مذكرات العالم التركي علي علوي كوروج مع الإمام حسن البنا (3-4)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذكرات العالم التركي «علي علوي كوروجو» مع الإمام «حسن البنا»
(3، 4) ذكريات حول الخلافة الضائعة

ترجمة واعداد أحمد يوسف *

مقدمة

كانت مزرعة التمر التي يملكها الشيخ عبدالحميد تقع جنوب غربي مسجد «قباء»، حيث تعد امتداداً لطريق الهجرة، أما الصحبة التي جرت ونحن جلوس على السجاجيد المفروشة تحت النخيل فتعد من اللحظات التاريخية.

قال الإمام البنا:

آه لو تملك هذه الجبال والصخور والطرق لساناً فتحكي لنا، فهي التي رأت بأم أعينها قصص الهجرة العظيمة التي قرأناها في التاريخ، يا شيخ عبدالحميد، ألم ينشد الأنصار: «طلع البدر علينا.. من ثنيات الوادع»، هنا على هذه التبة؟
بعدها تطرق الإمام لحال الأمة الإسلامية، وأخذ يحكي وكأن ما يحكيه يحدث اليوم، حتى وصل إلى إسقاط الخلافة، وقال: الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين يعلم هذه الأمور أكثر منا؛ لأنه أكبر منا سناً، وقد عاش معترك الأحداث، والتحق كمتطوع للجهاد في الجيش العثماني، وشارك بنفسه في حرب «شنكلة» المشهورة، وكان من المفترض أن يكون معنا الآن ويحكي بنفسه.

وأخذ يروي ما نقله عن الشيخ الحسيني:

لم تقم الحرب العالمية الأولي لهذا السبب ولا لغيره، بل كان المقصد والهدف هو هدم الدولة العثمانية ومحو الخلافة الإسلامية، وترك المسلمين مفرقين بلا رأس، وقد أطلقت الدول النصرانية هذه الحرب على الممالك الإسلامية للسيطرة على ما فيها من بترول ومعادن، واستعمرتها حتى تفرق دول العالم الإسلامي.

بكاؤنا على الخلافة

وأضاف الشيخ البنا هذه الكلمات: سمعت يوماً من الشيخ أبا الحسن الندوي يقول:

عندما سمعنا خبر إسقاط الخلافة ونحن في الهند، كان هناك مأتم في بيت كل مسلم، فالقيمة التي كان يعطيها الهنود المسلمون للخلاقة كانت شيئاً آخر.. «يوم سقوط الخلافة أصبح العالم الإسلامي كأطفال يتامى مات عنهم أبوهم وهم في سن صغيرة».
لم يتحامل الأستاذ البنا دموعه وهو يقول هذه الكلمات ورأيته يمسحها بمنديله بحياء. أين المسلمون الأتراك الذين كانوا يقولون: إن الخلافة ليست أمراً مهماً ولا فائدة منها، والذين يدّعون أن المسلمين في البلاد الأخرى لا يريدون اتباع الخلافة أصلاً؟! ها هو مسلم هندي لم يرَ «إسطنبول» من قبل يبكي بحرقة على سقوط خلافتها!

السلطان «عبدالحميد»

طالت صحبة الإمام البنا لنا في المزرعة القريبة من مسجد «قباء» وأخذ ينقل ما قاله الشيخ أمين الحسيني في حق السلطان «عبدالحميد الثاني»:السيد المفتي يعرف السلطان «عبدالحميد» جيداً؛ وقد ذكر لنا أن السلطان «عبدالحميد» أعطى فرماناته وأوامره وتعليماته لكاتب العدل ورئيس المحكمة ومسؤول القدس؛

بألا يأخذ اليهود مكاناً في المسجد الأقصى، إياكم أن يُباع لهم أي ملك عقاري أبداً، حتى لو أعطوا الذهب وغزير المال! وللأسف ها هي حالنا اليوم بعد فقداننا هذا البطل والسلطان العاقل؛ أعطينا اليهود ملكية فلسطين، وقد عاصرنا هذه الأيام المؤلمة للأسف.

