مذكرات الشيخ أحمد الشرباصي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذكرات الشيخ أحمد الشرباصي


مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

1- " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين من قبلكم , متى نصر الله ؟ ألا ان نصر الله قريب "

2- " الم , أحسب الناس أن يتركوا أن يقولواآمنا وهم لا يفتنون , ولقد فتنا الذين من قبلهم , فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين , أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ؟ ساء ما يحكمون , من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لآت , وهو السميع العليم , ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه , ان الله لغنى عن العالمين , والذين آمنو وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم , ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون "

قرآن كريم.

اهداء

إلى روح الرجل الذى كان أمة فى علمه وفهمه , وشعلة فى قوله وعمله , وأسوة فى جنانه , وقدوة فى يقينه وإيمانه ...إلى الداعية الموفق الذى جدد دين الله , ونظم كتائب الدعوة إلى الله , ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة , وجادل بالتى هى أحسن . إلى الزعيم المسلم الذى عاش فقيرا فى ماله , غنيا فى قلبه وأفعاله , واسعا فى طموحه وآماله , ورحل راضيا مرضيا , فخلد على الزمن . إلى الغريب بحقه فى دنيا الباطل , والشهيد الأعزل الذى لم تشيعه الناس , فشيعته ملائكة الرحمن الرحيم , الذى لا يضيع أجر من أحسن عملا ... إلى روح الإمام الشهيد حسن البنا إلى روح الإمام الشهيد حسن البنا أهدى هذه الصفحات ...

أحمد الشرباصي .

القاهرة .

فاتحة المذكرات

كيف أبدأ ؟ ....

ما أحوجنى وأنا أسطر هذه المذكرات عن فترة اعتقالى خلال العاصفة الأثيمة التى عصفت ببلادى سنة 1949 م , الى محبرة مدادها من دماء النفوس , وقلم من أجفان الحيارى المشردين فى الأرض , المعذبين بطغيان الفساد , وأوراق من شغاف الأفئدة ولفائف القلوب , فان هذه الأدوات الحية وحدها هى الكفيلة بأن تعيننى على تصوير ما رأيت وما احسست , لأن ألفاظ اللغة وتعايير البيان , وأساليب البلاغة اللفظية وحدها , لاتكفى لتصوير تلك الأيام السود بما اشتملت عليه على حقيقته , ولكن حسبى حين اعجز عن توفير تلك الأدوات الحية المعبرة لمذكراتى تلك , أن أؤكد بلا زيف أو تزيد , أننى ابتغيت فى كتابتها وجه الحق , وآثرت كلمة الصدق , وما اريد بها حين أذيعها على الملأ أن أكتفى بلوم , او أقتصر على طعن , ولكنى أريد بها أن تكون سهما نافذا يخترق كل قلب لا يؤمن بحق الله وحرمة الانسان , وأن تكون شوكة مسنونة مؤلمة , تحز جنوب القادرين منا على التوجيه والتقدير , ممن بيدهم الأزمة والأعنة , لكى يغضبوا الذين حوربوا فى حقوقهم وكراماتهم ورسالاتهم , ولكى يعملوا عجلين جادين لوضع جميع الحوائل الحسية والمعنوية فى طريق عودة مثل ذلك الطغيان , أو رجوع مثل ذلك البهتان ...

وستظل هذه السطور وأمثالها من صرخات المصلحين وآهات المظلومين وزفرات المنكوبين , أشباحا مفزعة مروعة , تقلق مضاجع الباغين , وتفسد هناءة العيش على المفرطين , والله من بعد ذلك ومن قبل ذلك خير الشاهدين , وهو ديان العالمين , ومحاسب الناس أجمعين .

هل لوظيفتى بالأزهر صلة ؟

وأكاد أجزم بأن وظيفتى فى الأزهر كانت أبعد الأشياء عن محيط الاعتقال وأسبابه , لأننى فى دروسى بالأزهر لا أعرف شيئا داخل الفصل مع طلبتى غير المادة التى أدرسها , وغير المنهاج المرسوم أمامى , لا أتعرض لشئون المجتمع أو الحياة القومية , أو الأمور السياسية بمعناها المعروف لنا , وطالما عجب طلابى من أننى أكتب فى الصحف والمجلات , وأخطب فى المساجد والجماعات , وأحاضر فى النوادى والهيئات , وأدلى بآراء مختلفة فى شئون الوطن والعروبة والإسلام ومشكلات الحياة العامة , ثم تنقطع الصلة بين هذا كله وبين دروسى فى الأدب والبلاغة والنصوص والانشاء وغيرها بالأزهر , ولكن السبب يسير ومعقول , وهو أننى أعرف أن لكل مقام مقالا , وأن الانسان يجب أن لا يخلط عملا بعمل , أو يدخل شأن ميدان فى ميدان آخر ...

سبب الاعتقال

اذن فلماذا اعتقلت ؟ ... لست أدرى على وجه التحديد حتى الآن , فمن قائل : لأننى كنت عضوا فى هيئة الإخوان المسلمين , مع أننى لم أقيد عضوا فى الهيئة من قبل , ومن قائل : لأننى هاجمت الحركة النسائية المتحررة فى مصر , وهذه المهاجمة تسوء قوما لهم سلطانهم وشأنهم , وما اذكر أننى شططت يوما فى نقد , وانى لحريص على تجنب المواقف الحرجة بالرمز والاشارة وضرب الأمثال فحسب .. ومن قائل : لأننى كتبت الى طبيب شاب مجاهد فى فلسطين أقول له : انى أبارك جهادك فى سبيل الله والوطن , فكنت كلمة أبارك هذه سببا للأفتراضات والتأويلات . ومن يدرى , لعلى فعلا كتبت يوما عبارة كهذه , ولكنى أحسن الظن بمن اعتقلنى – ان كان لحسن الظن هنا مجال – فى أتصور أن يجعل هذه العبارة البريئة سببا لذلك الاعتقال ... ومن قائل اننى اعتقلت لأن خطبى فى مسجد المنيرة لفتت يومئذ الأبصار , وجذبت الجموع , وخاصة من الشباب , وقد كان المراد يوم ذاك – لارد الله يوم ذاك ولا رد أهليه – أن ينقطع كل صوت ينطق بالحق , أو يستهدى بالأخلاص , حتى يتم حفر المقبرة الكبرى للفكرة الإسلامية , فتوأد وهى فى غضارة الشباب . وقد يكون هذا السبب أقرب الى الاحتمال , وان كنت لا أقطع برأى فى هذا المجال , ولا زلت أطالب من اعتقلنى بأن يذكر لى على وجه التحديد لماذا اعتقلنى ؟ وان كنت أعلم علم اليقين أننى لن أجلب الى طلبتى , فهناك مثلى آلاف يسألون نفس السؤال , وهم يائسون من الجواب ..لهم الله ان خذلم الناس , ولهم عدالة السماء ان فقدوا عدالة التراب ...

رجعة الى الوراء

ولابد لنا قبل الدخول فى صميم المذكرات من رجعة الى الوراء , فقبل أن تحاك المأساة الكبرى لحل جماعة الإخوان المسلمين بشهور وشهور , كنت قد كتبت فى نقد الجماعة , وخطبت معارضا بعض تصرفات جزئية لها , وكان أهم نقدى متجها الى جريدة الإخوان , وكان صادرا عن قلب مخلص للفكرة الإسلامية , غيور عليها , طامع فى أن لايعلق بها شين ولو قل , وأذكر أننى كتبت فى مثل هذه المسائل مقالتين بمجلة " الاعتصام " الشهرية , فهاجمتنى جريدة الإخوان , وسخرت منى فى مقال طويل , ثم دخل على بضعة نفر من شباب الإخوان بمسجد المنيرة عقب احدى الجمع , وأخذوا يشتدون فى لومى على مهاجمة جريدة الإخوان , وصدرت من بعضهم ألفاظ قاسية كادت تثير غضبى , وتخرج بى عن هدوئى , ثم حدث بعد هذا أن نشأت جفوة واسعة بينى وبين الإخوان , بل أساء بعضهم بى الظنون الى حد كبير , ولعل بعض العذر فى هذا , فقد اخططت لنفسى طريقة الاستقلال فى الرأى والحيدة فى المبدأ , وعدم التقيد بقيود حزب أو طائفة أو هيئة , ومثل هذا الاستقلال يعتب صاحبه فى أكثر من مجال ...

وفى ظلال هذه الجفوة القاسية بينى وبين الإخوان فعل النقراشى ما لم يفعله أحد من قبله , فحل بجرة قلم جماعة ينتسب اليها نصف مليون , ويتسع نشاطها فى سائر الممالك الإسلامية , ويسرى أعضاؤها فى كل مكان , فهزتنى تلك المأساة هزا عنيفا , ثم بدأت سلسلة الاعتقالات والمصادرات والتنكيلات , ثم اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا بليل الدناءة واللؤم , فكانت هذه الأحداث المتوالية سببا فى أن يشعب قلب المرء شعبا لا يلتئم معها أبدا , وكنت أخطب وأكتب وأحاضر هنا وهناك , وأنا أغالب فى نفسى أشجانا ولواعج يضيق بها صدر الحليم , ولكنى كنت محتاطا لنفسى خشية أن تهب العاصفة اعصارا فتحطم غصنا جديدا . ولعل الكأس كانت تفيض أحيانا , فيبدو منها بريق ينم عن أسف عميق , ويبدو ذلك فى رمز أو اشارة أو تلميح , ولكن هذه الحيطة كلها لم تجد نى نفعا ولم تكسبنى نجاة , واذا أراد الله أمرا فلا راد لقضائه , فقد أصبح " مسجد المنيرة " مثار تعليقات , وأصبح خطيبه حصيدة من حصائد الألسنة فى الأوساط الضارة النافعة , واذن فكيف يظل هذا الصوت ينطلق ؟ وكيف يظل هذا الخطيب لا ينصاع للخطب المطبوعة والفتاوى المصنوعة ؟ ... فليدخل الزمرة , وليحسب من هؤلاء , مهما طال منه الادعاء بأنه من الأبرياء . ولنعطه درسا لا ينساه بأن القوة أن تفعل بالناس ما تشاء ..وفى بحران هذه الظلمات صدر الأمر بالاعتقال , فكيف كان الاعتقال ؟ ...

حالة البلاد يومئذ

بدأت الزوبعة الأثيمة تعصف بالبلاد والعباد , حين استغل القائمون بالأمر فين سلطان الأحكام العرفية المطلق فى حل هيئة جماعة الإخوان المسلمين , فما كاد يذاع ذلك الأمر , حتى راينا الجند والقوات تحشد وتكتل , وتخصص لمحاربة الإسلام والمسلمين وكل ما يتصل بالدين , خوفا وخشية من أن يكون لشىء من ذلك صلة بالإخوان المسلمين , الذين صار الباغون عليهم يسخرون منهم فيسمونهم " اخوان الشياطين " , فصودرت الجرائد والمجلات والنشرات , والقصص الدينية والكتب العلمية , وأغلقت الشعب والمناطق , وما يتبعها من مصحات وملاجىء ومستشفيات ومدارس وأماكن تدريب , وجمدت أموال الأعضاء , وحلت الشركات وأقسام البر والخدمة الاجتماعية , وقضى على حرمة البيوت , وتعرضت حرمات النساء وبراءة الأطفال وكرامة الخدور لمآس ومهاول يدريها أصحابها , ولا يتحدثون عنها الا همسا أو مخافتة , وسيق الأحرار الأبرار من خيار الأمة وصفوة رجالها وخلاصة شبابها , والمنادين بهدى ربها وسنة نبيها وكتاب خالقها , بالمئات بع المئات , الى المنافى ومهاوى الأسر والمعتقلات .

من هو المعتقل ؟

وهنا يجب علينا أن نؤكد أننا لم نكن معتقلين فى معتقل , بل كنا " أسارى " فى منفى يراد به الانتقام والتشفى , والتنكيل والتعذيب , وتضييع الكرامة الانسانية , لا منع الشر المخوف , أو حد النشاط الذى لا يرغب فيه , لأن المرء المعتقل فى عرف الأمم جميعها شخص له نشاط سياسى أو اجتماعى زائد عن الحد , ويخشى ولاة الأمور منه فى فترات الزلازل والاضطرابات كالحروب والثورات , فيعمدون الى اعتقاله فى مكان بعيد عن ميدان نشاطه , دوم تعذيب أو اهانه , ويوفرون له ما يحتاج اليه , وما يناسبه من طعام وشراب , وثياب وفراش , وغير ذلك , ويضمنون له ألا يعترض بسبب اعتقاله لأى ضرر من الأضرار العامة كفصل أو وقف أو منع مرتب أو اضطهاد أهل , وهذا هو المتبع فى الاعتقال عند كل أمة لها حرمة وحرية وكرامة ...ويقتصر أمر الاعتقال دائما على الضرورة وعلى أضيق دائرة , ومع الأشخاص الذين يشتهر عنهم بقوى الدلائل والبراهين أنهم مصدر خطر مؤكد , وهذا ما لم يحدث معنا , ولم يطبق علينا مع شديد الأسى والأسف , فقد كنا أسارى ولسنا معتقلين , كنا كالأسارى الذين تأسرهم دولة معادية لهم , فتريهم ألوان التعذيب والاضطهاد لأنهم أعداء , ولم نكن نعامل مطلقا كمعتقلين مظلومين , اعتقلهم مواطنون لهم فى بلادهم , بناء على شبهات أو افتراءات , وهذا هو ما يجعل هذه السطور أشبه بمذكرات " أسير " لا مذكرات " معتقل " وفى قابل الحديث على ذلك الدليل بعد الدليل .

بدء الارهاب

بدأت الزوبعة الفاجرة بحل الإخوان , فروقبت المساجد أشد المراقبة , وكان لمسجد المنيرة منها نصيب الأسد ... جاء رجال الشرطة فعطلوا مكبرات الصوت فى الداخل والخارج , ومنعوا الصلاة فى الشارع , ووجهوا الكثير من التهديد والوعيد , والانذار والتحذير , واستدعيت الى قسم الشرطة مرارا لتلقى الأوامر المتوعدة المنذرة , ومنعوا المحاضرات التى كنت ألقيها فى ندوة " مسجد المنيرة " كل أسبوع مرة أو مرتين , ويعلن عنها فى مختلف الصحف , وكان أغلب ما يلقى فيها عرضا لسيرة الرسول . وتصويرا للغزوات بأسلوب ملائم للعصر , وحشدوا المسجد فى الصلوات والجمع بالمخبرين أو المفسدين , وأمروا باغلاق المسجد فى سائر النهار والليل , الا بمقدار الأذان والصلاة العاجلة , وهكذا مما يطول شرحه وبسطه ...

وأخذت أتكلم بحذر , وان لم أتنكر لدعوتى وفكرتى وطريقتى , وما لا يدرك بالتصريح والعبارة , قد يكفى فيه التلميح وسليم الاشارة , والشعب – من عجب – ذكى جدا , يفهم ما تقول , بل وأكثر مما تقول , وكم فى عقول الجماهير وقلوبهم من زفرات مكبوتة , ومعان مضغوطة تستفيض لأقل الدواعى والمثيرات ...

الشيخ الأكبر

وفى يوم الجمعة 21 يناير سنة 1949 م كنت أخطب فى موضوع " كيف نعالج الارهاب " , وأشرت الى أنه لا يرضى عاقل فى مصر بالارهاب وسيلة لتعجيل الاصلاح أو للاقناع , وأن الارهاب فى حد ذاته اجرام , ولكن ولاة الأمور يجب أن يعالجوا الارهاب الذى يتحدثون عنه بدوائه وازالة أسبابه , واقترحت الغاء الأحكام العرفية أو التخفيف من قيودها , واطلاق حرية القول والاجتماع والصحافة , وحسن التفاهم مع المعارضين , وعميق التأنى فى المؤاخذة أو التنكيل , وكان الأسلوب بادى الاخلاص والاستقلال والمحايدة , بدليل أننى حملت على الارهاب والنزعات المتطرفة فى أول الحديث حملة واضحة . ثم فوجئت عقيب السلام فى آخر الصلاة , بأن شيخ الأزهر الشيخ مأمون الشناوي موجود فى المسجد , وقد استمع الى الخطبة دون أن أدرى , وجاء من يدعونى لمصافحة الشيخ , فسعيت اليه وصافحته , ودعوت الناس الى مصافحته , ونهض الشيخ الكبير السن متكئا على كاهلى , وجعل يثنى على موهبتى وخطبتى , وصحبته حتى ركب عربته , والناس فى سرور زائد , لأن شيخ الأزهر قد سمع كلامى الواضح , واقتراحاتى العملية لعلاج الموقف , وظنوا أن الشيخ وهو من بلد الحاكم العسكرى , وقد كان وليا له يوما ما , سيبلغه هذا الأمل , وسيكون لذلك ثمرة , فهل صحت الآمال , أو خابت الظنون ؟

مفاوضة

وذاع بين الناس أن زيارة شيخ الأزهر للمسجد مقصودة لينذر أو يعذر , ولكن الحقيقة يعلمها الله , الا أننى استدعيت بعد ذلك بيومين الى مكتب الشيخ من درس كنت ألقيه بمعهد القاهرة , وهناك عرض على صهره رغبة الشيخ فى ارسالى مبعوثا للأزهر فى الرياض , وأخذ يرغبنى فى القبول بكثرة المنافع وضخامة المرتب ورجاء المستقبل , وأننى سأكون هناك مغمورا ببر الملك السعودى , وغير ذلك , فشكرت هذا الظن الحسن , ورفضت هذا العرض برفق , وذكرت أننى أريد أن أسافر فى بعثة الى انجلترا , لأن هذا من حقى , وقد أخذت به عدة وعود , فذكر صهر الشيخ الأكبر أن ذلك أمر يحتاج الى مجلس الأزهر , والى اعتماد مالى , والى رجوع الى الميزانية , وكل هذا يحتاج الى بحث ونظر ووقت , فشكرت مرة أخرى ثم اعتذرت . وقال لى قائل : كأنى بالقوم يريدونك على أن ترحل بعيدا , فأغروك بهذا الأسلوب .. فقلت : الغيب يعلمه الله . وبعد بضعة أيام زارنى ليلا بالمسجد بوزارة الوقاف ومعه أحد مفتشيها بعد احدى المحاضرات , وأطالا الحديث معى حول خطبى , ثم قالا ان وزير الأوقاف طلب منا " شخصيا " أن نطلب منك اعداد خطبة تطبع وتوزع كنموذج للخطابة العصرية , وحبذا لو كان موضوع الخطبة هو تفسير " قل بئسما يأمركم به ايمانكم ان كنتم مؤمنين " . وفهمت ما أراد الشيخان المجندان فى خدمة الدولة المجندة يومئذ لمحاربة الفكرة الإسلامية . اذ علمت أنهما يعرضان بالإخوان , ولاح ذلك فى وجهى , فجعلا يذكران أنه لا ضرورة تلزم بالاقتصار على هذا الموضوع , بل هو أو ما قاربه , ولك كل الخيار , فتظاهرت بالقبول وجعلت لنفسى الخيار , وبعثت الى الوكيل بعد ذلك بأيام خطبة عنوانها : " مصر تحت ظلال الإسلام " وذلك فى خطاب مسجل , وحتى الساعة لم تطبع الخطبة ولم تظهر , ولم يكافئنى عليها الوزير مجزلا لى الجزاء كما وعدنى الشيخان , كان الله لهما .

