معركة عصلوج

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٩:١٩، ٢٩ سبتمبر ٢٠١٩ بواسطة Zxzxxx (نقاش | مساهمات) (←‏وتوجهت إلى السماء ... ماذا في السماء؟)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
معركة عصلوج

بقلم / المجاهد الأستاذ يحيي عبدالحليم

مقدمة : بقلم الصاغ محمود عبده

بسم الله الرحمن الرحيم
المجاهد الأستاذ يحيي عبدالحليم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وسلك طريقه واهتدى بهديه إلى يوم الدين...

لقد كان تطوراً خطيراً في تاريخ الإسلام والمسلمين في القرن العشرين وبعد الضربات القاصمة التي أطاحت بالمسلمين في الأندلس...وطوت أعلام الخلافة الإسلامية... وقسمت العالم الإسلامي إلى دويلات تخضع للمستعمرين.

كان تطوراً خطيراً أن يلتئم العالم الإسلامي من جديد وان يستجيب الشباب المسلم لدعوة الإمام الشهيد (( حسن البنا )) المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وأن يرى العالم بعد عشرين عاماً من بدء الدعوة صفاً منتظماً يقوده الحقن وجيشاً مسلحاً يجاهد في سبيل الله لا يدفعه إلا الجهاد مطمع، ولا ينبغي إلا إحدى الحسنيين...(( ولقد تآمرت قوى البشر على هذا الصف المسلم النقي، وبطشت به وأدخلته السجون والمعتقلات، واغتالت إمام الدعوة وقائد الفكرة، وصبت العذاب ألواناً على المؤمنين بهذا الدين وما عرفت البشرية في تاريخها القديم والحديث..تنكيلا أبشع مما وقع على الإخوان المسلمين...

ولقد اعتصموا بحبل الله...ولاذوا بالصبر الجميل...الذي تعلموه من كتاب الله..ورأوه صورة عملية في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وشباب الإخوان حديثه عن نفسه قليل، وعن عمله أقل لأنهم يرون أن عملهم لم يكن لدنيا ولا لجاه...وإنما لله سبحانه ولكن وسائل الإعلام في عصرنا الحاضر أذاعت عنهم الأكاذيب والافتراءات، فكان لابد من حديث يعيد الحق إلى أهله..حتى تعلم أجيال الشباب الحاضر ماذا قدم السابقون من شباب الإخوان.وحتى نقطع على ألسنة السوء الطريق...

ولقد كانت معارك فلسطين في 1948 م صورة حية لما قدم الإسلام من بطولات قام بها هذا الشباب ولقد كانت معركة (( عصلوج )) إحدى المعارك الفذة في تاريخ فلسطين العسكري..فقد تميزت بقلة عدد المجاهدين. ولكنهم أحرزوا نصراً عجزت الجيوش عن إحرازه في هذا الوقت...

وقرية العصلوج قرية صغيرة وسط الطريق الغربي الرئيسي ــــــــ العوجة ـــــــــ عصلوج ــــــــ بئر السبع ــــــــ الخليل ـــــــ بيت لحم ــــــ القدس..على بعد نحو 40 كيلو متراً من بئر السبع. وتسيطر على الطريق الرئيسي المرصوف وتشرف عليه من خلال عدة تباب تحيط بالقرية و للإخوان المسلمين مع هذه القرية تاريخ مجيد..أستشهد فيه ثلاثة من أبر الإخوان...

الشهيد: عبد الوهاب البتانوني ( الطالب بمعهد طنطا الديني ).

الشهيد: محمود حامد ماهر.

الشهيد: رشاد محمد زكي، وبتر الساعد الأيمن للأخ ( سيد شحاته ).

حين استولى عليها اليهود غدراً..في أول يوم من أيام الهدنة. واشترك في استردادها فصيلة من متطوعي الإخوان بقيادة الأخ يحيي عبد الحليم.

الذي يروي لك في هذه الصفحات قصة معركة (( عصلوج )) مع متطوعي الإخوان بلا تزيد أو مبالغة. وبلا بخس ولكنه يذكرها حقيقة صادقة نقية...ويعرض أحداثها كما وقعت ليعرفها شباب اليوم، وأبناء الغد، الذين سيكملون المسيرة رافعين راية الإسلام.

والله أسأل أن يجزي الصادقين بصدقهم أنه ولينا وهو نعم المولى ونعم النصير.


تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

قبل أن نكتب عن معركة (( عصلوج )) ولكي نكون محقين. قبل أن نسوق حقائقها. لابد أن نعطي صورة سريعة عن هؤلاء وأولئك الذين غيبوا في السجون مدداً تتراوح بين العشرين والخمس عشرة سنة.

وقد قيدوا بسلاسل الحديد، وعاشوا سنين طويلة في عذاب مستمر. وإرهاق دائم. فتحملوا كل ذلك في صبر وثبات...هؤلاء هم الذين قالوا (( لا )) للطاغوت...بعد أن ركع الشعب كله بقوة الحديد والنار.

والإرهاب المستمر ولم تكن هذه الأساليب البربرية. غريبة على ذلك الطاغية ولكن هؤلاء الرجال جعلوا نصب أعينهم..

قول الله تبارك وتعالى { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون*ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا*وليعلمن الكاذبين }(( العنكبوت:1/2/3 )).

ولم يخدعهم الإمام الشهيد ( حسن البنا ) حين رباهم في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مائدة القرآن، وأعلمهم بمائة وصدق ضخامة الحق ووعورة الطريق وقال لهم...

" أنتم روح جديدة تسري في جسد هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مردداً دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن طريقكم هذا مرسوم خطواته...موضوعة حدوده، ولست مخالفاً لهذه الحدود...قد تكون طرقاً طويلاً، ولكن ليس هناك غيرها ".

سمعوا ذلك ووعوه، فاستوي الصف وحملوا الدعوة وأمدوها بعصارة حياتهم، وأداروا عجلتها بدم وجودهم...هم العاملون في صمت، إذا حضروا لم يعرفوا،وإذا غابوا لم يفتقدوا، كان لسان حالهم يقول:" اللهم خيراً مما يظنون ولا تؤاخذني بما يقولون واغفر لي ما لا يعلمون.

