يعص الله ورسوله) [10].

فالطاعة إذن، وكما يراها الإمام البنا، امتثال الجندي أمر قائده وانقياده تواً واتباعه دون تجاوز ودون إبطاء أو تراخ، وفي كل حال من دون تعلل بعسر يقعد أو يسر يلهي. وتكون الطاعة كذلك فيما ينشط له الإنسان من عمل سهل عليه ومحبب إليه، أو ما يكرهه من عمل يشق عليه ويضيق به، ولا يحب أن يعمله. ولا تكون الطاعة طاعة على وجهها الصحيح إلا إذا امتثل الطائع وأنفذ في الحالتين معا. أي سواء أكان محبا للعمل نشاطاً إليه، وكان هذا العمل يسيرا عليه. أم كان كارها للعمل صادفا عنه، وكان العمل عسيرا عليه[11].

ولقد أوضح هذا المفهوم الإمام أبو الأعلى المودودي (رحمه الله) إذ يقول: (من الوجهة الدينية الخالصة. فإن طاعة أفراد الجماعة لأميرهم في المعروف جزء من طاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الإنسان لم يقم بأمر هذه الدعوة إلا مع الاعتقاد بأنه إنما يقوم بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يرض بأحد أميرا على نفسه إلا ابتغاء وجه الله وتقربا إليه، فهو بطاعته لأميره في أوامره المشروعة إنما يطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في حقيقة الأمر، ويكون مبادرا إلى ذلك على قدر ما يكون اتصاله بالله ورسوله. وطاعة الأخ هذه بما أنها لله فأجره عند الله عظيم) [12].

أركان البيعة

والبيعة تكون للرئيس العام على السمع والطاعة في غير معصية، وحسب الاستطاعة. وعليه القيام بالواجب من أجل الوصول إلى الأهداف المحددة، فإن حصلت البيعة وجب السمع والطاعة من الأفراد. والوفاء بالبيعة واجب والغدر بها حرام، والتحلل منها جائز ويكون ذلك بأن يطلب المبايع من الرئيس أو الأمير أن يحله من بيعته حتى يتحلل من لوازمها[13].

[1] الأحكام السلطانية - الماوردي، ص- 16.

[2] العقيدة الطحاوية، ص- 429.

[3] أبو داود.

[4] أحمد.

[5] السياسة الشرعية ومجموعة الفتاوى 82: 391.

[6] البخاري.

[7] أبو داود.

[8] السنن الإلهية، - د. عبد الكريم زيدان، ص- 156.

[9] البخاري.

[10] السنن الإلهية - د. عبد الكريم زيدان، ص- 155.

[11] ركن الطاعة - د. علي عبد الحليم محمود، ص- 178.

[12] تذكرة دعاة الإسلام- أبو الأعلى المودودي، ص- 94.

[13] السلوك الاجتماعي في الإسلام - الشيخ حسن أيوب، ص- 460.

الطاعة والمبررات

• يتصور بعض الناس أن صدور الأمر من ولي الأمر والاستجابة له بالسمع والطاعة هو تعطيل للشورى. وهذا التصور غير صحيح وبالتالي فإن ما بني عليه غير صحيح كذلك. والصحيح أن كل ولي أمر لعمل من الأعمال ما دام يفقه دينه ويعرف ما أحل الله وما حرم -وقيادات العمل الإسلامي من هذا الصنف- لا يجوز له أن يصدر أمرا لمن يليه من الناس إلا بعد أن يطرحه على بساط الشورى ليسمع فيه رأي أهل العلم والاختصاص والخبرة. ويجري فيه حوارا ومناقشة ومدارسة. ثم يؤخذ فيه الرأي بعد إيضاح أبعاده كلها بحيث تحسم الشورى التوجه فيه إلى أي احتمال، (فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ... التنفيذ في عزم وحسم.. ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد. فهذا مآله الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي.. وإنما هو رأي وشورى وعزم ومضاء) [1].

• وقد يتصور البعض أن الإسلام كفل حرية الرأي، وأن الأمة أو الجماعة الإسلامية لا يمكن أن تتقدم إلا في ظل قبول الرأي والرأي الآخر.. وهذا تصور صحيح.. ولكن الخطأ يقع -في بعض الأحيان- في التطبيق.. فحق الأفراد في إبداء آرائهم في تصرفات الخليفة أو الأمير سواء كان أمير سفر أو حج أو أمير جماعة إسلامية له حدود وآداب وضوابط هي:

1- أن يكون قصد صاحبه بذل النصح الخالص للمسؤول، في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) [2].

فلا يجوز للفرد أن يقصد في بيان رأيه في تصرفات المسؤول التشهير به أو تكبير سيئاته، أو انتقاصه، أو أن يجرّئ الناس عليه. أو نحو ذلك من المقاصد الباطلة التي لا يراد بها وجه الله ولا الخير للمنصوح ولا المصلحة للجماعة.

2- أن يكون بيان المسلم لرأيه في تصرفات المسؤولين على أساس من العلم والفقه، فلا يجوز أن ينكر عليهم في الأمور الاجتهادية، لأن رأيه ليس أولى من رأيهم ما دام الأمر اجتهاديا.

• وقد يتصور البعض أن الطاعة أنواع.. وأن الطاعة الشرعية الواجبة هي للخليفة ولجماعة المسلمين فقط.. وهذا تصور خاطئ.. فكل أمر اجتهادي يصدره الحاكم أو مسؤول، فيه مصلحة للناس.. فالطاعة فيه واجبة..

إن جلب المصالح ودفع المفاسد في المجتمع المسلم لا يمكن أن يتحقق إلا بطاعة، وما لم تجلب المصالح ضاع الناس وما ينفعهم، وما لم تدفع المفاسد عن الناس أصاب الناس كثير من الضرر. ولنا أن نتصور ما قيمة الأمر بلا طاعة وما هي فائدته أو إيجابيته؟ ولنا أن نتصور جماعة بغير طاعة من أفرادها لقيادتها، كيف تكون هذه الجماعة وكيف تصل إلى تحقيق أي هدف من أهدافها[3].

• وليحرص المسلم الملتزم على الطاعة.. فالفتنة هي البديل. والمؤمن قد تخفى عليه مقدمات الفتنة فلا يحس بها إلا حين تقع، ذكر الحافظ بن حجر ما أخرجه الإمام أحمد والبزار من طريق مطرف بن عبد الله قال: (قلنا للزبير - يعني في قصة الجمل- يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة الذي قتـل - يعني عثمان- بالمدينة، ثم جئتم تطالبون بدمه -يعني بالبصرة-؟ فقال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة( [4]، لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت) [5].

نعم.. إن أشخاص الفتنة قد لا يحسون بأنها فتنة إلا حين يرون نتائجها فيقفون ويأسفون ولكن بعد فوات الأوان.

(قد يتصور الفرد في الجماعة أن عملا ما جيد ونافع فيسارع إليه خلافا لسير الجماعة ومقتضيات هذا السير، فيقع الاضطراب ويحصل الضرر من حيث أراد ذلك الفرد النفع، وقد يكون هذا الفرد حسن النية والقصد راغبا في الأجر، ولكن نتائج الأعمال في الدنيا مبنية على المقدمات والأسباب التي تتبعها النتائج والمسببات) [6].

إن السوء واحد، صحت النية أم فسدت.. يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الوحي قدانقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة) [7].

• وقد يبدو للفرد أحيانا أن الأمر المطلوب منه تنفيذه ليس له مبرراته الكافية أو دوافعه، فلا يجوز أن يكون ذلك سببا في عدم تنفيذ الأمر وطاعته. فالقيادة مسؤولة أولا، وهي عادة أكثر إلماما بالظروف المحيطة والدوافع والمبررات بما لا يتوفر لكثير من الأفراد.وحينما تنتهي الجماعة إلى رأي فعلى الجميع الالتزام به توحيدا للكلمة والتوجه. ولا يجوز لصاحب الرأي المخالف أن يتحدث بعد ذلك عن رأيه داخل الصف، حتى لو أثبتت التجربة أن رأيه الذي لم يؤخذ به كان الأصوب فلأن يجتمع الصف على الصواب خير من أن يتفرق حول الأصوب. ففي الاجتماع على الصواب يمكن أن نصل إلى الأصوب، أما لو حدث الافتراق فلن يكون هناك اجتماع على صواب، ولا على أصوب[8].

وها هو فضيلة المرشد الرابع الأستاذ حامد أبو النصر عندما قررت الجماعة الدخول بتحالف انتخابي مع حزب الوفد عام 1976، يقول: أرسلت من بلدتي رسالة طويلة إلى الأستاذ المرشد عمر التلمساني أرفض فيها هذا التحالف مبررا الرفض بأسباب كثيرة عندي، منها تاريخ حزب الوفد مع جماعة الإخوان المسلمين..

وتوقعت من الأستاذ عمر رداً على هذه الرسالة يأتيني عن طريق الاتصال المباشر بي، أو عن طريق أحد الأخوة الكبار المسؤولين في الجماعة.. وجاء الرد فعلا.. ولكن عن طريق شاب صغير من الإخوان وجدته يطرق بابي في بلدتي (منفلوط) ويقول لي جئتكم برسالة من الأستاذ المرشد عمر التلمساني يقول لك فيها لقد اتخذت الجماعة قرارا فالزم ويقول عليه رحمة الله: (فالتزمت ودعتني الجماعة إلى المشاركة في الدعاية في الحملة الانتخابية فشاركت بكل ما أستطيع) [9].

إنما الطاعة بالمعروف

غير أن الطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، مقيدة بألا تكون في معصية الله إذ ليس لأحد (حاكم أو أمير أو والد أو معلم أو أي صاحب ولاية على غيره)، ليس لأي واحد من هؤلاء أن يطاع في معصية، جاء في الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله تعالى، إنما الطاعة في المعروف) [10].

وفي الحديث عن علي رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب وقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟، قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهمّوا، وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، والطاعة في المعروف) [11].

[1] في ظلال القرآن- سيد قطب 1: 503.

[2] مسلم.

[3] ركن الطاعة - علي عبد الحليم محمود، ص- (179 - 180).

[4] الأنفال - 25.

[5] فتح الباري.

[6] أصول الدعوة- عبد الكريم زيدان، ص- 468.

[7] البخاري.

[8] نظرات في رسالة التعليم - محمد عبد الله الخطيب ومحمد عبد الحليم حامد، ص- 245.

[9] رسالة الإخوان- العدد 103.

[10] البخاري.

[11] البخاري.

الركن السابع - الثبات

تقديم

ذكر الإمام حسن البنا في ركن الثبات، السابع من أركان البيعة، ما يلي:

وأريد بالثبات:

أن يظل الأخ عاملا مجاهدا في سبيل غايته، مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين: فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا( [1].

والوقت عندنا جزء من العلاج.

والطريق طويلة المدى، متعددة المراحل، كثيرة العقبات. ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة.

وذلك أن كل وسيلة من وسائلنا (الستة) تحتاج إلى حسن الإعداد، وتحين الفرص، ودقة الإنفاذ.

وكل ذلك مرهون بوقته )ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا( [2].

[1] الأحزاب - 23.

[2] الإسراء - 51.

أهمية الثبات

والثبات عنصر مهم في نجاح الدعوات.. وكما تحتاج الدعوة إلى الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة، فهي تحتاج إلى الثبات.. وبدونه لا تبقى دعوة.. ولا ينعقد للأمة نصر.

من السهل أن يتحمس رجل لدعوته، ويعمل على نجاحها، ويجاهد في سبيلها لمدة محدودة من الزمن، حتى إذا رأى الدرب طويلا، والعقبات كؤودا، والتكاليف مرهقة، انقلب على عقبيه، وتساقط على جانبي الطريق..

أما دعوة الله فلا تحيا وتثبت، ولا تنتشر وتزدهر، إلا بصنف آخر من الرجال: رجال مخلصين عاملين يجاهدون ويضحون، ويظلون على ذلك، ويثبتون أمام المحن والابتلاءات، والإغراءات والتهديدات، ويصبرون على المشقات ويغالبون العقبات... كل ذلك بلا كلل ولا ملل، ولا انقطاع ولا فتور.. )يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة( [1]. من أجل هذا جعل الإمام الشهيد الثبات ركنا من أركان البيعة، مسترشدا بهدي القرآن، وسيرة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم[2].

اصبروا وصابروا

وأول عدة الثبات الصبر، قال الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون( [3].

والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة، إنه طريق طويل شاق. حافل بالعقبات والأشواك. مفروش بالدماء والأشلاء. وبالإيذاء والابتلاء..

الصبر على أشياء كثيرة:

الصبر على شهوات النفس ورغائبها.

والصبر على شهوات الناس ونقصهم واستعجالهم للثمار.

والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر وغلبة الشهوات، وتصعيرالغرور والخيلاء!

والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق!

والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله.

والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساحة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام.

والمصابرة.. وهي مفاعلة من الصبر.. مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين.. مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة، بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى:

أعدائهم من كوامن الصدور،

وأعدائهم من شرار الناس سواء. فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد والإصرار بالإصرار.

والمرابطة.. الإقامة في موقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء.. وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان، وما تستغني عن المرابطة للجهاد، حيثما كانت إلى آخر الزمان[4].

قال تعالى: )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( [5].

وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته. ولكن الهدف يظل ثابتا.. إن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا. والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر، ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة، والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر[6].

الصبر في البأساء والضراء

قال تعالى: )والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون( [7].

والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟.. إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعا أمام الشدة. إنه التجمل والتماسك والثبات، حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرا. ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة. الصبر في البؤس والفقر، والصبر في المرض والضعف، والصبر في القلة والنقص، والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال. كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال[8].

متى نصر الله؟

قال تعالى: )أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب( [9].

إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه: (متى نصر الله؟) ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة. ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: )متى نصر الله؟(.

وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة.. عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله: )ألا إن نصر الله قريب(.

إنه مدخر لمن يستحقونه. ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية. الذين يثبتون على البأساء والضراء. الذين يصمدون للزلزلة. الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله.

وعندما يشاء الله. وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى (نصر الله)، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله. ولا نصر إلا من عند الله[10].

ولكم في رسول الله أسوة حسنة

ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فقد ظل عاملا مجاهدا في سبيل غايته رغم العقبات والمشقات، والإغراءات والتهديدات. عرض عليه المشركون المال والجاه وكل الملذات في مقابل التنازل عن دعوته، فلم يفلحوا، فلجأوا إلى التهديد والوعيد، فلم يفلحوا كذلك، وقال صلى الله عليه وسلم كلمته المشهورة لعمه، لتسمعها الدنيا كلها عبر العصور، وليتأسى بها الدعاة في كل مكان: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) [11].