لامصرع الإمام الشهيد

وفى الاسبوع الذى سقط فيه الامام الخالد " حسن البنا " مغتالا بأيدى الكفرة الفجرة , كانت مصر تحتفل بذكرى " الحسين " شهيد كربلاء , فكانت خطبتى يوم الجمعة 18 فبراير 1949 م عن " مصرع الحسين بن على " , وكانت خطبة أبكت العيون , وأنا أومن بأنها من موجبات رحمتى يوم الدين , فقد كان قلبى هو الذى يتحدث لا لسانى , ومع ذلك لم يرد فيها أى عبارة صريحة عن حاضر الأحوال أو مشاهد الأمور ... وقد سار ذكر هذه الخطبة فى مختلف البقاع , ونشر لها ملخص فى مجلة الإسلام , بعد أن مر هذا الملخص على الرقيب البصير العين دون انتباه أو اشتباه . ومرت أسابيع بعد ذلك كنت فيها حذرا , وان لم أبعد عن اخلاصى واستقلالى , وفى يوم الجمعة 15 إبريل سنة 1949 م كانت خطبتى عن " فتنة دخول المرأة المسلمة الى البرلمان " , وفى مساء ذلك اليوم كان اعتقالى .. فكيف كان ؟

زيارة فى جوف الليل

خرجت من المسجد عقيب صلاة الجمعة يوم 15 إبريل 1949 م , وتناولت طعام الغذاء , ومعى تلميذى الشيخ جبريل أبو بكر السيسي عضو بعثة سيراليون بالأزهر الشريف , على مائدة الأستاذ محيي الدين رضا , بدعوة وجهها الى ابنه سمير وهو من خيرة رواد المسجد الشباب , ثم عدت الى منزلى رقم 15 شارع يحيى بن زيد بحى السيدة زينب بالقاهرة , وتخففت من ملابسى , وعكفت على القراءة والكتابة دون انقطاع , الا الصلاة أو قضاء ضرورة , وظللت على ذلك العكوف حتى قرابة الساعة الواحدة بعد نصف الليل , وفى حجرة مجاورة نام أخى فضيلة الأستاذ السعيد الشرباصى وابنة أخى الصغيرة , وما كدت أنتهى من عملى حتى قمت مكدودا مجهودا , وألقيت بجسمى على السرير , وبينما أنا بين النائم واليقظان اذا بطرقات على الباب استجبت لها مسرعا مندهشا , وساءلت الطارق من يكون , وخشيت ان يكون لصا فدققت فى السؤال , واذا بصوت أجش يردد فى عزم : اذا لم تفتح فسنحطم الباب . وهنا عرفت كل شىء , فنهضت من فراشى مضطربا , ولكنى مشيت على أطراف أصابعى حتى لا أوقظ أخى أو ابنة أخى , وفتحت الباب وأنا أقول متكلفا الابتسام : تفضلوا . ورأيت بعض الضباط وبضعة جنود حوالى السبعة او الثمانية , وبأيديهم مصابيح كهربائية ومعهم أسلحة ... وبدأ تفتيش المنزل , فرجوت الضابط أن يتم ذلك بهدوء , وكما يشاء , لأننى لا أريد أن أزعج أخى , فحالته الصحية ليست كما يرام , كما أخشى أن تنزعج الفتاة الصغيرة , فأخذ الضابط يفتح الأدراج ويفرز الأوراق , ويطالع الخطابات حتى ما كان منها عائليا بحتا , وأخذ يقلب الكتب المرتبة رأسا على عقب , بلا احترام لقداسة العلم , أو مبالاة بما أنفق فى شرائها وفى ترتيبها من ثمن ووقت . ومن لطيف ما يروى أن أحد الذين ساعدوه فى التفتيش من أعوانه , تناول جزءا من تفسير الزمخشرى , وجعل يبحثه بعناية واهتمام , وعيناه تقدحان وتبرقان , كأنه فاز بكنز عجيب , وأردت أن أوفر عليه المشقة فقلت له انه كتاب تفسير للقرآن من كتبنا التى ندرسها رسميا فى الأزهر , فأمره الضابط بالقاء الكتاب فألقاه . وطالت عملية التفتيش وتناولت أشياء تافهة , وكنت أحاول أن أيسر لهم مهمتهم , فما تطلعت عين أحدهم الى شىء الا سارعت بتقديمه وتوضيح ماهيته , وكان بعض " الغزاة الفاتحين " يعلق على الحوادث والأشخاص بأصوات مرتفعة . وكان بعضهم يتعمداحداث الأصوات فى تناول الأشياء والقائها , فأدى ذلك الى استيقاظ أخى الأستاذ سعيد منزعجا , فطمأنته بأن المسألة مسألة اشتباه , وهم يقومون بحركة تفتيش عامة لكل المنازل , كتلك الحركات التى ألفنا السماع عنها فى هذه الأيام .

حقيبة فتاة تثير الريب

وانتقل التفتيش الى الحجرة التى كانت تنام فيها الفتاة الصغيرة , وبها بعض الدواليب المحشوة بالكتب , وجعل الضابط وبعض من معه يقلبون ويدققون , وفجأة وقعت عين الضابط وبعض من معه على حقيبة صغيرة للفتاة خضراء اللون , فخيل اليه كما فهمت من مظهره وحركاته أن فيها مسدسا أو قنبلة , أو محطة اذاعة سرية , أو شفرات مطوية , أو ما شابه ذلك , لأنه مد يده فى عجلة وسرعة , وتناول الحقيبة وجعل يفحصها كما يفحص العالم فى معمله مادة دقيقة فيها أسرار وأخبار , ولكن الفحص باء بالفشل , وندت قطرات من عرق الهزيمة على جبهة الضابط المجتهد المجهد , وأراد أن يخفف وقع ذلك على نفسه فقال لى : أنا أعرف أنه لا يوجد عندك شىء يستحق التفتيش أو المصادرة , لأنك عالم فاضل , ومدرس بالأزهر . ورجل عاقل , فليس من المعقول اذن أن تبقى عندك على شىء يثير الشبهة ... فقلت متعجبا : ولماذا اذن كل هذا العناء فى ذلك التفتيش يا سيدى ؟ ...فأجاب : انها الأوامر التى لابد من تنفيذها . ثم أخذ ينفس عما بنفسه فى كلمات غاضبة ثائرة تناثرت هنا وهناك .

وكانما عز على من حول الضابط أن يعودوا بحنين , دون أن يصحبوا معه خفين من خفافه , يسلكان بهما سبيلا الى موقف الاتهام أو الحساب , فدلف بعضهم الى المرحاض , وبيده مصباحه القوى الباهر الضوء , وجعل يفتش فى زوايا المرحاض وأركانه , ويصوب نور مصباحه فى فتحة المرحاض , ويصعد بنظره , فيرفعه تارة ويخفضه أخرى , بينما تبلغه أصوات من الآخرين بأن يبالغ فى التدقيق , وبأن يتذكر تفتيش الآلة الثجاجة المطهرة للمرحاض " السيفون " . لم كل هذا أيها الناس ؟ .. وماذا صنعت يداى حتى يكوم هذا هو الجزاء ؟ هل توجه نحوى اتهام ؟ هل تقدم أحد ضدى ببلاغ صادق أو مكذوب ؟ هل لى صلة بارهاب أوعناد فساد ؟ . ولماذا يتعب القوم أنفسهم كل هذا التعب , ويبذلون فى تفتيش بيت هادىء مستور مأمون عامر بأسفار العلم وأضابير الدين والثقافة كل ذلك المجهود ؟ . وما الذى يظنه اولئك المتحاملون , أيحسبون أن رجلا مثلى سيضع فى بيته سلاحا أو منشورا أو ذخيرة أو مطلوبا لعدالة ؟ . ساء ما يحكمون . وانتهت زيارة المرحاض بالفشل , فتجمعوا على باب الحجرة , وكنت آنذاك أرتدى المنامة " البيجامة " , فأمرنى حضرة الضابط بلهجته المعروفة , وان لم تكن مألوفة , أن أرتدى ملابسى على عجل حتى أصحبهم الى دار البوليس .

يتبرع بالتمويه

وخجل القوم حين هممت بالتجرد من ملابس النوم لأرتدى ملابس الرحلة المجهولة , فانتحوا ناحية فى الخارج أمام الباب , وانتهزتها فرصة فملت على أذن أخى الستاذ سعيد أهمس فيها بكلمات أوصيه بما يجب أن يفعله , وكنت أعلم أننى سأخرج من بيتى الى قسم البوليس , ثم الى المعتقل لمدة يعلمها الله وحده , وكان أخى يحس أيضا ذلك الاحساس , فأخذ يثبتنى بعبارات مذكرة آسرة . وتطلع الضابط فرآنى قد انتهيت من ارتداء ملابسى , فاستحثنى على الخروج , وهنا أراد أخى أن آخذ معى حقيبة فيها بعض الضروريات , واذا بالضابط يعرض فى ذلك ويمانع , ويتبرع بالتمويه علينا قائلا : لا داعى مطلقا لأن تأخذ معك أى شىء , لأنك ستعود بعد ساعة أو ساعتين , لأن كل ما نحتاج اليه منك هو بعض الاستفسارات , ثم أخذ يؤكد لأخى ذلك فى عبارة صريحة انخدع بها , فدعا لى بخير , وصافحنى بقوة قائلا : لا تحزن ان الله معنا .

السمير الواعظ

وهبطت السلم بين الكوكبة المرهبة , وما كدت أصل الى منتصفه حتى هتفت على أخى قائلا : أعطنى مصحف يا سعيد . وتطلع بعضهم الى بعض دهشا , كأنهم يقولون : وما الحاجة بك الى المصحف اليوم , وحيازته فى نظر المستبدين بالأمر شبهة تستوجب سوء الظن ووخيم العاقبة ؟ وتلبثت أنتظر المصحف الذى سارع به الى أخى , وزعيم الكوكبة يستحث ويتعجل .. نعم , لابد للمرء من المصحف فى هذه الرحلة وليكن ما يكون . ان هذا المصحف الشريف نفسه هو الذى جندنا فى الأرض , ندعو الى شريعته , ونحبب العاملين فى طريقته , وفى سبيل هذا المصحف نفسه لقى دعاته ويلاقون وسيلاقون ما كتب الله لهم من امتحان وابتلاء , فليكن اذن سميرنا الواعظ فى كل مكان , ويقينى أنه لن يخذلنا ولو طال الامتحان : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين " .

الى علم القيود

وحملتنا سيارة رهيبة كانت تنتظرنا أمام البيت فى الشارع , ومن حولها بعض الرقباء , وسارت بنا فى ظلمات الليل تنهب الأرض نهبا الى قسم السيدة زينب . دخلت دار البوليس حوالى الساعة الثانية والنصف من صباح السبت 16 إبريل سنة 1949 م , وأنا بطبيعتى أكره فى الدنيا أشياء لأشياء , أكره طول اللبث فى المستشفيات لأننى أكره المرض , وأكره دخول المحاكم لأننى أكره النزاع والمقاضاة , وأكره أقسام البوليس لأننى أكره العنف والخروج على القانون . وكأن الله المنعم القدير أراد أن يسبغ على نعمته , وله الحمد كل الحمد , وهو أهل الثناء والمجد , فجنبنى ألفة هذه الأشياء , وباعد بينى وبين معرفتها , وهو المسئول بمنه وكرمه أن يتم النعمة , ويديم الرعاية , ويحفظنى خاصة من الذين ألفوا الجريمة , ويودون بكل حيلة ووسيلة لأن يجعلوا الناس مجرمين , حتى ولو كانوا فى الذؤابة من أقدار الناس أجمعين .

دخلت القسم وأنا بملابسى الأزهرية , عمامة وقفطان وكاكولة , وحولى كوكبة من الجنود , كأنى طريد عدالة , أو قائد ثورة فاشلة , وتطلعت نحوى أنظار الجنود , ومن خلفها قلوب تأسى لما ترى , ولكنها مرغمة على أن ترى ما ترى , بل وعلى أن تشارك فى ارتكاب ما ترى ... وكنت أظن أنه بمجرد وصولى الى هناك , سيبدأ معى تحقيق عسير .. سوف يسألوننى مثلا : أأنا من هيئة الإخوان المسلمين أم لا ؟ .. هل لى صلة بما جرى أخيرا من أحداث ؟ هل أرضى عن ارهاب أو اعتساف ؟ هل أحرز أوراقا أو كتبا اسلامية من التى أصدرتها الهيئة ؟ ولكنى كنت خاطئا فى ظنى , فلا كلام ولا سلام , ولم توجه الى أية تهمة او أسئلة او استفهامات , بل لم أسأل عن اسمى او مهنتى , وكل ما حدث أن الضابط الذى رافقنى من المنزل سلمنى لضابط آخر هناك , وسلمه ورقة كانت بيده , ثم انصرف الى حيث لا أدرى ... أو قد اكتفى بهذه الغنيمة فاتجه الى بيته لينال قسطه من الراحة والنوم , أم أن سلطان الحاكم العسكرى المطلق ارغمه على أن يتابع بحوله وطوله وجنده الانقضاض على عباد الله الآمنين , ليسوقهم حيث الظلام الكثيف الرهيب خلف الأسوار , وحيث الاعنات البليغ فى المنافى والمعتقلات ؟ .. له الله على كل حال . فمن يدرى , لعله آلة مسخرة فى يد من استبد واستطال .

أمعك نقود ؟

وتطلع الى الضابط المصرى المسلم وهو جالس على كرسيه , وقال فى صرامة وتكلف عظمة : أمعك نقود ؟ .. أمعى نقود ؟ .. لم هذا السؤال يا ترى ؟ .. وبينما يريد عقلى ان " يشطح " فى تأويل المقصود من هذا السؤال الغريب , اذ بالضابط الكريم المؤدب يصيح : أو لم تسمع ؟ .. أمعك نقود ؟ .. ان كانت معك نقود فأخرجها لنضعها هنا فى خزانة الأمانات , حتى لا يسرقها النشالون منك داخل الحجز . اذن فأنا الان على باب عشرة مع قوم ليسوا من طرازى ولا أنا من طرازهم , مع قوم احذرهم وأنا عنهم بعيد وهم عنى بعداء , فكيف لى بعشرتهم فى مكان سعته أمتار ؟ وخشيت أن يتمادى عقلى مرة أخرى فى التفكير , فيتمادى الضابط فى أسلوبه وسلطانه , ونحن فى بلد يحكم الآن بسلطان تجمع فى أيدى انسان ... ومددت يدى فاستخرجت ما كان بجيبى من نقود , وكان يقرب من أربعة عشر جنيها , وسلمتها لحضرة الضابط الشهم الذى قال : اننا نريد بهذا أن نخدمكم , ولكنكم لا تشعرون الا بعد ان تسرق نقودكم فتصرخوا . ليتك لم تخدمنى أيها الضابط , فقد علمت بعد قليل , أننى فى أشد الاحتياج الى ذلك المقدار من المال لآكل به داخل " الحجز " واشرب , فان الحراسة هناك بقية من عبدة " العجل " , لا يحركهم الا رنين الذهب , ولا يفتح آذانهم وعيونهم وقلوبهم الا بريق الفضة , وكم لقيت من التأنيب عندما قصصت على من لقيت داخل الحجز – وكلهم صفوة كرام – أننى أودعت نقودى فى خزانة الأمانات خوفا عليها من الرعاع واللصوص . عفوا أيها الأصحاب , فما لنا بتلك الوهاد المظلمة عهد , وما دخلنا قبل اليوم حتى نعرف كيف تساس فيها الأمور .

قبلة على يدى داخل الحجز

وقادنى جندى طويل ضخم الى باب عريض كثيف اسود فى جانبه قفل كبير هائل , ففتحه الجندى , وقال لى بلهجة باردة : تفضل .. وما كدت " أتفضل " وأخطو خطوة واحدة حتى أغلق خلفى الباب فى جذبة مرعبة وصرير مخيف . وبذلك صرت فى عالم آخر ... رباه ما هذا المكان .. أبئر عميق محشوة بالآدميين , أم كهف عتيق , أم جحر واسع , أم هاوية بشرية اعدها بعض العباد للعباد ؟ .. وما هذه الكتلة من البشر ألقيت هنا أكداسا مكدسة , فمنها القائم ومنها القاعد ومنها النائم , وفيها الصبى والشاب والكهل والعجوز , وفيها التلميذ والمحامى والمدرس والواعظ والموظف , وفيها الصحيح والمريض والقوى والضعيف , والغنى والفقير , والقادر والعاجز ؟ .. وما هذه الأشباح الناحلة الجسام , الزائغة الأبصار , القلقة الجنوب والقلوب , المأخوذة بلا مآثم أو ذنوب , المحشورة فى أوكار قد فتح ابوابها المستبد بالأمر عن اقتدار , وكأنه يريد أن يقول : اننى هنا أيها الناس الواحد القهار .

والحجز وما ادراك ما هو أيها الحر الأصيل ؟ .. انه أحجار ضيقة مظلمة منتنة متداخلة , قد حرمت من الضوء والشمس والسعة , وفى كل جحر منها مرحاض هو مثل فى القذارة , يعيش بلا باب , وفتحته فى نفس الحجرة , وفيه صنبور " حنفية " يشرب منها الجميع , ويغسلون أدواتهم , ويغتسلون , ويتطهرون من البول والبراز , وهلم جرا .. وأرض الحجرة مغطاة بطبقة من " الأسفلت " الرطب البارد الممرض , وفوقه ما يسمى الأبراش , وهى قطع مصنوعة من الليف الخشن لينام عليها حضرات المحجوزين , وفيهم أصحاب مكانة وفطانة وزكانة , فيشعروا بأنهم يعيشون فى بلد تكذب حين تقول ان سجونها ومحاجزها ومعتقلاتها تهذيب وتأديب واصلاح , بينما هى وسيلة افساد وامراض وارغام على الخروج عن سواء السبيل , ووالله ان عجبى لا يكاد ينقضى ابدا من أمة تسكت على تلك المفاسد المحرضة على الاختلال والاعتلال , وفيها كما يقولون رجال أحرار , وأبناء للوطن أبرار .

وقفت على فوهة الكهف المحشو باجسام البشر الغالية على أهليها , الهينة على جلاديها , وقفت مبهوتا زائغ البصر , وأحسست فجأة بوخزة فى صدرى , وألم فى ظهرى , وخيل الى – ان لم اكن اعتقدت حينئذ – ان قيمتى الانسانية بدات تتناقص . واتجهت نحوى الأنظار من كل جانب لتعرف من اكون , ثم جعلوا يحوقلون ويسبحون , ويدمدمون بكلمات يستبين بعضها ويخفى اكثرها , وكان مما بدأ أو علا قولهم : حتى العلماء وأساتذة الزهر ورجال الوعظ والارشاد ؟ ألا لعنة الله على الطغاة الظالمين .. وفجأة نهض شاب ممتلىء الجسم واضح القسمات , وتقدم منى قائلا : أهلا سيدى الشيخ . وانحنى على يدى فقبلها فى احترام يدل على وفاء , وعجبت من ذلك فساءلته من يكون ؟ فأنبأنى أنه كان أحد طلبتى بمعهد الزقازيق حين كنت ادرس فيه , وأنه قد سيق الى هذا المصير , لأن صعلوكا من صعاليك المتطاولين الباغين قد تقدم ببلاغ كاذب يصمه هو وعشرة من خيرة الشباب بتهمة هم منها أبرياء , صبرا أيها الطالب الأزهرى الناشىء فى أحضان طغيان وطوفان من البهتان , فقد أرادت لك الأقدار أن تكون رجلا قبل الأوان , وان أضجرك الظلام فتذكر أن الليل البهيم يعقبه نهار صبوح , ولا يحسبن الباطل حين يستبد ويصول فى غفوة الحق , ان رقاد أهل الحق سيطول . واخذ الطالب الوفى لستاذه يجمع الوسائد و" البطاطين " من هنا وهناك , ليهيىء لى مكانا أستريح فيه , وأتوقى عن طريقه رطوبة الأسفلت , وهوام الأرض , وبرد الليل فى الهزيع الأخير .

ليلة لا تنسى

وحاول الجميع بعد أن عرفنى منهم من لم يعرفنى من قبل , أن يحملونى على النوم , ولكنى أبيت اذ لم أستطع , وكيف وقد بدأت الأفكار والصور والذكريات والأشباح تتنافس فى سباق ميدانه عقلى الثائر المضطرب ؟ ... وقضيت ما بقى من الليل جالسا أحدق البصر فى سقف الحجرة الكريهة حتى مطلع الفجر , وهنا نودى من المحجوزين لترحيلهم الى الطور " المبارك " قبل أن تراهم عيون الأحياء فى نور الصباح , وانطلقت حناجر قوية متمكنة تردد الله أكبر ولله الحمد . وما كاد الهتاف يتعالى مرات حتى كانت مؤخرات بنادق الجنود ومقدمات أحذيتهم كفيلة باسكات أصوات التكبير والحمد ... وقمنا نحن داخل " الحجز " نخافت بتكبيرة الاحرام لصلاة الفجر , خوفا من أن ينالنا ما نال السابقين من جزاء .

أقسم بالله لقد كان البعض يتخفى بصلاته وقراءته وتكبيراته خوفا وهلعا , وقد يكون لهذا البعض عذره الذى لا أتعرض الآن لتقديره , فالليل حالك الظلام , والطوفان غامر طامر , والشوارع مذأبة مسبغة , وسيف الجزار مصلت لا يهاب ولا يلين , وثعالب الكيد تفشت فى كل مكان , وثعابين الوقيعة والفجيعة أخذت تلتوى بأذيالها على كل غض بض من نبات الوادى الخصيب , وصار المصحف أو السبحة أو السجادة , أو اللحية أو علامة الصلاة فى الجبهة أو السكون فى المشية , أو غشيان المساجد أو الاكثار من الصلاة , أو الظهور بالتلقى او حيازة الكتب الدينية والبحوث الإسلامية , أو ابداء العطف ولو بالقلب واللسان على منكوب أو مكروب – صار كل أمر من هذه الأمور قيدا الى ما لا تريد , من عسف وتشريد , فلم لا يستخفى المستضعفون اذن بالصلاة ؟

وأنا ؟ .. ماذا يكون شأنى فى ذلك الوطن ؟ .. انه لشأن جد عسير , يدركه كل من أرغمته الحياة على تحمل تبعات لها أزمات ... أيها القلم الذى كتب ما نحن فيه , ان الأنامل التى خطت بك ما جرى علينا بلا جريرة , لن تكف عن الارتعاش طيلة الحياة , فان جبار السماء أقوى من جبار الغبراء , وان عدالة أعدل العادلين وحكمة أحكم الحاكمين لن تقبلا أبدا أن تمر تلك المظالم والمآثم بلا حساب أو عقاب , وان كنتم فى ريب من ذلك , فاقرءوا قول العزيز الحكيم عن سابقين هموا بطغيان , فعاجلهم انتقام الديان , وادخر لهم عذاب النيران : " سبحان ربنا انا كنا ظالمين , فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون , قالوا يا ويلنا انا كنا طاغين , عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها انا كنا راغبون , كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون , ان للمتقين عند ربهم جنات النعيم , أفنجعل المسلمين كالمجرمين ؟ ما لكم كيف تحكمون ؟ " .

