هذه الدعوة ما طبيعتها

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
هذه الدعوة ما طبيعتها


بقلم : الشيخ عبد الله علوان

المقدمة

لا بد للمدعو والداعية أن يعرفا طبيعة هذه الدعوة التى شرف الله الأمم باعتناقها ، وشرف الدعاة والعلماء بحملها وتبليغها .

شرف الله الأمم باعتناقها لقوله تبارك وتعالى :{ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .

وشرف الدعاة والعلماء بحملها وتبليغها لقوله جل جلاله :{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} .

والمقصود من طبيعة هذه الدعوة أن يعرف كل من المدعو والداعية خاتمة هذه الدعوة ولماذا ختمت ؟ وأن يعرف عالميتها ولماذا عممت ؟ وأن خصائصها ولماذا تميزت ؟.

ولا شك أن الداعية إذا عرف هذه التصورات عن طبيعة هذه الدعوة ؛ يكون انطلاقه في حملها أشد ، ويكون تحفزه في سبيل تبليغها أعظم مهما لقي من أذى واضطهاد ، ومهما اعترضته العقبات والعراقيل .. إلى أن يأذن الله بالنصر أو يموت وقد أبرأ ذمته وأدى ما عليه . ومن المؤكد أن المدعو إذا عرف هذه الحقائق عن الدعوة التى اعتنقها وآمن بها ؛ يكون تمسكه بها أقوى ، ومناهضته لمن يحاربها أكبر ، وجهاده في سبيلها أضخم وأعظم .. بل يبقى مؤمناً بها ، ثابتاً عليها ، داعياً إليها إلى أن يلقى الله عز وجل وهو عنه راضٍ في مجمع من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وخصائصها .. وحسن أولئك رفيقاً .

لذا كان من الطبيعى أن نتكلم في هذا الفصل عن طبيعة الدعوة الإسلامية ، وأظهر مزاياها وإليكم بنود طبيعة هذه الدعوة مرتبة مفصلة ::

1- لماذا كانت الدعوة الإسلامية خاتمة الدعوات ؟

2- لماذا كانت عالمية عامة ؟

3- ما هى أظهر خصائصها ومزاياها ؟

خاتمة الدعوات

لماذا كانت الدعوة الإسلامية خاتمة الدعوات ؟

كل من عنده بقية من علم أو فهم أو تجرد .. يعلم علماً أكيداً أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأن رسالته التى كلف بتبليغها هى خاتمة الرسالات والشرائع ، ولا ينكر ذلك إلا من كان معانداً للحق ، مستعلياً على الحقيقة ، متجاهلاً طبيعة الإسلام ، منكراً حقائق الأشياء .

والدليل على ختم النبوة من القرآن الكريم : {ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} .

والدليل على ختم النبوة من السنة النبوية::"مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون له ، ويقولون: :

هلا وضعت هذه اللبنة ؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " رواه مسلم ..

ومن المؤيدات على ختم الرسالة في القرآن الكريم :

قوله تعالى في سورة المائدة : {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} .

وقوله في سورة الفتح : {هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} .

وقوله في سورة آل عمران : {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .

إلى غير ذلك من هذه النصوص القاطعة التي تثبت بشكل لا يقبل الجدل أن شريعة الإسلام ناسخة لجميع الشرائع والديانات ، وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته هي خاتمة الرسالات والدعوات ...

ولعل المعقولية في هذا النسخ والختم والهيمنة : أن رسالة الإسلام جمعت في طياتها دعوة الأنبياء والرسل جميعاً ، وزادت عليها شمولية التشريع الواقعي المتجدد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

وهذا التشريع-كما سيأتى بيانه-يمتاز بالخصائص ، ويتصف بالخلود ، ويحمل في طبيعته عوامل نموه وامتداده إلى يوم البعث والنشور ..

وصدق الله العظيم القائل في سورة المائدة : {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} .

ولعل المعقولية كذلك : أن الإنسانية- عند تنزل شريعة الإسلام- بلغت من النضج العقلي ، والرشد الإنساني ، ما لم تبلغه في أي مرحلة من مراحل التاريخ .

بل وصلت في نضجها ورشدها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسمى آيات الفهم والوعي والإدراك والاستيعاب ، مما جعلها تتفهم طبيعة هذا الدين ، وتؤمن به ، وتدعو إليه ، وتجاهد في سبيله ، وتدفع عجلة المدنية والحضارة إلى الأمام ، وتطبع في ضمير الزمان مبادىء التوحيد والعدالة والحرية والمساواة . بل كان نزول هذا التشريع متلائماً مع مصالح الناس وحاجاتهم ، ومتوافقاً مع أحوالهم وواقع حياتهم ، وملبياً حاجة تطورهم وتقدمهم ؛ في كل زمان ومكان ؛ لذا كانت التشريعات في عصور الأنبياء والمرسلين من قبل مرحلية ومؤقتة ، فأصبحت بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتة وخالدة . وكانت محدودة وجزئية ، فأصبحت شاملة وكلية . وكانت خاصة ومحلية ، فأصبحت عامة وعالمية .

وإلى هذه المعقولية من الهيمنة والظهور والنسخ أشار القرآن الكريم حين قال :

{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} .

{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه .. } .

من أجل هذه النصوص ، وهذه المعقولية كانت الرسالة المحمدية ، والدعوة الإسلامية خاتمة الرسالات والدعوات إلى يوم البعث والنشور .

عالمية وعامة

لماذا كانت الدعوة عالمية وعامة ؟

كانت عالمية وعامة لكونها ذات صبغة إنسانية في تشريعها ومبادئها ، فهي رحمة للعالمين ، وهي هداية للناس كافة ، وهي منهاج للبشرية عامة .

فهذه الدعوة الإسلامية ليست تشريعاً لجنس خاص من البشر ، أو لإقليم معين من الأرض ، أو لفئة خاصة من الناس ؛ بل هي لكل إنسان في الوجود بغض النظر عن لونه أو جنسه أو لغته أو أرضه . فلا عنصرية في هذه الدعوة ، ولا عصبية في هذا التشريع ، ولا طبقية في هذا الإسلام ، وإنما الناس سواء كأسنان المشط ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى .

والشعار العام في هذه الصبغة الإنسانية لدعوة الإسلام قوله تبارك وتعالى : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}

وهذه العالمية للدعوة الإسلامية قد بينها الله جل جلاله في أكثر من آية في كتاب الله :

قال تعالى في سورة الأنبياء : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} .

وقال في سورة سبأ : {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} .

وقال في سورة الأعراف : {قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} .

  • وهذه العالمية للدعوة أكدها النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة :

روى الشيخان عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت للناس عامة" .

وثبت تاريخياً - عن طريق الرواية الصحيحة - أنه عليه الصلاة والسلام أرسل إلى الملوك والرؤساء في عصره

كالنجاشي ، وكسرى ، وقيصر ، والمقوقس … كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وكان شعاره في ذلك :

" أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك أثم الأريسيين (أي الفلاحين والعامة) " .

فلو لم تكن دعوته عليه الصلاة والسلام عالمية لما أرسل إلى ملوك الأرض يدعوهم بدعاية الإسلام ، ويأمرهم باعتناق هذا الدين .

ومن المؤيدات لهذه العالمية : تحميل القرآن الكريم أمة الإسلام في كل زمان ومكان أمانة التبليغ والدعوة في آفاق الدنيا ، ومجاهل الأرض وأصناف الأمم .

وهذا التحميل لأمانة التبليغ والدعوة بينه الله عز وجل في أكثر من آية في كتاب الله سبحانه:

قال تعالى في سورة آل عمران : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..} .

وقال في سورة البقرة : {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} .

وقال في سورة يوسف : {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني .. }.

فانطلاقاً من هذه الأوامر الربانية ، والإرشادات القرآنية ؛ انطلق المسلمون في آفاق الأرض ، وأرجاء الدنيا ، يبلغون رسالات الله ، ويدعون إلى الله ، ويعلنون التوحيد ، وينشرون الإسلام .

وشعارهم في ذلك :

(ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام} .

(وهذه الميزة العالمية للدعوة الإسلامية إنما هي أثر من آثار الصبغة الربانية في هذا التشريع ، فلو كان واضعه فرداً أو فئة من الناس ، لتعصبت -بوعي أو بلا وعي- لجنسها وطبقتها ومصالحها . ولكن المشرع هنا -كما هو معلوم- رب الناس ، إله الناس ، فهم جميعاً عباده ، لا فضل لفرد منهم على فرد ، ولا لفئة على أخرى بحكم الخلق والنشأة) .

ولعل المعقولية في هذه العالمية -كما سبق ذكره- لتحقيق وحدة التشريع العالمي لأمم الأرض ، ليتم لها الاستقرار والسلام والمحبة ، ولتنصبغ بالصبغة الربانية الخالصة .

ألا فليدرك شباب الدعوة هذه المزايا العالمية لدعوة الإسلام ؟!!..

