الفرق بين المراجعتين لصفحة: «من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سطر ٦٣٦: سطر ٦٣٦:
إن المفتاح الأول للنجاح في حياة الناس عموما، هو أن يكون لهم أهداف يعملون على تحقيقها فى هذه الحياة، فوجود الأهداف في الحياة يعطى الإنسان دافعية عالية،  ونشاط مميز وهمة قوية فى السير نحو تحقيق هذه الأهداف. ولهذا كان من الضرورى فى حياة كل مسلم أن يكون له أهداف مكتوبة محددة ويعمل بعد ذلك بجد على إنجازها.
إن المفتاح الأول للنجاح في حياة الناس عموما، هو أن يكون لهم أهداف يعملون على تحقيقها فى هذه الحياة، فوجود الأهداف في الحياة يعطى الإنسان دافعية عالية،  ونشاط مميز وهمة قوية فى السير نحو تحقيق هذه الأهداف. ولهذا كان من الضرورى فى حياة كل مسلم أن يكون له أهداف مكتوبة محددة ويعمل بعد ذلك بجد على إنجازها.


وإنجاز الأهداف يحتاج إلى صبر طويل وعزم أكيد حتى لا ينسى الإنسان هدفه لمجرد أن أصيب بعثرة صغيرة، ولا ما نع من الإفادة مما يضعه خبراء التدريب والتخطيط فى مجال كيفية إنجاز الأهداف ومواجهة العثرات، ومما ينصحون به فى ذلك:
وإنجاز الأهداف يحتاج إلى صبر طويل وعزم أكيد حتى لا ينسى الإنسان هدفه لمجرد أن أصيب بعثرة صغيرة، ولا ما نع من الإفادة مما يضعه خبراء التدريب والتخطيط فى مجال كيفية إنجاز الأهداف ومواجهة العثرات، ومما ينصحون به فى ذلك:


ـ ضرورة جعل العثرات خطوات نحو الهدف: فالعثرات على الطريق أمر طبيعى، ولا يتعثر الإنسان عادة إلا فى الأشياء الصغيرة قليلة الشأن، والتى تصعب أحيانا ملاحظتها، وما من إنسان إلا وتعثر بعض الشيئ فى حياته خاصة إذا كانت أهدافه عظيمة وطموحاته كبيرة، ولهذا يجب أن تدفعنا كل عثرة إلى الأمام نحو تحقيق الهدف، وهذا يعنى أن كل خطواتنا ما هى إلا مساهمة معينة فى تحقيق الأهداف حتى وإن كانت خطوات متعثرة، وقد طرحتنا الحياة أرضا  
ـ ضرورة جعل العثرات خطوات نحو الهدف: فالعثرات على الطريق أمر طبيعى، ولا يتعثر الإنسان عادة إلا فى الأشياء الصغيرة قليلة الشأن، والتى تصعب أحيانا ملاحظتها، وما من إنسان إلا وتعثر بعض الشيئ فى حياته خاصة إذا كانت أهدافه عظيمة وطموحاته كبيرة، ولهذا يجب أن تدفعنا كل عثرة إلى الأمام نحو تحقيق الهدف، وهذا يعنى أن كل خطواتنا ما هى إلا مساهمة معينة فى تحقيق الأهداف حتى وإن كانت خطوات متعثرة، وقد طرحتنا الحياة أرضا  
سطر ٦٤٦: سطر ٦٤٦:
وعلى هذا يجب ألا ننظر إلى  العثرة على أنها أمر مخيف مرعب يجب عدم الوقوع فيه، بل علينا أن نعى أنها الطريق إلى الفوز، ولا بد من العبور عليها كجسر متين للوصول إلى حقيقة النجاح، وهذا معنى المثل اليابانى الذى يقول :  "إذا تردَّيت في حفرةٍ، فلا تخرجْ منها فارغ اليدين  " . وبالتالى فإن العثرة إذا استطاع الإنسان أن يحولها إلى أمر إيجابى فى حياته، فإنها تسهم فى بناء شخصيته، وتقوية عوده، وستمنحه كثيرا من المزايا الشخصية والسلوكية ، ومنها أنه يخرج من تجربته التى تعثر فيها وهو أصلب عوداً، وأغزر خبرة، وأمضى عزيمة، وأقسى شكيمة، وأشدُّ تصميماً، وأقوى إصراراً. وإذا به في آخر الأمر، شخصا آخر وإنسانا مختلفا، أفضل حالاً مما سبق .
وعلى هذا يجب ألا ننظر إلى  العثرة على أنها أمر مخيف مرعب يجب عدم الوقوع فيه، بل علينا أن نعى أنها الطريق إلى الفوز، ولا بد من العبور عليها كجسر متين للوصول إلى حقيقة النجاح، وهذا معنى المثل اليابانى الذى يقول :  "إذا تردَّيت في حفرةٍ، فلا تخرجْ منها فارغ اليدين  " . وبالتالى فإن العثرة إذا استطاع الإنسان أن يحولها إلى أمر إيجابى فى حياته، فإنها تسهم فى بناء شخصيته، وتقوية عوده، وستمنحه كثيرا من المزايا الشخصية والسلوكية ، ومنها أنه يخرج من تجربته التى تعثر فيها وهو أصلب عوداً، وأغزر خبرة، وأمضى عزيمة، وأقسى شكيمة، وأشدُّ تصميماً، وأقوى إصراراً. وإذا به في آخر الأمر، شخصا آخر وإنسانا مختلفا، أفضل حالاً مما سبق .


ولعل هذا هو السر فى تحريم اليأس على المؤمنين والصالحين، وفتح باب الأمل أمامهم دائما للنجاح والفلاح والفوز فى الدنيا والآخرة، وهو قوله تعالى:" لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " الزمر : 53 وقوله تعالى: " وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ " يوسف 87،  
ولعل هذا هو السر فى تحريم اليأس على المؤمنين والصالحين، وفتح باب الأمل أمامهم دائما للنجاح والفلاح والفوز فى الدنيا والآخرة، وهو قوله تعالى:" لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " الزمر : 53 وقوله تعالى: " وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ " يوسف 87،
 


== السمة الحادية عشرة ==
== السمة الحادية عشرة ==

مراجعة ١٥:٤٧، ٥ أغسطس ٢٠١٠

من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين


بقلم :أ.د.محمود السد حسن داود

الأستاذ المشارك بجامعة البحرين وجامعة الأزهر


مقدمة

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

تعيش الأمة الإسلامية اليوم واقعا مريرا أظهر ضعفها الشديد وتفرق أبنائها بين الشرق والغرب، حتى فقدوا استقلالهم وحرية أخذ القرار للنهوض بأوطانهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما شخص هذه الحالة التي ترتمي فيها الأمة في أحضان أعدائها واعتبرهم أحب الأصدقاء وذلك ببعدهم عن كتاب الله ومنهجه وسنة رسول الله والاقتفاء بأثره فقد قال فيما رواه عن ثوبان: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن . فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت" [صحيح أبو داود].

لقد استطاع الغرب أن يبذر بذور الفرقة والخلاف بين أبناء الأمة المسلمة حتى أصبح حالهم حال المتناحر دائما والسعي لإبادة الضعيف والسيطرة على ثرواته، بل أصبح البعض يقف بجوار الصهاينة على حساب أبناء عقيدتهم.

إن المريض متى عرف داءه وعرف دواءه فهو جدير بأن يبادر إلى أخذ الدواء ثم يضعه على الداء حتى يطيب هذا الداء، والقرآن الكريم والسنة المظهرة خير دواء لهذه الأمة التي أمنت بالله ربا وبالإسلام ديننا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.

وفي هذا الكتب يقدم الأستاذ الدكتور محمود السيد داود تحليلا لهذا الواقع وسبل النهوض به.


وللمؤلف كتب أخرى مثل:

1-الاضطرابات والتوترات الداخلية بين خواء القانون الدولي الإنساني وثراء الفقه الإسلامي، دار النهضة العربية.

2-الصراع العربي الإسرائيلي بين النضال المسلح والتسوية السلمية: دراسة تأصيلية على ضوء القانون الدول رابطة الجامعات الإسلامية.

3-المنظمات الدولية الإسلامية: دراسة تقويمية على ضوء منهج الإسلام في وحدة العالم الإسلامي، رابطة الجامعات الإسلامية.

4-نظام الهيمنة الأمريكية والقضايا القانونية الدولية المعاصرة: دراسة مقارنة بالنظام الإسلامي، دار النهضة العربية.

5-التدابير الدولية لمكافحة الاتجار بالنساء فى القانون الدولي العام والفقه الإسلامي نسأل الله أن يجري الخير على يديه وأن يتقبل منه هذا العمل وأن ينفع به الأمة الإسلامية أنه نعم المولى ونعم النصير.


الأمة الإسلامية وحاجتها إلى النهوض

لقد عاشت الأمة الإسلامية حينا من الدهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده أيضا فى عهد الراشدين والتابعين، وكانت شيئا مذكورا، على المستوى الداخلى، حينما كان القرآن حاكما، والسنة دواء، والمسلم يتمتع بجوانب إنسانيته فى كل مكان، والناس بعضهم خدم لبعض ، لأن الأخوة بين المسلمين قائمة، وصلات الأرحام موصولة، والعلاقات القلبية وطيدة، والحب بين المسلمين عظيم، وهمهم الأكبر بيت المستقبل عند الله عز وجل والدار الآخرة .

لقد كانت الأمة شيئا مذكورا حينما كان يقول المحكوم للحاكم : لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا، ويقول له الحاكم: الحمد لله الذى يوجد فى الأمة من يقومنى بحد السيف، وحينما يقول الحاكم أيضا : أطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوى حتى آخذ الحق له.

وعلى المستوى الخارجى، كانت الأمة الإسلامية رائدة، لديها القدرة على حماية كيانها، وحماية مقدساتها وترابها، كما كانت لديها القدرة على تنفيذ مخططاتها، والرقى بنفسها، ولا تستطيع أية أمة أخرى أن تمسها بسوء، أو أن تدوس لها على طرف، فضلا عن الاعتداء عليها والتحرش بها، لقد كانت الجيوس الإسلامية كلها تتحرك لإنقاذ امرأة تقول وهى فى أقصى الأرض " وامعتصماه".

لكن الأيام اليوم قد دارت دورتها، وأصبحت الأمة الإسلامية فى مؤخرة الأمم، ودولها فى ذيل القائمة الدولية، بعدما تبدلت قوتها ضعفا، وعزها ذلا، ووحدتها تفرقا، وانتصارها هزائم. وصدق فى دولة الإسلام وما حدث لها من يقول :

ملكنا هذه الدنيا القرونا

وأخضعها جدود خالدونا

وسطرنا صحائف من ضياء

فما نسى الزمان وما نسينا

وما فتئ الزمان يدور حتى

مضى بالركب قوم آخرون

وآلمنى وآلم كل حر

سؤال الدهر أين المسلمون

نعم، إن الحقيقة المرة التى لا يختلف عليها اثنان فى مجتمعنا المعاصر، هى أن الأمة العربية والإسلامية تعيش وضعا مأساويا بين الأمم الأخرى، تعيش شيئا من التخلف والتردى أمام الدول الأخرى والسقوط من أعينهم .وقد جاء ذلك نتيجة عوامل كثيرة، منها: عدم اعتصام الأمة بكتاب ربها، وجرى أبنائها وتكالبهم على المناصب والشهوات، دون أن يهتموا بخدمة أبناء وطنهم ورعايتهم، هذا فضلا عن انقسام شمل الأمة، وجمودها في التفكير، والركون والاستسلام، عدم الشعور بالمسؤولية من قبل الحكام والمحكومين معا نحو أمتهم ووجوب النهوض بها، والتبعية العلمية والفكرية لغيرنا . إن مظاهر التخلف والتردي التي تعيشها أمتنا غير خافية، وأن أزمات التردي الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي جعل من أمتنا أمة ضعيفة مستهدفة وجعلنا من بين شعوب الأرض عالماً ثالثاً ورابعاً. ورجال الصحوة الإسلامية اليوم يحاولون جاهدين النهوض بها والخروج من بوتقة التخلف والتردي الذي تحيط بكيانها، إلا أنها مازالت تبتعد كثيراً عن هدفها المنشود وما زالت تطمح وبشدة لإعادة تاريخها ومجدها وعزتها .

ودعما للجهود التى تبذل للنهوض بأمتنا الإسلامية العريقة، أود أن يتصف شباب المسلمين عامة وشباب الصحوة الإسلامية خاصة، بعدد من السمات والخصال التى يمكن أن تساهم فى بناء النهضة الإسلامية المعاصرة، ونتابع معا أهم هذه السمات.

السمة الأولى

أن يولد فى الحياة مرتين

ـ ضرورة الولادة فى الحياة مرتين

ـ عمر بن الخطاب والولادة الثانية

ـ متى نولد الولادة الثانية ؟


من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين

ضرورة الولادة فى الحياة مرتين

جيل الإنقاذ للأمة الإسلامية ليس جيلا عاديا، فى ميلاده أو فى كل أطوار حياته، لأنه جيل لا بد أن تتوافر فيه عدد من الصفات الفريدة التى تمكنه من إنقاذ هذه الأمة، وبقدر ما لحق الأمة من ضياع وهوان وانهيار، وبقدر ما نزل بها من ذل وخسف وتخلف وانكسار، يكون مقدار هذه السمات وحجم الحاجة الحقيقية إليها، وأول هذه الصفات التى نريدها لهذا الجيل أن يولد الواحد فيه مرتين، والولادة الأولى هى الولادة التى يشترك فيها مع بنى جنسه من البشر، بل مع سائر الكائنات التى تولد، الولادة الطبيعية الفسيولوجية المعهودة، الولادة التى يستنشق بها الإنسان نسمات الحياة بعد أن نزل إلى عالم الوجود واستقبل صفحات هذا الكون المنظور، هذه الولادة توجد إلى عالم الوجود بشرا، وتخرج إلى الحياة إنسانا، وتهدى إلى المدارس طالبا، وإلى المصانع عاملا، وإلى الزراعة حارثا، وإلى الأسواق تاجرا ... وهكذا تعطى كل ألوان الحرف التى يحتاجها الناس فى دنياهم، لكنها لا تلتزم بإضافة الصلاح إلى هؤلاء البشر، فيوجد معها الإنسان غير الصالح والطالب غير الصالح والعامل غير الصالح والحارث غير الصالح وهكذا كل الصناعات والحرف اللازمة لهذه الحياة، أما الولادة الثانية، فهى ولادة لا يشترك فيها إلا أهل الصلاح من البشر، لا يملكها كل إنسان، ولا يمر بها كل واحد من الناس، إنها الولادة التى ينزل فيها قلب الإنسان على صفحات الكتاب المسطور، إنها الولادة التى يلامس فيها شغاف هذا القلب آيات القرآن الكريم ورقائقه ودقائقه، وحكمه ومواعظه، إنها الولادة التى يتنزل فيها القرآن الكريم على قلب الإنسان فيواجه بنسمات من الربانية الخالصة والروحانية الصادقة، ويشم على أثرها طيب الصلاح وعود التقوى وعطر الإخلاص، وطهر السرائر، ومسك الحياة الإسلامية الجميلة.

وما أروعها من ولاده حين يتحول معها كل عامل إلى العامل الصالح ، وكل تاجر إلى التاجر الصالح، وكل حارث إلى الحاث الصالح ، وكل إستاذ إلى الأستاذ الصالح، وكل صانع إلى الصانع الصالح ... وهكذا يوجد معها الإنسان الصالح فى كل دروب ونواحى هذه الحياة.

وأول من مر بهذه الولادة الثانية من هذه الأمة هو رسولها محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى شهر رمضان أو شهر القرآن، وقد جاء ذلك فى الحديث التى روته السيدة عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وفيه أن النبى " ... كَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ... الحديث " لقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الولادة الثانية فى غار حراء، حينما نزل على قلبه القرآن الكريم، وما ضمة الوحى له هذه المرات الثلاث التى بلغ منه فيها الجهد، إلا شيئا من مخاض الولادة وآلامها، وعلى أثرها تحول محمد صلى الله عليه وسلم من مجرد راع للغنم إلى هاد للأمم، ومن مجرد رجل فى مكة لقب بالصادق الأمين إلى رسول ونبى للناس أجمعين، ومن يتيم فى قريش يستضعفه الأقوياء والأغنياء إلى رجل يتصل برب الآرض والسماء .لقد تنزل عليه القرآن الكريم وولد الولادة الثانية .


عمر بن الخطاب والولادة الثانية

جيل الإنقاذ فى الوقت الحاضر للأمة الإسلامية لا بد أن يولد مرتين، تماما كما حدث لجيل الإنقاذ الأول الذى أنقذ البشرية والعالم أجمع فى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن النماذج الفذة التى ولدت مرتين وأسهمت إسهاما عظيما فى إنقاذ البشرية فى عصر النبوة، عمر بن الخطاب رضى الله عنه، والذى كان بميلاده الأول رجلا قاسى القلب غليظ الطبع، وقد أخذ هذه القسوة من نشأته الشديدة التى لم يعرف فيها ألوان الترف ولا مظاهر الثروة، ومن الحياة الجافة التى كان يلقاها فى رعى الغنم، وقد حدث بذلك عن نفسه حين مر بمكان معين فقال: كنت أرعى للخطاب بهذا الوادى فى مدرعة صوف، وكان فظا، يتعبنى إذا عملت، ويضربنى إذا قصرت، وكنت أرعى أحيانا وأحتطب أحيانا. وظل هكذا حتى ولد الولادة الثانية، حتى لامس القرآن شغاف قلبه، وتنزلت عليه آياته وأنواره، وخرج مرة ثانية من رحم القرآن وأعماقه، رجلا فذا وشخصية فريدة، وأنموذجا قل أن يولد مثله فى عالم الرجال .

ولقد وقعت الولادة الثانية لعمر وتنزل على قلبه القرآن الكريم، يوم أن خرج يومًا متوشحًا سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام العدوي، فقال : أين تعمد يا عمر ؟ قال : أريد أن أقتل محمدًا . قال : كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدًا ؟ فقال له عمر : ما أراك إلا قد صبوت، وتركت دينك الذي كنت عليه، قال : أفلا أدلك على العجب يا عمر ! إن أختك وخَتَنَكَ قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامرًا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها : [ سورة طه ] يقرئهما إياها ـ وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن ـ فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ الصحيفة . وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال : ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم ؟ فقالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا . قال : فلعلكما قد صبوتما . فقال له ختنه : يا عمر، أرأيت إن كان الحق في غير دينك ؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا . فجاءت أخته فرفعته عن زوجها، فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها ـ وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها ـ فقالت، وهي غضبى : يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله .

