مراجعات الإخوان ..ماذا يقصد بها؟

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مراجعات الإخوان ..ماذا يقصد بها؟
  • إعداد : إخوان ويكي

مقدمة

تنطلق الصرخات بعد كل محنة تتعرض لها جماعة الإخوان مطالبة إياها بعمل مراجعات فكرية لمنهجها، مطالبة إياه بالتخلي عن بعض ثوابتها أو تغيير إستراتيجيتها.

وهذه الدعوات التي تنطلق بذلك تنحسر بين محب لدعوة الإخوان محاولا تقديم يدي المساعدة في تطويرها وتغيير تفكيرها الثابت أو إستراتيجيتها التي ربما لا تتوافق مع الواقع ومتطلبات العصر، أو المتغيرات الجيلية والمتوارثات الفكرية، وهذا الفريق يرحب به الإخوان ويسمعون لنصحه ومحاولة العمل برؤيته إذا توافقت مع الشريعة الغراء.

والفريق الثاني هو الذي يطالب الإخوان بعمل مراجعات فكرية عقدية في منهجهم وثوابتهم ومحاولة السير في فلك ما هو مرسوم للجماعات الدينية أو الأحزاب السياسية، بل البعض يطالبها بحصر نفسها إما في السياسة والعمل الحزبي أو المسجد والعمل الدعوى، أو الخدمة والعمل التطوعي دون أن يدرك أن منهج الإخوان وفكرهم وعقيدتهم مستمدة من كتاب الله وسنة نبيه وأن فكرهم فكرا شاملا في مناحي الحياة كلها لا في جزء منها.

لكن العجيب من خرج يطالب الإخوان بمراجعات عن العنف محاولا بذلك لصق وتأكيد تهمة ممارسة العنف على الإخوان بالرغم أنه لم يجد دليل قطعي على ذلك، متناسيا العنف الشديد الذي يمارس ضد الإخوان وبطبيعة النفس البشرية لربما البعض يلجأ للدفاع عن نفسه.

ولذا من أسباب النجاح القويّة للفرد والجماعة هي المراجعات سواء كانت بالنقد الذاتي أو طلب النصيحة، والعاقل لا يخاف النقد أو النصح، والدعوات والجماعات يجب أن تحرص على تلمس سبل النقد البناء الذي يقيم الماضي ويرسم للمستقبل عن طريق عقد المؤتمرات التي يشارك فيها كل صاحب نقد بناء، وناصح فعال، وعدو قدير يبتغى النصح الشريف،مع الوضع في الاعتبار عدم الحجر على الآراء، فالمجال يتسع للجميع، يقول الإمام ابن القيم “لقاء الرجال لقاح العقول”.

إن من أنجح الوسائل هي ورش العمل التي يتناقش فيها الجميع نقاشا بناءا مثمرا يطرح فيه كل واحد رؤيته بمنهج علمي ورؤية واضحة واقعية متطورة مواكبة للحداثة التي يعيشها العالم الآن لكي تستطيع الجماعة التجدد والتمكن من قلوب أنصارها وأتباعها.

فالنقد الحقيقي للرأي ليس هو الذي يأتي من أنصاره ومعتنقيه، وإنما هو النقد الذي يأتي من المعارضين له والمنكرين عليه.

حسن البنا وفكر التجديد

أنشأ حسن البنا الجماعة عن عمر 22 عاما –وهو في عرف الواقع شاب صغير لم يكتسب خبرات الحياة- لكنه استطاع بما وهبه الله من ملكات خاصة ولباقة في الحديث واختيار الكلمات أن يجتذب الأنصار ويحيد الأعداء، بل كان لديه القدرة على وضع الاستراتيجيات وتنفيذها، ووضع الأطر الفكرية لجماعته – وفق رؤيته التي على أساسها سيطبقها واستنباطا للحوادث السابقة- لكنه مع ذلك ومع تقدم العمر والاحتكاكات الكثيرة بالتيارات والأفكار المختلفة سواء الإسلامية أو الليبرالية أو الشيوعية، بالإضافة للاحتكاك بالعسكر وكبار القوم ورجال الفكر المتعدد استطاع أن يكتسب خبرات جليلة أهلته لتغيير الفكر من وقت لأخر.

ففي رسائل الإمام البنا يتضح التجديد الفكري والتغير في المفاهيم ومصطلحاتها من رسالة إلى أخرى، بل قد أدخل التجديد على بعض الرسائل ذاتها، سواء بحذف أو إضافة.

فرسالة دعوتنا في طور جديد مثلا والتي أول ما نشرت في مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية في أغسطس من عام 1942م تختلف عن رسالة دعوتنا في طور جديد والتي تم نشرها في جريدة الإخوان اليومية في أكتوبر من عام 1948م حيث أضاف عليها الإمام البنا بعض الرؤى التي طرأت على الساحة والمتغيرات التي غيرت بعض الواقع.

أيضا رسالة إلى أي شيء ندعو الناس والتي نشرت في مجلة الإخوان الأسبوعية عام 1934م أعيد نشرها في مجلة النذير عام 1939م بعدما أدخل عليها الأستاذ البنا بعض الإضافات وحذف بعض الأشياء التي أصبحت لا تصلح لهذا الوقت.

حتى أن الأستاذ البنا حينما تم نفيه لقنا عام 1941م ومن عدها اعتقل في نفس العام لمدة شهر قال: هي فرصة لعيد ترتيب الأوراق فأراجع ما مضى واعمد لإصلاح الأخطاء ووضع رؤية للقادم (1).

وليس ذلك فحسب بل رسالة المرأة المسلمة والتي نشرتها مجلة المنار في عدد مايو وسبتمبر من عام 1940م تضمنت أراء وأفكار عدل الإمام البنا عن بعضها في أواخر حياته، ما دامت في نطاق الشرع.

ومن ثم لم يكتب حسن البنا رسائله لتكون دستورا لا يتغير من بعده لكنها أطروحات وضعها في وقت حياته وفق الظروف التي كان يعيشها الوطن العربي والإسلامي والمجتمع، كما انها رسائل وتعاليم ليست ثابتة لتظل الجماعة متمسكة بنفس الأطروحات التي كتبها الإمام البنا، ولذا وجب على الجماعة التعديل وفق تطورات المجتمع والواقع والبيئة المحيطة والأخذ من رسائل الإمام البنا بما يتناسب مع حال الوطن والمجتمع الإسلامي. ومن المواقف الواقعية لمراجعات البنا نفسه ما ذكره عبد الحكيم عابدين في مذكراته قائلاً: "في أثناء اجتماع مكتب الإرشاد كنا نجد الشيخ محمد الحامد يفتح علينا الباب ومعه صندوق من صناديق المياه الغازية ويغلق الباب ويضع الصندوق وراءه ويجلس وراءه ويقول: لا سرية في اجتماعات المسلمين، أريد أن أتكلم، فكان بعضنا يضيق، ولكن المرشد العام -رحمة الله عليه- يهش له، ويقول: قل يا شيخ محمد، فيسمع له المرشد وهو مسرور، وذات مرة كتب عشر ملاحظات يعتبرها نقدًا للإخوان المسلمين وللمرشد بالذات، وكتبها في كتاب غفل من الإمضاء وكتبها بخط غير خطه أو ربما كان خطه غير معروف للمرشد، وقال: هذه ملاحظاتي أرجو أن تفيدوا بها، وكانت مفاجأة أن وقف المرشد في حديث الثلاثاء وقبل الأسئلة قال: أحب أن أقول لكم شيئًا: جاءنا كتاب غفل من الإمضاء من أخ كريم غيور علينا، يؤمن بدعوتنا، سابق إلى الفضل، أحسبه أخونا الشيخ محمد الحموي؛ لأن عليه طلاوة أسلوبه، وخفة روحه، وهو ينقدنا في عشرة نقاط، أما الأولى فهي كيت وكيت وكيت وهو على حق ونحن مخطئون فجزاه الله خيرًا، ونعده بألا نفعل، والثانية كيت وكيت ونعده ألا نفعل، فقام الشيخ محمد الحامد الحموي يبكي ويحاول منع الأستاذ من الاسترسال، والمرشد لا يقبل هذا حتى أتى على العشرة نقاط، ووجد أنه على حق في سبعة وقال: أما الثلاث الأخرى فلا أقول: ليس معه حق، ولكنني أقول له: عذرًا؛ لأنه خفي عليه الشيء الفلاني، والحقيقة هي كذا وكذا وكذا، فقام الرجل وأصر على تقبيل يد المرشد، والمرشد يقول: أنت الذي تقبل يده (2).

وما ذكره أ/ جابر رزق بقوله: جاء إلى الأستاذ البنا أحد زملائه من خريجي دار العلوم هو الأستاذ (س. سعد)، وهو من أروع الناس وأتقاهم، ولكنه غضب كل الغضب؛ لأن الإخوان قد أنشأت فرقا للجوالة والكشافة (تلبس البنطلون القصير)، قال الأستاذ (س. سعد): يا حسن أفندي، فأجاب: نعم سيدي، قال: إني أكرهك.