ولقد تربى الصحابة على هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، فصبروا وثبتوا، ولم يضعفوا ولم يستكينوا حتى لقوا ربهم، منهم من فاز بالشهادة ومنهم من أقر عينه بالنصر. فهذه سمية، وهذا ياسر، وهذا بلال، وهذا مصعب وهؤلاء أصحاب رسول الله كثير وكثير، صبروا وثبتوا وأوفوا بالعهد )من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا( [12].

وهذا الصديق الرفيق الرقيق يثبت أمام طوفان الردة ويقول: (أينقص الدين وأنا حي..؟ والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).

لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوائل المعنيين بقول الله تعالى: )وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين. وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين( [13].

جاء في الحديث: عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: ( شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [14].

[1] إبراهيم- 27.

[2] نظرات في رسالة التعاليم- محمد عبد الله الخطيب، ص- 276.

[3] آل عمران - 200.

[4] في ظلال القرآن- سيد قطب، ص- 551.

[5] البقرة - 217.

[6] في ظلال القرآن- سيد قطب، ص- 228.

[7] البقرة- 177.

[8] في ظلال القرآن- سيد قطب 1: 161.

[9] البقرة- 214.

[10] في ظلال القرآن- سيد قطب، ص- 218.

[11] سيرة ابن هشام 1: 240.

[12] الأحزاب- 23.

[13] آل عمران- (146 - 147).

[14] أحمد.

عقبات في الطريق - الوقت جزء من العلاج - مواقف عملية

لقد أكد الإمام الشهيد على ركن الثبات، لأن طريق الدعوة مليء بالآفات المهلكة، والعقبات المثبطة، ولا يمكن الفكاك من هذه، والوقاية من تلك إلا بالتحلي بالثبات.

• فمن الناس من يُبتلى بآفة الاستعجال، وقد حذرنا الله من ذلك فقال لرسوله: )فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم( [1].

• ومن الناس من يبتلى بآفة العبادة على حرف، فيظل في طريق الدعوة ما دام الجو رخاءً لا ابتلاء فيه ولا إيذاء.

قال تعالى: )ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين( [2].

وقال تعالى: )ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله( [3].

• وقد ينجح الأخ ويثبت أمام امتحان الشدة والبلاء، ولا تلين قناته، ويواصل السير، ولكنه قد لا ينجح في الامتحان إذا تعرض لفتنة الدنيا والمال، فإذا عرض عليه منصب رفيع، أو مال وفير، تحلب فمه، وسال لعابه، وفقد توازنه، ونسي ما كان يدعو إليه من قبل، ولا عاصم من ذلك، إلا بالإلحاح في الدعاء أن يثبت الله منا الأقدام وأن يربط على القلوب.

ولقد حرص الإمام الشهيد أن يوضح لإخوانه، ولكل من يريد العمل للإسلام، طبيعة هذه العقبات حتى يكون على بينة من الأمر.

قال رحمه الله: والطريق طويلة المدى، متعددة المراحل، كثيرة العقبات[4].

  • • سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم.
  • • وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله.
  • • وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان.
  • • وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء.
  • • وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم.
  • • وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم.
  • • وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان.
  • • وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات.
  • • وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم ومعتدين بأموالهم ونفوذهم )يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون( [5].
  • • وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان )أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون( [6].
الوقت جزء من العلاج

كلمة حكيمة، لابد أن يستوعبها كل سائر على طريق الدعوة، خصوصا في هذا الواقع الأليم، الذي تكالبت فيه أمم الكفر على المسلمين تريد سحقهم ومسخهم وردهم عن دينهم مستغلين ضعف المسلمين في كثير من المجالات الأساسية للنهوض. ولقد تأثرت بلاد المسلمين بكثير من الأمراض الفتاكة، والأدواء المعضلة. وإن علاج هذا الواقع لا يكون طفرة، ولا بلمسة سحرية، فهذا يخالف سنن الله في كونه )فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا( [7].

إن العلاج يحتاج إلى أمور ثلاثة هي:

معرفة موطن الداء.

والصبر على آلام العلاج.

والنطاسي الذي يتولى ذلك حتى يحقق الله على يديه الغاية ويتمم الشفاء والظفر.

وهذا كله يحتاج إلى الوقت، والوقت يحتاج إلى صبر، فلا مكان للمتحمسين المتعجلين، ولا لأصحاب النفس القصير.

مواقف عملية

لقد وفق الله الإخوان إلى حمل الراية، ووفقهم للثبات على رفعها رغم ما تعرضوا له من ابتلاءات وإيذاء وإغراءات ورغم ما خاضوه من معارك شعواء. فعاشوا الثبات عمليا، ولم يكن عندهم شعارا نظريا.

من أجل هذا وقفوا في وجه الطواغيت في الداخل، ووقفوا في وجه الطواغيت في الخارج، وقاوموا أعداء الدين، مقاومتهم للغاصبين المعتدين، ولم يجدوا فارقا بين من يعتدي على أرض الإسلام. ومن يعتدي على شريعة الله. ولهذا خاضوا معركة تحرير الأرض كما خاضوا معركة تحكيم الشرع.

وكم حاولت قوى عديدة، بارزة ومستترة، في الداخل والخارج، أن تشتري الإخوان بالمال أو المناصب، وبذلك يحتوون الحركة ويسيطرون عليها، ولكن هذه القوى الماكرة الغادرة لم تجد عند الإخوان أذنا صاغية، إنما وجدت الرفض الصارم، والجواب الحاسم: )أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون( [8].

وكم لجأت هذه القوى إلى أسلوب الوعيد بعد أن أخفق أسلوب الوعد، ولوحت بالتهديد بعد أن خاب الإغراء، ولم يكن أسلوب الوعيد والتهديد بأنجح من أسلوب الوعد والإغراء. فكلا السهمين ارتد إلى نحر صاحبه..

إن هذا الإباء الأشم، والموقف الصلب من قضية الإسلام، وقضايا المسلمين، ورفض كل محاولـة للمساومة عليهـا أو التفريط فيهـا، طالما عرّض الحركة لتدبير المكايد لها، وحياكة المؤامرات لضربها، بل العمل على اقتلاعها من الجذور لو استطاعوا.

وبرغم هذا لم تلن قناة الإخوان للوعد والوعيد قبل المحن، ولا لانت قناتهم أثناء المحن، ولا لانت كذلك بعد المحن، لقد صبروا صبر الرجال، وثبتوا ثبات الأبطال، وإن شئت قلت: ثبات المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه[9].

أخي المسلم الداعية

الطريق طويل، والعقبات كؤود، ولا يثبت في الميدان إلا:

• من آمن بالله وعرفه حق معرفته، بحيث يرى ما يصيبه في سبيل الله مجرد زبد تافه لا قيمة له.

• وتذكر ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المبدأ.. فثبت وتابع وتأسى وصابر.

• واستشعر مسؤوليته عن الإسلام والمسلمين.. وعمل على تحريرهم ونصرتهم بكل ما يملك من أسباب.. وتحمل في سبيل ذلك كل ما يصيبه من آلام..

يا مثبت القلوب

عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك) فقلت يا نبي الله: آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء) [10].

[1] الأحقاف- 35.

[2] الحج- 11.

[3] العنكبوت-- 10.

[4] بين الأمس واليوم- حسن البنا، ص- 162.

[5] التوبة- 32.

[6] العنكبوت- 2.

[7] فاطر- 43.

[8] النمل- 36.

[9] التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا- يوسف القرضاوي، ص- 47.

[10] الترمذي.

الركن الثامن - التجرد

بين يدي الموضوع

يقول الإمام الشهيد حسن البنا في الركن الثامن من أركان البيعة ما يلي:

(وأريد بالتجرد: أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص، لأنها أسمى الفكر، وأجمعها وأعلاها، )صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة( [1]. )قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده( [2].

والناس عند الأخ الصادق واحد من ستة أصناف:

  • مسلم مجاهد،
  • أو مسلم قاعد،
  • أو مسلم آثم،
  • أو ذمي معاهد،
  • أو محايد،
  • أو محارب،

ولكل حكم في ميزان الإسلام، وفي حدود هذه الأقسام توزن الأشخاص والهيئات. ويكون الولاء أو العداء).

بين يدي الموضوع

فالتجرد هنا أن يتجرد الداعية لله من كل ما سواه.. وأن يستعين بالله وحده )إياك نعبد وإياك نستعين( [3]، وأن يضحي بكل ما يملك في سبيل الله، وأن يصبر على المكاره مهما بلغت )يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون( [4].

ولكن هل يستطيع الداعية أن يتجرد من هواه ومنافعه وسلطانه؟

الآية التي استشهد بها الإمام البنا من سورة الممتحنة، وهي تحكي قصة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة.. وكان رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضا. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان.

فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة قال: (اللهم عمّ عليهم خبرنا).. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب. فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا. فأطلع الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك.. فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها. وسأل رسول الله حاطبا: ما حملك على ما صنعت؟

قال حاطب: والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي.

هذه الحادثة تكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها، وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.

وحتى يتخلص الصف المؤمن من لحظات الضعف هذه، فقد اقتضى الأمر إعدادا طويلا في خطوات ومراحل.

كانت النفوس تصهر في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم، ومرة بعد مرة، ويعاد صهرها في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة، وتحت مؤثرات متنوعة، لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى. وهو يعلم أن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكم الإلف والعادة، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر، والصهر المتوالي..

[1] البقرة- 138.

[2] الممتحنة- 4.

[3] الفاتحة.

[4] آل عمران- 200.

درس من الماضي - الناس أصناف - علامات التجرد

)قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنا برءاؤُ منكم، ومما تعبدون من دون الله( [1].

لقد مرّ إبراهيم والذين امنوا معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون اليوم.. فأعلن براءته من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم.. لقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه (وهو مشرك) ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين. فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: )لأستغفرن لك( [2].. قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك )فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه( [3].

فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم.. وهو الكفر بهم والإيمان بالله. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان[4].

لقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس عُلقة.. أمرٌ شاق، ومحاولة عسيرة.. إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغَ الاستيلاء المطلق، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته، فيصله به ويهديه إليه، )وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله( [5]..

فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات، وأن تنفض عنها تلك الرواسب، وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع، حيث وجهها الله تتجه، وحيثما قادها رسول الله تنقاد[6].

هذا هو منهج صهر النفوس بالأحداث وتربيتها وتجردها من كل هوى شخصي أو منفعة مادية.. أو انجذاب لآصرة جاهلية.

الناس أصناف

ومن علامات التجرد الحق أن يعيد الداعية (عندما يتجرد لله) تقييمه للأشخاص والهيئات وأن يزن كل شيء بميزان الدعوة:

فهناك المسلمون المجاهدون: الذين نحبهم ونواليهم، ونحسن الصلة بهم.

وهناك المسلمون القاعدون: فهؤلاء نحرك هممهم ونوالي نصحهم مع التماس الأعذار لهم.

وهناك المسلمون الآثمون: هؤلاء نذكّرهم ونعظهم، وندعوهم إلى العودة إلى الله.

وهناك ذميون: لم ينقضوا عهدا، ولم يظهروا العداوة فهؤلاء لهم التسامح منا والإنصاف، لهم ما لنا وعليهم ما علينا[7].

علامات التجرد

ومن علامات التجرد:

  • • أن يبتعد الداعية عن كل سبب جاهلي.. وينحاز لكل سبب رباني إنساني.
  • • وأن يتهم نفسه باستمرار.. ويعرضها في كل حادثة على الموازين السليمة.. مخافة أن تضعف نفسه وتنحرف عن الخط الصحيح.
  • • وأن يكون مستعدا لتقديم النفس وما يملك رخيصا في سبيل الله.

قال شداد بن الهاد: جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه. فقال: أهاجر معك؟ فأوصى به أصحابه فلما كان غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقسمه، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم (أي الإبل) فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا رسول الله؟

قال: قسم قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أُرمى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل. فقال: أهو هو؟ قالوا نعم، قال: (صدق الله فصدقه) [8].

هذا مجرد نموذج من النماذج الربانية الذين تجردوا لله في أمرهم كله.. والنماذج كثيرة.. وهي تتكرر في كل حين عندما يتخلص الداعية من نزعات النفس وهواجسها، وحب الدنيا وشهواتها، وحب الجاه ومقتضياته، وحب الأسرة والعشيرة وتعلق قلبه بها.. يفرّ من كل ذلك إلى الله، ولسان حاله يقول: )وعجلت إليك ربي لترضى( [9].

وعلى من يقتنع بعظمة الإسلام، وشهدت نفسه أن هذا هو الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال، لزمه أن يتجرد لله وأن يستسلم وينقاد لأمر الله، وأن يلزم نفسه بأن يدير أمره وحياته كلها وفق أحكام الله وأوامره.

إن الذين يريدون أن يقيموا هذا الحق في الأرض، يجب أن يقيموه أولا في أنفسهم وضمائرهم وحياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك. ولقد قالها الإمام الهضيبي (رحمه الله) وهو يوصي نفسه وإخوانه: أن أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم.

[1] الممتحنة- 4.

[2] الممتحنة- 4.

[3] التوبة- 114.

[4] في ظلال القرآن- سيد قطب، ص- 3542.

[5] البقرة- 143.

[6] في ظلال القرآن- سيد قطب 1: 132.

[7] نظرات في رسالة التعاليم- محمد عبد الله الخطيب، ص- 290.

[8] النسائي.

[9] طه-84.

الركن التاسع - الأخوة

بين يدي الموضوع

يقول الإمام حسن البنا في (الأخوة) الركن التاسع من أركان البيعة ما يلي:

(وأريد بالأخوة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة. والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار )ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون( [1].

والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض( [2]، وهكذا يجب أن نكون).

بين يدي الموضوع

ليست هناك دواع معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتا متناكرين. بل إن الدواعي القائمة على المنطق الحق والعاطفة السليمة تعطف البشر بعضهم على البعض، وتمهد لهم مجتمعا متكافلا تسوده المحبة، ويمتد به الأمان على ظهر الأرض. )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير( [3].

وكل رابطة توطد هذا التعارف، وتزيح من طريقه العوائق، فهي رابطة يجب تدعيمها، والانتفاع بخصائصها، وليس الإسلام رابطة تجمع بين عدد قل أو كثر من الناس فحسب. ولكنه جملة الحقائق التي تقرر الأوضاع الصحيحة بين الناس وربهم. ثم بين الناس أجمعين.