فلما يئس عمر، ورأي ما بأخته من الدم ندم واستحيا، وقال : أعطونى هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته : إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ : { بسم الله الرحمن الرحيم } فقال : أسماء طيبة طاهرة . ثم قرأ [ طه ] حتى انتهي إلى قوله : { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14] فقال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ؟ دلوني على محمد . وهكذا تنزل القرآن على قلب عمر، وتحول من رجل شديد البطش بالمسلمين إلى رجل شديد الرحمة بهم والرأفة عليهم، لقد كان من حاله قبل ولادته الثانية أنه ضرب جارية له أسلمت حتى عيت يداه، ووقع السوط من يده، فتقف إعياء، ومر أبو بكر فرآه يعذب الجارية، فاشتراها منه وأعتقها، أما بعد ولادته الثانية وبعد أن تنزل القرآن على قلبه، أو بعد نزوله هو إلى قلب القرآن، إذا به يتحول إلى رجل لا يطيق الظلم والأذى لأى إنسان، حتى وإن كان غير مسلم، وفى قصته مع ولد عمرو بن العاص حين ضرب نصرانيا من أهل مصر الدلالة الكافية على ذلك، فلقد أرسل إلى عمرو وأمره أن يقدم معه ولده، ولما حضرا، قال عمر للمصرى : خذ السوط واضرب ابن الأكرمين، وفى النهاية توجه إلى عمرو وقال له : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ ثم التفت إلى المصرى وقال له انصرف راشدا، فإن رابك ريب فاكتب إلى. وهكذا سيرة الأفذاذ من أبطال هذه الأمة الذين صنعوا أمجادها وتاريخها، لا يوجد واحد فيهم إلا وقد ولد الولادة الثانية، وتنزل على قلبه كتاب الله عز وجل .


متى نولد الولادة الثانية؟

إننا إذا أردنا للأمة الإسلامية أن تنهض من كبوتها، وأن تقوم من رقدتها، وأن تستقظ من سباتها، وأن تعود إلى سابق عهدها، لا بد أن يمر جيلنا بهذا الولادة الثانية، لا بد أن يتنزل القرآن على قلوبنا، أو أن تتنزل القلوب على كلام ربنا، لا بد أن تخرج إليه أو أن تخرج منه، أن تخرج إليه فرارا من حياتها غير القرآنية ومن صبغتها غير الإسلامية، وأن تخرج منه ولادة من أحشائه وإيجادا من رحمه وإنباتا من بذره، لا بد أن نمر بالمرحلة التى مر بها الجيل الأول من أبناء هذه الأمة، حينما كان يتنزل القرآن على قلبه فيحوله القلب إلى واقع حى ملموس، وعملى سلوكى واضح فى حياته، وهذا هو الذى رواه الإمام أحمد فى مسنده : " عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ " وبناء على هذا النهج الذى سار عليه أصحاب النبى بعد الولادة الثانية لهم وجد من أقوالهم ما يشير إلى ذلك كقول الإمام على رضى الله عنه ( تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ تُعْرَفُوا بِهِ وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ ) وقول مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ:(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا )، وقول أبى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: ( إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ )، وقول الإمام سُفْيَانُ بْن عُيَيْنَةَ : ( أَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ مَا يَعْلَمُ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ، وَأَفْضَلُ النَّاسِ أَخْشَعَهُمْ لِلَّهِ ).

إننا حين نقرأ ونتلو قول الله عز وجل : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " التوبة 119، فنتحول إلى الصدق فى الاقوال والأفعال والحركات والسكنات ، يكون القرآن قد تنزل على قلوبنا، وحين نقرأ قول الله تعالى : " وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا " 34 الإسراء ، فنسارع إلى التخلى عن خيانة العهود، ونحول هذا القول إلى سلوك عملى نابض بالوفاء لأقوالنا وعهودنا وأيماننا وتصرفاتنا وكل التزاماتنا مع الله أو مع أنفسنا أو مع الآخرين من حولنا، يكون القرآن قد تنزل حقا على قلوبنا، وحين نقرأ قول الله عز وجل : " وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا " 37 من سورة الإسراء، فنسارع إلى نبذ الكبر والتعالى على خلق الله عز وجل، ونحول هذه الكلمات إلى صورة رائعة من التواضع للمؤمنين وخفض الجناح للصالحين بل والذلة للوالدين والأقربين يكون القرآن بذلك قد تنزل على قلوبنا، وحينما نقرأ قول الله عز وجل : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " 11 من سورة الحجرات، فنسارع إلى إيجاد مجتمع راق، لا يشقى بشئ من خصال الجاهلية، بل يمتلئ المجتمع حبا وودا ولطفا، لأنه لا يسخر فيه أحد مهما علا شأنه من أحد مهما قل شأنه، رجالا أو نساء الكل فى هذه المنظومة الأخلاقية العظيمة سواء، ولا يعيب أحد أحدا ، ولا يدْعُ الواحد أخاه بما يستكره من الألقاب . بئس الذكر للمؤمنين أن يُذكروا بالفسوق والخلال النابية الذميمة بعد اتصافهم بالإيمان والأخلاق الإسلامية العظيمة، إننا حين نتحول بهذه الآيات إلى مجتمع ملائكى طاهر يكون القرآن بذلك قد تنزل على قلوبنا، ونكون بذلك أيضا قد ولدنا الولادة الثانية .

إننا حين نصل إلى هذه الدرجة نعيد للأمة الإسلامية سيرتها الأولى، فى تفاعلها مع كتاب الله عز وجل، وتحركها به، وتدبرها له، سنعيد سيرة عمر حينما كان يمر بالآية من ورده فيسقط ويعاد منها بعد ذلك أياما، وقد جاء فى ذلك عن ابن عمر أيضا أنه قال : ما رأيت عمر غضب قط فذكر الله عنده أو خوف أو قرأ عنده إنسان آية من القرآن إلا وقف عما كان يريد. وما ذلك إلا لأن القرآن قد تنزل على قلبه وولد به الولادة الثانية .


السمة الثانية

ألا يتنازل عن جوانب إنسانيته فى الحياة

ـ الجانب العقلي لإنسانية الإنسان فى الحياة

ـ الجانب الروحي لإنسانية الإنسان فى الحياة

ـ جانب الوصول إلى حد البصيرة للإنسان

ـ جانب التوبة لإنسانية الإنسان فى الحياة


من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين

الجانب العقلى لإنسانية الإنسان فى الحياة

جيل الإنقاذ للإمة الإسلامية فى وضعها المعاصر لا بد أن يتمتع كل إنسان فيه بكامل إنسانيته، لا بد أن يعيش مميزا كما أراده الله عز وجل مميزا على سائر خلقه، وصدق الله العظيم إذ يقول " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " الإسراء 70، إذ لا يمكن أن تنهض الأمة من كبوتها ورجالها لا يرضون لأنفسهم إلا بحياة فيها سمات الحيوانية أو الجمادية، ومن أهم جوانب الإنسانية التى لا ينبغى التنازل عنها فى هذا الجيل ما يلى:

ـ الجانب العقلى: فمن أعظم ما امتن الله به عز وجل على الإنسان من نعم، نعمة العقل، والتى بات مميزا بها عن الحيوانات والجمادات وكثير من خلق الله عزوجل، وانطلقت آيات القرآن الكريم كلها تدعو إلى استعمال هذا العقل فى التفكير والتأمل، والترقى فى معرفة الله عز وجل، والاتصال به والتعلق بحبله، والاطمئنان إلى قضائه وقدره، ليتميز الإنسان بهذا عن سائر الكون وهذا هو قول الله تعالى : " أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ " الروم 8 ، وقوله تعالى : " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا " النساء 82 وقوله: " أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ " الغاشية الآيات 17 : 20.

وعلى هذا فالذى لا يستخدم عقله فيما خلق له، وفيما يصلح شأنه ويوصله بربه، ويعرفه بخالق هذا الكون، يفقد جانبا كبيرا من جونب إنسانيته، ويتساوى فى حياته مع الحيوانات، بل ربما يكون أقل منها شأنا، ويكون ممن ذكرهم الله تعالى فقال " إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل "، ويكون مثله فى ذلك كمثل رجل ركب دابة، وفى الطريق استقبله صاحب وليمة كبيرة، ومائدة عظيمة عليها ما لذ وطاب من الطعام والشراب ، والمغذيات والمشهيات، وقدمه لهذه المائدة، وقدم لدابته ما يناسبها من طعام، وبعد أن أكل وشرب وانتفخ وشبع واستمتع، إذا به، ينفض يده من المائدة ويركب دابته ويخرج، دون أن يسأل عن صاحب هذه المائدة من هو ؟ ولماذا دعاه ؟ وما الهدف من هذه الدعوة ؟ ودون أن يقدم له كلمة الشكر الواجب فى مثل هذه المواطن. إن الإنسان الذى ركب دابته فى هذه الحالة تكون الدابة أفضل منه، إذ لو عقلت لكان من الممكن أن تعرف وأن تفهم وأن تشكر، وإن الذى يوجد فى هذه الحياة ، ويرى نعم الله عز وجل ممدودة بين يديه، مبسوطة تحته ومنشورة عليه، مما ملئت به الأرض والسماء ، والهواء والفضاء، والبحار والأنهار والأشجار والثمار ، ومما يتنعم به فى حسده من الأسماع والأبصار، والأيدى والأرجل ، والحس والذوق، والنطق والشم والشعور والخيال وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى، ثم لا يسأل من صاحب هذه النعم الكريمة، والموائد العظيمة، وما يريد منى ، يكون بذلك فى هذه الحياة أضل من الانعام، وقد فقد بذلك أهم جوانب إنسانيته .

فإياك إياك ايها المسلم أن تأتى إلى الحياة وتخرخ وأنت لا تعرف ربك حق المعرفة، وأنت لا تعرف ماذا يريد الله عز وجل منك، بماذا يأمرك وبماذا ينهاك، لقد كان الشغل الشاغل للصالحين من سلف هذه الأمة رجالا ونساء هو معرفة ماذا يريد الله منهم، ثم تنفيذه على أكمل وجه، ولا يتأتى ذلك إلا من عاقل بلغ أعلى درجات الإنسانية فى حياته، ومن الأمثلة لذلك، أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها فلقد تحركت وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله: إن الله بعثك للرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات، قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا لهم أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله، فالتفت رسول الله عنها بوجهه إلى أصحابه، وقال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه؟ قالوا: لا يا رسول الله. فقال: (انصرفي يا أسماء وأعلمي من وراءك من النساء: إن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته، يعدل كل ما ذكرت للرجال.


الجانب الروحي لإنسانية الإنسان فى الحياة

جوانب الإنسانية هى التى تميز بين الإنسان وغيره فى هذه الحياة ، ومن أهم جوانب الإنسانية التى لا يمكن التنازل عنها أيضا حتى يتم إنقاذ هذه الأمة وإحياء نهضتها:

ـ الجانب الروحى : إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذى نفخ الله فيه من روحه، وصارت هذه النفخة الإلهية روحا تسرى فى أوصاله، إلى أن يلقى الله عز وجل، وقد أثبت ذلك المولى سبحانه، فقال عن خلق آدم عليه السلام : " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ " الحجر الآيات 27: 31، وقد روى البيهقى فى شعب الإيمان ما يشير إلى مكانة هذه النفخة فى حياة الإنسان وتميزه بها وتفضيله بسببها على سائر الخلق، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "لما خلق الله آدم عليه السلام و ذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون و يشربون و ينحكون و يركبون فاجعل لهم الدنيا و لنا الآخرة فقال الله تبارك و تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي و نفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان"، وفى ضوء هذا كان أكمل الخلق إنسانية ، وأكرم الخلق جميعا على الله عز وجل هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد روى عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن أكرم خليقة الله تعالى على الله سبحانه أبو القاسم صلى الله عليه و سلم وهو بشر، ولما قيل له :رحمك الله فأين الملائكة ، نظر ثم ضحك فقال : و هل ما تدري ما الملائكة، إنما الملائكة خلق كخلق الأرض و خلق السماء و خلق السحاب و خلق الجبال و خلق الرياح و سائر الخلائق و إن أكرم الخلائق على الله تعالى أبو القاسم صلى الله عليه و سلم .

وعلى هذا فالإنسان لا يصير إنسانا إلا أذا أشبع فى نفسه هذا الجانب الروحى، تماما كما يشبع جانبه الجسدى ، وكما أنزل الله للجسد من السماء ماء يستمد منه الطعام والشراب لهذا الجسد، فلقد أنزل الله من السماء للروح كتابا يستمد منه سائر ألوان الأغذية التى تحتاجها هذه الروح، أما فى إنزال الماء للجسد فيقول سبحانه:" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ" النحل:10، ويقول: " وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ" الحجر:22، ويقول: "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً, لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً" الفرقان:48-49, ويقول: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ" الزمر:21.، وأما فى إنزال الكتاب للروح فيقول سبحانه: " وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" الأنعام: 155، ويقول: " وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً0" طه: 113 ، ويقول: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ " إبراهيم : 1 ويقول: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"

وكما لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عن غذاء الجسد، فإن إنسانيته لا يمكن أن تكتمل أيضا إلا بغذاء الروح، ولا يمكن للإنسان الذى يعمل على إحياء نفسه ونهضة أمته أن يستغنى عن هذا الجانب، وبقدر ما يصيبه من نقص فيه، يصاب بهزال روحى يعادل هذا النقص، وكما يذهب الإنسان إلى الطبيب عندما يصاب بهزال جسدى ويؤمر بتناول أنواع معينة من المأكولات والمشروبات، فإن الإنسان عندما يصاب بالهزال الروحى يحتاج أيضا إلى ألوان معينة من العبادات والطاعات التى أنزلها الله فى كتابه حتى تصح روحه وتكتمل إنسانيته، هذه العبادات منها ما هو لحظى كالذكر ، ومنها ماهو يومى كالصلوات ، ومنها ما هو أسبوعى كالجمعة ، ومنها ما هو سنوى كالصيام ومنها ما هو حياتى وعمرى كالحج.


جانب الوصول إلى حد البصيرة للإنسان

وإذا كان الإنسان لا تكتمل فيه الإنسانية إلا إذا فعل جانبه العقلى والروحى، وعمل على الارتقاء بهما فى مرضاة الله عز وجل، فإن الإنسانية فيه تقتضى أيضا الارتقاء بجانب آخر فى حياته، ولا يمكن للإنسان أن ينهض بأمته إلا إذا توافر لديه هذا الجانب .

ـ جانب الوصول إلى حد البصيرة: والبصيرة يمكن أن تعرف بأنها الحجة الواضحة، أو العقل الذي تظهر به المعاني والحقائق، أو البرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبسا، لكن المعنى الذى نريده هنا هو أن البصيرة هى ما تملأ القلب من نور اليقين الإيمانى، وتجعله فى إشراق دائم وشفافية عالية وإدراك تام لكل ما يدور حوله فيدركه ويقف على حقائقه وأسراره، وهى غير البصر ، فإذا كانت البصيرة نور القلب، فإن البصر هو نور العين الذى تدرك به الأمور الحسية، لكنْ هناك أمور معنوية لا تكشفها إلا البصيرة، لأنها تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك الأمور المعنوية، ولا يمتلك القلب البصيرة إلا حين يكونُ مشحوناً باليقين الإيماني.

وكما أعطى الله الإنسان نور العين ليرى بها الأشياء فيسير على هدى، بلا ارتطام ولا اصطدام، كذلك هيأ الإنسان لأن يصل إلى درجة البصيرة ليرى بها ما لا تراه العين الجارحة، وإذا كان الناس شركاء فى نور البصر تماما كما هم شركاء فى الرزق، فإنه لا يصل إلى نور البصيرة إلا من ترقى فى مدارج السالكين وفى صفوف المؤمنين، لينال هبة الله عز وجل فى قوله: " لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" الحديد: 9.

ومن هنا سمى الله عز وجل القرآن الكريم بصائر؛ لأنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله نور اليقين الذى يبصر به حقيقة الأمور غير المادية، ويكون قادرا به على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عينُ اليقين، وهذا هو قوله تعالى: "هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" الجاثية : 20 ، وقوله " قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ " الأنعام :104 ، وقوله : " قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً" الإسراء : 102 .

ولضرورة إيجاد البصيرة لإدراك حقائق الأمور والأشياء، كانت هى شرط الدعوة إلى الله عز وجل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ " يوسف : 108 ، فالدعاة إلى الله عز وجل بما عندهم من بصيرة يكونون على هدى من الله ونور، يعرفون به طريقهم، ويدركون به حقيقة وظيفتهم، فلا يتخبطون ولا يتحسسون، لأنهم على نور مبين أو صراط مستقيم .

وليست الدعوة فقط فى حاجة إلى بصيرة، بل ما أكثر الأمور التى لاتسعفنا فيها الا البصيرة، فالدواء المر الذى يترتب عليه الشفاء، تدعوك البصيرة إلى سرعة تناوله وتجرعه، رغم مرارته الأكيدة، وحرارة الشمس النازلة على مقعد السيارة، تدعوك البصيرة إلى تحملها رغم حرقتها الشديدة، إذا كانت السيارة ستدور إلى الجهة الأخرى بعد دقائق، بل إن شدائد الحياة ونكباتها وأزماتها وما فيها من ضيق وبلاء وعنت وعناء، تدعوك البصيرة بشدة إلى ضرورة تحملها والصبر عليها، رغم ثقلها وشدة وطأتها، إذا كانت الراحة الكبيرة والسعادة الغامرة سيجدها المؤمن فى آخرته .

وعلى هذا فالناهض بالأمة فى جيلنا المعاصر، لابد أن يأخذ على عاتقه ضرورة الوصول بإيمانه إلى هذه البصيرة، ما دام أن الله عز وجل قد هيأه لها، وأعده للوصول إليها، حتى يرى الأشياء على حقيقتها، ويسمى الأشياء بأسمائها، فلا يرى الظلمة نورا، ولا الطاعة فجورا، ولا يقول على الرقص الماجن فنا، ولا على الخلاعة نهضة، ولا يسمى الجهاد تطرفا، ولا التمسك بالمبادئ الإسلامية رجعية أو تخلفا، وإن قعد عن الوصول إلى هذه البصيرة مع قدرته عليها يكون قد فرط فى جزء من إنسانيته، وقطعة من كيانه وبنيته.


جانب التوبة لإنسانية الإنسان فى الحياة

وإلى جانب الجوانب السابقة لإنسانية الإنسان التى لا يجب التنازل عنها، هناك أيضا جانب آخر يتميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى ويشارك فى صنع إنسانيته وهو:

ـ جانب التوبة فى حياته: إن من أهم الجوانب فى حياة الإنسان، تمكنه من القدرة على التوبة، وهذا جانب إنسانى هام، لإن الإنسان وحده هو الذى يقوم بالتوبة حينما يريد إذا أذنب، ويقوم بالرجوع والندم على ما فعل إذا ما قصر، هو الوحيد الذى يعمل على تفعيل اسم الله " التواب " سبحانه وتعالى فى جنبات هذا الكون، وهو الذى يعمل على إظهار اسم الله " الرحمن " واسم الله " الرحيم " واسم الله " الرؤوف " واسم الله " الكريم " واسم الله تعالى " الحليم "، فكل أسماء الله سبحاته وتعالى وصفاته التى تصب فى جانب الجمال، تظهرها وتثبتها، وتعمل على جلائها توبة الإنسان من ذنوبه، ورجوعه إلى ربه، وندمه على زلاته وتقصيره. يفعل ذلك الإنسان، ويقبل الله منه توبته، فيظهر ويفعل اسم الله التواب، كما يتضح كرمه ورحمته، ولطفه وحلمه ورأفته.

الإنسان، والإنسان فقط هو الذى يظهر ذلك كله، لأن الملائكة لا تذنب ولا تعصى، فلا توجد عندها ما تتوب منه، وقد جاء فى وصفهم فى القرآن الكريم " عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " التحريم : 6، والشياطين لا تتوب من ذنوبها استكبارا، وقد حكى الله عز وجل ذلك فى قصة خلق آدم واستكبار الشيطان على ربه فقال: " إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ " ص الآيات 71 : 78 والحيوانات لا تتوب من أخطائها جهلا، ولذا فإنها لا تضمن نتائج أخطائها، وقد جاء فى ذلك ما رواه البخارى ومسلم "الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ "، ومن القواعد الفقهية التى أسست على ذلك، قاعدة " جناية العجماء جبار " أى أن ما تتلفه البهيمة وما تسببه من ضرر للناس فى النفس او فى المال يعتبر هدرا لا ضمان على صاحبها فيه، إلا إذا نشأ ذلك عن تعد منه أو تقصير.