فابتسم حسن البنا وقال في هدوء وبشاشة: وإني والله أحبك.

فقال الرجل: ولكني أكرهك في الله؛ لأنكم تكشفون الركبة في ملابس الجوالة والكشافة.

أجاب البنا مخلصا: هذا يزيدني حبا فيك، لأنك تكرهنا في الله، وليس لسبب شخصي، فوعده أن يعالج هذا الأمر (3).

الهضيبي ومراجعات حتمية

المستشار حسن الهضيبي

تولى المستشار الهضيبي مسئولية الجماعة في وقت كانت تعاني من قرار الحل الذي أصدره النقراشي باشا، ثم غياب مؤسسها الأول، والصراع على مكان المرشد بين صالح عشماوي وعبد الرحمن البنا، وقتها جاء الهضيبي-رغم أنه كان مستشار البنا الخاص- من الصفوف الخلفية ليتولى قمة الهرم التنظيمي ويقود الجماعة في ظروف صعبة بطبيعته الخاصة التي كانت تكسي وجهه وطبيعته.

جاء وفي تفكيره أخطاء النظام الخاص التي وقع فيها بعض قادته وهزت أركان الجماعة وصورتها وسط المجتمع الداخلي والخارجي، فكان قراره لا سرية في الدعوة، ولذا كان الصدام بين القيادة الجديدة للجماعة وقيادة استشعرت أنها أحق بالقيادة وأخذ القرار في هذا الموضوع وانطلق الصراع فكان قرار المراجعات بتحجيم دور النظام الخاص خاصة بعد حرب القنال عام 1951م وبلغ أوجه حينما صدر القرار بفصل كل من خالف أسس ومبادئ الجماعة التنظيمي.

وازداد الصراع واتسع نطاقه ودخلت قيادات أخرى على خط المواجهة فكان سيف الفصل دون سيف الاحتواء حتى وقعت الجماعة لخدعة كبرى -وهى صاحبة القوى الكبرى والوزن الثقيل- من قبل عدد قليل من العسكر حتى زج بهم في آتون المحنة التي طالت ما يقرب من عشرين عاما، انحسرت الجماعة وانبثق منها أفكار أكثر عنفا، فكانت سبه المراجعة –أو ما يطلق عليه تحديد الطريق- بصدور كتاب دعاة لا قضاة ليكون حائط صد للتنظيم وأفراده ضد العنف والتطرف الذي ظهر وبدأ يستشري في ظل الظروف التي كان يعيشها المعتقلين من تعذيب وتنكيل واضطهاد، والذي لا ادري هل سمح عبد الناصر بانتشاره ووصوله لباقي أفراد الإخوان في السجون أم أنه وصل لهم في غياب الرقابة البوليسية، خاصة أن عبد الناصر كان يشجع الفكر التكفيري الذي أخذ في الانتشار وما دور الضابط عبد العال سلومة بخافي عن أحد (4).

الجماعة والصراع النفسي

خلال ما يقرب من أربعين عاما والجماعة لا يذكر لها أنه قامت بمراجعات فكرية خلال هذه الفترة وعملت جاهدة على المحافظة على التنظيم من أن تنقض عراه، وكان جل تفكير الجميع ربط الأمور القلبية بالأمور التنظيمية في محاولة للحفاظ على تماسك التنظيم والحفاظ على قوته.

يقول الشيخ الغزالي: “مما يثير الحسرة رفض دراسة الأخطاء التي تورط فيها بعضنا، ولحقتنا منها خسائر جسيمة! إنني أسارع إلي القول بأن الأخطاء لا تخدش التقوى، وأن القيادات العظيمة ليست معصومة، ولا يهز مكانتها أن تجئ النتائج عكس تقديرها، إنما الذي يطيح بالمكانة تجاهل الغلط، ونقله من الأمس إلى اليوم وإلى الغد، وادعاء العصمة، والتعمية على الجماهير المسترسلة.. إن هذه الكبرياء لا تقل دمامة عن العوج الذي نحاربه في صفوف خصومنا، ونزدريهم من أجله (5).

فالمراجعات وإعطاء الفرصة للآخرين والتواصل مع الجميع ليس عيب ولا وصمة سيئة في جبين الجماعات الإسلامية، فلو نظرنا للخليفة عمر بن الخطاب في قوله: لو كانت لي حياةٌ لما أقررت والياً أكثرَ من أربع سنين إن كان عدلاً مَلّه الناسُ وإن كان جائراً فيكفيهم من جوره أربع سنين.وهكذا لابد للإخوان أن يلتفتوا لهذا الأمر فيعمقوا الفكر البحثي للمراجعات الفكرية والتنظيمية، فمن غير المعقول أن يظل بعض الأفراد في القيادة على ما يرنوا من 20 و25 عام.

وحتى لا أكثر الكلام في هذا الموضوع وقد تحدث عنه باحثين أفاضل كثر سواء من الناحية التاريخية أو الناحية الرؤية المعاصرة بعد الأحداث التي ألمت بالإخوان..أسوق ما كتبه الباحث عصام تليمة من مقالات في هذا الصدد لتزيح الستار أمام الجميع حول مراجعات الإخوان وما يقصد بها؟ هل هى شيء غريب على الجماعة أو الصف البشري أم هي أمور مستحدثة؟ أم هى أمور واجبة على الجماعة بجميع صفوفها.

الإخوان.. تاريخ من النقد المعلن والمراجعات – الجزء الأول

  • فتحت عنوان الإخوان.. تاريخ من النقد المعلن والمراجعات كتب عصام تليمة حاجتنا إلى النقد الذاتي – الجزء الأول

تثور حالة من الجدل جراء ما يكتب من نقد داخل جماعة الإخوان المسلمين، بين من يراه حقا أصيلا في الجماعة بآدابه، وبين من يراه مخالفا لمنهج الجماعة، وأن على من ينتقد أن يكون نقده داخليا فقط في السر، فهل منهج جماعة الإخوان يمنع النقد المعلن أو المراجعات؟

بداية، يتفق الإخوان أن مصدر منهجهم بعد كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثوابت الشرعية، يأتي بعد هذه المصادر المتفق عليها بين الجميع، تراث حسن البنا، وأدبيات الجماعة المتفق عليها أنها تمثل المرجعية الفكرية. هذا أمر لا يختلف عليه أحد من الإخوان قدامى أو معاصرين، فماذا عن تاريخ الإخوان وأدبياتهم، ومنهجهم، من مسألة النقد المعلن، والمراجعات الجذرية للجماعة؟

ربما سيصدم الجميع من كم الحقائق العلمية والتاريخية التي سأذكرها في هذا المقال والمقالات القادمة إن شاء الله من تاريخ الإخوان والإسلاميين بوجه عام، من كم النقد الشجاع المعلن من داخل الحركة الإسلامية، والمراجعات الهائلة التي تمت.

لقد فتح حسن البنا باب النقد المعلن، سواء أكان النقد موجها لأفكار الجماعة، أم لقياداتها، وعلى رأسهم البنا نفسه، وسنجد أن تاريخ الجماعة يخلو تماما من أي تحقيق مع أي عضو بالجماعة لعلة رأي كتبه، أو نقد نشره، فمن يقرأ مجلة الإخوان المسلمين نصف الشهرية سنة 1942م سيجد بابا فيها بعنوان: (صفحة النقد)، كانت ثابتة في المجلة، كتب فيها علامة سوريا الشيخ محمد الحامد سلسلة من المقالات ينقد فيها حسن البنا، ومحمد الغزالي، وغيرهما، وقد أرسل محمد الحامد رسالة فيها (18) ثمانية عشر نقدا لحسن البنا، فماذا كان رد فعله؟! وقف البنا في حديث الثلاثاء علنا أمام الناس، يقرأ نقد الحامد له، ويقر بأنه يسلم له بخطئه في معظم المسائل التي أخذها عليه، لكنه يتحفظ فقط في خطأ واحد، فالحامد يرى البنا عند جلسته في الصلاة للتشهد، يهتز جسده، وهذا التصرف ليس من السنة، وهي عادة مرتبطة بالمصريين الذين يحفظون القرآن في الكتاتيب، فقال البنا: يا شيخ محمد الحامد، لقد حاولت الاستجابة لنصحك، فلا أهتز في الصلاة، وشغلت نفسي بذلك، ففقدت خشوعي في الصلاة، وعندما أخشع أهتز تلقائيا، وأنت تذكرني بمن سأل أحد الشيوخ الكبار في السن، فقال له: يا مولانا، وأنت نائم هل تكون لحيتك تحت اللحاف (الغطاء)، أم فوق اللحاف؟!! وكان الرجل ينام طوال عمره هانئا سعيدا، فلما شغل نفسه بالسؤال، قبل نومه، هل لحيتي تحت الغطاء، أم فوقه، ضاع النوم، وزاد تعبه وعنته.

