موقف العالم الإسلامى وواجب ملوك المسلمين وحكوماتهم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
موقف العالم الإسلامى وواجب ملوك المسلمين وحكوماتهم

بقلم / الإمام حسن البنا


نشبت الحرب الماضية والعالم الإسلامى كله منضو تحت اللواء التركى مستظل بظل الخلافة العثمانية إلا بعض أجزاء اقتطعتها يد المطامع السياسية الغربية من قبل.

كانت مصر تحت الاحتلال البريطانى ثم صارت بإعلان الحرب تحت الحماية، وخاضت البلاد العربية ميادين القتال إلى جانب الحلفاء تصديقا لوعودهم وانخداعا بالأمانى المعسولة التى وضعوها أمام الأمة العربية.

ولسنا بصدد اللوم أو العتاب أو تحديد مسئولية المخطئ والمصيب فى هذا كله، فقد ذهبت تلك الأيام بما كان فيها وصارت مواقف الرجال والأمم فى ذمة التاريخ يحكم لها أو عليها.

وانجلت تلك الحرب وويل للمغلوب، وغلبت تركيا على أمرها وسلبت حق سيادتها على الولايات التابعة لها.

وهنا نهضت الشعوب الإسلامية تجاهد وتكافح وتناضل وتطالب بحقها فى الحياة العزيزة الحرة الكريمة.

كانت ثورة الكماليين على أرض الأناضول وانتهت بتكوين تركيا الحديثة هداها الله وألهمها الرشد.

وكانت الثورة المصرية فى وادى النيل وانتهت بمعاهدة أغسطس 1936 التى حققت جزءا ضئيلا جدا من الأمانى المصرية، ولا زالت مصر تكافح لاستكمال الباقى.

وكانت الثورة العراقية وانتهت بالمعاهدة العراقية الإنجليزية التى حققت كذلك جزءا من الأمانى العراقية ومكنت العراق من السير سريعا إلى استكمال ما بقى.

واستولى الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز وضمه إلى نجد وكون منهما المملكة العربية السعودية.

وكافحت سورية وناضلت وكاد يتم بينها وبين فرنسا عهد وميثاق كالذى تم فى مصر والعراق مثلا، لولا أن فرنسا نكثت عهدها بعد أن وثقته قلبت للسورين ظهر المجن ولا زالت فى موقفها هذا إلى الآن.

وتعقدت قضية فلسطين ونشبت فيها الثورات تباعا، ولم يفلح ذهب اليهود ولا خداع الإنكليز فى تضليل الشعب الفلسطينى الباسل وصرفه عن أهدافه الحقة، وعن المطالبة باستقلاله الكامل فى أرض الآباء والأجداد التى رواها دم الصحابة الطاهر فأنبتت أولئك الأحفاد البررة.

واستمرت طرابلس ثائرة على الحكم الإيطالى الظالم حتى قبض على المجاهد المؤمن السيد عمر المختار وضيق الخناق على المجاهدين فقتل من قتل ونفى من نفى، وانتهى كل ذلك بأن أعلنت إيطاليا تجنيس طرابلس بالجنسية الطليانية وقذفتها بسيل من المهاجرين الطليان يلتهم الأخضر واليابس.

وقامت ثورات فى بعض جهات من هذا الوطن المتمرد على الظلم والجور كان من أظهرها ثورة الريف المغربى بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم وانتهت كلها بتشديد الضغط على خناق الأحرار والعاملين.

هذا بسط موجز لموقف العالم الإسلامى من نفسه ومن غيره من الأمم التى ظلمته وتدخلت فى شأنه واستبدت بأمره واغتصبت حقوقه إلى الآن.

اختل التوازن الأوربى، وجرت الأحداث سراعا تسابق الدقائق والساعات، وتغير الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات، وانجلت تلك الغمرة عن وجود معسكرين قويين فى أوروبا: معسكر المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ومن لف لفهما من دويلات أوروبا ومن ورائهما اليابان فى الشرق.

ومعسكر الدول الديمقراطية، ويضم إنجلترا وفرنسا ومن تبعهما من دول أوربا ومن ورائها أمريكا فى القارة الجديدة.

وحرب الدعاية والكتابة والتربص والأعصاب -كما يقولون- قائمة على أشدها بين الفريقين، وكل منهما يتودد إلى العالم العربى والإسلامى ويود أن يكسبه إلى جانبه فذلك هو الذى يرجح إحدى الكفتين على الأخرى فى آسيا وإفريقية على الأقل، وإذا رجحت الكفة فى هاتين فقد رجحت فى أوربة كذلك.

