111 عامًا على ميلاد التلمساني ربان سفينة الإخوان في زمن المحن

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٠:٥٠، ١ نوفمبر ٢٠١٧ بواسطة Man89 (نقاش | مساهمات) (حمى "111 عامًا على ميلاد التلمساني ربان سفينة الإخوان في زمن المحن" ([edit=sysop] (غير محدد) [move=sysop] (غير محدد)))
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
111 عامًا على ميلاد التلمساني ربان سفينة الإخوان في زمن المحن


(04/11/2015)

كتب: جميل نظمي

من هو؟

تمر اليوم الذكرى الـ111 لميلاد مرشد جماعة الإخوان المسلمين الثالث، عمر التلمساني..

ولد 4 نوفمبر عام 1904م ، في حارة حوش قدم بالغورية قسم الدرب الأحمر بالقاهرة واسمه بالكامل "عمر عبد الفتاح عبد القادر مصطفى التلمساني". والتلمساني ليس من أصل مصري فجده لأبيه من بلدة تلمسان بالجزائر، جاء إلى القاهرة واشتغل بالتجارة، وأصبح من كبار الأغنياء.

تزوج عمر التلمساني في سن مبكرة في سن الثامنة عشرة وهو لا يزال طالبًا في الثانوية العامة، ولم يتزوج عليها حتى توفاها الله في أغسطس عام 1979م ، بعد أن رزق منها بأربعة من الأولاد: عابد، وعبد الفتاح، وبنتين".

عندما حصل على شهادة ليسانس الحقوق، عمل بمهنة المحاماة وأفتتح مكتبًا في شبين القناطر ، وفي سنة 1933م التقى بالأستاذ "حسن البنا" في منزله، وكان يسكن في حارة عبد الله بك في شارع اليكنية في حي الخيامية، وبايعه، وأصبح من الإخوان المسلمين وكان أول محامٍ يعمل بتوكيل من الجماعة التي قبض عليهم للدفاع عنهم في المحاكم المصرية.

دخل السجن في عام 1948 ثم 1954م وأفرج عنه في آخر يونيو 1971م جاءه ضابط المعسكر وقال: لقد أفرج عنك، فاجمع حاجتك لتخرج، وكان الوقت بعد العشاء، فقال للضابط: ألا يمكن أن أبيت الليلة هنا، وأخرج صباحًا فإني قد نسيت طرقات القاهرة ، فقال له الضابط: هذه مسئولية لا أستطيع تحملها، تفضل اخرج من السجن ، ومن على بابه إلى أي وقت تشاء، فطلب "تاكسي" فأحضره، وعاد الأستاذ إلى منزله.

مرشد للإخوان

اختير مرشدًا للجماعة بعد وفاة المستشار الهضيبي ثم قبض عليه السادات مع المئات من مفكرين وأقباط وأساقفة وكتاب وغيرهم في عام 1981م ، وتوفي في يوم الأربعاء 13 من رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986 عن عُمْر يناهز 82 عامًا، ثم صُلِّي عليه بجامع "عمر مكرم" بالقاهرة ، وكان تشييعه في موكب مهيب شارك فيه أكثر من ربع مليون نسمة وقيل نصف مليون من جماهير الشعب المصري فضلاً عن الوفود التي قدمت من خارج مصر.

وكان الشباب دون العشرين، وفوق العشرين، الذين جاءوا من مدن مصر، وقراها، يشاركون في الوداع، وهم يجرون حفاة الأقدام خلف السيارة التي تحمل الجثمان، ودموعهم تكسو وجوههم، يبكون فيه الداعية، وقد شاركت الحكومة في عزاء الإخوان المسلمين

وفي تشييع الجثمان، وحضر رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر؛ وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية ورئيس مجلس الشعب، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية والإسلامية إلى جانب حشد كبير من السلك الدبلوماسي، العربي والإسلامي، وشارك وفد من الكنيسة المصرية برئاسة الأنبا غريغوريوس في تشييع الجثمان.

النشأة

وقد ولد في القاهرة بشارع حوش قدم بالغورية عام 1904م وكان جده ووالده كلاهما يعملان أول الأمر في تجارة الأقمشة والأحجار الكريمة،وتنشر تجارتهما هذه ما بين القاهرة وجدة وسنغافورة وسواكن والخرطوم، ثم صفيا عملهما ذاك ليتوجها إلى الزراعة حيث اشترينا مساحات واسعة من الأرضين في قرية نوى مركز شبين القناطر بمديرية القليوبية .. ومساحات أخرى في قرية المجازر مركز منيا القمح بمديرية الشرقية.

ويمتاز جده بالاتجاه السلفي في العقيدة، إذ كان على تعبير المترجم وهابي النزعة،وقد تولى طبع العديد من كتب الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على نفقته.. وفي هذا الجو الرخي الحياة، البعيد عن البدع، نشأ الأستاذ محاطاً بالنعمة والروح الديني، إذ كان كل من في ذلك البيت قائماً بحقوق الله صلاة وصياماً وحجاً، سواء في ذلك الرجال والنساء، والفتيان والفتيات، وفي هذه البيئة.