كانت مقابلتي الإمام حسن البنا حين أتى للحج عام 1948م، وكانت هذه آخر حجة له، وآخر مقابلة لي أيضاً به! فقد استشهد بعد عودته من رحلة الحج هذه بأربعة أشهر، في شهر فبراير 1949م على يد أعداء الإسلام وخونة هذه الأمة.

وفي أواخر أيام الحج، ليلة ثاني أيام العيد وثالث أيام منى، أعلن أن الإمام البنا سيلقي كلمة بجانب الخيام المصرية، وأخبرنا أن الدعوة عامة لكل من يستطيع المشاركة، وبدأ إعداد المكان. وبدأ الإمام كلمته بعد صلاة المغرب، وكان يقول بأعلى صوته: «ما دعوة الإسلام؟ كيف نضحي لأجل هذه الدعوة؟ كيف نعمل من أجلها؟».

شيخ مهموم

وبينما الإمام البنا في حديثه، قام أحد المسنين، يريد أن يقول كلمة؛ وكان الإمام البنا يعرفه؛ فأعطاه الميكرفون، وأخذ الرجل يتكلم:

«أسأل الله عز وجل السلامة؛ أنا أعرف هذا الشيخ البنا منذ صغره، كان زجاج نظارته لونه أخضر، فهو يرى الصخور السوداء والأفق الأسمر في لون أخضر! ولكن قد بات واضحاً أن حال الأمة الإسلامية هو الموت..أنت تنتظر المدد من أرض ميتة! قد ماتت الأرض وأصبحت صحراء جرداء.
وكان حديث هذا الشخص المسن يائساً جداً؛ أصاب كل الجالسين بخيبة أمل؛ وأخذ الإمام الميكرفون مرة أخرى مبتسماً بسمته المعتاد وقال: يا إخواني، هل تدرون من المتكلم؟ هو من أعيان المسجد الأقصى الشريف، هذا الرجل من عائلة مليئة بالعلماء والمشايخ والفضلاء، نحن نرى الحريق من بعيد ونقرأ من الصحف، نراه في الصور فقط!
لكن هذا الشيخ جاء من داخل الحريق نفسه، وكما يقال: النار تحرق حيث حلت، فالشيخ مهموم لأن ما رآه لم يره أحد، لقد رأوا الذل من استيلاء اليهود على القدس. نعرف أن اليهود هم من قتل الأنبياء على مر التاريخ، وأسالوا دماءهم المباركة؛ فهم يهددون البلاد كلها ويدمرون كل مكان ينزلون فيه! وها نحن نرى في الأفق أيامهم السوداء وما خفي كان أعظم.

لماذا نجاهد؟

بينما الشيخ يتحدث بحرقة؛ قلت في نفسي: أجيب عليه بآية كريمة؟ أم ماذا أقول له؟ فألهمني الله هذه الآية: بسم الله الرحمن الرحيم؛ {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} (الأعراف:164)؛

ولو أردنا أن نوضح معنى هذه الآية فنقول:

كان في السابق قوم يعملون في سبيل الله ويتبعون هدي النبي في دعوة قومهم إلى الله تعالى؛ فأصاب بعضهم اليأس والقنوط وقالوا: «لقد نصحنا هؤلاء كثيراً، ولكنهم لا يؤمنون؛ فلماذا ننصحهم ونعظهم؟ إنهم استحقوا هلاك الله وعذابه! فلا تعظوا هؤلاء الغافلين الجاحدين».

فقام هؤلاء المجاهدون وأجابوهم: {قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ "164"} (الأعراف)، فنحن نعمل حتى نجد ما نعذر به أنفسنا عندما نقف أمام الله تعالى، نحن نعمل حتى نقول لله عز وجل: عملنا واجتهدنا وقاومنا وفعلنا ما بوسعنا؛ فلذا نحن نتعب ونجاهد في هذا الزمان العصيب.

إمام أُوتي الحكمة

بعد كلمات الإمام أخذ الرجل المسن الميكروفون مرة أخرى وقال: يا ولدي، يا حسن البنا؛ يا أسد!لقد أسرتني بفضيلتك وأحببتك منذ طفولتك..