ما هي أظهر خصائص هذه الدعوة ؟

الربانية

من الأمور المسلمة التي لا يكاد يختلف فيها اثنان أن لكل نظام من الأنظمة سواء أكان نظاماً ربانياً أو كان نظاما وضعياً لا بد له من خصائص يعرف بها ، ويتميز به عن غيرها . فما هي أظهر خصائص دعوة الإسلام ؟ أو بعبارة أوضح : ما هي طبيعة مبادىء الشريعة الإسلامية الغراء التي تتميز بها عن غيرها من النظم الأرضية ، والمذاهب البشرية ؟

أرى هذه الخصائص في دعوة الإسلام تتركز في النقاط التالية :

أ-الربانية :

نقصد بالربانية أن أحكام هذه الشريعة وأنظمتها ومبادئها ليست من وضع بشر يحكمه القصور والعجز والتأثر بمؤثرات المكان والزمان والثقافة ، ومؤثرات الوراثة والنزعة والمزاج والهوى .. وإنما شارعها صاحب الخلق والأمر في هذا الكون ، ورب كل ما فيه ومن فيه ، الذي أحسن كل شيء خلقه .

والمؤمن حين يندفع إلى تطبيق المنهج الرباني على نفسه ، يندفع بكليته وهو مرتاح عن رغبة وصدق ، واخلاص وطواعية .

لماذا يندفع المؤمن هذا الاندفاع ؟

  • لأنه يعلم علماً أكيداً أن الله سبحانه هو الخالق المبدع القادر . فله أن يتصرف في شؤون خلقه كما يريد وكما يشاء ، وليس للإنسان المخلوق الضعيف القاصر إلا أن يمتثل ما اختاره الله له دون توقف أو تردد .

قال تعالى في سورة القصص : {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحانه وتعالى عما يشركون} .

وقال في سورة الأحزاب : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .. } .

ولأنه يعلم علماً أكيداً أن الله سبحانه عليم بكل شيء .

فهو أعلم بما يشرع لعباده من أحكام ، وأدرى بما يحقق لهم من مصالح .

-قال تعالى في سورة الملك : {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} .

وقال في سورة البقرة : {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} .

  • ولأنه يعلم علماً أكيداً أن الله سبحانه حكيم في كل ما يشرعه ويخلقه ، وحكمته جل جلاله معناها أن يضع كل شيء في موضعه المناسب بالشكل الذي يؤدي إلى تحقيق المصالح ، ودرء المفاسد .

قال تعالى في سورة الأنفال : {والله عليم حكيم} .

وقال في سورة الأنفال أيضاً : {إنه عزيز حكيم} .

  • ولأنه يعلم علماً أكيداً أن الأنسان - مهما علا شأنه - ضعيف في حد ذاته عاجز عن أن يصل إلى مرتبة الكمال والنضج مهما ارتقى علمه ، ونضجت ثقافته .

قال تعالى في سورة الروم : {الله الذي خلقكم من ضعف} .

وقال في سورة النساء : {وخلق الإنسان ضعيفاً} .

وقال في سورة يوسف : {وفوق كل ذي علم عليم} .

عدا أن الإنسان -كما ألحنا- يتأثر بالبيئة ، ويتأثر بالعاطفة ، ويتأثر بالوراثة ، ويتأثر بالعقيدة التي يعتنقها ، ويتأثر بالنزعة التي يندفع إليها .

ولأضرب على ذلك الأمثال :

هذا الإنسان الذي كلف لأن يضع لأمة ما نظامها ، ومنهجها .. يأتي من هو أعلم منه تفنيناً ، وأكثر منه ثقافة ، فينقض له كل ما سنه من نظم ، وما قننه من قوانين .

وهذا الإنسان المتأثر بالفكر الماركسي ، حين يكون مختصاً بالقانون ، ويكلف لأن يضع لأمة ما دستورها يضع بنود هذا الدستور بما يتفق مع الفكر الماركسي الشيوعي .

وهذا الإنسان المتأثر بالفكر الرأسمالي ، حين يكون مختصاً بالقانون ، ويكلف لأن يضع لأمة ما دستورها يضع بنود هذا الدستور بما يتفق مع الفكر الرأسمالي الغربي .

وهذا الإنسان المتأثر بالنزعة الوجودية الإباحية يضع القوانين للأمة بما يتفق مع هذه النزعة الإباحية .

وهذا الإنسان المتأثر بالنزعة التسلطية الفردية يضع القوانين للأمة بما يتفق مع هذه النزعة التسلطية .

إلى غير ذلك من هذه المؤثرات ، والنزعات ، والمبادىء ، والأهواء .

والواقع الدولي ، والصراع العالمي ، والتناقض المذهبي ، والتباين الفكري الذي آلت إليه المجتمعات الإنسانية في العصر الحديث أكبر شاهد على ما نقول ؛ بل أعظم برهان على أن الإنسان في طبيعته ، وحقيقة ذاته ، يتأثر بالنزعة والهوى ، والبيئة والوراثة ، والعقيدة والمبدأ ، وأن عقله مهما سما قاصر ، وأن علمه مهما اتسع محدود ، وأنه عاجز عن وضع التشريع لنفسه مهما بلغ درجة النضج والكمال ، وفوق كل ذي علم عليم .

لهذا كله نجد المؤمن الواعي البصير المتفهم للحقيقة يندفع بكليته ، وينطلق من ذاته إلى تطبيق المنهج الرباني على نفسه ، وعلى من يكون تحت ولايته ؛ لاعتقاده الجازم أن كمال شخصيته ، وبناء إنسانيته ، وإصلاح بني قومه ، لا يتم على الوجه اللائق إلا أن يأخذ ممن اختص بالكمال والجلال ، وينقاد إلى من تنزه عن النقص والقصور ، ويستسلم إلى من عرف بالعظمة والإبداع .. ألا وهو الله سبحانه وحده ؟!!

وصدق الله العظيم القائل في سورة الأحزاب : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} .

والقائل في سورة الأنعام : {أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} .

والقائل في سورة المائدة : {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} .

هل عرف شباب الدعوة ما معنى الربانية ؟ وما يقصد منها ؟!!

الشمول

ونقصد بالشمول أن الشريعة الإسلامية الغراء اشتملت على نظم وأحكام وتشريعات في كل جانب من جوانب التكوين والبناء والإصلاح ، وفي كل ناحية من نواحي المجتمع والحياة ؛ سواء ما يتعلق بالعقائد ، والعبادات ، والأخلاق ، أو ما يتعلق بالقوانين العامة من مسائل مدنية ، وأمور جنائية ، وأحوال شخصية ، ونظم اجتماعية ، وعلاقات دولية …، أو ما يتعلق بأسس الحكم ، ومبادىء الاقتصاد ، وأصول المعاملات ، وركائز المجتمع الفاضل .

كل ذلك في مبادىء دقيقة محكمة ، وفي تشريعات ربانية خالدة ؛ تعطى ولا تأخذ ، وتجمع ولا تفرق ، وتؤلف ولا تبدد ، وتبني ولا تهدم ، تنزيل من حكيم حميد .

ومما يدل على شمول الشريعة الإسلامية لكل أنظمة الحياة :

أولا - التجربة التاريخية التي بدأت منذ تأسيس الدولة الإسلامية الأولى بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية ، والتي انتهت بزوال الخلافة العثمانية على يد العميل الخائن الملحد "أتاتورك" ، فالإسلام في هذه العصور جميعاً كان يحكم الواقع والحياة .

وكانت التجربة رائدة وناجحة ومحققة الخير والأمن والاستقرار لبني الإنسان بشهادة الخصوم كما سيأتي بيانه إن شاء الله .

ثانياً - النصوص القرآنية التي تنطق بالحق والهدى :

قال تعالى في سورة الأنعام : {ما فرطنا في الكتاب من شيء} .

وقال في سورة النحل : {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} .

ونوضح خاصية الشمول بالأمثلة :

ولنقتصر على المسائل المدنية والاقتصادية والدستورية ، والقوانين الجنائية ، والعلاقات الدولية ؛ باعتبار أن هذه الأمور تأخذ من اهتمام المقننين والمشرعين في العصر الحديث ، ويعتبرونها الأساس لأنظمة الحياة :

ففي القضايا المدنية والاقتصادية يقول الله تعالى في سورة البقرة : {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل … واستشهدوا شهيدين من رجالكم … ولا تكتموا الشهادة ..} .

وفي القضايا الدستورية يقول الله تعالى في سورة الشورى :

{وأمرهم شورى بينهم} .

وفي المسائل القضائية يقول جل جلاله في سورة النساء :

{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} .

وفي العقوبات الجنائية يقول عز من قائل في سورة البقرة :

{كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر …} .

وفي الإعداد الحربي يقول القرآن الكريم في سورة الأنفال :

{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} .

وفي العلاقات الدولية يقول من بيده الخلق والأمر في سورة الممتحنة :

{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} .

