مذكرات العالم التركي علي علوي كوروجو مع الإمام حسن البنا (1-2)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٣:٤١، ١٤ مايو ٢٠١٣ بواسطة Ahmed s (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذكرات العالم التركي «علي علوي كوروجو» مع الإمام «حسن البنَّا»
(1 - 2) البنا.. صائد القلوب ومحيي الأخوَّة

ترجمة وإعداد: أحمد يوسف

الحلقة الاولى

مقدمة

ولد الشيخ «علي علوي كورجو» في مدينة «قونية» التركية عام 1922م، حفظ القرآن الكريم في سن الطفولة؛ ثم هاجر إلى المدينة المنورة مع عائلته عام 1939م؛ وسافر إلى القاهرة في عام 1940م، ودرس في جامعة الأزهر، وهناك قابل الإمام حسن البنَّا، وظل يلتقيه طوال سنين الدراسة، حيث مكث 6 سنوات في القاهرة، عمل مديراً لمكتبة «عارف حكمت» بالمدينة المنورة حتى عام 1985م، له عدة مؤلفات دينية وتاريخية ودواوين شعرية تولت العناية بها وطباعتها «دار المعرفة» في إسطنبول، يعد من الشعراء الأتراك المعدودين في تركيا الحديثة كـ«محمد عاكف أرصوي» وغيره، عاش 62 عاماً في المدينة المنورة، وتوفي فيها عام 2002م، ودفن في «البقيع».

وقد عاش الشيخ على علوي سنين حياته خارج موطنه، في زمنٍ كان العالم الإسلامي يعجُّ فيه بأحداث جلل (1922 - 2002م)، وقابل العديد من الشخصيات الإسلامية التي كان لها دور كبير في التاريخ الحديث من العلماء والمجاهدين ومؤسسي الحركات كالإمام البنَّا، والشيخ أمين الحسيني، والشيخ أبو الحسن الندوي، وسيد قطب، الشيخ محمد شاكر، الشيخ سعيد الزمان النورسي، والشيخ أمجد الزهاوي، والشيخ زاهد الكوثري، وشيخ الإسلام مصطفى صبري أفندي، وإحسان أفندي.. عاصر هؤلاء العظماء من أعلام الأمة وعايشهم وتعلم منهم، وله معهم من الخواطر والمواقف الكثير، سجلها بقلمه وعاشها بنفسه، وفيها من التاريخ والعلم والأخلاق والدلائل ما يحتاج للوقوف عليه فيما نراه من أحداث السنين التي نعيشها.

ذكر الشيخ في مذكراته التي تتكون من ثلاثة مجلدات قصة حياته وتعلمه ودراسته ومواقفه وكل الشخصيات المؤثرة التي قابلها من العالم الإسلامي.

بداية تعرفه على البنَّا

يقول الشيخ «علي علوي كوروجو»: خرجنا ذات يوم من درس الشيخ «إحسان أفندي»(1) في القاهرة عائدين إلى المنزل، كنا وقتها ثلاثة؛ أنا، ومصطفى ريون، وعلي يعقوب(2)، كان هذا عام 1942م وكان عمري وقتها عشرين عاماً فقط.

عبر أمامنا شخص معمم ملتحٍ يرتدي عباءة، وإلى جواره أربعة أو خمسة أشخاص، إلا أن الذي لفت نظري أن هذا الشخص ذا السن الذي يتراوح بين 35 - 40 عاماً كان أكثر ممن كانوا معه نشاطاً وروحاً.

قال لنا «مصطفى ريون»: يا جماعة، هذا هو المرشد العام للإخوان المسلمين حسن البنَّا، نعم هو هو! فلما قال هذا وقفنا بفضول وحيرة، وأخذنا ننظر مِنْ خلفهم، فسمعنا حسن البنَّا - وكان حساساً دقيقاً شديد الذكاء - فوقف على الفور وعاد فألقى علينا السلام وصافحنا وسألنا واحداً واحداً عن أسمائنا وعملنا ومكان إقامتنا.

وقال لنا: «إذاً نحن جيران»، ثم دعانا إلى دروسه قائلاً: «عندنا لقاء الثلاثاء بين المغرب والعشاء، هو لقاء الأخوَّة، شرفونا، نحن ننتظركم».