ملئوا أنفسهم بخشية الله، وحب نبيه صلى الله عليه وسلم يقول كل منهم لأخيه: لا تجعلني لك مثلاً، ولن أجعلك لي مثلاً، وإنما نقرأ جميعاً قول الله تبارك وتعالى:

{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا }.


بداية

أحب قبل أن أبدأ معك عزيزي القارئ..هذا الحديث عن هذه المعركة..أن أعطيك صورة لهذه الكتيبة من كتائب الإخوان المسلمين التي خرجت من القاهرة في الشهور الأولى من سنة 1948 م تابعة للجامعة العربية لأن الحكومة المصرية كانت تمنع سفر باسم الإخوان المسلمين إلى فلسطين، ولم تعد هذه الكتيبة إلا في أواخر سنة 1949 م. وتسألني أيها القارئ العزيز..أرجعت إلى أهليها؟؟

ولكني أجيب وقلبي ممتلئ بالحزن والأسى..عادت من ميدان الجهاد والشرف...إلى معتقلات رفح والعريش...وراء الأسلاك وتهمتهم الأولى والأخيرة أنهم يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، ولكن غيرهم من زعماء الهوى والشيطان{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم*والله متم نوره ولو كره الكافرون } ( الجمعة:8)

وكان جزاء سنمار...

وهنا نذكر موقفاً كريماً لقائد عام الحملة المصرية في فلسطين (( أحمد فؤاد صادق )) إذ أصر ألا ترحل هذه الكتائب من جنود الإخوان إلى معتقلات الطور " وقال أنهم رفقاء السلاح ومكانهم بجانبي في أرض فلسطين ولكن الإخوان كانوا يرددون قول العلى القدير { فصبر جميل والله المستعان }.


سقوط عصلوج

قبل أن نحدثك عزيزي القارئ عن سقوط (( عصلوج )) لا بد أن نذكر أن قائد القوات الخفيفة البكباشي أحمد عبد العزيز وكانت قواته كلها من متطوعي الإخوان المسلمين وقد كلفت هذه القوة باحتلال الخط ـــــــ العوجة ـــــــــ عصلوج ــــــــ بئر السبع ــــــــ الخليل ـــــــ لحماية ميمنة الجيش المصري المتمركز على المنطقة الساحلية على الخط ــــــــــ رفح ــــــــ غزة ــــــــ أسدود ـــــــ غرب فلسطين ولحماية النقب، ومحاصرة اليهود وطردهم من جنوب فلسطين...ولما كانت القوة قليلة العدد لا تستطيع حماية هذا الخط الطويل....

اضطر القائد أن يترك فصائل صغيرة لحماية القرى المتحكمة في هذا الطريق..ومن أهمها قرية (( عصلوج )) التي كانت تشرف على الطريق الرئيسي المرصوف وكان يقوم على قيادة خط العوجة ـــــــ عصلوج الأخ اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف.

ترك الأخ عبد المنعم معظم قواته بالعوجة لأنها كانت مركز تموين القوات الخفيفة وترك قوة صغيرة بقرية العصلوج بقيادة الأخ الشهيد (( عبد الوهاب البتانوني )) الطالب بالمعهد الديني بطنطا، ومعه الأخ الشهيد (( رشاد محمد زكي ))، والأخ الشهيد (( محمود حامد ماهر ))، فانتهز اليهود فرصة قلة القوة، ومركز القرية الحساس.

وفي أول يوم من أيام الهدنة، هجم اليهود على القرية واحتلوها وهم قوم غدر....

وكان الأخوة الثلاثة..في مخزن الذخيرة ولما تيقنوا أن اليهود قد احتلوا القرية...وكانت مخازنها مليئة بالأسلحة والذخائر...وانتبه المجاهدون...وسمعوا أصوات العدو في داخل الموقع...و شعروا بهم يحاولون اقتحام المخازن...يا ربي هذه كارثة؟ كيف السبيل؟..هل ستترك العدو يضع يده على هذا السلاح الكثير؟...هذا لا يكون قبل أن نكون جثثاً هامدة...وكانت لحظة حاسمة. اتخذ القرار من غير تردد...اتفقوا على نسف المخازن لحظة اقتحام العدو لها. واختبئوا خلف كومة من صناديق الذخيرة وحين امتلأ المخزن بجنود العدو المزهو بالنصر أشعل الشهداء الثلاثة...في صناديق المفرقعات وفي لحظة واحدة...استحال البناء الضخم إلى كومة من الأنقاض، واستشهد الأبطال الثلاثة بعد أن ثأروا لأنفسهم ولإخوانهم وجرو العدو الغادر إلى كارثة مدمرة وقتل عدد كبير من أفراد القوة المهاجمة.

أما الشهداء الثلاثة فرددوا معاً قول القائل:

ولست أبالى حين أقتل مسلماً

على أي جنب كان الله في مصرعي

ذهبوا إلى ربهم ومعهم قوله تعالى :{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون*فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون }. ( آل عمران ).

احتل اليهود القرية واتخذوا مواقع دفاعية فوق المرتفعات المواجهة لقرية وأحاطوها بأسلاك شائكة وبنواب ها عدداً من الدشم، حتى صارت موقعاً حصيناً لهم وأصبحوا متحكمين ومسيطرين على الطريق الرئيسي، العوجة ـــ بئر السبع.

ولأهمية موقع القرية، وتحكمها في الطريق وقربها من الحدود المصرية ـــ طلب رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري من القائد العام بفلسطين ضرورة استردادها من اليهود بأي ثمن.

وأرسل مساعدة مدير العمليات الحربية إلى فلسطين لهذه المهمة، فصدرت الأوامر إلى كتيبة من الجيش المصري بأسلحتها المساعدة مع سرب من سلاح الطيران المصري في 17/7/1948 م.

للتحرك لمهاجمة عصلوج والاستيلاء عليها، فوصلت إليها في صبيحة 18/7/1948 م .