إلى غير ذلك من هذه القواعد والأحكام والمبادىء المبينة : إما في قرآن كريم ، أو سنة مطهرة ، أو إجماع ، أو قياس .

وما ذلك إلا تأكيد شامل على ظاهرة الشمولية التي انطوت عليها شريعة الإسلام ، لترتشف الإنسانية على مر العصور من معينها الصافي ، وتغترف الأجيال على مدى الزمان من بحرها الهادر الزاخر {ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} ؟.

من هذا المنطلق في خاصية الشمولية :

يقول العلامة الكبير "ساتيلانا " : (إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم إن لم نقل ما يكفي الإنسانية كلها) .

ويقول الدكتور "هوكنج" أستاذ الفلسفة في جامعة "هارفارد" : (إن في نظام الإسلام استعداداً داخلياً للنمو ، وإني أشعر بأني على حق حين أقرر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على جميع المبادىء اللازمة للنهوض ) .

ويقول القانوني الكبير "فمبري" : (إن فقه الإسلام واسع إلى درجة أنني أعجب كل العجب كلما فكرت في أنكم لم تستنبطوا منه الأنظمة والأحكام الموافقة لزمانكم ومكانكم..) .

وهذه الشهادة على شمولية الإسلام ، ومبادئه الحية الباقية هي شهادة أساطين الفقه والقانون في العالم .

فبأي حديث بعد هذا يؤمنون ؟.

العطاء والتجدد

إن المتأمل في مبادىء الشريعة الإسلامية الغراء ، وقواعدها الكلية ، يجد أن هذه الشريعة تفي بحاجات الزمن المتطور ، وتواكب حضارة العصور المتقلبة ؛ ولا سيما المبادىء والقواعد التي لها ارتباط بأحكام المعاملات ، والمسائل الدستورية ، والنظم الاقتصادية ، والعلاقات الدولية ، والقضايا المدنية .

ولنضرب على ذلك الأمثلة :

القرآن الكريم في المسائل الدستورية ، والأمور القضائية ..نص بوضوح على قاعدة العدل :

{اعدلوا هو أقرب للتقوى} .

{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} .

فقاعدة العدل التي نصت عليها الآيتان الكريمتان قاعدة كلية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير ؛ وهذه القاعدة يجب العمل بها في كل زمان ومكان ؛ ولكن وسائل تطبيق قاعدة العدل متروك للزمن المتطور ، والحياة المتجددة .. فتطبيق قاعدة العدل في محكمة واحدة ، أو بتعدد من المحاكم ، أو بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية .. فهذا كله متروك لأهل الحل والعقد ؛ بل متروك للأصلح من تجارب البشرية .

فمقصود الشريعة الأول تطبيق مبدأ العدل ، فليكن التطبيق بأية وسيلة ، وبأية صورة ارتأها أهل الحل والعقد ، وبأي تنظيم وبأي إطار أشار إليه المختصون في هذا المجال مادامت هذه التنظيمات والوسائل تطبق قاعدة العدل ، وتحقق مبدأ المساواة بالنسبة للجميع .

وكذلك قاعدة الشورى :

فالقرآن الكريم نص على هذه القاعدة بوضوح :

{وشاورهم في الأمر} .

{وأمرهم شورى بينهم} .

فقاعدة الشورى التي نصت عليها الآيتان قاعدة كلية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير . وهذه القاعدة يجب العمل بها في كل زمان ومكان ، ولكن وسائل تطبيق قاعدة الشورى متروك للزمن والحياة .. فتطبيق قاعدة الشورى في مجلس استشاري يضم النخبة من أهل الاختصاص والرأي ، أو في مجلس انتخابي ينتخبه الشعب ، أو انتقاء مجالس وزارية من أهل الخيرة والمشورة ، أو انتخاب مجالس محلية لكل مقاطعة أو بلد … فهذا كله متروك للأصلح من تجارب البشرية !!

فمقصد الشريعة الأول تطبيق قاعدة الشورى ، فليكن التطبيق بأية وسيلة كانت ، وبأية صورة أو هيئة ارتأها أهل الحل والعقد ، ما دامت الدولة بمسؤولها الأول ، ووزرائها ورجال الحكم فيها .. تحقق قاعدة الشورى ، وتقوم على تنفيذ مبدأ {وأمرهم شورى بينهم} .

ولنقس على ذلك :

مبدأ المساواة في قوله تعالى : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .

ومبدأ إعداد القوة في قوله تعالى : {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} .

ومبدأ تنظيم الدين في قوله تعالى : {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} .

ومبدأ الجنوح للسلم في قوله تعالى : {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} .

ومبدأ تنظيم العقود في قوله تعالى  : {ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} .

إلى غير ذلك من هذه المبادىء والقواعد التي نصت عليها شريعة الإسلام الخالدة .

وهنا يرد تساؤل : هل أحكام الشريعة كلها قابلة للتجدد والتطور ؟

للإجابة على هذا التساؤل يجدر أن نقسم الأحكام التشريعية إلى ثلاثة أقسام :

1-مسائل تشريعية قابلة للتجديد .

2-مسائل تشريعية قابلة للتبديل .

3-مسائل تشريعية ثابتة غير قابلة لتجديد ولا تبديل .

  • أما المسائل التشريعية القابلة للتجديد :

فقد سبق أن ذكرنا المبادىء والقواعد التي لها الارتباط الوثيق بالمعاملات المالية ، والشؤون الاقتصادية ، والنظم القضائية ، والقضايا الإدارية والدستورية .

فالإسلام -كما ذكرنا- نص على هذه المسائل بقواعد عامة ، ومبادىء كلية من غير تعرض إلى تفصيلات أو جزئيات أو مراحل ، وترك أمر التطبيق والهيئة والشكل للأصلح من تجارب البشرية كقاعدة العدل ، وقاعدة الشورى ، وقاعدة كتابة العقود .. كما سبق الشرح والبيان .

فالشريعة في هذه المسائل إذن اكتفت بتثبيت القاعدة ، وتحديد الإطار العام ، وتركت وسائل التطبيق ، وتفصيلات التنفيذ لأهل الحل والعقد ، وهيئة الخبرة والاختصاص كل على حسب زمانه ومكانه شريطة أن لا تتعارض هذه الوسائل والتفصيلات مع نص صريح ، أو تخرج عن القاعدة العامة ، أو تتجاوز هذا الإطار المحدد لها .

  • أما المسائل التشريعية القابلة للتبديل :

فهي المسائل التي لم يرد فيها نص أصلا لا في كتاب ، ولا في سنة ، ولا إجماع ، ولا قياس ؛ هذه المسائل خاضعة للاجتهاد الزمني ، والتطور المصلحي .. حيث يجتهد بهذه المسائل المستحدثة المستجدة علماء راسخون مختصون ، متسمون بالورع والتقوى ، ومتصفون بملكة الفهم والاجتهاد . فيصدرون أحكامهم بما يحقق وجه المصلحة ، وبما يتلاءم مع التطور الحضاري ، والتقدم العلمي ؛ كبيان حكم الإسلام في الضمانات التقاعدية للموظف والعامل ، وفي تعويض التسريح ، وفي التعويض العائلي ، وفي التأمين الصحي .. فهذه المسائل وما كان على شاكلتها مما لم يرد فيها نص ، وتتفق مع روح الشريعة ، ومقصدها العام ، تحتاج إلى نخبة من أهل العلم والاختصاص ليقرروا حكم الإسلام فيها على ضوء المصلحة والتطور ، وروح الشريعة ، ومقاصدها العامة .

وبناء على هذا يقول علماء الأصول : (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) .

* أما المسائل التشريعية الثابتة غير القابلة لتجديد ولا تبديل :

فهي المسائل التي وردت فيها نصوص قطعية ثابتة لا مجال لتجديدها وتبديلها ، والاجتهاد فيها ، كمسائل العقيدة ، وأركان الإيمان ، وأحكام العبادات ، وأمور المعاملات .. وكحرمة الزنى ، والربا ، والخمر ، والميسر ، وقتل النفس ، وتحديد أنصبة المواريث ، وتحديد عدة الطلاق والوفاة .. وكالنهي عن السفور ، والاختلاط بين الجنسين ، وخروج المرأة متبرجة .. ونحوها .

فهذه النصوص التي بينت هذه الأمور كلها هي نصوص قطعية ، وأحكام ثابتة ؛ بل هي منطقة محرمة ، لا يتطرق إليها الاجتهاد ، ولا تخضع لأي تبديل أو تعديل لحكمةٍ يعلمها الله ، وكثيراً ما يدرك الإنسان بعقله وتجربته ومشاهداته السر من الأمر والنهي ، والحكمة من الحل أو التحريم .

وقلنا أنها منطقة محرمة لا يتطرق إليها الاجتهاد ؛ لأن كل من يريد أن يبدل فيها ، أو يجتهد في تطويرها يكون هادماً للشريعة ، ومحارباً لله والرسول ، وخالعاً عن عنقه ربقة الإسلام .