يا لها من ابتسامة جميلة، يا لها من روح عالية تدعوك إلى القرب منها.. يا لهذا الشعاع الذي كان يتدفق من وجهه إلى روحي فيلهب أحاسيسي وعقلي! تحدثت مع «يوسف»، وحكيت له عن مقابلتنا مع حسن البنَّا، وحُسن معاملته لنا وما أظهره لنا من لطف وابتسام حين قابلنا، قلت له: «يوسف، حسن البنَّا هذا يا رجل.. أسرني عاشقاً عنده».

فابتسم «يوسف» وقال: «هو رجل دعوة صائد للقلوب، وأنا أداوم على لقاءاته، لنذهب إليه سوياً الأسبوع القادم».

واستطرد قائلاً: «هو الشخص الوحيد - بين كل العلماء وكل المصريين الذين تعرفت عليهم في مصر - الذي أسر قلبي، أسلم عليه بيدي فلا يتركها إلا أن أتركها أنا، وإذا وقفت قليلاً يقول لي: هيا إلى المنزل إن أحببت لنجلس سوياً، لا يفرق بين باكستاني أو مصري أو تركي ويقول: كل المسلمين إخوة، يتعامل مثلما كان يتعامل النبي [، كم هو ودود مخلص قريب من القلب».

فسررتُ جداً عندما سمعت منه هذا الكلام الجميل.

في المركز العام للإخوان

كان المركز العام للإخوان المسلمينقريباً منا، حيث كان يبعد 500 متر فقط من مكان «تكة السلطان محمد»، ومدرسة «إحسان أفندي»، لم يبدِ الأصدقاء الآخرون رغبة في الذهاب معنا، بل كانوا متخوفين أن يتلسن أحد عليهم بأي كلمة.

كان مركز الإخوان مبنىً محاطاً بالغرف، تتوسطه ساحة كبيرة هي صحن المركز، كان ميداناً واسعاً يسع لألف شخص، وجُهز بهذا الشكل لأجل الصلاة والدروس والخطب، فقد كان البنَّا رجلاً منظماً جداً.

كان يصلي صلاة المغرب إماماً، صليت خلفه بخشوع لم أشعر به أبداً في أي وقت آخر في القاهرة، ثم خرج بعد الصلاة وجلس في مكان يعلو عن الأرض متراً واحداً وأمامه منضدة عالية وميكرفون، كان يرتدي هذه المرة طربوشاً على رأسه، إذ هو - في الأصل - يرتدي الطربوش غالبية الوقت، ويتحدث واقفاً على قدميه.

كان يتحدث وكأن القرآن مفتوح أمامه، فهو يستحضر كل الآيات حول موضوع حديثه: ما الإسلام؟ وما الأخوة الإسلامية؟ كيف كان ماضي المسلمين؟ وكيف سيكون مستقبلهم؟ إلخ.

ورغم حفظي للقرآن، فإني تعجبت كثيراً من قوة وقفاته مع القرآن بهذا الشكل.

أردت تقبيل يده

وعندما دخل وقت العشاء وأُذن الأذان، قطع حسن البنَّا خطبته، ودعا هؤلاء العلماء إلى جانبه وأجلسهم بجواره، وكلف أحدهم أن يؤمنا لصلاة العشاء، لكنهم اعتذروا وقالوا: نحن جئنا اليوم لنستمع إليكم.

فمشى الأستاذ البنَّا للإمامة، كان يلف أثناء الصلاة عمامة فوق الطربوش، ويضع فوق «الجاكت» الذي يلبسه عباءة، وكانت صلاته طويلة.

وبعد انتهاء الصلاة دخل في حوار مع هؤلاء العلماء وقال لهم: «المهمة عليكم من الآن! قد خلصني الله عز وجل من حمل كبير، فما أنا إلا دليل أدل الناس على الطريق الذي يقربهم من الله؛ ولطالما دعوته تعالى وسألته أن أسلّم هذه الدعوة لأهلها، فأنا غاية في السرور لأني سلمت الأمانة لمن هم أهلٌ لها».

قلبي وفؤادي كانا يريدان تقبيل يد الأستاذ، وأخبرت صديقي «يوسف» بذلك، فحاول منعي وقال لي: «أخي، المكان مزدحم جداً، والأستاذ سيكون مشغولاً مع العلماء، ونحن طلبة فقط، لكنهم علماء ومهمون، فلن يُسمح لنا بالوصول إلى الأستاذ، وسنأتي الأسبوع المقبل إن شاء الله».

