هجرة الدعاة أم الرعاة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
هجرة الدعاة أم الرعاة

بقلم:الدكتور صلاح سلطان

المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية

تمهيد

الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الهداة ، وعلى آله وأصحابه ومن والاه إلى يوم الدين

وبعد...

فهذا هو العدد الثامن من "سلسلة قضايا اجتماعية وإسلامية "ويأتي مع مطلع عام هجري جديد يقدم لنا فيه المستشار الدكتور صلاح الدين سلطان رسالة في معنى فريد، وهو: كيف تحولت الهجرة إلى رمز للانتقال من الاستضعاف إلى التمكين ! وفق تضحيات هجرة الدعاة الذين يعمَرون كل أرض تمكينا للخير ، وليس هجرة الرعاة الذين يدمَرون كل خير تمكينا لأنفسهم.

ومع أخلص التهاني بالعام الهجري الجديد أقدم لقرائنا في البحرين خاصة ، والأمة الإسلامية عامة هذه الرسالة، و نرجو أن نجد فيها ما يوضح طريقنا إلى اقتداء حقيقي لا شكلي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأتباعه في هجرة الدعاة لا الرعاة.

عبدالله بن خالد آل خليفة

رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - 1428هـ

مقدمة

الحمد لله الذي اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المختار ، وعلى أصحابه المصطفين الأخيار ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والقرار .... وبعد

فأكتب من طريق الهجرة من مكة إلى المدينة ذات الأنوار، لأحبابي من الإخوة والأخوات أولي الأيدي والأبصار، ويكاد يحرقني ألم واقع أمتي وراء الأسوار ، أسوار الذلة والمهانة والخضوع لأعدائنا الأشرار، حبست دمعي المدرار، واسترجعت عقيدة الأمل في الواحد القهار، فعاد الألم أملاً ، ووجدت في دروس الهجرة عملاً لعله ينقذ أمتي من هذا العار.

سألت نفسي عن دوافع الهجرة من مكة إلى الحبشة والمدينة ومنها إلى كل الأمصار ، فلم أجد إلا رغبة صادقة في نقل هذا الدين العظيم من الاستضعاف إلى التمكين ، وإخراج العالم من وهدة الشرك إلى قمة الإيمان ، ومن الذل لغير الله إلى العزة بالإسلام، ومن الفقر إلى العباد إلى الغنى برب العباد ، واستبان لي جلياً الفرق الهائل بين هجرتنا وهجرتهم ، بين سفرنا وسفرهم ، حركتنا وحركتهم، بين هجرة الدعاة والرعاة ، هجرة الدعاة تمكين للإسلام وعمارة الدنيا والآخرة، أما هجرة الرعاة فتمكين للنفس والهوى وركون إلى الدنيا ، هجرة الدعاة تضحية وحركة وعطاء ، وهجرة الدعاة أنانية وأثرة واسترخاء ، هجرة الدعاة همة عالية نحو رضا الله والجنة ، وهجرة الرعاة همة نحو عيشة هنية، ولقمة طرية، وحلة رخية، وامرأة بهية ، ووفرة مادية ، هجرة الدعاة حولت أرض الشرك إلى دار إسلام لا تغرب عنها الشمس، انطلقت من مكة والمدينة إلى العراق والشام وفارس ومصر والمغرب العربي والأندلس والهند والسند ، وما وراء النهر والبحر في أوزباكستان وكازاخستان وسمرقند و...

وأتم الله النعمة بفتح القسطنطينية وغمرت أنهار الإسلام أوربا كلها ، وتراجعت حضارات اليونان والرومان والفرس ليحكم الإسلام قرونا دون منازع ، حتى إذا خفت نور الإيمان، واستأسد الشيطان ، وركن المسلمون إلى الترف وإشباع الهوى وتثبيت الملك والسلطان ، عادت النوبة والقوة إلى الشيوعيين والهندوس وعباد الصلبان .

وصار المسلمون اليوم أتباعا في بحر هائج بالفتن بلا شطآن، { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } (الأنعام : من الآية 71)، وظل الدعاة يدعونهم إلى الهدى منهج الرحمن .

لعل فجراً جديدا يطل بنوره على كل إنسان .

في هذه الرسالة التي لامست شغاف قلبي قدمت هذا الفرق بين هجرة الدعاة والرعاة ، مع نماذج من الفتوحات الكبرى التي اختصرتها من مقالات ودراسات المتخصصين ، حيث إن جيل الرعاة ليس عنده وقت حتى للمختصرات من جهاد وهجرة الدعاة، ومن الأمانة العلمية أن أذكر هذه الاقتباسات التي كثرت في هذه الرسالة لسببين :

أنني بعد قراءات تاريخية كثيرة لم أجد أفضل من العودة إلى أصحاب الفن والتخصص، وقد قرأت قديما وحديثا عن الفتوحات الإسلامية التي تعبر بصدق عن فهم دقيق لهجرة وجهاد الدعاة ، لكني حقيقة لم أجد رجلا مثل أحمد تمام في سهولة عبارته ودقة اختياراته وقد عمدت إلى أخذ مقالاته أكثر من غيره (بتصرف غير مخل)؛ لروعتها أولا، وأملا أن تتضاعف الصدقات الجارية لتلميذي الدرعمي النجيب، الذي لقى الله - سبحانه وتعالى - من قريب؛ لعل الله - سبحانه وتعالى - أن يضاعف أجره، وينير قبره، ويرفعه في عليين، وإن كنت بعد الاختصار والإضافة قد تعبت حقا أكثر مما لو كتبت من جديد.

أخيرا والله ما كتبت تسلية ولا تحبيرا لصفحات بل ألما على أمتي وأملا في غد أفضل من خلال برنامج عمل يبدأ من هجر ما يغضب الله إلى حمل صبغة الله، فنجاهد أنفسنا فيما كلفنا الله به ، ونوقن في الله أن ينجز لنا ما وعدنا به من نصر وسعة وتمكين .

{ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } (الإسراء : من الآية 51).

والله الموفق

أ. د.صلاح الدين سلطان

المدينة المنورة

- 1428هـ

المطلب الأول

الفرق بين هجرة الدعاة وهجرة الرعاة

منذ يولد الإنسان، ويطلق صرخته الأولى ليعلن بدء الحياة، يحرك أطرافه في الهواء كأنه يستعجل الحركة بها، حتى إذا دب في السير، يظل في حركة دائبة إلى أن يخمده الموت انتظاراً لبعث جديد فينتشرون كأنهم جراد منتشر إلى أرض المحشر للوقوف بين يدي الملك العلام، فإما يسيرون إلى جنة أبدا، أو يساقون إلى نار أبدا، وهناك لا تتوقف حركة الإنسان، فمن مُنَعم يسير بين جنات النعيم ومُعذب يتقلب في قعر الجحيم، فكأن الحركة هي من خصائص الحياة، فحتى الإنسان الذي يفقد عقله، لا يفقد حركته، هذه الحركة ذاتها في عالم الطير، والحيوان والأسماك، بل الأشجار والنباتات، فهي ذات حركة ما دامت فيها الحياة، فالحركة أحد الدلائل الكبرى على الحياة.

وإذا جئنا إلى الإنسان اليوم فسنجد أن سرعة المواصلات والاتصالات قد ضاعفت بشكل كبير جدا حركة الإنسان بين جنبات الأرض، فهناك من يمشي من مشرق الشمس، ويصبح عند مغربها، وهناك من يغدو من شمال الأرض إلى جنوبها في سويعات قاطعاً آلاف الكيلومترات والأميال، وهذه هي آثار تطور وانتشار صناعة كل وسائل الانتقالات الحديثة من سيارات، وقطارات، وحافلات، وطائرات صغيرة وعملاقة، وعادية وغير عادية، بقيادة الإنسان وغيره ، وهذه إحصائية تشير إلى حركة ركاب الطائرات في عام2006م (1) .

وهذه إحصائية أخرى لأهم عشرة مطارات في العالم وعدد ركابها :

أزحم عشرة مطارات في العالم لعام2006 (2)

م ... المطار ... عدد الركاب (بالمليون)

1 ... اطلانطا ... 84

2 ... شيكاغو ... 76

3 ... لندن ... 67

4 ... طوكيو ... 65

5 ... لوس انجلوس ... 61

6 ... دالاس ... 60

7 ... باريس ... 56

8 ... فرانكفورت ... 52

9 ... بيجين ... 48

10 ... دنفر ... 47

المطلب الثاني

صور من هجرة الدعاة

أما عدد السيارات في العالم فقد اقتربت 600 مليون سيارة في العالم في أول القرن الحادي والعشرين، بما يعني أن الحركة تزداد سرعة وخفة، وجنون السرعة والحوادث صارت من الأرقام الرئيسية والبشعة في قتل الإنسان.

"ومن العلم ما قتل".....

هذا تطور رهيب في حياة الإنسان ، ومستوى متطور بشكل غير متوقع لكنه جنون الإنسان وراء الابتكارات الجديدة .

والسؤال الذي يطرح نفسه هل هذه الحركة أو الهجرة من بلد إلى آخر ، ومن أرض إلى أخرى، ومن بيت إلى آخر، ومن عمل إلى غيره، هل هي من هجرة الدعاة أم الرعاة؟!!

ولكي يتضح الفرق يمكننا بيانه فيما يلي :-

هجرة الدعاة نظرهم إلى رحمات السماء، وهجرة الرعاة نظرهم إلى خشاش الأرض.

هجرة الدعاة يرجو صاحبها رضا ربه وعفوه ومغفرته ورضوانه، وهجرة الرعاة يرجو إشباع رغباته ونزواته .

هجرة الدعاة تزرع الأرض الصحراء لتكون واحة غناء، وهجرة الرعاة يأكلون كل خضراء، ويتركونها صحراء جرداء .

هجرة الدعاة تعمير، وهجرة الرعاة تدمير.

هجرة الدعاة تمكين للإسلام وفعل الخير ونفع الغير، وهجرة الرعاة تمكين للنفس، وأنانية في جلب الخير، وإن تضرر الغير.

هجرة الدعاة تضحية لأجل رضا الله - سبحانه وتعالى - ونشر الإسلام ، وإن ترك الإنسان العيش الرغيد، وهجرة الرعاة تضحية بالواجبات والقيم والمُثل من أجل لقمة طرية، وزوجة بهية، وعيشة هنية.