ان الحر المجرد من المقدرة لعاجز عن الانتقام من ذى سلطان , ولو قدر لما فعل , لأنه أكرم من أن يجزى آثاما بآثام , ومن قبل قال سيد الخلق لأئمة السفهاء : اذهبوا فأنتم الطلقاء ... وأين نحن من رسول الله ؟ . واذن فحسبنا أن نقول : لئن ضنت علينا الأرض بعدالة فيها شفاء وابراء , ان أبصارنا وبصائرنا لتتجه الى عدالة السماء ..

السبت 16 إبريل سنة 1949 م

تشابه الصبح والمساء

أدركنا من اصوات العربات والعجلات , ومن ضجة الناس فى أعمالهم الصباحية بالخارج , ومن بصيص نور خافت كان يتسلل كلص جبان من كوة صغيرة عالية مغطاة بالقضبان وشبكة من السلاك , أن الليل قد ولى وأقبل النهار , ولكنه كان نهارا كئيبا وصباحا مظلما , لم نشعر له بما كنا نشعر به عند استقبال الصباح كل يوم , وذلك لأننا قد فقدنا حريتنا بلا ذنب أو جريرة , ولأن غرفة الحجز عبارة عن كهف معتم مظلم فى وحيه ومعناه , وان كانت الغرفة تضاء ليلا ونهارا بمصباح كهربائى مثبت فى السقف , وهذا المصباح ذو الضوء الدائم الثقيل يؤلمنى ويضايقنى , لأنه يؤذى عينى أولا , ويحرمنى من نور الطبيعة وضوء النهار ثانيا , ويشعرنى بأن هنا ظلاما يريد القوم اخفاءه بهذا المصباح ثالثا . ولقد طال عجبى من استمرارهم فى اضاءته ليلا ونهارا , أليس ذلك اسرافا يا ولاة فينا ؟ . وترددت الشكوى كما أخبرنى قدماء الزملاء هنا من ذلك المصباح , ولكن لا سميع ولا مجيب , وهل نحن اليوم فى انظار سائقينا الى ظلمات الأسر والاعتقال , نعد أناسا لهم حقوق وكرامة , حتى تستجاب لهم رغبة أو يسمع منهم كلام ؟ .

وقال من بقى بلا ترحيل من القدماء : أول ما نبدأ به نهارنا ايها الإخوان هو ان نكنس الحجرة بايدينا , وننفض " الأبراش " والفراش بأنفسنا , فنحن كالمنبوذين , ان لم نقض لأشخاصنا ما نحتاج اليه قضى علينا دون أن نجد من يرثى لنا , وهممت أن أشارك فى العمل , فأبى القوم – شكر الله لهم – الا ان يكرموا الدين فى شخص رجل من اهله , فأجازونى من تلك المهمة , ثم بدات حملة التطهير بما فيها من جمع للفضلات والأوساخ , ومحاربة لكتائب القمل والبق والذباب التى اسكنها الاهمال المقصود او المعهود فى أوكار من زوايا الحجرة وأمتعتها ومحتوياتها , وخلال هذه المهمة تبين لنا كيف تجمع المصائب بين المصابين , فتربطهم برباط من التكافل والتعاون والاخاء .

وما كاد الفتية المعذبون فى الأرض ينتهون من مهمتهم حتى جلسوا فى حلقة تدانت رءوس أصحابها , وجعلوا يتشاكون , ويبث كل منهم أخاه همه , فهذا يشكوا من قذارة الحجرة ونتانة رائحتها البغيضة , و" عبير " المرحاض المكشوف , ومخابىء الحشرات والهوام , ويعجب كيف يرضى القوم بأن يكون هذا فى وطننا , ويصلى بلاءه قوم مواطنون , فيزدادون بلاء على بلاء , مهما كانت تهمتهم أو شبهتهم , وذاك يشكو ما يتعرض له هو وغيره من آلام البرد والزكام والنزلات الشعبية والروماتزم , ويعجب كيف يكون فى البلد وزارة الصحة , ثم ترضى بتلك المباءات التى تنفش فيها الجراثيم , وتنبعث فيها الأمراض والأوجاع بسبب الاهمال وسوء التدبير , وذلك ينتحى فى حديثه منحى ادبيا عاطفيا , فيتحدث عن الخواطر السود التى تمر بالعقول والأذهان فى مثل تلك الأحيان , فتترك فى نفس كل محروب او مكروب آثارا عميقة تؤذيه وتضنيه , وتضعف عوامل الخير والصلاح فيه , وتولد فى صدره نوعا من الكراهية لبعض مواطنيه .

واشتد بى ما أجد من هذا الحوار لما يطويه فى نواحيه من لواعج وشجون وشؤون , فاردت ان أشغل نفسى عما أسمع حتى لا أبخعها , ففزعت الى المصحف أرتع فى رياض القرآن , حتى اكتفيت واشتفيت , فتحولت الى كتاب انجليزى لا ادرى كيف وصل الى يدى هنا , فجعلت أطالع فيه قطعا للوقت من جهة , وطلبا للفائدة من جهة أخرى .

نحن هنا سواء

ان القوة الحاكمة التى حرمتك من حريتك , وحالت بينك وبين جولاتك فى الحياة وكسبك منها , يجب عليها ان تضمن لك مطالبك , وفى مقدمتها الغذاء المناسب لك .. أتدرى ما هو الغذاء الذى طالعنا ونحن فى مباءة الحجز ؟ .. صدقنى انه نصف رغيف صباحا ورغيف ظهرا ونصف رغيف مساء , ولا ادام أو غموس الا الملح يقدم اليك حينا , ويضن به " القوم الكرام " أحيانا .

وقد عافت نفوسنا هذا الطعام بطبيعة الحال , وأعرضنا عنه أملا فى الظفر بطعام خاص يحمل الينا من الخارج , ولكن الرثاء للمنكوبين الخاوين الذين لا يملكون الا قوت يوم بعد يوم , فليس لهم طعام خاص يأتى عن ادخار او اقتدار , أو من أعوان أو أنصار .

وفى الضحى استطاع شقيقى الأستاذ السعيد الشربينى الشرباصى , بابتسامة ثغره وسخاوة يده ان يدخل الى فراشا وطعاما وفاكهة , وجاءت الآخرين أطعمة أيضا , ووضع الجميع فى كومة واحدة , ودعى سائر من هناك للطعام بلا استثناء , وكان معنا فى الحجرة , أو فى البئر بمعنى ادق , شاب جديد على المكان , وهو ابن احد الذين اصطلحنا علة تسميتهم بالعظماء , وكانت النعمة المترفة تلوح عليه فى كل شىء , ولما نودى للطعام كانه تعفف او تأفف , فقلنا له : يا هذا , انك هنا مقيد أسير , قد تركت فى الخارج عظمتك ونعمتك , فيجب أن تكون مع زملائك هنا مثلهم أو أقلهم , فكلنا فى الهم سواء , ولا فضل لغنى على فقير فى ظلمات البغى والطغيان , فاستخزى الشاب واستحيا من نفسه وممن حوله , وجلس كما جلس سواه , بعد أن نسى او تناسى أهله ومائدته , والوان طعامه فى بيته .

ماذا يقال الآن عنا ؟

هذا هو اليوم الأول فى الاعتقال بعد ليلة عاتية باغية , وها قد دنا الأصيل , ونحن فى بلد تخصصت فى تلقف الأنباء ونشر الأخبار , واذن لابد أن خبر اعتقالى قد شاع وذاع هنا وهناك , على الرغم من عدم نشره , بحكم الرقابة المطلقة السلطان تحت ظلال الحكم العرفى الرهيب .. لابد أن اعتقالى قد وصل الآن الى حمى " مسجد المنيرة " , والى الجماعات الدينية والاجتماعية التى أحاضر فيها , والى الدوائر الأزهرية بوجه خاص , فماذا يقول الناس والزملاء عنا يا ترى ؟ .. أطاف بهم طائف من الهم والحزن لامتداد الاستبداد الى رجالهم وعلمائهم , فغضبوا واحتجوا وطالبوا بحفظ الكرامة ورد الاعتباروفك الاسار وتهذيب التيار , أن انهم اعتصموا بالسكينة الظنية ليسلموا او يغنموا , أم أن بعضهم شفوا صدورا أكلها الحقد , واقتسمتها عقارب الضغينة والبغضاء , فذهبوا يشمتون ويفرحون ؟ . أكبر الظن أن المتطوعين بالشر المستجيبين لخنا القول كثر . ولكنا لن نعدم بين الكثرة المتخاذلة قلة متعالية ... وهنا قفز الى ذهنى ذلك البيت .

كم شامت بى ان هلكت وقائل  : لله در ه

وماذا يكون موقف شيخ الأزهر وشيخ الإسلام وامام المسلمين يا ترى ؟ . لا ريب فى ان الشيخ الأكبر سينقلب رغم شيخوخته ليثا غضنفرا , وأنه سيغضب حينما يبلغ مسامعه أن عالما من علماء الأزهر " الشريف جدا " قد اعتقل بلا جريرة .. نعم أظن الآن شيخ الأزهر الأكبر سيغضب لى , وينهد للدفاع عنى , ويعمل لاطلاق سراحى , لأننى بلا تهمة أولا فأنا برىء , ولأننى مدرس فى الأزهر وهو شيخه وعميده , ولأن علماء الدين فى كل زمان ومكان لهم حرمتهم فى نظر الحاكمين والمحكومين , زخصوصا ما يجوز أن نسميهم – متساهلين – رجال الدين الرسميين , وفوق هذا فأنا من " البجلات " وهى بلدة مجاورة للزرقا بلدة الشيخ وبلدة صديقه الحاكم العسكرى ورئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي باشا , وللشيخ بالبجلات وأهليها صلات ود قديمة , ولأن ولأن ... ليت شعرى ... ماذا يقال عنا الآن ؟ ... ليتنا نعرف ما يقال هناك ؟ ... لقد أخرجنا من الدنيا ونحن من أهليها , فلنصطبر فان ما خفى عنا الآن ستكشفه لنا الأيام , وان غدا لناظره قريب .


الأحد 17 إبريل سنة 1949 م

زيارة نائب سعدى

ان حركة الباب الخارجى لأحجار " الحجز " المسماة زورا بالحجرات مصدر اثارة للجميع , فذبذبة الباب بين الانفتاح والانغلاق , مع صريره الحاد , مبعث قلق واضطراب وجيشان لكل جالس خلفه يطيل التفكير ويترقب القضاء , ويسبح فى تخيل الغد المجهول , ما انفتح هذا الباب مرة الا وسرى فى صدور البراء المعذبين شعاع من أمل بأن مسلكا الى الحرية قد تهيأ , أو باهرا من الضوء عصف بكثيف الظلمات , وما أطل الجندى السليط برأسه بيننا الا تعلقت البصار بشفتيه , كأنها تسابق الأسماع فى تلقف ما سيقول , وما انغلق هذا الباب الثقيل الكثيف الا وغامت على صدور الراجين الآملين سحابة أو سحائب من الخيبة والأسى , وما أظن ذلك عن ضعف فى هؤلاء , فان السمات كلها تدل على أنهم أقوياء , ولكن ذلك عن ايمان قوى بحق الفرد فى الحرية وكفران عميق بالاستبداد , واستبعاد وثيق لأن يدوم الباطل سائدا , بينما يركع الحق الأعزل أمامه فى ضعف وهوان .

فتح الباب عند الضحى , ونودى على اسمى " مع حفظ الألقاب طبعا " لأقابل " حضرة المأمور " .. يا ساتر يا رب .. ماذا هناك ؟ . ان هذا الصنف من الناس يشيع فى النفوس خوفا وخشية فى بلد ذليل مستضعف , مع أن واجب هذا الصنف الأول , هو أن يكون حصن الأمان , وسبب الاطمئنان , وملجأ الخائف , ولكن أين هو كائن مما يجب أم يكون ؟ وبينما أخذت الآراء من حولى تتضارب فى سبب الاستدعاء , صاحبت الجندى الى حجرة فسيحة مليئة بالمناضد والمقاعد , وهناك وجدت صديقى الفاضل محمد شاهين حمزة العضو السعدى فى مجلس النواب وقد جاء لزيارتى , بعد أن بلغه نبأاعتقالى من شقيقى الأستاذ سعيد , وحق للأستاذ شاهين أن يزورنى , ولو لم يفعل لفرط فى كثير , فأنا صديقه منذ سنوات , وأنا دائم المحاضرة فى الرابطة الإسلامية التى يرأسها , وأنا اكتب لمجلة الرابطة التى يحررها مقالات فى تفسير القرآن , وصيحات فى سبيل الاصلاح ,وهو يفهمنى ويعرف روحى , وقد كانت لى اليوم محاضرة بالرابطة الإسلامية موضوعها " ما يجب أن نعرفه عن التصوف " . ولكن كيف السبيل الى القائها ؟ .. وبدأ الأستاذ شاهين يواسينى , ويعجب مما حدث لى , ويتكلم عن الظروف الشاذة التى نجتازها , ورجانى أن أصبر وأصابر , وذكرنى بأنه هو نفسه قد لقى كثيرا من مثل هذا فى شبابه , ثم وعدنى بأن يبذل جهده فى الاتصال بولاة الأمور للتعجيل بالافراج عنى , واطلاق سراحى قبل ترحيلى الى المعتقل .

اليك منى تحية طيبة يا استاذ شاهين , فقد فعلت ما لم يفعله سواك , ممن كانت ظروفهم أقوى سماحا وتهيئة من ظروفك بأن يزورونى .

امامنا يقول " فى داهية "

وفى المساء بلغنى ما اساءنى , وزلزل كيان نفسى من الألم والأسف ... بلغنى أن كبيرا من كبراء الأزهر الشريف اتصل تليفونيا " بمولانا " الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر , وأبلغه نبأ اعتقالى , ورجا منه أن يعمل بسلطته ونفوذه وصلته القديمة والجديدة برئيس الوزراء لاخراجى ... قيل : فما كان من الشيخ الا أن رمى آلة التليفون من يده وقال محنقا " فى داهية " . وما أسرع ما سارت كلمة الشيخ مثلا تندر به لئام أغرار لك الحق يا سيدى الشيخ , فقد سرقت ويجب ان أقطع , وقد قتلت ويجب أن أقتل , وقد قطعت الطريق فكيف لا انفى ؟ . واذن فليكن ما تقول " فى داهية " بل فوق ما تقول " فى ألف داهية وداهية " أو يرضيك هذا يا مولاى ؟ . وتبدو الضغينة والبغضاء , وتظهر العورة الشوهاء , وما دام ذلك هو قرار امامنا الأعظم , فمن الضلال فى الراى اذن أن نتوقع موقف حزم أو عزم ممن خلفه من كبار الأزهريين او صغارهم .. بل يجب أن نتوقع من صغارهم شماتة وحقدا , فهذا أزهرى صغير يبلغنى أنه وقف أمس يخطب فى جماعة , فسئل عنى من السامعين فقال شامتا : " لقد اعتقلوه , وسيرحل الى الطور , ولن يعود أبدا , لأنه اما أن يقتلوه , واما أن يموت " فما كان من أكثر السامعين الا أن حملوا عليه خملة تأديب وتهذيب . يا أيها الأزهرى الصغير , انى أشفقت عليك فأطوى عن الناس اسمك , وحسبك ما أنت فيه من هوان , ولو جمعت مال قارون .. ولكن صبرا , فهأنذا أعلم الآن أن الأستاذ محمود السيد الخولى الواعظ بوزارة الصحة قد اسف كثيرا لاعتقالى , وأخذ يذرع القاهرة غاضبا ثائرا من أجلى , يحاول بما استطاع أن يحمل المسئولين على أن يؤدوا واجبهم .. شكرا لله لك يا محمود , فانك لمحمود . لقد كان الزهر مهيبا رائعا بمبادئه ورجاله وشبابه , موقرا عند العامة والخاصة , مسموع الصوت مصون الكرامة عند العظيم والصغير , يوم كان رجاله يتناصرون على كلمة الحق , ويتعاونون على البر والتقوى , ويتكافلون ويتعاطفون فى الأزمات والمحن , أما اليوم فسلوا غيرى عن الأزهر .


الاثنين 18 إبريل سنة ة1949 م

بيئة قذرة

ان كل طاهر الذيل نقى الصفحة يصرخ حين يلقى فى مثل هذا المكان قائلا : انى غريب ها هنا . اذ يبدو كأن عوامل الهدم والافساد قد تجمعت لتصنع من هذه الجحور مدارس شيطانية , تضاعف الاثم وتزيد فى المنكر , فالمعاملة الشاذة , والاستخفاف بالكرامة , والحرمان من الحقوق المكفولة لك بالطبيعة والقانون والعادة الانسانية , والظلمات المصطنعة فى الداخل والخارج , وزحمة الموجودين بوجوههم الكثيرة الغريبة وطبقاتهم المختلفة ومنازعهم المتباينة , وازدياد الوساخة القذرة مع اللحوم المتراصة والروائح المنتنة , والأطفال والغلمان المشردون الذين انفتحت عيونهم أول مرة على الجريمة والمجرمين , كل هذه العوامل السيئة تتضام وتتعاون تعاونا خبيثا على ايجاد أحط بقعة لتوليد الجريمة وتشويه الأفكار وتسميم العقول . ان كرام المعتقلين يسمعون ممن جاورهم من أرباب " السوابق " وأصحاب التخصص فى الاجرام أحط عبارات الفحش والبذاء , ويشاهدون منهم أحيانا الحركات والتصرفات , ويتعلمون عنهم ما لم يتعلموا من قبل , ويعرفون منهم – ورغما عنهم – اشياء لا يطاوع القلم فى تسطيرها رغم الاجبار .

يا ولاة الأمر فينا : ما هكذا تساس الرعية . ان شبهة الشطط فى الرأى أو المخالفة فى المبدأ أو الاقتراف فى منزع التفكير , لا يعالج كما تعالج الجريمة الواضحة والخطيئة البينة , فكيف جاز لكم أن تجمعوا بين طليعة قادة وصفوة سادة لم ترضوا عنهم , وبين المصارحين بالاجرام ؟ .

هنا محاضرة , فأين المحاضر ؟

وصلتنى بأعجوبة نسخة من صحيفة " الأهرام " الصادرة اليوم , وتحت عنوان : " محاضرات اليوم " طالعت هذه النشرة : " الساعة السابعة والنصف مساءا – فى ندوة مسجد المنيرة بشارع أمين باشا رقم 11 بالقاهرة – يلقى الأستاذ أحمد الشرباصي محاضرة موضوعها " كيف قرب القرآن الكريم لعقول الناس أمور الحياة الآخرة " انها لاحدى المفارقات ... لقد تلقت الأهرام اعلان المحاضرة منذ أيام , ونشرته اليوم دون أن تعلم أننى ها هنا سجين , وستصل الأهرام الى الآلاف العديدة من القراء , وسيطالع الكثيرون منهم هذا الاعلان , فيحسبون أن المحاضر طليق سيذهب الى القاء محاضرته فى موعده , ولكنه ها هنا سجين , بل سيحار من عرف نبأ اعتقالى من قبل , فيحسب أن قدرة ما قد أخرجتنى من معتقلى , فيفرح منهم من يفرح , ويموت كمدا من يموت , بل سيذهب رواد الندوة الى مسجد المنيرة آملين الاستماع الى المحاضرة , ولكنهم سيجدون الأنوار مطفأة , ومكبرات الصوت معطلة , والمكان بلا حيلة وحركته المعهودة , فما الذى سيقولنه ؟ وما هى الخواطر التى ستدور برءوسهم ؟ ... ليت ابن الزرقا يسمع ما يقولون .


الثلاثاء 19 إبريل سنة 1949م

حاميها حراميها

انتهز حراسنا يتتابعون واحدا بعد آخر فرصة جهلنا بأساليبهم ,ووسائل التعامل المكشوف معهم , وعجزنا عن الصبر على مضايقات الحجز , وترفعنا عن عيشة الهون , فأخذوا يستغلوننا أسوأ استغلال , فلا يقضون لنا أى شىء الا بثمن , وليس الثمن موحدا , بل يختلف باختلاف العمل , فتوصيل الطعام من الخارج الى الداخل له ثمن , وتوصيل الملابس من الداخل الى من ينتظرها فى الخارج له ثمن , ومحادثة الزائر من وراء الباب لها ثمن , ورؤيته من بعد بلا حائل لها ثمن , وهكذا ... وكنا نحتاج الى طعام وقهوة وشاى ومرطبات ولفائف لمن يدخن , وكان الجنود " يتطوعون " بقضاء هذه الأشياء , ولكن بأثمان مضاعفة تفوق أثمان السوق السوداء , وكان مهنم من يطاق فى استغلاله , ومنهم من لايطاق بحال من الأحوال , وأذكر أن شرها منهم تطاول فى شرهه بصورة مجنونة , فلما اردت نصيحته أسرها لى فى نفسه , فلما حضرت لى حقيبة الطعام اليومية من المنزل بالغ فى تفتيشها بشكل مقصود متعمد , وما كاد يرى فيها شفرة حلاقة طلبتها حتى أخذها ومنعها منى , لأنها " محظورة " ... نعم محظورة , فمن يدرى , لعلى قاتل أهاب حبل المشنقة , فأنا أريد الفرار منه عن طريق شرايينى بتلك الشفرة . لله فى خلقه شئون , وكم بين الآغبياء من " أذكياء " .