وعلى إثرها، قلت له: انتظر، ووجدت الفرصة بعد اتساع المكان قليلاً، واستطعنا أن ندخل ونقترب منه.

أهلا أخي «علي»

أجلس الأستاذ البنَّا العلماء وأراد أن يتحدث معهم، لكنه كان واقفاً مشغولاً بالشباب، وكان جل الحاضرين من الشباب، و90% منهم طلاب جامعة.

ورآنا الأستاذ البنا ونادى علينا: «أهلاً وسهلاً أخي علي!»، ناداني باسمي كما فعل لما رأيته قبلها بأيام، وغرق صديقي «يوسف» في دهشته! وبعدها قال لـ«يوسف»: «أهلاً يا يوسف، أهلاً بصديقنا القديم...»، ونادانا إلى جانبه وصافحنا وأخذ يُعرفنا للأساتذة: «هؤلاء جواهر، ابتعدوا عن أمهاتهم وآبائهم وأوطانهم ليجتهدوا ويعملوا، لا ليكونوا مصابيح فقط، بل ليكونوا شموساً تضيء بلادهم! وقد تعرفت عليهم قبل أسابيع ودعوتهم وجاؤوا إلينا».

رحمه الله رحمة واسعة.. كان مثل المغناطيس جذبنا إليه وربطنا به.

الشباب

كنت أدقق النظر، 90% من الشباب الحاضرين طلاب جامعة، كانوا يأتون برغبة شديدة يملؤون فراغ أرواحهم هنا بعد أن بعدوا عن المعاني والأحاسيس الإنسانية، وكانوا في حركتهم كالنحل يتطاير فوق الزهور.

كنت أحس في هذه الاجتماعات بجوٍّ رباني، كأن الشباب يأتون للعبادة لا لتعلم شيء بعينه. كان الأستاذ البنَّا يؤم صلاة العشاء بنفسه، وكان يجذب الشباب نحوه أكثر بكلامه حين يقول: «لقد تولدت في عقلي معانٍ كثيرة حين قرأت هذه الآيات، فلنتدارسها معاً ولنرَ ما تستخرجوه من معانيها».

وقبل كل شيء، كان يحمل إخلاصاً عجيباً: «هذه الدنيا فانية، والأعمار مكتوبة محدودة.. هذا الطريق هو طريق الله.. وما تحوزه فيه أعلى قيمة من كل شيء».

الأخوَّة. دائماً

تستخدم الجماعات والطرق والمشايخ والمرشدون والأساتذة والمريدون أسماء مختلفة، لكن حسن البنَّا يرحمه الله كان دائماً يقول: «أخي».. كانت الأخوة في مجالسه قبل كل شيء، إذ كانت هي الجو المبسوط عليها دائماً، وتُرى فيها هذه العاطفة، عاطفة الأخوَّة، بوضوح وصفاء.

ومن بين آلاف الشباب الذين كانوا يأتونه، كان أكثر اهتمامه بالشباب الإندونيسي والباكستاني والأفغاني والتركي.. بل كان اهتمامه بالشباب العربي من موريتانيا والمغرب والجزائر والسودان أكثر من اهتمامه بالشباب المصري أنفسهم! والجامع بين كل كلامه، والعامل المشترك الدائم في حديثه «أخوَّة الإسلام والاتحاد فيه».

الحظر السياسي

في عام 1944م منعت الحكومة المصرية الإمام البنَّا من إلقاء دروسه وعقد مؤتمراته بشكل جماعي مع الشباب، وكان لسان حال الأمريكيين والإنجليز أن «لابد من إسكات البنَّا، فما أيقظه من حركة، وما يُحدثه من حراك يجري ضد مصالحنا، ويقف بوجه ما نريد أن ننشره من ثقافات».