هجرة الدعاة لا تفرق بين أرض ذات ثراء، وفقر وشقاء، فالأرض لله - سبحانه وتعالى - يورثها من يشاء، والدعوة واجبة في جميع الأرجاء، وهجرة الرعاة بحث عن كل أرض فيها غنى وثراء، وغرس ونماء، كي يقطف الثمار، ويلتقط الأزهار، وإن غفل عن العودة إلى العزيز الغفار.

هجرة الدعاة نهم على العلم الذي يرفعه في السماء، ويمكنه لدينه في الأرض، وهجرة الرعاة " { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } (الروم : 7).

هجرة الدعاة تحفها أخلاق ذوي المكارم والمروءات، لا يغير جلده مهما اشتدت الأزمات، وهجرة الرعاة تبدل الأخلاق وفقا للمغانم ، ولا تكترث بالمكارم، وقد تجترئ على المحارم.

هجرة الدعاة تقبل المغارم مع قوة العزائم، وهجرة الرعاة تسعى إلى المغانم، مع انهيار العزائم.

هجرة الدعاة نور يمشي به الدعاة بين الناس من كل لون وجنس، وهجرة الرعاة معاص وذنوب ورجس.

هجرة الدعاة عفة عن السفاسف والشبهات والنجاسات، وهجرة الرعاة خسة ووحل وتخبط في ظلمات المحرمات.

هجرة الدعاة يبحثون عن هداية الناس إلى طريق الله - سبحانه وتعالى -، ويسعدون بأن يكونوا سببا في

سجود الناس لله الواحد الغفار، وهجرة الرعاة يبحثون في الأماكن السياحية، الراقية لاسترخاء يطولُ أو

يقصر في سفوح الجبال، وضفاف الأنهار، وشواطئ البحار، وملاهي الأطفال والكبار، ناسيا هموم أمة عدا

عليها كل عنيد جبار، وظلوم كفار من الصهاينة والصليبين الأشرار، وعملائهم المنافقين في كل دار.

أولا: هجرة سيد الدعاة - صلى الله عليه وسلم -

معاناة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة والحركة المستمرة مثال لا يتكرر ، حيث تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ضغوط من أهله وأقاربه، وعروض للإغواء من عشيرته وإيذاء من قومه، حتى اضطر للخروج إلى الطائف، وهناك تضاعف الإيذاء، وعاد لا يجد حيلة في الدخول إلى بلده مكة التي تأوي أي إنسان ولو كان مجرما يتحصن بمكة فيأمن على نفسه، حتى اضطر أن يدع بلده مكة مع هذا الدعاء الذي يدل على جرح وألم شديدين غائرين في قلبه ووجدانه وهو يودع بلده وأولاده وأهله بقوله :"والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلىّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما فعلت" أخرجه الترمذي وصححه النسائي في الكبرى وابن ماجه وابن حبان.

ثانيا: هجرة الدعاة إلى العراق والمدائن

ثم هجرته في هذا الجو العصيب بعد التربص بقتله في بيته، والترقب لحركته ومكمنه كي يقتلوه، وخروجه ماشيا، ثم راكبا جملاً في صحراء جرداء، ووصوله إلى المدينة ليبدأ في الإعمار والبناء للرجال والنساء والشيب والشباب، واستعدوا جميعا إلى تكاليف بناء الدولة، وعزة الإسلام، فكانت الغزوات تلو الغزوات والسرايا بعد السرايا، وعاش يتنقل بين أرجاء المدينة وبدر وأحد والخندق، وفتح مكة وحنين وخيبر في غزوات وسرايا زادت عن الخمس والثلاثين ، في أقل من عشر سنين ، بما يعني أن حياته - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم تعرف إلا الهجرة والجهاد والحركة الدائبة لنشر الإسلام في العالمين ، مما يوجب استعادة هذه الروح الحركية الجهادية القوية لاستعادة ما استعبد من بلاد ، وهداية من ضل من العباد ، وإلا صرنا بحق أكذب الناس على الله - سبحانه وتعالى - .

فتح العراق

"حين قضى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على فتنة الردة وتوحدت شبه الجزيرة العربية تحت راية الإسلام وجه اهتمامه إلى الفتوحات خارجها.

كان العراق خاضعاً للدولة الفارسية في ذلك الوقت.

وقبل وصول الجيوش الإسلامية في عهد الصديق لفتح هذه المنطقة كانت هناك اتصالات بين المسلمين والفرس تمثلت في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبرويز كسرى الفرس يدعوه إلى الإسلام مع عبد الله بن حذافة السهمي وذلك بعد تحركه - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، ثم إسلام الفرس في اليمن

وقد وجه أبو بكر - رضي الله عنه - لفتح العراق جيشين الأول بقيادة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ويأتي العراق من جهة الجنوب، والثاني بقيادة عياض بن غنم - رضي الله عنه - ويأتيه من جهة الشمال ليلتقيا في الجزيرة.

وكان ذلك في مطلع العام الثاني عشر للهجرة.

ووصل خالد إلى جنوب العراق فكانت أولى الوقائع بينه وبين الفرس في منطقة الحفير قرب الخليج العربي وتسمى هذه المعركة بذات السلاسل وكان قائد الفرس فيها هرمز حاكم الأبُلة حيث انتصر عليه خالد ، ثم اتجه إلى الفالوجة حيث التقى بجيش فارسي ، وبعد انتصاره عليه توجه إلى الليس ، ثم إلى الحيرة التي تعد عاصمة ملوك العرب من قبل الفرس حيث فتحها صلحا واستخلف عليها القعقاع بن عمرو.

ثم توجه إلى الأنبار فحاصرها ، ثم فتحها ثم قصد عين التمر فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه، وكان من غنائم المسلمين فيها أربعون غلاماً نصرانياً كانوا يتعلمون الإنجيل فأسلموا ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين التابعي المشهور ونصير والد موسى بن نصير فاتح الأندلس وجد أبي العتاهية الشاعر.

بعد ذلك توجه خالد إلى دومة الجندل لمساعدة عياض ضد أكيدر ومن معه حيث تم الفتح عنوة وقتل أكيدر.

ثم عاد خالد إلى العراق قاصداً الفراض وهي تخوم العراق مع الشام التي اجتمع فيها جيش من الفرس والروم وانضم إليهم نصارى العرب فقاتلهم خالد وانتصر عليهم". (3)

فتح المدائن

"لما تولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخلافة أكمل ما بدأه سلفه أبو بكر الصديق فوجه جيشًا آخر إلى العراق بقيادة سعد بن أبي الوقاص ليقضي على نفوذ الفرس بها.

وخرج سعد - رضي الله عنه - من المدينة إلى العراق في أربعة آلاف فارس، واستطاع سعد وجنوده أن يحققوا أعظم الأمجاد، وسطّروا أروع البطولات، وتوالت انتصارات المسلمين على الفرس في القادسية ثم بُهْرَسِير التي كانت ضاحية للمدائن على الضفة الغربية لدجلة، لا يفصلها عن المدائن سوى النهر، ولا تبعد عن بغداد بأكثر من عشرين ميلا إلى الجنوب.

بعد فتح بهرسير أراد سعد - رضي الله عنه - أن يعبر بجنوده إلى المدائن، ولكنه وجد أن الفرس قد أخذوا السفن كلها حتى يمنعوهم من العبور إليهم.

جمع سعد - رضي الله عنه - جنوده وأخبرهم بعزمه على عبور دجلة إلى المدائن، فوجد منهم حماسًا شديدًا ورغبة أكيدة في السير إلى الفرس وفتح عاصمتهم المدائن، وقسم سعد جيشه إلى عدة كتائب، وجعل على رأس كل منها قائدًا من أمهر رجاله، وأكثرهم حنكة وكفاءة، فجعل على الكتيبة الأولى "كتيبة الأهوال" عاصم بن عمرو الملقب بذي البأس، وجعل على الكتيبة الثانية "الكتيبة الخرساء" القعقاع بن عمرو، ثم سار هو على بقية الجيش.

وتقدمت الكتيبتان في إيمان وشجاعة؛ فلا البحر يخيفهم ولا الفرسان المتربصون بهم على الشاطئ الآخر يرهبونهم..

وأسرع المسلمون يعبرون النهر بخيولهم حتى امتلأت صفحة النهر بالخيل والفرسان والدواب، فلا يرى أحد الماء من الشاطئ لكثرة الخيل والفرسان؛ فلما رأى الفرس المسلمين وقد خاضوا النهر إليهم راحوا يجمعون فرسانهم للتصدي لهم، ومنعهم من الخروج من الماء، واجتمع عدد كبير من فرسانهم حول الشاطئ مدججين بالسلاح يترقبون وصول المسلمين ليرشقوهم بالسهام والرماح، ويقضوا عليهم قبل أن يصلوا إلى الشاطئ.

ولكن قائد الأهوال عمرو بن عاصم - رضي الله عنه - يدرك بسرعة ما ينتظرهم، فيأمر رجاله أن يشرعوا رماحهم، ويصوبوها إلى عيون خيل الفرس، وتنطلق الرماح وكأنها البرق الخاطف إلى عيون الخيول، فتعم الفوضى بين صفوف الفرس، وتضطرب صفوفهم، ويفرون أمام المسلمين، وقد امتلأت نفوسهم رعبًا وفزعًا، وهم لا يملكون كف خيولهم، يطاردهم فرسان كتيبة الأهوال.

ودخل المسلمون المدائن فاتحين منتصرين، وغنموا ما تحويه من نفائس وذخائر، بعد أن فر كسرى وجنوده حاملين ما استطاعوا حمله من الأموال والنفائس والأمتعة، وتركوا ما عجزوا عن حمله.

ودخل سعد القصر الأبيض بالمدائن، وانتهى إلى إيوان كسرى، وهو يقرأ قوله - سبحانه وتعالى -: { كم تركوا من جنات وعيون*

وزروع ومقام كريم* ونعمة كانوا فيها فاكهين* كذلك وأورثناها قومًا آخرين } )الدخان : 25 -28( (4).

هذه رواية موثقة من البداية والنهاية لابن كثير، و تاريخ الرسل والملوك للطبري ، الكامل في التاريخ لابن الأثير.

ثالثا: هجرة الدعاة إلى الشام

هذا نموذج حي من هجرة الدعاة أصحاب كتيبة الأهوال والخرساء ، حيث تنطق فعالهم بقوة إيمانهم وصدق قلوبهم ، وقوة عزائمهم، فأزالوا إحدى القوتين العظميين من طريقهم وطووا صفحتهم أمام شاهدهم وغائبهم ، فلما تحولت كتائب الأهوال والخرساء ذات الفعال إلى منظمات نشطة في القيل والقال، والتسول والسؤال؛ آل الأمر إلى ذل وهوان وإضاعة الأقصى والعراق والصومال، واحتلت بالجملة ديار الإسلام.