يقول الأستاذ: طرق سمعه اسم ابن تيمية وابن قيم الجوزية ،أثناء المناقشات التي كانت تجري بين جده وزواره من أهل العلم.ويصف الأستاذ جده هذا بأنه ،إلى جانب ثقافته العلمية،يمتاز أيضاً بالدعابة اللطيفة، ومن ذلك أنه يستقبل زائريه ومدعويه من هؤلاء مرحباً بقوله: (ما شاء الله.. وأتوني بأهلكم أجمعين.. أما فيكم من معتذر أو متخلف !!..)

حتى إذا ظهر في الفناء ديك رومي صاح فيه:

" انج بنفسك ولا تلق بيدك إلى التهلكة".

وفي مدارس الجمعية الخيرية هناك تلقى الأستاذ دراسته الابتدائية.. فلما توفي الجد انتقلت الأسرة إلى القاهرة، فالتحق بالمرحلة الثانوية من الإلهامية في الحلمية . حيث حصل على شهادتها ، ومن ثم انتظم في كلية الحقوق، وبعد التخرج فيها بدأ التمرن على المحاماة، ثم اتخذ له مكتباً في بندر شبين القناطر، حيث مارس عمله القانوني بتوفيق مرموق.

محام وفق منهاج إسلامي

ويبسط الكلام عن عمله هذا قائلاً:

لقد باشرت عملي في المحاماة على قواعد ديني جهد الإمكان ، فإذا جاءني ذو قضية مدنية درست مستنداتها ، فإذا رجح لدي جانب الكسب فيها قبلتها ، وإلا نصحت له بالصلح مع خصمه.. وطبيعي أنه يفعل ذلك مع مراعاة جانب الحق بالدرجة الأولى ، بحيث لا يقبل المرافعة في قضية تخالف قواعد الدين التي أخذ بها نفسه كما تقدم.
ولم تشغله المحاماة عن تثقيف نفسه بالعلوم الإسلامية إذ كان نزاعاً إلى المطالعة في كتب الفقه والتفسير والحديث والسيرة النبوية. ومع وفرة قراءاته ومحفوظاته من القرآن الكريم والحديث الشريف، لا يزعم لنفسه العلم وليس هو في رأيه عن نفسه سوى قارئ نهم لكل ما يتعلق بدينه يريد أن يتعلم منه ما لا يعلم
ولا يسمح لنفسه أن يفتي في شيء ، فإذا سئل في أمر ديني أجاب : أذكر أني قرأت في هذه المسألة كذا .. وليس لك أن تستند إلى إجابتي بل عليك مراجعة المتخصصين في هذا الباب ، ويؤكد لنا أنه لا يزال على شأنه حتى اليوم . وذلك لعمر الله هو الورع لأن أجرأ الناس على الفتيا أجرؤهم على النار ، وما أكثرهم في هذه الأيام!..
ويتصل بهذا الجانب من حياته أنه مع حفظه الآلاف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لا يلقي بالأثر الذي يستشهد به مرفوعاً إلى مقام النبوة إلاً مصحوباً بقوله " أو ما هذا معناه " لأنه لا يحفظ مع الحديث سنده، ويخشى أن تكون له رواية أخرى أصح لفظاً منه، فيعمد إلى ذلك الاستدراك لعلمه بأن أئمة الحديث يرون صحة روايته بمعناه
ويتأيد ذلك لديه بالأثر النبوي القائل (نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها) حيث قيد سلامة الرواية المقبولة بالوعي، والوعي أمر يختص بالمعنى دون حرفية اللفظ، وقد أشرنا فيما تقدم إلى استظهاره كتاب الله، وهو يقول إنه لا يزال يتعهده باستمرار خشية تفلته من الذاكرة.

خواطر ومؤلفات

وعلى سؤال عن آثاره المنشورة أو المعدة للنشر، أجاب: أن ليس في آثاره القلمية ما يستحق إلحاقه بالمؤلفات ، وإنما هي خواطر جمعت في كتب، منها: (شهيد المحراب الفاروق)، (قال الناس ولم أقل في حكم عبد الناصر) ، ثم (بعض ما علمني الإخوان المسلمون) و (الملهم الموهوب حسن البنا)و (يا حكام المسلمين ألا تخافون الله؟؟) و (ذكريات لا مذكرات)، وأخيراً(ثلاثة وثلاثون يوماً من حكم السادات) هذا إلى جانب افتتاحياته لمجلة (الدعوة) وما يكتبه حول الشئون الإسلامية في المجلات والصحف السيارة .

ويردف هذه العنوانات بقوله:

إن من أجل نعم الله عليه كونه لا يحمل حقداً ولا كراهية لإنسان أياً كان مذهبه ، بل من عادته أن يترك ما يصيبه لله يتولى الفصل فيه بحكمته وعدله .. وهي إشارة لطيفة وغير مباشرة إلى مضمون هذه الآثار من حيث كونها عرضاً موضوعياً لوقائع أو أفكار مبرأة من أهواء النفس ، فلا مكان فيها لكراهية أو ضغينة ، إنما هي تجلية لحقيقة ، أو بيان لرأي الجماعة التي يمثلها.
أو مجرد نصيحة يوجهها إلى حاكم رجاء أن ترده على جادة الحق ، على الطريقة التي أمر الله بها نبيه والمؤمنين معه في قوله الحكيم أدع إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (سورة النحل 125).
ويتحدث عن الأعمال التي تولاها وأثرها في نفسه فيقول:شاء الله أن أبدأ عملي في المحاماة كما أسلفت، استبعاداً لنفسي عن حيز الوظيفة التي لا أحتمل قيودها من الضغط على حرية الرأي ، وتحديد موارد الرزق ، فآثرت الحرية في العمل بحيث لا يكون لأحد عليّ من سلطان إلا مراقبة الله.
وأنا أمرؤ طبعت على الحياء حتى لأتساهل في كثير من حقوقي ، إلا أن مما أحمد الله عليه ، ولا حصر لفضله ، منحه إياي نعمة التجرد من الخوف ، فما خفت أحداً في حياتي إلا الله ، ولم يمنعني شيء من الجهر بكلمة الحق التي أؤمن بها ، مهما ثقل وقعها على الآخرين ، ومهما لقيت في سبيلها من العنت.
أقولها هادئة رصينة مهذبة لا تؤذي الأسماع ولا تخدش المشاعر، وأتجنب كل عبارة أحس أنها لا ترضي محدثي أو مجادلي ، فأجد من الراحة النفسية في هذا الأسلوب ما لا أجده في سواه ، ولئن لم يكسبني الكثير من الأصدقاء ، فإني قد وفيت به شر الكثير من الأعداء ، هذا إلا أن ما نالني ورميت به منذ انتسابي إلىجماعة الإخوان المسلمين ، قد أصبح لي درعاً واقياً من الغضب والكراهية ، تنهال عليه النصال فيكسر بعضها بعضا.

ويستأنف:

"على أن العبء الوحيد الذي يبهظني وأنوء بحمله هو مسئوليتي عن الإخوان ، لأن نظام الهيئة التأسيسية للجماعة يقضي بأن يتولى الأمر أكبر الأعضاء فيمكتب الإرشاد سناً ، وشاء الله أن أكون الأكبر في هذه الظروف ، فكان الوفاء لبيعتي أن أحمل العبء ماضياً مستريحاً ، لا لأن في ذلك مخالفة للقانون الذي قضي بحل الإخوان؛
بل لأن الصلة الروحية بيني وبين الإخوان جعلتهم ينظرون إلي بهذه العين،وجعلتني أرتاح للنهوض بالواجب مهما واجهت من الصعاب والمشاق،وقد عاملني المسئولون في الدولة على أساس من هذا التصور..وهنا لا يفوتني الاعتراف بأن جانب الحرية الذي أتمتع به ، على ضآلته ، لا أعرف مثيلاً له في العالم الإسلامي ما بين إندونيسيا إلى أقصى المغرب ، ولا جرم أن لله حكمة في ذلك ...

أسلوبه

وعرف جمهور الناس أسلوبه الحكيم من خلال حواره مع الرئيس أنور السادات ، يوم وجه هذا هجومه العنيف عليه وعلى الإخوان ، وساق إليهم أنواع التهم المفتراة ، وهو يظن أن خوف السلطة سيقطع لسانه عن الرد ، فإذا هو يخيب فأله ويلتف على مفترياته بالحجة الداحضة

حتى يختمها بقوله : الشيء الطبيعي بإزاء أي ظلم يقع علي من أي جهة أن أشكو صاحبه إليك بصفتك المرجع الأعلى للشاكين بعد الله ، هأنذا أتلقى الظلم منك فلا أملك أن أشكوك إلا إلى الله .. وما كان أروعه رداً حطم سلاح الطغيان بأدب اللسان وقوة الإيمان، فإذا بالرئيس يلملم تهمه وينقلب مستعطفاً يسأل المظلوم إلغاء شكواه .. وكل ذلك على مرأى ومشهد من مئات الحاضرين لذلك الحفل ، وملايين المشاهدين عن طريق التلفاز.

مع البنا

يقول :

"من أكثر الرجال تأثيراً في حياتي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار ، هو الإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله عيه . فقد حباه الله بكل ما يقربه إلى قلوب المسلمين ، يبغضه إلى كل خصوم الدعوة الإسلامية ، لا أتحدث عن غزير علمه ، فرسائله حوت ، على إيجازها ، كل ما يحتاجه المسلم للتفاني في سبيل دينه ، وما يعوز الداعية من منهاج واضح بين موضوعاً ووسائل وأساليب؛
فكل واحدة من رسائله متن صالح لمجلدات ضخمة تفسيراً وتبصيراً،لقد أفاض الله عليه ذكاءً عجيباً حتى ليكاد يجيبك على ما تريد قبل أن تتوجه إليه بالسؤال،وكان من الثقة بحيث يظن كل أخ من ملايين الإخوان المسلمين أنه أقرب الناس إليه ، وأحبهم لديه ، بسيطاً غاية البساطة في مظهره ومعاملاته وأحاديثه ، حتى إذا علا المنبر أخذ بكل جوانب النفس ، فتظل معلقة بكلامه في وعي خيفة أن يفوتها حرف منه ، حتى إذا فرغ من حديثه استرد كل سامع قلبه وفكره إلا شخصاً واحداً بقي قلبه مع الإمام الشهيد في روحاته وغدواته ".