وأخذ سلاح الطيران في ضرب مواقع العدو ثم تلاه سلاح المدفعية، ولما جاء دور المشاة في احتلال القرية تعذر عليهم دخولها فاستنجدت القيادة العامة بقوات المتطوعين، واتصلت بالمرحوم (( أحمد عبد العزيز ))، لإرسال قوة تقتحم القرية، وتمهد لقوات الجيش احتلالها، فاتصل هو بدوره قائد الإخوان المسلمين الأخ اليوسباشي (( محمود عبده ))، بموقع (( صور باهر )) على مشارف القدس، ومما هو جدير بالذكر أن موقع (( صور باهر )) كان في حالة الطوارئ القصوى... نظراً لكثرة المستعمرات اليهودية حوله....

وتوقع هجوم مفاجئ من اليهود الغادرين، في أوائل أيام الهدنة ومع هذا فقد كلفني الأخ القائد، باختيار فصلية للقيام بمهمة خطيرة... وكانت مهمة الاختيار عسيرة وصعبة...بالنسبة ليه الكل والحمد لله على درجة متساوية من الإيمان..والجميع يبغي الشهادة والجميع يتمثل في قول القائل...

ركضاً إلى الله بغير ذات

إلا التقى وعمل المعاد

والصبر على الله في الجهاد

وكل ذاد عرضه النفاد

غير التقى والبر والرشاد

هناك في هذه اللحظات..لحظات الاختيار..نرى أعصاب المجاهدين تكاد تفلت، وطاعتهم المطلقة لقائدهم، تتعرض لعاصفة قوية، واهتزاز شديد، لا تثبت أمامها إلا بالإيمان العميق، والإخلاص والثقة...وهكذا وبمجرد أن شعر الإخوان أن هناك مهمة فدائية حتى تسابق وتدافع الجميع، واقتحموا مكتب قائد القوة، وكل منهم يريد أن ينال شرف الشهادة، ويحصل على إحدى الحسنين.

وكان على رأس الملحين بشدة، في أن يكون ضمن هذه القوة: الأخ (( شرف الدين قاسم )) من إخوان بور سعيد. دخل مكتب القائد.وصرخ بأعلى صوته...أنت تحابي وتختار للشهادة غيري...وما كان القائد ليحكم العاطفة في هذا الموقف...وأمره بالعودة إلى مكانه وذكره بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله }...وقد كان الأخ شرف عيناً ساهرة في سبيل الله حقاً، فبكى وعاد إلى موقعه.


إسترداد عصلوج

ولنبدأ عزيزي القارئ لنتعرف على معركة عصلوج :

كيف بـدأت؟

كيف انتهـت؟؟

وماذا كان منذ البداية، وماذا كان في النهاية ؟

ذات يوم أو على التحديد يوم 17/7/1948 م بعد صدور الأمر إلينا بالتحرك تجمعنا وحمل كل سلاحه وكنت أود عزيزي القارئ...أن تعيش مع كل فرد من أفراد القوة، لتتعرف على أسمائهم، ولكن ما ضرهم الاتذكر أسمائهم وقد خرجوا جميعاً في سبيل الله...وأسمائهم سجلت في كتاب عند الله (( لا يضل ربي ولا ينسى )).

نزلنا إلى بيت لحم وقدمنا أنفسنا إلى الصاغ (( حسن فهمي عبد المجيد )) والملازم (( خالد فوزي )) من ضباط الجيش المصري الذين تطوعوا مع فرق الفدائيين، وإذا بنا نؤمر أن نحرس مدفعية بيت لحم. وقد أخبرنا أن تلك المدافع ستصحبنا في هذه المهمة، ثم علمنا بعد ذلك أن قوات الجيش التي كلفت بالاستيلاء على عصلوج قد أحرزت بعض التقدم...فصدرت الأوامر بعودتنا إلى مواقعنا (( بصور باهر )) وما كدنا نصل إلى المواقع حتى جاءت إشارة عاجلة من القائد (( أحمد عبد العزيز )) يستدعينا للقائه...ذلك لأن قوات الجيش تعذر عليها اقتحام القرية.

وكلفنا بإتمام هذا العمل...و ألقى على أكتافنا انجاز هذا الأمر وطلبت لمقابلة (( أحمد عبد العزيز ))...

وأنا في طريقي لمكتب القائد...فكرت كثيراً في هذه المهمة وذهب بي الفكر هنا...وهناك.... وأخيراً قلت لعل الله مدخر لنا خيراً لا نعلمه...وقابلت القائد...حدثني باهتمام شديد وجد... وشرح لي دقائق العملية بالتفصيل...كان اللقاء مملوءاً بالحماسة والإيمان ووجهنا في إخلاص وصدق..وأتبع ذلك بنصائح قيمة مفيدة، كما شجعني بكلام طيب، كل ذلك تم في كلمات قليلة موجزة، وودعنا متمنياً لنا التوفيق، ووصانا بالثبات عند اللقاء، وأن النصر مع الصبر.

غادرنا مكتب القائد، تركناه وكلماته لا زالت ملء السمع والفؤاد...ركبنا السيارات، وكان معنا الدكتور (( محمد غراب )) طبيب القوة وهو رجل فيه إخلاص وطهارة وتقي، أحسبه ذلك.

ـــ ولا أزكيه على الله ـــ ولقد تفاءلت بوجوده معنا، تحركنا على بركة الله وكان المسير ليلاً.

وقفت العربات في الطريق قبل (( بئر السبع )) بحوالي 4 كيلو مترات صلينا المغرب والعشاء جمع تأخير، لحقني في الصلاة الدكتور (( غراب ))، وتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( جعلت لي الأرض مسجداً طهوراً فايما رجل أدركته الصلاة فليصل )). كانت الساعة العاشرة ليلاً، والقمر جميلاً، السناء صافية، منظر في غاية من الروعة والجلال، صنع الله الذي أتقن كل شيء.

لوحة بديعة خلابة، وما أجمل وأبهى أناس في طريقهم إلى لقاء ربهم، في طريقهم إلى معركة وإلى قتال، هدفهم أولاً وأخيراً، أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى تقف بعيداً في أعلى الجبل...فترى الجمال المجسم.