"جهّز الخليفة الصديق - رضي الله عنه - أربعة جيوش عسكرية لفتح بلاد الشام، واختار لها أكفأ قواده، وأكثرهم مرانًا بالحرب وتمرسًا بالقتال، وحدد لكل جيش مهمته التي سيقوم بها.

الأول: بقيادة يزيد بن أبي سفيان، ووجهته "البلقاء"، الأردن.

الثاني : بقيادة شرحبيل بن حسنة، ووجهته منطقة "بُصرى".

الثالث : بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، ووجهته منطقة "الجابية"، وقد لحق خالد بن سعيد بجيش أبي عبيدة.

الرابع : بقيادة عمرو بن العاص، ووجهته "فلسطين".

وأمرهم أبو بكر الصديق بأن يعاون بعضهم بعضًا، وإذا اجتمعوا معًا فالقيادة العامة لأبي عبيدة بن الجراح.

وكان الصديق يودع قواده بهذه الكلمات: " لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًا صغيرًا ولا امرأة، ولا تهدموا بيتًا ولا بيعة، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا، ولا تعقروا بهيمة إلا لأكل، ولا تحرقوا نخلاً ولا تُغرقوه، ولا تَعص، ولا تَجبُن…".

وخص عمرو بن العاص بهذه الوصية الربانية :

".. اسلك طريق إيلياء حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وإياك أن تكون وانيًا عما ندبتك إليه، وإياك والوهن، وإياك أن تقول: جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به، واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك.. وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك، والصلاة ثم الصلاة، أذَّن بها إذا دخل وقتها، واحذر عدوك، وأمر أصحابك بالحرس، ولتكن أنت بعد ذلك مطلعًا عليهم..".

وكان مجموع تلك القوات نحو 24 ألف مقاتل، فأمدهم دعما لهم لمواجهة جيوش الروم الغفيرة بعكرمة بن أبي جهل ومن معه من الرجال، ودارت المعارك شرسة مع الروم دون حسم فهدى الله الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه - إلى بث روح جديدة، فأطلق كلمته السائرة التي رددتها كتب التاريخ: "والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد".

وبعث الصديق إلى خالد - رضي الله عنه - بأن يقدم إلى الشام ومعه نصف قواته التي كانت معه في العراق، حتى يلتقي بأبي عبيدة بن الجراح ومن معه، ويتسلم القيادة العامة للجيوش كلها، وفي الوقت نفسه كتب الصديق إلى أبي عبيدة يخبره بما أقدم عليه، وجاء في كتابه: ".. فإني قد وليت خالدًا قتال الروم بالشام، فلا تخالفه، واسمع له وأطع أمره، فإني قد وليته عليك، وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبل الرشاد ".

امتثل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لأوامر الخليفة، وخرج من الحيرة بالعراق في صفر 13 هـ في تسعة آلاف جندي، فسار شمالاً ثم عرج حتى اجتاز صحراء السماوة في واحدة من أجرأ المغامرات العسكرية في التاريخ، وأعظمها خطرًا؛ حيث قطع أكثر من ألف كيلو متر في ثمانية عشر يومًا في صحراء مهلكة حتى نزل بجيشه أمام الباب الشرقي لدمشق، ثم سار حتى أتى أبا عبيدة بالجابية؛ فالتقيا ومضيًا بجيشهما إلى "بصرى".

تجمعت الجيوش كلها تحت قيادة خالد بن الوليد، وحاصر بصرى حصارًا شديدًا واضطرت إلى طلب الصلح ودفع الجزية، فأجابها خالد إلى الصلح وفتحها الله على المسلمين في ربيع الأول 13 هـ، فكانت أول مدينة فُتحت من الشام صلحًا على أن يؤمنوا على دمائهم وأموالهم وأولادهم، نظير الجزية التي سيدفعونها.

بعد سقوط بُصرى استنفر هرقل قواته فجهّز جيشًا ضخمًا، ووجّهه إلى أجنادين من جنوب فلسطين، وانضم إليه نصارى العرب والشام.

نظم خالد بن الوليد جيشه البالغ نحو 40 ألف جندي، وأحسن صنعه وترتيبه على نحو جديد، فهذه أول مرة تجتمع جيوش المسلمين في الشام في معركة كبرى مع الروم الذين استعدوا للقاء بجيش كبير بلغ 90 ألف جندي.

شكّل خالد جيشه ونظّمه ميمنة وميسرة، وقلبًا، ومؤخرة؛ فجعل على الميمنة معاذ بن جبل، وعلى الميسرة سعيد بن عامر، وعلى المشاة في القلب أبا عبيدة بن الجراح، وعلى الخيل سعيد بن زيد، وأقبل خالد يمر بين الصفوف لا يستقر في مكان، يحرض الجند على القتال، ويحثهم على الصبر والثبات، ويشد من أزرهم، وأقام النساء خلف الجيش يبتهلن إلى الله ويدعونه ويستصرخنه ويستنزلن نصره ومعونته، ويحمسن الرجال.

وبعد صلاة الفجر من يوم 27 من جمادى الأولى 13 هـ أمر خالد جنوده بالتقدم حتى يقتربوا من جيش الروم، وأقبل على كل جمع من جيشه يقول لهم: "اتقوا الله عباد الله، قاتلوا في الله من كفر بالله ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، ولكن أقدموا كإقدام الأسد وأنتم أحرار كرام، فقد أبيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولنكم ما ترون من كثرتهم فإن الله منزل عليهم رجزه وعقابه، ثم قال: أيها الناس إذا أنا حملت فاحملوا".

وكان خالد بن الوليد يرى تأخير القتال حتى يصلوا الظهر وتهب الرياح، وهي الساعة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب القتال فيها، ولو أدى ذلك أن يقف مدافعًا حتى تحين تلك الساعة.

أعجب الروم بكثرتهم وغرتهم قوتهم وعتادهم فبادروا بالهجوم ، فأقبل خالد على خيل المسلمين، وقال:

"احملوا رحمكم الله على اسم الله" فحملوا حملة صادقة زلزلت الأرض من تحت أقدام عدوهم، وانطلق الفرسان والمشاة يمزقون صفوف العدو فاضطربت جموعهم واختلت قواهم.

فلما رأى قائد الروم أن الهزيمة واقعة لا محالة بجنوده قال لمن حوله: لفوا رأسي بثوب، فلما تعجبوا من طلبه قال: يوم البئيس لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يومًا أشد من هذا، وما لبث أن حز المسلمون رأسه وهو ملفوف بثوبه، فانهارت قوى الروم، واستسلمت للهزيمة، ولما بلغ هرقل أخبار الهزيمة أسقط في يده وامتلأ قلبه رعبًا.

وبلغ قتلى الروم في هذه المعركة أعدادًا هائلة تجاوزت الآلاف، واستشهد من المسلمين 450 شهيدًا.

وبعد أن انقشع غبار المعركة وتحقق النصر، بعث خالد بن الوليد برسالة إلى الخليفة أبي بكر الصديق يبشره بالنصر وما أفاء الله عليهم من الظفر والغنيمة، وجاء فيها: ".. أما بعد فإني أخبرك أيها الصديق إنا التقينا نحن والمشركين، وقد جمعوا لنا جموعا جمة كثيرة بأجنادين، وقد رفعوا صُلبهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفرون ، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعناهم بالرماح، ثم صرنا إلى السيوف، فقارعناهم في كل فج..

فأحمد الله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنيع لأوليائه"؛ فلما قرأ أبو بكر الرسالة فرح بها، وقال: "الحمد لله الذي نصر المسلمين، وأقر عيني بذلك"(5).

هذه الرواية الموثقة من تاريخ الطبري وابن الأثير والأزدي وحسن إبراهيم .

رابعا: هجرة الدعاة إلى مصر

هذه صفحة مضيئة من هجرة وجهاد الدعاة أنسى الله بهم الروم وساوس الشيطان ، فما إن انكسرت شوكة الفرس عبدة النيران ، حتى سارعوا دون احتفالات واسترخاء إلى إمبراطورية الرومان عبدة الصلبان ، ونازلوا هرقل وجيشه بكل رجولة وإيمان، ولقوا منهم ما لم يكن في الحسبان ، وغربت شمسهم في بلاد الشام ، ورفعت المآذن كلمة التوحيد تدوي في كل مكان.

حتى إذا تغيرت النفوس، من هجرة وجهاد ، إلى سكون ورقاد ، واهتمام بالزرع والحصاد ، التصقت أيدينا بالرماد ، وغدا أمرنا بيد الأوغاد من أعداء الإسلام فى كل واد .

"لما تم للمسلمين فتح بلاد الشام وفلسطين اتجهت أنظارهم إلى مصر، وقد لمعت هذه الفكرة في ذهن عمرو بن العاص أحد قادة فتوح الشام، فعرضها على الخليفة عمر بن الخطاب حين قدم "الجابية" من أعمال دمشق سنة 18هـ وكان الخليفة العادل قد غادر المدينة إلى بلاد الشام ليتسلم مدينة القدس صلحًا، بعد أن أصر بطريرك المدينة المقدسة على حضور الخليفة ليتسلمها بنفسه.

وكان فتح مصر ودخولها تحت سلطان المسلمين ضرورة ملحة، تفرضها دواعي الاستقرار واستتباب الأمن والسلام في الشام، بعد أن رأى عمرو أن سواحل سورية وفلسطين لن تكون في مأمن أبدًا ما دام أسطول الروم يعتمد في قواعده على مصر.

خرج عمرو بن العاص - رضي الله عنه - من "قيسارية" بالشام على رأس قوة صغيرة تبلغ نحو أربعة آلاف جندي في أواخر سنة 18هـ ، مخترقًا رمالسيناء حتى وصل العريش في ذي الحجة 18هـ ، وقضى بها عيد الأضحى، بعد أن فتحها من غير مقاومة، ووصل إلى مدينة "الفرما" وهي مدينة قديمة، ذات حصون قوية شرقي مدينة بورسعيد الحالية، وكان لها ميناء يطل على البحر، ويصل إليها جدول ماء من النيل.

وقد اضطر المسلمون إلى حصارها شهرًا أو أقل من ذلك، أبلوا خلالها بلاءً حسناً، حتى فتحت المدينة في أول المحرم 19هـ وأجمع المؤرخون أن للقبط يدًا في هذا النصر، إذ كانوا أعوانًا للفاتح الشجاع.