يا ولدي، يا حبيبي يا حسن البنا، كما استشهدت أنت بالقرآن فأنا أقول من القرآن أيضاً: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:269)، يا ولدي، قد وهبك الله هذه الحكمة، وأزلت ما في فؤادي من يأس، أنا معك.. فاستمر في كلامك وأنا أسمع لك مع إخواني. خبر وفاته: توفى البنا في القاهرة عام 1949م، حيث قتل بست رصاصات..

استشهد ودماؤه تسيل من مكان إصاباته. كنت وقتها في المدينة المنورة، وقد لا تصدقوني لو قلت: إنني لم أحزن حين سمعت خبر وفاة أبي وأمي بقدر ما حزنت عندما سمعت خبر استشهاد الإمام! لأنهما أبي وأمي فحسب؛ أما الإمام البنا فقد كان أباً معنوياً لملايين الشباب!

أنا وهو في الرؤيا

ورأيت في تلك الليلة رؤيا أني في المحشر، وكانت هناك حشود وضيق من الازدحام الذي لا يمكنني وصفه، وكانت كل هذه الحشود تنتظر قطاراً سيذهبون به للمحشر! وأثناء هذا الازدحام الشديد سمعنا أصواتاً تقول: «أتى القطار!»، وبعدها رُؤي القطار وهو يطلق أصواته ويخرج الدخان، وكنت في اضطراب شديد وقلت: يا رب، كيف لي أن أركب هذا القطار في هذا الازدحام الشديد؟ وكيف يمكنني النجاة؟ وكنت في معاناة شديدة!

وجدت نفسي فجأة على محطة القطار، وقف القطار ورأيت الإمام حسن البنا متعمماً، وله لحية سوداء وعليه عباءة بنية اللون مصنوعة من صوف الجمال، ومد لي يده فقفزت إلى القطار وأخذني إلى جواره ولفني بعباءته وذهبنا مع بعضنا بعضاً.

استيقظت وأخذت وقتاً طويلاً حتى استوعبت الواقع، وقلت: «هذا الرجل الذي أحببته ومات شهيداً في سبيل دعوته سوف يشفع لي يوم القيامة»، وظللت صامتاً طويلاً!

الرؤيا الثانية

وبعد أيام رأيت رؤيا أخرى متعلقة بالإمام البنا، كان يلقي خطاباً في أحد الأماكن، والتقينا بعد إنهاء خطابه وسأل عني وعن أحوالي وقال لي: هل تعمل؟ فقلت له: أنتظر دعاءكم، فدعا لي: وفقك الله، وقوى إيمانك، ونور حياتك بنور القرآن. ونظرت فإذا ياقة قميصه مقطوعة، فأخرجت من جيبي إبرةً وحِكتُ هذا القطع، ثم استيقظت!.


بعد أن غادرت القاهرة، واستقرت إقامتي في المدينة المنورة، جاء أحد الإخوة المصريين يدعى المهندس عادل إلى المدينة، فأخذت منه معلومات عن نشاطات الإخوان وقتها، علمت أنه بعد أن تركت القاهرة بسنة زاد عدد الإخوان، وفي عام 1948م اتُخذ قرار بإخراج جريدة إخوانية يومية، وحكى لي بشكل محزن هذه الحادثة، والموقف الغريب الذي قابلهم.

كانت للإخوان مجلات أسبوعية وشهرية، ولما ازداد عددنا أردنا إنشاء صحيفة يومية وأبلغنا الأستاذ، ورأى الأمر مناسباً، وشاورنا أهل الخير في الأمر، وكان كل شيء يسير بشكل جيد، وتأسست الصحيفة بالفعل، وجاء بعدها الدور على الكُتَّاب.

أردنا أن يكتب في الجريدة الكتَّاب المشهورون والمعروفون والمقروء لهم، وأهل الخبرة في المجال، لكن أعداءنا كانوا يتابعون التحركات ويجهزون المؤامرات لإعاقة هذا العمل المهم. أرسل الإمام إلى الكتَّاب المعروفين الذين يفترض فيهم التديُّن لكنهم للأسف أبدوا اعتذارهم ولم يقبل أي منهم أن يكتب في جريدة الإخوان المسلمين، بل حتى زيدت لهم المرتبات إلى ضعفين فلم يقبلوا! ولم يجرؤ أحد منهم على الكتابة.