وبذلك يتضح أن التوبة فى حياة الإنسان جزء من إنسانيته، لا يجب التفريط فيه ولا التنازل عنه، ولذا ذلل الله عز وجل للإنسان أمر التوبة، وندبه إليها وحضه عليها، وحببه فيها، وكان من أروع ما ذكره الله عز وجل بشأنها فى كتابه قوله تعالى : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ " الزمر 53، 54، وقوله سبحانه : " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون " الأعراف 201 ، وقوله سبحانه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " التحريم 6 .

بل ويثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وضوح تام وجلاء شديد أن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده المذنب فرحا شديدا، فيقول صلى الله عليه وسلم : « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِى ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ.أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ».


السمة الثالثة

أن يكون مندوب توزيع ماهر للإسلام

ـ الحاجة الماسة إلى مندوب توزيع ماهر للإسلام

ـ النبي صلى الله عليه وسلم وتوزيعه الدواء على الإنسانية

ـ فريق الإنقاذ للأمة والعالم


من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين

الحاجة الماسة إلى مندوب توزيع ماهر للإسلام

إن من أهم السمات التى نحتاجها أيضا لإنقاذ الأمة الإسلامية من رقدتها ونهضتها من غفلتها، أن يكون المسلم مندوب توزيع ماهر للإسلام، وإذا كانت شركات الأدوية فى عالمنا المعاصر، تستقطب للعمل فيها، من يستطيع توزيع دوائها ومنتجاتها بكل وسيلة، ومن يتفنن فى تسويقه وتوصيله إلى الناس، حتى تححق لنفسها ربحا ماديا مرضيا، فإن الإسلام الذى يتضمن دواء البشرية جميعا ويحمل لها شفاءها من أخبث الأمراض التى تحدق بها وتفتك بأوصالها، يكون أشد حاجة إلى هؤلاء المندوبين الموزعين من شركات الدواء فى عالمنا اليوم .

والإسلام بحق هو الشفاء الذى أنزله الله للعالم، والدواء الذى أنقذ الله به البشرية منذ بعثة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد أنقذ البشرية فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم من وأد البنات وقتلها أو دفنها فى التراب وهى حية، وأنقذها من هيامها بالخمر، وولعها بالزنا، وتفاخرها بالأنساب والأحساب، وتقاتلها بلا سبب، وظلمها الشائع، وانتقامها الذائع ، وذلك بعد أن وصلت فى الظلم والانتقام درجة بعيدة ، تعلوا كل خيال ، وتفوق كل تصور، وقد اعترفوا بأنهم بغاة ظالمون ، ففي معلقة "عمرو بن كلثوم"  :

بغاة ظالمين وما ظلمنا

ولكنا سنبدأ ظالمينا

لقد أنقذهم الإسلام من كل الموبقات، وعالج عندهم كل الشرور، وطهرهم من كل الأدران، وقدم لهم الدواء الناجع والهدى الساطع للبرء من كل الأمراض، واعتبر النبى صلى الله عليه وسلم نفسه والصحابة من حوله وكل المؤمنين به أنهم فرقة إنقاذ للعالم أجمع وللبشرية كلها، ومن هنا كانت بعثته رحمة للعالمين وشفاء للناس أجمعين، وصدق الحق إذ يقول: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"الأنبياء : 107، ويقول : " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً" الإسراء : 82، ويقول أيضا: " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً " فصلت : 44.

نعم لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم فرقة إنقاذ للعالم أجمع، لقد أيقنوا أن بأيديهم الدواء ، وأن الناس من حولهم مرضى تائهون، وغافلون وجاهلون، واستشعروا مسئوليتهم، فنهضوا يقدمون الدواء لهم، ليس لمن حولهم فى قريش وحدها، بل حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يرسل هذا الدواء أيضا إلى الأكاسرة ، والقياصرة وأمراء القوي كلها في عهده ، لقد وجه لهم الدواء من قريتة الصغيرة " مكة " أو شقيقتها " المدينة ".

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فرقة إنقاذ عادية، بل كانت فرقة إنقاذ ماهرة مدربة، تتفنن فى طريقة الإقناع به، وكيفية توصيله، وفى طريقة توزيعه وعرضه، وكان رائدهم ومعلمهم فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يأتيه المريض بعدما بلغ به المرض كل مبلغ، ويكاد أن يهلكه أو يفتك به، فيختار النبى صلى الله عليه وسلم له الطريقة المناسبة لإقناعه بالدواء، وتقديمه له، وما هى إلا لحظات بعد ذلك، حتى تحل الصحة والعافية محل الداء والمرض، ولا يتحرك المريض من أمامه إلا وهو سليم معافى ، ومن أروع ما جاء فى ذلك ما رواه الأمام أحمد فى مسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ قَالُوا مَهْ مَهْ فَقَالَ ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ فَجَلَسَ قَالَ أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ قَالَ أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ قَالَ لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.


النبي صلى الله عليه وسلم وتوزيع الدواء على الإنسانية

إذا كان الإسلام هو دواء البشرية حقا كما نطق بذلك القرآن الكريم "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ "، فإن الحاجة تكون ماسة إلى إيجاد المندوبين الموزعين المهرة لهذا الدواء، والذين يسلكون درب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القيام بهذه المهمة العظيمة، والناظر إلى حياة النبى صلى الله عليه وسلم يجد أنه قد سلك كل طريق، وقرع كل باب، فى الداخل والخارج لتوصيل هذا الدواء، إلى كل من يعانى من مرضه، ويتلوى من وجعه ويتقطع من ألمه، ممن هم فى أشد الحاجة إليه، ومن هذه الطرق والوسائل :

1- حرصه على جمع الناس ، واغتنام جمعهم ، بل والارتحال إليهم لتقديم الدواء لهم :

فكثيرا ما دعا الناس للاجتماع من أجل عرض الدواء عليهم آنا ، وكثيرا ما تردد على مجالسهم وأسواقهم آنا آخر ، وعندما كانت تضيق عليه مجالس أهله لم يتكاسل في الارتحال بدينه ودوائه، إلى بلاد أخرى ، وأقوام آخرين، وليس هناك من شيئ يشجعه في هذا السير، غير إيمانه العميق بضرورة توزيع الدواء، وأثره الناجع فى الشفاء، ولولا ذلك لقعد من أول خطوة، ذلك لأنه إذا جمع الناس ودعاهم يقال له : تبا لك يا محمد ألهذا جمعتنا" ، وإذا تردد على أسواقهم ونواديهم، ليعرض عليهم ما عنده، يقال عنه بأنه صابئ كاذب ، وإذا رحل إلى بلد آخر صده رجالها ، وسبه سفهاؤها . ويشعر بقسوة الرد ، ومرارة الصد، حتى إن السيدة عائشة رضي الله عنها تسأله : هل أتي عليك يوم أشد من يوم أُحُد ؟ فيخبرها عن اليوم الذي رحل بدينه فيه إلى الطائف – فقال "ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على " ابن عبد ياليل بن عبد كلال " أحد سادة ثقيف – فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب.

2- حرصه على إرسال البعوث الداخلية إلى القبائل لتوزيع الدواء عليهم :

وإلى جانب ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ، كان يبعث رسله إلى القبائل من حوله لنشر هذا الدواء، حتى لا يشعر أحد بأن مهمة نشره وتقديمه للناس موكول إلى الأنبياء والرسل فقط . وبناء على هذا كان إذا علم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قوما لم تصل إليهم دواء الإسلام وعلاجه، وهم في حاجة إلى من يقدمه لهم، بعث إليهم وفداً دون تردد، ولم يلبث أن يرسل وفداً آخر لقوم آخرين ..... وهكذا تتوالي الوفود ، وذلك ليبلغ الدواء إلى كل قوم ، ويصل إلى كل وجهة ، غير مبالٍ بما حدث من قتل أو تشريد لأي وفد، فإن أمر إيصال الدواء يفوق ذلك . وتقوم الوفود بأداء الرسالة ، ولا يتوانى أعضاؤها فى التضحية وإن كانت بأرواحهم . فهذا أملهم يتجلي ذلك في قول " خبيب بن عدي " ، أحد أعضاء وفد يوم الرجيع ، إلى قبائل " عضل والقارة " ساعة قتله :

وَلَسْتُ أُبَاليِ حِينَ اَقْتَلُ مُسْلِماً

عَلَى أَيَّ جَنْبٍ كَانَ فيِ الله مَصْرعَيِ

3- حرصه على إرساله البعوث الخارجية للدعاية والإعلان عن الدواء:

ولم يقف رسول الله بالدواء عند حدود الجزيرة العربية فقط، بل حرص على حمله إلى العالم الخارجي، حيث كبار الملوك من الأكاسرة والقياصرة، عاقدا العزم على على ألا يتوانى فى تقديم الدواء لكل من يستطيع الوصول إليه، فينهض بإرسال كتبه التى تحمل الدعاية والإعلان عن هذا الدواء إلى "النجاشي" عظيم الحبشة ، وإلى " هرقل " عظيم الروم ، وإلى " كسري " عظيم فارس ، وإلى " المقوقس " وإلى غيرهم، ومع أن البعض منهم قد أعرض وعاند فى قبول الإعلان والدعاية مثل "كسري" ملك فارس حيث مزق الكتاب فمرق الله ملكه ، إلا أن البعض الآخر قد زلزل من تحت قدمه لما سمع بهذا الدواء وأتاه الخبر عنه، وعرف بعض أسراره واثره، " كهرقل " حين قال عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذى بعث بهذا الدواء: " يوشك أن يملك موضع قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجمشت لُقِيّه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه ......." .


فريق الإنقاذ للأمة والعالم

إننا حين نريد أن ننهض بأمتنا من كبوتها المعاصرة، وأن نعالجها من دائها العضال الذى استشرى فى كل أجزاء جسدها، لا بد أن نعرف قيمة الدواء، ولا بد أن نوجد من أنفسنا الموزعين المهرة له، وأن نوقن بأننا فرقة إنقاذ جديدة للعالم المعاصر، كما كانت فرقة الإنقاذ فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد عاد المرض من جديد، واستفحل الداء، وعظم الخطر، وباتت الأمة الإسلامية بعد أن سطا عليها عدوها، ونهب خيراتها، وأضاع ثرواتها، ودنس مقدساتها، وكاد لها المتربصون بها، أصبحت على سرير المرض، تستغيث ولا مغيث، وتستجير ولا مجير.

إننا فى عالم الطب اليوم، نعد مهنة الطبيب رسالة إنسانية عظيمة، ونوجب عليه ألا يتأخر فى تقديم الدواء للمريض، مهما كان شأنه ومهما كان وضعه، بل حتى وإن كان عدوا فى ميدان المعركة، وعندما يمتنع الطبيب عن القيام بمهمته أو تقديم الخدمة المناسبة للمريض فى الوقت المناسب نقوم بتجريم فعله، ونقوده إلى العدالة ونطبق عليه العقوبة المناسبة، وفوق ذلك كله نحاول جاهدين أن يكون الاستشفاء مهمة قومية للدولة تقوم بها وتؤديها دون مقابل، لأن ذلك من أبسط حقوق الإنسان الصحية التى قامت من أجلها الوزارات ونشأت من أجلها المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية وغيرها، وإذا كان الأمر بهذه المثابة فى علاج أجسادنا، فكيف نسمح لأنفسنا أن نؤخر الدواء عن علاج أرواحنا، إنها جريمة نكراء قد تصل إلى حد القتل، لن يغفرها لنا القدر، ولن ينساها لنا التاريخ، ورحم الله فضيلة الشيخ محمد الغزالى حينما قال : ” نحن نرتكب جريمة قتل عمد لأننا ننتمى للإسلام ولن نحسن فهمه وعرضه والدفاع عنه، ولن يتركنا القدر حتى يقتص منا فأدركوا أنفسكم قبل أن يقتص منكم فى الدنيا أو الآخرة " .

ومن الواجب ألا يلقى كل واحد منا المسئولية فى تقديم الدواء على غيره، وأن يتحسس فى تقديمه مشاعر الناس وأحاسيسهم، حتى يقبلوا عليه بقناعة ورضا، وحتى لا يعاند أحد منهم فى رده، ورحم الله الغزالى أيضا حينما قال : " من لم يشرح لهذا الدين صدرا ويقنع به عقلا ويريد أن يقيمه بالعصا فهو قاطع طرق وليس داعية " .

إن من أهم سمات المسلم اليوم الذى يريد أن ينهض ببيته أو أهله وقومه ثم مجتمعه ودولته وأمته، أن يعد نفسه ليكون مندوب توزيع ماهر للإسلام، وليكن فى قومه كما كان ضمامة بن ثعلبة فى قومه، حينما كان من أعظم المندوبين توزيعا لهذا الدواء ويروى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما قال : بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدم علينا فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في المسجد جالس مع أصحابه فقال : أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا ابن عبد المطلب فقال : محمد، قال : نعم، قال : يا محمد إني سائلك و مغلظ عليك في المسألة فلا تجدن علي في نفسك فإني لا أجد في نفسي، قال : سل عما بدا لك قال : أنشدك الله إلهك و إله من قبلك و إله من هو كائن بعدك الله بعثك إلينا رسولا قال : اللهم نعم قال أنشدك الله إلهك و إله من قبلك و إله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئا و أن نخلع هذه الأوثان و الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون، فقال صلى الله عليه و سلم اللهم نعم، ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و فرائض الإسلام كلها ينشده عند كل فريضة كما أنشده في التي كان قبلها حتى إذا فرغ قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أنك عبده و رسوله وسأؤدي هذه الفرائض و أجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف راجعا إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ولى : إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة، و كان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين ثم أتى بعيره فأطلق عقاله حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به و هو يسب اللات والعزى فقالوا : مه يا ضمام إتق البرص و الجذام و الجنون، فقال : و يلكم إنهما و الله لا يضران و لا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا و أنزل عليه كتابا إستنفذكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله، و إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به و نهاكم عنه، فو الله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته رجل ولا امرأة إلا مسلما. قال ابن عباس رضي الله عنهما : فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه.

السمة الرابعة

-أن يكون قادرا على صناعة الذكريات الجميلة

-أهمية القدرة على صناعة الذكريات الجميلة

-أبو بكر الصديق وصناعة الذكريات الجميلة

-خديجة بنت خويلد وصناعة الذكريات الجميلة


أهمية القدرة على صناعة الذكريات الجميلة

إن من يريد أن ينهض بنفسه وأسرته أو مجتمعه وأمته لا بد أن يكون دائما قادرا على صناعة الذكريات الجميلة مع من يريد النهوض بهم، فلقد جبل الإنسان على أن يتذكر ماضيه وذكرياته، وكلما كانت الذكريات جميلة كلما دعت النفس إلى استرجاعها، والاستغراق فى تفاصيلها، وإعادة السرور بها من جديد، فنرث ونأخذ منها فى الحاضر شيئا من السرور والانشراح والطمأنينة والسعادة، ويضاف إلى هذا كله أنه يزداد تعلقنا بصاحب هذه الذكريات، فلا يغيب عن بالنا، ولا يبرح قلوبنا، ولا ينقطع ذكره على ألسنتنا، لأنه صانع هذه الذكريات، ومصدر هذه السعادة ومنبع ذلك السرور.

وفى ضوء هذا يتضح أن من أعظم الوسائل تأثيرا للأستاذ على تلميذه، والوالد على ولده، والخطيب على جمهوره، والعالم على مريديه، والمدير على عماله والطبيب على مرضاه، والرئيس على المرؤوسين والحاكم على المحكومين، هو أن يتقن كل منهم فن صناعة الذكريات الجميلة مع من له تاثير عليه، فى هذه الحالة سيزداد التعلق بهم والسير فى ركابهم والامتثال لهم والاقتداء بهم، وسيكونون ملئ السمع والبصر فى عيونهم، وسيجند هؤلاء الطلاب أو المريدين أو الجمهور أو المحكومين أنفسهم للدفاع عنهم، ونشر فضائلهم وأعمالهم. أما إن كانت الذكريات أليمة وحزينة، فإن الإنسان يحاول جهده نسيانها، والتخلص منها،وعدم التعلق بشئ يذكره بها، ويضاف إلى هذا أيضا أنه سيحمل الكره والعداء والبغضاء لأصحابها، وسيقرع سن الندم على السير معهم أو القرب منهم، أو الالتفاف حولهم .

وقد اهتم القرآن الكريم بهذا الجانب من صناعة الذكريات، فحكى لنا صورا واصحة لبعض أصحابها، منها ما يحدث فى بعض مجالس أهل الجنة حينما يتجالسون ويتساءلون، ويسردون بعض ذكرياتهم فى الدنيا، ويسائل بعضهم بعضا عنها، ويحكى أحدهم ذكرياته مع صاحب السوء، واستشعار فضل الله عز وجل عليه أن أبعده عن هذا الصاحب، ويهتم القرآن الكريم بعرض هذه الجلسة فيقول : "فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ " الصافات 50 : 57. وفى مرة أخرى يعرض القرآن الكريم صورة المسئ فى ذكرياته وأعماله، وعضه على يديه ندما على فعل هذه الذكريات فيقول :" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا " الفرقان 27:29 .

ولقد فطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الفن الجميل "صناعة الذكريات"، وكان من رواده الصحابى الجليل عبد الله بن رواحة رضى الله عنه، فلقد كان شديد الحرض على النهوض بنفسه وأصحابه بل وأمته، وكثيرا ما كان يلقى الرجل من أصحابه فيصنع معه صورة من هذه الذكريات، وقد روى فى ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعالَ نؤمن بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يرحم الله ابن رواحة إنَّه يحب المجالس التي تتباهَى بها الملائكة". وقال البيهقي بإسناده عن عطاء بن يسار: أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له: تعالَ حتى نؤمن ساعة، قال: أولسنا بمؤمنين؟ قال: بلى ولكنا نذكر الله فتزداد إيماناً. وقد روى مثل ذلك عن معاذ، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن الأسود بن هلال قال: كنا نمشي مع معاذ رضي الله عنه فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة. ألا ما أروع هذه المجالس وهذه الأعمال، وما أروعها بعد مضيها من ذكريات.


أبو بكر الصديق وصناعة الذكريات الجميلة

ومن أعظم ما يضرب به المثل فى صناعة الذكريات الجميلة من الرجال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خليفته أبو بكر الصديق رضى الله عنه، حيث سجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع ذكريات حياته، وأحسن مواقفه، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الذكر له، وكثير الدفاع عنه، وعظيم الحب له .

ومن الذكريات التى سجلها أبوبكر الصديق رضى الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفه فى إسلامه، إذ لم يجهد النبى صلى الله عليه وسلم معه قليلا أو كثيرا، ولم يكلف النبى صلى الله عليه وسلم إلا عرض فكرة دينه الذى بعث به، وعلى الفور قبلها، وفى ذلك يروى أن أبا بكر لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحقا ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آبائنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إني رسول الله ونبيه بعثني لأبلغ رسالته فأدعوك الى الله بالحق فوالله إنه للحق وأدعوك الى الله يا أبا بكر وحده لا شريك له ولا يعبد غيره، والموالاه على طاعته لأهل طاعته، وقرأ عليه القرآن، فلم ينكر وأسلم وكفر بالأصنام وخلع الأنداد وأقر بحق الاسلام، وآمن دون تردد ويسجل نفس الموقف لما أسري برسول الله وأصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه, وسعوا بذلك إلى أبي بكر, فقالوا: هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس, فقال: أو قال ذلك ؟ قالوا: نعم, قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق, قالوا فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة.