تقدم عمرو حتى وصل إلى "بِلْبيْس" في المحرم سنة 19هـ فحاصرها شهرًا حتى تمكن من فتحها بعد قتال شديد مع الروم، واستشهد من المسلمين عدد غير قليل في حين خسر الروم ألف قتيل، ووقع في الأسر نحو ثلاثة آلاف، وأصبح الطريق ممهدًا لعمرو لكي يصل إلى رأس الدلتا وحصن بابليون.

تنبه الروم إلى خطورة موقفهم، بعد أن أصبح المسلمون في وسط البلاد، فانحدر الروم إلى حصن بابليون لتنظيم الدفاع، ونشب قتال بين الفريقين، لكنه لم يكن حاسمًا، فاضطر عمرو إلى طلب النجدة بثمانية آلاف، حتى يكمل مسيرته، ويعوض ما فقده خلال غزوته، فبعث إليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأربعة آلاف مقاتل، وبكتاب يقول فيه: "قد أمددتك بأربعة آلاف، فيهم أربعة رجال، الواحد منهم بألف رجل"، وكان هؤلاء الأربعة هم: الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، والمقداد بن الأسود، وكلهم من شجعان الرجال وأبطال الحرب.

ولما وصل المدد إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في جمادى الآخرة سنة 19هـ سار بجيشه إلى مدينة عين شمس (هليوبوليس)، وخرجت جيوش الروم لملاقاة المسلمين في السهل الواقع بين الحصن ومدينة عين شمس وكانت عيون عمرو قد نقلت إليه أخبار هذا التحرك، فأعد خطة ماهرة، وانتصر عليهم واضطر الباقون إلى الفرار إلى حصن بابليون.

ضرب المسلمون حصارًا قويًا على هذا الحصن المنيع، غير عابئين بمجانيق الروم، تدفعهم حماستهم وحب الجهاد ونيل الشهادة في مهاجمة الحصن، والقيام بسلسلة من المناوشات التي كانت نتائجها تضعف معنويات المحاصرين، ولم يكد يمضي على الحصار شهر حتى دب اليأس في نفس "المقوقس" حاكم مصر، فأرسل في طلب المفاوضة والصلح، فبعث عمرو بن العاص وفدًا من المفاوضين على رأسهم عبادة بن الصامت الذي كلف بألا يتجاوز في مفاوضته أمورًا ثلاثة يختار الروم واحدة منها، وهي: الدخول في الإسلام، أو قبول دفع الجزية للمسلمين، أو الاحتكام إلى القتال، فلم يقبل الروم العرضين الأولين، وأصروا على مواصلة القتال.

استأنف المسلمون القتال وشددوا الحصار بعد فشل الصلح، وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بوفاة هرقل ففتَّ ذلك في عضد الجنود داخل الحصن، وزادهم يأسًا على يأس، في الوقت الذي صحت فيه عزائم المسلمين، وقويت معنوياتهم، وقدَّموا أروع أمثلة الشجاعة والفداء، وفي غمرة الحصار تطوَّع الزبير بن العوام بتسلق سور الحصن في ظلام الليل، وتمكن بواسطة سلم وضع له أن يصعد إلى أعلى السور، ولم يشعر الروم إلا بتكبيرة الزبير، تهزُّ سكون الليل، ولم يلبث أن تبعه المسلمون يتسابقون على الصعود، تسبقهم تكبيراتهم المدوية فتنخلع لها أفئدة الروم التي ملأها اليأس، فكانت تلك التكبيرات أمضى من كل سلاح قابلهم، ولم تكد تشرق شمس يوم 18من ربيع الآخر سنة 20 هـ حتى كان قائد الحصن يعرض الصلح على عمرو ومغادرة الحصن، فكان ذلك إيذانًا بعهد جديد تسلكه مصر، ولا تزال تحمل رايته حتى يومنا هذا.

"(6) هذه الدراسة موثقة من فتوح مصر لابن عبد الحكم ، وفتح الرب لمصر لبتلر ترجمة أبو حديد ، والفتوحات العربية الكبرى لجون باجوت جلوب ترجمة خيري حماد وآخرين.

خامسا: هجرة الدعاة إلى المغرب

هذه صفحة أخرى تبين إلى أي مدى كان الصحابة دعاة مجاهدين في تاريخهم الكبير الذي حرر الأمصار، وطهر الديار من ظلم الطغاة ، ومنحوا الناس طيب الحياة وفق شرع الله ، في أخر حصون الرومان وليس التاريخ الصغير عن الفتن والخلافات التي طهر الله منها أيدينا ونحن أحوج ما نكون إلى تطهير ألسنتنا منها كما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز حتى نعيد هذه الأمصار كما كانت تحكم بالعدل والميزان الرباني وتحفظ للرعايا – مسلمين وغير مسلمين – حقهم في حياة كريمة لا قهر فيها ولا استبداد أو ظلم وفساد .

"يعد الفارس الأول في فتح ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الصحابي عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهري، وقد ولد قبل الهجرة بسنة، وكان أبوه قد أسلم قديماً، لذلك فقد ولد عقبة ونشأ في بيئة إسلامية خالصة، ولقد برز اسم عقبة بن نافع مبكراً على ساحة أحداث حركة الفتح الإسلامي التي بدأت تتسع بقوة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، حيث اشترك هو وأبوه نافع في الجيش الذي توجه لفتح مصر، ولقد توسم فيه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سيكون له شأن كبير ودور في حركة الفتح الإسلامي على الجبهة الغربية، لذلك أسند إليه مهمة صعبة وهي قيادة دورية استطلاعية لدراسة إمكانية فتح الشمال الأفريقي .

أسند إليه عمرو مهمة في غاية الخطورة، وهي تأمين الحدود الغربية والجنوبية لمصر ضد هجمات الروم وحلفائهم البربر، فقاد عقبة كتيبة قتالية على أعلى مستوى قتالي للتصدي لأي هجوم مباغت على المسلمين وتعاقبت عدة ولاة على مصر بعد عمرو بن العاص منهم عبد الله بن أبى السرح و محمد بن أبى بكر و معاوية بن حديج وغيرهم، كلهم أقر عقبة بن نافع في منصبه كقائد لحامية برقة.

ظل عقبة في منصبه الخطير كقائد للحامية الإسلامية 'ببرقة' خلال عهدي عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب رضي الله عنهما، ونأى بنفسه عن أحداث الفتنة التي وقعت بين المسلمين، وجعل شغله الشاغل الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام بين قبائل البربر ورد عادية الروم، فلما استقرت الأمور وأصبح معاوية بن حديج والياً على مصر، وكان أول قرار أخذه هو إرسال عقبة بن نافع إلى الشمال الأفريقي لبداية حملة جهادية قوية وجديدة لمواصلة الفتح الإسلامي.

كانت هناك عدة بلاد قد خلعت طاعة المسلمين بعد اشتعال الفتنة بين المسلمين، منها 'ودان' و'أفريقية' و'جرمة' و'قصور خاوار'، فانطلق الأسد الشجاع عقبة ورجاله الأشداء على هذه القرى الغادر أهلها وأدبهم أشد تأديب.

بعد أن طهر عقبة المنطقة الممتدة من حدود مصر الغربية إلى بلاد أفريقية وتونس من الأعداء والمخالفين، أقدم عقبة على التغلغل في الصحراء بقوات قليلة وخفيفة لشن حرب عصابات خاطفة في أرض الصحراء الواسعة ضد القوات الرومية النظامية الكبيرة التي لا تستطيع مجاراة المسلمين في حرب الصاعقة الصحراوية، واستطاع عقبة وجنوده أن يطهروا منطقة الشمال الأفريقي من الحاميات الرومية المختلفة ومن جيوب المقاومة البربرية المتناثرة ..

بعد ذلك قرر عقبة بن نافع بناء مدينة القيروان في القرن الشمالي لإفريقية في مكان تتوافر فيه شروط الأمن الدعوي والحركي للمسلمين بحيث تكون دار عزة ومنعة وقاعدة حربية أمامية في القتال، ومنارة دعوية علمية لنشر الإسلام.

قرر بعدها عقبة بن نافع استئناف مسيرة الفتح الإسلامي من حيث انتهى أبو المهاجر الذي ولى القيادة مكانه فترة كانت مضرب المثل في تطاوع القادة لبعضهم ابتغاء وجه الله تعالي ، وكانت مدينة 'طنجة' هي أخر محطات الفتح فقرر الانطلاق لمواصلة الجهاد مروراً بطنجة وما حولها، خاصة وأن للروم حاميات كثيرة في المغرب الأوسط.

انطلق عقبة وجنوده من مدينة القيروان، لا يقف لهم أحد ولا يدافعهم أي جيش، فالجميع يفرون من أمامهم، وكلما اجتمع العدو في مكان، انقض عقبة ورجاله عليهم كالصاعقة المحرقة ففتح مدينة 'باغاية'، ثم نزل على مدينة 'تلمسان'، وهي من أكبر المدن في المغرب الأوسط، وبها جيش ضخم من الروم وكفار البربر، وهناك دارت معركة شديدة استبسل فيها الروم والبربر في القتال وكان يوماً عصيباً على المسلمين، حتى أنزل الله عز وجل نصره على المؤمنين، واضطر الأعداء للتراجع حتى منطقة 'الزاب' .

سأل عقبة عن أعظم مدينة في الزاب فقيل له 'أربة'، وهي دار ملكهم وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية عامرة، ففتحها عقبة، والروم يفرون من أمامه كالفئران المذعورة، ورحل عقبة بعدها إلى مدينة 'ثاهرت' فأرسلت الحامية الرومية استغاثة لقبائل البربر الوثنية فانضموا إليهم فقام عقبة في جيشه خطيباً بارعاً بعبارات فائقة فكان مما قال : "أبشروا فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم لا يسلمكم فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل قد جعل بأسه على القوم المجرمين".

وبهذه الكلمات الموجزة استثار عقبة حمية رجاله، وأعطى درساً بليغاً للأجيال من بعده عن حقيقة دعوة المجاهد.