وبناء على هذا يقول علماء الأصول : (لا مجال للاجتهاد في مورد النص) .

ومما يدل على عطاء هذه الشريعة وتجددها المستمر على مدى الزمان والأيام أنها أتت بقواعد تشريعية ميسرة مستنبطة من استقراء النصوص ، وأسباب النزول ، ووقائع الأحداث ، ومقاصد الشريعة مثل :

"الضرر يزال" .

"الضرر لا يزال بالضرر" .

"يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام" .

"الضرورات تبيح المحظورات" .

"ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" .

"درء المفسدة يقدم على جلب المصلحة" .

ألا فليعلم رجال الدعوة الإسلامية كيف يكون عطاء الشريعة ؟ وكيف يكون تجددها على مدى الزمان والأيام ؟!!.

التوافق بين المادية والروحانية

ومن خصائص التشريع الإسلامي أنه يلائم بين المادة والروح ، يوفق بين الدنيا والآخرة ، ويربط بين العبادة والحياة .. بل ينظر إلى الحياة على أنها وحدة متكاملة توظف الإنسان على أن يؤدي حق ربه ، وحق نفسه ، وحق غيره بكل دقة وأمانة وتساوٍ وتنسيق ؛ وبهذا يتسنى للإنسان أن يمارس الحياة الاجتماعية العملية بكل طاقاته وأشواقه على أسس من مباىء الإسلام توافق الفطرة ، وتتلاءم مع واقعية الحياة .

فالإسلام بتشريعه المتكامل لا يقر الحرمان ، ولا الترهبن ، ولا العزلة الاجتماعية ، وفي الوقت نفسه لا يقر الإنسان في أن ينهمك بكليته في الحياة المادية ، وينسى ربه والدار الآخرة ؛ بل يهيب به أن يتوازن مع هذا وذاك ، وأن يعطي حق الله ، وحق نفسه ، وحق الناس .. دون أن يغلب حقاً على حق ، ودون أن يتساهل في واجب على حساب واجب آخر .

والقرآن الكريم قد قرر هذا التوازن بين المادة والروح ، وبين العبادة والحياة في كثير من آياته التي تلامس المشاعر والوجدان قبل أن تخاطب عقل الإنسان .

ففي تذكيره بأداء حق الله في العبادة في غمرة الانهماك في الأعمال الدنيوية ، والمزاولات التجارية يقول في سورة النور :

{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .

وفي تذكيره بأداء حق النفس والعيال في التكسب ، وابتغاء الرزق في غمرة المناجاة الربانية ، والنفحات المسجدية ، يقول في سورة الجمعة :

{فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ..} .

ومن الأصول التي وضعها القرآن الكريم في هذا التوافق :

ابتغاء الدار الآخرة مع الأخذ بحظوظ الدنيا : قال تعالى في سورة القصص :

{وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ..} .

الاستنكار على من يحرم على نفسه الزينة المباحة ، والطيبات من الرزق : قال تعالى في سورة الأعراف :

{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ، والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ..} .

وما ذاك إلا ليوازن الإنسان بين الدين والدنيا ، والعبادة والحياة .

ولو تأملنا مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحقيق التوافق ، ومعالجة ظاهرة العزلة والانطوائية والتخلي عن الدنيا ؛ لازددنا يقيناً أن هذه المواقف ، وهذه المعالجة قائمة على إدراك فطرة الإنسان ، ورامية إلى تلبية أشواقه وميوله ، حتى لا يتجاوز أي فرد من أفراد المجتمع حدود فطرته ، ولا يسلك سبيلاً منحرفاً يصطدم مع أشواقه ؛ بل يسير على مقتضى المنهج القويم السوي الذي رسمه الإسلام سيراً طبيعياً متوازناً معتدلاً سوياً بلا عوج ولا شذوذ ولا التواء .

وإليكم بعض هذه المواقف :

روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه : (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوا (أي وجدوها قليلة ) ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟!!..

قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً !!

وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر !!

وقال آخر : أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً !!

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " ) .

ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص حينما علم أنه قد تخلى عن الدنيا ، وعزم على نفسه أن لا ينام ، وأن لا يفطر ، وأن لا يأكل اللحم ، وأن لا يؤدي إلى أهله حقها ، فقال له عليه الصلاة والسلام ناصحاً وموجهاً ومرشداً : " إن لك في رسول الله أسوة حسنة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام ويصلي ، ويصوم ويفطر ، ويأكل اللحم ، ويؤدي إلى أهله حقوقهن . يا عبد الله بن عمرو : إن لله عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ، وإن لأهلك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه" .

من هذه المواقف التي وقفها النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه تعطينا دليلاً قاطعاً ، وحجة بينة على أن هذا الإسلام العظيم هو دين الفطرة ، والتوازن ، والوسطية والاعتدال ؛ يضع الأسس الكفيلة ، والمبادىء الواقعية في بناء الشخصية الإنسانية واكتمالها وتوازنها لتنهض برسالتها ، ومهمتها في الحياة على أكمل وجه .

هذا شرع الله فأروني ماذا شرع الذين من دونه ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون .

اليسر والبساطة والمعقولية

إن المتتبع لتعاليم الشريعة الإسلامية الغراء يجدها تمتاز باليسر والبساطة والمعقولية .

  • تمتاز باليسر لأن مبادئها الأساسية

{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .

{وما جعل عليكم في الدين من حرج} .

{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} .

{فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه} .

فهذه النصوص وغيرها تؤكد تأكيداً جازماً أن الإسلام بمبادئه السمحة لا يكلف الإنسان فوق طاقته ، ولا يحمله من المسؤوليات فوق استعداده ، بل نجد كل هذه التكاليف والمسؤوليات تدخل في حيز الإمكان البشري ، والطاقة الإنسانية ، لكي لا يكون لأي إنسان عذر أو حجة في التخلي عن أمر شرعي ، أو ارتكاب مخالفة إسلامية .

ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة :

من يسر هذه الشريعة أنها شرعت الحج للمسلم القادر المستطيع في العمر مرة واحدة .

ومن يسرها أنها شرعت الزكاة للقادر المالك للنصاب بنسبة -2.5 - في المئة عل الأمور النقدية ، وعروض التجارة في العام مرة واحدة .

ومن يسرها أنها شرعت للمسلم خمس صلوات في اليوم والليلة ، يؤديها في أوقات مخصوصة متفرقة في المكان الذي يريد ، ويسرت أمر أدائها بالتيمم عند فقد الماء ، وبأدائها قاعداً أو مضطجعاً أو مومياً في حالة العجز أو المرض ؛ وبالجمع بين صلاتين مع قصر الرباعية في السفر .

ومن يسرها أنها شرعت الصوم شهراً قمرياً واحداً في السنة ، يصومه المسلم مستديراً مع الفصول الأربعة ، وأباحت للصائم أن يفطر إذا كان مريضاً أو على سفر .

ومن يسرها أنها أباحت للمسلم تناول المحرم أو أكل الميتة ؛ إذا أشرف على الهلاك ولم يجد شراباً أو طعاماً يسد الحاجة .

وتمتاز بالبساطة والمعقولية :

لأن مبادئها واضحة بسيطة مفهومة يعقلها كل ذي عقل ، ويفهمها كل ذي فهم ، ويستجيب لها كل ذي فطرة سليمة صافية .

ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة :

من بساطة الشريعة ومعقوليتها أنها أمرت الإنسان أن يفكر ويقدر ويتأمل ؛ ليصل إلى حقيقة الإيمان بواجد الوجود سبحانه ، ويقر جزماً واعتقاداً بوحدانية الله المتقررة ، وقدرته المطلقة .

ومن بساطتها ومعقوليتها أنها جعلت الصلة بين الخالق والمخلوق قائمة على الاعتقاد أن الله هو رب كل شيء ، وهو القاهر فوق عباده ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء .

ومن بساطتها ومعقوليتها أنها حاربت الخرافة والكهنوتية بكل أشكالها وصورها ، حاربت فكرة التثليث ، وفكرة الواسطة بين الخالق والمخلوق ، ونعتت بشدة على أولئك الذين يخدعون الجماهير بكرسي الاعتراف ، وبيع صكوك الغفران ، ومنح الجنة ، وحرمان النار .

ومن بساطتها ومعقوليتها أنها تقبل التوبة من كل من يطرق باب الله عز وجل تائباً منيباً صادقاً ؛ مهما كان مولغاً في الكفر ، متمادياً في الفسوق والعصيان دون واسطة من أحد .

ومن بساطتها ومعقوليتها أنها ربطت الإيمان بالحياة ، والعقيدة بالعمل ؛ فالمسلم لا يكون عند الله مسلماً إلا إذا سلم الناس من لسانه ويده ، والمؤمن لا يكون عند الله مؤمناً إلا إذا أمنه الناس على دمائهم وأموالهم .