الأربعاء 20 إبريل سنة 1949 م

شاب ثائر

واضيف الى نزلاء " الحجز " شاب ثائر كدت أتعارك معه من أول وهلة , لولا أن سارع بعض الرفقاء فأفهمنى أن أعصابه مرهقة من طول ما لاقى ومن طول ما احتمل , وفوق هذا فهو معروف بصراحته المؤلمة وتعبيراته القاسية , وهجومه العنيف , ومع ما فى ذلك من ترضية لى فقد ظللت أجد فى نفسى شيئا , لأننى فوجئت بما لم اتوقع ... قدمنى اليه أحدهم قائلا عنى اننى أحد علماء الأزهر , فما كان منه الا أن تقلصت عضلات وجهه وقال : ألا قاتل الله علماء الأزهر ... انهم سبب البلاء الأكبر , بل ساروا ذيولا فى ركاب غيرهم , وجعلوا السنتهم أبواقا لكل قادر أو حاكم .. لقد قتل النقراشى , بيد شاب مندفع خاطىء , فأقام رجال الأزهر الدنيا وأقعدوها من أجل مقتل النقراشى , فأصدروا الفتاوى , ودبجوا المقالات , وأذاعوا المحاضرات , واتخذوا القرارات , وكأن الناس لم يعلموا أن القتل حرام , وأن الجريمة حرام , وأن القاتل سيعذب , الا يوم قتل النقراشى الذى أقدم على حل الإخوان المسلمين فى جراءة لم يسبق لها مثيل , فلما خوفوه من ذلك أجاب : سأفعل ولو كان الثمن حياتى ... ثم قتل الامام الخالد العظيم والبطل الشهيد حسن البنا , قتله المجرمون مقتدرون متربصون متعاونون مستغلون لكل سلطان , مع أنهم يعلمون أنه مجدد الإسلام وموقظ الأمة ونصير الملة , وأنه عاش مؤمنا مجاهدا , ومات بطلا شهيدا , وتوقع الناس كلهم أن يحرك العلماء وورثة الأنبياء ساكنا ليقولوا ان القتل حرام , أو ان الجريمة هى نفس الجريمة , أو أشنع وأفظع , ولكنهم استتروا وخنعوا , بل لعل منهم من يفرح لمقتل الشهيد , فقد كان بتلاميذه صفعة قوية على جبين الأزهر , تذكره بأن الإخوان بقيادة مرشدهم قد فعلوا ما لم يفعله الأزهر , فقاتل الله العلماء ... وثارت فى نفسى ثائرات المعارضة والرد , ولكن الشاب بكى من فرط تأثره فخشعت , وضاع منى كل كلام ..

وبعد قليل مسح الشاب بقايا دمعه وقال : ثم هذا القسم السياسى الذى خلقه الانجليز وعهد التجسس والدسائس الاستعمارية , ما سر بقائه فى البلد ؟ وما هى فائدته للوطن أو المواطنين ؟ .. ان أعماله تنهض على الظنة , وسلطته واسعة مطلقة , تتحدى من لايقبل التحدى أحيانا , وهو يتربص الدوائر بكل وطنى غيور , أو مصلح ناهض , أو داعية مخلص , أو حركة مباركة بريئة يراد بها احقاق الحق وابطال الباطل ونصرة الله والإسلام , وكثيرا ما يجمد هذا القسم هدوءا فى البلد , فلا يجد لنفسه عملا , فيبذل من فنه وحيلته وابتكاره وجهوده ما يجد به عملا يفهم به الكبار جدا أن هذا القسم لازم وضرورى ومهم , وكثيرا ما يقع فى دائرة اجتهاده أو اضطهاده أبرياء وأتقياء , فلا يزال التجسس والعنف والتضييق المنكر يفسد من نفس البرىء وينقص من تقوى الصلح ... فمتى يقدم ولاة الأمور على انقاذ البلاد الناهضة من هذه المصيدة التى خلفها لنا عهد الاحتلال والاستبداد ؟ وهم شخص أن يناقش او يعارض أو يؤيد – لست أدرى – فعاد الشاب مرة أخرى الى البكاء .. وبعد قليل عاد يقول : وهذا المخلوق المدعو إبراهيم عبد الهادي – هكذا تعبيره – قاتله الله , كيف يؤفك عن دينه وخلقه ووطنيته , فيفعل ما يفعل , ويرتكب ما ارتكب ؟ .. كيف جاز له ان يفسد فى البلد كل هذا الافساد , وكيف يتجبر كل هذا التجبر بين العباد ؟ أيظن المخدوع أن الحكم خلود , وأن السلطان بقاء , وأن الجبروت عظمة , وأن الاستبداد بالشرفاء والأبرياء مظهر جهاد ؟ .. أيعرض المخدوع عن كل نصيحة , ثم يستجيب للأهواء الباغية , والرغبات الجامحة , والأوهام الطائشة ؟ قاتله الله , ان ربك لبالمرصاد , وهو وحقه لا يرضى عن تلك الآثام , وما ربك بظلام .. هممت أن أذكر الشاب بأن صاحب الدولة والصولة " بلدياتى " ولو على سبيل المفاكهة , ولكن ترقرق الدمع فى عينيه حال بينى وبين ما أريد ... ترى ما بلغ الخطأ أو الصواب فى كلام ذلك الشاب .. ؟ دعنى فقد ذكرت لك ما قال , ولك بعد ذلك أن أن تفهم ما يقال .

طريقة للاتصال بالزائرين

الزائرون يقبلون نحو القسم زرافات ووحدانا , منهم الأهل والأقرباء والأصدقاء والطلاب والمعارف , وهم لا يستطيعون الحصول على اذن بالمقابلة او الحديث داخل القسم , فكيف السبيل ؟ .. فى حجرة الحجز نافذة عالية جدا , مغطاة بشبكة من الحديد الغليظ , واخرى من االأسلاك الرفيعة المتشابكة , فكان الزائر يأتى من الخارج , ويقف تحت النافذة وينادى علينا , فيصعد المنادى المطلوب فوق كتفى شخص آخر , ثم يتسلق جدار المرحاض المكشوف , ثم يتعلق بالنافذة , ويتكلم مع زائره فى خشية ومخافة وعجلة , وكثيرا ما علوت كتفى الطالب الأزهرى الموجود معنا لمثل هذا الغرض , وكان يداعبنى وهو يحملنى , فيطالبنى بأن أكرمه فى تقدير درجاته اذا جلس بين يدى فى الامتحان , وكان له فى ذلك تعبيرات جميلة ونوادر مستملحة أنسانيها تتابع الأحداث .


الخميس 21 إبريل سنة 1949 م

عرفان الجميل

لم يشكر الله من لم يشكر الناس اذا احسنوا صنعا , وليس كالمحنة فى اختبار الناس , هى التى تميز المخلص من المنافق , والوفى من المداهن , وهى التى تظهر احرار الرجال .. ففى الوقت الذى كان الأخ يتبرأ فيه من أخيه , والصديق من حميمه . وفة الوقت الذى تنكر لنا فيه الكثيرون , رأينا قلة من الأوفياء .. على رأس هؤلاء بالنسبة الى فضيلة الأستاذ الجليل محمود خليفة , واظنه هو الذى زار القسم من وراء ستار , وحمل الى عن طريق الجندى طيبات من كرمه , وبينها قصاصة كتب عليها " لا تجزع من أمر الله " وقد بذل فى سبيلى جهودا مشكورة . وفى مقدمتهم الرجل المؤمن الذى جمع بين نعمة الذين ونعمة الدنيا الدكتور عدلى اباظة , فقد بلغنى أنه سعى لى كثيرا وكتب كثيرا واتصل كثيرا , وحزن حزنا شديدا من أجل اعتقالى , ولكن ما باليد حيلة . والطالب الأزهرى الشيخ عبد المنعم ناجي قد اظهر لونا من الشجاعة الأدبية يغبط عليه , فهو يراسلنى ويهدى الى ويتردد على منزلى . والدكتور محمد والي خانالأفغانى , حاول لقاء رئيس الوزراء وهو ثائر , فحيل بينه وبين ذلك , فكتب اليه يلومه على اعتقالى . والأستاذ الكبير محمود نور المفتش بوزارة الداخلية يعدوعدا بأن يبذل جهده . والأستاذ محمد نجيب محمد وكيل دائرة أحمد شفيق باشا , يقف مواقف مشرفة , مما يدل على أنه أهل اخلاص ووفاء , وكثيرون غير هؤلاء ان نسيت شكرهم فالله لا ينسى .


الجمعة 22 إبريل سنة 1949 م

تاجر مخدرات

ان جحور " الحجز " تستقبل كل ليلة وكل يوم اشكالا من الناس , وألوانا من البشر , وأصنافا من الخلائق , ولكل منهم قصة فيها مأساة أو ملهاة . وقد " تشرف " الحجز اليوم برجل اصفر اللون نحيل الجسم غائر العينين صغيرهما , يلبس جلبابا من الصوف الفاخر ومعطفا طويلا فاخرا ايضا , وقد خيل الينا حينما شاركنا غرفتنا الضيقة الحقيرة أنه تاجر مخدرات , فعجبت كيف يحجز مثل هذا المأفوف الخطير مع صفوة من القوم , كل شبهتهم أن تفكيرهم لا يعجب سواهم , ولكنى علمت عقيب ذلك أن الرجل معطاء مسماح , واذن فليشاركنا حجرتنا وطعامنا , والا فالويل لنا من غضب الجندى الرهيب .. وجلس فى ناحية يتحدث مع بعض الموجودين عن تجارة المخدرات وأرباحها ومغانمها , وكيف أنه يتعاطاها فيخيل اليه أنه أحد السلاطين , ويتحدث عن زوجته الجميلة وأفانينه معها فى حجرة السرير , كل ذلك بأسلوب صريح قذر اشترك فى سماعه تلميذ ناشىء فى السنة الرابعة الابتدائية , فأعطنى عقلك , وشاركنى فى تصور النتائج العاطفية والخلقية لمثل ذلك الاختلاط ؟ وجعل الرجل يفاخر بأن امرأته سجنت عدة مرات من أجل المخدرات , وأنها تحب ذلك السجن لأنها تنتهزه فرصة لبيع المخدرات داخل السجن بوسائلها الشيطانية , وانها أقوى منه و " أجدع " , وأنها لو كانت فى الخارج الآن لاستطاعت بنفوذها أن تخرجه فورا ... وكنت أثناء ذلك اطالع فى كتاب , فتطلعت اليه أرجوه الكف عن مثل هذا الحديث , فهددنى بأنه سيعمد – اذا لم أنته عن نصائحى هذه – الى ايقاعى فى تهمة مفتعلة خطيرة فى جيبه سلاحا الآن , ومد الرجل يده فأخرج من ورقة جيبه شيئا ألقاه وهو يضحك نافئا سحاب لفافته فى زهو وكبرياء . أصدقك القول أننى فزعت من هول ما رأيت وما فهمت , وتذكرت أننى هنا لا أملك من الأمر شيئا , وأننى مسلوب الارادة مصادر الحرية , فاعتصمت بالصمت البليغ .. وكم ذا بمصر من المضحكات , ولكنه كما قال الأول ضحك كالبكى . وهذا جندى يتشاجر مع مخبر فى الطريق , فيسوقه المخبر البادى الى القسم , وبعد قليل يأتى أخو الجندى ليسأل عنه , ويشاء سوء حظه أن يقابل المخبر فى ساحة " القسم " , وما يكاد " حضرة المخبر العظيم " يعرف أنه أخو غريمه حتى يلحقه به ليفهمهما أنه اليوم بما أعطاه عهد الظلمات من سلطان على كل شىء قدير ... وهذا سكران يعربد طيلة الليلة الماضية , ويسب الدين والحكومة بألفاظ بذيئة , ويكتب على الحيطان عبارات قذرة خطيرة يعاقب عليها , ويشتم كل من يلقاه , ويستهزىء بكل مقدس وكل عظيم , ويعتدى على من يستضعفه , وأعين النواطر نائمة , ومن عجب أن ذلك السكير العربيد خرج الى دنياه عند الصباح , وودعنا نحن الحيارى الأبرياء بنظرات هازئة .

صلاة الجمعة

كان معنا فى الحجز الأستاذ جودة أحمد سليمان المدرس بوزارة المعارف وخريج كلية اللغة العربية , حرسها الله معقلا للغة القرآن وأدب العرب , وهو من الشباب الأبرار الذين تبدو دعابته , وتنطوى نفوسهم على غيرة اسلامية تتميز من الغيظ كلما رأت الإسلام يهان , أو رأت دعوته تعاق عن المسير . وكان معه زميل له فى التدريس سودانى هو الأستاذ محمد زكى الحاج , وكان شديد الضيق بالاعتقال , يصاب كثيرا بالاغماء والذهول , واحاول تسليته فلا يتسلى , وينام قلقا ثم ينهض فزعا ويقول : " رحت فى داهية يا أبو الزيك " , وأبو الزيك كنيته بين لداته , وكان كل ذنب هذا السودانى الراحل فى سبيل الوحدة , هو أنهم عثروا عنده على بضعة اعداد من " جريدة الإخوان " مطمورة , وقد استطاع الأستاذان جودة وابو الزيك ان يخرجا الى حياة الحرية بأعجوبة يوم الثلاثاء الماضى , ففرحنا لهما كثيرا , وأبى لهما الوفاء الا أن يذكرا من خلفوهم فى ضيق بنفحات ومكرمات ... قال لى أستاذى جودة قبل أن يخرج مداعبا : اذا أدركنا الجمعة ها هنا فهل تخطب لنا كما كنت تخطب فى المنيرة وتصلى بنا ؟ .. وأخذنا نغالب الغمرات بالضحكات , واليوم قد جاء موعد صلاة الجمعة فماذا نصنع ؟ . اتفقت الكلمة على صلاة الظهر لعدم استقامة اقامة الجمعة هنا , ودخلنا المرحاض نغتسل واحدا بعد آخر , وباب المرحاض العارى يبدى جانبا من جسم المغتسل ويخفى جانبا آخر , حتى لقد كنا نضع الملابس عل فجوة الباب لتقوم مقام مصراعيه , وتخلف عن الصلاة سائق عربة اسمه " كمال " فسئل عن السبب فقال : اننى لا أعرف الصلاة ولا أحفظ الفاتحة .

فقيل له : ولكنك معتقل باسم الإخوان والإخوان من أول سماتهم فقه الصلاة ؟ فقال : ما كنت فى الإخوان يوما من الأيام , ولكنه الكيد الرخيص والبغى الأثيم هو الذى أتى بى ها هنا . وبعد الصلاة زارنى الأستاذ السيد صه ابو النجا وكيل النيابة , وهو من بلدتى وصديقى , وقد عاب ما نحن فيه من أزمات , وتساءل متى تنتهى , وسألنى : ولماذا اعتقلوك ؟ . فأجبت : لست ادرى , لعلهم اعتقلونى لأننى أحارب [[الصهيونيه]] , وأبغض الشيوعية , وأمقت الارهاب والعصبية , واكفر بالعنف والتمرد , وأومن بالحكمة والموعظة الحسنة , واذا كانت حسناتى تعد لدى هؤلاء سيئات فقل لى : كيف اعتذر ؟


السبت 23 إبريل سنة 1949 م

الحرية لا تشترى

ترامى الينا أن الرشوة بدات تأخذ طرقها الواسعة الى المنازل والدواوين , وأخذت القصص والروايات تستفيض حول هذا , وتتحدث عن الراشين والمرتشين , ومقدار الرشوة ومدى تاثيرها ونفوذها , وكان محدثا حدثنى بأن أسلك هذه السبيل لأسترد حريتى بعد قليل من وصول المال – محرك الجماد – الى طالبه أو الطامعين فيه , ولكنى أنفت من ذلك الأسلوب الوضيع كل الأنفة , واعرضت عن كل دعاء اليه او هتاف , اذ كيف اشترى حريتى بمال , والله قد وهبنى اياها حقا شخصيا خالصا , لا ينزعه منى الا طاغية أو كفورا ؟ . وكم استنزلت اللعنات على أولئك الذين يقبلون المساومة على حرياتهم , والذين يقبلون المساومة على حريات غيرهم , وذكرت كلمة عمر لعمرو : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ . واذن فلأرفض ولأصبر مهما طال الطريق . والله ولى الصابرين .

فاجرة تنفرد بفتاة

وسمعنا فى الليل صراخ فتاة صغيرة يعلو من حين لحين فى الحجرة المجاورة لحجرتنا وهى المخصصة للنساء , وتساءل الموجودون عن سر الصراخ , فعلموا أن امرأة فاجرة فاسقة مجرمة انفردت داخل الحجرة المغلقة بفتاة صغيرة , فجعلت تعبث بها فى اجرام وفجور صارخ , وكانت الفتاة تتحدث عن اشياء تفعلها فيها المرأة فتخجل من سماعها , وكان الجندى يمر من حين لحين , فتشكة اليه الفتاة , فيسب المرأة ويطمئن الفتاة بعبارته الميتة , ثم يخلى بعد ذلك بين اللبؤة المتوحشة الفاسدة , وبين الفتاة الناشئة ... واحر كبدى ... أين من يغارون ؟

لسان يتقى وقلب مطمئن

كل قادم ينظر اليه من هنا نظرة الريبة والخوف , خشية أن يكون جاسوسا من آلاف الجواسيس , وكل أخ يجلس الى من لا يعرفه يتظاهر أمامه بأنه لا يعرف الإخوان , با يزيد على ذلك فيردد ما كان يردده اعداء الفكرة الإسلامية من عبارات نابية عن دعاتها وهداتها , ولا تزال الألسنة تتظاهر بالتنكر للمبدأ والدعوة ممثلة فى الجماعة , فاذا اطمأن الجمع على أنهم أبرياء من الدخلاء , فاضت بينهم احاديث تتدفق بشتى العواطف ومختلف المشاعر , ولعنة الله على زمن بلغ المرء فيه حدا يقارب الكفر بسبب الطغيان , مع أن قلبه مطمئن بالايمان . وسألنى سائل : أيكفر المرء اذا أظهر الاستخفاف بالدين مضطرا وقلبه عامر بالايمان ؟ . فقلت له : الجواب فى سورة النحل فى قوله تعالى " من كفر بالله من بعد ايمانه الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " .


الأحد 24 إبريل سنة 1949 م

يوم الرحيل

ان الأيام التى يقضيها المرء المعتقل فى بؤرة البوليس هى اشد الأيام عليه رغم قلتها , لأنها تكون دائما أياما قلقة مضطربة , يتحير فيها المرء بين الشك واليقين , وبين الرجاء والقنوط , ولأن مكان الحجز الضيق القذر المحشود بكل من هب ودب , يضاعف البلاء ويثير العناء , ولأن المرء يكون على بعد خطوات قلائل من دنيا الناس الحرة الطليقة , يسمع اصوات العجلات والسيارات والعربات والباعة والصغار , ويحس تمتعهم بالحرية وانغمارهم فى الحياة , وانطلاقهم نحو غايتهم كما يشاءون , وهو المحروم المأزوم , يقع هنا فى هذه البئر المظلمة يأسى ويتميز من الغيظ , ويحال بينه وبين ما يزيد من حقه وحياته , وليس بينه وبين ما يبتغى الا بضع خطوات , ولكن ما أبعدها من خطوات , ان دونها قيودا وسدودا وأهوالا , فكيف نسلك اليها السبيل ؟

فيا دارها بالخيف ان مزارها
قريب , ولكن دون ذلك اهوال

ومع قرب المرء فى هذه الحالة من الحياة والأحياء ودنيا الناس , يخيل اليه أنه بعيد بعيد , وأنه قد انتقل الى عالم آخر رهيب مجهول , وانقطعت صلاته بعالم بنى جنسه , فاذا ما شاءت الأقدار – وكثيرا ما تشاء – أن يزور المحروم من حريته شخص جديد الصلة بالناس فى عالمهم , فرح السجين المسكين وهتف مقبلا مستبشرا :

لقد جاء هذا من الدنيا .