وأرسل أحد الإخوان المسلمين لمجلة الإخوان سؤالا معلنا كان نصه: يا شيخ حسن نعلم أنك لا تتقاضى راتبا على عملك الدعوي، ولكننا نراك متأنقا في ثيابك، ومهتما بمظهرك، فمن أين لك هذا؟ وكان البنا مسافرا، فكتبت المجلة السؤال، وقالت: نعد السائل بأن يجيب الأستاذ البنا فور عودته من السفر، وعاد وكتب هذه الإجابة علنا:

أخي الكريم، تسألني من أين أنفق؟ كان صلى الله عليه وسلم ينفق من مال خديجة، وأنا أنفق من مال أخي خديجة (يقصد بذلك أصهاره)، ولي أخوان يقرضانني، فأمامك أحد أمرين، إما أن تنضم للأخوين فتكون الثالث، وبذلك يخف الأمر عليهما، وإما أن تسدد لهما الدين، وأكون مدينا لرجل واحد هو أنت، فإن عجزت عن الأمرين، فأمامك أمر ثالث أن تدعو الله لي أن يعينني على سداد ديني. وقد اتخذت خطة عملية لإنهاء هذا الدين، سوف أنشئ مجلة علمية أسميتها (الشهاب) أعالج بها أمرين مهمين، الأول: الضعف العلمي الذي بدأ يتسرب في صفوف الجماعة، والثاني: أن أسدد من بعض ريع المجلة ما علي من ديون. وتقبل مني تحياتي ودعواتي، أخوك: حسن البنا.

هذه صفحة من صفحات سطرها التاريخ المعاصر عن الإخوان المسلمين في قضية النقد المعلن والمراجعات السياسية والدينية، وهي قليل من كثير، نكمل صفحة أخرى منه إن شاء الله في مقالنا المقبل.

كان حسن البنا كثير الوقوف بين نفسه وربه، يحاسب نفسه على ما قصرت، فقد كان له ورد محاسبة يحاسب فيه نفسه على ما قصرت فيه في جنب الله، بل وحث أفراد جماعة الإخوان على ذلك، ولم يقف به الأمر عند حدود محاسبة نفسه ونقده لها، عند أمر العبادات الفردية التي يؤديها مع نفسه، أو العبادات الجماعية التي يؤديها أمام الناس، بل يشمل ذلك أيضا نقده لحركته ومسيرته العلمية والدعوية بما ذلك مسيرة جماعته.

فكثيرا ما كان يكتب الإمام البنا رحمه الله مقالات يحاسب فيها نفسه وجماعته، ماذا قدمت؟ وفيم نجحت؟ وفيم أخفقت؟ وما المطلوب منها؟ وكل هذه وقفات لمحاسبة النفس، ففي مجلة النذير كتب البنا مقالا بعنوان (كشف الحساب.. ما علينا، ما لنا، ما يجب أن نفعله).

وفتح باب النقد في مجلات الإخوان، وقد اشرنا إلى كتابة الشيخ محمد الحامد الحموي عدة مقالات ينقد فيها كُتَّاب مجلة (الإخوان المسلمون) نصف الشهرية، ثم الأسبوعية فيما بعد، ونشر البنا نقد الحامد، وقدم نقده بهذه التقدمة: (للأخ الشيخ محمد الحامد الحموي نظرات شرعية في بعض ما نشر وينشر في أعداد مجلة الإخوان، أحببنا أن نطالع بها القراء في هذه الصفحة تباعا، تجلية للحقيقة، وعرضا لمختلف النظرات، والحقيقة بنت البحث كما يقولون).

وكان ممن نقدهم الشيخ الحامد الأستاذ حسن البنا، فقد كتب البنا سلسلة مقالات تحت عنوان (في صميم العقيدة… الله جل جلاله)، فكتب البنا مستشهدا بالكاتب الفرنسي كاميل فلامريون قوله: “إن الشمس تنتقل في خلال اللانهاية السماوية، بحيث إن خط سير الأرض ليس خطا منحنيا مقفلا، ولكن حلزونيا مفتوحا دائما، وأن كرتنا الهائمة على وجهها لم تمر من نقطة واحدة دفعتين منذ وجدت إلى اليوم، وفي الوقت نفسه تدور هذه الكرة على نفسها دورة في كل أربع وعشرين ساعة، بحيث إن ما نسميه (فوق) في ساعة من الساعات يكون (تحت) بعد اثنتي عشرة ساعة، وأننا نجري في هذه الحركة النهارية بمعدل 305 أمتار في الثانية في خط عرض باريز و465 مترا في خط الاستواء”.

فكتب الحامد ينقد البنا في استشهاده بهذه العبارة قائلا: “ونحن الإخوان المسلمون دستورنا القرآن الكريم، فلا يسعنا إلا القول بأن السماوات متناهية، وهي سبع شداد، الأولى منها مزينة بالكواكب، كما نص القرآن الكريم”. وتقبل حسن البنا نقده، رغم أن الشيخ الحامد بدأ نقده بقوله: (ونحن الإخوان المسلمون)، وهو ينقد مؤسس الإخوان، ولم يرد عليه البنا بأنه هو الإخوان، فكيف لفرد يدعي امتلاك المنهج، في نقاشه لواضع المنهج، ومؤسس الجماعة؟! ولكنه قبول النقد، والاعتراف بالحق.

وظل البنا يفسح صدره لنقد الحامد، حتى وصلت سلسلة نقده لمجلة (الإخوان) والبنا إلى ست مقالات متتابعات، ما حدا بالبنا أن يجعل عنوان هذه الصفحة بـ(صفحة النقد)، وبعد بضع شهور فوجئ قراء مجلة (الإخوان المسلمون) بآخر مقال للشيخ الحامد في (صفحة النقد)، وقد صدرها البنا بهذه التقدمة التوديعية الرائعة، فكتب البنا يقول:

(كنا نود لو بقي صاحبها (أي صفحة النقد) الفاضل بيننا يسعدنا بروحه الزكية، وينقلنا بسمته الهادئ وآرائه المحافظة إلى عصر السلف الصالح من العلماء العاملين، ولكنه آثر السفر إلى سوريا، وغادر أهلا لا يقلون حبّا له، وإجلالا عن أهله الأقربين، الذين سافر إليهم، جمعنا الله وإياه على خير ما يرضيه).

كما نلحظ خلقا مهما للأسف يغيب في كثير من الأحيان عند النقد، وهو تقدير دوافع الناقد للمنقود، وإحسان الظن به وبنصحه ونقده، فكثير من الناس عندما ينقده أحد يتهم نواياه، إما بأنه حاقد، أو أنه يغار منه على مكانته، أو أنه متشدد متنطع لا يدفعه وراء النقد للأمر إلا ذلك، وأضرب هنا مثالا في نقد أحد الناس لحسن البنا، في أمر فيه فسحة وسعة، ولكنه لم يرد على من نقده بحدة، إلا بأن قدر عاطفه ودافعه، جاء إلى الأستاذ البنا أحد زملائه من خريجي دار العلوم هو الأستاذ (س. سعد)، وهو من أروع الناس وأتقاهم، ولكنه غضب كل الغضب؛ لأن الإخوان قد أنشأت فرقا للجوالة والكشافة (تلبس البنطلون القصير)، قال الأستاذ (س. سعد): يا حسن أفندي، فأجاب: نعم سيدي.

قال: إني أكرهك.

فابتسم حسن البنا وقال في هدوء وبشاشة: وإني والله أحبك.

فقال الرجل: ولكني أكرهك في الله؛ لأنكم تكشفون الركبة في ملابس الجوالة والكشافة.

وبالبشاشة نفسها والهدوء، أجاب البنا مخلصا: هذا يزيدني حبا فيك، لأنك تكرهنا في الله، وليس لسبب شخصي، فوعده أن يعالج هذا الأمر، رغم أن في صحيح البخاري نصا يبيح كشف الركبة، وأنها ليست بعورة، ولكنه أراد الترحيب بالنقد البناء، وأن يكسب الشخص لا الموقف، وهو ما يغيب عن الكثير إلا ما رحم ربك.

بل رأينا صفحات مجلات الإخوان تمتلئ بنقد أفراد في الإخوان للبنا، ويرد عليهم، ويردون عليه، وكل متمسك برأيه، وهو ما نذكره بالتفصيل في مقالنا القادم إن شاء الله.

كانت جماعة الإخوان في عهد حسن البنا واسعة الصدر في تقبل النقد، بل كانت تطلب ممن لديه أي نقد عليها أن يتوجه به، كما ذكرت في مقالي السابق من تثبت باب في مجلة الإخوان باسم باب النقد، غير أن حسن البنا لجأ إلى أسلوب جديد في النقد، فدعا قراء مجلاته إلى نقده، وإلى نقد المواد التي تقدم في المجلة، فعندما تولى رئاسة تحرير مجلة (المنار) خلفا للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا، كتب تحت عنوان (الدعوة إلى انتقاد المنار) يقول:

إننا ندعو جميع من يطلع على المنار من أهل العلم والرأي: أن يكتبوا إلينا بما يرون فيه من الخطأ في المسائل العلمية أو ما ينافي مصلحة الأمة، ونَعِد المنتقدين بنشر كل ما يرسل إلينا من نقد مع بيان رأينا فيه، بشرط: أن يكون النقد مختصرًا، مؤيدًا بالدليل، نزيه العبارة.