ويظل رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الذكر لهذا الموقف حافظا لهذه الذكرى الجميله، ومما جاء فى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما دعوت أحدا الى الاسلام الا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر الا أبا بكر ما عتم حين ذكرته له وما تردد فيه ، وقد أورثت هذه الذكريات حب أبى بكر الصديق فى قلب النبى صلى الله عليه وسلم، وبات على أثر ذلك دائم الدفاع عنه، كثير الذكر له، يغضب لغضبه ويفرح لفرحه .

وقد جاء فى أثر هذه الذكريات ما روى عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ :« أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ ». فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنَّهُ كَانَ بَيْنِى وَبَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ شَىْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِى فَأَبَى عَلَىَّ وَتَحَرَّزَ مِنِّى بِدَارِهِ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ : يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلاَثًا ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَ أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا لاَ فَأَقْبَلَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَنِى إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ وَوَاسَانِى بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِى صَاحِبِى ». قَالَهَا مَرَّتَيْنِ فَمَا أُوذِىَ بَعْدَهَا

ولم تكن هذه الذكريات موضع تقدير واحترام من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، بل كانت موضع تقدير الجميع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وموضوع حديثهم، ومما ولع بذكريات أبى بكر، عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وخاصة ما قدمه أبو بكر من ذكريات جميلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة، حينما خرج مع النبى صلى الله عليه وسلم وسلك به طريقا غير ممهد، وكان مرة يسير خلفه وأخرى بين يديه، ولما حفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، حمله أبو بكر حتى بلغ به إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار ثور ، ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( ما لك يا أبا بكر ؟ ) قال : لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده.

ذكريات جميلة يسجلها أبو بكر ويحفظها له التاريخ، فيظهر عمر بعد ذلك مدى توقيره واحترامه له من خلال تذكره لهذه الذكريات، ويروى فى ذلك أن رجالا على عهد عمر، تكلموا فى حقه وكأنهم فضلوا عمر على أبى بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبى بكر خير من آل عمر، وليوم من أبى بكر خير من آل عمر ! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشى ساعة بين يديه وساعة خلفه. حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر ما لك تمشى ساعة خلفي وساعة بين يدى ؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، ثم قال: انزل يا رسول الله. فنزل. ثم قال عمر: والذى نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر

خديجة بنت خويلد وصناعة الذكريات الجميلة

ومن رواد فن صناعة الذكريات من النساء أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضى الله عنها، حيث سجلت أروع ذكريات حياتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدمت أجمل مواقفها فى الوقت الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أشد الحاجة إليها، ولذا أثرت هذه الموقف فى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثيرا شديدا، لدرجة أنه كان لا يمر عليه يوم بعد وفاتها إلا وتذكرها وطيب الحديث عنها.

وشهر رمضان أو شهر القرآن بالنسة لها، كان شهر أجمل الذكريات لها على الإطلاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه الشهر الذى بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فيه عليه القرآن، وكان شيئا جديدا فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، ويحتاج إلى من يقف معه يثبته ويطمئنه ويهدئ من روعه، وكانت هى صاحبة المواقف الجميله معه بهذا الخصوص ضى الله عنها .

وقد روت هذه الذكريات أم المؤمنين عائشة حيث قالت : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فقامت خديجة وصنعت لنفسها هذا الموقف العظيم وسجلت هذه الذكرى الطيبة، فَقَالَتْ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، ولم تكتف بذلك بل َانْطَلَقَتْ بِهِ حَتَّى أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ

ويضاف إلى هذا الموقف مواقف أخرى كثيرة تسجلها خديجة فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل موقف إسلامها، ومواساتها بمالها وتجارتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظل رسول الله محتفظا بهذه الذكريات، سعيدا بها، حتى بعد موت زوجته خديجة، ومما يروى فى ذلك عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك الله خيراً منها فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: " لا والله ما أبدلني الله خيراً منها آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني في مالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء " . قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً.

ومرة أخرى تقول عائشة رضى الله عنها : "ما غرت على أحد من نساء النبى صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبى صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها فى صدائق خديجة، فربما قلت له : كأنه لم يكن فى الدنيا امرأة إلا خديجة؟! فيقول : "إنها كانت وكانت، وكان لى منها ولد" وفى رواية مسلم : "إنى قد رزقت حبها" .


السمة الخامسة

-أن يجيد فن الخدمة للناس

-إجادة فن الخدمة للناس

-عمر بن الخطاب وفن الخدمة للناس

-خدمة الناس والعمل على إسعادهم

-ضوابط فى فن خدمة الناس وإسعادهم


من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين

إجادة فن الخدمة للناس

ولا شك أن من أعظم سمات الجيل الناهض بالأمة أيضا، أن يجيد فن الخدمة للناس، والعمل على إسعادهم وراحتهم، لأن التقرب إلى رب العالمين بالبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استُجْلبِت نعمُ الله واستُدفعت نقمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه"، خاصة وأن الناس فى أحوال كثيرة ينتظرون من يقدم الخدمة لهم، حتى وإن كانت هذه الخدمة يدا حانية تمسع دموعهم أو تخفف آلامهم، أو تستر عورتهم وتقضى حاجاتهم.

ومن يتقن هذا الفن العظيم مع الناس،ويدرك أن فى شكوى الفقير ابتلاءٌ للغني، وفي انكسار الضعيف امتحان للقوي، وفي توجُّع المريض اختبار للصحيح، ويعمل فى خدمة هؤلاء جميعا، سيصيبه لا محالة عطر السعادة، وسيرقى على سلم الوصول إلى الله عز وجل، ليكون أحب الناس إلى الله عز وجل، وهذا ما أكده رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول : "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا ، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا ، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ ، شَهْرًا ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ ، أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ " .

وقد جاء فى تأكيد هذه المعانى الجميلة أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم : "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" وفى رواية أخرى: "من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه" ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة".وقوله عليه الصلاة والسلام: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة" .

ولهذا الفضل العظيم حرص الأنبياء أنفسهم صلوات الله وسلامه عليهم أن يحرزوا هذا الفضل، وأن ينالوا هذا الفخر، وأن يصلوا إلى هذا الأجر، وفى مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت ذلك السيدة خديجة فى نعته بعد أن نزل عليه الوحى وهى تهدئ من روعه، حيث ركزت على أهم ما يتصف به من خدمته للناس فقالت: " إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، وكان إذا سئل عن حاجة لم يردَّ السائل عن حاجته، يقول جابر رضي الله عنه: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا. والدنيا أقل من أن يُردَّ طالبها.

ومن الأنبياء بنى الله يوسف عليه السلام ، فعلى رغم ما فعله إخوته معه ووصولهم فى الكيد له أن فكروا فى قتله " اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِين " يوسف:9، وانتهى بهم الأمر إلى إلقائه فى الجب حتى يلتقطه بعض المارين به " قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ " يوسف 10، ومع ذلك كله لم يقصر فى خدمتهم بعد أن مكن الله له فى الأرض، فجهزهم بجهازهم ولم يبخس منهم شيئا، وفى النهاية أصدر العفو العام عنهم " قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " يوسف 92 . ومن الأنبياء الذين كانوا يجيدون فن الخدمة للناس أيضا، موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين ووجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، وإذا به يتقدم لخدمتهما، فيرفع الحجر عن البئر ويسقى لهما حتى رويت أغنامهما.

ويصل الإسلام بخدمة الناس والسعى فى مصالحهم إلى جعلها حقا من حقوق المسلم على المسلم، وأعلى درجات هذا الحق أن يقوم الإنسان بأدائه قبل السؤال وتقديمه على الحاجات الخاصة وأدنى درجاته القيام به عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة, قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره الثانية فلعله أن يكون قد نسي, فإن لم يقضها فكبر عليه واقرأ قوله تعالى: "وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ" , وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة، وكأنهم لم يفقدوا إلا شخصه, بل ربما كانوا يرون منهم ما لم يروا من أبيهم في حياته.

"عمر بن الخطاب" وفن الخدمة للناس

ومن النماذج الفذة التى تفانت فى خدمة أمتها ورعيتها، وخاصة الفقراء والضعفاء منها، للنهوض بها إلى سماء السعادة وعلياء المجد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، لدرجة أن شعاره فى هذا الجانب المضيئ من حياته قوله: " إني والله لأكون كالسراج يحرق نفسه ويضيء للناس "، وقد فطن إلى هذا الجانب فى النهوض بالأمة لأنه يعلم أن النفوس قد جبلت على حب من أحسن إليها، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها وخدمتها؛ ورحم الله من يقول :" أحسن إلى من شئت تكن أميره، ومن يقول أيضا :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

وفى ضوء هذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يتعبد لله عز وجل بخدمته لفقراء وضعفاء المسلمين، حتى وهو أمير للمؤمنين، ويقوم فى خدمة الناس ما يتعفف عنه كثير من المسلمين اليوم، بل ربما يترفع عنه كثير من القادة والمصلحين ورجال الدين، لأنه لا يقدم لهم المال فقط، ولا يشترى لهم ما يحتاجونه فقط، بل كان ينظف البيوت ويرمى القاذورات لمن لا يستطيع فعل ذلك من ضعاف المسلمين، ويروى فى ذلك أنه ذات مرة خرج في سواد الليل، فرآه طلحة، فذهب عمر، فدخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل ببابك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال طلحة لنفسه معاتبا: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع ؟.

وفى الوقت الذى كان يكتشف فيه عمر بأن بعض أصحاب الحاجات لم يستطيعوا الوصول إليه لقضاء حاجتهم، أو لرفع شكايتهم أو لطلب ما يريدون، وهو المسئول عنهم وعن تلبية حاجاتهم، لم يسعفه فى هذه الحالة إلا الهرولة نحوهم، والجرى لقضاء حاجتهم، والإسراع فى خدمتهم، ولا يهدأ من جريه وخدمته حتى يهدأون، ولا يستريح حتى يستريحون.

ومن ذلك ما حدث مع ما يعرف بأصحاب الضوء، ويروى ذلك زيد بن أسلم عن أبيه فيقول : خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال يا أسلم: إني لأرى ها هنا ركبا قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء، وكره أن يقول يا أصحاب النار، فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو فقالت: ادنو بخير أو دع، فدنا فقال: ما بالكم، قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون، قالت: الجوع، قال: فأي شيء في هذه القدر، قالت:

ما أسكتهم به حتى يناموا والله بيننا وبين عمر، فقال: أي رحمك الله وما يدري عمر بكم، قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا، قال: فأقبل علي فقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلا من دقيق وكبة من شحم، فقال: احمله علي، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك، فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول لها: ذري علي وأنا احرك لك وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها فقال: أبغيني شيئا فأتته بصحفة فأفرغها فيها ثم جعل يقول لها أطعميهم وأنا أسطح لهم فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه فجعلت تقول جزاك الله خيرا، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين فيقول قولي خيرا إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربض مربضا فقلنا له ان لنا شأنا غير هذا ولا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدأوا فقال يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت.


خدمة الناس والعمل على إسعادهم

إن من أعظم ألوان الخدمة التى يمكن أن نقدمها للناس، هى محاولة إسعادهم، وإدخال السرور على قلوبهم، وانتشالهم من أحزانهم ومصاعبهم، أو تحويل هذه الأحزان والأتراح إلى مسرات وأفراح، وتبديل الضيق والشدة إلى سرور وسعادة، وقد تعددت أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم للتركيز على هذا الجانب وتوجيه الناس إليه، ومن ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم :" إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن, وأن يفرِّج عنه غمًا, أو يقضي عنه دينًا, أو يطعمه من جوع"، وقوله : " من أدخل على أهل بيت من المسلمين سرورا لم يرض الله ثوابا دون الجنة "، وقوله : " مَن لَقيَ أخاهُ المُسلِمَ بِما يُحِبّ لِيَسُرَّهُ بِذلك ، سَرّهُ اللّهُ عزّ وجَلّ يومَ القِيامةِ” وقوله : " من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له, فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان معه فضلُ ظهر فليعُد به على من لا ظهر له, ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له".

ومن المواقف الرائعة التى طبق فيها أحد أصحاب النبى صلى الله علي وسلم هذه الأحاديث، يوم استضاف ضيفا وأراد أن يكرمه ويدخل السرور عليه وكان طعامه قليلا , فأطفأ المصباح وتصنع أنه يأكل حتى انتهى ضيفه من طعامه وشبع , وإذا بالقرآن ينزل ليسجل هذه الحادثة التى ربما تكون قليلة في أعين بعض الناس، لكنها عند الله عظيمة، وعظيمة فى ميزان المروءات والمبادىء والمعاني، لذا خلدها الله بقوله : " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ", إنهم فضلوا شبع بطن ضيفهم على شبع بطونهم , وقدموا سرور صاحبهم المسلم على سرور ذواتهم , وإن كانت ذواتهم قد نعمت بنوع آخر من السرور هو أعلى وأكبر وإدخال السرور على الناس ليس بالطعام والشراب فقط، بل ربما تكون السعادة أشد وأعظم لمجرد الإسراع بتقديم الخبر السار والبشرى الطيبة، وفى قصة الثلاثة الذين خلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك المثل البارز على ذلك، فلقد هرول أحد الصحابة رضوان الله عليهم لإدخال السرور عليهم وتقديم البشرى لهم يوم أن نزلت توبتهم من السماء، ويحكى ذلك كعب بن مالك نفسه فيقول : " .. فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِى ذَكَرَ اللَّهُ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَىَّ نَفْسِى وَضَاقَتْ عَلَىَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونِى وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَىَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَىَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ إِلَىَّ مِنَ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِى الَّذِى سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِى نَزَعَتُ ثَوْبَىَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبُشْرَاهُ وَوَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَلَقَّانِى النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِى بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَقَامَ إِلَىَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِى وَهَنَّأَنِى مَا قَامَ إِلَىَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ :« أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ». قُلْتُ : أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ :« لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ». ألا ما أعظم السعى فى إسعاد الناس وإدخال السرور عليهم، وما أحسن آثارها فى إسعاد النفس وراحة القلب .


ضوابط فى فن خدمة الناس وإسعادهم

إن العمل فى خدمة الناس وإسعادهم له بعض الضوابط التى تجعل منه فنا راقيا، وتغرس فيمن يقوم به ذوقا عاليا، ومن أهم هذه الضوابط :

ـ أن يوقن الإنسان بأن خدمة الآخرين وإسعادهم هى طريق إلى سعادته الشخصية وراحته النفسية، حتى وإن لم يفكر الآخرون فى إسعاده وخدمته وراحته : لأن الجزاء من جنس العمل، ويشير إلى ذلك حديث النبى صلى الله عليه وسلم: " ..ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة .. ". وقد يقول قائل كيف أحاول تحقيق سعادتهم وهم لا يفكرون فى سعادتى ؟ والجواب على ذلك كما يقول علماء النفس: أن عوامل صحتك وراحتك النفسية تتطلب ذلك، وسوف يعاني الآخرون ولن يتماثلوا للشفاء أيضاً إذا لم يحاولوا إسعادك، فالشخص الذى لا يحاول إسعاد الآخرين لابد أن تتكالب عليه المشكلات والأمراض فالحياة تتطلب من الفرد أن يكون عاملاً منتجاً فاعلاً ومؤثراً محباً للناس، ولذا كانت عناية الأطباء النفسيين فائقة، بعمل حملات إعلانية فى وسائل الإعلام على الشاشة تصب فى هذا المجال، حيث يقولون فيه: عامل صاحبك برفق أو عامله..بحب، و هذا الإعلان جزء من حملة هدفها أن العلاج النفسي أفضل من كل علاج طبي.. بل إن الطريق الأكيد لحياة أفضل تتحقق من خلال العناية بالآخرين ورعايتهم والاقتراب منهم.

والأعجب من هذا أنه نقل عن كلية طب جامعة هارفارد بحثاً جديداً يقول عندما ترعى مريضا، أو عندما يرعاك أحد وأنت مريض فإن مواد كيميائية تزيد فى الدم وتساعدك على مقاومة الأمراض. وبعد أية عملية جراحية فإن العناية من الأهل قبل الأطباء تجعل الجراح تلتئم...وقد أرادوا من هذه الحملة الجديدة أن الناس فى حاجة إلى كلمة طيبة، إلى حب وإلى معاملة إنسانية..بل أكثر من ذلك فإن أطباء السرطان أنفسهم ظهروا على الشاشة ليجمعوا على أن الدفاع ضد الأمراض يقوى و يتدعم فى جسد إنسان يجد حوله..من يحبونه..

ـ أن يشعر الإنسان بأن خدمته وإسعاده لصاحب الحاجة أقل بكثير مما يتفضل به صاحب الحاجة عليه: فإن الإنسان إذا تعب فى قضاء حاجة فقير أو ضعيف فى الدنيا، فإن الله يتكفل بقضاء حاجته فى الآخرة، وقضاء حوائج الآخرة تفوق حوائج الدنيا بكثير، وعلى هذا نستطيع أن نفهم قول حكيم بن حزام رضي الله عنه: "ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب" ، وأعظم من ذلك أن الصالحين رضوان الله عليهم كانوا يرون أن صاحب الحاجة منعم ومتفضل على صاحب الجاه حينما أنزل حاجته به، ويقول فى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما: "ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسَّع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليَّ إرادة التسليم عليَّ، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله" قيل: ومن هو؟ قال: "رجل نزل به أمرٌ فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي"، ولهذا كانوا لا ينظرون فى تقديم الخدمات أن تطلب منهم ، بل كانوا يسارعون إليها ويبحثون عنها قبل ذلك .

ـ أن يترك المن والأذى بعد تقديم الخدمة أو إعطاء السعادة : والمن بعد أداء الخدمة بأن يكثر الحديث عنها أمام الناس بصورة تشعر بأنه صاحب فضل على أصحاب الحاجات، أو يطلب المكافأة عليها ممن قدمها لهم وذلك بالشكر عليها أو بتقديم خدمة بديلة له، أو بتعظيمه بالمدح والثناء فى مجالسهم،أو بطلب موافقته فيما يقول وفيما يعمل للسير فى ركابه وإشعار الناس بمكانته، والأذى هو التعيير بالخدمة، أو التوبيخ أو الاستخفاف وقول السوء لمن قدمت لهم، أو تقطيب الوجه لهم وهتك سترهم، والمسلم منهى عن ذلك كله وهذا هو قول الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" البقرة:264 .

وعلى هذا فالمسلم لا يتبع عمله وخدمته بالمن أو الأذى، لأنه لا يرى أن الخدمة التي قام بها للآخرين عظيمة وكبيرة بل لا يستكثر شيئاً في هذا الميدان لأنه مهما أنفق من مال أو بذل من جهدٍ فهو لا شي‏ء بالنظر إلى ما ينتظره من العطاء والفضل الإلهي، وهو لا ينتظر في مساعدته الناس أن يبادلوه بالشكر والثناء وإنما ينتظر ما أعدّه اللَّه تعالى له من ثواب فهو في ذلك يحسن لنفسه وللآخرين.