ومن ثم فأصحاب الإسلام وحملة رسالته يجب أن يستشعروا جلال العقيدة التي شرح الله بها صدورهم، وجمع عليها أمرهم، وأن يولوا التعارف عليها ما هو جدير به من عناية وإعزاز.. إنه تعارف يجدد ما درس من قرابة مشتركة بين الخلق، ويؤكد الأبوة المادية المنتهية إلى آدم، بأبوة روحية ترجع إلى تعاليم الأديان الملخصة في رسالة الإسلام، وبذلك يصير الدين الخالص أساس أخوة وثيقة العرى، تؤلف بين أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم، على اختلاف الأمكنة والأزمنة، وحدة راسخة الدعامة سامقة البناء، لا تنال منها العواصف الهوج.

وهذه الأخوة هي روح الإيمان الحي، ولباب المشاعر الرقيقة، التي يكنها المسلم لإخوانه، حتى إنه ليحيا بهم ويحيا لهم، فكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة، أو روح واحد حلّ في أجسام متعددة[4].

وقد يغفل الإخوان في كثير من الأحيان عن المعنى الحقيقي لهذه الأخوة. يتصورونها مجرد مشاعر وعواطف وردية تجمع بين أفرادهم، فتزيدهم قربا ومودة وتعاطفا.. والأمر (في الحقيقة) أكبر من ذلك وأعمق، (فالإيمان والأخوة هما القاعدتان المتلازمتان الضروريتان للجماعة المسلمة كي تستطيع أن تضطلع بالأمانة الضخمة التي ناطها الله تعالى بها، وأخرجها للوجود من أجلها).

الإيمان بالله وتقواه ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة،

والأخوة في الله، التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية، وفي التاريخ الإنساني[5].

في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) [6].

وكل تجمع إسلامي قام عبر التاريخ.. وعمل على إعادة تحكيم الإسلام في واقع الحياة.. فإن أول عدته هو هذا الإيمان وهذه الأخوة..

(ولقد تميزت جماعة الإخوان المسلمين عبر مسيرتها الطويلة بالأخوة الصادقة في الله، إلى حد إن لم يكن إيثارا، فهو أقرب شيء إلى الإيثار فعلا وواقعا، ولعل هذا من أهم الأسباب التي ساعدت الجماعة على الصمود في وجه أعتى المحن والمؤامرات التي نزلت بها. لقد ظن البعض أنه يستطيع أن يوهن هذه الجماعة أو ينال منها، فتحطم هذا البعض وبقيت الجماعة صامدة شامخة بفضل إيمان أبنائها وأخوتهم الصادقة في الله) [7].

[1] الحشر- 9.

[2] التوبة- 71.

[3] الحجرات- 13.

[4] خلق المسلم- محمد الغزالي، ص- (283-285).

[5] في ظلال القرآن- سيد قطب 1: 441.

[6] الشيخان.

[7] نظرات في رسالة التعاليم- محمد عبد الله الخطيب، ص- 297.

الحب في الله

إن هذه العقيدة عجيبة فعلا. إنها حين تخالط القلوب، تستحيل إلى مزاج من الحب والإلفة ومودات القلوب، التي تلين قاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق. فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفقة القلب، ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألّف بين هذه القلوب، ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب! )هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم( [1].

هذه العقيدة تهتف بالبشرية بنداء الحب في الله، وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والإلتقاء عليه، فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله، ولا يقدر عليها سواه.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور. لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس) [2].

ويقول أيضا : (إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم، فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار) [3].

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سرّه أن يجد حلاوة الإيمان، فليحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل) [4].

وتتوارد أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تترى في هذا الباب، وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته، كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة، ولا مجرد أعمال مثالية فردية، إنما كانت واقعا شامخا قام على هذا الأساس الثابت، بإذن الله، الذي لا يقدر على تأليف القلوب سواه) [5].

عقد الأخوة في الله

والأخوة في الله عقد واجب الوفاء. ولقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقد الأخوة هذا فقال: (إن الحقوق التي ينشئها إذا كانت من جنس ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه والتي تجب للمؤمن على المؤمن فإنما هي حقوق واجبة بمقتضى الإيمان. والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله) [6].

ولهذه الأخوة حقوق منها:

1- أن يكون حب المسلم لأخيه خالصا لوجه الله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) [7].

2- وأن يوالي المسلم أخاه المسلم، فقد أملت عليهم عقيدتهم أخلد عواطف الحب والتآلف، وأنبل مظاهر الأخوة والتعارف، فكانوا رجلا واحدا وقلبا واحدا ويدا واحدة )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض( [8].

3- وأن يستشعر المسلم هذا الرباط مع من سبقه من المؤمنين )والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا( [9].

إنهم يطلبون المغفرة لا لأنفسهم فقط، بل ولسلفهم الذين سبقوهم بالإيمان.. إنها أمة واحدة.. ورعيل واحد ممتد عبر الزمان والمكان.

4- ومن حق أخيك عليك أن تكره مضرته، وأن تبادر إلى دفعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) [10]. وأن تسعى في حاجته ما وسعك السعي. عن ابن عباس أنه كان معتكفا في مسجد رسول الله، فأتاه رجل فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئبا حزينا. قال: نعم. لفلان عليّ حق ولاء، ما أقدر عليه!

قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ قال: إن أحببت. قال فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟ قال: لا، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مشى في حاجة أخيه، وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين) [11].

5- ومن حق الأخوة أن يشعر المسلم بأن إخوانه ظهير له في السراء والضراء.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) [12]. يناصرونه ظالما أو مظلوما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. قال: أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن ظلمه فذلك نصره) [13].

6- أخوة من أخلاقها: التسامح، والعفو عن الزلات، وإحسان الظن بالإخوان. أليس جمال الحياة أن تقول لأخيك كلما صافحته: (رب اغفر لي ولأخي) ثم تضمر في قلبك أنك قد غفرت له تقصيره تجاهك.. قال الشاعر المسلم:

من اليوم تعارفنا ونطوي ما جرى منا

فلا كان ولا صار ولا قلتم ولا قلــنا

وإن كان لابــد من العتب فبـالحسنى

وقال الإمام الشافعي في هذا المعنى: (من صدق في أخوة أخيه: قتل علله، وسدّ خلله، وعفا عن زلله).

7- )أشداء على الكفار رحماء بينهم( [14]

أشداء على الكفار ولو كان فيهم الآباء والقرابة والأبناء. رحماء بينهم كأفراد.. وكجماعة.. (فلو تخلق كل فرد في ذاته بأعلى ما يكون من الصفات الجميلة والأخلاق المحمودة، بدون أن يكونوا مرتبطين بينهم، متخلقين بالصفات الجماعية، فإنهم لا يستطيعون أبدا أن يقوموا في وجه الباطل أو يقارعوه.

إن نظام الجماعة لا يسير إلا على مبدأ حسن التكافل والمواساة والإخلاص والإيثار والتضحية وأن تترك شيئا من أجل غيرك.. وأن يترك الغير شيئا من أجلك) [15]. عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت مع من أحببت. قال أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال أنس: فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل عملهم) [16].

8- ومن حقوق الأخوة الواجبة، دعاء الأخ لأخيه في ظهر الغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة) [17]. وأن ينصحه (فالنصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) [18] ، وأن يواسيه بالمال )ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( [19]، وأن يعينه في أموره كلها، وأن يزوره، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والصدّيق في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله في الجنة).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولئن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)[20].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)[21].

سبل تحقيق الأخوة

ولقد بين الشارع الحكيم الوسائل التي تعين على تحقيق الأخوة بين المؤمنين، منها:

1- إفشاء السلام لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أأدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)[22].

2- وأن يتواضع الأخ لأخيه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد).[23]

3- وأن يخالق إخوانه بخلق حسن، قالت السيدة عائشة رضي الله عنه: (إن المرء ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار) [24].

أخلاق تناقض الأخوة

وكما أن للأخوة حقوقا واجبة، فإن هناك رذائل تناقض آداب الأخوة وشرائطها. فمن هذه الرذائل: الظن السوء، والحسد، والبغض، والغيبـة، والتدابـر، والسخريـة من الآخرين، وقد جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه فقال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله تعالى.. المسلم أخ المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه، كل المسلم على المسلم حرام: ماله ودمه وعرضه.. إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.. التقوى ها هنا.. التقوى ها هنا.. التقوى ها هنا (ويشير إلى صدره) ألا لا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا.. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) [25].

وقال أيضا: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه. لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته) [26].

أدناها سلامة الصدر وأعلاها الإيثار

وللأخوة مراتب.. أدناها سلامة الصدر، وأعلاها الإيثار.. والإيثار معناه أن يقدم المرء أخاه على نفسه في كل ما يحب، فهو يجوع ليشبع أخوه، ويظمأ ليرتوي، ويسهر لينام، ويجهد ليرتاح، ويعرض صدره للرصاص ليفدي أخاه، وقد يكون الإيثار أمرا شاقا على النفس، وعسير الحصول عند كثير من الناس، ولكنه أيسر ما يكون بالنسبة للقلب السليم (كما يقول ابن الصلاح) [27].

والصحابة رضوان الله عليهم ضربوا لنا أروع الأمثال في الإيثار والبذل من غير شح ولا بخل. فهذا صنيع الأنصار لإخوانهم المهاجرين حين قدموا عليهم، خير دليل على الخلق الأصيل، فكتب السير تروي أنه ما نزل مهاجر على أنصاري إلا بقرعة، حتى قال الله تعالى فيهم: )والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون( [28].

كان الأنصاري يستضيف أخاه من المهاجرين، وليس في بيته من الزاد إلا قوت صبيانه، فيؤثره على نفسه وعياله.. قائلا لزوجه: نوّمي صبيانك وأطفئ السراج، وقدمي ما عندك للضيف. نجلس معه للمائدة.. ونوهمه أننا نأكل معه.. ولا نأكل.. ويجلسون إلى المائدة ويأكل الضيف ويبيت الزوجان طاويين.. ويغدو الأنصاري على النبي فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) [29].

وفي الحديث أن سعد بن الربيع عرض على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما - وقد آخى النبي بينهما - أن يتنازل عن شطر ماله، وعن إحدى داريه، وإحدى زوجتيه، يطلقها ليتزوجها هو. فقال ابن عوف لسعد: بارك الله لك في أهلك، وبارك الله لك في دارك، وبارك الله لك في مالك، إنما أنا امرؤ تاجر، فدلني على السوق [30].

ركن الأخوة

يقول الإمام الشهيد: فاحرص على سلامة صدرك نحو إخوانك، وجاهد نفسك لتصل ومن معك إلى مرتبة الإيثار، والتفريط في هذا الركن أو النكث فيه كالنكث في ركن الجهاد يؤدي إلى أوخم العواقب، فلو هبط الأفراد عن أدنى مراتب الأخوة فستبدأ الفرقة، ويسود التنازع، وهذا يؤدي إلى الهزيمة )ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم( [31]. وما أصدق كلمات الإمام وهو يوصي الإخوان: (تحابوا فيما بينكم، واحرصوا كل الحرص على رابطتكم، فهي سرّ قوتكم، وعماد نجاحاتكم، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين) [32].

[1] الأنفال- (62-63).

[2] أبو داود.

[3] الطبراني.

[4] أحمد.

[5] في ظلال القرآن- سيد قطب 3: 1548.

[6] رسائل شباب الدعوة- الشيخ جاسم مهلهل الياسين 1: 18.

[7] البخاري.

[8] التوبة- 71.

[9] الحشر- 10.

[10] البخاري.

[11] البيهقي.

[12] البخاري.

[13] البخاري.

[14] الفتح- 29.

[15] تذكرة دعاة الإسلام- الإمام المودودي.

[16] البخاري.

[17] مسلم.

[18] مسلم.

[19] الحشر- 9.

[20] الأحاديث الصحيحة- الألباني رقم- 906.

[21] مسلم.

[22] مسلم.

[23] مسلم.

[24] المشكاة وقال الشيخ ناصر: إسناده صحيح.

[25] مسلم.

[26] أبو داود.

[27] تفسير ابن كثير.

[28] الحشر- 9.

[29] متفق عليه.

[30] البخاري.

[31] الأنفال- 46.

[32] بين الأمس واليوم- الإمام البنا، ص- 111.

الركن العاشر - الثقة

بين يدي الموضوع

يقول الإمام حسن البنا في الثقة (الركن العاشر) من أركان البيعة ما يلي:

(وأريد بالثقة اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه، اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما((1).

والقائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب )فأولى لهم، طاعة وقول معروف((2).

وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات، ولهذا يجب أن يسأل الأخ الصادق نفسه هذه الأسئلة ليتعرف مدى ثقته بقيادته:

1- هل تعرّف إلى قائده من قبل ودرس ظروف حياته؟

2- هل اطمأن إلى كفايته وإخلاصه؟

3- هل هو مستعد لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة في غير معصية (طبعا) قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا للتردد، ولا للانتقاص ولا للتحوير، مع إبداء النصيحة والتنبيه إلى الصواب؟

4- هل هو مستعد لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب، إذا تعارض ما أُمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نصٌ شرعي؟

5- هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟ وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة؟

وبالإجابة على هذه الأسئلة وأشباهها يستطيع الأخ أن يطمئن على مدى صلته بالقائد، وثقته به، والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء )لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم)(3).

بين يدي الموضوع

قضية الثقة من القضايا الهامة في حياة الدعوة والدعاة. وقبل أن يحسم الدعاة أمر الثقة في أنفسهم، فلا دعوة ولا قيادة ولا نصر.

والثقة تكون بالله وحده..

وبالمنهاج الذي نتبع..

وبالقيادة التي ننقاد لها..

وهي تبدأ من داخل النفس لا من خارجها.

وبدون ثقة المسلم الكاملة بخالقه، ومن ثم ثقته بدعوته وثقته بقيادته، فلن تسلم المسيرة.. ولن ينجح القائد في مهمته.. ولن يفيد الجندي من عمله.. والأمر عندئذ لن يعدو أن يكون مضيعة للوقت وخسرانا للجهد.

فهل يصح في الأفهام أن يطمئن الجندي إلى قائده اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة.. بدون ثقة؟

وهل الجندي على استعداد أن يعتبر الأوامر التي تصدر إليه (في غير معصية) من قيادته، قاطعة لا مجال فيها للتردد.. بدون ثقة؟

وهل الجندي على استعداد أن يفترض في نفسه الخطأ وفي قيادته الصواب بدون ثقة؟

في كل عمل جماعي.. هناك هدف ينشده العاملون.. وهناك قائد يأمر، وهناك جنود ينفذون. فإذا كان العمل الجماعي والأوامر التي تصدر عنه على قدر من الأهمية.. قد تدفع الجندي إلى خوض معركة.. أو الانتقال إلى مكان بعيد.. أو التخلي عن ماله.. وغير ذلك من المهمات الجسام، فكيف يقدم الجندي طائعا مختارا على ذلك.. بدون أن يكون واثقا بقائده: شرعيته، وضرورة طاعته، وحكمة قراراته؟

الإمام حسن البنا (رحمه الله) ركز في هذا الركن على دور القائد في الجماعة.. وعلى الثقة المتبادلة بين القائد والجنود، التي يتوقف عليها قوة نظام الجماعة وإحكام خططها ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب.