إن دول الشرق الإسلامى قضت عليها الحوادث والظروف الماضية والحاضرة أن تتصل بالدول الديمقراطية وأن تكون إلى جانبها وأن يرتبط مستقبلها بمستقبل هذه إلى حد كبير- هذا الوضع -إلى جانب الخصومة القائمة بين المعسكرين فى أوروبا- كان يجب أن يجعل الدول الديمقراطية تسارع إلى اكتساب مودة العرب والمسلمين اكتسابا نهائيا، وأن تسد الطريق على غيرها إلى ذلك الود، وذلك فى وسعها ولا يكلفها عناء ولا عنتا، بل لا يكلفها إلا أن تحق الحق وتعترف به لأهله، وتبطل الباطل وتقاوم الذين يريدونها عليه. فهل فعلت هذا؟

العجب أن الدولتين الديمقراطيتين إنجلترا وفرنسا فعلتا عكسه تماما كأنهما تتحديان بذلك شعور العرب والمسلمين فى كل أنحاء الأرض، فأما فرنسا فقد أساءت إلى سورية أبلغ الإساءة ففصلت عنها الإسكندرونة وقدمتها إلى تركيا رغم الصرخات العالية والاحتجاجات الكثيرة والأغلبية العربية فى هذا اللواء.

وتنكرت لسورية مرة أخرى فعدلت عن إبرام المعاهدة واستبدت بالأمر فى داخلية البلاد استبدادا أدى إلى استعفاء الوزارة عدة مرات، وتعذر قيامها بمهمة الحكم، ثم أدى أخيرا إلى استقالة رئيس الجمهورية، وهذا نص استقالته التى رفعها لمجلس النواب السورى:

"إلى رياسة المجلس النيابى السورى الفخيمة":

"منحنى مجلسكم الكريم ثقته وانتخبنى فى أول جلسة عقدها لرياسة الجمهورية على أثر عقد المعاهدة وإقامة الصلات بين فرنسا وسوريا على قواعد التحالف والمودة، وذلك لإدراك هذه الأمة الغاية الشريفة التى تسعى إليها من الاستقلال والسيادة القومية.

وقد تعاقبت حكومات فى سوريا وأخذت تبذل قصارى جهدها فى سبيل إبرام العهد المقطوع والميثاق المعقود واثقة بأنه ينطوى على الخطة الوحيدة التى تعزز جانب الوطن السورى وترفع من شأنه، كما توثق الروابط بينه وبين الجمهورية الفرنسية حتى يسود علائقهما جو من الصفاء والإخلاص، وحتى تقوى هذه البلاد على مقابلة الأحداث وصد الأطماع.

غير أن الجهود التى بذلت لم تسفر عن نتيجة برغم الوعود الرسمية الصادرة من رجال الوزارات التى تعاقبت فى فرنسا منذ سنة 1936 إلى الآن، فذهبت ضياعا تلك الآمال التى توجهنا بها إلى سياسة التحالف والتضامن، وشهدنا بالعودة إلى أساليب قديمة وتجارب جديدة تناقض ما تعاهدنا عليه ودخلنا الحكم على أساسه.

على أن حوادث الماضى وقرائن الحاضر لا تترك مجالا للشك فى أن هذه الخطط التى يراد اتباعها واستئناف العمل بها تؤدى إلى استمرار المشاكل والخلافات، كما أنها تضعف كيان هذه البلاد وتوهن قواها وتهدد استقلالها.

ولذلك لا أرى بدا من الاستقالة من المنصب الذى عهدت إلى الآن فى القيام به وتحمل أعبائه، راجيا أن يكون فى الأيام المقبلة ما يخفف عنها الآلام والعناء وتحقق ما تصبو إليه من الكرامة والمجد".

وقد عرضت الاستقالة على المجلس فأقرها، ودعا الوزارة إلى الاجتماع فاجتمعت وقررت القيام بأعباء الحكم، ولكن المندوب السامى تحداها فى هذا فأصدر قرارا بتدخل السلطة الفرنسية فورا وتعطيل الدستور ومجلس الوزراء وعين مجلسا يتولى السلطة باسم فرنسا، وهذا نص قراره:

"وقد نشأ عن استقالة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية فى سوريا فقدان تام للسلطة التنفيذية، مما يجعل تدخل الدولة المنتدبة تدخلا فوريا أمرا لابد منه، وفى هذه الحالة ترى الدولة المنتدبة نفسها مضطرة إلى وقف تنفيذ الدستور فيما يتعلق بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، والنظر فى نظام مؤقت يمكن من إدارة البلاد إدارة منظمة طبيعية.