ومن بساطتها ومعقوليتها تقريرها بأن النية الصالحة شرط لقبول العمل عند الله عز وجل ، فهذه النية إذا تحققت في المسلم بشكل دائم ، فإنها تقلب العمل -مهما كان نوعه- إلى عبادة لله ، وطاعة لرب العالمين ؛ وبناء على هذا يقول علماء الفقه والأصول : "إن النية الصالحة تقلب العادة إلى عبادة" .

هذا هو الإسلام في بساطته ويسره ومعقوليته وواقعيته . ألا فليفهم شباب الدعوة هذه الحقيقة ؟!! .

الأصالة والخلود

ومن أميز خصائص الشريعة الإسلامية أنها تتصف بالأصالة الباقية ، والخلود السرمدي في نصوصها ومصادرها دون أن يتطرق إليها تحريف ، أو يطرأ عليها تبديل أو تغيير .

  • فالقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول من مصادر الشريعة ، وقد تكفل الله حفظه وبقاءه إلى يوم البعث والنشور ، وذلك في قوله سبحانه :

{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} .

وها هو ذا قد مضى على نزول القرآن الكريم أربعة عشر قرناً ، فالقرآن هو القرآن في لفظه ومعناه ، وتجويده وأدائه .

وكم يسر المسلم حين يفتح أي إذاعة من إذاعات العالم ، ليستمع إلى ما تبثه من آيات الله البينات ، كم يسر حين يجد التلاوات كلها متفقة ، والقراءات جميعها واحدة ؛ بل يزداد يقيناً بأصالة هذا القرآن ، وبحفظ الله له على مدى الزمان والأيام ؟!!

وكم حاول أعداء الإسلام عبر التاريخ ، وخلال العصور أن يبدلوا في القرآن -ولو كلمة- فهل استطاعوا ، وهل وصلوا إلى هدفهم الخبيث ؟

الدنيا تعلم ، والتاريخ يشهد أن محاولاتهم الآثمة ، ومؤامراتهم المغرضة باءت بالهزيمة والفشل ، بل عادت عليهم بالفضيحة والعار ، ولعنة الأجيال والتاريخ .

ولقد شهد لأصالة القرآن ، وخلوده الأبدي على مدى الزمان منصفون من رجالات الغرب قالوا كلمة الحق بنزاهة وتجرد ، ووضحوا الحقيقة بدقة وأمانة !!

ومن هؤلاء البروفسور "رينولد نيكلسون" في كتابه "التاريخ الأدبي للعرب" يقول هذا العالم بالحرف الواحد : (القرآن الكريم وثيقة إنسانية رائعة ، توضح بدقة سر تصرفات محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أحداث حياته ، حتى إننا لنجد فيه مادة فريدة لا تقبل الشك أو الجدل ، نستطيع خلالها أن نتتبع سير الإسلام منذ نشأته وظهوره في التاريخ المبكر ، وهذا ما لا تجد له مثيلاً في البوذية أو المسيحية أو أي دين من الأديان القديمة ..) .

  • والسنة النبوية التي هي المصدر الثاني من مصادر الشريعة ، بل هي المبينة للقرآن الكريم ، والمكملة لنظام الإسلام .

هذه السنة قد هيأ الله لها من يحفظها من عبث العابثين ، ووضع الوضاعين ، ودس المغرضين .. هيأ لها علماء أثباتاً ، ومحدثين أفذاذاً ، ورجالاً فطاحل لم يشهد التاريخ الإنساني أنبه منهم ، ولا أدق في بيان درجة الحديث ، ومعرفة أحوال السند والمتن ، وأصول الرواية والدراية ؛ حتى وصلت السنة إلينا نقية خالصة لم يعتروها أي شبهة ، ولم يطرأ عليها أي علة . وأصبح الآن كل إنسان حين يرجع إلى أسفار السنة ، ومراجع الحديث الأساسية .. يعرف أي حديث -يريد التحقق منه- من حيث الصحة أو الضعف ، أو يعرف سنده من حيث التعديل أو الجرح .. وما ذاك إلا بجهود أهل الحديث الثقات الأثبات الأفذاذ على مدى العصور .

وإليكم هذا الموقف التاريخي الذي يؤيد ما نقول :

سمع الخليفة العباسي "هارون الرشيد" أن زنديقاً لفق أحاديث موضوعة ونسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، والرسول لم يقل منها حرفاً واحداً ، فأمر باستدعائه ، والمثول بين يديه ، فلما أقر عرضه على السيف ، وقبل أن يقتل ؛ قال الزنديق للخليفة : أين أنتم من الأحاديث التي وضعتها فيكم ، وقد أحللت فيها الحرام ، وحرمت فيها الحلال ، والرسول لم يقل منها حرفاً واحداً ؟!!.. فقال له الخليفة على الفور : أين أنت يا زنديق من أبي إسحاق الفزاري ، وعبد الله بن المبارك ، فإنهما سينخلانها نخلاً ، ويخرجانها حرفاً حرفاً ؟!! ثم أمر بقتله فقتل .

وما دامت السنة تابعة للقرآن الكريم في تبيانها وتكميلها وتأكيدها ؛ فالله سبحانه تولى حفظها وخلودها كما تولى القرآن الكريم سواء بسواء إلى يوم البعث والدين .

هذه هي الشريعة في أصالة نصوصها ، وخلود مصادرها على مدى الزمان والأيام ، فهل علم شباب الدعوة هذه الحقيقة ؟ وهل عرفوا هذه الخصيصة الرائعة ؟ .

العدل المطلق

من المعلوم لدى كل ذي فهم وبصيرة (أن هدف الشريعة الأساسي هو إقامة العدل المطلق بين الناس جميعاً ، وتحقيق المساواة بينهم ، وصيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم ، كما صان لهم دينهم وأخلاقهم ؛ فغايتها الوحيدة تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد ، وليست غاية الشريعة تحقيق مصلحة طبقة خاصة دون طبقة ، ولا جنس دون جنس ، ولا أمة دون أمة ؛ وليست غايتها تحقيق المصلحة المادية مع إهمال الناحية الخلقية والروحية ، وليست غايتها تحقيق المصلحة الدنيوية بقطع النظر عن المصالح الأخروية كما تفعل القوانين الأرضية ؛ وليست غايتها تحقيق المصلحة الأخروية بغض النظر عن المصالح الدنيوية كما هو شأن بعض الديانات ، والنحل المغالية في نزعتها الروحية .

ومراعاة هذه الاعتبارات كلها مستحيل أن يتحقق في تشريع بشرى ، فإن مراعاتها لتحقيق العدل المطلق لبني الإنسان تحتاج إلى علم إله ، ورحمة إله ، وحكمة إله . فالإنسان دائماً ينظر من زاوية ، ويغفل زوايا كثيرة .

أما الذي ينظر النظرة المحيطة بكل شيء ، وكل جانب ؛ فهو الخلاق العليم الحكيم الذي وسع كل شيء ، رحمةً وحكمةً وعلماً {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ }.

ومن هذه النظرة الإسلامية الكلية في بناء شخصية الإنسان وتوازنه ، وتحقيق العدل له وتكامله ؛ قال علماء الاجتهاد والأصول : (إن مقاصد التشريع الإسلامي خمسة : حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ النسب ، وحفظ المال) .

وقالوا : (إن كل ما جاء في الشريعة من مبادىء وأحكام ، وأوامر ونواه ، وزواجر وعقوبات ؛ كلها تهدف إلى حفظ هذه المقاصد الخمسة ..) .

وهذا تأكيد جازم على أن الشريعة نزلت لتحقق لبني الإنسان الخير العام ، والعدل المطلق في دينهم ودنياهم وآخرتهم .

فشعارها العام الذي لا يتبدل : {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} .

ومبدؤها الثابت الذي لا يتغير : {اعدلوا هو أقرب للتقوى} .

هذه هي خصيصة الشريعة في تحقيقها العدل المطلق لكل من يعيش تحت ظل حكمه ونظامه ، فهل علم شباب الدعوة نظرة الإسلام في بناء الشخصية الإنسانية ، وتكوين المجتمع الفاضل ؟!!

تلكم -يا شباب الدعوة- أظهر ما في هذه الدعوة الإسلامية التي تحملون إلى الدنيا لواءها من خصائص ومزايا ، وإن دعوة تحمل في طياتها مزايا الربانية والعالمية والشمول ، وتحمل في أنظمتها خصائص العدل والتجدد والبساطة ، وتحمل في طبيعتها ظواهر الأصالة والهيمنة والثبات ؛ لهي دعوة تستحق البقاء ، وتستأهل الخلود ، وتضيء للدنيا أنوار الحق والحضارة والعرفان ، وترفع في سماء البشرية منارات الهدى والعلم والمدنية ، وتسطر في ضمير الزمن آيات المجد والقوة والعظمة والخلود .