السمة السادسة

-أن يكون مطلوبا للوظائف غير طالب لها

-مطلوب للوظائف غير طلب لها

-الإسلام وعدم استغلال الوظائف العامة

-فاقة المسئولين وحاجتهم


مطلوب للوظائف غير طالب لها

لا شك أن الوظائف عموما فى دنيا الناس وخاصة فى زمننا المعاصر تحتل أهمية بالغة، إذ هى تحدد وضع الإنسان الاجتماعي والاقتصادي، وكلما كانت الوظيفة مهمة فى حياة الناس مؤثرة فى أوضاعهم، كلما احتل صاحبها مركزا كبيرا فى مجتمعه، وحصل على راتبا مجزيا، وربما حصل عددا كبيرا من المزايا الاجتماعية والاقتصادية التى لا تتوافر لغيرها من الوظائف الأخرى، من هنا كان طلب الناس للوظائف العالية والمجزية فى هذا العصر طلبا شديدا، وحرصهم عليها كبيرا، وقد راينا بأعيننا بعض الإعلانات عن مثل هذه الوظائف، والتى يتقدم لشغلها مئات الناس، ثم قد تتراجع عنها الجهة المعلنة فلا تأخذ أحدا، ويعود كل طالب لهذه الوظيفة بخفى حنين .

والناهض بالأمة فى زماننا هذا، لا ينبغى أن يكون من بين هؤلاء الذين يجرون وراء هذه الوظائف أو المناصب، وينتهى جريهم وطلبهم لها إلى لا شيئ، بل ينبغى أن يكونوا ممن تطلبهم هذه الوظائف، بناء على أنهم مميزون فى أخلاقهم، ومميزون فى مؤهلاتهم، ومميزون فى تخصصاتهم، ومميزون فى درجاتهم وتقديراتهم، ومميزون فى أدائهم لعملهم، ومميزون فى تعاملهم مع جمهورهم، ومميزون فى التزامهم بآداب وظائفهم، مميزون فى كل شيئ ... والإنسان يستطيع أن يصل إلى هذه الدرجة من التميز بطاعته لله عز وجل فى كل شيئ أولا، ثم بجهده وسهره وعرقه وكده ثانيا، ورحم الله الإمام الشافعى حين قال :

بقدر الجد تكتسب المعالى

ومن طلب العلا سهر الليالى

ومن رام العلا من غير كد

أضاع العمر فى طلب المحال

تروم العز ثم تنام ليلا

يغوص البحر من طلب اللآلى

والإنسان حينما يكون على هذه الدرجة من التميز يكون مطلوبا لا طالبا، تطلبه الوظيفة العالية ويطلبه البيت الجميل ويطلبه الفراش الوثير وتطلبه السيارة الفارهة وتطلبه الصحبة الطيبة، وتطلبه الزوجة الطائعة، وتلكم هى القاعدة الذهبية التى أشار إليها عبد الله بن عباس رضى الله عنهما حينما قيل له بم حزت هذا العلم والفضل ؟ فقال لسائله :" ذللت طالبا فعززت مطلوبا " .

والناهض بالأمة إذا كان هذا حاله وهذه صفته مع الوظائف العامة، فينبغى أن يكون أشد تميزا من غيره، حينما يرشح للوظائف ذات المسئولية الكبيرة أو ذات الصبغة الدينية، كأن تكون الوظيفة متعلقة بإمامة الناس ووعظهم وإرشادهم، وإعطاء الدروس لهم، أو التدريس لأبنائهم وشرح أحكام الإسلام العظيمة والأخلاق الكريمة لهم. لكن مما يؤسف له فى هذه الأيام، أن الناس هم الذين يطلبون هذه الوظائف لأنفسهم ويجرون وراءها ويبذلون لها طاقتهم، ويقدمون لأجلها ما فى وسعهم، وربما يكونون غير مؤهلين لها، وكأنهم لا يعلمون بأنها من أكبر الأمانات التى تسند إليهم، وأن الله عز وجل سائلهم عما عملوا فيها وعما قدموا للناس من خلالها.

وبناء على ذلك بات واضحا فى الإسلام أن طالب الإمارة أو الوظيفة العامة لا يعطاها، خاصة إذا كان غير مؤهل لها، مهما كان وضعه ومهما كانت مكانته، ومهما كانت وجاهته، فلا يعطاها لقرابة، ولا لحسب ولا لنسب ولا لصداقة أو علاقة، وقد أرسى دعائم هذا المبدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب الأمارة ابا ذر رضى الله عنه ، وقد حكى ذلك أبو ذر نفسه فقال : نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنِي فَقَالَ "إِنَّهَا أَمَانَةٌ وَخِزْيٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا".

ويضاف إلى هذه القاعدة الإسلامية، قاعدة ربانية أخرى، وهى أن الوظيفة إن طلبها الإنسان لنفسه وكل إليها، وإن طلنته هذه الوظيفة أعين عليها، وقد جاء ذلك فى حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِى الصَّحِيحِ.


الإسلام وعدم استغلال الوظائف العامة

وإذا ما وصل الإنسان إلى وظيفته العامة والتى تعنى مجموعة من الواجبات والمسئوليات التي تتطلب تعيين موظف للقيام بها، وترتبط هذه الواجبات مع بعضها البعض لأداء عمل معين في الدوائر والمنشآت الحكومية، وأصبح بذلك كما يسميه القانونيون موظفا عاما، فإن أخطر ما يتصل بهذه الوظيفة أن يتم استغلالها استغلالا سيئا، وذلك استخدام الموظف لصلاحياته وسلطاته التي منحته إياه الوظيفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للحصول على منفعة مادية أو معنوية أو أية غاية معينة لمصلحته أو لمصلحة الغير، وذلك كقبول الرشوة بسبب الوظيفة ، وهى أخذ عطية أو منفعة أو ميزة أو وعد بشيء من ذلك، لأداء عمل من أعمال وظيفته أو الامتناع أو الإخلال بواجبات الوظيفة، أو القيام بالاختلاس وهو إخفاء الموظف أو المكلف بخدمة عامة مالاً أو متاعاً أو ورقة مثبتة لحق أو غير ذلك مما وجد بحيازته بناءً على صفته الوظيفية، أو أن يتجاوز الموظف حدود وظيفته بعدم التزامه بنطاق الصلاحيات والسلطات الممنوحة له ضمن منصبه الوظيفي زيادة أو نقصانا لتحقيق مصلحة لنفسه أو لغيره.

واستغلال الوظيفة العامة بهذا الشكل يفتح بابا كبيرا من الشرور والفساد، لأن الوظائف العامة مع هذا الاستغلال تتحول إلى سلع تباع وتشترى، ومع الاستغلال تضيع كل القيم التى تحفظ وجود المجتمع، وتنهار كل المبادئ التى تقوم عليها الأمة، ويستشرى الفساد، لأن الإنسان أصبح بذلك همه الربح بأى وسيلة كانت، حتى وإن كانت هذه الوسيلة هى الوظيفة العامة والتى تعد بمثابة البوابة الكبرى التى تمر من خلالها مصالح الناس .

وعظمة الإسلام تكمن فى حمايته العامة لهذه الوظائف، ووضعه للآليات والأحكام التى تكشف الفساد وتعريه، وتمنع من الاستمتاع بثمراته المحرمة، وتقويته للراى العام فى الدولة، وتشجيعه على الإصلاح والمساءلة بناء على قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من ناحية والتناصح والمراقبة من ناحية أخرى . والإسلام فى محاربته لهذا الفساد لا يأخذ الناس بالشبهات‏,‏ ولكنه في الوقت نفسه يقطع دابر الباطل‏,‏ ويقيم قواعد الحق‏.‏‏ فالجميع أمام القانون سواء‏,‏ الضعيف مثل القوي‏,‏ والفقير مثل الغني‏,‏ والوزير مثل أقل عامل ‏فى الدولة,‏ فالمواطن هو المواطن‏,‏ له كل ما له من حقوق‏,‏ وعليه كل ما عليه من واجبات‏.‏ وكلمة القانون تسري علي الجميع دون محاباة‏,‏ ودون مجاملة لمن يظن نفسه فوق القانون‏.‏ وهذا في حد ذاته مصدر أمن للجميع‏,‏ ومصدر طمأنينة لكل المواطنين ‏.

والناهض بالأمة الإسلامية لا بد أن يتخلص من كل صور الاستغلال للوظيفة العامة التى طلبته أو رشح إليها، وإذا ما تورط فى شيئ من هذا الاستغلال من قريب أو بعيد، بقليل أو كثير، فمن واجب السلطة محاسبته، والوقوف فى وجه هذا الفساد ومنعه، وهذا ما حدث من النبى صلى الله عليه وسلم مع عامله ابن اللتبية، وقد روى فى ذلك، أن أبا حميد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا بني ساعدة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل ابن اللتبية أحد الأزديين على صدقات بني سليم وأنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حاسبه، قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا جلست في بيت أبيك أو أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا، ثم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله تعالى، فيأتيني فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته، والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم أحد شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدا منكم ما لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى إني لأنظر إلى بياض ما تحت منكبيه، ثم قال: هل بلغت قال أبو حميد: بصرت عيناي وسمعت أذناي.


فاقة المسئولين وحاجتهم

درج الناس فى زمننا المعاصر على أن يحسدوا أصحاب الوظائف الكبيرة والمناصب العالية، والمسئوليات الضخمة، ناظرين إلى ما يتمتعون به أحيانا من رغد فى العيش، ووفرة فى المال، وبسطة فى المنصب، ووجاهة بين الناس، وعلى هذا فإن حضروا بين الناس عرفوا، وإن غابوا عن الناس افتقدوا، وإن طلعوا فرح الناس بطلعتهم، وإن طلبوا شيئا من أحد أجيبوا، وإن مرضوا وجدوا من يعودهم، وإن خطبوا المتنعمات وجدوا من يزوجهم، وهكذا يرى الناس أن الدنيا قد وضعت بين أيديهم أو تحت أقدامهم، ولهذا يحسدونهم، تماما كما كان يقول أهل قارون عن قارون " قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ " القصص 79.

لكنه النظر السطحي للأمور، والحكم السريع على القضايا، والمرور العابر على الخفايا، والنظر السطحي أو الحكم السريع أو المرور العابر، قد يحسب الورم شحما، والحصى قمحا، والمسئولون الكبار وإن ظهروا بين الناس على أنهم غير محتاجين، فإن ذلك فى الأمور البسيطة مما يتعلق بمتاع هذه الحياة، ومتاع الحياة بجوار الآخرة قليل لا يذكر وبسيط لا يحسب ومهمل لا يعد، وصدق الحق إذ يقول: " قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً " النساء : 77، أما فى الأمور العظيمة، وما يتصل بالآخرة والوقوف بين يدى الله عز وجل يوم القيامة، فإن حاجتهم هناك شديدة، وفاقتهم هناك كبيرة، وهذه نظرة أهل العلم والصلاح فى زمن قارون وفى كل زمان " وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ " القصص 80

وقد يأتى مفلسا يوم القيامة من نراه اليوم غنيا ممتلئا من وظيفته ومكانته، لأنه لم يعدل بين العاملين فى إدارته يوما، أو لأنه يقدم واحدا ويؤخر آخر لهوى شخصى عنده، أو يبتسم لواحد ويقطب جبينه لآخر دون سبب، أو لأنه يحسن إلى واحد ويسئ لاخر بلا مبرر، أو يظلم أو يجور وإن لم يشعر، فهذا على فرض قيامه بصلاته وزكاته وصومه وحجه ، إلا أنه يمكن أن يأتى مفلسا يوم القيامة .

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيان المفلس من أمته، فى الحديث الذى روى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ». قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ فَقَالَ :« إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ ».

وبناء على هذا الفهم الصحيح للأمور والنظر الدقيق للمسائل، يمكن القول بأن المسئولين هم أحوج الناس إلى رحمة الله عز وجل وإلى عفوه ومغفرته، لأنه كلما كانت الوظيفة كبيرة كلما كانت المسئولية ضخمة، وكلما كانت المظالم كثيرة والمسائل التى يكون عليها الحساب متعددة، وبالتالى يكونون هم أحوج الناس إلى العمل وتحصيل الثواب من غيرهم، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفهم حينما كان فى غزوة بدر، ووزع النبى أصحابه رضوان الله عليهم على ما معهم من إبل، حتى يتعاقبون الركوب عليها، ولم يعف النبى صلى الله عليه وسلم نفسه من المشى تارة والركوب تارة أخرى مثل بقية أصحابه، لشعوره بالحاجة إلى الأجر مثلهم، يروى ذلك عَبْد اللَّهِ ابْن مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ اثْنَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ وَثَلاَثَةً عَلَى بَعِيرٍ وَكَانَ زَمِيلَىْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلِىٌّ وَأَبُو لُبَابَةَ الأَنْصَارِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَتْ إِذَا حَانَتْ عُقْبَتُهُمَا قَالاَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْكَبْ نَمْشِى عَنْكَ قَالَ: «إِنَّكُمَا لَسْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى الْمَشْىِ مِنِّى وَلاَ أَرْغَبَ عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا ».

ويسير على نفس الهدى ونفس الفهم الناصع خليفته الصديق رضى الله عنه فلقد روى عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان أمير ربع من الأرباع. فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر الصديق: " إما أن تركب وإمَّا أن أنزل " . فقال أبو بكر: " ما أنت بنازل وما أنا براكب. أني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله " .... وإني موصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطعنَّ شجرا مثمرا، ولا تخربنَّ عامرا، ولا تعقرنَّ شاة ولا بعير إلا لمأكلة، ولا تحرقنَّ نخلا ولا تغرِّقنَّه، ولا تغلل، ولا تجبن " .


السمة السابعة

-أن يفكر فى بين المستقبل

-ضرورة التفكير فى بيت المستقبل

-بيت المستقبل وانشغال الصالحين به


من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين

ضرورة التفكير فى بيت المستقبل

كثيرا، بل دائما ما ينشغل الإنسان ببيته فى الحياة، وبيت أولاده فى المستقبل، وكثيرا ما ينفق السنوات الطوال مصحوبة بالجهد والعرق، والسهر والأرق، والغربة عن أرض الوطن، والبعد عن الأهل والأحباب والصحاب، لبناء هذا البيت وتأثيثه، ووضع أحسن الفرش فيه، وعندما يصل إلى مرحلة معينة فيه، يظن بذلك أنه قد بنى وأعد وأثث بيت المستقبل.

وفى نهاية هذه الحياة التى تمر كالبرق الخاطف أو الريح العاصف، وعندما يحل بالإنسان قضاء الله وقدره، وحينها يعرق جبينه ويتتابع أنينه، وتتهيأ الروح فى الصعود إلى بارئها سبحانه، عندئذ يكتشف الإنسان، أن بيت المستقبل ليس هو هذا البيت الذى انفق فيه سنوات عمره، وإنما بيت المستقبل الحقيقى هو ما يذهب إليه بعد موته، ذهابا لا عودة بعده، ويقيم فيه إقامة لا انتهاء لها، ويدخل فيه دخولا لا خروج بعده، إلا إلى جنة يدوم نعيمها أو نار يدوم شقاؤها.

ولذا كان الصالحون رضوان الله عليهم كثيرا ما يوازنون بين بيوت الدنيا وبيوت الآخرة، وينتهون من هذه الموازنة إلى أن بيت المستقبل الحقيقى إنما هو بيت الآخرة، هو الذى يجب العمل له، وهو الذى يجب تزينه وزخرفته، وهو الذى يجب فرشه وتأثيثه، لأن الدوام معه، ولأن البقاء فيه، ولهذا ورد أن ابن المطيع بنى داراً، ولما سكنها بكى ثم قال: والله لولا الموت.. لكنت بكِ مسروراً ، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرَّت أعيننا بالدنيا، ثم بكى بكاءً شديداً حتى ارتفع صوته .وكان يقول عبد الله بن العيزار : لا بدَّ لابن آدم من بيتين : بيت على ظهر الأرض ، وبيت في بطن الأرض .. فعمد ابن آدم إلى الذي على الأرض فزخرفه وزينه ، وجعل فيه أبواباً للشمال، وأبواباً للجنوب ، ووضع فيه ما يصلحه لصيفه وشتائه .. ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فخرَّبه ودمَّره .. ثم أتى عليه آت فقال : أرأيت هذا البيت ! أرأيت هذا البيت الذي أراك قد أصلحته ..كم تقيم فيه ؟ قال : لا أدري ، قال : فهذا الذي خربته كم تقيم فيه ؟ قال : هنا مقامي ، فقال: تقرّ بهذا... تقرّ بهذا وتدّعي أنك عاقل.

ولهذه الحقيقة التى غفل عنها الكثير من الناس ، كان توجيه النبى صلى الله عليه وسلم دائما بضرورة الإعداد لبيت المستقبل الحقيقى، وتوجيه الجهود نحو فرشه واثاثه، ومن ذلك ما روى عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى جِنَازَةٍ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ جَثَا عَلَى الْقَبْرِ فَاسْتَدَرْتُ فَاسْتَقْبَلْتُهُ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى ثُمَّ قَالَ :« إِخْوَانِى لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا ».

وكثيرا ما كان يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ينتظر الغافل فيه، والذى لم يهتم به، أو يفكر فيه، ومن ذلك ما روى عن أبي هريرة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة فجلس إلى قبر منها فقال:" ما يأتي على هذا القبر من يوم إلا وهو ينادي بصوت طلق زلق، يا بن آدم كيف نسيتني ألم تعلم أني بيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الوحشة وبيت الدود وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه. ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" .

وعن أنس أن أسود كان ينظف المسجد فمات فدفن ليلا وأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر فقال انطلقوا إلى قبره فقال إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله عز وجل ينورها بصلاتي عليها فأتى القبر فصلى عليه ، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على صبي أو صبية، ثم قال: لو نجا أحد من ضيقة او ضغطة القبر لنجا هذا الصبى، وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي على هذا، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما رأيت منظرا إلا القبر أفظع منه ".

نعم إنه بيت فظيع لما فيه من وحشة وظلمة وشدة وضيق ،ولما فيه من هوام وديدان، وأشد ما فيه ما أعده الله عز وجل للعصاة؟ وأفظع لياليه الليلة الأولى فيه، فهى ليلة شديدة، بكى منها العلماء..وشكى منها الحكماء ..وشمر لها الصالحون الأتقياء..

لكن الذى يفكر فيه فى دنياه، ويعمره قبل أن يذهب إليه يتحول له إلى روضة من رياض الجنان، ويلقى فيه ما يسره من الإكرام والإحسان ورحم الله أسيد بن عبدالرحمن أنه كان يقول :" بلغني أن المؤمن إذا مات فحمل قال:أسرعوا بي, فإذا وضع في لحده..كلمته الأرض فقالت: كنت أحبك وأنت على ظهري,فأنت الآن أحب إلي في بطني.. وإذا مات الكافر فحمل قال:ارجعوا بي..فإذا وضع في لحده كلمته الأرض فقالت:كنت أبغضك وأنت على ظهري, فأنت الآن أبغض إلي في بطني.." .