ونرى أن نضع إطارا عاما للثقة.. ثقة المسلم بخالقه.. ومن ثم ثقته بدعوته.. وأخيرا ثقته بقيادته،حتى تكون الصورة أشمل وأوضح.

(1) النساء- 65.

(2) محمد- (20-21).

(3) الأنفال- 63.

أولا- الثقة بالله تعالى

وهي الإيمان القوي، والاعتقاد الجازم، واليقين الثابت، والاطمئنان القلبي بالله وحده، وبقدرته، وقوته وعزته، وحكمته، وأنه جل وعلا هو الحق وما عداه باطل، وأن هداه هو الهدى، وليس بعد الهدى إلا الضلال، وأنه لا ناصر إلا الله، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأنه من حفظ الله حفظه الله، ومن توكل عليه نصره، وأن كل ما يقدره سبحانه فهو الخير، وأن العاقبة للمتقين، وأنه لا عدوان إلا على الظالمين.

والثقة في الله وحده هي الركيزة الأساسية والعمود الأساسي الذي تعتمد عليه الدعوات، وهي عصب النهوض والنجاح في الرسالات.

وفي حياتنا المعاصرة نحتاج إلى جرعات إيمانية قوية، وثقة عالية مطلقة بمالك الملك جل جلاله، فإن ما يحدث لأمة الإسلام من أزمات وشدائد، ومن تمزق واختلاف لهو من الأمور الخطيرة، خاصة وقد تعمقت الخلافات، وتشعبت الاتجاهات ووصلت هذه الأمراض إلى صميم حياة الشعوب، فلا برّ ولا تعاطف، ولا تواصي بالحق، ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر حتى ظن البعض أن الاعتماد على المخلوق هو العملة الرابحة، فضاعت القيم واشتد البلاء وعظم الأمر.

إن هذه الأمراض تجعل من الواجب علينا أن نذكّر بحقائق الإسلام التي تحفظ إيمان الشعوب وتربط على القلوب وترفع من مستوى التفكير والأداء. وفي ديننا الحنيف من الحقائق ما يزكي الإنسان ويقيمه على الطريق السوي ويقوي ثقته بربه ودعوته. قال تعالى: )ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم((1).

إن رحمات الله عز وجل يجدها من يفتحها الله له في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان.. يجدها في نفسه، وفي مشاعره، ويجدها فيما حوله، وحيثما كان، وكيفما كان. ولو فقد كل شيء مما يعده الناس فقده هو الحرمان.. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان. ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان! وما من نعمة -يمسك الله معها رحمته- حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة -تحفها رحمة الله- حتى تكون هي بذاتها نعمة.. ينام الإنسان على الشوك -مع رحمة الله- فإذا هو مهاد. وينام على الحرير -وقد أمسكت عنه- فإذا هو شوك القتاد.

ولا ضيق مع رحمة الله. إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك. ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس برحمة الله تتفجّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة)(2).

التفاؤل نهجنا

المؤمنون بالله لا يعرفون اليأس، وما يدرينا لعل ما ينزل بالعالم الإسلامي فيه الخير الكثير، قد لا يظهر عاجلا ولكنه سيظهر آجلا بإذن الله، ونحن على يقين في أن الله لن يخذل المؤمنين، العاملين، الذين ينصرون دينه، ويبذلون في سبيله، ولا يتأخرون عن بذل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. جاء في الحديث: (والذي نفسي بيده ليفرّجن الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزها في سبيل الله)(3).

إن الحق سبحانه وتعالى ميز المؤمنين بصفات وأخلاق ومن أعلاها - بعد الإيمان به - الثقة في وعده ونصر دينه، وهذه الصفة تظهر في الأزمات والشدائد التي تمتحن فيها أصالة الرجال ومعادن الناس، وها هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو في أعلى درجات الحصار في المدينة، وقد أحاطتها جيوش الكفر التي تكالبت عليها من خارج المدينة، ثم تآمرت اليهود معها في داخل المدينة، ها هو صلى الله عليه وسلم يعد أصحابه في هذه الأهوال، بفتح فارس، والروم واليمن، فحين ضرب بمعوله حجرا عريضا طار منه كهيئة الشهاب من النار، وضرب الثانية فخرج مثل ذلك، وضرب الثالثة فخرج مثل ذلك، فرأى ذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ما خرج في كل ضربة ضربتها؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفتح عليكم بيض المدائن، وقصور الروم، ومدائن اليمن)(4).

المستقبل لهذا الدين

نعم المستقبل لهذا الدين، فالذي يظن غير هذا بعيد عن الصواب، قد ضعف الإيمان في قلبه وتزعزعت ثقته بخالقه الذي قال: )ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين((5) وكيف لا يكون النصر لدين الله وهو سبحانه وراء الحق وهو ولي أصحابه )ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم((6).

إن الحق سبحانه وتعالى لا يقبل من عباده اليأس من رحمته وقدره ونصره، قال تعالى: )من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبنّ كيدُه ما يغيظ((7).

يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا وكتابه ودينه، فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره ولا محالة).

ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء، إلا بالرجاء في نصر الله. ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله. ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله)(8).

وأولى الناس ثقة بالله أنبياء الله:

• سيدنا إبراهيم عليه السلام يترك زوجه وابنه بواد غير ذي زرع.. فتسأله زوجه: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا؟ وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا(9).

• سيدنا موسى عليه السلام يطارده فرعون وجيشه )فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدرَكون، قال كلا إنّ معي ربي سيهدين((10).

• والنبي محمد صلى الله عليه وسلم محاصر في الغار، يطارده المشركون، وأبو بكر رضي الله عنه يقول: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما(11)؟

• جاء خباب بن الأرت صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو العنت والفتن التي يلقاها المسلمون في مكة، يشكو له العذاب الأليم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متوسدا بردة له في ظل الكعبة، فقال له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط من الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون)(12).

• وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر عدي بن حاتم رضي الله عنه بالمستقبل العظيم لهذا الدين (لعلك يا عدي ما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم؟ فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم، حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك أنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف. ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل، قد فتحت عليهم، قال: فأسلمتُ)(13).

(1) فاطر- 2.

(2) في ظلال القرآن- سيد قطب 5: 2922.

(3) البخاري ومسلم.

(4) النسائي وأبو داود.

(5) الأنبياء- (105-106).

(6) محمد- 11.

(7) الحج- 15.

(8) في ظلال القرآن- سيد قطب 4: 2414.

(9) البخاري.

(10) الأنبياء- 69.

(11-12) البخاري.

(13) الثقة في وعد الله- محمد عبد الله الخطيب، (الدعوة- مايو 2000م).

ثانيا- الثقة في المنهاج

أما المنهج فقد رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وكلما اشتد الكيد والصد جدد السائرون العهد هاتفين بشعار الموقنين: )فتوكل على الله إنك على الحق المبين((1).

فهو منهج من عند الله ونحن نجزم بأنه الحق المبين على سبيل الإجمال والتعميم تصديقا لقوله تعالى: )والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير((2)، ونجزم كذلك بأن كل جزئية من هذا المنهج هي حق مبين نتعامل معها بيقين.

• أبو الدرداء رضي الله عنه أخبروه يوما باحتراق داره ففاجأهم بقوله: (ما احترق، ما كان الله ليفعل، لكلمات سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، من قالها حين يصبح لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها حين يمسي لم تصبه مصيبة حتى يصبح). ثم انطلق معهم موقنا، فإذا بالدور قد احترقت، وداره بينها لم يلحقها أذى.

• وهذا عثمان رضي الله عنه جاء يعود عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه، فقال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا(3)، ولقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة فهن في أمان من الفقر. هكذا كانت الثقة برسول الله أفعاله وأقواله.

• وقد رأينا الثقة المطلقة للإمام البنا رضي الله عنه في منهج الدعوة المستقى من منهج الإسلام الأول الأصيل حين قال: (أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم: اسمعوها مني كلمة عالية مدوية، من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع: إن طريقكم هذا مرسومة خطواته، موضوعة حدوده. ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقا طويلا، ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات. ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة)(4).

وقد عبر جند الدعوة عن ثقتهم في منهجهم أبلغ التعبير وأصدقه بمواصلة المسير على الطريق بعدما خرجوا من أتون المحن، وما ضعفوا وما استكانوا وما ركنوا إلى شيء من الدنيا وما أخلدوا إلى الراحة(5).

(1) النمل- 79.

(2) فاطر- 31.

(3) الأحاديث الصحيحة- الألباني.

(4) رسالة المؤتمر الخامس- حسن البنا، ص- 179.

(5) الثقة عند الإخوان المسلمين- مجلة الدعوة.

ثالثا- الثقة بالرسول القائد

منذ اليوم الأول الذي تفضل فيه رب العزة، فأنزل تعاليمه على قلب نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وهذه الدعوة تُجابه بالتشكيك بالمنهج والقائد..

• فما أن يعلن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمر ربه )فاصدع بما تؤمر((1)، حتى تعلن قريش ومن حازبها كفرهم بما يقول )بل يريد الإنسان ليفجر أمامه((2).

• ومع استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.. انعقد مجلس شورى المشركين في مكة، يتفقون على خطة يشككون فيها بالقائد، قالوا: نقول كاهن.. وقال بعضهم: مجنون.. وقالوا: بل نقول شاعر.. أو ساحر.. المهم عندهم أن يشككوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مرسل من السماء لهداية الأرض.

• استخدموا كل الوسائل في محاربة الدعوة والداعية: السخرية منه وتحقيره، وتشويه تعاليمه، وإثارة الشبهات حوله، ومعارضة القرآن بأساطير الأولين، واستخدام بنات الهوى لصد الرجال عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فعلوا ذلك.. فكان جواب القرآن عليهم: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون((3).

• اضطهدوه فصبر، وعذبوا إخوانه عذابا لا تطيقه الجبال فاحتسبوا، وكلهم يردد قولة بلال رضي الله عنه: أحد أحد.

• بعث إخوانه إلى الحبشة في جوار ملك عادل، فأرسلوا رسلهم يؤلبون النجاشي عليهم.

• هددوا أبا طالب.. وقاطعوا بني هاشم.. وأخيرا قرروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم.

كانوا يشككون بالمنهج وبالقائد.. لا عن قناعة بأن المنهج خطأ.. ولا بأن رسول الله كذاب.. ولكنه الظلم والجهل والكبر.. لخص الأمر أبو جهل عندما قال: (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه )فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون((4).

• وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حاسما قاطعا مثّله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعمه: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه)(5). وعبر عن ذلك القرآن الكريم فقال تعالى: )ص. والقرآن ذي الذكر. بل الذين كفروا في عزة وشقاق. كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص. وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلها واحدا، إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق((6).

لقد كفر المشركون.. منعهم الكبر والجهل والغرور عن الإيمان بالمنهج وبالقائد..

وأما المؤمنون المسلمون عبر العصور فقد آمنوا بالمنهج وآمنوا بالقيادة الإسلامية المتمثلة في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل قيادة إسلامية تأتي من بعده تؤمن بهذا المنهج.. وتترسم خطاه.

كانت الثلة المؤمنة تثق بقائدها ثقة عظيمة هي جزء من إيمانهم بربهم وبعظمة دعوتهم وسمو قيادتهم..

• فيوم غلبت الفرس الروم.. فرح المشركون فقد اعتبروا هذا النصر نصرا لأصنامهم، وحزن المسلمون فالروم أهل الكتاب أقرب إليهم.. ونزل القرآن بالخبر )ألم غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين((7).

قال المشركون: يا أبا بكر إن صاحبك يقول: إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين. قال: صدق.

• ويوم جاءه المشركون يقولون: يا أبا بكر هل لك في صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة،فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.

• وحتى في حالة الخلاف بالرأي كما حدث لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية، حيث كان يرى نصوص الصلح مجحفة بالمسلمين. ويراجع أبا بكر.. فيقول له الصديق: يا عمر إلزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.. هي الثقة بالقيادة التي تعصم المؤمن عند الخلاف القاتل.

• وحتى في حالة الخطأ القاتل يرتكبه صحابي مثل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه يوم أفشى للمشركين خبر فتح مكة.. فقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال: والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. هي الثقة بالقيادة التي عصمت حاطبا من الانحراف عن خط الإيمان والدعوة.

(1) الحجر - 94.

(2) القيامة- 5.

(3) الكافرون - (1-2).

(4) الأنعام- 33.

(5) ابن هشام 1: 265.

(6) ص- (1-7).

(7) الروم- (1-3).

الثقة بكل قيادة راشدة

• والثقة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي جزء من العقيدة.. والثقة بكل قيادة إسلامية تتأسى به، وتسير على دربه، وتهدف إلى إقامة الدين في الأرض.. هي السبيل الوحيد إلى النجاح والفلاح. وتزداد الحاجة إلى هذه الصفة إلحاحا في أوقات المحن والابتلاءات، فحين تستعر حرب المبطلين، ويشتد تضييقهم على جند الحق، تخفف الثقة في معية الله وتأييده ونصره، والثقة بالقيادة الراشدة، من شدة الوطأة وألم الصراع، وحين تتوالى محاولات الدس والوقيعة فإن الثقة بين القيادة والجنود هي وحدها التي تحبط هذا الكيد.

• لقد اختلف عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما في شأن مانعي الزكاة، وكان جل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون رأي عمر في عدم قتالهم، ومع ذلك فإن عمر ما كاد يرى أبا بكر مصرا على قتال مانعي الزكاة حتى قال قولته المعروفة التي تعبر عن ثقة كاملة (فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق).

ولو لم يكن عمر على هذا المستوى الكريم من الثقة والطاعة لسولت له نفسه أن الحق معه هو، فقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه). وما أحوجنا نحن أن نتذكر ذلك إذا اختلف رأينا مع أننا لم نسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن أحد منا أن الله جعل الحق على لسانه أو قلبه(1).

• وقد رأينا هذه الثقة في موقف خالد بن الوليد مع الخليفة عمر رضي الله عنهما إذ بدا لعمر أن يعزل خالدا، وهو في أوج انتصاره إبان فتح الشام حفاظا على قلوب المسلمين من الفتنة بخالد الذي لم يذق طعم الهزيمة قط في جاهلية ولا في إسلام، وتأكيدا على الحقيقة الإيمانية الثابتة: )وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم((2)، وقد كان أمر العزل هذا شديد الوطأة على خالد رضي الله عنه، ومع هذا تظهر جنديته المدهشة فيمتثل الأمر توا، وتزداد دهشتنا حين قيل له، وهو في هذا الموقف العصيب (صبرا أيها الأمير، فإنها الفتنة)، فيرد مؤكدا ثقته المطلقة في قائده عمر: (أما وابن الخطاب حي فلا).