أستيقظ من النوم وأنا أحس ببوادر دوار ومقدمات صداع , ومن يدرى , لعل هذا من أثر القلق الذى منيت به فى ليلتى الماضية , فقد سامرتنى شر مسامرة أحلام مزعجة . وأفكار مؤلمة تتصل بما أنا فيه . هذا أخى سعيد يعدنى ويؤكد فى وعده كلما زارنى بأننى سأخرج اليوم او غدا , لأنهم وعدوه بذلك , وأكدوا فى وعودهم , بل وأقسموا عليها , ومع ذلك فأنا لا أزال رهين القيود .. ولقد سألت مأمور القسم بالأمس أن يسمح لى بأن أحلق شعرى فأبى , وأنبأنى بأنه لم يبق لى هنا الا ساعات , ترى ابعد هذه الساعات أتجه الى بيتى أم الى رهبة المعتقل ؟ ... لست أدرى . واشتد بى ما أجد , فبدأ الصداع وظهر الزكام , واستلقيت على ظهرى أغالب ما أنا فيه , وتجمع حولى من معنا , وجعلوا يطبون لى بما استطاعوا , وماذا يستطيعون وكلنا فى العجز وعدم الحيلة سواء ؟ . وفجأة قلت لنفسى : وماذا لقيت أنت أيها الهادىء البال بجوار ما رآه سواك من عنت وعسف , ونكال وتعذيب , وهوان فى النفس والمال والأهل والولد ؟ . ألا انه لا يليق بك ابدا هذا الاستسلام .

واستويت قائما كاننى قد خلقت من جديد , وكأننى لم أشك الما ولا حزنا , ودعوت بالطعام , فتجمعنا حوله , وجعلنا نزدرده فى صحة وانتهاب , وحوالى الساعة الثامنة والنصف صباحا انفتح الباب , ودخل جندى عملاق , ونادانى آمرا أن أرتدى ملابسى , وبينما همت فرحة بعضهم ان تبدو , لحسبانهم أنه الافراج , سأل سائل : ولم ؟ فأجاب الجندى " لترحيله الى المعتقل " .

وكلمة ترحيل هذه اصطلاح مألوف فى مجالات الحبس والسجن , وما كان يليق أن تقال عن مثل أولئك المعتقلين الشرفاء , ولكن موجة التشفى الرخيص , والبغى اللئيم , والفجور السافر , والاستبداد الكافر , أبت الا أن تبتدع لها تعابير فيها من الدناءة والوقاحة ما فيها , فالمعتقلون " ارهابيون مجرمون " وجماعة الإخوان المسلمين : " عصابة منحلة " واخوة الايمان " اخوان الشياطين " , والإمام الشهيد حسن البنا " حسنكوف " , وغير هذا من عبارات وقحة لئيمة , ستصم قائليها على مر الأيام بالخزى والهوان , يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون , ان حسابهم الا على ربى لو يشعرون , وما كان الله ليضيع ايمانكم ان الله بالناس لرءوف رحيم .

وأخذت ارتدى ملابسى التى كساها الغبار فى هدوء ورضا , وكأنما اراد الجندى أن " يتظرف " معى فقال " احمد ربك يا أستاذ , فأنت ذاهب الى ها كستب لا الى الطور وبعض الشر أهون من بعض كما يقولون " فابتسمت اليه وقلت : وربك يخلق ما يشاء ويختار , ولعنة الله على زمن تتفاوت فيه السيئات تلحق بالأبرياء الطهار , فيتلقون التهنئة اذا خف عليهم فيها ضغط الارهاق .

الى المعتقل

خرجت بجوار الجندى , وما كدت أتخطى باب" الحجز " حتى خيل الى اننى غريب فى الوجود او دخيل عليه ... الحياة والحرية والحركة والسعة والنشاط , كل هذا أمامى وأنا منه محروم . لقد قضيت داخل الحجرة اسبوعا ولكنه كالدهر الطويل . بهر عينى ضوء النهار , وملأ أنفى هواء الصباح , وغمرنى النور , وكلنى بقيت كأنى ممنوع بهذا بسلطان أى سلطان , وكأنه لا حق لى فى أن أخاطب من حولى , أو أشم الهواء النقى , أو أن أتطلع الى الضوء البهى , أو أتمتع بدفء الحياة القوى . وما كدت أصل الى باب القسم الخارجى حتى لمحت فى الميدان أمامه بعض اخوتى يمرون .. لهم الله , انهم من أجلى يشقون ويكدون , فأى متاعب سقتها اليهم على غير انتظار ؟ .. ورجوت الجندى أن يتمهل حتى يمروا فلا يرونى وأنا أركب السيارة فى طريقها الى " ها كستب " . وأطاع الرجل , ومر الاخوة فمرقنا كالسهم الى العربة التى توسطت الميدان , وما كدت أعلو ظهرها حتى رآنى شاب أزهرى , فدنا منى فى حذر وحيانى مشجعا , وترقرق الدمع فى عينيه فعتبت عليه وامرته بالانصراف , وبينما يدير السائق عجلة القيادة اقترب من العربة عبد الحميد افندى الشربينى جمعه التاجر بالبجلات , فرآنى وهى تبدأ المسير , وهذا ما كنت أحذره , وتصلب جسم أخى وبهت لرؤيتى , وهو الذى كان يتوقع الافراج عنى بين لحظة وأختها , ورفعت يدى فى حزم وصلابة احييه وأضحك له , وظل كما هو جامدا مبهوتا يتطلع الى حتى توارت السيارة عن أنظاره . صبرا يا اخى فلولا لذعة الفراق ما كان للقاء لذة , ولولا حرقة البعاد ما كان للاجتماع فرحة , ولولا مرارة البغى ما كان للعدل جمال وروعة , ولولا لحظات فيها أزمات تعقبها بعد قليل او طويل مسرات , لسمج طعم الحياة , وكم من زلازل تمر بالمرء فتشقيه او تضنيه , ثم تمر سريعة او بطيئة , وتصبح فى ذمة التاريخ ذكريات تعاود الخاطر من حين لحين , فلا يجد لها ما كان يجد من شدة , بل يحس كأنما كانت شيئا لازما ضروريا ليظهر طعم الحياة .

وانطلقت السيارة تنهب بنا الرض نهبا , السائق والضابط فى المقدمة , وأنا مع الجندى فى المؤخرة , وكنا نمر على الناس فى المنازل والشوارع والمقاهى والمحلات , فيرفعون وجوههم نحونا فيعرفون القصة فيخفضون الجباه , وينصرفون الى شؤونهم فى الحياة . ايه أيها القطيع السائم . حتى متى تظل هكذا كعبد السوء يضرب ويسام الهوان , وحتى متى تظل هكذا , البقرة الحلوب لكل طالب , والمركب الذلول لكل راغب ؟ .. حتى متى أيها القطيع ؟

ولا يقيم على ضيم يراد به
الا الأذلان : عير الحى والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشج فلا يرثى له أحد

منزل الأبرار

وخرجت السيارة من العباسية , وبدأت فى مصر الجديدة , ثم استوت على طريق الصحراء نحو " هاكستب " , وهاكستب – قبل أن أنسى – بقعة من الصحراء المصرية الغالية , تقع على بعد خمسة عشر كيلو متر من مدينة القاهرة , بين القاهرة والسويس , وفى الحرب العالمية الثانية اتخذت امريكا من هذه البقعة معسكرا لجيوشها , يأكلون من خيرات مصر , ويتمتعون بهوائها ومائها وشمسها وخيراتها , وكل طيب فيها وكل مستحب منها , وكل ذلك فى سبيل اقرار السلام المزعوم فى الأرض , وبدعوى الدفاع عن الحريات المسكينة التى لم تصب من أعدائها الرحاء بمثل ما أصيب به من أدعيائها الخبثاء من جراح وطعنات .. ورأت أمريكا أن تصبغ هذه البقعة بصبغتها الأجنبية فى كل شىء , فأطلقت عليها ذلك اللفظ الأمريكى , وهو اسم ضابط منهم كما يقال .

وكانت بقعة " هاكستب " هذه خلال الحرب جنة فى الأرض , تفيض بمظاهر الخير ومنابع النعيم , ولكن ما كاد الجيش الأمريكى يتركها بعد الحرب حتى امتدت اليها أيدى الهدم والتخريب , فلم تبق فيها شيئا الا أطلالا لعنابر , ومعسكرات مبنية بالطوب المشوى الأغبر اللون , وفى هذه الطلال المزعجة الخربة الخالية من ضرورات الحياة واقل لوازم العيش , أبى ابراهيم باشا عبد الهادى الا أن يحشد الآلاف من أبناء الوطن وخيرة رجاله , دون غذاء واف , أو غطاء كاف , أو حجرات صالحة , أو أبواب قائمة , أو نوافذ محكمة . واذا كان الأمريكيون قد أرادوا عبثا أن يجعلوا هذه البقعة جزءا من مستعمراتهم , واذا كان إبراهيم عبد الهادي قد اراد أن يجعلها مقبرة للأبرياء المعذبين فى الأرض , فقد ضل سعيهم وخاب وهمهم وظنهم , اذ ما كانت الا معبدا يتطهر فيه الانسان , ويميز الله به الخبيث من الطيب , وأنا أقترح على كل معتقل رأى البقعة وعاش فيها , بل أقترح على كل مصرى , أن يسمى هذه البقعة من الآن الى الأبد باسم " منزل الأبرار " .

" كرامة الشيخ "

وانفصلت العربة عن مغانى مصر الجديدة وقصورها التى تنهض شاهدا على سوء الاستغلال واحتكار الأجنبى , واستفاضة الترف وجريان النعيم بحارا وأنهارا , وأخذ الجندى الجهول يهمس بأغنيات رخيصة مبتذلة . ولما سألته عن مسافة الطريق أجاب فى تأكيد وجزم بأنها تستغرق ساعات , مع أنها كما علمت لا تزيد عن خمسة عشر كيلا , وبعد بضع دقائق من مغادرتنا لحمى مصر الجديدة , واستوائنا على الطريق الصحراوى , فاجأنا دوى , وقرع أسماعنا صوت انفجار , وجنحت السيارة الى جانب الطريق , وتوقفت عن المسير ... لقد انفجرت احدى العجلات , ونزل الضابط من مكانه المريح ويصخب , ورفع راسه نحوى فرآنى هادئا مبتسما , فتكلف الابتسام والدعابة قائلا : " لابد أنك دعوت علينا يا أستاذ , وتلك احدى كراماتك " . فأجبته : " الحق أنى ما دعوت عليك , بل دعوت لك , وما هى الا دقائق ونصل , وبعدها تفرغ منا " , فعجب الرجل وقال : وهل أنت عجل ومشوق الى المعتقل بهذا القدر ؟ . فقلت : كلا لست مشوقا وان كنت به راضيا , ولكنى اريدك أن تستريح , أو تعود الى واجبك ... فهدأت نفس الضابط , وأخذ يلعن الأيام السود , والظروف الشاذة , والأحوال المضحكة المبكية فى البلاد , وبعد قليل تهيأت السيارة للانطلاق , ورغم ما سبق من حديث , عاد الضابط يقول : " أرجوك ألا تدعو علينا مرة أخرى , فما كل مرة تسلم الجرة , ولى أولاد صغار "

سوء استقبال

وأخيرا وصلنا الى ادارة المعتقل , وهى بناء يحيط به ثلاثة ابنية متهدمة متماثلة , وكا منها يسمى " ملحقا " , وبعد أن فتش الضابط متاعى التافه تفتيشا دقيقا , وأخذ منه قصاصة صحيفة قديمة فيها موضوع عن " المرأة فى اليابان " , أحالنى مع جنى حارس الى الملحق الثالث , وفيه كبار الإخوان وأعضاء مكتب الارشاد , وغيرهم من الرءوس التى كانت تلمع وتسطع أشد السطوع بالأمس القريب فى جماعة الإخوان المسلمين الكبرى , وانفتحت البوابة السلكية الشائكة المحروسة بالجنود الأشداء وبأيديهم السلاح , فدخلت وعاد الجندى , وأغلق الباب .. هنا عالم جديد يا صاحبى , دخلت اليه , ولكنك لا تدرى متى تخرج منه , فألق أمرك لله , وأنب اليه تكن من المفلحين . وهرعت الى من رايتهم يتطلعون الى من الصدقاء والمعارف , هرعت اليهم أحييهم واثبت قلبى برؤيتهم , فأحسست فى ردهم ولقائهم فتورا لم استطع تفسيره , وذهبت نفسى مذاهب , وجالت فى مسالك ومشاعب , دون أن تحل اللغز العسير ,فصبرت على مضض , وانطويت على حسك , وبعد ساعات دعونى الى غذاء اشترك فيه بعض الكبار , وكان الطعام شهيا رغم قلة منزلته , فقد فتح الهواء والضوء وجو الصحراء شهيتى , ولكن أحدهم تكلم فقال : انه من المظنون هنا يا فلان ان مسجد المنيرة كان مصيدة للاخوان , ويقال انك كنت تخطب خطبك القوية " الحامية " , لينجذب الإخوان الى المسجد عن حسن ظن , فيقعوا فى مخالب الجواسيس والمخبرين , فيساقوا الى ما نحن فيه , فما وجه الحقيقة فى ذلك ؟ ... وانعقد لسانى عن الكلام , وتوانت يدى عن الطعام , ولكنى غالبت نفسى , وقلت : الغيب يعلمه الله يا فلان , ولسنا اليوم بشأن الحساب , ولكننا بشأن احتمال المحنة والاصطبار للأبتلاء والعذاب ...

وتكلم أخ كبير مشهور حينما رأى ارتباكى وبلبلتى فنهر المتحدث , وأخذ يطيل عنى وعن اعمالى المديح والثناء , ولكن أين أنا حتى اسمع ما يقال ؟ . لقد كنت هناك بعيدا أهيم فى أودية وأرجاء . وفى المساء اتخذت لنفسى سريرا فى حجرة خالية وسيعة من عنابر المعسكر , وسمع بذلك فريق من طلبة الأزهر المعتقلين , فنقلوا أسرتهم حول سريرى , وأبوا الا مشاركة أحد أساتذتهم ومدرسيهم فى السكنى والطعام , وهؤلاء منهم المشايخ النجباء والطلبة الأدباء محمد أحمد العزب و محمد حلمي عبد الغفار و محمد المالكي وجبر عبده خريبة و عبد السلام العيسوي , وعندما تهيأنا للنوم مال على أذنى أحدهم وهمس قائلا : يسوءنى يا سيدى الشيخ أن أنبئك أن البعض يقولون عنك : لم جاء هذا الينا وقد كان بالأمس ينقدنا ويعارضنا ؟ , فقلت له : لا تأس كثيرا , فعملنا – ان كان لنا عمل – لا نعمله من أجل مجموعة سيموت أفرادها يوما ما , ولا من أجل عرض زائل يقبل ويرحل , ولا من أجل شهرة تتعب وتضنى , ولكننا عملناه من أجل الإسلام الباقى , بل لوجه الله الحى الذى لا يموت . وصدق الأول :

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأنباء من لم تزود

اذن فهذا هو السر فى أن ذلك الأخ الكبير جدا قد تجنب طريقى – وقد كان سائرا فيه مقابلا لى – حتى لا يضطر الى مصافحتى أو معانقتى كما يفعل سائر المعتقلين . واذن فهذا هو السر فيما قيل عند الغذاء , واذن فهذا هو السر فى الفتور العام , وفى سوء الاستقبال . ايه أيتها الأيام العجاف والأحداث السراع . لقد فقدنا الصديق فى الخارج بين الذئاب , افنفقده هنا أيضا بين خيار الصحاب ؟ .


الاثنين 25 إبريل سنة 1949 م

أفواج لزيارة الصهيونيين

صحوت عند الفجر للصلاة مع الزملاء , وأنا أحس بتعب شديد وهمود عجيب , ولعل ذلك من أثر الأرق المستمر فى ليالى القسم السوداء , وقضيت النصف الأول من النهار مستلقيا , وفى الأصيل حرضنى بعض الطلاب على أن أشارك فى وجوه النشاط الرياضى التى اعرفها , فتمنعت أولا , وعللت تمنعى بأن ذلك لا يليق بوقار العلماء , وكنت فى ذلك أحاورهم مستبينا رأيهم , فأفاضوا القول فى أن العصر هو عصر الديموقراطية , والتخفف من أثقال التزمت والتوقر الزائد , فسررت منهم واستجبت لهم , فاشتركت لحظات فى مباراة كرة المنضدة , وقد سروا لأننى لعبت كما يلعب المحترف , ولأننى انتصرت . ومن الأحداث التى وقعت اليوم وليس من السهل نسيانها , أننى رأيت مئات من الرجال والنساء والولدان يمرون على بعد أمتار من أسوار المعسكر الشائكة , متجهين الى الملحق الثانى الذى يبعد عنا بنحو خمسين مترا , وهو مخصص للمعتقلين من الصهيونيين واليهود , فسألت عن هذه المئات , فقيل لى انهم زوار اليهود وأصدقاؤهم واهلوهم , جاءوا ليسعدوا برؤيتهم وزيارتهم وامدادهم بالطيبات , فسألت : وهل لنا مثل هذه الزيارات نحن المصريين أهل الديار ؟ فضحك الصديق ضحكة ساخرة , وقال : ستريك الأيام هنا كل عجيب . وطالت زيارة اليهود لأهليهم الصهيونيين , وكنا نلاحظ فرحهم ومرحهم , ونسمع ضحكاتهم وصيحاتهم , وتقرع أسماعنا أغنياتهم التى يرددونها بلغتهم عند اللقاء وعند الوداع . كنا نرى هذا ونشاهده ونحس به فنأسى ونألم , وتتفتت أكبادنا حسرة على بلاد ضل ولاتها , فجعلوها جنة للأعداء وجحيما للأبناء .

عزوف وذهول

النفس عازفة عن القراءة وعن الكلام , وعن الحديث حتى فى الدين ... دعيت للتدريس فرفضت , ودعيت للخطبة فاعتذرت , ودعيت لقراءة " احياء علوم الدين " للغزالى فتخلصت ... أريد أن أصمت وأن أستريح لأفكر , فلقد تكلمت فى الخارج كثيرا , ومثل هذه الخلوة أحسن فرصة للأستجمام والادكار , وخاصة أن البحث عن الجادة المستقيمة وأين تكون , قد أذهلنى حتى فى الصلاة أحيانا ... أين الطريق الى الله , وكيف الوصول ؟ ومتى يلوح نور الايمان الكامل ؟ وكيف يتم الاعراض عن متاع الحياة والاقبال على ما عند الله ؟ وكيف نتخلص من تركة الماضى الثقيلة لنفرغ لواجب المستقبل الثقيل ؟... تلك هى المشكلة .


الثلاثاء 26 إبريل سنة 1949 م

مزعجات الليالى

لو أنك فى رهبة الاعتقال , وقسوة الحرمان من الحرية , ولذعى الابتعاد عن مألوف الحياة , تلاقى شيئا من الدعة والاطمئنان , ويتوفر لك الضرورى من وسائل العيش واسباب الراحة , لهان عليك الخطب , واحتملت المصاب , ولكن ماذا يكون شأنك لوكان الزمان والمكان والسكان ضدك ؟ . الزمان هنا زمان سوء بظلامه ولظاه , والمكان منعزل ناء بعيد , عماده الرمال والصخور وجو الصحراء , والسكان والجيران من حولك ممثلون فى الجند والحرس , قوم يرون المبالغة فى الاساءة اليك بابا لترضية الرؤساء واتقاء الشبهات وبلوغ المقاصد , وقد تضيق بما ترى وتلاقى , وقد لا تصبر على اساءته اليك , وقد تفكر فى الشكوى منه , وقد تردد هذه الشكوى عالية وخافضة , طويلة وقصيرة , راجية ومنذرة , ولا مجيب :

لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادى

وكيف يستجاب لك وخصمك هو الحكم المسلط عليك , المستبد بك , القاهر لك ؟ وكيف تتوقع استماعا لشكواك والأذن التى تخاطبها هى نفسها التى يلذ لها ان تسمع سياط الاهانة والتعذيب وهى تمزق جلدك ؟ وكيف تريد هنا حياة صالحة أو هادئة , وما أرادوا لك الا ان تذوق ما لم تذق من قبل من صنوف العنت والارهاق ؟ وكيف تفكر فى قسطاس او احتكام أو انصاف , والسلطان ليس للمشرع أو الراعى الحكيم , ولكنه للهوى الجامح والاستبداد الفاضح بين العباد ؟ . خل عنك ما قرأت وما سمعت عن حرية و اخاء ومساواة , وذق ما يساق اليك , فسواء اصبرت ام كنت من الضائقين . وهنا اصناف من المزعجات لا أسوقها تباعا , وانما أوزعها منثورة هنا وهناك حتى لا أضيق أو يضيق غيرى بثقلها ... "العنبر" الذى ننام فيه ليس به مصباح , ومعنى ذلك أننا سنبقى داخله فى ظلام , حتى ولو أردنا السمر أو المطالعة أو الطعام , وكيف نبقى فى ظلام والمكان موحش , والهوام تزحف الينا من جوف الصحراء , والحاجة الى الضوء لا تنعدم ؟ اذن فلنفكر فى شراء مصباح من قروشنا القليلة التى طويناها . ولكن من الذى يشترى لنا ذلك المصباح ويركبه ؟ فلنبحث ذلك غدا . وبعض الإخوان يضيقون بالليل وأرقه , فيقضون أكثره فى لعب كرة المنضدة " البنج بونج " فى الصالة المضاءة بمصباح اشتروه من قبل , وقرعات الكرة المتتابعة فوق المنضدة تقلق المرء من عز نومه , فكيف السبيل الى الهدوء ؟ أو كيف السبيل الى اقلاع هؤلاء الأرقين الضائقين عن اللعب أثناء الليل ؟ وهذه الأصوات المزعجة المنكرة العالية التى يرسلها الحراس حول اسلاك المعتقل فى جوف الليل كل ربع ساعة : " واحدة تمام , اثنين تمام ... الخ " وكل جندى منهم يحاول بمنتهى جهده وغاية قوته ان يكون صوته المنكر اعلى من صوت سابقه المنكر أيضا , حتى لا يتهمه رئيسه بأنه نائم أو غافل . وكيف يغفل وهو فى حراسة " ارهابيين خطرين " ليس فيهم متعلم أو مثقف أو صاحب درجة علمية أو ذو خلق أو متمسك بدين ؟ . حقا ان الليالى من الزمان حبالى . وهذه المعسكرات التى تضم المئات من المعتقلين المحرومين من حقوقهم وحريتهم , الا تستحق ولو فراشا واحدا لينظفها ويجمع قمامتها ؟ . لا يا سيدى لا , بل على كل معتقل أن يفعل كل شىء , ولولا أن طلبتى تكفلوا بمئونة الطعام وشئون المنام لضقت ذرعا بتلك الأمور ... ليس لنا اذن الا الصلاة ملجأ الضائق ومفزع السيف , فلنطلها ولنخشع فيها , ولنردد خلالها الدعوات .