العدو لا يقف مكتوف الأيدي

وفي يوم ما أخذ الإمام التليفون بيده وقال:

الشيخ حافظ رمضان باشا صديقنا؛ فليكتب هو، وهو عالم بالأوضاع والسياسة ومحبوب في المجتمع. كنت بجواره واتصل بحافظ رمضان باشا وأخذا في الحديث؛

وكان صوت رمضان باشا واضحاً من سماعة التلفون:

«أهلاً مرحباً؛ أين أنت؛ ياريت نلتقي»، وعندما فتح الإمام البنا الموضوع معه تغيرت طريقة حديثه! حتى رمضان باشا ذهبوا إليه وحذروه وهددوه..
العدو لا يقف صامتاً مكتوف الأيدي. «آه يا شيخ حسن؛ وددت ذلك كثيراً، ولكن لا طاقة لي أن أكتب في هذه الفترة»! فأغلق الإمام التليفون قائلاً: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، ثم قال: «إخواني، علينا ألا نطمئن ولا نثق في أحد إلا الله، فهؤلاء ليسوا ملائكة معصومين، كما أنهم لم يتعلموا الكتابة في بطون أمهاتهم! هم تعلموا في هذه الدنيا، ونحن لم يبقَ لنا خيار آخر ولا حيلة أخرى! أنا سأكتب، وسنربي الشباب على الكتابة ليكتبوا هم أيضاً».

وكان المهندس عادل مستمراً في حكاية هذه المواقف:

بدأنا نكتب بأنفسنا ولكن لا أحد يشتري الجريدة، وكمية التوزيع قليلة، إذ تتركز في القاهرة فقط مع أماكن أخرى قليلة؛ وتكاد تكون منعدمة في باقي المدن والقرى! نذهب إلى القرى لنرى حجم المبيعات فيقال: إنها بيعت كلها، وهي لم تبع وموجودة في مخازنها! وبهذا الشكل أصبح الناس ممنوعين من جريدة الإخوان المسلمين.
كانت هذه الحكاية تؤثر كثيراً في راويها المهندس عادل وكان دائماً ما يكررها، وبعد وفاة الإمام حسن البنا أصبح محمد قطب وسيد قطب وأمثالهما يدعمون جريدة الإخوان وأثروها إثراءً كبيراً.

مُستبقو الخطى

كنت في القاهرة عام 1945م حين انفصل فريق من شباب الإخوان عن الجماعة بدعوى أن العمل بطيء جداً، وأسسوا جمعية جديد اسمها «جمعية شباب محمد»، وكانوا يصدرون جريدة أسبوعية تحت نفس الاسم.

وفي يوم ما بينما أنا بجانب مصطفى صبري أفندي، قام أحد الشباب بإحضار تلك الجريدة إلى الشيخ مصطفى وكانوا كل أسبوع يسلمونها للشيخ في يده. وأخذني الفضول أن أسال الشيخ صبري أفندي عن هؤلاء الشباب، وسألته قائلاً: هؤلاء مجموعة من الشباب انفصلوا عن الإخوان أليس كذلك؟ نعم؛ هم رأوا أن الجماعة صامتة ومفرطة وبطيئة!

وهم مستعجلون يستبقون الخطى، نسأل الله أن يحسن ختامهم، هؤلاء للأسف لا يعرفون حقيقة السياسة وما هي! يظنون أن العمل مع غير المتدينين شيء سهل، فيظنون مثلاً أن «الإلحاد» هو هذا الذي يرونه في مصر فقط!

العدو متعمق

هؤلاء شباب أهوج، لا حول له ولا قوة! بعد أن كبر العمل والجماعة وأصبحت الأمة تجتمع حولها خرجوا ليقولوا هذا العمل ليس صحيحاً ويجب أن نغيره!أعداء الإسلام متعمقون جداً، في كل مكان وأذرعهم ممتدة، وفعلاً انتهى هؤلاء الإخوة بعد زمن دون أن يفعلوا شيئاً، للأسف أضعفوا الإخوة وقسموهم!