أناس يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويكلمون الله في إشفاق { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا*وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب )).

ذلك يا أخي فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وصلنا إلى (( بئر السبع )) في غسق الليل وفي حالك الدجى.

وقبل أن يتنفس الصبح، وتذكرت ما كان لنا من ذكريات في (( بئر السبع ))، ولاحت لي في بهاء وجمال، صور شهداء (( بئر السبع )) وكرت على مخيلتي لمحات خاطفة لإخوة أبرار...دفنوا في هذه الأرض الطيبة وأولهم بطل من أبر الرجال وأطهرهم...هو الأخ الشهيد ضابط الجيش البطل (( أنور الصبيحي ))...الذي استشهد في مستعمرة (( بيت أيشل ))...وثانيهما الأخ (( على صبري )) من إخوان الإسكندرية من كتيبة (( سوريا ))... استشهد في موقعة الدبابات...في الدقائق الأخيرة للمعركة..وكأنه كان على موعد في الجنة.

ودعني عزيزي القارئ أحدثك قليلاً عن هذا الشهيد...سأجتهد أن أرسم لك حسب قدرتي صورة تقربه إليك...وإن كان هو أكبر من ذلك بكثير....

كان إنساناً يعيش لآخرته، هجر حياة الناس ووضع لنفسه حياة بعيدة كل البعد عن حياة الذين ظلموا أنفسهم...عاش لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان من الشخصيات التي تحمل أبدانا تـتـقد بهذه الشعلة الإيمانية، وجه كالفجر المشرق المضيء، نفس مطمئنة مشعة بالخير والطهر تواقة دائماً إلى المثل الكامل، والإخلاص المطلق، فيه إرادة للخير والصدق، فيه استقامة في الضمير، بحيث تطابق ظاهره وباطنهن يؤثر الأعمال على الأقوال، له إرادة ماضية لا تعرف اليأس، وله عقل له ضياء، ليس فيه ظلمة......

لا يحل بمكان إلا ترك فيه أثراً حسناً، له روح تهفو للحب و الطهر، يصبو إلى نور الحرية في روضات السماء.

لا ينهض إلا للدفاع عن الحق، ثم لا ينتهي إلا بالثبات على الحق، كانت آخر خطواته على أرض (( بئر السبع ))، ولكنها صاعدة إلى السماء مجموعة صفات كريمة، و أخلاق طيبة، تحملها نفس زكية طاهرة. هو أعلى مما وصفنا ونحن عاجزون عن تخطيط رسم يقربك من حقيقته.

فاعرفه يا أخي بروحك، ودع قلبك يتعرف إلى قلبه هناك في هذه الأجواء الممتلئة بالإيمان والروحانية والإشراق تعرف شهيدنا...الذي خرج من (( بئر السبع )) إلى الجنة...ولقي ربه من أخطر طريق...إلا وهو طريق المعركة...

ولسان حاله يقول :" وعجلت إليك ربي لترضى " هؤلاء الشهداء، من عرفنا ومن لا نعرف لبوا نداء الله هناك في عالم الشهادة هناك حيث تزفهم الملائكة.

اللون لون الدم، والريح ريح المسك أأقرب لك تلك اللوحة الرائعة أم أقربك أنك إليها إذا كنت تحب أن تراها وتتعرف عليها...فدع قلبك يخفق بحب الله وعظمته، واستشعر ضعفك، وقوة مولاك، عند ذلك تأنس بحضرته، ويطمئن قلبك بذكره ولتترك فؤادك يسبح في معاني الخير والطهر، حينئذ تلتقي بهذه الصور المشرقة المضيئة ولأمر ما كان الصحابي يردد...

غـداً تلقى الأحبة

محمداً وصحبـه

ذهبت لأنام وقد استغرقني الفكر في أمر هذه المهمة التي خرجنا من أجلها ــ استيقظنا مبكرين وأدينا فريضة الفجر، ودعونا وألححنا على الله أن يكتب لنا التوفيق...اجتمعنا باليوزباشي (( حسن فهمي عبد المجيد )) في الصباح وركبنا السيارات حيث وصلنا إلى تباب (( عصلوج )).

استرداد عصلوج :

المجاهد يحي عبدالحليم وأحد رفاقه

كان لابد بمشيئة الله وقوته، من إعادة القرية إلى أيدي المسلمين أصحابها، والثأر لإخواننا الشهداء. وكان لهذه المعركة حساسية خاصة، ولابد أن نكسبها بأي ثمن بمشيئة الله، وقد وضعنا قول الصديق رضي الله عنه: " أحرص على الموت تهب لك الحياة ".

وسأنقل لك كلام اللواء (( أحمد على المواوي ( بك ) )) القائد العام الأول لحملة فلسطين... في شهادته بقضية (( السيارة الجيب )) نقلت من دوسيه القضية، بعد أن أقسم اليمين...

س: عند دخول الجيوش النظامية أرض فلسطين بقيادتكم...هل كان فيها متطوعين من الإخوان المسلمين ؟

جــ: نعم لأنهم سبقوا بدخولهم القوات النظامية.


س: هل استعان الجيش النظامي ببعض الإخوان المسلمين لبعض العمليات الحربية أثناء الحرب كطلائع ودوريات؟

جــ: نعم استعنا بالإخوان المسلمين، واستخدمناهم كقوة حقيقية تعمل على جانبنا الأيمن، في الناحية الشرقية، وقد أشترك هؤلاء المتطوعين نم الإخوان المسلمين في كثير من المواقع أثناء الحرب في فلسطين، وبالطبع أننا ننتفع بمثل هؤلاء في هذه الظروف.

س: ما مدى الروح المعنوية بين الإخوان المسلمين؟

جـ: الواقع أن كل المتطوعين إخوان وغيرهم كانت روحهم المعنوية قوية جداً، وقوية للغاية.