ويستأنف الأستاذ التلمساني في وصف شخصية الإمام الشهيد قائلاً :

"إذا كان في رحلة من رحلاته التي لا تعد ولا تحصى ، في الداخل والخارج ، فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يستريح إلا بعد أن يطمئن على كل من في رفقته . كان جم التواضع ، نظيف العبارة حتى مع مهاجميه وخصومه ، لم يسئ إلى أحد منهم قولاً ولا عملاً ..يربي أعوانه تربية عملية ، فيكل إليهم القيام بالأمور الهامة مثنياً عليهم ، مصححاً لأخطائهم ، محتملاً لكل تجاوزاتهم ..
ولا أنسى يوم أن حصل خلاف بين الإخوان والوفديين في بور سعيد ،فاستدعاني وكلفني الذهاب إلى هناك قائلاً لي : تصرف كما يوحي إليك الموقف دون الرجوع إليّ في شيء ، فكانت هذه اللفتة التربوية معواناً لي في استفراغ الوسع ، حتى انتهى الأمر إلى خير ما يمكن أن يصير إليه ذلك الموقف الشائك المعقد ..كل ذلك وما أشبهه ربط قلوبنا جميعاً بإمامنا الشهيد بأوثق عرى المحبة و الوفاء والإخلاص .. ولهذا عشقت الدعوة والداعية،ووقفت عليها حياتي إلى اليوم" .

ثورة 1919

ويتابع :

" عاصرت الوفد وقيامه،وثورة 1919،وكانت بحق نابعة من مشاعر الشعب كله ، وكان المنتظر أن تأتي بأبرك الثمرات لمصر بخاصة وللأمة الإسلامية بعامة ، لولا المؤامرات الشخصية ، والانفعالات الزعامية ، والألاعيب السياسية ، التي مزقت الشعب المصري فرقاً وأحزاباً وشيعاً واتجاهات ، وأطاحت بكل ما أمله المصريون .
ولقد نابني من ذلك بعض الرشاش خلال تعصبي الوفدي وأنا في مطالع الشباب ، كذلك كان لثورة يوليو 1952 أثره الكبير ، إذ أيقظ المشاعر وحرك الرغبة في رؤية شرع الله مطبقاً في هذا البلد المسلم ، ومن أجل ذلك كان للإخوان المسلمين أكبر الأثر في نجاحها .. إذ كانوا يجوبون القطر كله في بث الدعوة الإسلامية ، وربط القلوب بعقيدتهم ، ونقد المفاسد والمظالم التي كانت تسود البلاد من قبل الاستعمار ، وطغيان الملكية وتهافت الأحزاب .

ويواصل

" أما هيئة الضباط الأحرار فكانت تعمل في الخفاء ، ولم يكن يشعر بها أحد ، فلما أسفرت وجدت الطريق ممهداً والجو صالحاً ، والشعب على استعداد لتقبل حركتهم، ولكن لحكمة لا يعلمها إلا الله تغلب حب الزعامة والظهور ، فكان ما كان من انقلاب الضباط الأحرار على الإخوان المسلمين ، الذين أخلصوا لهم العون ، ومهدوا لهم السبيل ، ولا غرابة في ذلك ، فالسلطان ، كما يقال، عقيم لا يتورع أصحابه أن يتجاوزا من أجله كل شيء حتى أبسط مبادئ الأخلاق .."..

محنة عبد الناصر

وقول التلمساني:

وفتك عبد الناصر بـ الإخوان المسلمين استناداً إلى قوة الجيش والشرطة ، والقوى التي كانت تكيد للجماعة ، وبخاصة الصليبية والصهيونية والملاحدة .. ولو أن ما أنزله عبد الناصر كان في غير الإخوان المسلمين لكانوا اليوم واحداً من أخبار التاريخ ترويه الأجيال للعظة والاعتبار ، أما الإخوان فقد زادتهم المحن إيماناً ، ومكنت لحب الله ودعوته في قلوبهم ، وقد ذهب الظالمون وأعوانهم وبقيت دعوة الله على الرغم من محاولات القوى المحاربة للإسلام ، لأن كلمة الله ثابتة لا يعتريها زوال..
وما من شك أن مواقف الإخوان المسلمين ودماءهم الطاهرة التي روت شجرة الإيمان على ثرى فلسطين وعلى ضفاف القناة،قد هزت المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .. وهكذا أثبتت دعوة الإخوان للعالم بأسره أنها قوة ولاء عملي،رسخ الإسلام في صدرها ، وصدق العمل في حركاتها وتصرفاتها وتضحيتها وصبرها ومرابطتها، الأمر الذي ألهب نيران الكراهية في صدور أعداء الإسلام ، فهي تتكشف يوماً بعد يوم على كل بقعة من ربوع المسلمين ، وما الكيان الصهيوني إلا صورة بارزة لهذه الكراهية ، التي توهمهم أن القضاء على الإسلام والمسلمين أصبح وشيكاً ..
وخاب فألهم ، فلئن استطاع هؤلاء الأعداء أن يقضوا على بعض المسلمين فهم أعجز من أن ينالوا من الإسلام ، لأنه رسالة الله الخاتمة إلى الأرض ، فلو لم يبق على البسيطة سوى مؤمن واحد يحمل راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " وكانت السموات والأرض رتقاً عليه لفتقها الله له قوة وعزة ونصراً .. وكل شيء عنده بمقدار ..