ونرجو عامة القراء: أن يطالبوا كل من يسمعون منه انتقادًا للمنار بكتابته وإرساله إلينا لنشره، وإلا أضاع الفائدة على نفسه وعلى الناس، وكان نقده عقيما لا نتيجة له، وهو ما لا يرضاه لنفسه محبٌّ للمصلحة العامة، ونسأل الله أن يوفقنا جميعًا لخير ما يحب ويرضى).

وقد لاحظت عند تتبعي لكَمِّ الكتابات النقدية التي وجهت للإخوان والبنا في حياته، وجدتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: نقد علمي رقيق، ونقد لاذع حاد، ونقد ساخر متهكم، وكان موقف البنا والجماعة حيال هذه الألوان الثلاثة واحدا، القبول به، والنقاش الهادئ حوله، سواء صدر من داخل الجماعة أم من خارجها.

من النقد المشتمل على الحدة والطعن في البنا ومنهجه: نقد جماعة (شباب محمد)، وقد كانوا من الإخوان ثم انشقوا عليها، يحكي الأستاذ عمر التلمساني عن رد فعل البنا تجاه هذا النقد الحاد، بل الانشقاق العنيف، فيقول: ويوم أن انشق بعض الإخوان، وخرجوا من الجماعة، وسموا أنفسهم شباب محمد، لم يثر عليهم، ولم يقاطعهم، ولم يوزع عليهم الشبهات، ولم يؤلب أحدا عليهم، ولكن تصرف معهم التصرف الذي لا يتصرفه سواه في مثل هذا الموقف.

اتخذ شباب محمد له مقرا، وأعد دفاتر للاشتراك في صفوفه. فكان الإيصال الأول (نمرة 1) باسم حسن البنا، ليؤكد لهم أن موقفهم هذا لم يزعجه، وأنه يتمنى لكل عامل في حقل الدعوة الإسلامية أن يوفقه الله لكل ما يحب ويرضى. وما دام هو واثق من نفسه، فلماذا لا يتصرف وهو على بينة من نتائج هذا التصرف؟؟ إنه التصرف المناسب، تعالى على الصغائر والمهاترات. واكتسب احترام الذين انشقوا عليه، لأنه لم يبدأهم بهجوم ولا ملام).

أما النموذج المهم هنا، فهو نموذج وكيل جماعة الإخوان صالح عشماوي، والمسؤول عن الصحافة فيها، في نقد متبادل بينه وحسن البنا، في ثلاث مقالات تجعلنا نترحم على هذه المساحة المفقودة في الجماعة للأسف، فقد نشرت إحدى المجلات، وقد كان صاحب امتيازها الأستاذ مكرم عبيد الرمز السياسي المسيحي المعروف، وقد كتب أحد الكتاب مقالا في جريدته يغمز فيه الإسلام، فما كان من الأستاذ صالح عشماوي رئيس تحرير مجلة (النذير) الإخوانية إلا أن أمسك بقلمه، وكتب مقالا ناريا، بعنوان: (الإسلام بين خصومه وأنصاره) وصب جام غضبه على صاحب المجلة الأستاذ مكرم عبيد، وعلى كاتب المقال، ولكنه ركز في هجومه على مكرم عبيد، وكان نقده لاذعا، وقد وصل عدد المجلة إلى البنا وكان في معسكر بالدخيلة مع عدد من شباب الإخوان المسلمين، وقرأ المقال، فلم يَرُق له الأسلوب الذي كتب به صالح عشماوي المقال، ولا لغة المقال، فكتب البنا يعتب على عشماوي أسلوبه وهجومه اللاذع الذي لا يخدم القضية التي يدافع عنها.

ولم يقتنع عشماوي برد البنا عليه، أو ينظر إليه نظرة تقديس، فيصمت مكرها، تحت أي دعوى، فكتب مقالا يخالف فيه البنا فيما ذهب إليه، وكتب عشماوي يستغرب من موقف البنا من حزب (الوفد)، ومن مكرم عبيد ومجلته، ولماذا يُهادنهم ويُعاملهم بالحسنى رغم ما يصدر من الحزب والمجلة، ولماذا لا يعاديهم، وهم ـ كما يرى عشماوي ـ يعادونه، وإن أخفوا عداوتهم؟!

فكتب البنا ردا آخر عليه، يقول فيه لصالح عشماوي: (يا أخي صالح ليس من أخلاقنا أن نفتش عما في قلوب الناس، ولنا أعمالهم الظاهرة، ثم إن كاتب المقال شخص أنت رددت عليه، فلم النيل من مكرم عبيد، وما ذنب مكرم وجريدته، وما هي إلا ناشرة لمقال الرجل، ثم تعاتبني على عدم إظهار عدائي لهم وهم يكنون العداوة لي كما تقول، إنني أريدك أن تكون حكيما حتى مع أعدائك وخصومك الذين يخفون عداوتهم لك، فليس من الحكمة أن تبدي عداوتك لشخص ستر عداوته عنك!)

الإخوان.. تاريخ من النقد المعلن والمراجعات – الجزء الثاني

مر بنا في مقالاتنا السابقة موقف الإخوان من النقد المعلن، وذلك في شخص مؤسس الجماعة حسن البنا ومن حوله من الإخوان، وذكرنا نماذج واضحة في قبول الجماعة للنقد المعلن، واليوم نتناول صفحة أخرى من صفحات النقد المعلن في الجماعة، وعلى يد مسؤول التربية في جماعة الإخوان في أربعينيات القرن الماضي، إنه الدكتور عبد العزيز كامل، المفكر الكبير المعروف، الذي كان يسمى (ابن الدعوة البكر)، الذي رشحه الكثيرون ليكون خليفة لحسن البنا بعد وفاته.

لاحظ عبد العزيز كامل قصورا كبيرا في نظام التربية في الإخوان، فلم يكتف بأن يرسل له المسؤولون تقارير تطمئنه على سير العمل، بل نزل بنفسه وطاف محافظات مصر، ووقف على مواطن الضعف، فكتب سلسلة من المقالات يتناول فيها هذه الأخطاء، ويضع لها العلاج، تحت عنوان: (من حديث الإخوان العاملين)، ما يقرب من أربعين مقالا، وإلى جانبها سلسلة رسائل موجزة وقصيرة، في مربع صغير بعنوان: (إلى الإخوان العاملين)، شخّص فيها أخطاء إدارية يقع فيها الأفراد والقيادات، ووضعها على هيئة نصائح يسهل الأخذ بها.

ومن ذلك أن كتب عن سلبية بعض الأفراد، ما يؤدي إلى مركزية العمل في المركز العام للإخوان، فقال: (من غير المعقول أن يشرف المركز العام على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الدعوة. ففضلا عن أن هذا متعذر فعلا، فإنه لا يلائم روح العمل، ويقضي على الابتكار، والإبداع في القائمين بأمر المناطق والمكاتب الإدارية، ويعطيهم نوعا من الاستسلام والاستكانة وإلقاء الحمل على المركز العام ومحاسبته بعد هذا على كل صغيرة وكبيرة: مناهج من المركز العام.. دعاة من المركز العام.. نشرات.. لوائح.. قوانين.. مشرفون.. مصلحون.. مراقبون إلخ.. فما هي مهمة المكاتب الإدارية والمناطق بعد هذا؟ شيئا من الجهد أيها العاملون، واذكروا أن موسى اختار من بني قومه اثنا عشر نقيبا).

وقد لاحظ عبد العزيز كامل نوعا من المركزية في العمل في الجماعة، فكتب توجيها مهما للصف الإخواني قال فيه: (إن نجاح الأعمال يتطلب مركزية في التوجيه ولا مركزية في التطبيق، وبين يدينا من لوائح المركز العام ما لو عملنا به لهدانا سبيلنا. فالأنطمة معروفة، والتقصير في التطبيق، فاعتمدوا على الله، واحملواء أعباء التنفيذ، والشعور بالنقص أول مراتب الكمال).

ثم بعد ذلك، كتب عبد العزيز كامل سلسلة مقالات أخرى بعنوان: بين الهدم والبناء، وقد لاحظ أن الخط العلمي في الإخوان قد ضعف نوعا ما، فبدأ يضع مناهج جديدة للإخوان تغذي فيها هذه الروح، ورأى روح الحوار مفقودة، وتقبل الخلاف والرأي الآخر، فقرر على الإخوان دراسة رسالة: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لابن تيمية، وقرر بعض كتب ابن القيم، لأول مرة في جماعة دينية في مصر، ولاحظ ضعفا في علم الحديث في الجماعة، وقد كتب رسالة بعنوان: (آداب الكتيبة) وأرسل للشيخ محمد ناصر الدين الألباني يخرج أحاديثها، وقد وضع تعليقات الألباني في هامش الرسالة.