س: هل قام المتطوعين بعمليات نسف في صحراء النقب بطرق المواصلات وأنابيب المياه لفصل المستعمرات اليهودية؟

جـ: نعم وأذكر أن هؤلاء الإخوان كانوا يقومون بدوريات ليليه يصلون فيها إلى النطاق الخارجي للمستعمرات اليهودية، وينزعون من تحت الأسلاك الشائكة الألغام التي يبثها اليهود وسط هذه الأسلاك، ويستعملونها في تلغيم الطرق الموصلة إلى المستعمرات اليهودية، وقد نتج من جراء هذه الأعمال خسائر لليهود وتقدم لي من جرائها، مراقبو الهدنة يشتكون من هذه الأعمال.


س: هل كلفتم المتطوعين بعمل عسكري خاص عند مهاجمتكم (( عصلوج ))؟

جـ: نعم (( عصلوج )) هذه بلد يقع على الطريق الشرقي واستولى عليها اليهود أول يوم من أيام الهدنة ولهذا البلد أهمية كبيرة جداً بالنسبة لخطوط المواصلات وكانت رئاسة الجيش تهتم كل الاهتمام باسترجاع (( عصلوج )) بأي ثمن فكانت الخطة التي رسمتها لاسترجاع البلد:......

الهجوم عليها من كلاً الطرفين الجانبيين فكلفت المرحوم (( أحمد عبد العزيز )) بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم، وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة. ( ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دخول القرية والاستيلاء عليها ).


س: وكيف تغلبت القوة الصغيرة؟؟

جـ: القوة الغربية كانت من الرديف، وضعفت روحهم المعنوية، وبالرغم من وجود مدير العمليات، الحربية بينها إلا أن المسألة ليست مسألة ضباط، المسألة مسألة روح إذا كانت الروح طيبة، يمكن للضابط أن يعمل ما يشاء، ولكن إذا كانت الروح ميتة لا يمكن أن يعمل شيئاً.


س: هل تعرف عدد المتطوعين من الإخوان المسلمين ؟

جـ: بلغ عدد المتطوعين من الإخوان ما يقرب من عشرة آلاف.

هذه شهادة قائد عام القوة المصرية للجيش المصري عن القوة الصغيرة، من الإخوان بقيادة ضابط ملازم متطوع..هو الأخ (( يحيي عبد الحليم )) من إخوان القاهرة، شعبة السيدة زينب.

ورغم هذا النجاح الذي أحرزه الإخوان، وعظم الخسائر التي منى بها العدو.

كانت خسائرنا صغيرة جداً...لا تتجاوز عدداً من الجرحى من بينهم قائد القوة المهاجمة.....

هذا هو كلام السيد اللواء (( المواوي ))...قائد الحملة المصرية ولسنا نجد لأنفسنا فضلاً في هذا.

ولسنا نمن بشيء وإنما الفضل كله لله وإنما نعتقد قول الله تعالى: { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان أن كنتم صادقين }...

ولا بد أن اليهود قد فكروا أكثر من مرة في نتيجة هذه المعركة ونظراً لقلة عدد الإخوان المشتركين فيها، ورغم أنه لم يكن لنا ميزة اختيار الأرض التي دارت رحى المعركة عليها، فقد كانت أرضاً مسطحة مكشوفة ليس بها سواتر، نحتمي بها أثناء التقدم ورغم أن العدو كان مستتراً في دشمة المحصنة، ويغطى أرض المعركة التي بيننا وبينه بالنيران المكثفة، برغم كل هذه العوامل التي هي في صالح العدو.

1. أرض مسطحة مكشوفة ليس بها سواتر نحتمي بها ونتقدم منها.

2. تستر العدو وراء جدر محصنة.

3. تغطية المساحة التي تفصل بيننا وبينه بالنيران المكثفة.

إزاء ذلك كان لا بد من وضع خطة سريعة خاطفة لنتخطى هذه العقبات دون خسائر، أو بأقل خسائر ممكنة...

فحيث تكون الأرض منبسطة يتسنى للقوة القليلة العدد المدربة تدريباً عالياًن وعلى درجة كبيرة من الكفاءة والمهارة أن تكون ذات فعالية كبيرة، وتعطى نتائج جيدة، وتكون خسائرها قليلة نسبياً.

وتتمتع بسرعة الحركة ودوام الاتصال، ولا سيما إذا كان المخرج من هذه المساحة المحصورة ليس في يدها.

إذ يصير التركيز على هذا العدد القليل الذي سيقع عليه عبء المواجهة الخطرة، فلابد من إنهاء فترة اللقاء والتقدم السريع في قفزات سريعة متعرجة، وانبطاح حتى نقترب من الدشم التي تغطي المساحة بالنيران، وتملأها بالحمم الملتهبة، وتعوق تقدمنا...

وبذلك اتضح لنا براعة ومهارة القيادة في إرسال قوة قليلة العدد، كبيرة الدربة، وعلى درجة عالية من الكفاءة.

ولها من الإيمان وإرادة القتال، ما يجعلها صادقة في النزال صابرة عند اللقاء، ولأن الكثرة العددية تكون خسائرها كثيرة خصوصاً إن كانت غير مدربة تدريباً كافياً، وغير مؤمنة بالهدف التي تحارب من أجله.

المعركة الأولى في (( عصلوج )) كانت بين قوة كبيرة غير مدربة دفعت إلى الحرب من غير إيمان أو عقيدة...تحارب قوة مثلها من اليهود مدربة وماهرة، ومؤمنة بالهدف التي تحارب نم أجله أما في هذه المعركة التي نحن بصدد الكتابة عنها، فقد كان العكس صحيحاً، وتلافت القيادة هذا الخطأ، واستفادت من الدرس وكان كل جندي يعرف واجبه وينفذه بدقة ودراية وهو مؤمن تمام الإيمان بقول الله تعالى:. { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلككم تفلحون }....

ويسمعون صوت السماء يناديهم....

{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بأذن بالله والله مع الصابرين }...آل عمران..


معنويات عامرة بالإيمان

بالرغم من قلة عدد القوة، وطبيعة المعركة حيث تدور أرض مكشوفة، ليس بها سواتر وفي مكان محصور، برغم ذلك....كان الأخ المسلم مقاتلاً جسوراً ممتازاً، ثابتاً في المعركة صابراً في اللقاء، كان ذلك دأب القوة كلها، كلهم حريص على إحدى الحسنيين، مصر على القتال حتى آخر رمق.