التقى المسلمون بأعدائهم وقاتلوهم قتالاً شديداً، وكانت نتيجته معروفة بعدما وصلت معنويات المسلمين لقمم الجبال، وانتصر المسلمون كما هي عادتهم، وسار عقبة حتى نزل على 'طنجة' فلقيه أحد قادة الروم واسمه جوليان فخضع لعقبة ودفع له الجزية، ثم توجه إلى آخر حصون الكفار ، وهي بلاد السوس بالمغرب فتوجه إليهم عقبة كالإعصار الكاسح الذي يدمر كل شيء بإذن الله، واخترق هذه البلاد كلها هازماً كل قبائل البربر حتى وصل بخيله إلى المحيط الأطلنطي فاخترق عقبة بفرسه ماء المحيط ثم قال بقلب المؤمن الصادق الغيور الذي بذل واستفرغ كل جهده وحياته لخدمة الإسلام: "يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك، اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد دونك". (7)

هذه دراسة موثقة من تاريخ الرسل والملوك للطبري ، والكامل في التاريخ، والبداية والنهاية، وسير أعلام النبلاء، وتاريخ الخلفاء، وأطلس تاريخ الإسلام، قادة فتح بلاد المغرب العربي، فتوح البلدان .

بهذه النفوس الصادقة والقلوب المؤمنة والعزائم الفائقة انتشر الإسلام في ربوع الأرض.

فهذا رجل واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يشترك في فتح مصر ثم يتفرغ لفتح كل بلاد المغرب في قوة إيمان وصبر وجلد وحركة وتعب، لايفتح مدينة حتى يغدو إلى غيرها ، ولم يوقفه إلا البحر ، ثم لقي الله شهيدا كما تمنى ، فأين نحن اليوم من هذه البطولات النادرة ؟ وهل نحن فعلا دعاة أم رعاة ؟!

سادسا: هجرة الدعاة إلى الأندلس

بعد أن أتم المسلمون بفضل الله فتح بلاد المغرب، ولم يبق من شمال المغرب سوى "سبتة" التي استطاعت لمناعتها ويقظة حاكمها الكونت يوليان أن تقف أمام طموحات الفاتحين المسلمين.

وفي الوقت الذي كان يفكر فيه موسى بن نصير بمد الفتح إلى الأندلس وعبور المضيق، هيأ الله الأسباب، فبدأ موسى بن نصير-بعد استشارة الخلافة-في تجهيز حملة صغيرة لعبور البحر إلى إسبانيا، وكان قوامها خمسمائة جندي يقودهم قائد من البربر يدعى "طريف بن مالك"؛ لاستكشاف الأمر واستجلاء أرض الأسبان، وقدم يوليان- نكاية في ملك أسبانيا -لهذه الحملة أربع سفن حملتهم إلى إسبانيا، فعبرت البحر ونزلت هناك في منطقة سميت بجزيرة طريف، نسبة إلى قائد الحملة، وكان ذلك في رمضان 91هـ وجاست الحملة خلال الجزيرة الخضراء، وغنمت كثيرًا ودرست أحوال إسبانيا، ثم قفلت راجعة إلى المغرب، وقدم قائدها إلى موسى بن نصير نتائج حملته.

بعد مرور أقل من عام من عودة حملة طريف من الأندلس كان موسى بن نصير قد استعد للأمر، وحشد جنوده، وجهز سفنه، واختار قائدًا عظيمًا لهذه المهمة الجليلة هو طارق بن زياد والي طنجة، وهو من أصل بربري دخل آباؤه الإسلام فنشأ مسلمًا صالحًا، وتقدمت به مواهبه العسكرية إلى الصدارة، وهيأت له ملكاته أن يكون موضع ثقة الفاتح الكبير موسى بن نصير، فولاَه قيادة حملته الجديدة على الأندلس.

خرج طارق بن زياد في سبعة آلاف جندي معظمهم من البربر المسلمين، وعبر مضيق البحر المتوسط إلى إسبانيا، وتجمع الجيش الإسلامي عند جبل صخري عرف فيما بعد باسم جبل طارق في 5 من رجب 92هـ.

سار الجيش الإسلامي مخترقًا المنطقة المجاورة غربًا بمعاونة يوليان وزحف على ولاية الجزيرة الخضراء؛ فاحتل قلاعها.

وكان طارق بن زياد قد صعد بجيشه شمالا صوب طليطلة، وفي الوقت نفسه أكمل "لذريق" استعداداته، وجمع جيشًا هائلا بلغ مائة ألف، وأحسن تسليحه، وسار إلى الجنوب للقاء المسلمين، وهو واثق إلى النصر مطمئن إلى عدده وعتاده، ولما وقف طارق على خبر هذا الجيش كتب إلى موسى بن نصير يخبره بالأمر، ويطلب منه المدد؛ فوافاه على عجل بخمسة آلاف مقاتل من خيرة الرجال، فبلغ المسلمون بذلك اثني عشر ألفًا.

وكان لقاء عاصفًا ابتدأ في 28 من رمضان 92هـ وظل مشتعلا ثمانية أيام، أبلى المسلمون خلالها بلاء حسناً، وثبتوا في أرض المعركة كالجبال الراسيات، ولم ترهبهم القوى النصرانية، ولاحشودهم الضخمة، واستعاضوا عن قلة عددهم إذا ما قورنوا بضخامة جيش عدوهم بقوة الإيمان واليقين، والرغبة في الموت والشهادة وحسن الإعداد والتنظيم، وبراعة الخطط والتنفيذ، وشجاعة الأفئدة والقلوب، فنصرهم الله على عدوهم ، ومكن للإسلام بهم .

بعد هذا النصر تعقب طارق فلول الجيش المنهزم الذي لاذ بالفرار، وسار الجيش فاتحا بقية البلاد، ولم يَلقَ مقاومة عنيفة في مسيرته نحو الشمال، وفي الطريق إلى طليطة بعث طارق بحملات صغيرة لفتح المدن، فأرسل مغيثًا الرومي إلى قرطبة في سبعمائة فارس، فاقتحم أسوارها الحصينة واستولى عليها دون مشقة، وأرسل حملات أخرى إلى غرناطة والبيرة ومالقة، فتمكنت من فتحها.

وسار طارق في بقية الجيش إلى طليطلة مخترقاً هضاب الأندلس، وكانت تبعد عن ميدان المعركة بما يزيد عن ستمائة كيلومتر، فلما وصلها كان أهلها من القوط قد فروا منها نحو الشمال بأموالهم، ولم يبق سوى قليل من السكان، فاستولى طارق عليها، وأبقى على من ظل بها من أهلها وترك لأهلها كنائسهم، وجعل لأحبارهم ورهبانهم حرية إقامة شعائرهم، وتابع طارق زحفه شمالا فاخترق قشتالة ثم ليون، وواصل سيره حتى أشرف على ثغر خيخون الواقع على خليج بسكونية، ولما عاد إلى طليطلة تلقى أوامر من موسى بن نصير بوقف الفتح حتى يأتي إليه بقوات كبيرة ليكمل معه الفتح.

كان موسى بن نصير يتابع سير الجيش الإسلامي في الأندلس، حتى إذا أدرك أنه في حاجة إلى مدد بعد أن استشهد منه في المعارك ما يقرب من نصفه، ألزم طارقاً بالتوقف؛ حرصاً على المسلمين من مغبة التوغل في أراض مجهولة، وحتى لا يكون بعيداً عن مراكز الإمداد في المغرب، ثم عبر هو في عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر إلى الجزيرة الخضراء في رمضان 93هـ ، وسار بجنوده في غير الطريق الذي سلكه طارق، ليكون له شرف فتح بلاد جديدة، فاستولى على شذونة، ثم اتجه إلى قرمونة وهي يومئذ من أمنع معاقل الأندلس ففتحها، ثم قصد إشبيلية وماردة فسقطتا في يده، واتجه بعد ذلك على مدينة طليطلة حيث التقي بطارق بن زياد في سنة 94هـ .

سابعا: هجرة الدعاة إلى بلاد السند والهند

وبعد أن استراح القائدان قليلا في طليطلة عاودا الفتح مرة ثانية، وزحفا نحو الشمال الشرقي، واخترقا ولاية أراجون، وافتتحا سرقطة وطركونة وبرشلونة وغيرها من المدن، ثم افترق الفاتحان، فسار طارق ناحية الغرب، واتجه موسى شمالا، وبينما هما على هذا الحال من الفتح والتوغل، وصلتهما رسالة من الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، يطلب عودتهما إلى دمشق، فتوقف الفتح عند النقطة التي انتهيا إليها، وعاد الفاتحان إلى دمشق، تاركين المسلمين في الأندلس تحت قيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي شارك أيضا في الفتح، بضم منطقة الساحل الواقعة بين مالقة وبلنسبة، وأخمد الثورة في إشبيلية وباجة، وأبدى في معاملة البلاد المفتوحة كثيراً من الرفق والتسامح.

وبدأت الأندلس منذ أن افتتحها طارق تاريخها الإسلامي، وأخذت في التحول إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، وظلت وطنا للمسلمين طيلة ثمانية قرون، كانت خلالها مشعلا للحضارة ومركزًا للعلم والثقافة، حتى سقطت غرناطة آخر معاقلها في يدي الإسبان المسيحيين سنة 897هـ ؛ بعد أن تحولنا من دعاة إلى رعاة" (8) هذه دراسة موثقة من الكامل لابن الأثير ، ونفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري، وفجر الأندلس لحسين مؤنس.

هذه واحدة من أقوى الأدلة على حالة الاسترخاء التي يعيشها رعاة يحملون لقب الدعاة ، وستبقى سنن الله- جل جلاله -، وحقائق التاريخ تؤكد أننا بحاجة إلى تغيير جوهري من سرد أحداث السيرة لتسلية أنصاف المتدينين، وأرباع المدَّعين ، وأثمان النفعيين ، الذين يقتاتون بالدعوة لهذا الدين، ويتركون أعداءهم ينهشون الأعراض ، ويحتلون الأراض، وهم في غيبوبة عن حقائق هجرة وجهاد سلفهم ذوي المروءات والتضحيات ، ففتح الله بهم أعظم الحصون الممنوعات، وتحول غرب أوربا إلى معلم حضاري إسلامي ، واليوم مع الرعاة صارت أرضاً صليبية ومزاراً سياحياً للرعاة .

يرجع الفضل بعد الله - سبحانه وتعالى - في فتح بلاد السند (باكستان ) والهند إلى قائدين عظيمين هما :

محمد بن القاسم الثقفي ومحمود الغزنوي.

أما محمد بن القاسم الثقفي فقد ولد سنة 72هـ بمدينة الطائف في أسرة معروفة ، وانتقل مع والده حاكم البصرة فنشأ وترعرع وتدرب على الجندية، حتى أصبح من القادة المعروفين، وهو لم يتجاوز بعد 17 عاماًَ من العمر.