وانتقد كذلك بوضوح بعض ممارسات التنظيم الخاص للإخوان المسلمين، وقد أسر إليه حسن البنا قبل وفاته بيومين ببعض الأخطاء التي وقع فيها، وما ينوي فعله في المستقبل لتجنب هذه الأخطاء، وكان عبد العزيز آخر فرد قابل حسن البنا من الإخوان المسلمين.

أما أخطر وأشد أنواع النقد الذاتي والمراجعات في الإخوان، فهو مراجعات حسن البنا في أداء الإخوان السياسي، ودخولهم معترك السياسة، وما نتج عن ذلك من أخطاء جراء ولوج هذا الميدان دون إعداد، وذلك في حوار مهم بين حسن البنا والعلامة محب الدين الخطيب، نذكره بتفاصيله في مقالنا المقبل إن شاء الله.

امتلكت جماعة الإخوان المسلمين في عهد البنا الشجاعة في النقد المعلن، بل ومراجعة سياستها الدعوية والعلمية والسياسية، وقامت بعدة مراجعات ونقد للذات، وهو ما ينكره بعض أفراد من الجماعة، جهلا منهم بتاريخها ومنهجها.

لقد قام حسن البنا بمراجعة أدائه السياسي بشكل جذري، والوقوف على أخطائه وأخطاء جماعته، ليفكر في حلول تجنبه هذه الأخطاء، وكان سبب قيامه بالمراجعات والنقد الذاتي لطريقة عمل الإخوان السياسي، حوار دار بينه وبين الكاتب الإسلامي الكبير وأستاذه محب الدين الخطيب، وذلك سنة 1947م، في مقال كتبه الخطيب بعنوان: (متى وكيف يقوم الحكم الإسلامي؟) في مجلة (المسلمون) سنة 1952م، فقد كان يخشى أن يكرر الإخوان أخطاءهم السياسية، يقول محب الدين الخطيب:

“قبل نحو ست سنوات انتشرت دعوة الإخوان المسلمين في ديار الشام، وقويت بالشباب والنواب، وحمَلة الأقلام، وتجاوبت العواطف بين الإخوان المسلمين هناك والإخوان المسلمين هنا، وكان لهم هنا وهناك صحيفتان يوميتان قويتان. وحل موسم الانتخابات لمجلس النواب السوري فتقدم الإخوان المسلمون هناك لخوض المعركة الانتخابية، وكانت مصر تتلقى أخبار تلك المعركة من الشام ـ في الصباح المبكر، وفي الضحى، وفي المساء، وقبل النوم ـ من أسلاك البرق ومن الهاتف (التليفون) وبكل وسائل المواصلات، وكان اهتمام الإخوان المسلمين في مصر بحركات هذه المعركة الانتخابية في الشام إن لم يزد على اهتمام الإخوان الذين في الشام فإنه لم يكن يقلُّ عنه بلا ريب.

ولاحظ القائد الشهيد أخي حسن البنا رحمه الله أن كاتب هذه السطور أقل حماسة لهذا الأمر مما كان يتوقع، فجاءني ذات مساء، وجلس إلى جانب مكتبي في قلم تحرير صحيفة الإخوان اليومية في القاهرة وقال لي:

ـ إني لاحظت أمرا عجبا. إننا منذ تعارفنا وتعاونا قبل عشرين سنة لم يحدث حادث أو تنزل نازلة إلا كانت قلوبنا متجاوبة في اتجاه واحد بلا تواطؤ ولا مذاكرة. والآن فإن هذه الانتخابات المحتدمة معركتها في الشام يقوم بها إخوان لنا عرفناهم من طريقك ومن طريق صحيفة (الفتح)، أو شباب يعدون أنفسهم أبناءك أو كأبنائك، وفيهم عدد غير قليل من ذوي قرابتك، وإن أحدهم كان يساكنك هنا في منزلك، وطار لخوض المعركة في دمشق اهتماما بها، وما منا إلا من هو مهتم بها كاهتمام إخواننا هناك، إلا أنت فإني أراك واقفا تتفرج بدم الشيوخ، وعهدنا بك أنك أكثر حماسة منا لكل ما نتحمس له. فأجبته: إني خائف أن ينجحوا، وأن تكون أكثرية النواب منهم، فتكون النتيجة تأليف الوزارة منهم واضطلاعهم بمسؤولية الحكم!

فبدت على وجهه أمارات الدهشة رحمه الله وسألني: وهل هذا مما تخافه؟

قلت: أجل.

قال: إذن فإني كنت مصيبا بالمجيء إليك الآن، فإن اختلافنا إلى هذا الحد يحتم علينا أن نتفاهم.

فسألته: هل لو بلغ النجاح بالإخوان المسلمين في الشام إلى درجة أن تتألف منهم الوزارة، سيتولون الحكم بالموظفين الموجودين في الوزارات والمصالح والدوواوين، أم سيعزلونهم ويأتون بموظفين من بلاد أخرى؟

قال: طبعا سيبقى الموظفون كما هم، إلا من يكون ملوثا بمخازي يؤاخذه عليها القانون.

قلت: أنا لا أزعم أن الشكوى من الموظفين هناك بلغت إلى حد الشكوى من أمثالهم هنا. ومع ذلك فإن مصر الآن قدوة للشام والعراق وجزيرة العرب، وكل ما أشكوه أنا وأنت من العيوب هنا قد سرت عدواه إلى هناك بمقياس واسع أو ضيق، ومهما استعان وزراء الإخوان المسلمين برؤساء تغلب عليهم النزاهة فإن العيوب أفدح من أن تصلح إلا بقوة خارقة تتاح من عالم الغيب، وهذا ما لا نرى الآن دلائله، ونتيجة ذلك أنه سيوصم به الإسلام نفسه. هذه واحدة.

ثم سألته: هل وزارة الإخوان المسلمين ستتولى الحكم بهذه الأنظمة، أم أعددتم أنظمة إسلامية تحل محلها؟

قال: لم تتح لنا الفرصة بعد لإعداد أنظمة إسلامية، ولم يتخصص أحد منا حتى الآن لهذه الدراسة، ولو فعلنا فإن الجو لا يلائم هذا التغيير، ولا نجد الآن من يعين عليه.

قلت: إذا كان الإخوان المسلمون في الشام ستتولى وزارتهم الحكم بالأنظمة الموجودة وبالموظفين الموجودين، فما فائدة الإسلام من هذا؟ أنا أرى أن تحمُّل غير الإخوان المسلمين مسؤولية هذا العبء أكثر فائدة للإسلام من تحمل الإخوان هذه المسؤولية. وهذه ثانية.

ثم قال محب الدين الخطيب شارحا فكرته: إن المسلمين مضى عليهم سنوات يقتصرون في إسلامهم على المسجد ومظاهر رمضان ومناسك الحج، ألا يستطيعون أن يصبروا عشرين سنة أخرى يربون فيها جيلا يعيش للإسلام وأنظمته، لا لنفسه ووجاهته، ويعدون فيها لذلك الجيل أنظمة الإسلام وآدابه وقواعده وأحكام فقهه الاجتماعي والإداري والمالي والدولي، فضلا عن تنظيم فقه الالتزامات والعقود، وفقه القصاص والتعزيرات والحدود. وأعظم من كل ذلك أن نتعرف إلى سنن الإسلام في أهدافه الملية وتوجيهاته المتعلقة بكيانه ومقاصده ومراميه. إن هاتين الأمانتين: أمانة إعداد الجيل الآتي، وإعداد النظام له، إذا استطعنا القيام بهما في عشرين سنة كان هذا أعظم عمل قام به المسلمون منذ ألف سنة إلى الآن”.

انتهى ملخص حوار محب الدين الخطيب وحسن البنا، (وقد أرفقته كاملا مع المقال لمن يود قراءته)، وكأنه يخاطب إخوان اليوم، انتهى الحوار لكن الفكرة التي زلزل بها الخطيب أداء البنا السياسي، لم تقف عند هذا الحد، فقد كان البنا يحسن الاستفادة من كل نقد يوجه له، ويأخذه على محمل الجد والعمل، وهو ما سنراه في مقالنا القادم إن شاء الله.

كان حوار محب الدين الخطيب مع حسن البنا سنة 1947م، الذي ذكرناه في مقالنا السابق، جرس تنبيه للبنا والإخوان، في إعادة التفكير في دخول الجماعة مجال السياسة دون إعداد كاف، وبدأت مراجعات البنا حول الأمر، بل ولقاءاته مع كل من له عناية بالعمل السياسي والتربوي، وكانت فرصة ذهاب حسن البنا للحج سنة 1948م ولقائه بشخصيات مهمة، لإعادة التفكير في أمورة كثيرة، وعلى رأسها العمل السياسي ودخول الجماعة معتركه.