إن من أخطر الوسائل التي يلجأ لها العدو الماكر (وهو يحارب الدعوة)، أن يضربها من داخلها، وخير ما يعينه على ذلك فقدان الثقة بين الجند والقائد، فإذا فقدت الثقة، اهتز في نفوسهم معنى الطاعة، وإذا فقدت لم تعد هناك قيادة ولا جماعة(3).

وليحذر الأخوة -أبناء الدعوة- مما يوسوس لهم الشيطان، فيظنون أن التصدي للقيادة، والتشهير بها وبقراراتها، دليل على مقامهم وعمق فهمهم.. فقد استخدمهم الشيطان في تفريق الصف عن وعي منهم أو بدون وعي..

ويسأل هؤلاء: أليس الدين النصيحة؟ نقول: نعم ولكن بشروطها.

لقد حذر من ذلك السلف رضوان الله عليهم، فمن أراد الإصلاح فعليه باتباع أحسن السبل كما فعل أسامة بن زيد رضي الله عنه حين طلب منه أن يكلم بعض الأمراء حول أمر ضجروه منه، فقال: (إنكم لترون أني لا أكلمه؟! ألا أسمعكم أنني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه). لقد أخبرهم رضي الله عنه أنه لم يغفل عن ذلك، وأنه كلمه ولكن في السر خوفا من أن يستغل أهل الأهواء كلامه، فيتخذونه ذريعة إلى الفتن والمفسدة، كما حدث (لأبي معبد عبد الله بن عكيم الجهني) وهو أحد التابعين الثقاة ممن أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، فقد تحسر وندم على كلمات تفوه بها زمن عثمان رضي الله عنه نصحه بهن جهارا، يظن أن فيه مساوئ فتلقف كلماته أصحاب الأغراض، واستباحوا دمه الشريف بها وبأمثالها.

قال التابعي رضي الله عنه: (لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان)، فسألوه: يا أبا معبد أو أعنت على دمه؟! فيقول: إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عونا على دمه. فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنه وقام في نفسه أنه الحق قد أدى إلى استغلال الرعاع له حين تكلم به، وكيف أشاعوه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه.

وسيدنا الحسن رضي الله عنه يقول لأبيه علي رضي الله عنه: ما بين لابتيها رجل إلا ومسؤول عن دم عثمان.. نعم، المتحدث الناقد على الملأ.. والساكت على الفتنة.. والقاتل الشرير.. كلهم مسؤول عن دم الخليفة.

ونهج إشاعة النقد نهج باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا سلكه داعية ذكر عنه الثبات على العمل، لأنه طريق إلى الفرقة والتباغض والخلاف.

ولكن من هي القيادة الراشدة التي تستحق منا كل هذه الثقة؟

قد يتصور البعض أن القائد الذي يجب موالاته وطاعته والثقة به هو (أقوى الناس وأتقى الناس وأعلم الناس وأفصح الناس، فذلك مطلب عسير لا نحسبه تحقق للكثيرين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يكفينا أن إخوانه اعتبروه أقدرهم على حمل هذه الأمانة الثقيلة فكلفوه بها، فإذا افترضنا أن أحد الأخوة رأى في نفسه، أو رأى من غيره، موهبة أو ملكة لم تكن عند قادته.. فليضع هذه الملكة تحت تصرف القيادة حتى تكون عونا لقائده لا حربا عليه وعلى الجماعة.

ولعلك يا أخي تذكر ما دار بين أبي بكر وعمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال عمر لأبي بكر: أبسط يدك أبايعك، فقال أبو بكر: بل أنا أبايعك، فقال عمر: أنت أفضل مني، فقال أبو بكر: أنت أقوى مني، وهنا قال عمر قوتي لك مع فضلك، ولقد صدق عمر في ذلك فقد كانت قوته دائما من وراء أبي بكر، كان يعينه ويشد أزره ويوليه ثقته.

من أجل هذا كان جواب الإمام حسن البنا رضي الله عنه لمن سأله: إذا حالت الظروف بينك وبين أن تكون بيننا، فمن تنصحنا بأن نوليه علينا؟ أن قال: (يا إخوان، اجعلوا عليكم أضعفكم، ثم اسمعوا له وأطيعوا، فسوف يكون بكم أقواكم)(4).

(1) نظرات في التعاليم- الخطيب، ص- 302.

(2) آل عمران - 126.

(3) نظرات في التعاليم- محمد عبد الله الخطيب، ص- 300.

(4) نظرات في التعاليم- الخطيب، ص- 301.

ملاحق

استكمالا للأركان العشرة التي ذكرها الإمام حسن البنا في رسالته العظيمة التعاليم.. فقد رأينا إضافة بعض البحوث التي نراها ضرورية لاستكمال الصورة وهي:

1- البيعة ومعناها.

2- العمل الجماعي (أهميته ومشروعيته).

3- الشورى.

4- دور المرأة في العمل الإسلامي.

ولقد تناول الإمام البنا هذه القضايا بشكل جانبي، فأردنا أن نفرد لها بحوثا خاصة بها، نظرا لأهميتها بالنسبة للدعوة الإسلامية.

البيعة

فما معنى البيعة؟ - أكثر من بيعة - البيعة عهد وموثق - البيعة في الجماعة الإسلامية

قال الإمام حسن البنا (رحمه الله) في رسالة التعاليم: أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها: (الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والأخوة، والثقة).

وبيّن الإمام ماذا أراد بكل ركن من هذه الأركان.. وأن رسالته هذه موجهة إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين، الذين آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها. وليست هذه الأركان دروسا تحفظ لكنها تعليمات تنفذ. وعلى هذه الأركان يبايع الإخوان المسلمون الصادقون(1).

فما معنى البيعة؟

• قال الله تعالى: )إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليهُ الله فسيؤتيه أجرا عظيما((2).

لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصل المؤمنين بالله، ويعقد بينهم وبينه بيعة ماضية لا تنقطع بغيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم. فهو حين يضع يده في أيديهم مبايعا، فإنما يبايع عن الله. وهو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده، أن يد الله فوق أيديهم. فالله حاضر البيعة. والله صاحبها. والله آخذها. ويده فوق أيدي المتبايعين. وإن هذه الصورة لتستأصل من النفس خاطر النكث بهذه البيعة، فإذا غاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله حاضر لا يغيب(3).

• عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه على:

السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان(4).

قال ابن حجر: منشطنا ومكرهنا أي في حالة نشاطنا وفي الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نؤمر به، وبواحا أي ظاهرا باديا، عندكم من الله فيه برهان أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل(5).

وقال صديق حسن خان: بعد أن روى هذا الحديث بألفاظ أخرى عن عبادة: في هذا الحديث دلالة على أن طلب المبايعة من الأصحاب سنة، وكذلك بيعتهم على ذلك سنة. والوفاء بها واجب، ونقضها عمدا معصية(6).

• وقال ابن خلدون: (إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع لا ينازعه في شيء من ذلك. ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده، تأكيدا للعهد. هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع، وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم)(7).

أكثر من بيعة

ثبت في السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب البيعة من أصحابه أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، وأنه أخذها منهم رضوان الله عليهم.

• فقد أخذ منهم البيعة قبل قيام الدولة الإسلامية وقبل الهجرة في موضعين، هما بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية.

• كما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقيام الدولة الإسلامية أكثر من مرة.

أخذها في الحديبية، حين أشيع خبر مقتل عثمان رضي الله عنه، وفي ذلك نزل قوله تعالى: )إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله((8)، وقوله تعالى: )لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة((9).

• وأخذها النبي صلى الله عليه وسلم من النساء بعد الحديبية، فقد كان يبايع من تهاجر إلى المدينة ولا يرجعها إلى مكة، كما كان يفعل بمن هاجر من الرجال. قال تعالى: )يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم((10).

• وبايع النبي صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء بعد فتح مكة، وكانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان من المبايعات.

من هذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة التي ذكرت نستنتج أن البيعة:

• تكون على الإسلام مثل البيعة التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، (فقد جاءه الناس الكبار والصغار والرجال والنساء فبايعهم على الإسلام والشهادة)(11).

• وقد تكون على الإسلام ومكارم الأخلاق، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه، فبايعناه على ذلك.

• وقد تكون بيعة السياسة والحرب فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من نسائنا. فاجتمعنا في الشعب حتى جاءنا رسول الله ومعه العباس. قلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال:

• على السمع والطاعة في النشاط والكسل.

• وعلى النفقة في العسر واليسر.

• وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

• وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم.

• وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة. فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا البيعة(12).

• وقد تكون بيعة على الموت، كما حدث في بيعة الشجرة في الحديبية.

• والبيعة تكون للرجال وللنساء وللكبار وللصغار على حد سواء.

البيعة عهد وموثق

فالبيعة موثق وعهد يعطيه المسلم طائعا مختارا لربه، مستسلما لمشيئته، مدافعا عن دينه.

فإذا كانت البيعة على الإسلام، فعهدهم أن لا يشركوا بالله شيئا. وإذا كانت البيعة على الجهاد، فعهدهم أن يبذلوا أنفسهم حمية لدينهم لا لأنفسهم حتى تكون كلمة الله هي العليا. وإذا كانت البيعة على النصرة، فعهدهم أن يسمعوا ويطيعوا للقيادة المؤمنة، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وأن لا ينازعوا الأمر أهله.

والبيعة عامة وخاصة

والبيعة قد تكون بيعة عامة كبرى.. تُعطى لإمام المسلمين الذي اجتمع عليه الناس كلهم، لاستيفاء شروط الإمامة، أو لكفاءته أكثر من غيره، أو لتغلبه.

قال الإمام الشاطبي في الاعتصام: قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة، قال: لا، قيل له: فإن كانوا أئمة جور. فقال: قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان، وبالسيف أخذ الملك، أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه، أمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة رسوله(13).

ولا تكون إلا بمبايعة أهل الحل والعقد للمرشح للإمامة، وعليه فإن أداءها واجب على الأمة كافة، ويُعَدّ من نقضها باغيا، والتارك لها من غير تأول يموت ميتة جاهلية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)(14).

وهذه البيعة لا تقبل التعدد لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)(15).

كما أن هذا النوع هو المقصود عند إطلاق لفظ البيعة، وعليه إجماع علماء المسلمين. وتنخرم هذه البيعة ويسقط واجب الطاعة إذا ما طرأ على الإمام الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله تعالى البرهان، أو طرأ عليه أمر يعجز معه عن القيام بأعبائها كالجنون ونحوه(16).

وقد تكون بيعة صغرى جزئية خاصة.. وللعلماء في هذا النوع من التحالف والعهد تفصيل:

• فإذا كان موضوع التحالف مخالفا للشرع فالعهد باطل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان له مائة شرط، كتاب الله أحق وشرطه أوثق)(17).

• وإذا كان العقد على أمر شرعي كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون العهد على طاعة من يرتضونه لعلمه أو كفايته، فقد سوغها بعض العلماء. ولقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية مشروعية هذا التعاهد فقال: (ولكن يحسن أن يقول لتلميذه عليك عهد الله وميثاقه، أن توالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان، وإن كان الحق معى نصرت الحق، وإن كنت على الباطل لم تنصر الباطل، فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى)(18).

ولقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم)(19)، قال شيخ الإسلام: فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الإجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة.. فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات(20).

البيعة في الجماعة الإسلامية

إن الجماعة المسلمة التي التقى أفرادها على أهداف محددة، وعلى الوسائل الموصلة لهذه الأهداف، في وضوح للرؤية، والتزام بالإسلام نصا وروحا في جميع الأهداف والخطوات، لابد من أن تكون بين أفراد هذه الجماعة رابطة قوية تجعلها متماسكة ومتحدة ومتعاونة إلى أبعد حد، وقد يكون بين أفرادها، أو بين بعضهم مؤاخاة في سبيل الله، ولكنها بالتأكيد يرتبط أفرادها بأمر آخر هو العهد، وهو البيعة، والبيعة تكون للرئيس العام، على السمع والطاعة في غير معصية، وحسب الاستطاعة، وعلى القيام بالواجب من أجل الوصول إلى الأهداف المحددة، فإن حصلت البيعة وجب السمع والطاعة من الأفراد، ووجب على المسؤول تحمل مسؤوليته حسب المتفق عليه، والوفاء بالبيعة واجب، والغدر بها حرام، والتحلل منها جائز، ويكون بأن يطلب المبايع من الرئيس أو الأمير أن يحلّه من بيعته حتى يتحلل من لوازمها(21).

(1) رسالة التعاليم- الإمام حسن البنا.

(2) الفتح- 10.

(3) في ظلال القرآن- سيد قطب 5: 3320.

(4) البخاري 9: 59.

(5) فتح الباري 13: 6.

(6) الدين الخالص- صديق حسن خان 3: 137.

(7) مقدمة ابن خلدون ص- 229، من كتاب النظام السياسي في الإسلام- د. محمد عبد القادر أبو فارس، ص- 300.

(8) الفتح- 10.

(9) الفتح- 18.

(10) الممتحنة- 12.

(11) البيهقي.

(12) مسند الإمام أحمد وصححه الحاكم وابن حبان.

(13) الاعتصام- الشاطبي 2: 128.

(14) مسلم.

(15) مسلم.

(16) الموسوعة الميسرة- الندوة العالمية 2: 1000.

(17) البخاري.

(18) الفتاوى- ابن تيمية 28: 20.

(19) الإمام أحمد.

(20) الفتاوى- ابن تيمية 38: 391.

(21) السلوك الاجتماعي في الإسلام- حسن أيوب، ص- (511-512).

العمل الجماعي - أهميته ومشروعيته

سقوط الخلافة - تخريب البنية الأساسية في الأمة - العمل الجماعي - الحركات الإسلامية

أوضاع المسلمين

يمر العالم الإسلامي منذ أكثر من مائة سنة بأوضاع عصيبة، قلبت الأمور، وغيرت المفاهيم، وأسقطت الأمة في أيدي أعدائها، فلم يتركوا جزءا من كيانها إلا ومسخوه وأسقطوه، وبإمكاننا بهذا الصدد أن نلاحظ مجموعة من المحطات الهامة في مسيرة هذه الأمة.