بيت المستقبل وانشغال الصالحين به

إن الناهض بنفسه أولا وبمن حوله ثانيا، لا يمكن أن ينشغل انشغالا حقيقيا بسفاسف الأمور وأحقرها، ولا يمكن أن يقف فى الدنيا عند المشاحنات والمطاحنات، ولا يضيع وقته فى حربه لإنسان وكراهيته لآخر، إن الناهض بنفسه وأمته ينشغل بمعالى الأمور، وإذا كان قبره هو بيت المستقبل الحقيقى، فسيوجه له كل العمل، ويوقف عليه أهم لحظات الفكر، لأن النجاة الحقيقة فيه، والفوز الحقيقى به، وما دونه من نجاح وفوز مجاز لا حقيقة، كما أن البيوت من دون القبر صور واشباح وخيالات.

وبناء على هذا كان انشغال أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم بهذا المستقبل الأبدى، بالقبر وتجهيز أنفسهم له، وكيفية الذهاب إليه، وما يمكن أن يعدونه لهذا المضجع، ويمكن أن نلتقط بعض صورهم فى الانشغال بذلك فيما يلى :

ـ انشغال أبى هريرة بكيفية الذهاب به إلى قبره: ويروى فى ذلك أن أبا هريرة لما حضرته الوفاة قال: لا تضربوا علي فسطاطا ولا تتبعوني بنار وأسرعوا بي إسراعا فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا وضع الرجل الصالح أو المؤمن على سريره قال: قدموني، وإذا وضع الكافر أو الفاجر على سريره قال: يا ويلتي أين تذهبون بي.

ـ انشغال فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيفية تجهيزها للزفاف إلى بيت المستقبل: ويروى فى ذلك أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ : يَا أَسْمَاءُ إِنِّى قَدِ اسْتَقْبَحْتُ مَا يُصْنَعُ بِالنِّسَاءِ إِنَّهُ يُطْرَحُ عَلَى الْمَرْأَةِ الثَّوْبُ فَيَصِفُهَا. فَقَالَتْ أَسْمَاءُ : يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلاَ أُرِيكِ شَيْئًا رَأَيْتُهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَدَعَتْ بِجَرَائِدَ رَطْبَةٍ فَحَنَتْهَا ، ثُمَّ طَرَحَتْ عَلَيْهَا ثَوْبًا. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا : مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ يُعْرَفُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَاغْسِلِينِى أَنْتِ وَعَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلاَ تُدْخِلِى عَلَىَّ أَحَدًا فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا جَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا تَدْخُلُ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ : لاَ تَدْخُلِى فَشَكَتْ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَتْ : إِنَّ هَذِهِ الْخَثْعَمِيَّةَ تَحُولُ بَيْنِى وَبَيْنَ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ جَعَلَتْ لَهَا مِثْلَ هَوْدَجِ الْعَرُوسِ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَقَالَ : يَا أَسْمَاءُ مَا حَمَلَكِ أَنْ مَنَعْتِ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلْنَ عَلَى ابْنَةِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَعَلْتِ لَهَا مِثْلَ هَوْدَجِ الْعَرُوسِ . فَقَالَتْ : أَمَرَتْنِى أَنْ لاَ تُدْخِلِى عَلَىَّ أَحَدًا وَأُرِيتَهَا هَذَا الَّذِى صَنَعْتُ وَهِىَ حَيَّةٌ فَأَمَرَتْنِى أَنْ أَصْنَعَ ذَلِكَ لَهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : فَاصْنَعِى مَا أَمَرَتْكِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَغَسَلَهَا عَلِىٌّ وَأَسْمَاءُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا

ـ انشغال والد عبد الله بن عمرو بتجهيزه للقبر : ويروى فى ذلك أن عبد الله بن عمرو حدث أن أباه أوصاه قال: يا بني إذا مت فاغسلني غسلة بالماء ثم جففني في ثوب، ثم اغسلني الثانية بماء قراح ثم جففني في ثوب، ثم اغسلني الثالثة بماء فيه شيء من الكافور ثم جففني في ثوب، ثم إذا ألبستني الثياب فأزر علي فإني مخاصم، ثم إذا أنت حملتني على السرير فامش بي مشيا بين المشيتين وكن خلف الجنازة فإن مقدمها للملائكة وخلفها لبني آدم، فإذا أنت وضعتني في القبر فسن علي التراب سنا.

ـ انشغال عمر ابن عبد العزيز بما سيصير إليه فى القبر : ويروى أن محمد بن كعب القرظي قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز في خلافته فجعلت أديم النظر إليه فقال: يا بن كعب إنك لتنظر إلي نظرا لم تكن تنظره إلي بالمدينة. قال قلت: أجل يا أمير المؤمنين، إنه ليعجبني ما أرى مما قد نحل من جسمك وعفا من شعرك وحال من لونك. فقال عمر: فكيف لو قد رأيتني بعد ثلاثة في القبر وقد خرج الدود من منخري وسالت حدقتي على وجنتي فأنت حينئذ أشد نكرة.

ـ الانشغال بالإعداد للمضجع فى القبر: ويروى فى ذلك أن بكار بن الصقر قال: رأيت الحسن جالسا على قبر أبي رجاء العطاردي حيال اللحد وقد مد على القبر ثوب أبيض فلم يغيره ولم ينكره حتى فرغ من القبر والفرزدق قاعد قبالته، فقال الفرزدق: يا أبا سعيد تدري ما يقول هؤلاء؟ قال: لا، وما يقولون يا أبا فراس؟ قال: يقولون: قعد على هذا القبر اليوم خير أهل البصرة وشر أهل البصرة، قال: ومن يعنون بذاك؟ قال: يعنوني وإياك، فقال الحسن: يا أبا فراس لست بخير أهل البصرة ولست بشرها ولكن أخبرني ما أعددت لهذا المضجع، وأومأ بيده إلى اللحد، قال: الخير الكثير أعددت يا أبا سعيد، قال: وما هو؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، قال الحسن: الخير الكثير أعددت يا أبا فراس.

ورحم الله من يقول :

أرى أهل القصور إذا أميتوا

بنوا فوق المقابر بالصخور

لعمرك لو كشفت الترب عنهم

فما تدري الغني من الفقير

ولا الجلد المباشر ثوب صوف

من الجلد المباشر للحرير

إذا أكل الثرى هذا وهذا

فما فضل الغني على الفقير


السمة الثامنة

-أن يستعصى على الظروف ويعتذر للأعذار

-أهمية الاستعصاء على الظروف والاعتذار للأعذار

-أبو بكر الصديق واستعصاؤه على الظروف

-سعد بن أبى وقاص واستعصاؤه على الظروف

-عبد الله بن حذافة واعتذاره للأعذار


من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين

أهمية الاستعصاء على الظروف والاعتذار للأعذار

إن الناهض بالأمة لا يستطيع أن يستريح أو ينام، ما دامت الأمة فى حاجة ماسة إلى عمله ويقظته، أو كانت الأمة جريحة او مريضة، يستذلها ويستعبدها غيرها من الأمم، فى هذه الحالة لا يمكن له أن يستسلم للظروف أو أن يتعلل بالأعذار، أو أن يتهيب من صعوبات الحياة وكدرها، وعقباتها ومشاكلها، لأنها كثيرة ولا تنتهى، وصدق من يقول :

جبلت على كدر وأنت تريدها

صفوا من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها

متطلب فى الماء جذوة نار

فى مثل هذه الحالة لا بد أن يستقبل كل همام فى الأمة الإسلامية أمر السماء بجد واقتدار، وان يسمع لله عز وجل كما سمع له الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة معه، قول الله تعالى " قُمْ فَأَنذِرْ" المدثر:2، وأن يشعر بأن الأمر عظيم والعبء ثقيل، وأنه لا بد له من أن ينهض للجهد والنصب والكد والتعب، فقد مضى وقت النوم والراحة.

لقد كان نداء عظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيظل نداء لكل همام فى الأمة بأسرها، نداء ينتزعه من دفء الفراش , في البيت الهادئ والحضن الدافئ . ليدفع به في الخضم , بين الزعازع والأنواء , وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء . لأن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا , ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم ? وماله والراحة? وماله والفراش الدافئ , والعيش الهادئ ? والمتاع المريح ?!

ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة هذا النداء وقدره حق قدره , فقال لخديجة - رضي الله عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام: " مضى عهد النوم يا خديجة "، نعم ، ونحن فى زمننا يجب أن نسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس الكلمة، لقد مضى عهد النوم يارسول الله، ولم يبق إلا الجد والعمل،والسهر والتعب والجهاد الطويل الشاق، حتى تستعيد الأمة ريادتها، وتأخذ بين أمم الدنيا مكانتها، ويشعر الناس فى كل مكان أنها بحق خير أمة أخرجت للناس، وأنها ـ كما قال ربعى بن عامر ـ أمة مبعوثة، أخرجها الله إلى الوجود إخراجا، لتأخذ بأيدى الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

والمسلم الصحيح هو الذى يتجه نحو هذا الهدف، لا يثنيه عنه شيئ، ولا يقعده عن الوصول إليه ظرف أو عذر، لأنه يتعالى فوق الظروف ويعتذر للأعذار، وإن تآمر عليه المتآمرون وكاد له الكائدون، وتربص به المتربصون.

ومثله الأعلى فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تآمر عليه المشركون، فمشَوا إلى عمه أبي طالب، وقالوا: يا أبا طالب إن لك فينا سِنّاً وشرفاً، وإنا قد استنهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم تفعل، وإنا -والله- لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك؛ إلى أن يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.

ولقد عظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له، وفى نفس الوقت لم تطب نفسه بإسلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وخذلانه، فبعث إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأعلمه ما قالت قريش وقال له: أبقِ على نفسك وعلي، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه رأي، وأنه خذله وضعف عن نصرته، فإذا برسول الله صلوات الله وسلامه عليه يستعصى على هذه الظروف، ويتسامى فوقها، ويقول: يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلما ولَّى ناداه عمه أبو طالب فأقبل عليه وقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً، وأنشد:

والله لن يصلوا إليك بجَمْعِهِم

حتى أُوَسَّدَ في التراب دفينًا

فاصدع بأمرك ما عليك غَضَاضَة

وابْشِرْ وقَرَّ بذاك منك عيونًا


أبو بكر الصديق واستعصاؤه على الظروف

إن الأمة إذا مرت بحالة من الضعف أو الهوان، لابد أن يستأسد رجالها، فى الدفاع عنها، والذب عن حياضها، والعمل لاسترجاع كرامتها ومكانتها، ولقد مرت الأمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثل هذه الحالة لأن الوضع كما جاء فى الكامل لابن الأثير: أن العرب ارتدت إما عامة أو خاصةً من كل قبيلة، وظهر النفاق، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبيهم وقلتهم، وكثرة عدوهم.

وبقى المسلمون وعلى رأسهم أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يدرون ماذا يصنعون بعد وفاة نبيهم وارتداد الكثير من جزيرة العرب، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنفاذ جيس أسامة بن زيد إلى الشام، فقال الناس لأبي بكر : إن جيش أسامة جند المسلمين والعرب قد انتقضت بك، فلا ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين

فماذا يصنع أبو بكر ؟ لقد شعر باعتراض الناس على انفاذ بعث أسامة وعلى إمارته لصغر سنه، غير أن رسول الله كان يشدد في إرسال جيش أسامة وقد أخذ أبو بكر عهدا على نفسه بأن لا يعصي الله ورسوله. فهل يخالف أمر رسول الله ؟ كلا فإن ذلك ليس من طبيعته ولا من خلقه، وإنما خلقه الثبات إلى آخر لحظة والاستعصاء على الظروف والاعتذار للأعذار، وتنفيذ أوامر رسول الله بكل دقة في كل كبيرة وصغيرة مهما كلفه ذلك، لقوة إيمانه وثبات يقينه وعملا بواجب الصداقة . لهذا قام وخاطب الناس وأمرهم بالتجهز للغزو وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف، فخرجوا كما أمرهم، وجيش أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا كالسياج حول قبائلهم، وهم قليل.

ولما خرج الجيش إلى المعسكر بالجرف وتكاملوا أرسل أسامة عمر بن الخطاب ـ وكان معه في جيشه ـ إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال: إن معي وجوه الناس وحدهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون. وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب: إن أبا بكر خليفة رسول الله، فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة.

فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر فأخبره بما قال أسامة. فإذا بأبى بكر ينتفض ويثبت استعصاءه على الظروف ويقول: " لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنقذته كما أمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أرد قضاء قضى به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنقذته". قال عمر: فإن الأنصار تطلب إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة. فوثب أبو بكر، وكان جالساً، وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أعزله؟ فخرج عمر إلى الناس بعد أن سمع ما سمع ورأى من أبي بكر ما رأى . فقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : امضوا ثكلتكم أمهاتكم، لقد لقيت كثيرا بسببكم من خليفة رسول الله . ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم وشيعهم وهو ماشٍ وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن! فقال: "والله لا نزلت ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعةً في سبيل الله! فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له، وسبعمائة سيئة تمحى عنه".

فلما أراد أن يرجع قال لأسامة: إن رأيت أن تعينني بعمرٍ فافعل، فأذن له، ثم وصاهم فقال: لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله.


سعد بن أبى وقاص واستعصاؤه على الظروف

إن المبادئ التى تعلى هامة الأمم، وتعظم من مقادير الرجال، وتدفع إلى العلياء والمجد، تستحق من أهلها الثبات عليها، وبذل كل شيء فى سبيلها، واستصغار التعب والجهد من أجلها، وأن يستعصى الإنسان بسببها على الظروف والأحوال، وهذا هو المبدأ الذى غرسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طليعة هذه الأمة فى صحابته رضوان الله عليهم، وذلك من خلال ما قاله لخبات بعدما جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم هو وبعض إخوانه، وشكوا للنبى قائلين: أَلاَ تَسْتَنْصِرْ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ « قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ ».

وكان من أبرز هذه الطليعة فى ثباته على مبدئه واستعصائه على ظروفه وأحواله، الصحابى الجليل سعد بن أبى وقاص، فلقد أبت الظروف بعد إسلامه إلا أن تشتد عليه، وتضيق الخناق حول عنقه، حتى يرضخ لها، ويستسلم لمرها، وذلكم حينما تعرض للفتنة من قبل والدته الكافرة، فامتنعت عن الطعام والشراب، حتى يعود إلى دينها.يحكى ذلك بنفسه ويقول: كنت رجلاً برًا بأمي فلما أسلمتُ قالت: يا سعد: ما هذا الدين الذين أراك قد أحدثت، لتدعنَّ دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني لشيء، فعلت هذا أمه بعدما أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل الله عز وجل، ولجأت الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه الى وثنية أهله وذويه..

لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب، حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه، ومضت في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام والشراب حتى أوشكت على الهلاك.. كل ذلك وسعد لا يبالي، ولا يبيع إيمانه ودينه بشيء، حتى ولو يكون هذا الشيء حياة أمه..

وحين كانت تشرف على الموت، أخذه بعض أهله اليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة الموت..وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر.. بيد أن إيمانه بالله ورسوله كان قد تفوّق على كل شيئ واستعصى على كل الظروف، فاقترب بوجهه من وجه أمه، وصاح بها لتسمعه قائلا:

" تعلمين والله يا أمّه.. لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء..فكلي إن شئت أو لا تأكلي"..!! وعدلت أمه عن عزمها، ورضخت الظروف لإرادة سعد واستسلمت له بدلا من أن يرضخ لها ويستسلم .

وروى مسلم: أن مما فعلته أم سعد، أنها حلفت ألا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، وقالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غَشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له: عُمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم هذه الآية: " وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " لقمان: 15

قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أوجروها، فمحنة سعد محنة عظيمة، وموقفه موقف فذ يدل على مدى تغلغل الإيمان في قلبه، وأنه لا يقبل فيه مساومة مهما كانت النتيجة، ولا يستسلم للظروف مهما كانت الأمور.


"عبد الله بن حذافة" واعتذاره للأعذار

من المعروف شرعا أن الإسلام الحنيف يتميز بمراعاته لأعذار الناس، وصارت تلك قاعدته التى يقيم عليها كثيرا من الأحكام، وتشير إلى يسره وسماحته، التى يعامل على أساسها المسلمون، ومن مراعاته للأعذار أنه يجيز للمريض الفطر فى رمضان مراعاة لعذر المرض ، ويجيز للمسافر قصر الصلاة وجمعها مراعاة لعذر السفر، كما يجيز لمن أكره على كلمة الكفر أن يقولها ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان، مراعاة لعذر الإكراه، وهذا هو قوله تعالى :" إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ " النحل : 106، وقول النبى صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

لكن الناهض بالأمة لا يتعلل بالأعذار، بل يعتذر هو لها، ويتسامى فوقها، ويأبى إلا أن يضرب المثل، فى تفانيه للإسلام واعتزازه بعزائمه، ومن أروع الأمثلة فى ذلك، ما حدث من الصحابى الجليل " عبد الله بن حذافة " رضى الله عنه، في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حينما أرسل القوات الإسلامية لتضرب طاغوت الروم الذي هدد دولة الإسلام، و عندما وصلت القوات الإسلامية و دارت المعارك أسر هرقل حاكم الروم، الصحابي الجليل " عبد الله بن حذافة "رضي الله عنه مع جماعة من أصحابه المسلمين و أراد أن يجبره على الكفر فأوقفه أمامه في دار الملك ودار بين الطاغية حاكم الروم و بين الصحابي عبد الله بن حذافة حوار، فقال هرقل: يا عبد الله تتنصر و أعطيك نصف ملكي. فقال عبد الله بن حذافة رضي الله عنه : يا هرقل والله لو عرضت علي الدنيا كلها على أن أترك دين محمد ما تركته، فقال هرقل: يا عبد الله إن لم تتنصر فسوف أعذبك العذاب الأليم.

فقال عبد الله بن حذافة: افعل ما تشاء فإنما تعذب بدناً فانياً وجسداً مولياً ، أما الروح فلا يملكها إلا لله، فأمر هرقل أن يصلب على صليب و أن يضرب بالسهام في يديه و رجليه و في غير مقتل حتى يعذب العذاب الأليم، و صلب و رمي بالسهام، و كلما أصابه سهم قال : لا إله إلا الله . قال هرقل: أنزلوه، فأنزلوه، فغلي له ماء في قدر حتى كاد الإناء أن يحترق من شدة الغليان و قال له: يا عبد الله إما أن تنتصر و إما أن نلقي بك في هذا الماء و إذا بعبد الله بن حذافة يمشي إلى الماء الذي يغلي فلما اقترب منه بكت عيناه فقال له هرقل: أبكيت يا عبد الله؟ فقال له: والله ما بكيت خوفاً فأنا أعلم أني سائر إلى الله ، ولكن بكيت لأني لي نفساً واحدة و كنت أود أن يكون لي مئة نفس تعذب في سبيل الله. فقال هرقل: أرجعوه ، فأرجعوه، فأحضر له امرأة غانية من نساء الروم، وقال: أدخلوه معها في غرفة لتراوده عن نفسه و غلقت الأبواب و أخذت تغدو و ترجع أمامه و بعد ساعات مضت قال هرقل :أحضروها لأسمع منها ما حدث فلما حضرت أخبرته و قالت له: يا سيدي، لست أدري إلى من أرسلتني، أأرسلتني إلى بشر أم حجر، كلما خطوت أمامه ما سمعت منه إلا قول: لا إله إلا الله.. فقال هرقل: أدخلوه في غرفة و لا تحضروا له طعاماً إلا الخمر و لحم الخنزير، فأحضروا له ذلك و أغلقوا عليه الباب و ليس معه طعام سواهما، و ظل عبد الله بن حذافة ثلاثة أيام لا يأكل لحم الخنزير و لا يشرب خمراً ثم دخلوا عليه فوجدوه يذكر الله و يصلي و الخمرة كما هي و لحم الخنزير كما هو فقال له: يا عبد الله ما منعك من الشرب و الأكل وأنت مضطر لذلك، والجوع يعبث بأمعائك؟ فقال لهم : خفت أن يشمت أعداء الله في دين الله. فلما يئس منه هرقل قال له: يا عبد الله قبل رأسي و أطلق سراحك

فقال له: بل تطلق سراح إخواني المسلمين، فوافق على ذلك. فأطلق هرقل سراحه وسراح إخوانه و بعد ذلك ذهبوا إلى المدينة المنورة التقوا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه و قصوا عليه ما جرى، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه و قال: حق على كل مسلم أن يقبل رأسك يا عبد الله و أنا أبدأ بنفسي. و قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه و قبل رأس عبد الله بن حذافة رضي الله عنه إكراما لعزته و دينه. إنه الاعتذار الحقيقى للأعذار .