الأربعاء 27 إبريل سنة 1949

غمرة روحية

مضى هذا اليوم فى غمرة روحية , تخللها حساب النفس , ومراجعة لصفحات الماضى , ومناجاة للرب , واستغراق فى الصلاة ... وقد انتحيت من المعتقل ركنا نائيا قريبا من الأسلاك , وأسندت ظهرى الى الحائط , وجلست معتكفا فى شبه عزلة تامة قوامها الصمت والتفكير ...

الخميس 28 إبريل سنة 1949 م

غذاء للطيور

ليت الذين أساءوا الظن بهؤلاء الأطهار جاءوا الى هنا لينظروا كيف يعملون .. ان المعتقل يضم طائفة خيرة من شباب الوادى الذين انطوت صدورهم وحناياهم على قلوب نقية ونفوس زكية , وقد أعجبنى من بعضهم موقف فيه شاعرية وجمال احساس , لقد تعود الإخوان : كمال حتة , ومحمد المالكي , وعبد الفتاح صقر , ومحمد حلمي عبد الغفار , وغيرهم من الشبيبة أن يجمعوا البقايا والفضلات من اللحم والعظم بعد الطعام , ويخرجوا بها الى ساحة المعتقل , فتحوم فوقهم الطيور فى الجو , فيتسابق الشباب فى قذف العظام والفضلات الى أعلى , فتلطقتها الطيور بمناقيرها فى سرعة عجيبة وتعود متقن , وتعلو فى كبد السماء فرحة بما نالت من الطعام , وهكذا لم ينس هؤلاء فى محنتهم هذه الطيور , بل مدوا اليها ايديهم تفيض بالرحمة والحنان , وكأنهم يقولون : لئن ضن علينا بنو الانسان بحقنا , اننا لجد أسخياء بما لدينا , حتى للحيوان ... انه لموقف عارض , قد لا يستلفت أبصارا كثيرة , ولكنه عند التأمل والتفكير عظيم المدلول عميق التأثير ...

الانتظار علاج المريض

كثيرا ما يعنف الأطباء مرضاهم لتأخرهم فى علاج أمراضهم , واهمالهم لمداواة عللهم فى أول أمرها قبل أن تستفحل , وكم من أمراض خطيرة أصابت أشخاصا فسارعوا بعلاجها والقضاء عليها وهى فى مهدها , فنجوا من خطرها وضررها , وكم من أناس أصابتهم عوارض خفيفة , أو بوادر أمراض طفيفة , فاستخفوا بها واستهانوا بأمرها , وتركوها تتضاعف وتتزايد , وتتعقد وتتأصل , حتى تصبح من الخطورة بمكان , وربما قضت على أصحابها وهم غافلون ... ويظهر أن المعتقلين يراد لهم أن يأخذوا بالأسلوب الثانى , وأن يسكتوا على أمراضهم حتى تقضى عليهم , وبذلك تقر عيون أثيمة يهمها أن تنفتح فلا ترى فى شعاب الوادى الكريم من يذكر بدعوة السماء , أو كريم الخلق , أو قويم الوطنية ... من الطبيعى البدهى أنك يا هذا وقد اعتقلت هؤلاء , ومنعتهم من التمتع بحريتهم وحقوقهم وكسبهم , وجهادهم مع الحياة يجب عليك أن تصون صحتهم , وأن تبعد الأمراض عنهم وأن توفر لهم الدواء والعلاج مع الحياة يجب عليك أن تصون صحتهم , وأن تبعد الأمراض عنهم وأن توفر لهم الدواء والعلاج والأطباء والكشف الدقيق المنظم المتتابع , لأنك فوق استبدادك بهم مسئول عن سلامتهم مطالب بحياتهم اذا تعرضت لأخطار ... ولكن لمن تقول القول وأنت بين قوم يتحاكمون الى شرعة الغاب , وليس للحق بينهم قسطاس ؟ هذا مريض باحتقان فى الرئة اليسرى , يأتيه من يكشف عليه وهو يصرخ من العلة ويصارح بالداء فى الم مبين , ثم يقول الكاشف للمريض المسكين : اصبر وستشفى بعد أيام ... ويصف له دواء يطالبه باحضاره على حسابه , فيظهر المريض عجزه فيجيبه الطبيب : ان وجدت هذا الدواء عندنا فى الصيدلية فسوف أرسل لك جانبا منه ثم يتركه ويمضى بلا نتيجة ... لمثل هذا المريض لطف الرحمن , ولمثل ذلك المفرط انتقام الجبار .

روح الاجتماع

لاحظت من تصرفات بعض الرفقاء أن روح الاجتماع غير روح الانفراد , ففى الانفراد قد يتحلل المرء , أو يفرط , أو يكسل عن بعض الفروض كالصلاة مثلا , وفى الفجر بوجه خاص , وعند البرودة الشديدة بوجه أخص , ولكن الاجتماع له تواصيه , وتعاونه على الخير الذى يدفع الفرد الى ما قد يتخلف عنه من الواجبات لو كان وحده . وقد يخل المرء فى أول الأمر من التفريط أمام الجماعة حتى لا يسقط من نظرها , وبكثرة التعود على العمل , واستشعار ما فيه من لذة روحية أو قلبية , يرسخ الايمان .

لعل هذا هو السر فى قوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " وقوله : " وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " وقوله " ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " ولعل هذا هو السر فى قول الرسول " يد الله مع الجماعة " فالى الجماعة أيها الناس , فلن تجتمع الأمة المؤمنة على ضلالة أبدا .

فرصة للعلاج

أحسست أن عينى مريضتان , وحق لهما أن تمرضا , فقد طال بهما الانهاك عدة سنوات من القراءة والكتابة فى اتصال , وبلا راحة فى الصيف والشتاء , حتى لقد كنت أصطلى بزمهرير القاهرة شتاء , ثم أكتوى بنارها صيفا , ولا أغادرها الا نادرا , ولأيام معدودة , وتحت الحاح ضرورة داعية , وهذا العمل الدائب المتواصل لابد أن يكون على حساب الصحة والبدن , وهما هماتان عيناى قد انقطعتا عن العمل مرغمتين فى هذه العزلة لقلة الكتب والورق , فبدا فيهما الألم والمرض , ونحن هنا فى خلوة من الأعمال , وخفة من الشواغل , واذن فيجب أن أنتهزها فرصة للعلاج والتداوى , وقد احتلت حتى اجتلبت دواء لعينى من الخارج بباهظ الثمن , وبدأ أحد الزملاء الأماثل وهو الأخ الكريم محمد فريد مصطفى من كلية الهندسة يتولى علاجى متفضلا مشكورا بقدر ما يستطيع , وقد كنت أحسب أن اللحظات التى سأطبق فيها عينى , نزولا على حكم العلاج , ستكون ثقيلة أو مملولة , ولكن الأمر كان بالعكس , فقد كانت هذه اللحظات فرصا نوادر للسبح الروحى , و" الشطح " الفكرى , واجترار الذكريات , ومسامرة المشاعر والأحاسيس , وهكذا يمكن للأنسان اذا أحسن الاستثمار والتأتى لمداخل الأشياء , أن يجد فائدة فى كل مقام وعلى كل حال .

لو كنت أعلم أن ولاة الأمر فينا يحتكمون معنا الى القانون وشرعة الحقوق والواجبات لطلبت اليهم علاجى , ولكن نية هؤلاء الأولياء نحونا بادية , فمن العبث اذن ان تصد النمر عن تحطيم السوار .

فلنشغل الفراغ بالرياضة

الفراغ غول مهلك ووحش كاسر , يستبد بالمرء فيضنيه أو يرديه , وكم من أغصان ناضرة باهرة , تعرضت لعواصف الفراغ , فتحطمت وتكسرت , وقد كان يرجى منها رائع الأزهار ويانع الثمار , ونحن هنا فى فراغ يستبد بنا أحيانا , فنحاول الخلاص منه فلا نستطيع , وكيف وأسباب الدرس أ وسائل العمل أو طرق الاشتغال مسدودة محرم علينا سلوكها ؟ ... اذن الى الرياضة بما استطعناها من سبل وأنماط .. وأكثرت من الرياضة , فكرة قدم وكرة منضدة وكرة شبكة , وهكذا ظللت ألعب حتى أنهكت جسمى وأسلت عرقى , وأنا أريد من ذلك أن أشغل نفسى أولا , وأن أثير فى نفسى الحاجة الى النوم فأستريح عن طريقه ثانيا , وأتخلص به من بحران ما أنا فيه , ولقد شكوت ذلك الفراغ الى أحد الرفقاء , فاقترح على أن أتم هنا ما بدأته فى الخارج من تفسير جزء " قد سمع " الذى نشرت منه صفحات فى " مجلة الرابطة الإسلامية " . ولكن أين المراجع , وأين الأوراق , وأين وسائل البحث والتقييد , بل وأين مكان الكتابة المنعزل ؟ .. ان صلاتنا بالدنيا مقطوعة , والمعسكر يضيق بنزلائه المحشودين فيه , وهو لذلك يكتظ بالحركة والنشاط , بل وبالضوضاء , فأين المستقر , أوأين المفر ؟ .

أيها الشامتون

لاشك أن هناك من يحزن من أجلنا الآن فى الخارج , ولا ريب أن عيونا ملأناها بالنور تبكى لبعادنا , ولا ريب أن صدورا عمرناها بالخير والبر تتحرك بالشوق الينا , وهناك أيضا الأهل قد نالتهم متاعب كثيرة من أجلنا , وقد أهمهم ما أصابنا , وكل فرد من الأقارب يريد أن يؤدى واجبه , فيلقى فى هذا الأداء تعبا ونصبا ومشقة .

ولكن هناك بجوار أولئك من يشمت , أو يفرح للنازلة تنزل بسواه . فليت شعرى , هل لنا من أولئك الشامتين الحاقدين نصيب ؟ ... ان أخبارا كثيرة تأتينا من الدنيا , وهى متناقضة متضاربة , والطريق الى اليقين مغلق , فيأيها الأصدقاء والعداء على السواء : أفيقوا , واتقوا الله فينا ...

طريق الخلاق

سالنى سائل : كيف الخلاص مما نحن فيه يا مولانا ؟ . فأجبت : اننا فى محنة " ليس لها من دون الله كاشفة " . ولقد ذكرنى سؤالك هذا بقول الفرزدق للأمام الحسين وهو خارج لحرب بنى امية : ان قلوب الناس معك , وسيوفهم مع بنى أمية , والنصر يتنزل من السماء , والله يفعل ما يشاء .. ولقد ضاقت أبواب الناس أو أغلقت , ولكن باب الله لا يزال مفتوحا ...

أين الرقيب ؟

ان غذائنا التافه المتواضع جدا الذى تقدمه الينا ادارة المعتقل ليس من بيت رئيس الوزراء , ولا من بيت الحاكم المستبد أو الطاغية المسيطر , ولكنه من مال الدولة المجموع من عرق الأمة وكدها , ولذلك يعتبر هذا الطعام حقا مقدسا للفرد , فوق أنه يجب أن يكون لائقا مناسبا بهؤلاء المصطفين الأخيار من الناس , ولكن أين من ينصف ؟ ... كنت اليوم مشرفا على توزيع الطعام فى الغذاء , وجاء الطعام فى الظهيرة ناقصا نصيب تسعة أشخاص , واللحم أغلبه عظام , وألقى المتعهد الطعام فى ساحة المعتقل الرملية دون تسليم وخرج , كأننا حيوانات يلقى اليها الطعام من أناس يتعففون عن القرب منها , وأخذنا نشكو فلم نسمع مجيبا , فهددنا برفض الطعام أو الاضراب عن الأكل , وبعد اللتيا والتى جاء الرجل وأعطانا تعويض الناقص , فأين الرقيب على هذا المتعهد ؟ . وهل تكرر مثل هذا من قبل ؟ وهل سيتكرر غدا ؟ . نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن وما تفنى العناقيد


الجمعة 29 إبريل سنة 1949 م

من خطيب المنيرة اليوم ؟

صحوت وأنا أشعر برغبة شديدة فى دخول المرحاض , وهناك أحسست بتعب مؤلم , وخشيت أن تتضاعف الحال , فتؤدى الى مرض يصعب علاجه هنا , وساءلت نفسى : أترى لو حدث ما تتوهم أتستطيع أن تجد الطبيب أو العلاج ؟ واستلقيت على السرير متعبا , وخطر ببالى أن اليوم يوم الجمعة , وهى ثاني جمعة أغيب فيها عن " مسجد المنيرة " , فمن يا ترى سيكون خطيب القوم اليوم هناك , وماذا سيكون موضوع خطبته , وهل سيذكر من هناك كما نذكرهم هنا ؟ ... لقد استعد للخطابة فى الأسبوع الماضى بالمسجد الأساتذة الفضلاء عبد الرحيم فرغلى البليني , ومحمد عبد الله السمان , وكامل محمد أبو العينين , وجمال الدين محمد السفطى , وخطب الأول منهم , فمن سيخطب اليوم ؟ .. كل ما أرجوه أن يظل للمسجد طابعه الذى اعتاده , وليكن بعد ذلك ما يكون ..

وجاءت الصلاة فخطبنا من فوق منبر المعتقل المتواضع الأستاذ النابه عبد العزيز كامل خطبة جميلة جليلة عن " الكلمة الطيبة " , وأورد لها شواهد من القرآن , واستنبط للكلمة الطيبة معانى وأهدافا يجهلها الكثيرون , ولا عجب فالأستاذ عبد العزيز كامل من القلائل الذين أحسنوا دراسة الإسلام , ويحسنون الحديث عنه بفقه وبيان واتزان .

لم حدث هذا ؟

أليس من حق الذى يفاجأ بنازلة أو مصاب , أن يفكر أو يتساءل : لماذا حدث له هذا ؟ .. واذن فمن حقنا ونحن فيما نحن فيه أن نتساءل : لماذا نلقى هذا العذاب ونحن لم نذنب , ولو فى ظننا على الأقل ؟ قد يكون هذا البلاء تبيانا لما تتعرض له كل دعوة سامية من معارضة ونزال , وكل مصاب دعوة كريمة من عنت وارهاق , " سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا " , وقد يكون هذا تمحيصا أو ابتلاء أو اختبار ا , أو أعادا لمستقبل أوسع يتطلب عزيمة أرسخ وحزما أشد , وقد يكون هذا قصاصا ربانيا غير مباشر عن اهمال دينى سابق , أو تفريط فى حق من الحقوق . ومهما يكن السبب أو العلة , فكل ما يحرص عليه المرء , ويرجوه بكل ما فيه , ويرجو أن يطمئن اليه , هو أن يكون مقبولا عند الله , وأن تتصل أسبابه بأسباب السماء , فان تم له ذلك فقد هان ما وراءه , مهما كان عسيرا شديدا : " ان لم يكن بك غضب على فلا أبالى " .

ولئن تظاهر بعضهم بأنه مسرور مما هو فيه وفرح به , فاننى أقرر أنه متضايق فى أعماق نفسه , وأقرر أيضا أننى نتضايق من هذه العزلة , وان كنت صابرا عليها محتملا مهما طالت , والله ولى الصابرين , وما ذلك الا لأنى امرؤ لم أخلق للكبت والقيد , بل للحياة والحرية والانطلاق .

طول الصلاة

لاحظ بعضنا أن الامام يطيل فى الصلاة , ويقرأ فى الركعة ما يزيد عن الربع , وحجة الامام أننا خالون من العمل , فليس لنا الا العبادة , ولكن المعترضين يودون لو اعتدل وتوسط , وقد تكون لهم حجتهم , ففى القوم أفراد مبتدئون , لا يزالون بحاجة الى التدرج فى التهذيب والتعويد على التعبد , وهناك أيضا من تشغلهم شئون الطعام والثياب والنظافة داخل المعتقل عن اطالة الصلاة بهذه الصورة .


السبت 30 إبريل سنة 1949 م

" أطفال فى زيارة أبيهم "

رأيت اليوم منظرا هزنى هزا عنيفا . دلف نحو اسوار المعتقل أربعة أطفال أكبرهم فى سن السادسة , وقد قدموا ليزوروا والدهم المعتقل , واقترب الأولاد من أبيهم وجلين خاشعين , كأنهم يسرقون أو يجرمون , وتراهم يتلفتون ويحذرون , كأنهم هم الآخرون سينالهم ما نال أباهم من اعتقال وتشريد , ألا لعنة الله على الظالمين , وسالت الدموع وسكتت الألسنة , وأخذت أفكر ... ما هو الأثر الذى سيبقى فى نفوس أولئك الأطفال من مثل هذا الموقف ؟ . وماذا سيكون شعورهم نحوه , وحكمهم عليه فى قابل الأيام ؟ . أيتعودون الذل من هذا المنظر الكابت والطغيان العاصف , أم يتعلمون منه الصبر والاحتمال ؟ ... كان الله للأبناء , وكان الله للآباء , وصبرا أيها الأوفياء , فثمة يسر بعد اللأواء ...

خطاب الى الشيخ الأكبر

استطعت أن أبعث اليوم بعد جهد خطابا الى شيخ الأزهر , أوجزته ايجازا , فاكتفيت فيه بهذه العبارة : " يامولانا , انك لتعلم أننى هنا فى الاعتقال بلا جريرة , فان رايت أن تتفضل فتطلب اخراجى فافعل " من يدرى , قد يرفع هذا الخطاب الشيخ للقيام بشىء , فلننتظر ... وأرجو ألا يقول هذه المرة كما قال من قبل : " فى داهية " , والا فالأمر كله الى الله رب العالمين .


الأحد أول مايو سنة 1949 م

ماذا يراد بنا ؟

كان الذين بغوا علينا فأتو بنا الى هنا يريدوننا على أن نوت , وأن نوت عاجلا , وان نموت قبل أجلنا , " وما كان لنفس أن تموت الا باذن الله كتابا مؤجلا " , وكأنما تبدو من خلال الظلمات الباغية الطاغية يد كافرة أثيمة , ملطخة بدماء الأبرياء , مجللة بأشلاء الشهداء , وهى تحاول أن تمتد فتطبق عل عنق كل فرد منا لتزهق روحه , وتقطع أنفاسه , دون حسيب أو رقيب , وهكذا , اذا كان رعاة الشاء ذئابا فنى القطيع الا بحبل من الله أو نجدة . وان غاية الأسى أن تتوالى الذئاب بمآثيها أو ملاهيها , دون أن تأتى ساعة يقام فيها للقسطاس ميزان لا يمين ولا يميل , ولن تجد الأمة نفسها وكيانها الا يوم تحسن نصب هذا الميزان , فمتى متى أيها الزمان ؟ ... بدأ القيظ يعاون الطغاة فيزداد , وأخذت القذارة تفشو وتتضح , ونحن فى أتون الصحراء , والذباب هنا عون عون عتى شديد المراس , يسند ذباب البشر فى التكالب عل الاثم , والشطط فى الانتقام والتشفى , وبينما يحتشد الخدم والحشم والسعادة والعبيد على أبواب كل محظوظ , أو محتال باسم الأمة والوطنية فى ميدان السياسة , يظل هذا المعتقل الطويل العرض بلا فراش واحد , ليحمل هذه القمامات والفضلات والقاذورات والأوساخ بعيدا عن المعتقل , ما دام هؤلاء المعتقلون محرومين من الخروج بعيدا عن هذه الأسلاك الشائكة ... نعم يظل هذا المعتقل الذى يضم المئات , والذى مر عليه الآلاف فى طريقهم الى المنفى " المبارك " , بلا خادم واحد , أو عربة واحدة لحمل القمامات والأتربة والفضلات . وهكذا تظل هنا الجراثيم والميكروبات والعلل تنمو وتفشو , وتنتج لنا الذباب الكاسر , الآسر , المتوحش , المتوقح , الذى لا يخاف ولا يهاب , فأين وزارة الصحة ؟ وأين وزارة الشؤون الاجتماعية ؟ وأين الولاة والرعاة , ليروا كيف يتعرض خيار من الرعية لذلك الاهمال الشنيع الفظيع المقصود , الدال على أن شرا مهولا يراد بأولئك المعتقلين , نكاية بهم وشماتة فيهم ومحاولة للقضاء عليهم , والقانون هناك , والدستور هناك , والحقوق هناك , وضحايا العصر الأثيم هنا يصرخون ولا سميع .