السجن مدرسة

ويتابع التلمساني:

"خرجت من السجن وقد ازددت يقيناً بالحكمة القائلة (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) فالسجين قد استقر عند خاتمة المطاف ، فليس لدى ظالمه إلا سجنه أو قتله ، والسجين المستمسك بعقيدته تسليماً لأمر الله أشد إيلاماً لنفس الظالم من غيره ، لأن غيره يبيت ويصحو متوقعاً المجهول من البلاء ، وهذا التوقع قد يحول بينه وبين الكثير من العمل لدعوته . وفي ذلك راحة لخواطر الظالمين .
وإذن ففي ثبات السجين على دعوته انتصار للحق على الباطل ، وهزيمة للباغي في عجزه عن تحقيق بغيته ، فالباغي مهزوم مهزوم وصاحب العقيدة منصور منصور.. وهنا أسجل أن انتصار الدعاة لم يكن قط وليد شجاعتهم أو تحديهم أو صبرهم ، وإنما هو فضل الله في تثبيتهم (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليل) (سورة الإسراء 74).
أجل إن الله هو صاحب الفضل الأول في النعمة إذا اقترنت بالشكر، وهو صاحب الفضل الأول في المحنة إذا لازمها الصبر، وفي كل خير، وليس ذلك لغير المؤمن . المسلمون ما كانت لتحز في نفوسهم كثيراً ، ولكن الموجع ما كنا نسمعه ونحن في ظلمات الزنازين من تأوهات المعذبين وأصوات العصي والسياط التي كانت تنهال متلاحقة عليهم ..
وكم من أخ أدخل على إخوانه في المطبق وقد سال دمه وتمزق لحمه وبرزت عظامه ، وهو يبتسم ، وهم من حوله محزونون مغمومون لما أصابه ، لا لما سيلحق بهم بعد قليل .. لقد كانت العواطف الإسلامية دفاقة بالإيثار والتضحية والحب ، وكانت حياتهم في غمرة المحنة فداءً وصبراً وحمداً وشكراً وصلاةً وصياماً وذكراً.
فما أروع ما حصلناه في تلك السجون من نعم الله في الناحية الإيمانية ، فما استأثر واحد منا براحة دون أخيه ، وما اختص نفسه بمطعوم تسلل إليه .. لقد كان بعض القائمين علينا في السجون يبدي الكثير من الأسى على ما نحن فيه ولكنهم لا يملكون أن يقدموا غير هذا ، فسيوفهم علينا وقلوبهم معنا ، ولكنه خير كان ينفح ببعض الراحة على أي حال . حقاً إن السجون مدرسة للتطهر والصفاء وترسيخ اليقين .

عالجة هادئة للانحرافات الفكرية

وعن ظاهرة الانحراف في مسيرة بعض الشباب والسبيل إلى ضبطها في طريق الإسلام الصحيح يقول التلمساني :

"إني لعلى يقين بأن الشباب المسلم سيركن في نهاية المطاف إلى الأخذ بالأساليب الإسلامية، إذ ما نشط الأزهر والدعاة والمسئولون في سبيل التوضيح والشرح والتبيين . إن أولئك الذين يرمونهم بالانحراف والتطرف قد عوملوا بقسوة لا مسوغ لها،وهذا دون ريب قد ترك في نفوسهم الكثير من المرارة والحفيظة. والمسئولون هم المكلفون بالعمل الدائب على إزالة هذه الندوب ليأخذ كل شيء خطه المستقيم . وإني لواثق كل الثقة بأن معاملة الشباب على هذا المنهج النبوي الراشد الرحيم ستأخذ بيده إلى الجادة التي لا ضلال فيها لسالك .
إن الحاكم هو الطرف الأقوى ، وعبء إصلاح العوج واقع على كاهله،وعليه هو أن يبدأ حتى يحس الشباب أنه يتعامل مع عاطفين عليه محبين له ، لا مع كارهين له ناقمين منه .. إننا نطالب الشباب بالعدول عن العنف ، وفي الوقت نفسه نطالب المسئولين بأن يبينوا صلتهم بالشباب على هذا الأساس الصالح ، وحبذا لو فسحوا المجال أمام الدعاة الذين طال تمرسهم بمعالجة النفوس ، إذن لرجونا أن تؤتي جهودهم الثمرات الطيبة والمرجوة .
ذات يوم بعد أحداث العام 1981 طلبت مني وزارة الداخلية أن أذهب إلى سجن طرة للتحدث مع المعتقلين ، وفعلت والتقيت بالكثيرين منهم هناك ، وكانوا من مختلف الاتجاهات والأفكار، ودخلت معهم في حوار متفاوت الحرارة ، ساخن مرة وهادئ أخرى ، ولكن ما إن انتهى الحوار بعد ساعة ونصف حتى اندفع الشباب كلهم إلى احتضاني وتقبيل رأسي ويدي ، إعراباً منهم عن الإقتناع بما سمعوا ووعوا .

قالوا عن التلمساني

كتبت صحيفة (وطني) لسان حال الكنيسة المصرية في عددها الصادر في 25/5/1986م، عن عمر التلمساني فقالت:

توفي إلى رحمة الله الأستاذ الكبير عمر التلمساني بعد معاناة مع المرض، فشق نعيه على عارفيه في مصر وفي العالم الإسلامي الذي يعرف كفاحه من أجلالدعوة التي حمل لواءها، وامتاز فيها بأصالة الرأي ورحابة الصدر واتساع الأفق وسماحة النفس، مما حبب إليه الجميع من إخوانه ومواطنيه، كما كانت علاقته بإخوانه الأقباط علاقة وثيقة عميقة تتسم بالتفاهم التام والحب والصداقة.
رحل رحمه الله عن عمر أربى على الثمانين وكان يشكو في سنيه الأخيرة من وعكة مرضية إلى أن أصيب بتليف بالكبد اضطره إلى دخول المستشفى من شهر... ومن أسبوعين انتابته غيبوبة، فظل في غرفة الإنعاش على أن جاد بأنفاسه الأخيرة مأسوفًا عليه من الجميع. و"أنطون سيدهم" يشاطر أسرة الراحل الكريم وإخوانه ومواطنيه مشاعر الحزن على فقد هذا الشيخ الجليل، رحمه الله رحمةً واسعةً.