يقول الدكتور عبد العزيز كامل في مذكراته عن خريف 1948م، والذي كان مسؤول التربية في الإخوان المسلمين وقتها، وكان من أقرب الناس للبنا، وهو آخر شخص في جماعة الإخوان التقاه قبل وفاته، يقول: (عاد الأستاذ المرشد من أداء فريضة الحج بفكر جديد، لم يكن يخفيه، ولا يخفي الذين تأثر بهم..

وأود أن أسجل هنا اسم الحاج عبد الستار سيت سفير باكستان في القاهرة وقتئذ..

لقد كان رجلا هادئا، رضي النفس، مؤمنا بالعمل الهادئ طويل النفس، وكان يخشى على الإخوان عواقب الخطوات العنيفة التي اتخذوها، وأخذ يذكر للأستاذ ما اتبعوه في بلاده من عناية بتربية الشباب، واختيار العناصر التي يرجى لها مستقبل في الحياة العامة، أو يمكن أن يسمّى الجيل المقبل من القادة.. ولم يكن هؤلاء بعيدين عن شخصيات في الحكم بحكم النشأة، فقوي في نفس الأستاذ الاتجاه نحو التربية..

ولكن الرجل عاد ليجد حوادث القنابل والانفجارات في القاهرة، سلسلة توالت حلقاتها: انفجار ممر شيكوريل، شركة الإعلانات الشرقية، حارة اليهود. وإلى جوار الانفجارات: مصرع المستشار الخازندار من رجال القضاء، ومصرع سليم زكي من رجال الأمن.

ملامح الصورة يرسمها المسدس والقنبلة والديناميت.

وكانت ملامح القلق بادية على وجهه، حتى المحاضرات، وزيارات الأقاليم زهد فيها.

بأذني سمعت منه وصف هذه الاحتفالات العامة بأنها (شغل دكاكيني) أي عمل صغير متفرق لا قيمة له

ويأتي مصرع النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية ليضع الأستاذ في أشد المواقف حرجا.

كان كل أمله -كما سمعت ذلك منه بنفسي- أن يخلص باسم الإخوان المسلمين ومئة شاب “أربيهم ينتشرون في الأرض، داعين إلى الإسلام، ويجادلون الله عني يوم القيامة.. حين يسألني أقول: يا رب ربيت هؤلاء، ونشرتهم في الأرض يدعون إلى دينك”.

حصاد العمر الطويل: آلاف الشُّعَب، وآلاف المعسكرات، وآلاف الحفلات، والجرائد، والمجلات، والمنشورات، تركز عنده في مئة شاب يلقى الله بهم). انظر: مذكرات عبد العزيز كامل (في نهر الحياة) ص 59،58.

ولم يكن ما نقله عبد العزيز كامل عن حسن البنا، مرة عابرة، أو فكرة طارئة عند البنا، بل يبدو أنها كانت فكرة محورية لديه، تركزت وتعمقت، ورسخت في ذهنه، بناء على مراجعات طويلة، وممن نقل رغبة البنا في ترك السياسة التي دخلها بلا استعداد كبير: العلامة المرحوم أبو الحسن الندوي، في مذكراته، وقد ذكرها بمناسبة زيارته لمصر بعد وفاة حسن البنا بعام ونصف، فكتب يقول: (علمت من عدد من المصادر الصحيحة التي يعتمد عليها: أن الإمام حسن البنا كان يتأسف في آخر أيام من حياته ويتألم من أنه اضطر للدخول في المجال السياسي قبل أوانه، وأحاط به الطريق الشائك، وأنه كان يتمنى كثيرا إلى أن يعود -مرة ثانية- إلى العمل الدعوي التربوي الخالص، ويجد فرصة كافية لإعداد الجماعة، وتربية المسلمين حتى يستطيعوا القيام بكل مسؤولية تناط بهم، ويمر بكل محن يصابون بها، وبلاء يختبرون به بسلام آمنين). انظر: في مسيرة الحياة لأبي الحسن الندوي الجزء الأول ص 235،234.

وتستمر مراجعات البنا حول عمل الجماعة السياسي، وهو ما نكمله في مقالنا المقبل إن شاء الله.

اتفقت كلمة من كانوا حول حسن البنا في سنواته وأيامه الأخيرة، والمقربين منه، أنه كان يجري مراجعة شاملة حول أداء جماعة الإخوان المسلمين السياسي، بعد أن وضع يده – ووضع محبوه كذلك يدهم معه – على الأخطاء التي ارتكبتها الجماعة في طريقة دخولها العمل السياسي، فقد أصابت وأخطأت، ولذا كان واجبا عليه المراجعة. وهو ما نقله عنه الشيخ الغزالي أن حسن البنا في أخريات حياته قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ولرجعت بالجماعة إلى أيام المأثورات). يريد بذلك أنه يتمنى أن يعود بالجماعة إلى أيام والتربية التي ينبغي أن تسبق العمل السياسي المباشر، وتصاحبه كذلك.

وهو نفس ما نقله كريم ثابت الذي كان مستشارا إعلاميا للملك فاروق، وذلك بعد صدور قرار بحل جماعة الإخوان، وكانت شهادته ضمن مذكراته التي نشرها في جريدة الجمهورية المصرية سنة 1955م، وقد رجعت إلى مذكراته المنشورة في جزئين، بعنوان: (عشر سنوات مع فاروق) و(فاروق كما عرفته) فلم أجد هذه الحلقة موجودة على أهميتها، ودلالتها في التاريخ السياسي للإخوان المسلمين، فقد طلب حسن البنا من كريم ثابت الوساطة لدى الملك في هذا الأمر السياسي، لما له من مكانة لدى الملك، ولأنه رجل مسيحي وهو ما ينفي عنه الشكوك في التوسط لجماعة إسلامية لدى الملك، يقول كريم ثابت:

(اتصل بي الأستاذ مصطفى أمين أحد صاحبي دار (أخبار اليوم) في ذات يوم ـ وكنا في منتصف شهر ديسمبر سنة 1948م ـ وقال لي: إنه رتب اجتماعا بيني وبين الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين في مساء الغد.

وفي الساعة السابعة من مساء اليوم التالي التقيت بالشيخ حسن البنا عند مصطفى أمين في داره بالروضة وكانت هذه أول مرة أجتمع فيها بالمرشد العام للإخوان المسلمين.

وكان النقراشي قد أصدر أمره العسكري بحل جمعية الإخوان المسلمين وفروعها بالأقاليم، ومصادرة أموالها، وأخذ في تنفيذ التدابير التي يقتضيها هذه الإجراءات، وامتدت موجة الاعتقالات بين المنتمين إلى الجماعة.

وطفق الشيخ حسن يحدثني عن قسوة تلك التدابير واتساع نطاقها، وأفاض الشكوى منها.

ثم استطرد يقول: إن انحراف الإخوان المسلمين إلى الاشتغال بالسياسة كان خطأ كبيرا، وإنه كان أحرى بهم أن يتجنبوها، وأن يصونوا أنفسهم عن الانزلاق في معمعانها، وأن يقصروا رسالتهم على خدمة الدين، ويصرفوا جهودهم في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والهداية إلى آداب الإسلام، وهو الأصل في تكوين الجماعة)، وذهب كريم ثابت للقاء الملك فاروق فوجده يحمل لوحة تقويم يومي، وقال له: يا كريم، ألا تريد أن تعرف من ملك مصر القادم؟ فقال له: أطال الله عمرك يا جلالة الملك، فقال له فاروق: انظر، هذا هو ملك مصر القادم، ووجد هذه اللوحة عليها صورة حسن البنا ممهورا تحتها بملك مصر، وقد كانت أداة للوقيعة بين الدولة والإخوان، فلم يستطع كريم ثابت طرح الموضوع، أو الوساطة لدى الملك.

وقد كان حسن البنا يرى أخطاء هذا التوجه بالانغماس في السياسة دون إعداد لها، من قبل هذا التاريخ، ففي عام 1946م التقى بالأستاذ فريد عبد الخالق عضو مكتب الإرشاد، ثم التقى بعده بمكتب الإرشاد وناقشوا ما يلي: نحن جماعة تؤمن بالإسلام الشامل، ومن شمول الإسلام: الاشتغال بالسياسة، فهل شمول الإسلام يعني شمول الجماعة؟ وبخاصة المجال السياسي الذي تحتاج الجماعة إلى الاستعداد إليه استعدادا قويا، فطرح حسن البنا طرحين مهمين، أولهما: فكرة البحث عن حزب يتجه بأفكاره قريبا من أفكار الإخوان، لكن لا شعبية له، ويكون الإخوان الظهير الشعبي له، ووقع اختيارهم على (الحزب الوطني) الذي كان مسؤوله وقتها الأستاذ فتحي رضوان، وقد أسسه الزعيم مصطفى كامل، بحيث يعبر الحزب عن المواقف السياسية للإخوان، وقد فاتح حسن البنا فتحي رضوان في ذلك، وكادا يتفاهما عليه، أو لقي ترحيبا من حيث المبدأ.