وكان محمد بن القاسم يسمع كثيرًا عن بلاد السند، و حدث في سنة 88هـ أن سفينة عربية كانت قادمة من جزيرة الياقوت (بلاد سيلان) عليها نساء مسلمات، وقد مات آباؤهنَّ ولم يبق لهنَّ راعٍ هناك، فقررن السفر للإقامة في العراق، وبينما كانت السفينة في طريقها إلى البصرة مارة بميناء الديبل ببلاد السند، خرج قراصنة من السند واستولوا عليها.

وبالفعل قرر الحجاج فتح بلاد السند كلها، بسبب هذه الواقعة وقد وقع اختياره على محمد بن القاسم الثقفي ليقود الجيش الإسلامي، وجهزه بكل ما يحتاج إليه في ميدان القتال.

وتحرك البطل محمد بن القاسم بجيشه المكون من ستة آلاف مقاتل من العراق إلى الشيراز في سنة 90هـ، وهناك انضم إليه ستة آلاف من الجند، وبعد ذلك اتجه نحو بلاد السند، فبدأ بفتح مدينة بعد مدينة لمدة سنتين، حتى التقى الجيش العربي بقيادته مع الجيش السندي بقيادة الملك داهر، في معركة دامية مصيرية سنة 92هـ، وكان النصر للحق على الباطل، فقد انتصر المسلمون على المشركين، وقتل ملك السند في الميدان، وسقطت العاصمة السندية في أيدي العرب.

واستمر محمد بن القاسم في فتوحاته لبقية أجزاء بلاد السند حتى انتهى منها سنة 96هـ، وبذلك قامت أول دولة عربية في بلاد السند والبنجاب أي بلاد باكستان الحالية.

وظلت السند تابعة للدولة الإسلامية، وحافظ المسلمون على ما فتحوه، وتوسعوا قليلا في ضم أجزاء أخرى إلى دولتهم، حتى سيطر المسلمون على المنطقة الواقعة بين كابل وكشمير والملتان.

ثامنا: هجرة الدعاة إلى ما وراء النهر

كانت "غزنة" بأفغانستان ولاية نائية، تخضع للدولة السامانية التي تحكم خراسان وما وراء النهر، ويقوم عليها ولاة من قِبلها، وشاءت الأقدار أن يلي غزنة سنة 366هـ والٍ يسمى "سبكتكين" كان يتمتع بهمة عالية وكفاءة نادرة، وطموح عظيم، فنجح في أن يبسط نفوذه على البلاد المجاورة، وشرع في غزو أطراف الهند، وسيطر على كثير من المعاقل والحصون هناك، حتى تمكن من تأسيس دولة كبيرة في جنوبي غرب آسيا، وتوفي سنة 387هـ.

بعد موت "سبكتكين" خلفه ابنه إسماعيل، وبعده أخوه محمود، وبدأ عهد جديد لم تشهده المنطقة من قبل، فلم يكد يستقر الأمر لمحمود، حتى بدأ نشاطًا واسعًا في الفتوح، وأثبت أنه واحد من كبار الفاتحين في تاريخ الإسلام، حتى قيل إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

قضى محمود الغزنوي الفترة الأولى من حكمه في توسيع رقعة دولته على حساب الدولة السامانية التي دبّ الضعف في أوصالها، وتم له ذلك في جمادى الأولى 389هـ بعد انتصاره على عبد الملك بن نوح الساماني في موقعة حاسمة عند مرو، وأصبحت خراسان خاضعة للإسلام، ثم تصدى للدولة البويهية، وانتزع منها الري وبلاد الجبل وقزوين.

ثم تعددت حملاته على الهند حتى بلغت أكثر من سبع عشرة حملة، وظل يحارب دون فتور نحوًا من سبع وعشرين سنة، بدأت من عام 390هـ حيث قاد حملته الأولى على رأس عشرة آلاف مقاتل، والتقى عند مدينة بشاور بجيش "جيبال" أحد ملوك الهندوس، وحقق نصرا غاليا، ووقع الملك الهندي في الأسر، الذي لم يستطع أن يتحمل هزيمته والعار الذي لحق به، فأقدم على حرق نفسه، بعدما أطلق الغزنوي سراحه مقابل فدية كبيرة.

وتوالت حملات الغزنوي، وفي كل مرة كان يحقق نصرا، ويضيف إلى دولته رقعة جديدة، ويبشر بالإسلام بين أهالي المناطق المفتوحة، ويغنم غنائم عظيمة، حتى توج فتوحاته في الهند بفتح بلاد "الكجرات"، ثم توجه إلى مدينة "سومنات" سنة 416هـ وكان بها معبد من أكبر معابد الهند، يحوي صنما اسمه "سومنات" وكان الهندوس يعظمونه ويحملون إليه كل نفيس، ويغدقون الأموال على سدنته، وكانت مدينة سومنات تقع في أقصى جنوب الكجرات على شاطئ بحر العرب، فقطع الغزنوي الصحاري المهلكة حتى بلغها، واقتحم المعبد، وهزم الجموع الغفيرة التي حاولت إنقاذ المعبد، ووقع آلاف الهندوس قتلى، وسقط المعبد في أيدي المسلمين.

وعاد إلى غزنة سنة 417هـ وظلت ذكرى هدم معبد سومنات عالقة في ذاكرة الهندوس لم يمحها كرّ السنين، حتى إذا ما ظفرت الهند باستقلالها عمدت إلى بناء هذا المعبد من جديد في احتفال مهيب ، بعد أن تحولنا من هجرة الدعاة إلى الرعاة .

وكانت حصيلة جهود محمود الغزنوي أن أتمّ فتح شمال شبة القارة الهندية، ففتح إقليم كابلستان، وملتان، وكشمير، وأخضع البنجاب، ونشر الإسلام في ربوع الهند، وفتح طريقاً سلكه من جاء بعده.

وقد نظر المؤرخون المسلمون إلى أعماله نظر إعجاب وتقدير، فقد بلغ بفتوحاته إلى "حيث لم تبلغه في الإسلام راية، ولم تُتل به قط سورة ولا آية، وأقام بدلاً من بيوت الأصنام مساجد الإسلام".

ظل السلطان محمود الغزنوي يواصل جهاده حتى مرض، وطال به مرضه نحو سنتين، ومع ذلك لم يحتجب عن الناس أو يمنعه المرض من مباشرة أمور رعيته حتى توفي قاعداً في ربيع الأول 421هـ بعد أن أنشأ دولة واسعة، ضمّت معظم إيران وبلاد ما وراء النهر وشمال الهند كله، ونشر ديناً لا يزال له أتباع كثيرون في الهند" (9).

هذه الملايين من مسلمي الهند وباكستان وأفغانستان هي من غرس هؤلاء الأفذاذ من الدعاة من أمثال محمد بن القاسم الثقفي ومحمود الغزنوي وآخرين ، ممن كانت همتهم في السماء، وجهدهم في الأرض تنشر النور والبر والخير والإحسان ، على نحو لا يزال موضع دهشة المنصفين من العلماء والمؤرخين حتى من غير المسلمين، ولما تحول الدعاة إلى رعاة يبحثون عن المال والسلطة والشهوة آلت النوبة إلى حالة مرة ، وتراجع مزر، وتقلبات عسيرة على الإسلام والمسلمين ، وكأني بهؤلاء الأفذاذ من الدعاة يتألمون في قبورهم على ما آل إليه غرسهم من ذبول واصفرار وهلاك وبوار، ويتمنون – لو تنفع المنى - لو عادوا إلى الدنيا ليستعيدوا مجد الإسلام ويلقنوا الرعاة درسا قاسيا في الرجولة والعزة والكرامة.

إن رجلا مثل محمد بن قاسم الثقفي استطاع بفضل الله أن يحرك الساكن وأن يغير الواقع وأن يجمع الجنود لفتح باكستان، ويتحركوا إلى جنوب الهند ليترك بصمة تاريخية شاهدة على هجرة الدعاة الصادقين، ولافتة أنظار الرعاة القاعدين كي يتبعوا نهج هؤلاء الفاتحين.

ولما كان أمله كله لم يتحقق في فتح بلاد الهند كلها قدر الله أن يأتي من بعده بسنوات محمود الغزنوي لكي يكمل فتوحاته في الهند كلها ويستقر الإسلام قرونا طويلة حاكما وحده تلكم الأرض المترامية الأطراف المفعمة بالفكر والعقائد والثقافات لكي يجعلها موحدة لرب الأرض والسماوات خاضعة متحدة تحت نظام إسلامي واحد، فلما مرت القرون وطال الأمد وقست القلوب تحول المسلمون إلى مستضعفين مطاردين منقسمين.

بل تصل عدد الآلهة إلى 385 مليون إله يعبد من دون الله، فهل يعود الرعاة إلى أن يكونوا دعاة؟ ذاك أمل أجده قريبا إن شاء الله.

"تسمى بلاد ما وراء النهر نسبة إلى نهر جيحون -النهر الفاصل بين الأقوام الناطقة بالفارسية والتركية- وبلاد ماوراء النهر جزء من تركستان الغربية التي تضم في الوقت الحاضر:

جمهورية أوزبكستان

وطاجاكستان، وكانت عقائد أهل المنطقة الزرادشتية.

هجرة الدعاة إلى أذربيجان وأرمينيا وخراسان

غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينيا وكان أهلهما قد منعوا ما صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيام عمر بن الخطاب فاضطر سكان المنطقتين إلى المصالحة من جديد واتجه حبيب بن مسلمة لغزو أرمينيا من جهة الغرب ولما كان عدد جيش الروم كبيراً طلب المدد فأرسل له الوليد بن عقبة ثمانية آلاف رجل بقيادة سلمان بن ربيعة الباهلي.

واستكمل عمير بن عثمان في العام 29 هـ فتح خراسان وكذلك كان عبد الله بن عمير قد وصل إلى كابل.

وسار أمير الكوفة سعيد بن العاص يريد خراسان ومعه الحسن والحسين رضوان الله عليهما وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير إلا أن أمير البصرة عبد الله بن عامر كان سبقه إلى خراسان فاتجه سعيد إلى جرجان فصالحه أهلها، وفي عام 32 هـ كتب الخليفة إلى أمير الكوفة سعيد بن العاص أن أرسل سلمان بن ربيعة الباهلي للغزو في منطقة الباب، فسار سلمان وكان عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي يخوض معركة ضد خصومه، فاستشهد فيها وتفرق المسلمون هناك، وكان على الحرب مع سلمان حذيفة بن اليمان وطلب عثمان من أهل الشام في أرمينيا أن ينجدوا سلمان فسار الجيش بقيادة حبيب بن مسلمة وساعد سلمان في حروبه وانتصروا بفضل الله - سبحانه وتعالى -."(10)

هجرة الدعاة إلى بخارى

بدأ الفتح الإسلامي لها زمن قتيبة فقد وصل قتيبة بن مسلم الباهلي سنة 86هـ خراسان والياً، فخطب الناس وحثهم على الجهاد، وانطلق قتيبة يجهز لغزو بخارى وماحولها.