أما عدوهم فقد خرج بطراً، ولدنيا يصيبها.

ولابد للمؤمنين أن يأخذوا في يدهم المبادرة الأولى وقد كان جميع أفراد القوة يتمتعون بإرادة القتال والصمود وليس لهم خيار، ويعلمون تماماً أن الذي لا يفر، ويظل صامداً، أولئك في الغرف العليا من الجنة، وفي الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.


إستعداد للهجوم

(1) أن العمل الهجومي الناجح، يؤدي إلى الحصول على المبادأة، وحرية العمل والحركة، وفرض الإرادة على العدو، والهجوم على حد ذاته يساعد على رفع الروح المعنوية للمهاجم.

وكان أسلوب القائد العظيم...(( خالد بن الوليد ))، أن يبدأ بالفعل، ويترك لعدوه رد الفعل.... ووفقاً لرأى أكثر رجال الحرب أن الضربة الأولى تحقق خمسين في المائة من النصر، فإذا تمكن من شل قوى العدو ومنعه من الضربة الثانية فقد تحقق النصر.

وقد قال (( نابليون )):" لا تتخير الدفاع إلا في حالة عدم توفر فترة المبادأة لديك...وإذا أجبرت على الدفاع فيجب أن يكون دفاعك لكسب الوقت، وإخراج العدو من قاعدة عملياته على أن يكون هدفك دائماً الهجوم".

وقد كان من أكبر أخطاء الجيوش العربية في حرب 1948 م أنها التزمت في تكتيكها الدفاع، دون الهجوم.

فكانت الهزائم المتتالية، التي منيت بها حتى حسرت الحرب وهي سبعة جيوش...أمام العصابات الصهيونية، وقد كان الإمام الشهيد يعارض في دخول الجيوش، ويوصي بترك الأمر لقوات المتطوعين.


خط سير المعركة

اجتمعت بالإخوة وقمت بتوزيع كل الواجبات، وعرف كل أخ دوره بدقة، وأفهمنا كل أخ البدائل حين تكون مفاجآت غير منتظرة، والحيز الذي يجب أن يتصرف الأخ فيه حين ينقطع الاتصال بينه وبين قائده القريب.

وظهر بوضوح في هذه الجلسة القصيرة مدى الترابط المتين بين هذه القوة، وقوة الحب الهائلة التي تربط بين الأخوة، والسمع الطاعة المبصرة، والنصيحة الراشدة الأمينة، من كل الجنود وهكذا بدأت الثواني الأولى من المعركة والكل والحمد لله على درجة عالية من الثقة بالله، والاتصال به، والتوكل عليه، نظمنا مجموعة متقدمة مكونة من الأخ (( يحيي عبد الحليم ))، والأخ (( عبد الكريم السيد ))، والأخ (( محمد إسماعيل عبد النبي ))، وهذه مجموعة القلب ومجموعة في الميمنة، ومجموعة في الميسرة، ومجموعة تعزيز في الخلف تتابع التقدم، وتراقب بدقة المجموعات الأمامية وتبادل الأخوة النظرات الممتلئة بالحب...وبعد دقائق بدأت مدفعيتنا تدك مواقع العدو ودشمه.

وواصلت الضرب، وتوالي نزول دانات المدافع على المواقع وسكتت المدافع...وهي كلمة السر، لبدء الهجوم تقدمت مجموعة القلب في سرعة مذهلة، وكأنها تتقدم على أجنحة الملائكة، ولسان حالها يقول:" وعجلت إليك ربي لترضى " طـه.

كان شعورنا مرهفاً، وحواسنا يقظة حذرة رصاص العدو يتساقط علينا كالمطر، ونحن في وهج النار وهيجاء المعركة، ولا يدفعنا للفداء إغراء أو وجزاء من أحد إلا من الله العلي الكبير، وإنما نصبوا إلى أحدى الحسنيين، أما أن نشهد النصر، أو تشهد الملائكة زفافنا إلى الفردوس الأعلى، في هذه اللحظات، التي ليست من حساب الزمن قلت يارب.

وتوجهت إلى السماء ... ماذا في السماء؟

توجهت إلى الله بقلبي أليس هو القائل في محكم كتابه { وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم }إذاً نصر الله لا يتنزل بعدد ولا عدة، وإن كان الله أمرنا أن نأخذ الحيطة، ونعد كل الأسباب، ولا نترك شيئاً { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم }( الأنفال )، في هذه اللحظات الحاسمة من عمر هذه المعركة تذكرت صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في عرشه في غزوة بدر الكبرى وهو يناجي ربه في إلحاح حتى وقع رداءه من على منكبيه وجنود الحق وجنود الباطل في صراع، وأن الله لا يخلف وعده مع القلة المؤمنة، وأحسست إحساساً حقيقياً، أن الله أمدنا بمدد من عنده، وسرت روح قوية من عنده في أوصالنا، فتضاعفت حماستنا، وقوي إيماننا وازداد حتى ليحس كل منا أنه صار كفئاً لمجموعة، وان الله قد ربط على قلوبنا، وأن يد الله القوى القدير هي التي تضغط على زناد المدفع فينطلق بقوة الله، مسدداً الرمية { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }.

تابعت مجموعة القلب التقدم والهجوم، وتابعتها مجموعة الميمنة ومجموعة الميسرة، وكان يدفعنا إلى التقدم ذلك النشيد السماوي (( وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم )).

ومع تقدمنا وإصرارنا، وعزمنا كنا نرى بقلوبنا شهداء بدر أن فرحوا بما آتاهم الله من فضله، حملوا إلينا البشرى بأن لا خوف علينا ولا حزن.

وفي حسنا يدوي قول الله تعالى:{ إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان*ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } ( الأنفال ).