السمة التاسعة

-يمكن أن يموت وحاجته فى صدره

-الموت وبقاء الحاجة فى الصدور

-الانشغال بحقائق الحاجات

-عمر بن الخطاب والحاجات التى لا يقيم لا اعتبارا


من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين

الموت وبقاء الحاجة فى الصدور

أبطال هذه الأمة الذين يعملون على النهوض بها، وإعلاء رايتها، وإعزاز كلمتها، لا تزلزلهم طيبات هذه الحياة، ولا يجرون وراء حطامها، ولا يهرولون وراءها، ولا يعصون الله عز وجل بسببها، تقبل الدنيا أو تدبر وهم لا يتغيرون، وتزداد أو تنقص وهم على الحق ثابتون، وتضحك أو تبكى وهم على ثغورهم صامدون، وتغريهم الدنيا أو تبتليهم وعيونهم هناك إلى الآخرة ناظرون، شعارهم فى هذه الحياة " ولنعم دار المتقين " .

من هنا كان فقراء الصحابة رضوان الله عليهم إذا نظروا إلى الأغنياء لا يزعجهم أن طعام الأغنياء ألذ من طعامهم .. أو أن لباس الأغنياء ألين من لباسهم .. أو أن بيوت الأغنياء أرفع من بيوتهم .. كلا .. لم يكن هذا مصدر إزعاجهم، ولا موطن تفكيرهم، لأنهم على استعداد بأن يموت الواحد منهم، وكل حاجاته من الطعان والشراب وغيرها لا تزال فى صدره، إنما كان تفكيرهم ومصدر قلقهم وهمهم، الدثور والأجور، والحسنات والصالحات، من يظفر بها، ومن يسعد بفعلها، ولذا جاءوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم كما يروى أبوذَرٍّ وقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. فقَالَ « أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِى أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِى حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِى الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ».

وفى رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ؟ قالوا : نعم ..قال : تسبحون في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .. وتحمدون ثلاثاً وثلاثين .. وتكبرون ثلاثاً وثلاثين .. وتختمه بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، إنكم إذا فعلتم ذلك .. سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ..ففرح الفقراء بذلك .. فلما قضيت الصلاة فإذا لهم زجل بالتسبيح والتكبير والتحميد ..فالتفت الأغنياء فإذا الفقراء يسبحون .. سألوهم عن ذلك .. فأخبروهم بما علمهم النبي عليه السلام .. فما كادت الكلمات تلامس أسماع الأغنياء .. حتى تسابقوا إليها .. نعم .. إذا أبو بكر يسبح .. وإذا ابن عوف يسبح .. وإذا الزبير يسبح ..فرجع الفقراء إلى النبي عليه السلام .. فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء بما علمتنا .. ففعلوا مثلنا .. فعلمنا شيئاً آخر ..فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وفى ضوء هذا التنافس الشريف بين رجالات الأمة من الأغنياء والفقراء، يمكن أن نجد الكثير من فقراء هذه الأمة، الذين تشتد بهم الحاجات، وتنزل بهم الضوائق، وتغلظ عليهم الشدائد، ومع ذلك تظل هذه الحاجات حبيسة صدورهم، ورهينة فؤادهم، لأنهم لا يستطيعون لها قضاء، وهم فى نفس الوقت يترفعون بأنفسهم عنها، ولقد ربى كل واحد نفسه على أن يكون عزيزا، لا يصر على طلب الدنيا ممن يملكها فكيف بمن لا يملكها، وبهذا استحقوا أن يكونوا أول من يدخل الجنة يوم القيامة .

وقد ورد فى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " هل تدرون من أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم قال: " أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين يسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته: ايتوهم فحيوهم فيقول الملائكة : ربنا نحن سكان سماواتك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال: إنهم كانوا عبادا يعبد وني لا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب : " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" .


الانشغال بحقائق الحاجات

من مشاكلنا وأخطائنا الفادحة فى هذه الحياة، أننا ننشغل بتوافه الأمور ونترك أعظمها، ننشغل بما ضمنه الله عز وجل لنا ونترك ما طلبه الله منا، ننشغل بما يحفظ لنا لهونا ولعبنا ونهمل ما يحفظ لنا حياتنا وآخرتنا، ننشغل بما كتب الله عز وجل له الفناء ونهمل ما كتب الله عز وجل له البقاء، ننشغل بما يسبب لنا الشقاء والعناء ونهمل ما يسبب لنا السرور والهناء، ننشغل بالدنيا ونهمل الآخرة. مع أن الله عز وجل يوازن بين حاجات وحاجات فيقول " وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى" الضحى :4، ويؤكد هذا الاختيار فيقول: " وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى " الأعلى 17، ويوازن النبى صلى الله عليه وسلم بين من شغل بهموم الدنيا ومن شغل بهموم الآخرة فيقول : كما روى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "تَفَرَّغُوا مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ أَفْشَى اللَّهُ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ أَكْبَرَ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أُمُورَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَمَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ إِلا جَعَلَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ تَفِدُ إِلَيْهِ بِالْوُدِّ وَالرَّحْمَةِ، وَكَانَ اللَّهُ إِلَيْهِ بِكُلِّ خَيْرٍ أَسْرَعَ".

وقد فهم ذلك الصالحون من هذه الأمة، ومنهم أبو معاوية الأسود، وقد جاء فى حلية الأولياء أنه كان يقول في جوف الليل: من كانت الدنيا أكبر همه طال غدا في القبر غمه، ومن خاف ما بين يديه ضاق ذرعه، ومن خاف الوعيد لها في الدنيا عما يريد، يا مسكين إن كنت تريد لنفسك فلا تنامن الليل إلا القليل، اقبل من الدين الناصح إذا أتاك بأمر واضح، لا تهتم بأرزاق من تخلف فليست أرزاقهم تكلف، وطن نفسك للمقال إذا وقفت بين يدي رب العزة للسؤال، قدم صالح الأعمال عند كثرة الاستعمال، بادر ثم بادر قبل نزول ما تحاذر.. "

وعلى هذا فالحاجات الحقيقية ليست هى التى تشغل الكثير من طلاب الدنيا اليوم ، وإنما هى الحاجات التى يفتقر إليها الإنسان فى آخرته، وهى التى تشغل أهل العزائم والهمم، والتى يجدونها لأنفسهم بعد مماتهم، فالحاجة الحقيقية هى ما يحتاجها الميت فى قبره، لا ما يحتاجها الإنسان الحى فى بيته.

ولهذا كان النبى ينشغل كثيرا بالدعاء لأهل المقابر حتى تقضى حاجاتهم، ومن ذلك ما روى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ :« اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ عَلَيْهِ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجَةً خَيْرًا مِنْ زَوْجَتِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ ». حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ.

بل كان النبى صلى الله عليه وسلم أكثر ما يشغله على أهل بيته وأحب الناس إليه، ليست حاجات الدنيا، ولا إهداء فاطمة بنته وفلذة كبده خادما يخدمها ويعينها على شئون أسرتها وأعمال بيتها، بعدما طحنت بالرحى حتى أثرت فى يدها، وتعبت مما لقيته من أعباء بيتها، وإنما كان يفكر لهم فى شيئ آخر يضمن لهم به حاجاتهم الحقيقية، وقد ورد فى ذلك أن عليا قال لفاطمة ذات يوم والله لقد سنوت، حتى لقد اشتكيت صدري ، قال : وجاء الله أباك بسبي فاذهبي ، فاستخدميه، فقالت : أنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما جاء بك أي بنية . قالت : جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال علي: ما فعلت ؟ قالت : استحيت أن أسأله ، فأتينا جميعاً، فقال علي: يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري ، وقالت فاطمة : قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم ، لا أجد ما أنفق عليهم ، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم ، فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما إذ غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما ، وإذا غطيت أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا ، فقال مكانكما ، ثم قال : ألا أخبركما بخير مما سألتماني ؟ قالا : بلى. فقال : كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام : تسبحان في دبر كل صلاة عشراً ، وتحمدان عشراً ، وتكبران عشراً ، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين وأحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين، فإن ذلك خير لكما من خادم .


عمر بن الخطاب والحاجات التي لا يقيم لها اعتبارا

إن الجيل الذى رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم على العمل لإعزاز الإسلام ونصرة أمته، طلبا للآخرة، لا يقيم لحاجات الدنيا وزنا، ولا يجعل لها اعتبارا بجوار حاجات الآخرة، وأساس ذلك أنهم يتطلعون إلى ما عند الله عز وجل، وإن فاتتهم حظوظ النفس من المباحات والطيبات التى خلقت لهم فى الدنيا، ومن الرجال الأفذاذ الذين لم يقيموا لحاجات الدنيا من الطعام والشراب واللباس وغيرها وزنا، عمر بن الخطاب رضى الله عنه، والأمثلة من حياته على ذلك كثيرة متعددة منها:

ـ ما روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: اشتريت لحماً من السوق وذهبت به إلى أهلي، وإذا بـعمر مقبلاً فخبأت اللحم تحت إبطي – لأن الناس كانت تهابه وتخاف منه، فهو يحاسب الأمراء، ويحاسب الناس؛ ممن اشتريت؟ وماذا شريت؟ وماذا تريد؟ - فلقي جابراً فأمسكه فقال: ما هذا يا جابر ؟ قال: لحم اشتهيته فاشتريته، قال: أكلما اشتهيت اشتريت! والله إني أعلمكم بما آكل، وفى رواية: والله إني أملك الذهب والفضة وأنفقها في سبل الخير، وإني أعلمكم بلباب البر وبصغار الماعز وبنسل العسل, وكنت أخلط هذا بهذا ثم آكله، ولكني أخشى أن أعرض على الله يوم القيامة فيقال لي:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا" الاحقاف:20.

ـ ما روى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قالت حفصة بنت عمر لعمر رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين لو لبست ثوباً هو ألين من ثوبك، وأكلت طعاماً هو أطيب من طعامك، فقد وسَّع الله عز وجل من الرزق وأكثر من الخير فقال: إن سأخصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان يلقَى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة العيش، فما زال يذكِّرها حتى أبكاها، فقال لها: والله إن قلتِ ذلك أما والله لئن استطعت لأشاركنَّهما بمثل عيشهما الشديد، لعلي أدرك معهما عيشهما الرخّي.

ـ ودخل على عمر ابن الخطاب رضى الله عنه الحارث بن زياد أحد الأمراء، وقد كان يوم عرفة يحاسب أمراءه على الأقاليم، أمير العراق ، وأمير الشام وأمير مصر وأمير اليمن ، وكان يأتي بالرعية ويقول: تكلموا عن أميركم وواليكم -في حوار مفتوح- فأتى إليه الحارث بن زياد في المدينة فرأى عمر يأكل خبز الشعير بالزيت، فقال: يا أمير المؤمنين! إنك أحق الناس بالعيش الهنيء والمركب الوطيء قال: ثكلتك أمك، والله لا تتولى لي ولاية، ظننت أنك تعينني على طريق الآخرة فإذا أنت تهوشني أو تهرشني على الدنيا، فعزله.

ـ وعن سالم بن عبد الله قال: لما ولي عمر رضي الله عنه قعد على رزق أبي بكر رضي الله عنه الذي كان قد فرض له، فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين منهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم. فقال الزبير؛ لو قلنا لعمر في زيادة نزيدها إياه في رزقه، فقال علي؛ وددنا قَبل ذلك، فانطلقوا بنا، فقال عثمان: إنّه عمر فهلُّموا فلنستبرىء ما عنده من رأى، نأتي حفصة فنسألها ونستكتمها. فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر ولا تسمِّي له أحداً إلا أن يقبل، وخرجوا من عندها.

فلقيت عمر في ذلك فعرفت الغضب في وجهه، وقال: من هؤلاء؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم حتى أعلم رأيك، فقال: لو علمت من هم لسؤت وجوههم، أنت بيني وبينهم، أنشدك بالله: ما أفضل ما أقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك من الملبس؟ قالت؛ ثوبين مُمَشَّقين كان يلبسهما للوفد ويخطب فيهما للجمع. قال: فأيُّ الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا خبزة شعير فصببنا عليها وهي حارة أسفل عُكَّة لنا، فجعلناها هشَّة دسمة، فأكل منها وتطعَّم منها إستطابة لها. قال: فأيُّ مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء لنا ثخين كنا نربِّعه في الصيف فنجعله تحتنا، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثَّرنا بنصفه. قال: يا حفصة، فأبلغيهم عني أن رسول الله قَدَّر فوضع الفُضول مواضعها وتبلغ بالتزجية، وإني قدرت فوالله لأضعنَّ الفُضول مواضعها ولأتبلغنَّ بالتزجية، وإنما مثلي ومثل صاحبيَّ كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ ثم اتَّبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتَّبعه الثالث فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما.


السمة العاشرة

-التخطيط لإنجاز الأهداف

-ضرورة التخطيط فى حياة المسلمين

-تجاوز العثرات لإنجاز الأهداف


من سمات الصالحين للنهوض بواقع المسلمين:

ضرورة التخطيط فى حياة المسلمين

لقد أكدت العلوم الحديثة إن من أهم الأمور التى صارت بدهية وضرورية فى حياة الناس اليوم، التخطيط السليم لسير حياتهم، وتحقيق أهدافهم، التخطيط الذى يعنى وضع خطة لمواجهة احتمالات المستقبل وتحقيق الأهداف المنشودة، أو بمعنى آخر، هو رسم خريطة الطريق الذي تريد أن تسلكه في هذه الدنيا، وما تريد أن تصل إليه سواء في الدنيا أو في الآخرة.

فمن يسير غريبا فى مدينة ويريد أن يصل إلى عنوان معين بها، قد يبذل الساعات الطوال فى الوصول إليه، لكنه لو استخدم خريطة المدينة الواضحة المعالم، والتى يحسن قراءتها، لوفرت عليك الجهد الكبير والوقت الكثير، والحياة التى نعيشها تشبه تلك المدينة، فبها الكثير من الأحوال والأحداث، والعقبات والمنحنيات، والمطبات والمحطات، وحتى يحقق الإنسان هدفه فى حياته لا بد ان يسير فيها وفق خطة أو خريطة يضعها لنفسه، يراعى فيها طموحاته وإمكانياته وظروفه، ويتقيد فيها بالشرع الحنيف، ومبادئه الإسلامية العظيمة، وإلا كان فريسة سهلة للآخرين وما يلاقيه من ظروف وأحداث .

وفى التخطيط للحياة لا بد أن نراعى تحديد المجال الذى نريد التخطيط فيه، والهدف الذى نريد أن نصل إليه، ولا بد أن يكون الهدف واضحا وواقعيا، حتى يمكن قياسه لمراقبة تطوره ومراحل إنجازه، ولا بد أن تتم مراجعته بين الحين والآخر، لمعرفة ما تبقى من خطوات فى سبيل الوصول إليه .

وحتى ينهض المسلمون من كبوتهم ويعيدون سيرة أسلافهم، ويعملون على إعادة أمجادهم وحضارتهم، يصبح التخطيط ضرورة فى حياتهم، لأن التخطيط بعد الاستعانة بالله سبحانه يعد خير معين لهم فى الوصول إلى أهدافهم، وكما يقولون من يفشل فى الخطيط فقد خطط للفشل.

والمثل البارز الذى يمكن أن نضربه فى التخطيط الإسلامى المتميز، والذى يشير إلى أن التخطيط ضرورة فى حياة المسلمين لإنجاز الأعمال وتحقيق الأهداف، هو تخطيط النبى صلى الله عليه وسلم فى هجرته المباركة، فلقد كانت الهجرة عملا عظيما شاقا، ولا يمكن إنجازة فى مثل الظروف التى هاجر فيها رسول الله صلى الله علي وسلم إلا بالتخطيط والتنظيم السليمين، وقد ابتدأ التخطيط للهجرة بالتهيئة لها، وشراء الوسائل التى سيتم استخدامها فى الهجرة ممثلة فى البعيرين للنبى صلى الله عليه وسلم وصحبه ابو بكر الصديق، ولما أذن للنبى صلى الله عليه وسلم بالهجرة اختار فى الذهاب إلى أبى بكر الوقت الذى يأوى إليه الناس فى بيوتهم هربا من حر الظهيرة، وحتى لا يعرفه أحد خرج مقنعا قد أخفى وجهه بثوبه، ولما وصل إلى بيت أبى بكر أمر بإخراج من فى البيت حتى لا يعرف بهذا الخبر أحد فى الخارج، وقامت أسماء فهيئت الزاد المناسب لأن الخروج سيتم حالا، ثم خرج النبى صلى الله عليه وسلم وصحبه أبو بكر من المخرج الاحتياطى للبيت " الخوخة "، ولم يكن الخروج مباشرة إلى المدينة، بل قرر النبى اللجوء أولا إلى غار ثور للإقامة فيه ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب له فى مكة، وأسند إلى عبد الله بن أبى بكر مهمة التقاط الأخبار فى مكة، وإلى أسماء بنت أبى بكر مهمة حمل الزاد إليهما، وإلى عامر بن فهيرة مهمة إعفاء الأثر بأغنامه وتقديم الزاد ايضا عند الحاجة من أغنامه، وإلى على بن أبى طالب مهمة المبيت على فراش النبى صلى الله عليه وسلم بدلا منه، لإيهام قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم راقد في فراشه، وإلى ابن أريقط مهمة القيام بالدليل لخبرته بالطريق، ومن عظمة التخطيط النبوى أنه لم يسلك للمدينة الطريق المعتاد بل اختار طريق الساحل، وتقديم أبى بكر للنبى عند الأمر الطارئ بأنه هاد يهدينى الطريق، ومن تمام التخطيط لهذا الأمر أن أسماء بنت أبى بكر خشيت من جدها أن يتكلم لأنه لم يسلم بعد، فهيأت حجارة كثيرة على أنها النقود، وجعلت جدها يتحسسها حتى يطمئن باله عليهم، ويوقن بأنهم فى أمان . وهكذا كانت الهجرة تخطيط بشرى على أعلى مستوى من الإحكام والتقدير . تخطيط يستجلب النصر من الله عز وجل " إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " التوبة 40 ، تخطيط ما أحوج المسلمين إليه اليوم حتى يستجلبوا نصر الله على أعدائهم


تجاوز العثرات لإنجاز الأهداف

إن المفتاح الأول للنجاح في حياة الناس عموما، هو أن يكون لهم أهداف يعملون على تحقيقها فى هذه الحياة، فوجود الأهداف في الحياة يعطى الإنسان دافعية عالية، ونشاط مميز وهمة قوية فى السير نحو تحقيق هذه الأهداف. ولهذا كان من الضرورى فى حياة كل مسلم أن يكون له أهداف مكتوبة محددة ويعمل بعد ذلك بجد على إنجازها.