وهي جديرة أن يحملها الدعاة إلى الدنيا يعرفونها ، ويدعون إليها ، وينشرونها في ربوع العالمين ، وآفاق المعمورة ، ومجاهل الأرض .

ومما يؤكد صلاحية الدعوة الإسلامية ، واتصافها بالتجدد والعطاء ، وإيفائها بحاجات الأمم والشعوب ، ودفعها لعجلة التقدم الحضاري ، والإبداع المادي في كل زمان ومكان .

مما يؤكد هذا كله الشهادات التالية :

1-شهادة الواقع العالمي .

2-شهادة المؤتمرات الدولية .

3-شهادة المنصفين من غير المسلمين في العالم .

شهادات ونظريات

أما شهادة الواقع العالمي

فإن النظريات القانونية التي يباهي بها العصر الحديث ، وتفتخر بها الفلسفات القانونية قد سبقت بها الشريعة الإسلامية ، وأرست قواعدها ، وقام على ذلك فقهها وتشريعها وقضاؤها قبل أربعة عشر قرناً .

وقد عرض القانوني الكبير الأستاذ "عبد القادر عودة" رحمه الله في مقدمة الجزء الأول من كتابه القيم "التشريع الجنائي الإسلامي" عرض طائفة من النظريات والمبادىء التشريعية التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً .

  • من هذه النظريات : "نظرية المساواة" :

هذه النظرية جاءت بها الشريعة الإسلامية من وقت نزولها بنصوص صريحة تقررها وتفرضها فرضاً ، وبصفة مطلقة بلا قيود ولا استثناءات ، فلا امتياز فرد على فرد ، ولا جماعة على جماعة ، ولا جنس على جنس ، ولا لون على لون ، ولا لحاكم على محكوم .

والشعار في ذلك قوله تعالى في سورة الحجرات : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .

هذا على حين لم تعرف القوانين الوضعية هذه النظرية إلا في أواخر القرن الثامن عشر ، وأوائل القرن التاسع عشر ، وهي مع هذا تطبقها تطبيقاً محدوداً بالنسبة إلى الشريعة التي توسعت في تطبيق النظرية إل أقصى حد .

  • ومن هذه النظريات : "نظرية الحرية" :

هذه النظرية قررتها الشريعة في أروع صورها ، فقررت حرية التفكير ، وحرية الاعتقاد ، وحرية القول .

وساق الشهيد "عبد القادر عودة" من النصوص الدالة على هذه الحرية ما يملأ النفس والبصر .

  • ومن هذه النظريات : "نظرية الشورى" :

هذه النظرية نزل بها القرآن منذ عهده المكي {وأمرهم شورى بينهم} وأمدها في المدينة بقوله : {وشاورهم في الأمر} .

وقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في تقريرها مبدأ الشورى بأحد عشر قرناً ، حيث لم تأخذ القوانين به إلا بعد الثورة الفرنسية ما عدا القانون الإنجليزي ، فقد عرف مبدأ الشورى في القرن السابع عشر ، وقانون الولايات المتحدة الذي أقر المبدأ بعد منتصف القرن الثامن عشر .

  • ومن هذه النظريات : "نظرية تقييد سلطة الحاكم" :

هذه النظرية تقوم على ثلاثة مبادىء أساسية :

أولها - وضع حدود لسلطة الحاكم .

ثانيها - مسؤوليته عن عدوانه وأخطائه .

ثالثها - تخويل الأمة حق عزله .

وقد جاءت هذه النظرية الإسلامية بهذه المبادىء الثلاثة في وقت كانت سلطة الحاكم في العالم كله سلطة مطلقة على المحكومين ، فكانت شريعة الإسلام أول شريعة تقيد هذه السلطة ، وتلزم الحاكمين أن يتصرفوا داخل حدود معينة ، وضمن دائرة خاصة ، ليس لهم أن يتجاوزوها ، وإلا فلن يكون لهم سمع ولا طاعة .

  • ومن ذلك : جملة نظريات في الإثبات والتعاقد :

مثل نظرية : إثبات الدين بالكتابة صغيراً كان الدين أم كبيراً .

ومثل نظرية : حق الملتزم في إملاء العقد لأنه أضعف الطرفين المتعاقدين .

ومثل نظرية : تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات أو أدائها .

وهذه النظريات كلها بعض ما اشتملت عليه آية المداينة المثبتة في أواخر سورة البقرة من أحكام ومبادىء وتوجيهات .

ومن التفريع على ما ذكرناه من نظريات :

أن كثيراً من الأحكام والنظريات التي قررتها الشريعة منذ أربعة عشر قرناً ، وكانت في وقت ما موضع ارتياب أو اتهام من خصوم الشريعة لم تجد البشرية بدأ من اللجوء إليها ، والاعتراف بها ؛ تحقيقاً للعدل ، ورفعاً للضرر والظلم عن الأفراد والمجتمعات .

وأبرز مثل لذلك :

أ-الطلاق : الذي اضطرت دول الغرب كافة إلى الاعتراف به ، وآخرها تلك الدولة الكاثوليكية العريقة بنصرانيتها وهي إيطاليا ؛ فقد عقد في "لاهاي" سنة 1968 مؤتمر للقانون الدولي الخاص "الدورة الحادية عشر" ، فكان مما تناوله البحث : إعداد معاهدة الاعتراف بالطلاق ، والتفريق القانوني على المستوى الدولي ، وهذا معناه الرجوع إلى حكم الإسلام .

ب-الربا : الذي زعموا في وقت من الأوقات أن عجلة الحياة الاقتصادية لا تدور إلا به ، حتى قام من كبار الاقتصاديين في الغرب من ينقض فكرة الربا من أساسها باسم العلم والاقتصاد لا باسم الدين والإيمان ؛ ولعل أشهر اسم يذكر في هذا الصدد هو اسم الاقتصادي البريطاني "كينز" الذي قرر أن المجتمع لن يصل إلى العدالة الكاملة إلا بالقضاء على سعر الفائدة ؛ وكذلك الدكتور "شاخت" الألماني الذي يقول : "بعملية رياضية متناهية يتضح أن جميع المال صائر إلى عدد قليل من المرابين .." .

وهناك صيحات في أوربة تنبعث هنا وهناك :

صيحات تطالب بإباحة تعدد الزوجات ، قالت "آني بيزانت" في كتابها "الأديان المنتشرة في الهند" : (متى وزنا الأمور بقسطاس العدل المستقيم ظهر لنا أن تعدد الزوجات في الإسلام أرجح وزناً من البغاء الغربي الذي يسمح بأن يتخذ الرجل امرأة لحض إشباع شهوته ، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها وطره ..) .

وقد قيل : إن ألمانيا أباحت نظام تعدد الزوجات حلا لأزمة الأولاد غير الشرعيين ، وتسوية لمشكلة الاتصال الحرام عن طريق اتخاذ الخليلات ، كما ذكرت ذلك صحيفة الأهرام القاهرية .

وصيحات تنادي بوضع حد للاختلاط بين الجنسين ، ومحاربة الميوعة والانحلال ؛ ذكرت جريدة الأخبار القاهرية : (أن النساء السويديات خرجن في مظاهرة عامة شملت أنحاء السويد احتجاجاً على إطلاق الحريات الجنسية هنا وهناك ، وقد اشترك في هذه المظاهرات مائة ألف امرأة ..) .

وصيحات تنتقد بشدة عمل المرأة في المعمل ، وخروجها من البيت ، وتخليها عن مسؤولية التربية ؛ نشرت جريدة "لاسترن ميل" الإنكليزية ما يلي : (.. لأن تشتغل بناتنا في البيوت كخوادم ، خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل ، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد ، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين ، فيها الحشمة والعفاف رداء . إنه عار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال ؛ فما لنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت ، وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها ..) .

إلى غير ذلك من هذه الصيحات الإصلاحية ، والنداءات التربوية ؛ التي تستهدف رجوع المرأة إلى وظيفتها الطبيعية التي خلقت من أجلها ، والحد من فوضى الاختلاط بين الجنسين الذي استفحل خطره ، وتطهير المجتمع من ظاهرة الميوعة والانحلال .

وهذا معناه العودة إلى نظام الإسلام ، ومبادىء الشريعة ، وحكم القرآن .

وصدق الله العظيم القائل في سورة فصلت : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} .

أما شهادة المؤتمرات الدولية

فحسبنا أن نذكر أشهر المؤتمرات الدولية التي عقدت في هذا القرن ، والتي شهدت أن شريعة الإسلام لهي الشريعة الحية الصالحة المتجددة الخالدة منذ أن أنزلها الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها :

أ- ففي مدينة "لاهاي" سنة 1937 انعقد مؤتمر دولي للقانون المقارن دعي إليه الأزهر الشريف ، فمثله فيه مندوبان من كبار العلماء حاضراً فيه عن "المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية" ، وعن "استقلال الفقه الإسلامي ، ونفي كل صلة مزعومة بين الشريعة الإسلامية ، والقانون الروماني" .