كيف جاز لهؤلاء الرعاة أن يتركوا الحجرات بلا مصابيح , فتشترك كل مجموعة فى شراء مصباح بباهظ الثمن ؟ . وكيف يترك هذا المعتقل بلا تنظيف او تطهير , حتى نجمع من أنفسنا الأموال الكثيرة وفينا فقراء وفقراء لشراء المطهرات ؟ . وكيف يظل المرضى بلا عناية أو تنظيم لصرف الدواء , حتى يشترى المريض هنا لنفسه الدواء بأثمان غالية , ويصبح القانون هنا فى العلاج هو : اعتمد على الله وعلى نفسك , والا فنصيبك الموت ... وكيف جاز أن يتركوا هذا المتعهد الجشع يتحكم فى المعتقلين هذا التحكم الصارخ , فيبيعهم مألوف الأشياء وضروريات الحياة بغلاء فاحش , واحتكار رهيب , كأنه واهب للحياة والأعمار ؟؟يا دهاقين الانصاف , يا نواطير العناقيد , يا ولاة الناس , أين العدل والقسطاس ؟ .

سد منيع

هناك سد منيع جدا بيننا وبين أهلينا وأوطاننا ومواطنينا فى الخارج , لا نعرف عنهم شيئا على وجه الحقيقة , وكل الذى يبلغنا اشاعات متضاربة , وروايات متناقضة , وهمسات لا تبين , وأهلونا فى الخارج لا يعرفون من أمرنا شيئا , فمن الذى وضع ذلك السد المنيع الصفيق بيننا وبين قومنا ؟ . وبأية أم بأى سلطان أقيم ذلك الحجاب ؟ ولم لا تنتظم الصلة بيننا وبين الخارج فى حدود القانون واللوائح , كما تقضى بذلك أنظمة المعتقلات فى كل بلد حكريم ؟.. وى . أتتحدث يا هذا عن الحرية والكرامة ؟ . انك لغريق فى بحار من الأحلام والأوهام .. انك يا مسكين هنا فى مصر , فى بلد العجائب والمضحكات , منثورات

هذه خواطر سريعة متناثرة , أسجلها داخل عشى فى المعتقل , والخواطر فى ذهنى تتزاحم وتتسابق , فلا تترك لى فرصة للتعليق أة التفصيل , فلتكن رموزا خفيفة بادية المعالم , يفهم منه من شاء ما شاء :

1- يلوح لى ان هناك فى نفوس الإخوان أشياء وأشياء , وخاصة فيما بين الكبار منهم وارؤوس فيهم , فطريقة اللقاء والحوار والتصرف توحى بأن النفوس ليست فى علاقاتها على صفاء , فماذا هناك على وجه التحديد ؟ لست أدرى .

2- يأتى الى المعسكر . كل يوم تقريبا " وارد " وزبائن جدد , وهؤلاء الجدد يقع بينهم وبين القدماء شبه جفوة أو ظنة , الا اذا كانت هناك معرفة سابقة , وكثيرا ما جنت هذه الظنة على علاقات وأوجدت حزازات , وسبب هذه الظنة أن جبابرة المحنة يدسون فى صفوف الإخوان بطرقهم الشيطانية عيونا وأرصادا وجواسيس , وهؤلاء الجواسيس يحبكون دورهم , فيتظاهرون بأنهم من أشد الإخوان تحمسا للدعوة , ولكنهم فى الواقع ثعابين , وقد كان هؤلاء أشد الأخطار فى هذه المحنة الكبرى .

3- كما تطلعت حولى ورايت الصحراء المنبسطة , والهضاب المرتفعة , والرمال المنثورة , تذكرت جزيرة العرب , وغار حراء , وخلوة الرسول , والشعب الذى حوصر فيه المسلمون الأوائل , وأخذت أقارن وأقارن , وأحصى وجوه الخلاف بين الماضى والحاضر , ووجوه الوفاق بينهما ان كانت .. لا شك أن هناك فروقا كثيرة ولذلك لم نصل كما وصلوا . ترى هل نحن حقا على الصراط المستقيم ؟ . وهل نحن حقا نحمل الرسالة كما يجب أن تحمل , ونصون الأمانة كما يجب أن تصان ؟ . ليتنى أستطيع الطريق الى صادق الجواب .

4- يجب أن يسأل كل معتقل نفسه : هل أنا مؤمن حقا ؟ وهل نهضت بتبعات هذا الايمان ؟ ... سألت نفسى فتزلزلت ... أخشى ألا أكون , وأخاف أن يحبط عملى , فاللهم عفوك وتوفيقك , ولا تحرمنى من قبولك وقد حرمتنى من دنيا النلس .

5- منت فى أول الأمر أفرح بالهواء المنطلق , والضوء الساطع , والشمس الضاحية , والهدوء المنعزل , ولكنى شبعت وبشمت , أو قل سئمت ومللت , وهكذا طبيعة الانسان , لا يدوم على حال , ولا يرضى بدوام وضع , ونفسه طلعة الى التجديد والتغيير .

6- تكرر السؤال : متى نخرج من هنا ؟ . لست أدرى ... وكيف نخرج ؟ أبعناية لله مفاجئة , أم بتقدمنا بتعهدات وضمانات كافية , أم بواسةة حمامة سلام , أم بزمجرة من السد الدخيل , أم بغضبة من المعارضة التى ارتضت نومة أهل الكهف , أم بماذا ؟ . لسنا ندرى . أكثرنا فى الحقسقة " متضايق " من هذه العزلة التى ضيم فيها ضعاف , ولكن الجمع يشد عزيمته بالمصابرة والرجاء .

7- القوم هنا يكثرون من تلاوة سورة يس , وترديد الدعوات فى الصباح والمساء , والجهر بالمأثورات التى صاغها الإمام الشهيد من رحيق الكتاب والسنة , وهم يفعلون ذلك ملحين فى طلب الاستجابة , اتكالا على ما ورد فى فضائل يس وفى ثمرات الدعاء , ولا شك ان الدعاء مستجاب اذا استوفى أركانه وشروطه وهى كثيرة , وموعد الاستجابة وهيئتها ونتيجتها ليست من اختصاصنا , ولكنها موكولة للعليم الحكيم , وأخشى ما أخشاه أن يستطيل القوم الزمن , ويسأموا التكرار فيسيئوا الظنون , والله غالب على أمره , وكل شىء عنده بمقدار , وكل أمر عنده بميقات .

8- بلغنا اليوم ما نشرته الصحف تحت توجيه الرقابة العسكرية الابراهيمية المعروفة من أنهم ضبطوا " أوكارا " للاخوان فيها أسلحة تفننت البلاغات فى تصويرها وتعداد أصنافها , فأخذت أفكر ... لئن صح النبأ وصدقت الروايات انه لخطل فى الرأى ... اذ ما كانت القوة يوما من الأيام وسيلة من وسائل الاقناع , وليس العدوان بسبيل الى الاصلاح مطلقا , واذا أردنا أن نعمل للاسلام حقا , فليكن ذلك باحياء الشعور الدينى , وتثبيت العقيدة واليقين بالحكمة والموعظة الحسنة , والتدرج فى الاصلاح الفردى ثم الجماعى خطوة فخطوة ... تلك كانت طريقتى وستكون الى الأبد , وذلك ايمانى ... ولكن من يدرى لعل آفة الأخبار هم رواتها , ولعل الطواغيت يريدون أن يسوغوا ما فعلوا وما يفعلون وما سيفعلون , واذن فليلقوا فى روع الأمة أن وراء كل جدار " وكرا " , وأن فى كل بيت من بيون الإخوان " ذخيرة " ... وهنا يشيع الرعب والخوف والرهبة , فيصبح كل عسف سائغا ومقبولا ... أومن يدرى ... لعل القوم تذكروا أن نهاية الأحكام العرفية على الأبواب , وهم لا يعيشون الا فوق أساطيلها , وخلف " متاريسها " , واذن فلينشروا على الناس أن " الاجرام " يزداد , فلابد من بقاء السلطان المطلق , ليضمن لهؤلاء الناس الحياة ...

ليلة حزينة

كانت هذه الليلة حزينة صامتة , ماتت والدة الأخ الكريم فتحى محمد خضر زميلنا فى المعتقل والطالب بكلية التجارة , وجاءه نبأ موتها وهو خلف الأسوار , وحاول أن يخرج ليشهد صفحتها الأخيرة وهى تطوى , فرد ردا غير كريم , ولكنه صبر واسترجع وتجلد , وبدا على الرغم من غضارة شبابه رجلا بطلا , وبعد صلاة العشاء أقام المعتقلون للفقيدة الكريمة مأتما فى المصلى المتواضع المفروش بالحصير الخشن , وجلس الجميع صامتين محزونين , يستمعون الى آيات الكتاب من قارىء يفهم ويقول ويتأثر بما يرتل . وفى الوسط جلس " فتحى " المكلوم جامد اللسان والجنان والعين , ثم تكلم الستاذ عبد الحكيم عابدين , فأفاض فى حديثه عن الصبر والرضا بالقضاء والثبات عند البلاء , وكان لحديثه وقع جليل , ثم نهض الجمع الأسير فصافحوا أخاهم صامتين .


الاثنين 2 مايو سنة 1949 م

الذباب ... الباب ... الذباب ...

ان أول شىء يطالعنى عندما أفتح عينى هو الذباب ... الذباب الكثير المتزاحم المتراكم المتلاطم . الذباب الفاحش المتوحش الجسور , الذباب المهاجم بالليل والنهار , وفى الصباح والمساء , وفى الداخل والخارج , وفى الحجرات والأبهاء , وفوق الأسرة وتحتها , وعلى النوافذ والأبواب , وعلى سطح الأرض وفى الفق , وفى المصلى أثناء صلاة العشاء وأثناء صلاة الفجر ... الذباب الذى لن أكف عن الصراخ منه , لأنه لا يكف عن الهجوم علينا ... وكيف يكف والتراب هنا وهناك , والقمامات تزحم المكان , والقاذورات فى كل جهة , رغم المحاولات الكثيرة لتطهير المعتقل ؟ . رفقا بنا أيها القائمون بالأمر فينا , والا فأنتم لآثمون .

مريض الملاريا

مرض أمس أحد الطلبة الذين يقيمون معى وهو محمد المالكي بالحمى , وجعل يبكى ويتأوه , واستبد به الألم فجعل يذكر أمه وأباه ويناديهما , وأخذنا نسعفه بما تيسر لنا بعد جهد : كوب شاى , ليمونة , غطاء مضاعف , خل . وطلبنا له الاسعاف أو الطبيب بشكوى عاجلة , ولكن لا عجلة هنا فى نجدة , بل موت بطىء أو سريع كما تشاء . يا الله , انه يقوم بأكبر قسط من العمل , فماذا يكون عملنا اذا اشتد مرضه أو طال ؟ . الحمد لله , لقد جاءت النجدة من السماء , فأصبح اليوم بارئا . "رصاص "للهو لا للميدان .

يحيط بأسلاك كل معسكر من معسكرات المعتقل , أو كل ملحق من ملحقاته , حوالى عشرين جنديا , بأيديهم بنادقهم الحكومية الضخمة , وقد تعودوا اطلاق الرصاص من بنادقهم فى الهواء أثناء الليل ... أهذا ارهاب أم تحذير أم تسلية ؟ . سألت فعلمت أنه تسلية , وأن الجنود يشترون " الطلقات " بثمن رخيص , ويتسلون باطلاقها الى غير هدف , وهكذا فلتكن الجندية والا فلا . انها تسلية مزعجة لنا كل الازعاج ونحن نقرأ فى الليل , ومقلقة كل القلق لنا ونحن نيام , والأدهى من هذا أن بعضهم يتسلى هذه التسلية فى النهار , يحاول بها أن يصيد حدأة او غرابا , لا عدوا أو مهاجما , وأخشى أن يخطىء بعضهم فيصيب انسانا منا او من غيرنا , ولقد سمعت أن أحدهم كاد فى مرة أن يصيب زميلا له , فاللهم لطفك وسترك .

بين المبدأ والتطبيق

دعنا نتعرف عيوبنا , فذلك خير لنا من ان نكون نعامة حمقاء ... هناك فرق كبير . بل فروق كبيرة بين المبادىء وتطبيقها , أين فى دنيا الواقع تطبيق قوله تعالى " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " ؟ .. نحن هنا يجامل بعضا فى المظاهر العرضية , والأشياء التافهة التى لا تدخل فى صميم الحياة , ولا تتعلق بضرورة أو حاجة . ولكن حينما يجد الجد يؤثر كل منا نفسه , ويشح بالخير على غيره , ويضن بالايثار . وحسب كل واحد منا أن يجلس ليستعرض تصرفاته العامة والخاصة فى دقة وتمحيص , ليدرك هذه الحقيقة المؤلمة , التى يجب أن نطلب لها لنعالجها , أو نخفف من حدتها .

رحمك الله يافلسطين

وصلنى بأعجوبة عدد من جريدة يومية جعل الزملاء يتخاطفونه ويطالعونه فى شغف ونهم , كأنما جاعت عقولهم , واستبد بها الشوق الى قراءة الصحف , ومن يدرى , لعل أكثرهم كان يعاف قراءة الصحف , ويضيق بسخافتها فى الخارج , ولكنه الحرمان يا صاحبى , وكل ممنوع مطلوب . وفى هذه الصحيفة طالعت خبرا ابكانى ... ان الخبر يقول ان أعداء العرب والمسلمين من الدخلاء والمستعبدين يسلبون السلاح من العرب فى فلسطين , عن طريق الاغراء بالمال الخادع البراق , وتحت ضغط الفقر الكافر اللاذع الفاشى بين العرب هناك ... رحمك الله يا فلسطين , ولعنة الله على الذين أضاعوك , وحرموا الشهداء الصادقين من تحريرك , ثم أذاقوهم العسف والارهاق ... رحمك الله يا فلسطين .

===تقارير ===

سمعت أن تقارير تكتب عن المعتقلين , وأن هذه التقارير تصور جميع حركاتهم داخل المعتقل , فتتناول عبادتهم ومناقشاتهم بل وطرق معيشتهم ... من منهم يؤذن للصلاة , ومن الذى يؤم أو يخطب أو يدرس أو يوجه , ومن منهم أثر فيه الاعتقال ومن منهم لم يؤثر ؟ , الخ ... فمن الذى يكتب هذه التقارير ؟ . لعلهم الضباط أو كبار الجنود , أو الجواسيس الذين اندسوا فى الإخوان ببراعة لئيمة , وهؤلاء الجواسيس تطلق عليهم كلمة " بسبس " , وهى منحوتة من كلمتى " البوليس السرى " أو البوليس السياسى " وكم من مظلومين أطلق عليهم هذا التعبير , وكم من ظالمين أفلتوا من وصمته وميسمه .

ويقال ان لهذه التقارير شأنا عند ولاة الأمور , فليت شعرى ماذا يقال عنا , وهل تصور تلك التقارير واقع الحال وحقيقة الأمر , أم أن المجال فسيح للأختلاف والافتراء ؟ . يا خيبة أمة يخفت فيها نور الحق والمعدلة لتتكاثف دياجى الظنة والريبة .

طول الأسر

اختلف اثنان اليوم على المكان الذى توضع فيه القمامة فتسابا فتضاربا ... كانت هذه الحادثة مثيرة للخواطر مقلقة للجنوب , فمن الميسور ان تستغل هذه التوافه أسوأ استغلال ضدنا , وكم من مجرمين يودون لو انقلبنا داخل الأسر ذئابا تتهارش , ليأتى القوى منها على الضعيف , فيسعد بذلك اشقياء . وانه ليلوح لى أن طول الأسر قد نال من ثبات النفوس عند بعضنا , فـأصبحت نفوسهم حادة نوعا ما , ولعل فى هذا تفسير ما حدث منذ أيام , حينما كان أحد الشباب يصرح لبعض الشيوخ فى حوار علمى بأنه لا يؤمن بالتوسل , فهاج الشيخ وماج , وصرخ الشاب قائلا " اخرس يا كافر " أين نحن من تعاليم محمد الكريمة الحليمة الرزينة السمحة ؟ ... أين نحن من قوله لغير المسلمين كما أمر القرآن " وانا أو اياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين " . وقوله : لكم دينكم ولى دين " . وقوله : ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن " وقوله لموسى وهارون فى شأن فرعون وهو فرعون وكفى " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " ؟ ... أين نحن من هذه الآيات الموحية بالصبر والحلم والحكمة ... ألا انه شتان ما بين الفكرة وتطبيقها ... عند التطبيق يظهر التحقيق .


الثلاثاء 3 مايو سنة 1949 م

احلام وأوهام

ان النوم فى المعتقل يعد أمنية غالية , لأن الضجيج لا ينقطع , والمكان مزحوم بالكتل المتراصة , وأصوات البنادق العابثة تزعج , وصيحات الجنود المنكرة تقلق , ولذلك يضطرب النوم , وتتخلله الأحلام المزعجة والأرق المضنى , وبعض الزملاء ينام على الرغم من كل هذه المعوقات , ولا يكتفى بالنوم , بل يحلم أيضا فى نومه أحلاما جميلة عذبة , هى نتيجة للأسر والحرمان من الحرية , ويصبح هذا البعض فيفسر تلك الأحلام الرائعة كما يهوى , ويربط بينها وبين الحاضر بأوثق الرباط , ناسيا أن هذه الأحلام " تعويضات " نفسانية خيالية عما نفقده فى دنيا الواقع , وأن أحلام الجائع تدور فى الغالب حول الطعام . لست أنكر الرؤيا الصالحة , ولا عجائب الروح فى النوم واليقظة , ولكننى أتحدث عن حالة خاصة , كنت المس خصائصها , وأحس ظروفها الخاصة بها.

=== شعر يتألق ودمع يترقرق === عثرت مع بعض الإخوان على الجزء الرابع من " مختارات البارودى " فكأننى عثرت على كنز , اذ كنت فى أشد الجوع الفكرى والروحى , والبارودى قد طوق جيد الأدب بهذه المختارات الى الأبد , ومن العجيب أننى فتحت الكتاب , فوقعت عينى أول ما وقعت على هذه الأبيات للعباس بن الأحنف فى النسيب :

وانت من الدنيا نصيبى , فان أمت
فليت من حور الجنان نصيبى
وانى لأستهدى الرياح سلامكم
اذا أقبلت من نحوكم بهبوب
أرى البين يشكوه المحبون كلهم
فيارب قرب دار كل حبيب

وابتسمت حين طالعتنى هذه البيات ابتسامة كادت تبكى . وكان هناك من يطالبنى بالقراءة ليسمع , فخجلت أن أسمعه هذه الأبيات , فجعلت أقلب بعض الصفحات , فاذا بى أطالع للطغرانى هذه الزفرة :

أيكية صدحت شجوا على فنن فاشعلت ما خبا من نار أشجانى

ناحت وما فقدت الفا , ولا فجعت
فذكرتنى أوطارى وأوطانى
طليقة من اسار الهم , ناعمة
أضحت تجدد وجد الموثق العانى
تشبهت بى فى وجدى , وفى طربى
هيهات , ما نحن فى الحالين سيان
ما فى حشاها ولا فى جفنها أثر
من نار قلبى , ولا من نار أجفانى
يا ربة البانة الغناء تحضنها
خضراء تلتف أغصانا بأغصان
ان كان نوحك اسعادا لمغترب
ناء عن الأهل , ممنو بهجران
فقارضينى اذا ما اعتادنى طرب
وجدا بوجد , وسلوانا بسلوان

أو لا فقصرك حتى أستعين بمن يعينه شأنى , ويأسو كلم أحزانى

كلى الى الغيم اسعادى , فان له
دمعا كدمعى , وارنانا كارنانى

عاودنى الحياء ولم استطع متابعة القراءة , ولا أكتمك – اذا كنت انسانا – أن دمعا ترقرق فى عينى , وغالبنى ليهطل فصددته ... لقد كان لهذه الأبيات عندى فعل النار فى الهشيم , ووقع السهم فى القلب المشبوب , فقد أثارت ذكريات , وبعثت عواطف مطويات , وأوجدت مجالا للمقارنات , ولن يغيب عن اللبيب ما أعنى . وخاصة اذا عاود قراءة تلك البيات , ولحظ ما فى الثنايا والطوايا من رموز واشارات .