وأما التفكير الثاني، فهو فكرة (الفيبيانز) وهي فكرة نشأت في القرن التاسع عشر في بريطانيا، وتحولت فيما بعد لحزب سياسي، وهي أن يترك الأفراد تختار ما تشاء من أحزاب سياسية تمثل فكر كل مجموعة من الشباب في الجماعة، بحيث يتواجد كوادر الإخوان الشابة التي تربت على الإسلام خلقا وشريعة، في كل هذه الأحزاب، فيكون لوجودهم أثر خلقي مهم في الحياة الحزبية، ويستفيد الشباب أن يتكونوا تكوينا سياسيا حزبيا متدرجا، وفي كلتا الحالتين تستفيد الجماعة ويستفيد العمل السياسي الحزبي في مصر.

وقد أعاد البنا هذا الطرح على فريد عبد الخالق قبل وفاته بأيام، وقد كانا يتمشيان على كوبري قصر النيل، وقال له: دبرني يا فريد اعمل ايه، والخناق يضيق علينا، ودخولنا العمل السياسي بهذا الشكل جلب علينا مشكلات كبيرة لم تكن في الحسبان، ثم طلب منه دراسة الحالة الحزبية في بريطانيا للاستفادة منها، ومحاولة الخروج من هذا النفق بإجراء قانوني وعملي يحفظ على الجماعة قوتها وكوادرها، ولكن كان قدر الله شيئا آخر، فاغتيل بعدها بأيام حسن البنا رحمه الله

الإخوان.. تاريخ من النقد المعلن والمراجعات – الجزء الثالث

ما ذكرته في المقالات الثلاثة السابقة، كان عن مقابلات لحسن البنا مع رموز العمل السياسي والإسلامي، ومراجعاته حول عمل الإخوان السياسي، والوضع الأمثل للجماعة، وفصل الحزبي عن الدعوي، وكيف يكون، وقد صارت فكرة العمل السياسي من خلال حزب صاحب مبادئ، تسيطر على تفكير حسن البنا في أخريات أيام حياته، وهو ما وضحته في ما سبق من شهادات ومراجعات، وهي صفحة مهمة في تاريخ جماعة الإخوان والعمل السياسي.

وقد كتب الأستاذ فتحي رضوان رحمه الله، والذي كان أحد كوادر الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم الراحل مصطفى كامل، كتب مرتين عن توجه حسن البنا الأخير في كيفية العمل السياسي للإخوان. يقول فتحي رضوان: (في شتاء 1948م كنت دائم الاتصال بالمرحوم الأستاذ البنا وقد أسفر هذا الاتصال عن تفكيره رحمه الله جديا، في أن يحيل نشاط الإخوان المسلمين السياسي إلى الحزب الوطني، وأن يقتصر عمله هو ودعوته على الناحية الدينية البحتة) انظر: جريدة الأهرام المصرية العدد الصادر في 29 أكتوبر سنة 1950م. وهو ما أكده محمود عبد الحليم، ونقله نقل الموثق له، انظر: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ الجزء الثاني ص: 121-124.

وفى 19 فبراير سنة 1976 عاد الأستاذ فتحى رضوان للموضوع مرة أخرى بتفاصيل جديدة مهمة، فكتب مقالاً في جريدة الجمهورية تحت عنوان (قبل أن يغتالوا حسن البنا)، أكد ما ذكره من قبل في جريدة الأهرام عن التوجه الأخير لحسن البنا، ورغبته السابقة في إحالة العمل السياسي لمنتسبي جماعة الإخوان للحزب الوطني، فقال: (وكانت هذه الرغبة تؤرق الأستاذ المرشد على ما بدا لي، لأنه كان يرى هذه المساهمة فرضًا وطنيًّا على الجماعة يجب أن تؤديه، ولكنه كان يرى في الوقت نفسه أن هذه المساهمة بصورتها التي فرضتها الأحداث من جهة، ورغبة عدد من زعماء الإخوان من جهة أخرى؛ قد تحجب الأصل الذي قامت عليه الإخوان، وهو كونها جماعة دعوة وإرشاد، وتهذيب للنفوس، ورد الناس إلى دينهم، واستلهامه في شؤون دنياهم وآخرتهم، ولا يغير من الأمر أن يكون الإسلام دينا ودولة، وسيفا ومصحفا، فرسالة جماعة الإخوان المسلمين الأولى هي تقويم الجانب الديني من حياة المصريين أولا، والمسلمين عامة ثانيا، باعتبار هذا التقويم مدخلاً مباشرًا لتقدم حياة المصريين والمسلمين في جميع دروب وفروع الحياة، والاستغراق في العمل السياسي، وما يجره من معارك، لا شك صارف الجماعة، ولو إلى حين عن كفاحها الذي نصبت نفسها له أولا..

لهذا كله قال الأستاذ حسن البنا: إنه فكر طويلاً ليخرج من هذا المأزق الذى أوصلت إليه مجريات الأمور الجماعة، فرأى أن أفضل الحلول هو أن يرفع عن شـُـعب الإخوان المسلمين في كل مكان اسم الجماعة، ويضع عليه اسم الحزب الوطني، وأن يخير الإخوان بين أن يبقوا في الجماعة للنشاط الديني البحت، أو أن ينقلوا نشاطهم إلى الحزب الوطني، قال ضاحكا: فيبقى معي الدراويش، أما الذين لهم طموح سياسي، ولهم قدرة على تحقيقه، ورغبة في مكابدته، فالحزب الوطني خير ميدان لهم، أطمئن عليهم فيه، وأطمئن أنا إليه، فلم تبد عليّ الدهشة لسماع هذا الكلام، فقد عرفت منه مرارًا حسن ظنه بالحزب الوطني، ولطالما سمعته يثني على جهاد مصطفى كامل ومحمد فريد ويترحم عليهما).

هذه شهادة فتحي رضوان نقلها عن حسن البنا، اقترح فيها البنا رفع اسم الجماعة عن شعب الإخوان، وأن تبقى جماعة إسلامية، ويتحول السياسيون فيها للحزب الوطني، وبخاصة من لهم قدرة عليه، وهو بذلك يميز تماما بين الإخوان الدعاة، وبين السياسيين منهم، ومن يصلحون للعمل السياسي، وهي مراجعة مهمة وتاريخية في جماعة الإخوان المسلمين. أعتقد أن من قاموا بتأسيس حزب الحرية والعدالة في مصر، والقسم السياسي في الجماعة لا علم لهم بتفاصيل هذه التجربة، وإلا لبنوا عليها، بدل القيام بتجربة حزبية من الصفر.

كانت السنوات الأخيرة من حياة حسن البنا حافلة بمراجعاته ومراجعات من حوله لأداء الجماعة على جميع المستويات، وفي عام 1948م بدأت مجموعة من شباب الإخوان توجه انتقادات وتقابل البنا في ذلك، وتشرح له ما تلاحظه من أخطاء تودي إلى تأخر مشروع الجماعة، وكان أول من تقدم بهذا النقد المرحوم الأستاذ محمد أحمد أبو شقة، مؤلف كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) في ستة أجزاء، وقد كان أبو شقة في التنظيم الخاص، وفي أسرة واحدة مع مرشد الإخوان الراحل الأستاذ مصطفى مشهور، ولاحظ أبو شقة أن عضو التنظيم الخاص يعزل تماما عن كيان الجماعة العام، فمهمته تتطلب منه ألا يكون معروفا، وألا يظهر في لقاءات الإخوان العامة، والتي من أهمها: حديث الثلاثاء، الذي كان يلقى أسبوعيا في المركز العام للإخوان، وفيه زاد ثقافي مهم لهم.

ومعنى ذلك أن الرافد الثقافي والديني لديهم صار قليلا، مع التدريب على السلاح واستخدامه، فيترتب على ذلك خطورة، إذ يصبح تنظيما عسكريا كأي تنظيم آخر غير إسلامي، وقد يؤدي إلى انحراف البعض في التصرف، إذا لم ينل قسطا مهما من الثقافة الشرعية، تجعله يحسن التصرف، ولا يخالف الشرع، فذهب أبو شقة بنقده لحسن البنا، وأقره تماما على ملاحظاته.

ونتج عن ذلك تكوين لجنة رسمية في الإخوان بأمر من حسن البنا، سميت: (لجنة المشروع)، تكونت من عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ممن لهم اهتمام بالفكر، ولهم القدرة على النقد المنهجي، وكان من أعضائها: أ. محمد عبد الحليم أبو شقة، ود. جمال الدين عطية، ود. عبد العظيم الديب، ود.محمد فتحي عثمان، وغيرهم. وقد رأيت بعض الأفكار التي دونها أبو شقة رحمه الله في نقد الإخوان المسلمين، أيام البنا، وبعده، وللأسف لم تنشر، وليت أبناءه يعجلون بنشرها، فالرجل صاحب قلم وفكر وعطاء كبير، وقد لمس مواطن مهمة للخلل في جماعة الإخوان، من حيث التنظيم والفكرة والأداء.