وإنجاز الأهداف يحتاج إلى صبر طويل وعزم أكيد حتى لا ينسى الإنسان هدفه لمجرد أن أصيب بعثرة صغيرة، ولا ما نع من الإفادة مما يضعه خبراء التدريب والتخطيط فى مجال كيفية إنجاز الأهداف ومواجهة العثرات، ومما ينصحون به فى ذلك:

ـ ضرورة جعل العثرات خطوات نحو الهدف: فالعثرات على الطريق أمر طبيعى، ولا يتعثر الإنسان عادة إلا فى الأشياء الصغيرة قليلة الشأن، والتى تصعب أحيانا ملاحظتها، وما من إنسان إلا وتعثر بعض الشيئ فى حياته خاصة إذا كانت أهدافه عظيمة وطموحاته كبيرة، ولهذا يجب أن تدفعنا كل عثرة إلى الأمام نحو تحقيق الهدف، وهذا يعنى أن كل خطواتنا ما هى إلا مساهمة معينة فى تحقيق الأهداف حتى وإن كانت خطوات متعثرة، وقد طرحتنا الحياة أرضا

ـ سرعة وضرورة العودة إلى النهوض بعد كل عثرة: فإذا كانت العثرات من الأمور الطبيعية على كل طريق، فإن من غير الطبيعى أن تظل متعثرا مطروحا على الأرض فى مكانك، وتحدث نفسك بأن الطريق شاق أو أننى ضحية مؤامرة أو أن الناس يضعون العراقيل أمامى، وبالتالى فإنجازا للأهداف يجب ألا تطيل الوقوع على الأرض ، بل يجب النهوض فى أقل زمن ممكن، وإن تعددت العثرات وكثرت الزلات، لأن هناك هدفا ينبغى أن أنهض لأتابع السير نحوه .

ـ ضرورة الإفادة من كل خطوة خاصة إن كانت فاشلة: فالناهض بنفسة وبغيره من حوله لا بد أن يفيد من أخطائه ومن عثراته، وبمعنى آخر لا بد أن يربح من خسارته، فالطريق التى لا تؤدى إلى الهدف أعلم يقينا بعد التجربة أنها طريق غير موصلة، وبمثل هذه التجارب الفاشلة أكتشف الطرق غير المجدية، والأساليب غير النافعة، حتى لا أعود إليها أبدا، وأضعها فى لا ئحة الأشياء التى لا تجدى، ويظل الإنسان على هذا الطريق حتى تأتيه اللحظة التت يكتشف فيها السبيل الآمن والطريق المستقيم.

وعلى هذا يجب ألا ننظر إلى العثرة على أنها أمر مخيف مرعب يجب عدم الوقوع فيه، بل علينا أن نعى أنها الطريق إلى الفوز، ولا بد من العبور عليها كجسر متين للوصول إلى حقيقة النجاح، وهذا معنى المثل اليابانى الذى يقول : "إذا تردَّيت في حفرةٍ، فلا تخرجْ منها فارغ اليدين " . وبالتالى فإن العثرة إذا استطاع الإنسان أن يحولها إلى أمر إيجابى فى حياته، فإنها تسهم فى بناء شخصيته، وتقوية عوده، وستمنحه كثيرا من المزايا الشخصية والسلوكية ، ومنها أنه يخرج من تجربته التى تعثر فيها وهو أصلب عوداً، وأغزر خبرة، وأمضى عزيمة، وأقسى شكيمة، وأشدُّ تصميماً، وأقوى إصراراً. وإذا به في آخر الأمر، شخصا آخر وإنسانا مختلفا، أفضل حالاً مما سبق .

ولعل هذا هو السر فى تحريم اليأس على المؤمنين والصالحين، وفتح باب الأمل أمامهم دائما للنجاح والفلاح والفوز فى الدنيا والآخرة، وهو قوله تعالى:" لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " الزمر : 53 وقوله تعالى: " وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ " يوسف 87،

السمة الحادية عشرة

-العمل على تقريب القلوب لا تقريب المذاهب

-الاختلاف فى المذهب ضرورة دينية ولغوية وإنسانية

-تعدد المذاهب ثراء فقهى ونماء عقلى

-حاجتنا الحقيقية إلى تقارب القلوب


الاختلاف فى المذهب ضرورة دينية ولغوية وإنسانية

مع تزايد الهوة الساحقة والخلافات العميقة بين الاتجاهات والفرق الإسلامية، تعالت فى الآونة الأخيرة صيحات كثير من العلماء والفضلاء بالدعوة إلى تقريب المذاهب، ولأهمية هذه المسألة وضرورة رأب الصدع والتحام الصف الإسلامى تعددت أنشطة هؤلاء الفقهاء والعلماء فى سبيل الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية ما بين مؤتمرات دولية وإقليمية تعقد، وندوات تقام ومناقشات تثار وكتب تؤلف وأبحاث تقدم كل ذلك لعلاج هوة الخلاف بين المذاهب الإسلامية عن طريق التقريب بينها.

والناظر إلى واقع الأمة الإسلامية بحق يشعر بمرارة شديدة من جراء الخلافات التى صدعت بنيانها وشقت صفها وفتت قوتها وأجهزة على وحدتها، لكن المشكلة ليست فى المذاهب الإسلامية على تعددها وكثرتها ووقوع الخلافات الفقهية فيما بينها ، نعم المشكلة ليست فى تعدد المذاهب أو كثرة الاتجاهات ، فلقد عاشت الأمة الإسلامية قرونها وعصورها الزاهرة مع وجود المذاهب الإسلامية الكثيرة ووجود الاتجاهات المتعددة، والإسلام لا يمنع الاختلاف فى الرأى ، بل يرى أن الخلاف فى الرأي يعد ضرورة من الضرورات .

وضرورة الخلاف أمر تقتضيه طبيعة الدين وطبيعة اللغة بل وطبيعة الإنسان ذاته، أما طبيعة الدين فلأن أحكامه منها ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مسكوت عنه، ومنها المحكمات ومنها المتشابهات، ومنها القطعية ومنها الظية، وهذا يقتضى الاختلاف فى الاجتهاد والفهم والاستناط، وأما طبيعة اللغة ، فإن القرآن والسنة باعتبارهما عربيان فإنهما يفهمان فى ضوء قواعد اللغة العربية ، وفيها ما هو من قبيل الحقيقة وما هو من قبيل المجاز، ومنها اللفظ المتشابه الذى يحتمل أكثر من معنى، ومنها ما يعرف بالمنطوق ومنها ما يعرف بالمفهوم ، ومنها العام ومنها الخاص ومنها المطلق ومنها المقيد، وأما طبيعة البشر فإنهم محتلفون فى أمور كثيرة ، حيث لكل شخص فكره وعقله، وميوله وذوقه، بل له نبرة صوته وبصمة بنانه ، ومن الناس من يميل إلى التشديد ومنهم من يميل إلى التيسير، ومنهم من يأخذ بظاهر النص ومنهم من يأخذ بفحواه، والاختلاف فى كل هذا يؤدى لا محالة إلى الاختلاف فى الحكم على الأشياء .

ولهذه الضرورة وقع الخلاف حتى فى زمن النبوة، ويشهد بهذا ما حدث يوم أن رجع رسول الله من غزوة الأحزاب ونزل عليه جبريل عليه السلام يستعجله فى الذهاب إلى بنى قريظة ، عندها قال النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا يصلين احدكم العصر غلا فى بنى قريظة، فسار الصحابة رضوان الله عليهم ، ولكن العصر أدركهم فى الطريق فانقسم أصحابه فى فهم التوجيه النبوى إلى فريقين، الفريق الأول رأى عدم الصلاة إلا فى بنى قريظة استمساكا بحرفية الكلام النبوى، أما الفريق الثانى فقد رأى الصلاة فى الطريق أو الصلاة فى وقتها، فهما لروح النص، واستيعابا لقصد النبى صلى الله عليه وسلم من توجيهه وهو حثهم على الإسراع فى السير إلى بنى قريظة، وعندما عرض الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخطئ واحدا من الفريقين ورأى أن لكل فريق فهمه واجتهاده، وفقهه وقدره.

وفى عهد الراشدين وهو أفضل العهود بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع الخلاف أيضا، ومما اشتهر فى هذا أن عمر رضى الله عنه قضى فى المسألة المعروفة بالمسألة الحجرية فى الميراث بعدم التشريك بين الأخوة الأشقاء والأخوة لأم، ثم رفعت إليه مرة أخرى فقضى فيها بالتشريك ، فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر : تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضيت اليوم ، وهذا معنى قوله فى كتابه لأبى موسى الأشعرى : " لا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق ، فإن الحق قديم لا يبطله شيئ ومراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل " .

وروى عنه أيضا أنه لقى رجلا فقال له ما صنعت ـ يعنى فى مسألة كانت معروضة للفصل فيها ـ فقال الرجل قضى على وزيد بكذا وكذا ، فقال عمر : لو كنت أنا لقضيت بكذا ..، فقال الرجل وما يمنعك والأمر إليك فقال : لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلت ، ولكنى أردك إلى رأى والرأى مشترك والوقائع فى مثل ذلك كثيرة ومتعددة، وكلها تثبت وقوع الاختلاف فى الرأى وجوازه، وإمكانية تعدد المذاهب والاتجاهات، دون أن يؤثر ذلك على قوة المسلمين أو وحدة صفهم.


تعدد المذاهب ثراء فقهى ونماء عقلى

لقد كانت المذاهب الفقهية فى العهود الزاهرة للفقه الإسلامى كثيرة ومتعددة، تقترب فى عددها من عدد فقهاء العصر، ومع ذلك لم توجد يومئذ دعوة للتقريب بينها، واليوم بعد أن جمد الفقه إلى حد ما، واندثر كثير من المذاهب الإسلامية بحيث أصبح الكثير منها غير موجود إلا بشكل جزئى فى كتب الفقه المقارن، يبدو أن صيحات التقريب بين المذاهب علاج غير ناجع وغير ناجح أيضا لما تعانية أمتنا من تفرق وضعف، وتدهور وتخلف .

ومما يؤكد ذلك مدى الاهتمام العظيم الذى انبرى من خلاله علماء الأمة وفقهاؤها بتدوين المذاهب الإسلامية، وتعددت مؤلفاتهم فى هذا الشأن والتى كانت تجمع الآراء فى كل مسألة مقترنة بالأدلة عليها تارة، وغير مقترنة بهذه الأدلة تارة أخرى ، ومن أهم هذه المؤلفات كتاب المغنى لابن قدامة، وكتاب المحلى لابن حزم، والفقه على المذاهب الأربعة للجزيرى ، بل وأفرد الفقهاء كثيرا من المؤلفات لبعض المسائل الخاصة التى تجمع شتاتها وتبين آراء الفقهاء فيها، ومن ذلك ما كتبه الإمام الأوزاعى فى الرد على سير الإمام أبى حنيفة ، وما كتبه الإمام أبو يوسف بعد ذلك فى الرد على سير الإمام الأوزاعى، وكتاب الخلافيات للبيهقى، الشافعى ، وكتاب الوسائل فى فروق المسائل لابن جماعة الشافعى وكتاب حلية العلماء فى اختلاف الفقهاء لأبى بكر الشاشى، ومختلف الرواية لعلاء الدين السمرقندى الحنفى ، والإشراف على مذاهب الأشراف لابن هبيرة الحنبلى وكتاب الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف لابن عبد البر ، ومن الكتب التى تناولت نشأة الاختلاف وبيان أسبابه كتاب الإنصاف فى التنبيه على أسباب الخلاف لابن محمد عبد الله البطليموسى، وكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام’ لابن تيمية وأسباب اختلاف الفقهاء للشيخ على الخفيف .

وإلى جانب هذه الكتب التى تحوى اختلافات الفقهاء المذهبية تعددت التصريحات منهم بأهميتها بل وضرورتها، وفى ذلك يقول القاسم بن محمد بن أبى بكر : " لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أعمالهم ، فلا يعمل العامل بعمل رجل منهم غلا رأى انه فى سعة، ورأى أن خيرا منه قد عمله " ، وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال أيضا : " ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا ، لأنه لو كانوا قولا واحدا كان الناس فى ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان فى سعة " ، وروى عن يحيى بن سعيد أنه قال : : ما برح أهل الفتوى يفتون، فيحل هذا ويحرم هذا فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه " .

وبناء على هذا فإن محاولات التقريب بين المذاهب ذاتها، لا يمكن أن يكون هو الدواء الناجع لما أصاب الأمة الإسلامية من علل، خاصة إذا كان المقصود من التقريب محاولة جعل المذاهب كلها مذهبا واحدا أو محاولة جعل الآراء المتعددة رأيا واحدا فهذا مستحيل، وكذلك إذا قصد به لى أعناق النصوص أو الفتاوى والاجتهادات حتى تقترب المذاهب وتتحد الاجتهادات فهذا غير صحيح، أما إن قصد بالتقريب عرض آراء المذاهب ومناقشة أدلتها ومحاولة الوصول إلى الرأى الراجح منها فهذا هو الممكن والصواب، وما درج عليه فقهاء الأمة فى الدراسات الفقهية المقارنة.

وحتى هذا المفهوم الأخير للتقريب والذى يتضمن مناقشة الآراء وبيان الراجح منها فإنه لا يعنى إلغاء الآراء الأخرى وهدم الاجتهادات المتعددة أو المذاهب الفقهية المختلفة، لأننا نعتبر أن الاجتهادات الفقهية المتعددة ثروة علمية هائلة، وركيزة من ركائز القوة فى هذه الأمة، إذ لا يتوافر لغيرها من الأمم الأخرى هذا الكم الهائل من الاجتهادات والآراء والحلول والتى يمكن أن يتوافر فيها الحل الإسلامى لكثير من الأزمات والمشاكل على اختلاف العصور والدهور والأشخاص والأماكن والظروف .

وهذا ما قرره مجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408هـ الموافق 21 أكتوبر 1987م بعد أن نظر في موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب المتبعة، ومما أتى فى قراره أن " اختلاف المذاهب الفقهية في بعض المسائل له أسباب علمية اقتضته ولله سبحانه في ذلك حكمة بالغة، ومنها: الرحمة بعباده، وتوسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص، ثم هي بعد ذلك نعمة وثروة فقهية تشريعية تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد حصرا لا مناص لها منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمة مذهب أحد الأئمة الفقهاء في وقت ما، أو في أمر ما، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقا ويسرا، سواء أكان ذلك في شؤون العبادة أم في المعاملات وشؤون الأسرة والقضاء والجنايات على ضوء الأدلة الشرعية"


حاجتنا الحقيقية إلى تقارب القلوب

بناء على أهمية المذاهب الإسلامية وضرورة وقوع الخلاف فيما بينها، يتضح جليا أن المشكلة ليست فى تعدد المذاهب وكثرة الآراء والأقوال ، لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى القلوب ، فتفرق القلوب هو محض التنازع الذى يؤدى على الفشل والضياع ، " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " ، وبالتالى فإن كل أعمالنا وجهودنا يجب أن تتجه إلى إصلاح القلوب وضرورة سلامتها مما علق بها من الأكدار والأمراض ، فسلامة القلب هو شرط الوصول إلى الله عز وجل لنتلقى منه العون والتوفيق والنعم والرشاد والمدد والسداد، وهذا هو معنى قوله تعالى: إذ جاء ربه بقلب سليم " ، وقوله سبحانه : " إلا من أتى الله بقلب سليم " نحن بحاجة حقيقية إلى قلوب هينة لينة لا تتعصب لآرائها ، ولا تتهجم على غيرها ، وإن خالفتها فى الرأى وعارضتها فى المذهب ، من أمثال الشافعى الذى كان من مذهبه القنوت فى صلاة الصبح لكنه لما صلى قريبا من قبر أبى حنيفة النعمان لم يقنت فى صلاته تأدبا لصاحب القبر ، ومن أمثال أبى يوسف أيضا ، لما صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام ، وصلى بالناس وتفرقوا ، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة فى بئر الحمام، فقال : إذا نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا .

وأهم ما يميز هؤلاء الفقهاء الذين حسنت نياتهم وسلمت قلوبهم ، أنهم كانوا لا يتحسسون من مخالفيهم فى الرأى بل كانوا ينظرون إلى آرائهم على أنها محتملة للصواب والخطأ، لذا نقل عن بعضهم " رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب " ونقل أيضا إذا صح الحديث فهو مذهبى واضربوا بقولى عرض الحائط ، وأيضا ربما كان ما قلته خطأ كله ، لا الصواب كله " .

وبناء على هذا فإن تعدد المذاهب لا يتعارض أبدا مع وحدة الصفوف وتماسك القلوب، وإن تماسكت قلوبنا لن يضرنا اختلاف مذاهبنا ، وسيبقى كل مؤمن مع اختلاف المذاهب وتعدد الآراء لأخيه المؤمن كالبنيان المرصوص، وسيبقى المؤمنون جميعا فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، وعندها لن يظلم أحد أحدا ولا يسلمه ولا يخذله ، بل ويحب له كما يحب لنفسه .

وفى ضوء ذلك فإن كانت ثمة حاجة حقيقية لطوائف الأمة الإسلامية ، فهى الحاجة إلى تقارب القلوب، والتقارب لا التقريب، لأن التقارب مفاعلة من كل أطراف الأمة ، وحركة من كل جوانبها، وسعى من كل طوائفها، بغية الالتقاء على الهدف، والالتحام فى الصف، والتداخل فى العمل ، والاتحاد فى الميدان " إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص "

ولتقارب قلوب الأمة أفرادا وجماعات يلزمنا ان ندقق النظر وأن نعيده مرة بعد أخرى فى شرعة ربنا وأحكام ديننا وميراث نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأن نربى أنفسنا بالحرص على هذه الأحكام وتلك التشريعات وأن نتدرب عليها أو نحاول التخلق بها حتى تصبح بعد ذلك صفة لازمة فى حياتنا، وخلقا راسخا فى أعماقنا ، وقيمة إسلامية تحكم كل تصرفاتنا وأعمالنا، ومن ذلك التربية على عدم التباغض والتدابر والتحاسد وهو قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا " ، والتربية على لين الجانب لكل مسلم والتكافؤ معه والنزول على رغبته والسماع له دون أن تفرق بيننا الأماكن والمناصب، والأهواء والشهوات ، وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " والتربية على عدم التحسس والتجسس أو عدم التفتيش على الثغرات والعورات، والتربية على إقالة العثرات والعقبات ، وعدم الظنون والشكوك وهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا " والتربية على خلق العفو والمبادرة إلى الصلح ، وهذا هو حديث النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ، قالوا بلى يارسول الله : قال : إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هى الحالقة "، وفى الحديث أيضا تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا ، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء " عداوة " فيقال : أنظروا "أخروا" هذين حتى يصطلحا ." ثلاث مرات . اسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب والسداد والتوفيق والرشاد ، وأن يقارب بين قلوبنا ، وأن يوحد بين صفوف أمتنا إنه على كل شيئ قدير .