موقف العالم الإسلامى السياسي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
موقف العالم الإسلامى السياسي

بقلم / الإمام حسن البنا

انتهت حرب الكلام بين الدول الأوربية المتناحرة وتغيرت الأوضاع الدولية فى أوروبا، فأخفق اتفاق إنجلترا وفرنسا مع روسيا وحل محله ميثاق روسى ألمانى، وكانت مفاجأة غير منتظرة وأمر أدهش له العالم؛ أن يتفق الهر هتلر- وهو الذى بنى دعوته الأولى على مكافحة الشيوعية الروسية التى ندد بها ونال منها،

ولكن القوم فى أوروبا لا يعرفون إلا المصلحة المادية، وسرعان ما ينسون المبادئ والعقائد والأفكار مهما كانت سامية نبيلة- وتبع ذلك أن تشددت عزيمة ألمانيا فأقدمت على غزو بولونيا واجتياحها بالقوة المسلحة، وردت إنجلترا وفرنسا على ذلك بإعلان الحرب على ألمانيا وسوق الجيوش إلى الميدان الغربى؛ حيث رابطت أمام خط سيجفريد الألمانى- وكانت مفاجأة أخرى أن تقدمت روسيا بجيوشها تجتاح القسم المجاور لها من الأرض البولونية،

وبذلك تم للجيوش الألمانية والروسية أن تقضى على استقلال بولونيا وتتوزع فيما بينها أرضها وتضطر حكومتها إلى الفرار حيث تألفت فى باريس من جديد، ومهما كان من خلاف بين الروس والألمان على خط الحدود، فإن الأمر الواقع الآن أن بولونيا قد قسمت مرة أخرى بين روسيا وألمانيا، والذى نحب أن نلفت إليه أنظار الشعوب الإسلامية أن بولونيا تضم ستين ألفا من المسلمين غالبيتهم فى أنحاء "فيلنوونوجرديك"، وقد أقاموا فى بولونيا منذ القرن الخامس الميلادى، وكانت الجمهورية البولندية تسمح لهم بإقامة شعائر دينهم بتمام الحرية،

فأخلصوا لها كل الإخلاص، وحاربوا فى صفوفها، واشترك عدد كبير من ضباطهم وهم معرفون بالشجاعة والإقدام- شأن المسلم المجاهد- فى الحرب الأخيرة ودافعوا كثيرا عن المدينة المعدودة مركز الإسلام فى بولندا، وفيها يقيم المفتى الحاج الدكتور يعقوب سليمان شينكيفتش.

والآن وقد صار هذا القسم تحت حكم البلشفية الروسية، فهل تدع حكومة السوفيات المسلمين فيه يتمتعون بشعائر دينهم وحريتهم كما كانوا فى عهد الحكومة البولونية؟

أم أنهم سيعملون على بلشفتهم، ويحاربونهم فى عقائدهم، ويهدمون ما بقى لهم من مساجد ومعابد كما فعلوا بهم ذلك من قبل حين اقتسمت روسيا وألمانيا بولندا فى أواخر القرن الثامن عشر؟

من واجب الحكومات الإسلامية -وبخاصة الحكومة التركية التى هى على صلة بالروس والتى هى أقرب حكومات المسلمين إلى بولندا- أن تتحرى ذلك، وأن تعمل على حماية هذه الجالية الإسلامية الشديدة المتمسكة بدينها القديم. ولا ندرى هل تصغى حكومة تركيا إلى هذا النداء أم تعتبره شأنا إسلاميا خاصا يتنافى مع ما اختارته لنفسها من أن تكون حكومة "لا دينية"؟..

كان اجتياح بولندا سببا فى تخوف دول البلقان وفى تردد تركيا بين المعسكرين المتخاصمين؛ محور موسكو برلين تارة، ومحور فرنسا وإنجلترا تارة أخرى، ووقفت إيطاليا موقف المترقب المنتظر، ولم تحدد مواقفها تحديدا صريحا بعد، وأخذت اليابان ترقب هى الأخرى مجرى الحوادث، وأعلنت أمريكا سخطها على عمل ألمانيا، ولم تعترف بالحالة الواقعة فى بولندا الآن، واعتبرت الحكومة البولونية القائمة فى فرنسا حكومة شرعية واعترفت بها، وارتفعت صيحات بوجوب الصلح ووضع الحسام والاتفاق على ما يريح العالم من عناء الحرب. ولا ندرى ماذا ستلقاه هذه الدعوة من الإصغاء وما سيكون لها من النجاح؟

وإن كان أغلب الظن أن هذه النفوس الظمأى الداوية بالأطماع والأهواء لسوف لا يرويها إلا الدم المتفجر من البشرية الذبيحة.