وقال محرر (جريدة الأهرام) في 13/6/1986م:

عرفته منذ نحو عشر سنوات، فلم أر فيه غير الصلاح والتقوى، كان هادئ الطبع، قوي الحجة، يدعو إلى الله على بصيرة من الأمر، ذلك هو المغفور له الداعية الإسلامي الكبير عمر التلمساني الذي فقد العالم الإسلامي بفقده رجلاً من أعز الرجال وأخلصهم لدعوة الحق. فقدناه في وقت نحن أحوج ما يكون فيه إلى أمثاله من ذوى الرأي السديد، والفكر الرشيد الذين يعرفون جوهر الإسلام ويدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن حزني على رحيل عمر التلمساني شديد، فقد كان الرجل من الدعاة الذين يعملون في مجال الدعوة الإسلامية وفق المنهاج الإلهي الذي يصوره قول الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286)... وقوله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: من الآية 185).
وإذا كان لي من دعوة أتوجه بها إلى الله عز وجل بعد رحيل هذا الداعية الكبير، فهي أن يوفق سبحانه وتعالى الذين يعملون في مجال الدعوة من بعده إلى العمل وفق هذا المنهاج وإلى السير على طريق الراحل الكريم الذي هو في واقع الأمر، صراط الله المستقيم الذي أمرنا الله بإتباعه.

وقال الأستاذ يوسف ندا:

﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23)(الأحزاب). المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بكافة تنظيماتها المحلية والدولية والعالمية بعد سن قارب الاثنين والثمانين عامًا تكالبت عليه فيها أنياب الظلم فلم تنفذ إلى عمق توحيده للقادر على الرزق والأجل. عمل في صفوف الجماعة ثم في قيادتها ثم على رأسها ثلاثة وخمسين عامًا، قضى منهم في السجون والمعتقلات أكثر من عشرين عامًا منهم سبعة عشر عامًا متصلةً.
عاش بقلب كبير احتوى كل من أجهد نفسه في حرب معتقداته، وبخلق كريم أسبغه على الكريم وعلى اللئيم. وعاش عفيفًا ليس لغير الله عليه يد فكان جبلاً في الإباء والشمم. وفيًّا يذكر ويشكر الكبير والصغير على ما قدموه لغيره أو لدعوته.
عظيمًا في إيمانه وإسلامه، متواضعًا أفخر بالبساط في العيش والمظهر، أكبرته قلة زاده التي نافس بها الفقراء وطهارة القلب وبراءة الوجه وحياء الطفولة التي زينت هيئته وشيبته. عاش مجمعًا لكل من تفرق على فكر أو عمل أو دين أو مذهب عاش يدعو الناس حتى يكونوا مسلمين ويؤلف بين المسلمين حتى يكونوا إخوانًا.

وقال الأستاذ جابر رزق المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين- آنذاك:

الأستاذ عمر التلمساني في سجن الواحات لقد اختار الله الشيخ عمر التلمساني ليقود الجماعة في سنوات ما بعد محنة السجون التي استمرت قرابة ربع قرن من الزمان، فاستطاع بحكمه الشيخ الذي حنكته السنون، وأنضجته السجون، وبميزات شخصه منحه الله إياها. وبأخلاق الإسلام التي صبغت سلوكه وتصرفاته.
أن يفرض "الوجود الفعلي" لجماعة الإخوان المسلمين على الواقع المصري، والعربي، والعالمي، فعلى مدى العقدين الأخيرين: عقد السبعينيات وعقد الثمانينيات كانت كلمات التلمساني، وتصريحاته وكتاباته تبرز في مقدمة وسائل الإعلام محليًّا وعربيًّا، وعالميًّا، والإذاعة ووكالات الأنباء من كل أنحاء العالم، وجاءه مندوبو الصحف حتى اعتبر عام 1980 صاحب أكبر عدد من الأحاديث الصحفية والتليفزيونية على مستوى العالم.

وكتبت السيدة زينب الغزالي تقول:

عرفته، فقرأت في تقاسيم وجهه الحب لكل الناس. لا بأس من أن يرى العاصي يومًا، تقيًّا نقيًّا قريبًا من الله. يغفر للحاكم المسيء، كما يغفر للفقير الذي استغرقه الخطأ، ولكن لا يكف عن نصيحة الحاكم وتربية الفقير، لا يخشى إلا الله، ولكنه يستحيى أن يقول لإنسان أنت مسيء، فقط يدعو له ويعظه في جموع المسيئين والمحسنين.
يحمل الطهر في كل جوارحه، لحقيقةٍ جُبل عليها، عف اللسان مع من أساء. حيي كالعذراء البتول، قوي في الحق الذي اعتقده، مصر على نصرته، أب لكل أتباعه ومريديه، الشدة لا ترهبه، غياهب السجون لم تزده إلا إصرارًا على الحق، وتفانيًا في نصرته. ولا أنسى ذلك اللقاء، وكان في ألمانيا، عندما سألته: المسلم إذا احتاجك وليس من جماعتك، وأنت قادر على مساعدته، ماذا تفعل؟ قال لا أتأخر لحظة واحدة على نصرة مسلم.