تجربةالإخوان السياسية

كانت للإخوان تجربة الدخول في السياسة، ففي عام 1943م أجريت انتخابات داخل الجماعة، وجاء بعض الإخوة المتحمسين إلى مواقع المسؤولية، وأرادوا أن يترشح البنا مستقلاً، أو يكلف بعض الإخوة كي يخوضوا الانتخابات.

قَبِل الإمام هذا الأمر حتى يكون نواة تجربة وخبرة في العمل السياسي، وخلال يومين أو ثلاثة أيام امتلأت الحافلات و«عربات الترام»، باللافتات واللوحات الدعائية، وتم الإعلان في كل مكان أن الإمام حسن البنا سيخوض الانتخابات، لم تكن هناك أحزاب كثيرة وقتها، فكان الناس يخوضون الانتخابات مستقلين. لكن الحكومة أجلت الانتخابات حيث كانت في معرض عقد صفقة مع الإنجليز مدّعية أن الأمن في البلاد غير مستتب وغيرها من الحجج الواهية

أحداث جلل

وقعت إحدى هذه الحوادث بينما كنت في مصر عام 1944م، والأخرى بعد مغادرتي مصر وتحديداً عام 1946م، وقد أضرّ هذان الحدثان بالإخوان كثيراً، وفي هذه الوقائع قُتل رئيسان للوزراء.

قتل أحمد ماهر باشا 1944م، ومحمود النقراشي باشا عام 1946م، وادّعوا أن قاتليهم من شباب الإخوان! كان مقتل أحمد ماهر أول الحوادث التي هزت كيان الإخوان المسلمين، وكان الإمام لا يزال على قيد الحياة، كان أحمد ماهر رئيساً للوزراء وشخصاً معروفاً في مصر..

لم يكن الادعاء الأول مصدقاً، وفي الحادثة الثانية اعترف الشباب أنهم من الإخوان، وعلى إثرها أغلقت «جمعية الإخوان»، وتم حظر ممتلكاتها، وبعدها جاء الحظر على الإمام نفسه، فظل تحت المراقبة دائماً، وأصبح كل شيء محظوراً! فلم يعد هناك نشاط يُذكر.

كان سفير باكستان وقتها قد عرض على الإمام اللجوء إلى باكستان، وكان يقول له: نحن ننقذك يا إمام! لكنه كان يرد: «قد اعتاد إخواني حتى هذا اليوم أن يروني في مقدمتهم، فلن أترك الميدان وأهرب! فإني إن هربت انهدم الكثير، وماذا عساي أفعل إذا لم يكن معي إخواني؟! أنا لست شيئاً بغيرهم، وإن أغلقت الجمعية الآن وصرت أنا محظوراً عن العمل فإنني سأنتظر وأصبر».

مقتل حسن البنا

كانت هناك جمعية تسمى «جمعية الشبان المسلمين»، وكان رئيسها آنذاك صالح باشا حرب، وفي يوم من الأيام ذهب إليه الإمام البنا في زيارة خاصة، وكان يصطحب معه نسيبه الذي كان يعمل محامياً حيثما ذهب، وقد كتب هذا الرجل بعد ذلك وقرأنا عنه..

فكان مما حكاه:

«غادرنا المكان بعد أن صلينا المغرب ولم تكن معنا سيارة فقررنا العودة إلى البيت بـ«تاكسي»، ومن المعروف أن شارع «الملكة نازلي» (رمسيس حالياً) مزدحم جداً، لكنه بين المغرب والعشاء يكون فارغاً تماماً، أغلقت الكهرباء عن الشارع بحجة تعديلات وإصلاحات، وانتظرنا وانتظرنا كثيراً ولكن لم نجد «تاكسي» واحداً يمر!
جاءت سيارة «جيب» ونزل منها عدة أشخاص وأطلقوا على الإمام ست رصاصات ثم ركبوا وهربوا، وعندما سقط الإمام على الأرض سألني: هل استطعت أن تأخذ رقم السيارة؟ فقلت له: لم أستطع! الجو مظلم؛ ثم وقف على قدميه!
وقال: هناك مركز صحي؛ لنذهب إليه.. أسرعنا الخطى، وكان يجري والدماء تسيل منه، فلما وصلنا إلى المركز الطبي لم نجد أحداً هناك، وكانت الكهرباء منقطعة والمركز متوقفاً عن العمل! الحمد لله أعطيتُ مرادي: وفي هذا الاضطراب أخذت أجري يميناً ويساراً إلى أن انقطع رجائي ولم أجد أحداً، والإمام يفقد دماءه!
وفي هذا الموقف قال لي: محمد؛ أنا راحل، الحمد لله! ماذا كنا نقول حتى هذا اليوم؟ ماذا كانت شعاراتنا وأناشيدنا؟ الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
وها أنا أصل إلى أملي الذي رجوته من الله دائماً، أنا ذاهب، أوصل سلامي لكل الإخوان، أنا إنسان فانٍ قربت نهاية عمره، فالله هو الباقي، ونبوة النبي "صلى الله عليه وسلم" باقية إلى يوم القيامة، والدعوات باقية، فقل للإخوان: لا تحزنوا!
لا تحزنوا على موتي، ولا تسقطوا من اليأس؛ فدعوتنا خالدة. نطق الإمام بهذه الكلمات كوصية له، ثم فاضت روحه إلى بارئها، وبعدها جاء الأطباء وجاءت الكهرباء!
وتحدث الأطباء فيما بينهم: هذا الرجل أُهمل حتى يموت! الرجل مات بتصفية دمه؛ لأن الرصاص لم يصبه في مكان يسبب الموت، إلا أنه مات من كثرة ما فقد من الدماء!

جنازة محظورة

كانت جنازة الإمام البنا ودفنه مشهداً مؤلماً كما كانت حادثة مقتله! لم تعطِ الحكومة الإذن لأحد أن يشترك في الجنازة، فلم يشارك فيها إلا والده الكبير وبعض النساء، وحمل الجنازة شقيقاته، وصلى عليه والده ثم دُفن. كان والد الإمام البنا رجلاً من أهل العلم، شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكان «ساعاتي» مشهوراً، اسمه «أحمد عبدالرحمن الساعاتي».

لم يشارك في الجنازة إلا والده، ونساء عائلته، ووزير المالية المسيحي «مكرم عبيد» الذي لم يهتموا بمنعه من الجنازة؛ لأنه مسيحي! هذا الرجل الذي جاء إلى قبر الإمام وقال: «أكبر جناية ارتكبت وأسوأ إهانة حدثت هي أن يترك الإمام وحده ولا يشترك أحد في جنازته! هذا الرجل الذي عشقت نزاهته وعفته وإخلاصه الكبير لدعوته».

كربلاء البنا

كلما تذكرت هذه الحادثة المؤلمة تذكرت موقعة كربلاء! عباس محمود العقاد، أحد الكتاب المصريين الكبار، كتب هذه الكلمات عن سيدنا الحسين قائلاً: استشهد الإمام الحسين ولم يتبق رجل من الذين قتلوه؛ قتلوه وهربوا وجسده ملقى على الأرض!

وفي الليل تحفر النساء القبر ويدفنّ الشهداء! كم هو مؤلم هذا المشهد! والله وملائكته شاهدون على هذه الواقعة. وقد شبهت أنا واقعة مقتل الإمام بـ«واقعة كربلاء»، فكم هو مؤلم مشهد دفن هذا الرجل الذي يعدُّ محبوه وإخوانه بالآلاف؟!

إعدام «عدنان مندريس»

كان لـ«عدنان مندريس» يرحمه الله تعالى آلاف المحبين أيضاً حيث بقي رئيساً للوزراء في تركيا 10 سنوات وحكم عليه بالإعدام بحجج واهية وظلمٍ بين، ثم دفن في جزيرة بعيدة كي لا يذهب إليه أحد، ولو عقدت الانتخابات وقتها بدل إعدامه لأصبح رئيساً للوزراء! لكن هذه هي أعمال أعداء الدين ومكر الظالمين والخائنين، لهذا يجب أن نحذر!

إقرأ أيضا


إقرا أيضاً

الإمام البنا في عيون السياسيين

الإمام حسن البنا في عيون الصحفيين

الإمام حسن البنا في عيون الصحفيين

الإمام حسن البنا في عيون الغرب

Banna banner.jpg