كان الإمام البنَّا يلقي بياناته ضد الحكومة المصرية، حيث كان يقول: «الحرب انتهت، وهناك مؤامرات ضد الأخلاق والدين والأمة والوطن، قبل ذلك كان جيش الاحتلال الإنجليزي في دولتنا، وكنتم تقولون: لا نستطيع أن نفعل ما نريد.. والآن انتهت الحرب، وانسحبت الدول الغازية، فما أنتم فاعلون؟ هناك مواقف تجرح مشاعر الشعب وتخالف الدين والأخلاق، فإلى متى تنتظرون؟! وما الإجراءات التي ستتخذونها ضدها؟! وما التدابير التي ستتخذ لإعلاء الأخلاق وتعليم الدين؟»(3).

الحلقة الثانية

(2 - 6) مع البنا في رحلة إلى المدينة المنورة

كانت التحذيرات والتنبيهات التي يلقيها الإمام البنَّا في خطاباته تؤرِّق مضجع الحكومات الموجودة في السلطة؛ ولهذا السبب منعوه من عقد المؤتمرات.

كنت ما أزال في القاهرة في ذلك الوقت - عام 1945م - وكان هناك مسجد قديم في حي مصر القديمة يرجع إلى «سليمان الفرنساوي»(1) بنته وزارة الأوقاف، وأخذ بعض الإخوان القاطنين في هذه المنطقة تصريحاً من الأوقاف لتعميره، وقاموا بتجديده بالفعل بشكل سريع.

وسمعنا هذا اليوم أن البنَّا يرحمه الله تعالى قد أذن له بإلقاء دروس التفسير بعد صلاة الجمعة، فذهبنا إلى هناك يوم الجمعة مبكراً، فإذا بعربة أمن قد وصلت قبلنا، وأخذ العساكر وضعهم أمام المسجد.

خطب الإمام خطبة الجمعة وصلينا، وانتظر آلاف الشباب بعد الصلاة دون أن يهمسوا أو يتحركوا من أماكنهم حتى صعد الإمام البنَّا المنصة.

عندما تحدث عن الموت

قال إمام المسجد للإمام البنَّا: «يا سيدي، في كل جمعة لا يتجاوز المصلون هنا صفين! وفي حضوركم امتلأ المسجد عن آخره وتكدس صحنه والشوارع المجاورة أيضاً.. وأنا أخطب الجمعة القادمة وصلاتها لك، وبعد الجمعة تداوم على درس التفسير كما أنت».

ذهبنا أيضاً إلى الجمعة الثانية، وكان الإمام يرحمه الله تعالى يتحدث عن القرآن والقدر والموت.. وخلال حديثه عن الموت وهو على المنبر، جاءت جنازة إلى المسجد! كنت في حالة عجيبة وأنا ساكن مكاني لا أهمس. فقال دون أن ينتظر: «أيها الإخوة، هناك حقائق نعرفها لا تتغير أبداً، وهي علم اليقين، يموت أحد الأقارب أو الجيران؛ فنرى عين اليقين! ويموت بعد ذلك آباؤنا وأمهاتنا وأطفالنا وزوجاتنا وأقرباؤنا؛ فنذوق حينئذ ألم الموت وحقيقته، ونفهم حق اليقين»!

كيف يُستمع للقرآن؟

بعد ذلك تطرق إلى كيف كان النبي "صلى الله عليه وسلم" يقرأ القرآن ويسمعه، وأخذ يحكي هذه القصة: قال النَّبِيُ "صلى الله عليه وسلم" ذات يوم لِعَبْدِاللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ: «اقْرَأْ عَلَيَّ».

قَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أنْزِلَ! قَالَ "صلى الله عليه وسلم" : «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي».

قَالَ: فَافْتَتَحْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ، فَلَمَّا بَلَغْتُ: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا "41"}(النساء)، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لِي: «حَسْبُكَ»(أخرجه مسلم في صحيحه).

وأخذ الإمام يقف عند هذه الحادثة ويتأمل كيف كان النبي "صلى الله عليه وسلم" يسمع كل آية ويقف عندها، ويتمثل الحالة الروحية عند سماعها، وتذرف عيناه بالدموع.

فهذا هو نبينا، كان يسمع القرآن على هذا النحو، فهل يا ترى حين نسمع أو نقرأ القرآن ترتعد فرائصنا من الخشية؟!