وفي سنة 87هـ حرر أسر المسلمين من أيدي نيزك طرخان حاكم هذه المنطقة ثم اجتاز نهر جيحون وسار إلى مرو وبخارى وهناك اجتمع أكثر من مائتي ألف بقيادة طرخان ملك الصفد كوربغانون ملك الترك فهزمهما بفضل الله - سبحانه وتعالى -."(11)

هجرة الدعاة إلى سمرقند

في سنة 93هـ وبعد أن فتح تيبة بن مسلم الباهلي بخارى وما حولها، تطلع إلى غزو سمرقند، وكان يناجي نفسه:

حتى متى يا سمرقند يعشعش فيك الشيطان، أما والله لئن أصبحت لأُحاولن من أهلك أقصى غاية.

فاستجاب المسلمون ولقي في بسالة تحالف قوات الملك غورك ملك الصفد وقوات ملك الشاش وملك فرغانة.

فانتصر عليهم بفضل الله وطالبوا بالصلح.

فصالحهم قتيبة على:

الجزية، وتحطيم الأصنام وما في بيوت النيران، وإخلاء المدينة من المقاتلة، وبناء مسجد في المدينة ووضع منبر فيه.

وتم الصلح، وأخلوا المدينة، وبنوا المسجد، واستلم قتيبة ما صالحهم عليه، وصلى في المسجد وخطب فيه، وأتى بالأصنام، وألقيت بعضها فوق بعض.

حتى صارت كالقصر العظيم، ثم أمر بتحريقها، فتصارخ الأعاجم وتباكوا، وقالوا: إن فيها أصناماً قديمة، من أحرقها هلك، فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وجاء غوزك فنهى عن ذلك، وقال لقتيبة: أيها الأمير، إني لك ناصح، وإن شكرك عليّ واجب، لا تعرض لهذه الأصنام، فقام قتيبة، ودعا بالنار، وأخذ شعلة بيده، وقال: أنا أحرقها بيدي، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون، وسار إليها وهو يكبر الله عز وجل، وألقى فيها النار، فاحترقت." (12)

هؤلاء الدعاة الذين قطعوا الصحراء وعبروا البحار والأنهار وحلمهم : حتى متى يا سمرقند يعشعش فيك الشيطان؟!!، معركتهم حقا مع الشيطان وحزبه ، ومع النفاق ورفده، وجعلوا حياتهم وقفا لفتح جديد ، وأضاءوا أرضا شاسعة بنور القرآن فأنتجت من أمثال البخاري صاحب أصح كتاب بعد القرآن ، والترمذي صاحب السنن والفيروزبادي صاحب القاموس المحيط وآخرين من أفذاذ علماء وأجناد الأمة ، فهل نتحوّل من هجرة الرعاة وراء لعاعة الدنيا إلى هجرة الدعاة لنعيد الحضارة والأخلاق إلى عالمنا المعاصر ولا يعشعش فيه شيطان من إنس ولا جان ؟!!

تاسعا: هجرة الدعاة إلى القسطنطينية

كان ملوك آل عثمان يرون في فتح القسطنطينية تحقيق أمنيتهم في أن يكون المقصود هو جيشهم الذي أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه سيفتح القسطنطينية ولنعم الجيش جيشها لذلك توجهت همة كثير منهم لتحقيق هذا الأمر فلم يتسن حصوله لامتناع تلك المدينة إلا على محمد الفاتح الذي ولد عام 833 هـ ، وتولى السلطنة عام855 هـ ، فكان عمره يوم ذاك اثنين وعشرين سنة.

تجهز هذا السلطان لهذا الأمر الجلل فأعد له مائتي ألف جندي وثلاثمائة سفينة حربية فحاصر السلطان القسطنطينية بعد أن أمر بعمل مدفع من البرونز يبلغ قطر فوهته اثني عشر شبرا يقذف كرة من الحجر يبلغ وزنها اثني عشر قنطاراً لمسافة ميل واحد وكان جنود هذا المدفع يبلغون سبعمائة ويحتاج حشوه ساعة من الزمان ولما أرادوا نقله إلى مدينة أدرنة خصصوا له خمسمائة زوج من الثيران وثلاثة آلاف جندي.

ومن ابتكاراته أنه سير مائة وخمسين سفينة على اليبس وذلك أنه بعد أن اقتحمت سفنه البحر لحصار القسطنطينية رأى قادتها أن الوصول إلى المدينة مستحيل لأن الممر إليها كان مغلقا بالسلاسل الحديدية فرأى المهندسون أن يكسو الأرض بألواح الصنوبر المدهون بالشحم وأن تسحب المراكب عليها بالحبال ، وتمت هذه المحاولة في ليلة واحدة ، فدهش أهل القسطنطينية حين رأوا أسطولاً قوياً يحاصرهم من جهة البحر.

فتداعت جنود الرومان لرد المهاجمين فحدثت معركة هائلة قتل فيها الإمبراطور فاحتل الترك المدينة واتخذ السلطان سراي ملوك القسطنطينية مقراً له وحوَّل كنيسة أياصوفيا إلى مسجد.

ويقال: إن الإمبراطور قتل خلف الباب وهو يحرض المقاتلين وسمعه بعض جنوده وهو يتضرع إليه أن يحتز رأسه لكي لا تعلم جثته بين القتلى فيمثل بها المتغلبون.

والعجيب أن السلطان أمر بالبحث عن جثة الإمبراطور فلما وجدوها أمر بدفنها باحتفال يليق بها في مقابر الملوك وافتدى كثيراً من أمراء اليونان الذين وقعوا أسرى في بلده.

كان بالقسطنطينية إذ ذاك أكثر من (300,000) نسمة.

دخل السلطان المدينة باحتفال حافل فأبقى للنصارى كنائسهم وعاملهم بالحسنى حتى قال المؤرخ الكبير فولتير: «إن الأتراك لم يسيئوا معاملة المسيحيين كما نعتقده نحن، والذي تجب ملاحظته أن أمة من الأمم المسيحية لا تسمح أن يكون للمسلمين مسجد في بلادها بخلاف الأتراك فإنهم سمحوا لليونان المقهورين بأن تكون لهم كنائسهم وكثير منها بجزر الأرخبيل تحت مراقبة حكامهم».

ثم أمر السلطان بانتخاب بطريق (بطريرك) لليونان وألبسه التاج بيده وسلمه عصا البطاركة وقال له:

كن بطريقاً لأمتك وأنت في حفظ اللّه وثق في جميع الأحوال بمحبتي وإخلاص نيتي إليك وتمتع بالمزايا التي كان يتمتع بها أسلافك من قبل.

ثم إن السلطان بعد أن أمن اليونانيين على دينهم وأموالهم وأعراضهم أصدر أمره بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم فشكلوا لهم طائفة منفصلة عن الأمة الفاتحة وكان بطريركهم حائزاً لرتبة وزير بين ضباطهم الإنكشارية ، وكانت تعرض عليه جميع القضايا المدنية والجنائية ، وكان له مجلس مؤلف من أعيان قومه وكان يحكم حتى بالقتل فتنفذه له الجنود التركية.

وكان من امتياز البطريرك إعفاؤه من الضرائب هو ووكلاؤه بالجهات وقد اشتهر أمر هذه المعاملة للبطريرك حتى قال عنها فولتير الفيلسوف الفرنسي المشهور:

"ومما يدل على أن السلطان محمد الفاتح كان عاقلاً حليماً تركه للنصارى المقهورين الحرية في انتخاب بطريركهم.

ولما انتخبوه ثبته السلطان وسلمه عصا البطاركة وألبسه الخاتم ، حتى صرح ذلك البطريق عند ذلك بقوله إني خجل مما لاقيته من التبجيل والحفاوة الأمر الذي لم يعمله ملوك النصارى مع أسلافي".

كان استيلاء الترك على هذه المدينة يوم الثلاثاء في العاشر من شهر جمادى الآخرة سنة 857هـ بعد حصار ثلاثة وخمسين يوماً."(13)

هذه صفحات من نور الله تحتاج أن تغير نفوسا عاشت لا تعرف سوى اليأس والإحباط ، والركون إلى الذين ظلموا ، والخوف من بطشهم والانبهار بعددهم وعدتهم ، مع ما يحملون من أحقاد وضغائن لغيرهم ، فهذا محمد الفاتح يقول من وراء أستار قبره : فليثق المسلمون في ربهم ، وليثق القادة في شعوبهم ، وليثق الشباب في قدراتهم، ولنتحرك جميعا ـ دون إبطاء ـ نحو إيمان عميق، وترابط وثيق ، وعمل دقيق ، لا يعرف الملل، ولا يتطرق إليه كلل، وإبداع في الآلات والمعدات لنأكل مما نصنع ، ونلبس مما نصنع، ونطور آلتنا العسكرية مما نبدع ، ولنغير قوانيننا لتكون كما أمر ربنا وشرّع، وآنئذ ستعود أوربا مسلمة كما كانت على يد القائد محمد الفاتح المبدع ، وسنكون أكثر سماحة مع من حاربونا ، عفواً نعيد به سيرة سلفنا الصالح، نورا يشرق على الأرض ويسطع .

بعد هذه الفتوحات العملاقة شرقا وغربا شمالا وجنوبا أحب أن أضع هذه الخريطة أمام أعين الدعاة لتبين كيف انطلق النور الرباني من مكة والمدينة في سنوات قليلة ليغمر أطراف الكرة الأرضية ويعمًر الأرض بأنوار

السماء.

راجيا أن ترتسم هذه الخريطة (14) في عقل ووجدان كل مسلم ومسلمة لتعود الأرض كما كانت تزخر بالخير في جنباتها.

المطلب الثالث

هل نحن دعاة أم رعاة؟

إذا كنا نرى محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام وقادة الأمة من الأفذاذ الأبطال يقضون حياتهم في هذه الهجرات والغزوات والسرايا والتنقلات نشراً لدين الله - سبحانه وتعالى - وعمارة للأرض، وإقامة العدل والقسطاس بين الناس، فلا يكاد يمض شهر يخلو من غزوة أو سرية، أو رحلة دعوية، أو فسحة علمية، ففتحوا الأرض بنور الله - سبحانه وتعالى -، وأسدوا للحياة حضارة زاهية تحمل أخلاق الإسلام، فهل نحن فعلا كذلك، حتى لا نخدع أنفسنا بالتدين الزائف فهذه أسئلة تحدد إن كنا دعاة أم رعاة وفق منهج التربويين "إذا وضعت هدفا فضع له معايير يمكن قياسها":

إن كنت من عمار بيت الله من الفجر إلى العشاء، فهذا من صفات الدعاة، وإن كنت ممن يعمر المجالس والمشاهد دون المساجد فأنت من الرعاة!!.