وعملت لجنة المشروع على نقد مشروع الجماعة على عدة مستويات، سواء على مستوى الأفكار، أو مستوى المشاريع التي تقوم بها، فلاحظوا ما لاحظه أبو شقة في التنظيم الخاص، وهو نفس ما لاحظه عبد العزيز كامل، فجلب للتنظيم الخاص بعض المحاضرين الكبار ليشبع عندهم هذا الجانب، فطلب من الشيخ محمود شاكر إلقاء محاضرات عليهم في مخيمات في منطقة المقطم، وحدث صدام بينه وبين أفراد التنظيم الخاص فصد عنهم وصدوا عنه، في قصة شهيرة ذكرها الأستاذ عبد العزيز كامل في مذكراته ( في نهر الحياة).

وبدأ حسن البنا يعوض ذلك بإرسال عدد من أفراد الجماعة إلى صالونات المفكرين والمثقفين في مصر لينهلوا من ثقافتهم، ويستفيدوا منهم، وقد لقيت أحد من أرسله البنا لصالون العقاد، بغرض التزود من ثقافته الفكرية والأدبية، ويرسل آخرين إلى مجالس العلم الشرعي عند العلامة الراحل الشيخ أحمد شاكر، وأخيه محمود شاكر، والجمعية الشرعية.

وعلى مستوى المجال الفكري، لاحظت (لجنة المشروع) قلة إنتاج الإخوان الفكري، وأن إنتاجهم على قلته ليس عميقا بالعمق الكافي لشرح الفكر الإسلامي، في ظل وجود تيارات فكرية أخرى تنازعه، فاتجهت أنظار اللجنة صوب المفكرين الإسلاميين في مصر وخارجها، وبدأت تنشر بعض الكتب والرسائل باسم (لجنة الشباب المسلم)، وبدأت بنشر بعض رسائل وكتب الأستاذ أبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، ونشروا كتابا مهما جدا في السيرة النبوية وهو (الرسالة المحمدية) للعلامة الهندي سلمان الندوي، وهو من أهم كتب السيرة في العصر الحديث، فهو لا يتعرض لأحداث السيرة بل دراستها من حيث مصادرها، ومميزاتها، في ثمان محاضرات.

تركز عمل لجنة المشروع بعد ذلك في نقد الجانب الفكري لمشروع جماعة الإخوان، وتصويبه وتسديده، ومعالجته، تارة بالرسائل، والكتابات المهمة، وأحيانا بتبني نشر كتابات في هذا المجال، وقد كان هذا المجال مدخلا لدخول سيد قطب الإخوان وتعرفه عليهم، وتعاونه معهم، فقد نشروا له كتابه (معركة الإسلام والرأسمالية)، وعاونوه في إصدار مجلة أخرى. ونتج عن ذلك بروز علماء ومفكرين عن هذه اللجنة، صاروا جميعهم أعلام كبار في تخصصهم، وقد قاموا بدورهم على أحسن ما يكون، وتوقف دورهم فيما بعد لأسباب نذكرها إن شاء الله عند حديثنا عن: لماذا يغيب النقد عن جماعة الإخوان المسلمين، ومتى؟

(رجاء): هذه المقالات سوف تجمع إن شاء الله في كتاب، فمن لديه تعقيب أو تصويب للمعلومات الواردة فيها فليتفضل مشكورا.

رأينا نماذج واضحة على نقد حسن البنا الإخوان نقدا معلنا، وقيامه بمراجعات مهمة لمسيرة الجماعة وأفكارها، وقام مرشد آخر بنقد البنا والإخوان، نقدا معلنا وصريحا، فقد قام حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان بهذا الأمر أكثر من مرة، وقد بدأ الهضيبي نقده عندما كتب البنا رسالته (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي)، وكانت مقالات في بادئ الأمر، فعلق الهضيبي على إحدى المقالات، فنشر البنا نقده قائلا: (كتب إلينا المستشار الفاضل، والقانوني البارع الأستاذ حسن بك الهضيبي الخطاب التالي:

حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام الأخ الشيخ حسن البنا. السلام عليكم ورحمة الله. وبعد:

فقرأت اليوم مقالكم الثاني (ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) وقد استوقفني منه عبارة جاءت في مقام الرد على اعتراض فرضتموه ممن يجهل حقيقة الإسلام، وما فيه من مرونة في الأحكام تتسع لما يجد من الأحداث، ومؤدى هذه العبارة: أن تاريخ التشريع الإسلامي يحدثنا أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفتي في الموسم في القضية من القضايا برأي فيقال له في ذلك، فيقول: ذلك على ما علمنا وهذا على ما نعلم. إلخ.

كما يحدثنا أن الشافعي رضي الله عنه وضع بالعراق مذهبه القديم، فلما تمصر وضع مذهبه الجديد، نزولا على حكم البيئة، وتمشيا مع مظاهر الحياة الجديدة، من غير أن يخل ذلك بسلامة التطبيق على مقتضى القواعد الإسلامية الكلية… إلخ

وقد يتوهم متوهم من هذه العبارة أن ابن عمر والشافعي رضي الله عنهما، أخضعا حكم الدين لأحكام الزمان! ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك، فإن أحداث الزمان يجب أن تخضع لكتاب الله وسنة رسوله، مهما تراءى للناس أن الدنيا لا تحتمل الإخضاع، فالدين هو السنة التي وضعها الله للناس، كما وضع السنن الكونية الأخرى للشمس والقمر والحيوان والنبات وكل ما في السماء وما في الأرض وما عليها.

وفي ظني أن ابن عمر لم يغير فتواه نزولا على حكم الحوادث، بل لأنه ازداد بصرا بحكم الدين في المسألة، لذلك قال: ذاك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم. كما إني أظن من استقراء سابق لي بسبب تغير رأي الشافعي بين قديمه وحديثه، أنه حين جاء إلى مصر سمع من رواة الحديث بمساجد الفسطاط ما لم يكن قد سمع بالعراق فأقام عليه رأيه الجديد، وكان رضي الله عنه يقول: إذا صح عندي الحديث فهو رأيي.

هذا ولا منازعة في أن على المسلمين أن يجتهدوا في استنباط أحكام لم تكن من قبل لحوادث لم تكن من قبل، بل لكل مجتهد أن يستنبط ما يهديه الله له من أحكام الدين لجميع الحوادث جديدها وقديمها، وهذه هي المرونة التي جعلها الله من خصائص الدين الإسلامي، ولله الحمد والمنة.

فبودي أيها الأخ الكريم لو أعدت النظر في هذه الجملة بما يزيل الشبهة، أو لعلي مخطئ وأنتم بذلك أعلم مني بلا ريب.

ولقد كنت أود أن أفضي إليكم بهذا الحديث في زيارة، لولا أن انحراف صحتي في الأسبوع الماضي لا زال منه بعض الأثر، وأسأل الله تعالى أن يعينكم، وأن يهدي أمة محمد إلى العمل بكتاب الله، وسنة رسوله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من المخلص: حسن الهضيبي.

فعقب حسن البنا قائلا: وإنا لنشكر لحضرته هذه الغيرة الجليلة على دين الله، والدقة الجميلة في البحث والتمحيص، وجميل جدا أن نرى في كبار رجال التقنين المصريين من يحمل مثل هذا القلب المؤمن، والذهن الصافي المستنير، مع الدأب على الدرس والإلمام بكل أطراف الموضوع. فجزى الله الأستاذ حسن بك الهضيبي عن الدين والحق والعدالة خير الجزاء، وأكثر فينا من أمثاله، وما ذكره في خطابه حق لا شك فيه، والذي أردته بكلمتي هو الإشارة إلى أن من مرونة التشريع الإسلامي أن العرف والاجتهاد قاعدتان من قواعده فيما لا نص فيه، أما حين يكون النص فلا اجتهاد معه طبعا. حسن البنا). انظر: جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية السنة الثانية العدد (488) الصادر في 21 من محرم سنة 1367هـ ـ 4 من ديسمبر سنة 1947م. ص 3.

فهذا نموذج لا مرية فيه، واضح في انتقاد حسن الهضيبي لحسن البنا في فكرة غمض معناها، فبادر البنا بنشرها، لأن بها فائدة تعم على الجميع، كما أن رأيه الذي انتقده فيه الهضيبي منشور، فكان من الواجب نشر ما ينتقده عليه المنتقدون، وقام حسن الهضيبي كذلك بنقد الإخوان كجماعة عندما تولى مسؤولية المرشد، وهو ما نجليه في مقالنا القادم إن شاء الله.

المصدر : عربي21

الهامش

(1) جمعة أمين عبد العزيز:أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الكتاب الرابع، 2005م.

(2) مذكرات عبد الحكيم عابدين، غير منشوره، ملك ولده المستشار هشام عبد الحكيم عابدين.

(3) جابر رزق: حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، طـ3، 1990م، صـ 189.

(4) حسن الهضيبي: دعاة لا قضاة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1977.

(5) عمر عبيد حسنة: نظرات فى مسيرة العمل الإسلامى، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر، 1405هـ،طـ1، تقديم الشيخ محمد الغزالي.