وقد سجل المؤتمر على أثر ذلك قراره التاريخي الهام ، بالنسبة إلى رجال التشريع الغربي وقد جاء فيه :

1-اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام .

2-وإنها حية قابلة للتطور .

3-وإنها شرع قائم بذاته ليس مأخوذاً من غيره .

ب-وفي نفس المدينة "لاهاي" سنة 1948 انعقد مؤتمر المحامين الدولي الذي اشتركت (53) دولة من جميع أنحاء العالم ، والذي ضم جمعاً غفيراً من الأساتذة والمحامين اللامعين من مختلف الأمم والأقطار .

اتخذ هذا المؤتمر العالمي القرار التالي : "نظراً لما في التشريع الإسلامي من مرونة ، وما له من شأن هام ، يجب على جمعية المحامين الدولية ، أن تبني الدراسة المقارنة لهذا التشريع ، وتشجع عليها .." .

ج-وفي سنة 1950 عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمراً للبحث في الفقه الإسلامي في كلية الحقوق من جامعة "باريس" تحت اسم : "إسبوع الفقه الإسلامي" ، ودعت إليه عدداً كبيراً من أساتذة كليات الحقوق العربية ، وغير العربية ، وكليات الأزهر الشريف ، ومن المحامين الفرنسيين والعرب ، وغيرهم من المستشرقين ؛ وقد اشترك فيه أربعة من مصر من الأزهر والجامعات ، واثنان من سورية ، وقد دارت المحاضرات حول موضوعات فقهية خمسة ، عينها المجمع الدولي قبل عام ، ووجهت دعوة المحاضرات فيها ، وهي :

1-إثبات الملكية .
2-الاستملاك للمصلحة العامة .
3-المسؤولية الجنائية .
4-تأثير المذاهب الاجتهادية بعضها في بعض .
5-نظرية الربا في الإسلام .

وكانت المحاضرات كلها باللغة الفرنسية ، وخصص لكل موضوع يوم ، وعقب كل محاضرة كانت تفتح مناقشات مع المحاضر .

وفي خلال بعض المناقشات وقف أحد الأعضاء ، وهو نقيب سابق للمحامين في باريس فقال:

"أنا لا أعرف كيف أوفق ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي ، وعدم صلوحه أساساً تشريعياً يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور ، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ، ومناقشاتها ، مما يثبت خلاف ذلك تماماً ببراهين النصوص والمبادىء .." .

وفي الختام وضع المؤتمرون بالإجماع هذا التقرير الذي نترجمه فيما يلي :

(بناء على الفائدة المتحققة من المباحثات التي عرضت أثناء "أسبوع الفقه الإسلامي" وما جرى حولها من المناقشات التي نستنتج منها بوضوح :

1-إن مبادىء الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها .

2-إن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ، ومن الأصول الحقوقية -وهي مناط الإعجاب- وبها يتمكن الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة ، والتوفيق بين حاجاتها ..) .

في هذه الشهادات من المؤتمرات الدولية المتخصصة دليل قاطع على عظمة هذه الدعوة الإسلامية ، وتجددها وعطائها ، وشمولها وخلودها على مدى الزمان والأيام .

{ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} ؟ .

أما شهادة المنصفين في العالم

فإنها أعظم من أن تحصى ، وأكثر من أن تستقصى ، هذه الشهادات ليست من رجال الأزهر ، وعلماء الإسلام ، وأساتذة الشريعة في الجامعات ؛ وإنما هي شهادات من كبار رجال القانون الوضعي الذين رضعوا من لبانه ، وترعرعوا في رحابه ، وهي شهادات معللة تحمل في عباراتها براهين صدقها ، معترفة بفضل الشريعة وصلاحيتها ، وسبقها وتفوقها .

ولا بأس أن نسوق هنا بعض شهادات هؤلاء المنصفين للذين لا يزالون يثقون بالفكرة إذا هبت ريحها من جهة الغرب :

-يقول الدكتور "إيزكو انساباتو" : (إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوربية ، بل هي تعطي للعالم أرسخ الشرائع ثباتاً) .

-ويقول العلامة "شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة "فينا" في مؤتمر الحقوق سنة 1927 : (إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد صلى الله عليه وسلم إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة) .

-ويقول الفيلسوف الإنكليزي "برنارد شو" : (لقد كان دين محمد صلى الله عليه وسلم موضع تقدير سامٍ لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة ، وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة ، وأرى واجباً أن يدعى محمد صلى الله عليه وسلم منقذ الإنسانية ، وإن رجلاً كشاكلته إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته ..) .

-ويقول المؤرخ الإنكليزي "ويلز" في كتابه "ملامح تاريخ الإنسانية" : (إن أوروبة مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية ..) .

-ويقول المؤرخ الفرنسي "سيديو" : (إن قانون نابليون منقول عن كتاب فقهي في مذهب مالك هو شرح الدردير على متن خليل) .

-ونقل "غوستاف لوبون" عن الأستاذ "ليبري" قوله : (لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبة الحديثة عدة قرون) .

-ويقول "لين بول" في كتابه "العرب في أسبانيا" : (فكانت أوروبة الأمية تزخر بالجهل والحرمان ، بينما كانت الأندلس تحمل إمامة العلم ، وراية الثقافة في العالم).

-ويقول "أدموند بيرك" : (إن القانون المحمدي قانون ضابط للجميع من الملك إلى أقل رعاياه ، وهذا القانون نسج بأحكم نظام حقوقي ، وشريعة الإسلام هي أعظم تشريع عادل لم يسبق قط للعالم إيجاد نظام مثله ، ولا يمكن فيما بعد ..) .

-وسبق أن ذكرنا ما قاله القانوني الكبير "فمبري" : (إن فقه الإسلام واسع إلى درجة أنني أعجب كل العجب كلما فكرت في أنكم لم تستنبطوا منه الأنظممة والأحكام الموافقة لزمانكم وبلادكم ..) .

فهذه الأقوال وأقوال كثيرة غيرها تشهد بجلاء ووضوح على ما انطوت عليه الدعوة الإسلامية من ثروة قانونية وتشريعية ، وقوة دفع علمية وحضارية .

والفضل كل الفضل هو ما اعترف به المنصفون ، وما أقر به المختصون من نبغاء العالم ومفكريه .

شهد الأنام بفضله حتى العدا

والفضل ما شهدت به الأعداء

والمسلمون الأوائل من الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان ، حين علموا طبيعة الدعوة ، ومهمة الداعية ، ومسؤولية المجاهد في سبيل الله ، وحين علموا أن الإسلام دين ودولة ، وعبادة وسياسة ، ومصحف وسيف ، ونظام حكم ، ومنهج حياة ، وحين تأصلت هذه المعاني في نفوسهم ، وعرفوا في هذا الكون مسؤوليتهم ورسالتهم ، خرجوا من محيطهم الضيق ، وبيئتهم المحدودة ، إلى أرجاء الأرض ، وآفاق الدنيا ، يمدنون الأمم ، ويكرمون الإنسان ، ويرفعون لواء التوحيد ، ويرسون في العالمين قواعد المدنية والحضارة ، وينشرون في الوجود أضواء العلم والمعرفة ، ويسطرون على جبين الزمن مبادىء الحرية والعدالة والمساواة . انطلقوا ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .

  • ولم ينتقل عليه الصلاة والسلام إلى الملأ الأعلى حتى انتشر الإسلام في الجزيرة العربية ، ودخل اليمن والبحرين ، ووصل إلى تهامة ونجد .
  • وفي عهد الخلفاء الراشدين أخضع المسلمون المملكتين العظيمتين : فارس والروم ، وامتد ظلهم إلى بلاد السند شرقاً ، وإلى بلاد الخزر وأرمينية ، وبلاد الروس شمالاً ، ودخلت في عدلهم بلاد الشام ومصر وبرقة وطرابلس ، وبقية إفريقية ، وذلك كله في خمس وثلاثين سنة .
  • وفي عهد بني أمية استبحر ملكهم ، وامتد سلطانهم إلى أن دخلوا بلاد السند ، ومعظم بلاد الهند ، وصلوا إلى حدود الصين شرقاً ، ودخلوا بلاد الأندلس في أوروبة غرباً .
  • وفي عهد بني العباس استطاع الخليفة "هارون الرشيد" أن يصور للعالم بسطة الدعوة الإسلامية الممتدة شرقاً وغرباً ، وشمالاً وجنوباً ؛

فلم يجد غير أن يخاطب السحابة التي تمر به ولا تمطره ، فيقول لها بلسان المطمئن : (أمطري حيث شئت فإن خراجك سيحمل إلينا) !!