ويقول الأستاذ صالح أبو رقيق من الرعيل الأول وعضو مكتب الإرشاد:

كان فقيدنا الجليل طيب الله ثراه، سمحًا يذوب رقةً وحياءً، ويتألق تواضعه في عزة المؤمن، وكبرياء الواثق من نفسه والمقدر لمكانته، دون صلف أو تكبر، من الذين قال الله فيهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ (المائدة: من الآية 54).
جاهد في سبيل الله أصدق جهاد، وتحمل في سبيل ذلك أشد العذاب وقدم أعظم التضحيات.. وكان متمكنًا في الفقه، عالمًا بجميع جوانب دينه الحنيف، متحدثًا مقنعًا. وخطيبًا مؤثرًا، تخرج الكلمات من أعماق قلبه، فيأتي وقعها على القلوب بردًا وسلامًا. عذب الأسلوب، مهذب المنطق، في جلال ووقار. تاريخه حافل بالمواقف المشرقة، ولم تثنه الأحداث الجسام وشرور اللئام عن قول الحق، والتمسك بالحق، والصمود من أجل الحق، الذي كان يؤمن به.
ولا أنساه في سجن الواحات الذي خصص أصلاً للإخوان المسلمين ومن بعد للشيوعيين، والجو قاري، وقارس البرد شديد الحر، مع العواصف الرملية الشديدة التي يدخل رملها في مسام الجلد، فتثير الأعصاب، وتقلق الراحة وتقض المضاجع وتزعج النفوس، ظروف غاية في الصعوبة لا يتحملها إلا أولو العزم
كان رحمه الله يقابلها بابتسامة الرضا العذبة، وجلد المؤمن القوي، الواثق من أن ابتلاء الله لعبده يحقق أسمى الغايات لكل مؤمن، يكفر عن سيئاته ويكون في ميزانه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولسان حاله يقول قولة الصوفيين: "كل ما يأتي به المحبوب محبوب".

وقال الشيخ عبد البديع صقر أحد الرعيل الأول في حقه:

عرفته محاميًا ناشئًا يواظب على محاضرات الأستاذ حسن البنا في دار العتبة الخضراء سنة 1936م.. ثم عضوًا في الهيئة التأسيسية للجماعة ، ثم عضوًا فيمكتب الإرشاد العام.
كان رجلاً جميلَ الخلقة، متكاملَ الهيئة، تامَ الأناقة وكان أمثالنا من "المنتوفين" يقولون عنه وعن أمثاله من الوجهاء " مثل محمود أبو السعود وحسين عبد الرزاق ومحمد محمود الصواف ومصطفى السباعي" يقولون: هل هذه الأشكال تصلح للعمل الإسلامي؟ أو تقوى على "البهدلة" في سبيل الدعوة؟.. ولكن محيط الدعوة كان سوقًا كبيرًا يتسع "للمشطوفين" و "المنتوفين" على حد سواء.
والمحنة لا تحتاج لأسباب فهذا المحامي المترف الخجول لم يشتم أحدًا ولم يشترك في نقاش مع أحد فضلاً عن أن يضرب أو يجرح وكان مستغرقًا في مكتبه الناجح. ولكنه سيق إلى السجن ثلاث مرات قضى في بعضها سبعة عشر عامًا متوالية وفي الصحاري المحرقة.

قال الشيخ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر الشريف:

رحم الله عمر التلمساني رضي عنه وأرضاه في الجنة فقد كان نفحةً من نفحات الله تعالى في حياته ومماته جميعًا. وذلك منذ بدأ رحلته في الدعوة الإسلامية منذ نصف قرن أو يزيد، وكان يومئذ شابًا يافعًا مترفًا، أنيقًا رقيقًا، يشفق عليه الخبراء بأثقال الطريق، وأعباء الدعوة ، وتبعات البيعة.
ثم حين ختم رحلة حياته وهو يحمل الراية، ويرفع لواء الإسلام ، ويقدم الصفوف جميعًا، يرى راحته في دعوته، رغم وهن العظم، واشتعال الشيب، وأنه "لم يعد في قوس العافية منزع" كما قال في آخر لقاء عام له في نقابة الأطباء في شهر ربيع الأول الماضي.
كان الرجل رحمه الله نفحة إلهية هادية، وهادئة. وكان نسمةً طيبةً. مطمئنة إلى جنب الله تعالى، اطمئنانًا راسخًا عبرت به رحلة هذه الحياة الصاخبة عبور الطيف المنير، حتى خلصت إلى ربها راضية مرضية بإذنه وفضله تعالى.
هل نذكره رحمه الله وهو في السجن المتطاول تعلوه بسمته، وأمله الدائم في الله رب العالمين؟ هل نذكره وهو يذوب حرصًا على هذه الدعوة ، ونصحًا لهذه الأمة، وإخلاصًا لهذه الجماعة المؤمنة، التي سلكت طريق الأنبياء عليهم السلام، ولا بد أن تشرب من نفس الكأس، وتخضع لسنة الله الدعوات وأصحابها؟ إننا لنذكره رحمه الله وهو يخط كلماته الندية من المعتقل، إلى الإخوان في السجون، تبشرهم بنصر الله وعظيم الأجر، وجميل التفويض.أن ألحق بإمامي الشهيدحسن البنا وقد وفيت بيعته.