وكلما تقدمنا نقصت المسافة التي بيننا وبين دشم الأعداء ومواقعهم وزادت المسافة التي احتويناها، وفي هذا الجو الرهيب الذي لا يشعر به إلا من كابد الحرب واصطلى بنارها تسللنا إلى القرية، وقابلنا الذين كفروا زحفاً تحت وابل من النيران و دانات مدافع الهاون التي تتساقط بجوارنا، وعلم الله منا صدق النية، وكان إخواننا جميعاً في غاية من الشجاعة والثبات والإقدام يرمون أنفسهم على الموت، ابتغاء مرضاة الله، وإحدى الحسنيين، يتمنون أن ينالوا جميعاً شرف الشهادة وبعد معاناة شديدة، ومعايشة في هذا الجو المخيف وزحف مستمر واقتراب مجموعة القلب من موقع العدو بحيث لا تؤثر نيرانه عليها هجم الأخ ( محمد إسماعيل عبد النبي ) على الموقع ووقفت والأخ ( عبد الكريم ) نراقب الموقف حتى أنهى الأخ ( عبد النبي ) تطهير الموقع ودخلنا الدشمة ووجدنا فيها ثلاثة جثث يهودية، مكثنا بالدشمة قليلاً لالتقاط الأنفاس واعتبرناها نقطة نتقدم منها.

وتم بحمد الله وتوفيقه، استرداد قرية عصلوج من أيدي الأعداء ووزعت حراسة يقظة وأخذنا عدداً من قوة التعزيز الخلفية لحراسة الدشم المحتلة، وللدفاع منها إذا حدث وجاءت قوة يهودية للهجوم على القرية.

كل ذلك تم في سرعة، ولكن بقيت تبتان على الشارع الرئيسي المرصوف لازالتا تواصلان ضرب النار، وتملأن المنطقة بنيران مكثفة، وتوهموا أن هذه النيران تمنع تقدمنا وتعوق اقتحامنا، ولكن أنهى لهم هذا....

وهو طريقنا إلى الجنة، وهدفنا الشهادة، وقد عايشنا بأرواحنا انتصارات القائد العظيم (( خالد بن الوليد )) .

وتابعنا القائد الشجاع ( المثنى بن حارثة الشيباني ) في فتوحاته بالعراق وأمامنا أولاً وأخيراً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فاقتل ثم أغزو فاقتل ثم أغزو فاقتل )) رواه مسلم والبخاري.

وبعد فرار اليهود أمامنا تاركين وراءهم سيارات ومعدات، وأسلحة كثيرة وعدداً كبيراً من صناديق الذخيرة واحتموا وتحصنوا بالتبة المشرفة على الطريق الرئيسي، على أمل أن تحضر إليهم قوة كبيرة يبدءون بها إعادة القرية وإجلاء المتطوعين عنها.

قلت لك عزيزي القارئ......

أن هناك تبتين كانتا تواصلان ضرب النار، ولكن باقتحامنا المواقع والدشم الأمامية فر اليهود وانسحبوا وتمركزوا جميعاً في الدشمة المسيطرة على الطريق آملين في قوة تعزيزية.

أما نحن فقد كان كل تفكيرنا محصوراً في القضاء على الدشمة التي لا زالت تواصل ضرب النار، تفاهمت مع ( محمد إسماعيل عبد النبي ) و ( عبد الكريم السيد )، وكان علينا نحن الثلاثة اجتياز مساحة تزيد على خمس مائة متر وهي أرض مكشوفة مغمورة بالنيران المكثفة وكان وراءنا طاقم مدفع 6 رطل يضرب بصفة مستمرة أثناء تقدمنا إلى التبة، وقد أحدث نزول داناته على الموقع ارتباكاً وذعراً في نفوس العدو خصوصاً و نحن كنا قد اقتحمنا جميع دشم العدو ما عدا هذه الدشمة، هذا الضرب المستمر المتتابع من مدفعيتنا، عكس على إخواننا اطمئناناً وهدوءاً وثقة، ورفع كفاءة الإخوان القتالية، وتجلت في المجموعة روح الفريق، والقيادة الممتازة، والجندية المتميزة، من جرأة وجسارة، وهزم ثابت على بلوغ الهدف وإنهاء هذه المهمة على خير ما يحب ربنا ويرضى أما من ناحية العدو فقد وإلى الضرب المركز على المجموعة المهاجمة واعتمد على الدفاع الثابت .غير المتحرك.

المعد إعداداً جيداً، المعتمد على القلاع والحصون { لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة *أو من وراء جدر....}.

واصلت مجموعات الهجوم التقدم، تتقدمهم مجموعة القلب وقطعوا نصف المسافة أو يزيد في قفزات سريعة وزحف مستمر برغم وابل الرصاص المنطلق من الرشاشات السريعة الطلقات ولكن كل منهم كان يعتقد بإيمان وصدق ويردد في انطلاق قول الله تعالى:" قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ".

خطوات منطلقة تسابق الريح يباركها الله لأنها في سبيله، الكل يريد أن يفتدي أخاه، ولما كنا ثلاثة، متمنياً في أنفسنا أن ننال شرف الشهادة، وتذكرنا شهداء مؤتة الثلاثة:

( زيد بن حارثة ـــ عبد الله بن أبي رواحه ـــ جعفر بن أبي طالب ).

ودعونا الله أن يكون نصيبنا كنصيبهم....

ولكن أني يكون لنا هذا الشرف...

والذي بعث أولئك زعيم المجاهدين وقائد الغر المحجلين... صلى الله عليه وسلم ....والذي بعثنا عبد يريد أن يقترب إلى ربه، ويرجو ثوابه، ويطمع في مغفرته.

تقدمت مجموعة القلب نحو أتون النار واخترقت اللهب المستعمر في طريقها إلى دشمه العدو...

حتى إذا كان بيننا وبينها حوالي سبعين مترا وكنا قاب قوسين أو أدنى من اقتحام الدشمة وتوقفت نيران مدفعيتنا .وسكتت أيضا نيران العدو . وتقدم الأخ إسماعيل عبد النبي وما أن تحرك حتى انطلقت في اتجاهه دفعة هائلة من الطلقات المتتابعة فأشرت إليه أن يتوقف تماماً وكذلك تفاهمت مع ( عبد الكريم ) بالسكون وعدم الحركة وبعد هنيهة مرت كأنها ساعات تقدمت إلى الأمام في سرعة فائقة وصمت تام وإذا بالنيران تفتح بغزارة وبسرعة نحوي وإذا بإحدى هذي الرصاصات تخترق الفضاء متلصصة وتصيب ساقي اليسرى من الأمام نافذة من عظمة الساق، وعظمة الفخذ.