أما ما تركته الدعوة من أثر في بناء الحضارة الإنسانية :

فإن التاريخ يشهد ، والمنصفين من فلاسفة الغرب يشهدون أن المسلمين على اختلاف أجناسهم وبيئاتهم ، وتباين لغاتهم وألوانهم في العصور الإسلامية الزاهية خلفوا في العالم آثاراً حضارية شاملة خالدة ، مازالت الأجيال الإنسانية في كل زمان ومكان تنهل من معينها ، وترتشف من سلسبيلها !!

والمؤرخون مجمعون على انتقال الحضارة الإسلامية إلى الغرب كان عن طريق المعابر التالية :

أ-معبر الأندلس .

ب-معبر صقلية .

ج-معبر الحروب الصليبية .

د-معبر مدارس الترجمة في شمال إسبانيا ، وفرنسا ، وإيطاليا .

ه-معبر تجار المسلمين والدعاة الذين نشروا الإسلام في كثير من البلدان الأوربية ، والأفريقية ، والآسيوية ، وغيرها .

ولا شك أن الأندلس هي المعبر الرئيسي لحضارة الإسلام في شتى المجالات العلمية والفنية والأدبية .

وبقيت أوروبة -بعد عبور الحضارة الإسلامية إليها- قروناً طويلة ترتشف من معين الحضارة الإسلامية ، وتنهل من سلسبيل علومها ومعارفها ؛ حتى استطاعت في أمد قصير أن تصل إلى قمة الحضارة المادية ، وأن تصعد إلى ذرى العلوم الكونية في العصر الحديث .

ويشهد على هذا كبار الغربيين المختصين في علم الطب ، والكيمياء ، والطبيعيات ، والرياضيات والفلسفة ، وسائر العلوم الأخرى :

  • كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للدكتورة "زيغريد هونكة" إقرار صريح بالقفزة الحضارية الكبرى التي قفزتها أوروبة نتيجة التأثر بالحضارة الإسلامية وعلومها في شتى المجالات .

وقال "دويبر" المدرس في جامعة "نيويورك" في كتابه "المنازعة بين العلم والدين" : (ولما آلت الخلافة إلى المأمون سنة (813)م ، صارت بغداد العاصمة العلمية العظمى في الأرض ؛ فجمع الخليفة إليها كتباً لاتحصى ، وقرب إليه العلماء ، وبالغ في الحفاوة بهم . وقد كانت جامعات المسلمين مفتوحة للطلبة الأوربيين الذين نزحوا إليها من بلادهم لطلب العلم ، وكان ملوك أوروبة وأمراؤها يغدون على بلاد المسلمين ليعالجوا فيها ..) .

  • وقال "سيديلوت" في كتابه "تاريخ العرب" : (كان المسلمون في القرون الوسطى متفردين في العلم والفلسفة والفنون ، وقد نشروها أينما حلت أقدامهم ؛ وتسربت عنهم إلى أوروبة ، فكانوا سبباً لنهضتها وارتقائها ..) .

وقال "شريستي" في حديثه عن الفن الإسلامي : (ظلت أوروبة نحو ألف عام تنظر إلى الفن الإسلامي كأنه أعجوبة من الأعاجيب) .

  • وقال "بريفولت" في كتابه "تكوين الإنسانية" : (العلم هو أعظم ما قدمت الحضارة الإسلامية إلى العالم الحديث ، ومع أنه لا توجد ناحية واحدة من نواحي النمو الأوروبي إلا ويلحظ فيها أثر الثقافة الإسلامية النافذ … وهذه الحقائق مؤداها أن الإسلام بناء حضاري ..) .

إن هذه الأقوال وأقوالاً كثيرة غيرها تبين بصدق ، وتشهد بحق على ما انطوى عليه الإسلام من قوة دفع علمية وحضارية على مدى العصور !!

ولولا أن يكون الإسلام العظيم منهاج علم ، وهذا القرآن الكريم مبعث حضارة ، وهذا الدين الخالد مفتاح نهضة ؛ لما أشاد هؤلاء المنصفون الغربيون بعظمة الحضارة الإسلامية ، ولما كشفوا عن هذه الحقائق في طبيعة دعوة الإسلام .

ولما سمعنا في التاريخ أيضاً عن جدود عباقرة ، وآباء علماء نبغاء ؛ ملؤوا الدنيا معارف وعلوماً ، ونشروا في العالم نور المدنية ، ومعالم الحضارة .

ومازالت أسماء هؤلاء العباقرة الأفذاذ تتردد على ألسنة الشرق والغرب عبر القرون .

ومازالت الأجيال الصاعدة تتغنى بعلومهم ، وتفتخر بنبوغهم ، وتتناقل آثارهم الحضارية على مدى الزمان والأيام !!

وأذكر على سبيل المثال بعض أولئك العباقرة الأفذاذ واختصاصاتهم العلمية ، ليعرف شباب الدعوة كيف شاد أولئك بنيان الحضارة ؟ وكيف حولوا مجرى التاريخ ؟ :

- ابن خلدون الذي حمل إلى الإنسانية لواء التاريخ ، وعلم الاجتماع والعمران .

- وأبو زكريا الرازي الذي حمل إلى الإنسانية لواء الطب .

- وأبو علي بن سينا الذي حمل إلى الإنسانية لواء الفلسفة .

- والشريف الأدريسي الذي حمل لواء الجغرافية .

- وأبو بكر الخوارزمي الذي حمل لواء الرياضيات والفلك .

- وعلي بن الهيثم الذي حمل لواء علم الطبيعة والبصريات .

- وأبو القاسم الزهراوي الذي حمل لواء الجراحة .

- وأبو زكريا العوام الذي حمل لواء علم النبات .

- وأبو الريحان البيروني الذي حمل لواء علم التاريخ القديم والآثار.

- وأبو البناء الذي حمل لواء الحساب .

- والإمام الغزالي الذي حمل لواء النقد ، والتربية ، ومعالجة آفات النفوس .

- والأئمة : أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن تيمية … الذين حملوا ألوية الفقه والقانون .

وآلاف غيرهم نقرأ في التاريخ أخبارهم ، وتتناقل الأجيال آثارهم ، ويثني المستغربون والمستشرقون على عظمة تراثهم وعلومهم ؛ فكانت هذه الآثار التي خلفوها على مدى التاريخ منارات هدى ، وهذه الحضارة التي خلدوها على مدى الزمان إشعاعات عرفان ومدنية !!

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

الخاتمة

فعلى شباب الدعوة أن يعلموا :

إذا كانت الدعوة الإسلامية هي خاتمة الدعوات .

وإذا كانت في طبيعتها عالمية عامة .

وإذا كانت ذات خصائص ومزايا في شمولها وربانيتها وخلودها .

وإذا شهد لصلاحيتها وتجددها وعطائها الواقع العالمي ، والمؤتمرات الدولية ، والمنصفون في العالم .

وإذا كان التاريخ على مدى العصور أثبت جدارة هذه الدعوة ، وأثرها على العلم والحضارة .

فإذا كانت الدعوة الإسلامية تحمل في طياتها هذه المعاني مكتملة مجتمعة ، فما على الدعاة إلى الله ، وشباب الإسلام اليوم إلا أن يحملوها إلى الدنيا من جديد .

من أجل ماذا ؟

من أجل رد البشرية إلى المنهج الرباني ، والدين المعطاء .

من أجل إنقاذ العالم من المادية الطاغية ، والإباحية الفاجرة .

من أجل إظهار هذا الدين على الدين كله .

من أجل إحياء روح الجهاد في أبناء أمة الإسلام ، وتجديد الثقة به على أنه سبيل الخلاص في تحرير الشعوب ، وإنقاذ الأمم .

من أجل مواجهة التحدي الحضاري الحديث في جميع مجالاته ؛ لإقرار ما ينسجم مع الإسلام ، ونبذ ما يتنافى معه .

من أجل الوقوف مع الحق لنصرة المظلومين والمستضعفين -أينما وجدوا- والأخذ بأيديهم ، ورفع الظلم عنهم .

وكم يسر الدعوة الإسلامية أن تجد من جنودها ودعاتها ، شباباً مؤمناً طاهراً واعياً مندفعاً ؛ حملوا إلى الدنيا رسالة الإسلام ، وانطلقوا في ميادين الدعوة إلى الله ؛ يبلغون رسالات الله ، ويخشونه ، ولا يخشون أحداً إلا الله ؟!!

وها أنا ذا ألمح بعين الأمل والتفاؤل طلائع الإسلام من شباب الدعوة ، تزحف في الأفق ، وتنساب في المغاور ، وترتقي في الجبال ، وتمخر عباب البحار ، وتطير في الأجواء ؛ لتحمل إلى العالم من جديد دعوة الإسلام الرائدة ، ومشعل الهداية الربانية الباقية .

وإن شاء الله فلن يمر بضع سنوات حتى نرى بأم أعيننا حضارة الإسلام قد بزغت ، ودولة المسلمين قد قامت ، وتعاليم القرآن قد ظهرت على المبادىء البشرية كلها .

وما ذلك على الله بعزيز إنه نعم المولى ونعم النصير .