وكتب الأستاذ فتحي رضوان رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان:

عرفت عمر التلمساني الذي استحق عن جدارة اللقب المهيب الجليل لقب "شيخ" وهو محامٍ في مدينة شبين القناطر يمارس عمله إلى آخر العمر متواضعًا لا يلفت إليه النظر، بصوت عالٍ، ولا بمشية يشوبها الخيلاء ولم نكن نعرف آنذاك عنه أمورًا منها أنه حفيد "باشا" من باشوات العرب الأغنياء الذين فاض الله عليهم رزقه؛

كما لم نفطن من مجرد اسمه أنه عربي من الجزائر مما يرفع قدره ويعلي من شأنه، فالجزائر هي موطن الجهاد والسلاح والوقوف في وجه استعمار الفرنسيين سافكي الدماء، وهاتكي الأعراض، وقاطعي الطرق فقد تصدى لهم عبدالقادر الجزائري بسلاح بسيط فأثخنهم جراحًا سبعة عشر عامًا

والعجيب أن السبعة عشر عامًا هذه، كانت من نصيب عمر التلمساني سجنًا متصلاً. احتملها صابرًا محتسبًا وخرج إلى الحياة فكأنه كان في نزهة فلم يحدث عن هذه الفترة الطويلة من القيد أو الحرمان والتضييق وتولى مكان الرياسة والصدارة بين جماعته.

وقال عنه الكاتب الصحفي محسن محمد تحت عنوان "من القلب":

قابلته في مكتب جريدة "الدعوة" بالقاهرة،لا توجد حوله سكرتارية ضخمة، أو قيود تمنع لقاءه. والمكتب الذي يجلس عليه صغيرًا للغاية فقد نبذ الرجل الأبهة، وقد كان من أغنياء الإخوان في شبابه.

وكتب الدكتور حلمي محمد القاعود أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة طنطا يقول:

لا أزعم أنني سأضيف جديدًا إلى ما كتب حول عمر التلمساني المسلم الصابر المحتسب، ولكني أزعم أن تقديم الرجل كقدوة هاجس يشغلني، بعد أن أصبح الذين يعنيهم تنوير هذا الشعب يكتفون بتقديم نماذج هامشية أو تحت مستوى الشبهات. لتكون الأسوة التي يحتذيها أبناء وبنات الوطن.
ولا أعتقد أن مرحلة حرجة من حياة الوطن أحوج ما تكون إلى تقديم عمر التلمساني كقدوة مثل هذه الفترة التي سادت فيها أخلاقيات الانتهازيين المرتشين والوصوليين والمنافقين والمصالح المتبادلة. فالرجل رحمه الله كان يمثل صورةً مضيئةً للمسلم الذي ظل طوال حياته "1904 - 1986م" يطمح إلى المثال الحي والقيم المضيئة.

وقال الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله:

كنت في شبابي أرى الأستاذ عمر التلمساني يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه في شئون الدعوة ، ويتزود منه بشتى التوجيهات: كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه في بلدة "شبين القناطر" وكان إلى جانب ذلك عضوًا في مكتب الإرشاد.
السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين، وإنما يخصه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم.
وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها، ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة لم يفصح عنها حديث.

وقال الأستاذ أنور الجندي الكاتب والمفكر الإسلامي:

حياة عريضة خصيبة، كانت منذ يومها الأول إلى يومها الأخير خالصة لله تبارك وتعالى.. فقد كان "عمر التلمساني" نموذجًا كريمًا، وأسوةً حسنةً وقدوةً صالحةً يمكن أن تقدم للشباب المسلم في كل أنحاء الأرض لتصور له كيف يمكن أن يكون المسلم داعيةً إلى الله موقنًا بقوله تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)(الأنعام).

وكتبت مجلة (اليقظة) الكويتية تحت عنوان "الشيخ عمر التلمساني من حياة مترفة إلى سجن وتشريد" فقالت:

﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيل (23)﴾ (الأحزاب) صدق الله العظيم. هؤلاء الرجال الصادقون كانوا كثرة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما تطاول العهد وتقادم زمان النبوة قل أولئك الرجال الصادقون حتى أصبحوا في ندرة الدر والجوهر.
إذا كان في زماننا هذه أحد من أولئك الأبطال فإنه بلا ريب الشيخ عمر التلمساني الذي جاء نعيه منذ أيام ونزول خبر موته كالصاعقة على قلوب محبيه ومريديه والمعجبين به. والشيخ عمر التلمساني كان محبوبًا لدى الجميع من عرفه عن قرب أو سمع عنه عن بعد، وذلك لدماثة أخلاقه، ورقة قلبه، وتسامحه العظيم حتى مع أعدائه ومخالفيه.

وكتب سيد هادي خسرو شاهي في جريدة (اطلاعات) الإيرانية في عددها الصادر في يونيو سنة 1986م يقول:

"كان وفيًّا لمبادئ الإخوان طوال حياته، قضى عشرين سنة من عمره في سجون الاشتراكيين وأتباع القومية العربية بعد المؤامرة الغادرة التي دبرها جهاز الأمن المصري ضدهم بأوامر الضباط الديكتاتوريين حكام مصر ، وذلك من أجل قمع الإخوان المسلمين ....رحم الله الشيخ التلمساني

المصدر