• المحطة الأولى كانت في لندن عندما عقدت الدول الاستعمارية الغربية مؤتمر كامبل عام 1905، الذي اتخذ قرارات على غاية من الأهمية. طرح المؤتمر فكرة أن الخلافة الإسلامية على وشك السقوط.. فكيف نحول دون قيامها مرة أخرى.. ولاحظ المؤتمرون أن المنطقة العربية هي المؤهلة لصحوة إسلامية تقاوم الاستعمار وتستخلص الحقوق.. وعليه فلا بد من تشديد قبضة الاستعمار على هذه الشعوب. وكإجراء استراتيجي قرر المؤتمر إنشاء إسرائيل بين آسيا العربية وأفريقيا العربية كمحطة غربية وقاعدة عسكرية تضبط منها وبها سلوك المنطقة.

• المحطة الثانية كانت في مؤتمر بال الثاني الذي عقد في سويسرا عام 1898م والذي قرر إسقاط السلطان عبد الحميد الثاني رضي الله عنه بعد أن رفض أن يتنازل لليهود عن فلسطن ليقيموا دولتهم على أنقاض شعبها المسلم.. ونفذت دوائر الغرب والحركة الصهيونية والمحافل الماسونية المؤامرة.

ومع إسقاط السلطان عبد الحميد عام 1909م.. حكم الدولة العثمانية حزب الإتحاد والترقي التركي الطوراني المعادي للفكر الإسلامي الموالي للغرب المشبع بأفكار اليهود.. وبدأ الحزب يعمل على تتريك الشعوب المختلفة في الدولة العثمانية، مما جعل الأمة الواحدة شعوبا وقبائل يحارب بعضها البعض الآخر.

• المحطة الثالثة كانت أن فرض حزب الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية دخول الحرب العالمية الأولى عام 1914م.

ونتيجة لهذه الحرب تحطمت الدولة العثمانية، وتمزقت دولة الإسلام، وسقطت الخلافة، وكانت معاهدة لوزان عام 1923م التي شكلت الوثيقة الرسمية لإبعاد الإسلام عن أمور الدولة.

سقوط الخلافة

كانت مرحلة عصيبة، فلأول مرة تجد الأمة المسلمة نفسها بلا خليفة.. الأمر الذي دفع بقيادات المسلمين في مصر والحجاز والهند وأفغانستان وغيرها إلى عقد المؤتمرات لانتخاب خليفة بديل عن الخليفة العثماني. ولقد سارع الشريف حسين زعيم مكة فأعلن نفسه خليفة للمسلمين.. بينما عقد علماء الأزهر المؤتمرات ورشح بعضهم الملك فؤاد ليكون الخليفة.. وقامت في الهند جمعية الخلافة التي جمعت الأموال لمساعدة الخليفة.. وتحرك الإنكليز ليتخذوا من الآغاخان (أحد عملائهم) خليفة للمسلمين.. وتحركت الأقلام بعضها تدعو إلى سرعة اختيار الخليفة، وانبرت أقلام في اتجاه آخر مثل علي عبد الرازق في مصر تشكك في الخلافة.. وشرعيتها.. وتدعي بأن الخلافة لم تجر على الأمة إلا المصائب.

في هذه الفترة العصيبة التي تلت الحرب العالمية الأولى.. وقعت جميع بلدان المسلمين تحت حكم الدول الاستعمارية الغربية. حكمت هولندا اندونيسيا، وحكمت انكلترا مصر والسودان وجزءا من الصومال والعراق والخليج العربي واليمن الجنوبي وفلسطين والأردن وماليزيا، وحكمت فرنسا الشمال الأفريقي وسوريا ولبنان وجزءا من الصومال، وحكمت إيطاليا اثيوبيا وجزءا من الصومال وليبيا. واستخدمت الدول الإستعمارية في احتلالها أعلى درجات العنف. جزّأت البلاد وزرعت الفتن، وألغت المدارس والجامعات الإسلامية، وأقنعت الكثيرين أن الدين مجرد علاقة شخصية بين المرء وربه.. وأن المساجد مفتوحة لمن أراد الصلاة.. أما العلوم والسياسة والحياة الاجتماعية والقانونية والاقتصادية فلا سبيل لها إلا عن طريق الفكر الغربي، فالغرب لم يتقدم إلا يوم نبذ الدين وأقصى الكنيسة عن ميادين الحياة.

تخريب البنية الأساسية في الأمة

عمل الغرب أثناء مكثه الطويل في بلادنا على تخريب البنية الأساسية لهذه الأمة.

  • أولا- في الجانب السياسي

قامت سياسات الاستعمار على:

• التجزئة

أول عمل قام به الإستعمار في العالم الإسلامي أن قسم هذا العالم إلى أجزاء ودويلات. في الخطوة الأولى أقنع العرب بأن يثوروا ضد الأتراك باعتبارهم أحق منهم بالخلافة، ومناهم إذا فعلوا بإمبراطورية عربية تضم كل بلاد العرب.. وكانت النتيجة التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى أن انعزلت تركيا كيانا محاصرا صغيرا، وتقسمت المنطقة العربية إلى أكثر من عشرين دولة ودويلة، وما زالت تعاني هذه الأجزاء، التي أصبحت دولا مستقلة ذات سيادة، من مشاكل حدود ومطالبات فيما بينها، تركها لهم الاستعمار فتيلا قابلا للانفجار، يتجدد كلما هدأ. والغريب أن بريطانيا وحدت الهند عندما استعمرتها.. فرّقت بلاد المسلمين بعد ما كانت موحدة..

• اللادينية

أطلقوا الأقلام الخارجية والداخلية تروج للحضارة الجديدة، كوك ألب وخالدة أديب في تركيا، طه حسين وقاسم أمين وعلي عبد الرازق في مصر، أحمد خان في الهند، وغيرهم هنا وهناك يكتبون على استحياء في البداية وبانطلاق بعد ذلك بأن الدين عبارة عن علاقة بين الشخص وخالقه.. ولا علاقة له البتة بما وراء ذلك.. وأن الأمة إذا أرادت أن تنفض عنها غبار الجهل والتخلف فعليها أن تتجاوز المرحلة الدينية أي مرحلة الخرافات إلى المرحلة العلمية المادية أي مرحلة أنبوبة الاختبار، إذا شاء شخص أن يصلي ويدعو الله ويستغيثه فهذا شأنه.. أما ما عدا ذلك فلا دور للدين في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو العلوم أو الآداب أو الفنون أو الأخلاق.

يقول طه حسين (على سبيل المثال): لو وقف الدين الإسلامي حاجزا بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه)(1).

• العنصرية

والقومية التي روجوا لها في بلادنا هي قومية عنصرية علمانية، ولقد نصت الاتفاقات التي عقدت بين الشريف حسين والإنكليز في مراسلاته معهم، أن الدولة العربية المنتظرة هي دولة قومية لا دينية. والقومية عندما تتخلى عن الدين تبحث لها عن شعارات ورموز أخرى تربط بها شعبها، فوُجدت الفرعونية في مصر والآشورية في سوريا، ثم صارت الإقليمية نفسها رموزاً تُحاط بهالة خاصة، فاللبنانية صارت حضارة والأردنية والسورية حضارة والخليجية حضارة والأمازيغية حضارة وهكذا...

• الديموقراطية المزيفة

وهي حكم الشعب للشعب كأسلوب للحكم... ولقد نجح الغرب إلى حد مّا في تطبيق هذا النظام وحصل الإنسان الغربي على الكثير من حرياته في ظله. أما في العالم الثالث فباسم الديموقراطيات ارتُكبت جميع أنواع المظالم، وتحت اسم الديموقراطية تقوم كل أنواع الأنظمة التي تمتهن حرية الإنسان وكرامته.

  • ثانيا- في الجانب التشريعي

الجانب التشريعي هو أكثر الجوانب التي اهتم الاستعمار بها.. فكان يرفض الخروج من بلد، حتى يطمئن إلى أن حكومة هذا البلد قد قبلت استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الغربية.

بمناسبة مرور خمسين سنة على معاهدة لوزان أذاع التلفزيون التركي مقابلة مع عصمت أنينو رئيس الجانب التركي في المعاهدة المذكورة، سأله التلفيزون عن المعاهدة بعد مرور خمسين سنة عليها، فأجاب أنينو: لقد وافق الغرب على مطالبنا بالاستقلال، وسحب قوات الاحتلال من أراضينا، بشروط أهمها إلغاء الخلافة، وطرد جميع آل عثمان من البلاد، واستبدال قوانين الشريعة الإسلامية بالقوانين الأوروبية، واشترطوا أن يرسلوا بعثة تراقب تطبيق البند الأخير من هذه الشروط!

جميع البلدان التي حصلت على استقلالها السياسي ألغت الشريعة الإسلامية واستبدلتها بقوانين الغرب، وحصرت الأمور الشرعية بما عرف بقوانين الأحوال الشخصية.. وكان ذلك مرحلة أولى ثم جاء من تجرأ فألغى حتى القسم الأخير..

(والقانون له صلة وثيقة بأخلاق الناس ومجتمعهم، فإذا وضع الإنسان قانونا من القوانين فلا بد أن تكون وراءه فلسفة من فلسفات الأخلاق والاجتماع، وأن يكون نصب عينيه صورة خاصة يريد أن يفرغ في قالبها الحياة الإنسانية قاطبة. وكذلك إذا نسخ الإنسان قانونا من القوانين، فكأنه نسخ النظرية الخلقية والفلسفة المدنية التي كان ذلك القانون مستندا إليها، وبدّل صورة الحياة التي كانت مستمدة من ذلك القانون، فلما اقتلع المستعمر ما كانت لدينا من قوانين شرعية واستبدلوها بقوانينهم المدنية، فلم يكن معنى ذلك أنه مضى قانون وحل مكانه قانون آخر فحسب، بل كان معنى ذلك أنه قد أُقتُلع من أرض هذه البلاد نظام للأخلاق والمدنية وأُسس مكانه نظام آخر للأخلاق والمدنية)(2).

  • ثالثا- في الجانب الثقافي

منذ وطئت أقدام الاستعمار بلاد المسلمين.. حاول تبديل بنيتها الثقافية، فألغى معظم مدارسها الإسلامية، وقلل من قيمة الجامعات الإسلامية العريقة (الزيتونة، القرويين، الأزهر.. إلخ). وأهمل خريجيها، أما الطلبة النابهون فأرسلوا إلى جامعاته ليعودوا بعد فترة مبشرين بثقافات الغرب وآرائه في الحياة والمدنية.. وفي بعض البلدان الإسلامية غُيّرت الحروف التي تكتب بها اللغة من حروف عربية إلى حروف لاتينية في عملية تجهيل كاملة تقطع ماضي الأمة عن حاضرها. واليوم وبعد مضي قرابة القرن، نجد معاهدنا القائمة في بلادنا، وطلابنا الذين هم عدة مستقبلنا، ما زالوا يدرسون ثقافات الغرب ويقرأون نظرياته في الحكم والاقتصاد والاجتماع والتاريخ وتفسير موقع الإنسان من الكون والحياة.. ولقد صرّح مفكرو الغرب مرات كثيرة بأننا نعتمد على المعاهد أكثر من اعتمادنا على الجيوش.

في كلمة ألقاها البروفسور الدكتور نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاة في تركيا بمناسبة يوم الاستقلال قال: إن أمتنا هزمت جيوش اليونان وأخرجتهم من بلادنا.. ونحن نحتفل سنويا بعيد الاستقلال.. ولكن لا بد أن نعرف أن اليونانيين الذين خرجت جيوشهم، ما زال طلابنا يدرسون فكرهم في الجامعات باعتباره الفكر الأرقى والأعظم..

لا بد أن تدرك الأمة أن الاستقلال الحقيقي يتمثل في خروج جيوش هؤلاء وفكرهم وثقافتهم معا.

  • رابعا- في الجانب الاقتصادي

ويمكن أن نعدّد بنفس الطريقة أوضاعنا الاقتصادية، وكيف قلبوها إلى معاملات بعيدة عن مصالحنا قريبة من مصالحهم.. تدعم وتقوي الجهاز الاستعماري العالمي بإرادة منا أو بدون إرادة.. وقضية ديون العالم الثالث وعجزه عن الوفاء حتى بفوائد هذه الديون، هي نوع من الاستعمار الجديد الذي ابتكروه حديثا لإيقاع جميع هذه البلدان في حبائلهم(3).. والأموال التي يملكها العالم الثالث هي مجرد أرقام على شكل ودائع محفوظة عندهم.. فالسادة أقدر على الاستفادة من الأموال (كما يزعمون)!

وحتى ثروات العالم الثالث الاستراتيجية كالنفط وغيره.. هي من حق العالم الأول يستخدمها ويزداد ثراء بها.. ولا يترك لأصحابها إلا مهمة حراستها والقليل القليل من أثمانها. ولقد زاد الطين بلة بالعولمة التي حوّلت العالم إلى قطع شطرنج يلعب بها السيد الأمريكي.

  • خامسا- في الجانب الاجتماعي

وكذلك أوضاعنا الاجتماعية وخاصة قضية المرأة.. ومحاولتهم إخراج القضية عن طبيعتها وتحميلها ما لا تحتمل. ولقد انساق المسلمون للأسف الشديد في كثير من البلدان وراء الغرب وقلدوه في حياتهم الاجتماعية خطوة خطوة..

لقد حاولوا مسخ الشخصية الإسلامية التي تعتز بنفسها ودينها وتراثها(4).

العمل الجماعي

من هذا المنطلق بدأ المفكرون وأصحاب الغيرة على هذه الأمة.. يفكرون في مخرج.. فقامت تجمعات وطنية لمقاومة الاستعمار.. وقامت تجمعات اشتراكية لمقاومة الرأسمالية.. وقامت بالمقابل جماعات وحركات إسلامية في أنحاء العالم الإسلامي.. تعمل على إعادة بناء الفرد على مناهج النبـوة.. وتعيـد ثقة المسلم بنفسه وبدينه..

وتعمل على تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي.. وتعمل على إصلاح المجتمع وإقامة دولة الإسلام..

  • شرعية العمل الجماعي

والسؤال الذي يطرح نفسه.. هل مثل هذا العمل الإسلامي الجماعي مشروع؟ وما دليل مشروعيته؟

أولا- الدليل من القرآن الكريم

• الدعوة إلى الله تعالى وظيفة الرسل، قال تعالى: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا، أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت((5).

• وإن هذه المهمة انتقلت إلى الأمة المسلمة من بعد الرسل، قال تعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله((6).

• وإن الدعوة إلى الله هي واجب كل مسلم ومسلمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)(7).

فالمسلم القائم على أمر الدعوة الذي تمنعه ظروفه من أن يجاهد الظلم والمنكر بيده أو بلسانه.. يلجأ إلى أضعف الإيمان فيجاهده بقلبه، وهذا النوع من المجاهدة لا يعني مطلقا مجرد الإنكار القلبي والاستكانة بعد ذلك.. بل يعنى أن يتحوّل هذا الإنكار إلى فكرة يبثها المنكر بقلبه بين أقرانه، يجمّع عليها جميع المنكرين بقلوبهم، حتى يتكوّن منهم تيار غالب يقوّى أفراده بعضهم بعضا، بحيث تصبح لهم قوة مادية يستطيعون بها أن ينكروا بألسنتهم أو بأيديهم. وهؤلاء هم الذين يكوّنون الجماعة المسلمة، غايتها: تجميع القوى المختلفة التي تؤمن بالتغيير ولكنها لا تستطيع منفردة القيام به.. فتجمّع قواها لتصبح تيارا غالبا وقوة مادية تتغلب على المنكر وأهله.

(والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الخصيصة الأولى التي تميزت بها الأمة المسلمة. قال تعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله((8).

قدم ربنا عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذكر على الإيمان. فالإيمان مشترك بين الأمم الكتابية جميعا.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضيلة هذه الأمة)(9).

• وهذا هو معنى النداء الرباني: )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون((10).

قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه. فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

• ومعنى قوله تعالى: )واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون((11).

قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ولا تفرقوا أي أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة. ولقد ضمنت لهم الآية العصمة عند اتفاقهم) (12).

• ومعنى قوله تعالى: )ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم((13). قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: (يد الله مع الجماعة)(14).

• ومعنى قوله تعالى: )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا((15). أي إن لم يوال بعضكم

بعضا كما يفعل أهل الكفر حدثت الفتنة، ووقع الفساد لتناصرهم وتخاذلكم، واجتماعهم وتفرقكم.

• ومعنى قوله تعالى: )قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني((16).

قال ابن القيم في تفسير هذه الآية: قال الفراء: (أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو).

ثانيا- شواهد السنة

• الحديث عن زيد بن ثابت مرفوعا قال: (ثلاث لا يفل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)(17) .

• والحديث عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)(18).

• وحديث الحارث بن الحارث الأشعري مرفوعا: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)(19) .

• وحديث معاذ بن جبل: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة)(20).

• وكان منهاجه عليه الصلاة والسلام في تشييد صرح دولة الإسلام أنه حرص لأول وهلة على الظفر والانحياز إلى جماعة تؤيده وتؤازره وتعينه على أمره، وكان يقول للناس في المواسم -وهو يعرض نفسه عليهم-: (هل من رجل يحملني إلى قومه لأبلغ رسالة ربي، فإن قريشا منعوني أن أبلغ رسالة ربي) وما زال كذلك حتى قيض الله له رجالا من الأوس والخزرج حملوه إلى المدينة وبذلوا المهج والأرواح لنصرة دعوته.

والإقتداء به في منهج الدعوة واجب كالإقتداء به في سائر التكاليف الشرعية الأخرى )واتبعوه لعلكم تهتدون((21)(22).

ثالثا- آثار السلف

• عن جابر بن سمرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في خطبته المشهورة التي خطبها بالجابية: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)(23).

• وروى محمد بن سيرين عن أبي مسعود الأنصاري أنه وصّى من سأله لما قتل عثمان رضي الله عنه: (عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة)(24).

• وقال الشافعي: (ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة)(25).

• وقال ابن تيمية: (وأما لفظ الزعيم، فإنها مثل الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: )ولمن جاء به حِمل بعير وأنا به زعيم((26) فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال هو زعيم. فإن كان تكفل بخير كان محمودا على ذلك، وإن كان شرا كان مذموما على ذلك.

وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزبا. فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك أو نقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والاعتراض عمن لم يدخل حزبهم سواء على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان)(27).

• وهذا المعنى وعاه الصحابة والسلف والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين وعيا كاملا، فلم يكتفوا بالدعوة الفردية، وإنما أسسوا الجماعات للدعوة إلى الله، وعملوا عملا جماعيا.

• منهم الصحابي هشام بن حكيم بن حزام القرشي، قال الزهري: (كان يأمر بالمعروف في رجال معه)(28) فهو قد كوّن جماعة آمرة، ودلل على أن الأمر بالمعروف لا بد له من عصبة، ومتى كانت عصبة كانت دعوة(29).

• ولقد استنكر السلف على من اعتزل العمل الجماعي بحجة الفتنة.

يروي التابعي الكوفي عامر الشعبي، أن رجالا خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتاهم، وقال لهم: لو أن الناس فعلوا ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟

وهذا عبد الله بن المبارك الداعية المجاهد.. ينكر على رفيقه الزاهد العابد الفضيل بن عياض.. اعتزاله ومجاورته في مكة.. وتركه الجهاد.. فبعث إليه يقول:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت أنك بالعبادة تلعب

من كان يخضب جيده بدموعه

فنحورنا بدمائنا تتخضب

رابعا- العمل الجماعي عند الدعاة المعاصرين

• يقول الداعية سيد قطب (رحمه الله): (هكذا وجد الإسلام متمثلا في قاعدة نظرية مجملة يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي، مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع.. ولم يوجد قط في صورة (نظرية) مجردة عن هذا الوجود الفعلي.. وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى)(30).

• ويقول الإمام المودودي (رحمه الله): (إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض الله، لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام، فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق، لا ينتهي عمله إلا بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام.

ثم إذا لم يكن من الممكن تحقق هذا المقصد الأسمى إلا بالمساعي الجماعية، لم يكن بد من أن تكون في الأرض جماعة صالحة تؤمن بمبادئ الحق، وتحافظ عليها، ولا تكون لها غاية في الحياة إلا إقامة نظام الحق وإدارة شؤونه، بغاية من الاهتمام والعناية، ولعمر الحق أنه ولو لم يكن على وجه الأرض إلا رجل واحد مؤمن، لما جاز له أن يرضى على نفسه بتسلط نظام الباطل. ولا يكون أمامه إلا طريق واحد. وهو: أن يدعو الناس كافة إلى منهاج الحياة الذي يرضى به الرب تعالى)(31).

• البشير الإبراهيمي يغادر الجزائر ليستقر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فيلحق به صديقه عبد الحميد بن باديس فيسأله:

من يحرر الجزائر إذا بقيت هنا؟

ومن يقاتل العدو إذا اعتزلتم.. صرخة مؤمنة في وجوه الهاربين من الميدان لعلها تعيدهم إلى الكفاح.. فلا بد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح.. وليس بالقعود والتمني يصل المسلم إلى الغاية المرجوة.

• أما حسن البنا الذي عاش في فترة عصيبة من أحوال الأمة المسلمة.. سقطت فيها الخلافة.. وعاث المستعمر فسادا في بلاد المسلمين.. خرّب البنية الأساسية: السياسية والاقتصادية والتشريعية والثقافية.. لم يكن أمامه إلا أن يؤسس حركة الإخوان المسلمين.. تجتمع فيها القوى الإسلامية.. تستعيد ثقتها بنفسها وبدينها.. وتعمل على تحرير الأوطان.. وإقامة دولة الإسلام.

خلاصة الأمر

1- إن هذا الدين ليس مجرد وصايا نظرية يؤمن بها المسلم.. ومن ثم يترك سبيل إدارة المجتمع للآخرين. إن طبيعة الإسلام أن ينشئ تجمعا عضويا حركيا يؤمن بعقيدة الإسلام.. ويتحول من فوره إلى جماعة تبذل الوسع لإقامة شرع الله. وإذا كانت إقامة الإسلام واجبا.. فالجماعة المسلمة التي هي وسيلته.. واجب كذلك، على قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

2- والجماعة الإسلامية المطلوبة.. هي جماعة راشدة، مستسلمة لربها، تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مؤتلفة ذات شخصية متميزة، لها هدف محدد، ويحكمها تنظيم محدد.. قال تعالى: )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون((32).

جاء في تفسير المنار: (إن الأمة أخص من الجماعة، فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص الواحد).

3- والاعتصام بالجماعة.. عصمة من الاجتماع على ضلالة.. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (عليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة)...وعصمة من الفشل والتنازع )ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم((33).

4- والجماعة لا بد منها، أمام هذا الحشد الهائل لأعداء الدين.. وأمام هذه التجمعات التي تحارب الإسلام بإمكانات كبيرة.

ومهما أوتي الفرد من قدرة فإنه لا يستطيع النهوض بتبعات الدين وتكاليفه ليبلغ بها الأهداف المرجوة والآمال المبتغاة(34).

الحركات الإسلامية

من هذا المنطلق قامت الحركات الإسلامية في مختلف بلدان المسلمين. بعض هذه الحركات محلي النشأة والأهداف، وبعضها عالمي النظرة والتطلعات. فما أن تتدهور أوضاع الأمة المسلمة، فتفقد وحدتها وقوتها، وينال منها أعداؤها، أو يتحكم فيها حكام يشيعون الظلم ويهادنون العدو.. حتى يتصدى لهذه الأوضاع رجال ربانيون يتعاهدون على إعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة الأمة إلى دينها.

ففي مصر قامت حركة الإخوان المسلمين عام 1928م على يد الإمام حسن البنا، وفي شبه القارة الهندية قامت الجماعة الإسلامية عام 1938م بقيادة الإمام أبي الأعلى المودودي، وحزب السلامة والرفاه في تركيا عام 1969م بقيادة البروفسور الدكتور نجم الدين أربكان، وحزب ماشومي في أندونيسيا.بقيادة الدكتور محمد ناصر.. وأعداد كبيرة من الحركات الإسلامية الأخرى التي تمت بصلة فكرية أو تنظيمية لواحدة من هذه الجماعات.

إن نقطة البدء اليوم هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام.. أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق.. ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان.. إنه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. هذا هو أسلوب الطلائع في تحقيق البعث الإسلامي لتحقيق المنهج الرباني(35).

عناصر الحركة الإسلامية

ولا بأس أن نقف ولو باختصار عند هذه العناصر التي تقوم عليها الحركات الإسلامية، نحللها ونعدد اختلاف وجهات النظر حولها، فقد يكون في ذلك بعض الفائدة.

معنى التنظيم

تطلق كلمة التنظيم على كل تجمع من الناس، يسعون نحو هدف محدد، يجعلون عليهم رئيسا هو القائد، ينظمون أمورهم حسب لوائح يتفقون عليها، ولا تشذ التنظيمات الإسلامية عن هذا النمط، وإن كان التنظيم الإسلامي يضبط وجوده، وأهدافه، وعلاقات القائد بقاعدته، بالتعاليم الإسلامية، مقتفيا في ذلك سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في مختلف أطوار دعوته، وبقدر تعدد الاجتهادات والتفسيرات لتصرفات القائد محمد صلى الله عليه وسلم فإننا نجد تعدد أشكال التنظيمات وأهدافها بالقدر نفسه.

• فمنهم من يرى أن التنظيم ينبغي أن يضم عناصر قليلة، منتقاة، صاحبة علم وثقافة، وخلق ومركز اجتماعي، وقدرة على خدمة الدعوة والارتقاء بها، وقيادة الجماهير بعد ذلك نحو الهدف المنشود. وهو ما يشبه المجموعة الطليعية في زماننا هذا.

• ومنهم من يرى أن التنظيم هو إطار شامل يضم الناس جميعا، يتلقون فيه مقدارا معينا من الإعداد والتربية، ويزداد حجم التنظيم بازدياد نشاط أعضائه في ضم المزيد من العناصر، وتصبح نظرة الرضا كاملة ينظرها العنصر إلى زميله في التنظيم.. بينما ينظر للآخرين بعين الشك وعدم الاطمئنان.

والتنظيمات الإسلامية تضم كلا النوعين.. ففي الوقت الذي تتشدد فيه الجماعة الإسلامية في باكستان بشروط العضوية، ولا تقبل في صفوفها إلا النخبة كأعضاء عاملين.. تتساهل حركة الإخوان المسلمين في هذه الشروط ولكلا الطريقتين مزاياهما.. وعيوبهما.

والأمر الأمثل فيما يبدو هو الجمع بين الطريقتين، فلا ينشغل التنظيم بالأعداد الضخمة المتزايدة ومشاكلها حتى لا يغرق فيها، ولا يقتصر بالمقابل على المجموعة الطليعية وحدها فتنقطع صلته بالجماهير.. والتغيير في كل الظروف لا تحدثه الجماهير.. إنما تحدثه النخبة الواعية التي تقود الجماهير.

أهداف التنظيم

يشترط في العمل الجماعي الصادر عن الجماعة المنظمة وفق منهاج معين، أن يراد به تحقيق هدف معين تسعى إليه الجماعة. وهدف الإخوان المسلمين إصلاح الفرد المسلم، وإصلاح الأسرة المسلمة، وصبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية، وإقامة الحكومة الإسلامية التي تطبق شرع الله.

التنظيم بين الدين والسياسة

والدعوة إلى فصل الدين عن السياسة قديمة.. غير أنها استقرت عرفا سياسيا في القرن الماضي والقرن الحالي.. والدعوة في أصلها غربية كنسية ينسبونها إلى قول السيد المسيح: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وهذا النوع من الفهم لا يعرفه الإسلام ولا يقره. فالإسلام دين يتناول جميع مظاهر الحياة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما فيها الجهاد والعبادات والعقائد.. ولا يعرف مثل هذه التقسيمات. والدول الغربية التي تآمرت على المسلمين.. وأسقطت دولة الخلافة، واحتلت بلاد المسلمين، فرضت عليهم أوضاعا ثقافية وسياسية وقانونية لا يقرها الإسلام ولا تخدم غير أغراض المستعمر.. ومنها هذه الفرية «فصل الدين عن السياسة».. وللأسف الشديد فإننا نجد بعض التنظيمات الإسلامية تسير في الاتجاه نفسه، وتزعم لنفسها مسارا بعيدا عن السياسة.. ونستطيع أن نقول: إن الغاية الرئيسة للتنظيمات الإسلامية هي إقامة الحكومة المسلمة وتطبيق الشريعة الإسلامية.. وكل ابتعاد عن هذا الهدف يعتبر انحرافا عن الإسلام. والدعوة الإسلامية الأولى لم تحاربها قريش من أجل توحيد الآلهة بإله واحد.. إنما حاربتها لأنها أرادت أن تقيم سلطان الإسلام مكان سلطان قريش!

التنظيم بين السرية والعلنية

وهذه قضية أخرى ، تعاني منها التنظيمات السياسية بعامة والتنظيمات الإسلامية بخاصة.. جميع الحركات الإسلامية بدأت علنية تدعو الناس أن يمارسوا حقهم المشروع في عملية التغيير بالوسائل السلمية، فقد ضمنت القوانين وحقوق الإنسان والشرائع الدينية للإنسان حريته في القول والكتابة والتجمع. ولكن الإرهاب بكل أنواعه الذي مورس بحق الإسلاميين جعلهم يحوّلون عملهم الدعوي إلى تحت الأرض في بعض الأماكن.