عواطف جياشة

وبعد ما نقل الإمام البنَّا هذه الواقعة، قام بعض الشباب وسألوه: «يا أستاذ، ماذا يمكننا أن نقول عن هذا الحادث؟ كيف نعبر عنه؟»، فكان جواب الإمام - الذي لم أنسه على الرغم من مرور 50 عاماً (حتى كتابة المذكرات) على هذا الموقف الروحاني الذي ما يزال تأثيره عليَّ كأني أشهده الآن: «تيار الإيمان كان قوياً، والإيمان مثل الكهرباء! كلنا يمتلك مثل هذا التيار، وكل منا يمتلك قوة معينة لهذا التيار؛ فإذا أصبح قوياً لمس الإنسان كالبرق؛ فالغاية هي أن نقرأ ونحب ونفهم القرآن الكريم بعواطف مليئة بالحماس والحب وقوة الإيمان».

خصلتان مهمتان

من الخصال التي لمستها في البنَّا يرحمه الله تعالى أنه كان متواضعاً دائماً، لا تفارق البسمة شفتيه، ولا تفارق وجهَه علاماتُ الحنان والتبسم، كما أحسست فيه - في الوقت ذاته - إخلاصه في علاقاته، إذ كانت صلة تنبع من صفائه ونقاء سريرته وإخلاصه الشديد، فهو يعاملك فور لقياك كأخ له يهتم بك ويحبك.

أما الخصلة الثانية فهي استشهاده الدائم بآيات القرآن الكريم، ويتبعها بما يتعلق بها من أحاديث نبوية شريفة.

لم يكن يكتب أحاديثه وخطاباته ويلقيها من الورق، ولقد ذهبت إلى الكثير من مؤتمراته فلم أره يوماً يقرأ من ورقة.

عندما تراه يستحضر الآيات التي تتعلق الموضوع الذي يتحدث عنه تجده يقرؤها كأنها تجري أمامه! ورغم أني حفظت القرآن وسني ثمانٍ أو تسع سنوات؛ ولي أعوام وأنا أقرأ القرآن، فإنه كان يذهلني! كان يفسر الآية بالآية! وكان استحضاره للآيات يملأ النفس ويوضح لها كل شيء.

سفينة «زمزم»

وعلى إثر وفاة والدي عام 1946م - وكان وقتها موسم الحج - ذهبنا إلى جدة بالسفن التي تنقل المواطنين للذهاب إلى الحج، وكان من محض التوافق أن يذهب الإمام البنَّا على نفس السفينة إلى الحج أيضاً، وكانت سفينة كبيرة ذات أربعة طوابق واسمها «زمزم».

وكان من بين الحجاج المصريين على متن السفينة وزير الشؤون الاجتماعية ووكيل الحزب الحاكم «مصطفى النحاس» باشا، و«فؤاد سراج الدين» الذي أصبح بعد ذلك وزيراً للداخلية، فكان بجانبه حراس وأفراد الأمن فقط، بينما ناحية الإمام البنَّا كان هناك آلاف من الشباب الذين جاؤوا لتوديعه لذهابه إلى الحج.

كان الإمام البنَّا يؤمُّ الصلوات الخمس جماعةً، ثم يلقي حديثاً بعد كل صلاة، وكان الوزير يلتحف ببطانية، ويجلس يستمع له بعمق، وهكذا كأننا فوق جبل «عرفات» حتى وصلنا إلى جدة! كان الإمام يقيم في آخر طابق على سطح السفينة، فذهبت إلى جواره كي أقبِّل يده وأنهل دعوة من دعواته، فعرفني مباشرة واهتم بي كثيراً.

خطابه في المدينة المنورة

تقابلنا بعدها في المدينة، وكان هناك مدير المدرسة الثانوية «أحمد بوشناق بيه» الذي طلب من الأستاذ البنا:البنَّا أن يقوم بإلقاء كلمة للطلاب، فألقى بالفعل كلمة لطلبة الثانوية العامة، ذكر فيها عدة أمور، منها: «أنا أخطب وأتحدث منذ كان عمري ثماني وعشر سنوات، أنا أحب الخطابة وهي ليست صعبة عليَّ، لكن يقولون: إن لسان الإنسان يقف أحياناً، وأنا منذ جئت المدينة ولساني متوقف؛ لأن في هواء المدينة المنورة تسكن خُطب النبي "صلى الله عليه وسلم"»!