وكنت أريد أن أتابع التقدم، وأكون مع مجموعة الالتحام التي سوف تنهي هذا الهجوم مع هذه الدشمة التي ظلت تدافع آملة أن يأتيها تعزيز قبل أن يقضي على مقاومتها الإخوان، وكنت أحب أيضاً أن أشارك في بشريات النصر،وأساهم في اللحظات الأخيرة بجهد متواضع مع باقي الأخوة في إنهاء المعركة، وحاولت ولكني لم أستطع... فقد ثقلت رجلي ولم أستطع الحركة...ففكرت ملياً وقلت خير لم تصبه...سيناله أخوة كرام لك وتفاهمت مع الأخ (( إسماعيل عبد النبي )) أن يقترب مني بحيث يصله صوتي، وجاء وأراد أن يواسيني في إصابتي فأسكته بإشارة صارمة فخم منها أنه لا وقت لهذا همساً أن اليهود قد فرغت ذخيرتهم وآخرها ما أصبت بها.

والأمر الآن يحتاج منا إلى إنهاء هذه المقاومة والهجوم والاقتحام في حذر شديد، ولكن في جرأة فائقة وجسارة لا تعرف التردد تركت الأخ (( إسماعيل )) متقدماً ومعه الأخ (( عبد الكريم )) ومن وراءهم مجموعة الميمنة وظلت مجموعة الميسرة تراقب التقدم.

أما المصاب فقد حاول أن يتقدم ولكن دون جدوى والحق يقال: لم يجد ألماً يذكر، ولم يشعر إلا بتنميل بسيط وكما يقول أحدهم " أنها قبلات الملائكة )).

توقفت وكلى حسرة وألم لعدم مشاركتي في اللمسات الأخيرة لهذا النصر، ولكن عاد البشر إلى نفسي و أطمأنت وهدأ قلبي حين نظرت إلى الأخ (( إسماعيل ))، والأخ (( عبد الكريم ))، يتابعان التقدم بأقصى سرعة وبحسن تقدير، حتى إذا كانا أمام الدشمة قفز (( إسماعيل )) مقتحماً وانتظره (( عبد الكريم )) بالخارج، غاب (( إسماعيل )) بالداخل دقائق خلتها دهراً، ثم نادي (( عبد الكريم )) فتبعه إلى داخل الدشمة، وقاما بتطهير الدشمة وقضيا على المقاومة الأخيرة، وقتلوا جميع من بقي بالدشمة وتابعوا الفارين بالطلقات، وفي الساعات الأخيرة، من عمر هذه المعركة حدث أمر هائل لم يكن متوقعاً.

لابد من كتابة سطور قليلة عنه، حين كان الأخوة يحملون الأخ (( يحيي عبد الحليم ))، على نقالة لنقله إلى سيارة الإسعاف، نظرنا في السماء، فإذا ثلاث طائرات على علو منخفض، وكنا نظنها من سلاح الطيران المصري ولكن عندما أمعنا النظر وجدنا عليها نجمة إسرائيل، وتوالى إطلاق النار من هذه الطائرات بشكل مخيف، فترك الأخوة النقالة، وأسرعوا إلى مخبأ قريب ليحتموا من هذه النيران، وهذه الطلقات السريعة المندفعة تجاههم، وهذا الرصاص المنطلق كأنه من أفواه القرب، وكأن السماء تمطر لهباً وجحيماً وكأن الجو به شواظ وسعير، واخترق الرصاص معظم قماش النقالة ولكني لم أصب بشيء من هذا الرصاص.

وكأن حماية الله تحرسني، واستشهد أخوة أعزاء من طاقم المدفع، وبعد مدة غير قليلة، عايشنا الرعب وكأن السماء تصب علينا النار صباً.

وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ومن مواقع اليهود وتلك الدشم التي احتلت قام بعض الأخوة بإطلاق مدافعهم الرشاشة في اتجاه الطائرات، ووالوا الضرب ففرت الطائرات، وبعد فترة من الوقت سمعنا صوتاً يدوي في أرجاء الفضاء...الله أكبر....الله أكبر ....فكانت الكلمات برداً وسلاماً، ونوراً وإشراقاً وأرسلنا البصر بعيداً على مسجد القرية فإذا الأخ (( مصطفى المبلط )) على المئذنة يؤذن ويرفع صوته الله أكبر الله أكبر وكان وقع التكبير في النفوس عميقاً، وكان إيذانا بأن تندفع قوات الجيش، مهللين مكبرين..وهتفت الجموع كلها في بشر سرور الله أكبر سقطت عصلوج وهتفنا نحن بقول الله تعالى:" هذه بضاعتنا ردت إلينا " دوى صوت السماء الله أكبر الله أكبر وامتلأت القرية، ودوى في أرجائها وسرت في كل مكان فيها تلك الكلمات من أسماء الله ولفظ الجلالة وكأنها الرعد القاصف يملأ قلوب الأعداء بالخوف والهلع وما أن بلغ المؤذن نهاية الآذان...

الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله حتى أذنت المعركة نهايتها.

وقام قواد الفصائل من الجيش بتنظيم حراسة شديدة خشية المفاجأة وفي كل دشمة وكل موقع قوة كبيرة، وأحاطوا القرية بعيون حارسة وبقلوب مؤمنة وعلى الجانب الآخر كان هم العدو الهرب حفاظاً على الحياة وطلباً للنجاة وأصيبوا بحالة من الذهر (( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة )).

وإلى اللقاء عزيزي القارئ إن شاء الله مع نمط من هؤلاء المؤمنين في معركة أخرى والله أكبر ولله الحمد...

غرة رجب 1398هـ
يحيي عبدالحليم

.