ذلك هو الموقف الدولى عامة. فما موقف العالم الإسلامى خاصة؟!

لقد قدمنا أن العالم الإسلامى قضت عليه ظروف وأوضاع أن يرتبط بالدول التى تسمى نفسها ديمقراطية؛ وهى إنجلترا وفرنسا ارتباطا وثيقا، وأن تشتبك مصالحه بمصالحها اشتباكا قويا، وقد برهنت الحكومات والشعوب الإسلامية من جانبها أنها وفية لهذه المصالح، مقدرة للموقف تمام التقدير، منزهة عن العبث والكيد الرخيص والاستغلال الذى لا يتفق مع الشرف الدولى والنزاهة النبيلة، وأخذت الحكومات المتعاهدة مع إنجلترا كمصر والعراق تنفذ تعهداتها بكل إخلاص.

ومع هذا كله فإلى الآن لم تقدم الدول الديمقراطية دليلا واحدا على تقديرها لهذا الموقف النبيل من الشعوب الإسلامية، واكتفت بأن تتناولها ببعض كلمات المديح والإطراء فى الخطب والمقالات التى لا تقدم ولا تؤخر.

فسوريا الجنوبية (فلسطين) لا تزال قضيتها حيث هى لم يؤثر فيها تصريح المفتى الأكبر بالثناء على فرنسا، ولا كتابه للحاكم البريطانى ولا تصريح المجاهدين أنفسهم بأنهم لن يطعنوا إنجلترا من الخلف ولن يستغلوا اشتغالها بالحرب الأوربية فى الاتفاق مع خصومها أو التقرب إليهم.

وكان أقل مقتضيات رد الجميل فى مثل هذا الموقف أن تأمر الحكومة الإنجليزية حالا بالإفراج عن المعتقلين، والتصريح بالعودة للمبعدين، والعفو الشامل عن المسجونين، وإعادة النظر فى سياستها بالنسبة للحقوق العربية الواضحة.

وسوريا الشمالية لا يزال الأمر فيها على ما كان عليه، ولم تظفر إلى الآن من فرنسا حتى بوعد منها أنها ستعود إلى الإنصاف والعدل، بل حوكم كثير من رجالاتها، وحكم عليهم بأحكام قاسية شديدة تقبلوها راضين هادئين.

وسوريا الوسطى (لبنان) تغير فيها نظام الحكم تغيرا تاما ولو إلى حين كما يقول المندوب الفرنسى، وأوقف دستورها وحكمت حكما أجنبيا مباشرا أو ما يقرب منه.

وكان من واجب الدول الديمقراطية أن تنتهز هذه الفرصة فتعدل سياستها مع هذا القطر الشقيق، وبخاصة فرنسا التى شهدت أن أول دم أهدر على أرضها وللدفاع عن حدودها أمام خط "ماجينو" إنما كان دم المسلمين العرب من المغاربة الجزائرين والسينغاليين.

إن شعوب العالم الإسلامى قسمان: قسم تحت سلطان الحكم الأجنبى المباشر، وهذا لا يملك أمر نفسه، ولا يستطيع أن يختط لنفسه طريقا خاصا فهو تحت رحمة الأقدار. ونسأل الله أن يتداركه بلطفه ورحمته.

وقسم قد تحرر ولو بعض الحرية: فمن واجبه فى هذه الظروف العصيبة -حكومات وشعوبا- أن يكون دائم اليقظة والتنبه للحوادث والمفاجآت، فلا يتورط فى خطوات وخصومات هو فى غنى عنها ولا تعود عليه بشىء، وليلتزم الحدود التى رسمتها له الاتفاقات والمعاهدات، وعليه أن ينتهز هذه الفرصة للإسراع فى إعداد العدة، وتقوية نفسه تقوية تنفعه فى المستقبل، وتحفظ عليه كيانه واستقلاله بعد أن تضع الحرب أوزراها، وعليه كذلك أن يكون مطمئنا هادئا، فإننا إن لم نستفد من هذه الحرب القائمة فلن نخسر فيها أكثر مما يخسر غيرنا.

والصلح خير لنا والحرب ليست بضارة بنا. ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾[البقرة: 216].

المصدر: مجلة المنار، الجزء السادس، المجلد (35)، رجب 1358ه- أغسطس 1939م،