والأمر الطبيعي أن ينظر الإسلاميون إلى السرية على أنها طارئة، يعملون على تخطيها والعودة إلى العلنية .. ولكن بعض التنظيمات استمرأت الأمر، واعتبر السرية هي الأصل في التنظيم.. وهو أمر مخالف لطبيعة الدعوة. والسرية كما أنها أسلوب مرفوض إلا للضرورة.. فإن أجواءها غير صحية.. ولقد تاهت كثير من الحركات والمنظمات والأفكار والعقائد بسبب السرية.

معنى القيادة

(لا بد لكل جماعة من رئيس، تلك حقيقة قررتها الشريعة وأمرت بها، ويؤيدها الواقع ويدركها العقل السليم، وفي الحديث الشريف: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم). يقول الإمام ابن تيمية تعليقا على هذا الحديث: (فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة)(36).

وتقوم القيادة

بإدارة الجماعة.

ووضع الخطط لها.

وتحديد الأهداف المرحلية والنهائية.

ووضع الوسائل المناسبة لهذه الأهداف.

وتنفيذ الخطة.

وتشكيل الأجهزة التي تشرف على متابعة التنفيذ.

وتحسن قراءة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية(37).

فإذا تصورنا أن جميع هذه المهام تقع على عاتق القيادة الحركية في التنظيمات الإسلامية.. فمعنى ذلك أن القيادة يجب أن تكون على درجة عالية من الكفاءة، ليس في الجوانب الشرعية فحسب، بل وفي مختلف جوانب المعرفة.

فعلى القيادة مثلاً أن تعرف الكثير عن علوم الإدارة

  • • كيف تختار العناصر المناسبة.
  • • كيف تُعدّهم، وترفع باستمرار مستوى أدائهم ، وتحسن توجيههم حسب قدراتهم.
  • • كيف تنظمهم.
  • • كيف يمكن الاستفادة منهم وتحقيق أهدافها من خلالهم.
  • • أن تضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
  • • وأن تمنح الثقة وتعطي الصلاحيات وتحاسب على الإنتاج فالقدرات تبنى بالمسؤوليات.

ومن واجبات القيادة

  • • أن تتابع العمل ولا تكتفي بالتقارير.
  • • القيادة الإسلامية لا بد أن تكون على درجة عالية من الكفاءة والثقافة الإسلامية والعلوم العصرية المتنوعة..
  • • وعلى القائد الإسلامي أن يكون حارسا للمبادىء أمينا على المفاهيم والتصورات التي يدعو لها.
  • • وعلى القائد الإسلامي أن يكون قدوة صالحة، راجح العقل، شجاعاً، حليماً، عفواً، رفيقاً، متثبتاً، وفياً للعهد، صادقاً، ذكياً، حاضر البديهة، سليم الصدر، لا يقبل السعاية والنميمة.
  • • وعلى القائد الإسلامي أن يتخذ البطانة الصالحة.
  • • وعليه قبل كل شيء أن يتأكد من تطبيق الشورى في جميع مواقع اتخاذ القرار.
  • • والقائد مسؤول عن عمله، يحاسب إن قصر أوأخطأ(38).

ولا بد من القول أن القيادة على الرغم من أنها عنصر واحد من عناصر العمل الإسلامي.. إلا أنها أهم العناصر.. فجميع القرارات الهامة في التاريخ مرتبطة بقائد ناجح. والقائد ليس الذي ينجح إذا تيسرت له فرص النجاح، ولكنه الرجل الذي يحوّل اليأس إلى أمل والعسر إلى يسر والإحباط إلى تفاؤل.. والهزيمة إلى نصر..

البيعة

في حالات كثيرة يكون الخلط بين قائد الجماعة المسلمة أيا كان اسمها.. وبين الخلافة أو قيادة الدولة الإسلامية.

وإذا كان خروج الفرد المسلم على الدولة الإسلامية يعتبر كبيرة من الكبائر.. فإن الأمر في حالة الجماعة الإسلامية ليس كذلك.. ولقد بالغ بعض الكتاب الإسلاميين عندما عرّفوا البيعة بأنها عهد على الطاعة، كأن يعاهد الرجل أميره (في الجماعة المسلمة) على أن يسلّم له النظر في نفسه وأمور المسلمين، لاينازعه في شىء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره(39).

ونحن نعتقد أن البيعة تكون على الإسلام، وتكون على الجهاد، أما البيعة التي يعطيها الفرد في التنظيم الإسلامي لقائده، فهي عقد يوكله بموجبه بتصريف أمور التنظيم ضمن الضوابط الشرعية والقانونية التي تشملها لوائح التنظيم. فإن وفى القائد بهذا العقد كان له على الأفراد حق السمع والطاعة بالمعروف.. والوفاء بالبيعة واجب والغدر بها حرام، والتحلل منها جائز، ويكون بأن يطلب المبايع من الأمير أن يحلّه من بيعته حتى يتحلل من لوازمها(40).

أركان البيعة

في رسالة التعاليم ذكر الإمام حسن البنا (رحمه الله) أركان البيعة فقال إنها عشرة: الفهم، الإخلاص، العمل، الجهاد، التضحية، الطاعة، الثبات، التجرد، الأخوة، الثقة.

وهذا يعني أن الفرد في جماعة الإخوان المسلمين قد بايع القائد على هذه الأركان، وعليه أن يلتزم بها فهما وعملا وجهادا.. ولا يجوز له أن يتجاوزها.. إلا إذا انفصل عن الجماعة.. وطلب من الأمير أن يحرره من بيعته.

الشورى والعدالة

والشورى هي أساس العلائق بين المسلمين.

والعدل هو شرط لإقامة علاقة صحيحة بين القائد والأتباع.

والشورى كما أنها أساس قانوني تقوم عليها العلاقات في كل تجمع إسلامي صغر أم كبر، كذلك فهي خلق إسلامي وصفة لازمة للمؤمنين المصدقين المستجيبين لله. قال تعالى: )والذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون((41).

والشورى واجب على الحاكم والمحكوم، ونتائجها تلزم القائم بالأمر، ولا شورى بدون معلومات يقدمها المسؤول للآخرين، والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. أما حجب الشورى.. فهو سبب رئيس لانحدار الأمة والجماعات.

أما العدل الذي ينادي به الإسلام فهو عدل مطلق يساوي بين الناس، قال تعالى: )وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل((42).

والعدل يوصف به الفرد، كما يوصف به المجتمع، وكما هو أساس الملك فهو أساس التعامل مع الجميع. مع الضعيف قبل القوي، مع الصغير قبل الكبير، مع المعاهد والذمي مثل المسلم سواء بسواء..

وعلى كل من تولى أمراً من شؤون المسلمين.. حاكما أو أمير نفر من المسلمين.. فمن أول واجباته العدل بين من يعول.. وبينهم وبين عامة الناس.

الطاعة

وللقائد المسلم مقابل أدائه لواجباته، وقيامه بحقوق الآخرين، السمع والطاعة بالمعروف. فمن غير المعقول أن يكون القائد قائما بما عليه لله وللأمة، ثم لا يكون مسموع الكلمة ولا مطاعاً، والطاعة بالمعروف قضية ضرورية في كل المجالات. ففي المصنع مثلاً لا يمكن أن تسير أموره ما لم تكن فيه قيادة مسموعة الكلمة، وفي الجيش لا يمكن تصوره بدون قيادة نافذة... وكذلك الأمر في شتى الأعمال.. ومنها التنظيمات الإسلامية وغير الإسلامية وكذلك شأن الدول والأنظمة. ولقد حث الإسلام على طاعة من يتخذ أميرا.. حتى ولو كان أمير عشرة.. فله عليهم السمع والطاعة ما لـم يـأمر بمعصية فعندها لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقضية الطاعة تحتاج إلى وقفة متأنية.. تراعى فيها الضوابط الشرعية من ناحية، والمصلحة من ناحية أخرى.. فهي طاعة مبصرة لا طاعة عمياء.. فعلى القائد أن يشرح الأمر لمن يكلف به ويقنعه بأهميته.. فالطاعة المقتنعة المبصرة خير وأدوم من تلك العمياء التي ينفذها الفرد دون أن يفهم.. وهي طاعة متحرية.. تتحرى الحق والصدق والخير والمعروف.. فلا طاعة في منكر ولا طاعة في معصية.. وذلك الصحابي الذي أوقد النار وطلب من جنوده أن يدخلوها.. أثنى رسول الله على موقفهم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها». تحروّا الحق والمعروف.. وتمردوا على الطاعة العاصية.

وفي الوقت نفسه هي طاعة مستجيبة راضية فإذا كان القائد قائماً بواجباته آمراً بالمعروف، متحرياً للمصلحة والحق.. فعلى الآخرين أن ينفذّوا أمره راضين مستجيبين مطمئنين، فلا تسير الأمور بلا إمارة.. ولا تكون إمارة بغير طاعة.

التربية والتعليم

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجمع - في الأصل - بين عملين:

عمل الدعوة.

وعمل التربية والتنظيم.

ويتم هذان العملان بترتيب طبيعي. فيدعو المسلم الناس أولا إلى دين الله، ثم يُعنى بتربية الذين يؤمنون به وتنظيمهم.

وعلى هذه التربية وهذا التنظيم يتوقف نجاح الدعوة أو إخفاقها. فإذا كان التنظيم محكماً موطداً، والتربية سليمة قوية، أفلحت الدعوة، وإلا كان الفشل مصيرها المحتوم.

ولذلك كان بين الدعوة والإرشاد، وبين التنظيم والتربية صلة قوية وارتباط وثيق. فلا توجد التربية والتنظيم بدون الدعوة، كما أن من المستحيل بلوغ الدعوة إلى غايتها المنشودة من غير تربية وتنظيم.

ومعنى ذلك أن قضية التربية والتعليم هي الجزء المكمل للدعوة والإرشاد في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والتربية والتعليم ضروريان لذلك الإنسان الذي استجاب للدعوة وشرح الله صدره للإسلام، فلا يصح أن يترك لفهمه القديم ولانحرافه السابق، فقد ثبت في السنة المطهرة، أنه عندما أسلم عمير بن وهب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

(فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن)(43).

وإذا لزم الدعاة أن يعلّموا أخاهم الإسلام، فإن عليهم كذلك أن يأخذوا أنفسهم بمزيد من الزاد العلمي وبدرجات رفيعة من التربية الربانية.. ففاقد العلم لا يستطيع أن يعطيه، وفاقد التربية لا يستطيع أن يكون قدوة صالحة لغيره.. ومن هنا فقضية التربية والتعلم مستمرة من المهد إلى اللحد، ضرورية للداعية ضرورتها للإنسان المدعو.

والمناهج التي تضعها التنظيمات السياسية أو الفكرية أو الدعوية الإسلامية هي التي تبني أفراد هذه التنظيمات وتوجههم وفق الهدف الذي رسمته لنفسها.

فمناهج الحركات العلمانية، غير مناهج الحركات الإسلامية.. ومناهج الحركات الإسلامية ذاتها تختلف باختلاف توجهاتها. من هنا فإن قضية المنهاج ذات خطر عظيم في نجاح الحركة أو فشلها.

ملاحظات لا بد منها

1- من الغلو اعتبار جماعة ما من الجماعات الإسلامية أنها جماعة المسلمين التي ورد ذكرها والمقصودة بالحديث: (من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).

2- في الساحة الإسلامية عدد كبير من الجماعات الإسلامية.. والأصل في تعامل هذه الجماعات مع بعضها ما ذكره الإمام حسن البنا: (بأنها ليست في ميدان منافسة، ولكن في ميدان تعاون قوي وثيق، فالغاية العامة مشتركة بين الجميع وهي العمل لما فيه إعزاز الإسلام وإسعاد المسلمين، وإنما تقع فروق يسيرة في أسلوب الدعوة وفي خطة القائمين عليها وتوجيه جهودهم(44).

ونلتمس كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب، وتبادل الحب والتعاون على الخير(45).

3- ليس مجرد الانتساب إلى جماعة إسلامية هدف في حد ذاته.. بقدر ما هو نفرة في سبيل القيام بالأعمال الكبرى والمصيرية.. التي يحقق الفرد فيها إقامة الدين في نفسه، وفي غيره من المسلمين، وتعليم الآخرين حقوقهم وواجباتهم تجاه دينهم.. وأن يصبر على صعوبة الطريق.. وأن يبتغي في ذلك كله مرضاة ربه.

وليحذر أحدنا من هذا الأمر، وليلحظ مقالة ابن القيم (رحمه الله) في اجتماع الإخوان بالقول: على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:

• إحداها تزين بعضهم لبعض.

• والثانية الكلام والخلطة أكثر من الحاجة.

• والثالثة أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.

كلام عظيم.. يحذرنا فيه ابن القيم أن تتحول لقاءاتنا إلى منتديات أنس أو أن تتحول الجماعة من وسيلة إلى غاية.

(1) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر- محمد محمد حسين 2: 140.

(2) واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم- المودودي، ص- 177.

(3) الاستعمار الجديد- نكروما.

(4) دور الطلبة في إعادة بناء الأمة- مصطفى محمد الطحان.

(5) النحل - 36.

(6) آل عمران - 110.

(7) رواه مسلم.

(8) النحل - 36.

(9) ملامح المجتمع المسلم- د. يوسف القرضاوي، ص- 57.

(10) آل عمران - 104. (11) آل عمران - 103.

(12) تفسير ابن كثير 1: 39. (13) الأنفال- 46.

(14) الترمذي 4: 466.

(15) الكهف- 28.

(16) يوسف - 108.

(17) الترمذي 5: 34، وأحمد في المسند 5: 183.

(18) البخاري 13: 35.

(19) أحمد في المسند 4: 202.

(20) أحمد في المسند.

(21) الأعراف- 158.

(22) أضواء على الأصول العشرين- عصام أحمد البشير، ص- 9.

(23) مسند الإمام أحمد 1: 230.

(24) فتح الباري 3: 37.

(25) الرسالة ص- 475.

(26) يوسف - 72.

(27) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11: 92.

(28 - 29) المنطلق- محمد أحمد الراشد، ص- 150.

(30) معالم في الطريق- سيد قطب، ص- 51.

(31) الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية - أبو الأعلى المودودي، ص- 18.

(32) آل عمران - 104.

(33) الأنفال- 46.

(34) أضواء على الأصول العشرين (مرجع سابق)، ص- 16.

(35) في ظلال القرآن- سيد قطب 10: 191.

(36) أصول الدعوة - عبد الكريم زيدان، ص- 464.

(37) القيادة في العمل الإسلامي - للمؤلف.

(38) القيادة في العمل الإسلامي - للمؤلف.

(39) ماذا يعني انتمائي للإسلام - فتحي يكن، ص- 165.

(40) السلوك الاجتماعي في الإسلام- حسن أيوب، ص- 512.

(41) الشورى – 35.

(42) النساء - 58 .

(43) سيرة ابن هشام 2: 80.

(44) رسائل الإمام البنا، ص- 314.

(45) رسائل الإمام البنا، ص- 4.