إن كنت ممن يسعى نحو الغنائم الباردة في أذكار واردة أو حلقات علم شاهدة تأخذ بعقلك وقلبك إلى ذكرى الآخرة، وعمارة الدنيا فأنت على صفة من صفات الدعاة، وإن كنت من أصحاب الغنائم الهابطة، تغزو الأسواق بلا ضابط شرعي أو ميزان، حركتك وسفرك للدراهم والدنانير والدولارات فأنت من الرعاة لا الدعاة.

المطلب الرابع

الارتقاء من هجرة الرعاة إلى هجرة الدعاة

إن كنت ممن يسعي بهمة لدعوة من أغنياء أو فقراء لأنك ذاهب لرب الأرض والسماء، تهفو إلى نصيحتهم وتزهد في هديتهم، وترغب في هدايتهم ، وتتطلع إلى صحبتهم ، ترى كلا منهم خيرا منك عند ربهم ، وتتمنى بظهر الغيب دعوتهم، فأنت من أصحاب هجرة الدعاة ، وإن كنت ممن يهرول لدعوة السادة والكبراء ، وتهرول لإشارة الأغنياء ، وتنتظر منهم كل ثناء ، وتفتح جيبك لكل عطاء ، وتغير الأحكام وفقا لكل رجاء ، وتحرم منك المساكين والأيتام والفقراء، فأنت من أصحاب هجرة الرعاة .

إن كنت ممن يستجيب لنداء الله - سبحانه وتعالى - في الاستعداد للجهاد والقتال، والغزو والنزال، كما قال الشاعر :

قالوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل

تتحين الفرصة لمصارعة أعداء الإسلام تحت ظلال دولة الإسلام، وليس جماعات الغلو والانتقام، فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت قد هجرت المكارم، وطلََقت المسئولية عن المحارم، واسترخيت في ألوان المتع والمغانم، ونسيت العراق وفلسطين والصومال وأفغانستان، وكشمير والشيشان، فأنت من أصحاب هجرة الرعاة .

إن كنت ممن يهجر السفاسف، ويسعى للمكارم، يحنو على الفقير المعدم والضعيف المنهك، واليتيم المرهق، والمسكين المهموم، وتصلهم بما رزقك الله - سبحانه وتعالى - من أصل وفضل المال والجاه فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت ترى كل فرصة مغنما لأخذ ما بأيدي الناس حلالا أو حراما، وتحقد على غنيهم وتحتقر فقيرهم، وتهين عالمهم وتلعن سادتهم فأنت من أصحاب هجرة الرعاة.

إن كنت تتحرك بهمَّة نحو إصلاح أُمة من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت تتحرك بهمَّة نحو هموم أَمة من طعام متنوع، وشراب بارد وساخن، ومركب مريح ، ومسكن فسيح، وصداقات فارغات، فأنت من أصحاب هجرة الرعاة.

إن كنت تستضيف القوم من غني وفقير، تصل بطونهم بالطعام، وعقولهم بالأفكار، وقلوبهم بالحب والوداد، وترتقي معهم في مدارج السالكين إلى الله - سبحانه وتعالى - فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت تستضيف فقط الأغنياء أو ذوي المصالح لك والحاجات، لتختال بأنواع المطعومات والمشروبات فأنت من أصحاب هجرة الرعاة.

إن كنت تربي نفسك وأهلك وأولادك على أنكم أصحاب رسالة وحملة أمانة، وتحرصون على فعل الخير، ونفع الغير، وإدخال السرور إلى كل بيت فأنتم من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كان البيت كالقبر يخلو من الحنان، ولا يقرأ فيه القرآن، ولا يقومون للصلاة ولا يجتمعون للأذكار ولا تلتفتون إلى حاجات ذوي البأس من الناس، فأنتم من أصحاب هجرة الرعاة.

إن كنت تحلم بالإسلام عزيزا في الأرض، عاليا في كل صوب، حاكما في كل درب، وتسعى لنصرته وتمكينه في نفسك ومجتمعك فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت تحلم فقط بوظيفة زاهية، ورواتب عالية، ومراكب فانية و........فأنت من أصحاب هجرة الرعاة .

إذا كنت تؤثر راحة غيرك وأمتك على نفسك ، وتحول طاقاتك وإمكاناتك لخدمة دينك وإعزاز بلدك ، ورفعة أمتك ، فأنت من أصحاب هجرة الدعاة ، وإن كنت ممن يستأثر بالأرزاق ، يدور حول شخصه ونفسه ، وتدور عينه وراء كل غنيمة ، ولا يلوي على شيء حوله فأنت من أصحاب هجرة الرعاة.

أحسب أننا إذا كنا منصفين من أنفسنا وشجعانا في الاعتراف بأخطائنا والشجاع من انتصف من نفسه فلابد أن نتغير من الرعاة إلى الدعاة، أما كيف؟ فهذا جدول مختصر ومحدد يكفي الجادَين المنصفين من اليوم حتى يلقوا الله غير خزايا ولا مبدلين .

رقم ... من هجرة الرعاة ... إلى هجرة الدعاة

زيارة المساجد ... عمارتها

القراءات العشوائية ... الدراسات المنهجية

العصبية الذميمة ... الأخوة الحميمة

الفرقة والاختلاف ... الوحدة والائتلاف

فقه الفتاوى الفردية ... فقه المجامع الفقهية

الفقر والمسكنة ... الغنى والرحمة

العزوبة الحارقة ... الزوجية الرائقة

ردود الأفعال العشوائية ... الخطط المستقبلية

السلبية ... الإيجابية

كتمان الحق ... إظهاره

السكوت على المنكر ... إنكاره

إلف المعصية ... تغيير المنكر

الأنانية والأثرة ... الإيثار

الشح ... الكرم

الحرقة على ما فات من عرض الدنيا ... الحرقة على ما فات من ثواب الآخرة

الغفلة عن هموم أمتنا ... الوعي بها

تضييع الأوقات ... استثمارها

صلاة بلا خشوع ... الذلة والخضوع

صيام بلا احتساب وإيمان ... صيام باحتساب وإيمان

صدقات نادرة ... صدقات وافرة

عين إلى الحرام زائغة ... إلى خلق الله ناظرة

الجحود والكنود ... شكر وحمد الرزاق الودود

هجر القرآن ... الورد اليومي

القراءة السطحية ... التدبر بالعقل والتأثر بالقلب والتغير بالنفس

الكفر ... الإيمان

الرياء ... الإخلاص

مساوئ الأخلاق ... مكارم الأخلاق

عقوق الوالدين ... بر الوالدين

قطيعة الأرحام ... صلة الأرحام

الزنا ... العفة

أكل مال اليتيم ... مساعدة اليتيم

الكذب ... الصدق

الغش والخيانة ... الأمانة

الكبر ... التواضع

الغدر ... الوفا ء سرعة الغضب والانتقام ... الحلم والصفح

الظلم ... العدل

أكل الحرام أو مابه شبهة ... الكسب الحلال الصافي

إتباع الهوى ... القوة والصبر والجلد

كتمان العلم ... بيان العلم وتعليمه

التجسس والسؤال عما لا يعني ... عدم تتبع عورات الناس، وترك ما لا يعنيك

الظلم ... العدل

الغيبة والنميمة ... التعفف عن أعراض الناس

السباب وبذاءة اللسان ... الترفع عن السباب والتزام حلاوة المقال

السخرية والضحك على الآخرين ... احترام الكبير والعطف على الصغير

القسوة والغلظة ... الرحمة والشفقة على كل ذي كبد رطبة

المكر والخديعة ... الصراحة والنصيحة

التبذير والإسراف ... الاعتدال وحسن التقدير في النفقات

النظر إلى المحرمات ... غض البصر

الإهمال للناس والواجبات ... الاهتمام بالآخرين وبالواجبات

التقليد والانصياع ... التفكير والإبداع

البهتان ... الاحتياط عن الخوض في أعراض الناس

المنّ ... نسبة الفضل إلى الله وحده

التبرج ... الحجاب

تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ... الاعتزاز بالرجولة والأنوثة لأنهما قدر الله الطيب

خذلان المحتاجين ... المروءة والإعانة على نوائب الدهر

التطيّر وتصديق الكهنة والسحرة ... الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأرباب

الجبن والهلع ... الشجاعة والحكمة

الحقد والحسد ... الغبطة والرضا بعطاء الله

الذل والانكسار ... العزة

الشماتة ... الإشفاق على ذوي البلاء والمصائب

العبوس والقنوط واليأس ... الابتسامة مع الأمل

الفضيحة والتجريح ... الستر والنصيحة والتصحيح

النجاسات والقاذورات ... الطهارات والنظافة

الكسل ... النشاط والهمة

اجترار الهموم والأحزان ... السعادة والسرور

اللغو في الأقوال والأفعال والأفكار ... الجدية في القول والفعل والتفكير

نكران الجميل ... الوفاء والاعتراف بالفضل

الوسواس ... الحزم مع النفس والتزام الواضحات

النجوى ... الاستئذان في الحوار مع ثالث

الطمع ... العفة عما في أيدي الناس

الديوثية ... الغيرة والحمية على الأعراض

الجهل ... العلم

الضعف ... القوة

إفشاء الأسرار ... حفظ الأسرار

فكر الاعتداء على المجتمع أو الاعتزال ... الوسطية والتعايش والاعتدال

احتكار الرجال للأنشطة الخيرية ... مشاركة المرأة مع الضوابط الشرعية.

هذه هي الخطوات الأولى لهجرة الدعاة ، فيها هجر ما نهى الله عنه، والتزام ما أمر به ، وآنئذ ستتغير

أوضاع آلمت كل حرًّ، وأغرت كل غرًّ، وجلبت كل ضُرًّ ، لكن أملاً عريضاً أن يعم البر ويتضاعف الخير ، وتعود

الأرض تسمع آذان الفجر، وتغريد الطير ، تردد معنا أنغام الذكر، وألحان الشكر ، وآيات النصر كما

قال - سبحانه وتعالى - :

{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } (القمر : 45).

المصادر