بناء على ذلك قرر المفوض السامى أن يعهد فى السلطة التنفيذية – تحت مراقبته – إلى مجلس مؤلف من مديرى مختلف المصالح الوطنية برياسة مدير الداخلية، ويؤلف مجلس المديرين بقرار من المندوب السامى ويجوز له أن يتخذ قرارات بتعيين الموظفين الملكيين، ويجوز له بناء على رأى المجلس أن يصدر مراسيم لها مفعول القوانين ولاسيما فى الشئون المتعلقة بالميزانية. وتتخذ المراسيم التشريعية بعد موافقة المندوب السامى التى تجعلها نافذة".

هذا هو موقف فرنسا فى سورية. فأما موقفها فى بقية مستعمراتها الإسلامية فعلى ما كان عليه من عسف وجور ونفى للأحرار وتعذيب للوطنين، وهؤلاء شباب المغرب وعلى رأسهم "محمد عبد الكريم" لا زالوا فى أعماق المنافى والسجون.

وأما إنجلترا فقد أخذت تتلون كالحرباء فى حل قضية فلسطين، وانتهى مجهودها وخداعها بإصدار "الكتاب الأبيض" الذى لم يرض أحدا من الأمم الإسلامية، حتى إن واحدة من الحكومات لم تشأ أن تتورط فى التوسط لدى عرب فلسطين الباسلين لقبوله.

ولم تكتف بهذا، بل أخذت جنودها تهاجم اليمن وتحتل أرضا يمانية بحتة كإقليم "شبوه" وتدعى على لسان محطات الإذاعة فيها أنها ضمن منطقة عدن المحتلة، مما أدى إلى احتجاج جلالة الإمام لدى ملك إنجلترا احتاجا صارخا هذا نصه:

"من ملك اليمن الإمام يحيى إلى صاحب الجلالة الملك الإمبراطور جورج السادس المعظم بلندن:

بعد تقديم وتأكيد الإخلاص والتعظيمات لذات عظمتكم، أعرض لجلالتكم تأثراتى العظيمة من إذاعات راديو لندن باللسان الرسمى الحكومى وادعائها أن "شبوه" ومناطقها داخلة فى الأراضى العدنية المحتلة مستندة فى ذلك إلى معاهدة سنة 1940 (كذا من أصل البرقية).

وقد كنت خاطبت جلالتكم سابقا بشأن "شبوه" ومناطقها كلها وأنه لم يكن لأحد شأن فيها فى أى وقت كان لا من قبل ولا من بعد، وكنت رجوت من عدالة جلالتكم طلب أوراق المخابرة الواقعة بشأنها من عدن للإطلاع على ما حدث من الوقائع بهذا الخصوص بين عدن واليمن، فإن ادعاء عدن بشبوه ومنطقتها مخالف لكل الوقائع وعار عن كل إثبات. فحكومتى مجبورة للاحتجاج ولا يمكن لليمن السكوت عن عمل مغاير للحق ومخالف للصداقة بكل معنى.

ومعلوم لجلالتكم أن "شبوه" ومنطقتها يمانية منذ خلق العالم إلى اليوم، وسيطرة اليمن لم تزل عليها، ولا هى افترقت يوما واحدا عن أمها اليمن، وكل قرار غير شرعى بشأنها نرده بلا شك. ولم تتعهد اليمن لدولة ولا لشخص بأن تسلمه حقوقها وملكها. وهل يمكن -يا صاحب الجلالة- بيع أو إهداء أى أرض أو زراعة ممن لا يصح تصرفه فيها؟

ومن المعلوم أن العثمانيين وغيرهم لم يدخلوا "شبوه" ومنطقتها فلم يتصرفوا بشىء فيها ومنها. وهل من المعقول والمقبول المطالبة بهدية تقدم من مالكها؟ ومن المعلوم أن جدنا الإمام الهادى هو الذى عمر الحصون قبل ألف سنة، وأن سلفنا الإمام أقام فى "شبوه". فنحن متسلسلون فى شبوه، وسكانها متعلقون بحكومتنا مع جملة إخوانهم بنى جابر.

وفى سنة 1914 ابتدأت الحرب العامة وتحاربت إنجلترا مع العثمانيين. ولم يبق للدولة العثمانية وجود فى العالم. وأما تركيا الحاضرة فلم تصل إلى اليمن ولم تعمل لليمن شيئا، فهل يمكن -يا صاحب الجلالة- أن تجيز القوانين الشرعية والمدنية العالمية الاعتداء على بلاده مستقلة واغتصابها؟

وهل يستطيع أى يمنى كان أن يرضى بتسليم أرض أجداده التى حافظوا عليها إلى هذا اليوم بدمائهم وجهودهم؟

فأرجو من عدالتكم، -يا صاحب الجلالة-، أن تنظروا إلى الأمر بعين العدل، ومعلوم جلالتكم أن عرشكم العالى وحكومتكم الجليلة عقدا برضائهما وطلبهما معاهدة الوداد والصداقة مع اليمن.