عند جبل «أُحد» و«قباء»

وفي أثناء مقامهم في المدينة، تجولتُ مع الأخ الذي كان دليلاً لهم، وأخبرني كم بكى في سجوده عند جبل «أُحد» ومسجد «قباء» قائلاً: رأيته يبكي بحرقة وهو ساجد في مسجد «قباء»، وبعد أن رفع رأسه من السجود مسح دموع عينيه بالمنديل وقال: إخوتي وأحبتي، كم تتخيلون أهمية المسجد؟!

قبل أن يرتاح هذا النبي العظيم بعد مئات الكيلومترات التي قطعها على ناقته، وقد خرج فوق هذا متخفياً من الأعداء، فكان أول شيء فعله - بعد أن نزل في بيت أحد أصحابه - هو بناء المسجد.

ما المسجد؟ المسجد هو مكان السجود، والجامع معناه: المكان الذي نجتمع فيه، يعني المجمع، فقد أراد النبي [ أن تجتمع الأمة في مركز واحد ومكان واحد لتتوحد، يرون بعضهم في خمس صلوات، يسألون عن أحوال بعضهم بعضاً، يتقاربون.. المسجد يعني الجامع، العبادة، الجماعة، الانصهار في أخوة الإسلام، التوحد، التعارف، الجسد الواحد.

روح العبودية: في الحديث الشريف: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، في كل صلاة، في كل ركعة لابد من قراءة «الفاتحة»؛ لأن سورة «الفاتحة» تتجلى فيها عبودية وعبادات المسلمين: «إياك نعبد وإياك نستعين»، ويكرر كلمة «إياك»، فقط له هو عز وجل! ربي، نحن مجتمع لا يعبد سواك، ولا ينحني إلا لك، ولا يعرف غيرك إلهاً، نتبع أوامرك وننتهي عن نواهيك، ولا نطلب ولا نأمل العون إلا منك.

ونرى دائماً كلمة «نحن» بصيغة الجمع، لم يقل: «إياك أعبد وإياك أستعين»، بل «نعبد ونستعين»، ففي القرآن الكريم يخاطبنا الله عز وجل كأمة جمعاء { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران:110).

الأذان عبادة

عندما ذهبنا مع الإمام البنَّا وأصحابه إلى مسجد «قباء» للصلاة وقت الضحى، كنا حوالي 50 شخصاً، وكان في مسجد «قباء» شخص يدعى «عبدالواحد عبدالحميد عباسي» صاحب مزرعة تمر، رآنا في المسجد ودعانا لنذهب عنده وعزمنا على شاي، وسأل: هل اقتربَ وقت الأذان؟ فأجابه: يا سيدي، ما يزال هناك وقت على الأذان، سندرك الصلاة إن شاء الله، وذهبنا إلى المزرعة.

وبينما نحن نشرب الشاي قال الإمام البنَّا هذه الخاطرة: «يا إخوة، تأملوا الأذان؛ وتأملوا جرس الكنائس، صوت الجرس صوت يخرج من الحديد لا كلام فيه، بل هو فقط صوت مثل صوت الساعة حين تدق لتذكّر بالوقت.. لكن لكل عبادة في الإسلام معنى راقٍ جداً، ينادي العبد أولاً لوحدة الإيمان ووحدة الغاية ووحدة المعنى؛ لذا فقدسية الأذان عظيمة، في روحه وكونه عبادة».

هوامش الحلقة الأولى

(1) والد «أكمل الدين إحسان أوغلو»، رئيس منظمة التعاون الإسلامي السابق، ومؤسس قسم اللغة التركية في جامعة «عين شمس» المصرية.
(:2) أصدقاء صاحب المذكرات.
(3) يقصد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتهاء الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها المحتل الإنجليزي في مصر، وانسحابه من المدن المصرية.

هوامش الحلقة الثانية

(1) فرنسي الأصل، جاء إلى مصر مع الحملة الفرنسية وبقي بها، واعتنق الإسلام، وكان القائد العام للجيش المصري في عهد الخديو «عباس»، وهو جد أم الملك «فاروق».
باحث مصري مقيم في تركيا

المصدر

إقرأ أيضا


إقرا أيضاً

الإمام البنا في عيون السياسيين

الإمام حسن البنا في عيون الصحفيين

الإمام حسن البنا في عيون الصحفيين

الإمام حسن البنا في عيون الغرب

Banna banner.jpg