وتصرح المادة الثالثة من هذه المعاهدة بأنه لا يجوز أن يتبدل أى حال بين عدن وبين اليمن إلا بالاتفاق بين الطرفين ورضائهما وموافقتهما بالطرق الودية، وأن تبقى الحالة التى كانت قائمة فى تاريخ عقد المعاهدة نافذة المفعول فهل -يا صاحب الجلالة- يرضى عدلكم وهل ترضى القوانين الدولية والحقوق السياسية والإنسانية بعد تلك المعاهدة والشروحات المذكورة الودية وبعد مرور ست سنوات من عهدها أن يعتدى على شىء من أرضنا وحقوقنا الطبيعية؟ وهل يمكن موافقتكم على هذه الاعتداءات والتجاوزات؟

وإنى بكامل احترامى وتعظيمى لذات جلالتكم المعظمة، وبتمام تقديرى لحكومة جلالتكم السنية ولشعبكم المنصف الكريم، أرجو من جلالتكم تحقيق وتدقيق هذه المعاملة وإصدار أوامركم العادلة إلى من يلزم؛ بأن يتفضلوا باحترام حقوقنا وشعبنا بلا جرح قلوب أمتنا وبلا استحقار أصدقائكم اليمنيين الذين هم ثابتون حالا ومستقبلا فى صداقتكم، وبأن لا يكون أى إجحاف بحقوق بلادنا ولا مخاصمة بين الدولتين المتضامنتين المتحابتين المتعاهدتين إن شاء الله.

وتفضلوا -يا صاحب الجلالة- بقبول عواطف حسن نيتى وصداقتى وتقديراتى الخالصة الفائقة. فى 11 جماد الأول 1358- 29 يونيو سنة 1939."

فهل بمثل هذا الاستفزاز تريد الدول الديمقراطية أن تحصل على صداقة المسلمين والعرب؟

إن الموقف الحالى يستدعى من العالم الإسلامى أشد الاهتمام، وإن الفرصة سانحة للمسلمين والعرب لو أرادوا أن ينتهزوا.

وحضرات أصحاب الجلالة ملوك المسلمين -وبخاصة جلالة الملك فاروق والملك عبدالعزيز آل سعود وصاحب السمو الملكى الأمير عبد الإله الوصى على عرش العراق وجلالة الإمام يحيي حميد الدين- هم موضوع الرجاء فى إفادة شعوبهم من مثل هذه الحوادث، والله تبارك وتعالى سيسألهم عما استرعاهم وكل راع مسئول عن رعيته.

ومن واجب الحكومات الإسلامية أن تتفق جميعا على خطة حازمة تعلن بها إنجلترا وفرنسا فى اجتماع وفى حزم وإصرار أن تبرم المعاهدة السورية على غرار معاهدة العراق، وأن يكون بين إنجلترا وفلسطين معاهدة تستقل بها الأرض المقدسة وتظل عربية مسلمة، وأن يكفل استقلال الأوطان الإسلامية الحالية ولا يتعدى على أى جزء من أرضها.

وأن يكون بين فرنسا وتونس والمغرب معاهدات سياسية –كذلك- تكفل لهذه الشعوب المسلمة العريقة أن تصل إلى استقلالها وحريتها، فإن وافقت الحكومات الديمقراطية على ذلك فهو الخير لها وللناس، وإن أبت إلا الإصرار على هذا الموقف الظالم فليعمل المسلمون لأنفسهم وحسبهم ما فات.

لقد بدأت العراق والحجاز العمل، وقامت مفاوضات بين الحكومتين الهاشمية والسعودية، أغلب الظن أنها تناولت -فيما تناولته- هذه النواحى الحيوية للممالك الإسلامية، ولكن كل ذلك لا يكفى، فإنا نريد أن يكون الصوت إجماعيا من الحكومات الإسلامية جمعاء أو من معظمها على الأقل، وأن تكون الخطوات واضحة بينة والوسائل صريحة حازمة. وفق الله العرب والمسلمين لما فيه خيرهم وسعادتهم.

المصدر: مجلة المنار، الجزء الخامس، المجلد (35)، 1جمادى الثانية 1358ه- 18 يوليو 1939م