فى أى بلد نعيش ؟

أريد أن أستحم وتلك مشكلة ... فهل سمعت من قبل أن الاستحمام فى بلد متحضر راق مشكلة ؟ . ان جسمى فى غاية القذارة الآن , والعرق متراكم , وقد مضى على أكثر من عشرين يوما دون ان أستحم بماء ساخن , مع أننى تعودت الاستحمام بالماء الساخن صيفا وشتاء , ولكن أين أنا من الحمام الكامل الذى كانت تهيئه لى بنت أخى من حين لحين ؟ . ليس هنا لوف , والصابون عزيز فاحش الثمن , والحمام كالمرحاض لا باب له , وهو معرض لتيار الهواء , فلو استحممت بالماء الساخن بطريقتنا البدائية لأصبت بالبرد .

ان أقل قواعد العدالة وأول مبادىء الحقوق الوطنية أن تقدم لأمثالنا هنا ضروريات الحياة الأولية اللازمة المحتوية , كالماء الصالح للاستحمام والصابون واللوف وما أشبه ذلك , فلسنا مجرمين ولسنا منبوذين , وكل ما بيننا وبين الباغين علينا هو خلاف فى الراى , وظنة فى الفكرة , والشخص المعتقل ليس متهما , وانما هو ارؤ لا يحلو طعمه فى فم الحاكم المطلق , فيحول بينه وبين حياته العادية , ومن ثم يلزمه أن يوفر لهذا المعتقل جميع اللوازم التى يحتاج اليها فى عزلته , ولكن لمن تقول وأنت بمصر , وكم ذا بمص من المبكيات المضحكات ؟ .

همة زميل

أنا معجب بهمة زميلنا فى الاعتقال الأخ الكريم محمد فريد مصطفى الطالب بكلية الهندسة , فروحه الاجتماعية تبدو واضحة جلية , وهو يعمل على تخفيف كثير من آلام الإخوان المصابين . انه يعالج ويمرض , ويرشد ويساعد , ثم يسامر ويسلى , ويفلح الآرض ويزرع البقول , وهو يبتكر وسائل الراحة فى كثير من النواحى , ويكاد يطلق عليه لقب " طبيب المعتقل " ما دام لا يعرف له طبيبا , ورحمة الله على العدالة والمدنية والحضارة فى قرن التقدم والنور . والنقطة التى تؤخذ عليه – كما يقولون – أنه سريع الغضب , وانه " يشخط وينتر " اذا خولف رأيه , ولن تعيب هذه الملاحظة شابا نشيطا مجدا مفيدا نافعا , فما من رجل الا وله نقطة ضعف , وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه , وحتى لو راجعنا سير البارزين فى التاريخ لوجدناهم مصابين بحدة الطبع وسرعة الغضب , لأن قوة الشخصية تثور لرؤية الضعف والكسل , وتلك هناة تغفر بجوار كثير من الحسنات .

عرق يسيل ولا ملابس

فى الشتاء تستطيع أن تحتفظ بثيابك نظيفة عدة أيام , لأن الحر معدوم , والعرق نادر , وافراز الجلد طفيف , والغبار لا يثور , ولكنا الآن نصطلى باشتداد وطأة الحر , مع أننا لا نزال فى أوائل مايو , فماذا يكون من شأننا اذا أدركتنا أيام يونيه ويوليه ؟ . لطفك اللهم فان الحر يثير العرق ويكثر الافراز , فتتسخ الاجسام والثياب وهذا يحتاج الى كثرة الاستحمام , والى تبديل الملابس بأخرى فى قترات متقاربة , وليس ثمة وسائل للنظافة , وأكاد أعتقد أن حرماننا من هذه الوسائل يعتبر جريمة فى حق الوطن والمواطنين . ويعد مواطأة على نشر المرض , ومؤامرة للقضاء على سلامة قوم عدموا الحيلة والوسيلة خلف الأسوار . أفيظن اولئك الآثمون أنهم خالدون ؟ ان ربك لبالمرصاد .

أشاهد كثيرا من الشباب قد أطلقوا لحاهم على سبيل التشبه , أو لصعوبة الحلاقة المنتظمة , وبعضهم يعلق أهمية كبرى على اطلاق هذه اللحية , ويجعلها مقياس الصلاح والتقوى , مع أن الحوادث تنطق بغير ذلك فى أحوال كثيرة , فكم من مآس وملآثم ارتكبها ملتحون , حتى صارت أغلبية الناس تتوجس خيفة من صاحب اللحية , وتحذره وتنفر منه , وليس معنى هذا أنه لا يوجد كرام يلتحون . بل هناك منهم أهل المهابة والجلالة والوقار , فهم يزينون اللحى ويرفعون من شأنها . وجعلت أتساءل : هل لاطلاق اللحية ضلع فى أصول عقيدة الإسلام ؟ . يخيل الى أن الأمر بالعكس , فاللحية والشارب وما اليها من أمور اللباس والهيئة أمور شخصية مظهرية , لا علاقة للعقيدة بها , وأكاد أفهم أن البيئة الاجتماعية والظروف القومية والصبغة الطائفية والعرف العام والعادة الغالبة هى المرجع فى هذه الأمور .

لا تثر على يا صاحبى ان أخطأت , فانا لا أقطع برأى , وانما أعرض فكرة للبحث فان تكن صوابا وحقا فمن الله , وان تكن باطلا فمنى ومن الشيطان .. لقد وردت آثار ونصوص وأقوال تدعو الى اللحية وتحبب فيها . ولكن ألم تكن تلك النصوص استجابة للأوضاع الاجتماعية والعرف المألوف والرغبة فى مخالفة الأعداء والخارجين ؟ فماذا تكون الكلمة , لو تغيرت الأوضاع , وتبدل العرف العام ؟ .. أنا لا أحكم وانما أستفهم .


الأربعاء 4 مايو سنة 1949 م

شعاع أمل

دعى الرجل التقى الوقور الحاج صالح عشماوي وكيل الإخوان المسلمين الى مقابلة إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الوزراء والحاكم العسكرى العام , والذى يسمونه هنا " الحاكم بأمره فى آخر الزمن " . وقد افهمه الأستاذ صالح فى حوار بينهما أن جماعة الإخوان المسلمين ليست مسئولة عن الحوادث التى يتحدثون عنها , بدليل أنها وقعت بعد حلها , ومصادرة جميع ممتلكاتها , واعتقال الكبار والصغار فيها , كما أفهمه أن ذلك يقال ان حوادث تحدث , وطلب الستاذ صالح منه أن يراجع أمر هؤلاء , حتى لا يحمل تبعة العدوان عليهم امام الله وأمام الناس , وقد اعتبر بعضهم هذه المقابلة وهذا الجو بشير أمل .

ثم تبع ذلك بشير آخر , لقد عرضوا علينا اليوم نسخا من عريضة طويلة مرفوعة الى جلالة الملك , وفيها نفى للتهم وتصحيح للوقائع , واعراب عن الاخلاص والولاء , واستنكار لدعوى الارهاب والعنف , ثم ختمت العريضة برجاء صاحب الجلالة فى أن يتفضل فينقذ أمته مما هى فيه , بأن يأمر بالافراج عن المعتقلين فى مناسبة سعيدة قريبة , هى مناسبة عيد الجلوس , وقد وقعوا نسخ العريضة , وأرسلت على الفور بأسرع ما يستطاع .

متفرقات

1- بأية سلطة من سلطات القانون والعدالة منع هؤلاء عنا الصحف والمجلات , مع أن المسجونين يقرءونها , ومع أن المتهمين فى تهم معينة وكبيرة يسمح لهم بها ؟ ... أفما كان من المستحسن أن يسمحوا لنا بها وهى من حقنا , حتى نستعين بقراءتها على وحدتنا وعزلتنا وفراغ عقولنا ؟ . ولكن أين من يسمع ؟ . انك تصرخ فى واد سحيق .

2- قاتل الله المتظاهرين بالغيرة الدينية وهم من صحيح العقيدة خلاء ... هناك من يقلقنا لصلاة الفجر فى صخب وضجيج , وقبل الموعد بزمن طويل , لا لشىء الا ليظهر أنه متدين ... وقد أدى هذا الشذوذ الى أن يعاند بعض الموجودين لأنه رقيق فى دينه , فيحاول الفرار من الصلاة , فاذا اضطر اليها أتاها مع الآخرين مرائيا بها مستثقلا فى دينه , فمتى يعرف الناصحون طريق الحكمة والموعظة الحسنة ؟ ومتى يغرس الله أنوار التقوى الصادقة فى قلوب الحائرين , فلا يظلون مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ؟

3- جلست أصيل اليوم مع الرجل الهادىء الحيى التقى الأستاذ عبد الرحمن البنا , شقيق الإمام الشهيد الخالد , وكانت هذه اول مرة أجلس فيها اليه , ولقد رأيت منه عجبا فى خلقه الكريم , وتواضعه الجم , وثقته الوثيقة بالله ونصره , زقد ظل زمنا طويلا يحدثنى عن ذمرياته فى الحجاز , وعن أعماله الأدبية , وقصصه الإسلامية , وقد غمرنى بفيض من تقديره واحترامه , حتى جعلنى أذوب خجلا ... أبقاك الله أيها السيد عنوانا لمكارم الأخلاق .

4- الحجرة الوحيدة التى أقمنا أكثر جدرانها والبطاطين , هى التى ننام فيها , وهى أيضا التى نأكل فيها , وهى أيضا التى نطبخ فيها , وفيها نجلس ونتسامر, وفيها كل المتاع , فهى كل ما لنا من دنيانا الآن , فلم لا تكثر الأوساخ والأقذار ؟ لقد " امتن " علينا متعهد المعتقل النهم , فباع لنا مقشة صغيرة بخمسة أضعاف ثمنها , لنكنس بها الحجرة ... أو يظن أولائك أننا لن نعود الى الحياة يوما من الأيام , فهم يعاملوننا كأننا أموات بينأحياء ؟ ...

5- لاحظت فى الطلبة الذين يعيشون معى بعض العيوب التى تحتاج الى اصلاح وتهذيب , ولكن الوقت غير ملائم , فصبرا حتىتحين الفرصة .

6- مواعيد الطعام فى غاية الاختلال , والجوع كافر , والجائع لا يؤمن جانبه , والتجويع سياسة اجرام , فمن المسئول وأين الرقيب ؟ ... أحيانا يأتى طعام الفطور قبل السابعة , وأحيانا يأتى بعد العاشرة , والغداء يأتى أحيانا فى الواحدة بعد الظهر , وأحيانا عند الرابعة , والعشاء تارة قبل صلاة العشاء , وتارة بعد العاشرة مساء , وقد أفسدوا هذا الاختلال نظام المعد والبطون , وجعل من حولنا لا يقيمون ميزانا للحقوق والواجبات , واذا شاعت فى الناس فكرة الاستخفاف بالحقوق والواجبات , لشيوع الفوضى وذيوع الاختلال وضياع الحساب , فكبر على الأمة أربع تكبيرات . والله لو كانت الدنيا كلها بأهليها وجميع من فيها مظلومين , وبقى فيها ظالم واحد , لما يسوغ ذلك الشيوع وجود الظلم بحال من الأحوال , وليس الاشتراك فى الظلم بمنقذ المظلومين يوما من هوان الظلم , ولا بمنقذ الظالم من ميسم البغى والطغيان , والله غالب على أمره , ولكن أكثر الناس لا يعلمون .


الخميس 5 مايو سنة 1949 م

بين الاطمئنان والقلق

قضيت بالأمس ليلة مضطربة مزعجة , احتشدت بالأحلام الناشئة عن كثرة التفكير وطول الصمت , ولذلك كان بعضها مسموعا كما أنبأنى جيرانى , وكانت الأحلام تدور حول المسجد ومدرسته والمعهد والمنزل والأصدقاء والأعداء , ولذلك أصبحت مصدوعا , وفى الضحى جاءنا نبأ يطمئن , ثم تلاه نبأ يقلق , فظللنا فريسة لسبع البلبلة والتردد بين الاطمئنان والقلق .

أما الخبر المطمئن فيقول ان الحكومة المرهبة قد بدأت تعرف وتلمس أن الأسلحة المضبوطة والحركات الثورية الأخيرة من صنع الشيوعيين والصهيونيين , لا من صنع الإخوان المسلمين , ولذلك بدأت تراجع خطواتها وتصلح أمورها , وتهىء نفسها للوضع الجديد , وقد فرح القوم حولنا بهذا التحول المطلوب , ولكنهم ما كادوا يركنون اليه وينعمون به قليلا , حتى صدمهم النبأ المقلق , وهو أن الحكومة الارهابية أخذت تعد العدة بأساليبها المعروفة لمد الأحكام العرفية سنة أخرى ... وهنا تبدل السرور حزنا . وبعد أن كانوا يرددون : لقد دنا يوم الخروج , عادوا يقولون : وما هو المصير أمام ذلك النذير ؟ . ثم أخذوا يتساءلون : وأين المعارضة ؟ أمالها من كلمة تقال , او صوت يسمع ؟ ... وأين الوفد المدافع عن الدستور والحريات والحقوق والعدالة ؟ .

موظف يمد يده

جاءنا منذ حين عامل موظف معه مضخة تطهير , ونفث بعض المطهرات فى الحجرات ودورة المياه , وقد سارعت الأيدى الحبيسة الفقيرة فامتدت بما جادت وقدرت عليه الى ذلك الشخص , فامتدت واتسعت لكل ما جاء , ولا عجب فالبيئة قد ألفت هذا اللون من شذوذ الذمم والأخلاق , وقد وعد الرجل حالفا بأن يعود ويعود , ولكنه لم يفعل ... غفر الله له ... لقد انقطع الذباب فترة ثم عاد يهاجم , وعدنا نقاوم , وانه لغالب , وانا لمغلبون .

علامة الصلاة

الحصير الذى نصلى عليه خشن غاية الخشونة , يؤلم ويخدش , ويؤثر فى الأطراف والأصابع , وهذا شىء يحتمل , ولكنه يؤثر أيضا فى الجباه , فيظهر فيها ما يسمونه " علامة الصلاة " , وأنا أحذر هذا كل الحذر , فكثيرا ما استغل الناس هذه المظاهر أسوأ استغلال , والله ينظر الى القلوب والنيات , لا الى الصور والأشكال , واذن فلأضع منديلا فى موضع السجود ليقينى تلك العلامة .

ارحموا الأزهر

أخذ الكثيرون ينالون من الأزهر , ويحملون على كبار الأزهريين بلا تورع أو اقتصاد , فنصحت بترك ذلك ولو فى عزلتنا هذه على الأقل , وأبنت أن العيب ليس عيب الأزهر وحده , ولكنه عيب الذين عملوا على أن يكون الأزهر مصلحة تابعة للدولة , لا أن يظلم كما كان حصنا للشريعة ومنبرا لكلمة الحق , ولم يصغ الناقدون للنصيحة , فاعتزلتهم آسفا , وبعد قليل جاءنى الأستاذان فريد عبد الخالق وجمال عمار يطلبان أن ألقى دروسا فى التفسير والحديث فرفضت , فألحا فى الرجاء فألححت فى الرفض , فانصرفا .

أنا نفسى فى الواقع محتاج الآن الى من يعلمنى , ولقد تكلمت كثيرا فلأسكت قليلا , ونفسى حائرة فى أفكارها , فلأحاول أن أجمعها , وآرائى مشتتة عن الحياة والأحياء , وعن الأولى والآخرة , وعن التفكير والتطبيق , فدعونى , دعونى فى غمرتى أيها الناس , لقد سمعتم منى طويلا , وما أحوجنى اليوم الى أن أسمع ... يا ويلنا ان كانت بضاعتنا كلها كلاما , ويا ويل من يشغله طول الكلام عن حسن الفعال , ويا ويلنا لم " نسر " على الطريق , اذن فقد ضاعت الأولى والآخرة , وقد خسرنا العاجلة والآجلة , وذلك هو الخسران المبين ... نعوذ بالله رب العالمين .

عظة من مدرسة النبوة

استعرضت اليوم قصة يوسف عليه السلام . كيف حسده اخوته على فضله ومكانته وكادوا له ليحولوا بينه وبين سطوع شمسه , ورأوا فى عظمته دفاعا الى محاربته , فالقوه فى البئر والتقطته السيارة , ثم باعته للعزيز بثمن بخس شأن الكريم حينما يهون عند جاهليه , أو العزيز حينما يذل لدى شانئيه , ثم حرضته امرأة العزيز بجمالها ومالها وجلالها على الخنا فأبى واستعصم , لأنه رأى برهان ربه , ومن كان معه برهان ربه فلن يزل او يخون , وكان جزاء عفته وأمانته أن يلقى فى السجن , فلبث فى السجن بضع سنين , لم يلبث شهرا أو شهرين بل بضع سنين , ومع ذلك لم ينس دعوته ورسالته فى سجنه , فظل يدعو الى الله العلى الكبير :

" يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " ؟ ... الخ ... وصبر يوسف صبرا جميلا فكانت النهاية جميلة والعاقبة نبيلة . احتاج اليه الملك فاستدعاه , فأبى اجابة الدعاء حتى يبرىء ساحته فبرأها , وخرج من محنته عزيزا مهيبا , بعد أن تلقى الأهوال والمحن , دون أن يتبدل أو يتغير , وقد تتابعت عليه النعم , فجمع الله شمله بأهله , وخضعت له أسرته ساجدة , وأبصر أبوه بعد عماه , ولآتاه الله الملك مع النبوة والذكر الخالد , وجعله على خزائن الأرض , وكان فضل الله عليه عظيما , وأقر يوسف بفضل الله عليه , وأبان السبب فى هذا الفضل , وهو ولاية الله له : " رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليى فى الدنيا والآخرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين " . أيها الكرام المعتقلون ... أيها المقيمون خلف الأسوار بلا ذنب أو جريرة : ان لكم فى قصة يوسف لعبرة وعظة , فتناولوا المصاحف سراعا , واقرءوا القصة تباعا ... اقرءوها على مهل بلا عجل ... لا تقرءوها على أنها قصة لغرام امرأة فاشلة , بل اقرءوها على أنها قصة داعية الى الله , تعرضت له الدنيا بمفاتنها وشهواتها وأهوالها , فأباها واستخف بشدائدها , وآثر عليها الله وحده فكان الله له , وبدله من خوفه أمنا , ومن شدته يسرا ونصرا : " ولينصن الله من ينصره . ان الله لقوى عزيز " ... " ان ينصركم الله فلا غالب لكم , وان يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده , وعلى الله فليتوكل المؤمنون " , من يهد الله فهو المهتد , ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " . اقرءوا وتدبروا , وسترون أن سنة الله لا تتخلف , ولن تجد لسنة الله تبديلا ..

بين الدعوة والداعية

اكثر من حولى مفتونون بعبقرية الإمام الشهيد رضوان الله عليه , فهم يتغنون بأخلاقه وجهاده وخطابته وكتابته وسحر أسلوبه , وخلابة منطقه وحكيم تصرفه وبعيد نظراته وسديد تصرفاته , ولا عجب فقد كان الإمام الشهيد أمة وحده فى دينه وعلمه ولسنه , وكأنما هيأه ربه بين قومه ليحيى مواتا ويجمع شتاتا , ولعل هذا هو السر فى فرح المجرمين بموت الشهيد , ولعل هذا هو السر أيضا فى اشفاق المنصفين على الدعوة بعد استشهاد داعيها , اذ يخشون أن يدب فى صفوف الأتباع ضعف وخور , وكم تمنى الأصدقاء أن يكون فى صفوف الإخوان عشرات من أمثال " حسن البنا " فى مصابرته وبلاغته وحكمته وعبادته . ولعل الله الرحيم بعباده اللطيف بدعاته لا يخلف هذه الآمال . وكم أود من الأتباع ألا يطغى الاعجاب بالداعى العظيم العبقرى على الايمان الراسخ القوى بالدعوة , فان الداعى يزول مهما كان عظيما , والدعوة تبقى ببقاء حقها وصدقها , ورضى الله عن أبى بكر يوم قال : " من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات , ومن كان يعبد الله فان الله حى لا يموت , وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل , أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم , ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا , وسيجزى الله الشاكرين " . ولست علم الله أبتدىء هذه النصيحة ابتداء , لمناسبة ما أشاهده الآن , بل انى أكررها وأعيدها , فقد قلت فى كتابى " واجب الشاب العربى " قبل ذلك بزمن طويل ما نصه " " ويعيبكم يا شباب أن تسيطر عليكم غريزة الخضوع للأشخاص لا للمبادىء , وأن يملككم الاعجاب بالزعماء لا بالزعامة وأهدافها , وأن تتعلقوا بالذوات أكثر من ايمانكم بالدعوة , وهذه مع الأسف علة متحكمة , نراها مستشرية فى البيئات العربية على صورة مفزعة , فالتلميذ يفنى فى شخص أستاذه , والموظف يذل لرئيسه , والحزبى يصبح عبدا لزعيم حزبه , والنائب لا يتحرك الا بوحى من قائده , والدعوات تقوم بيننا فى الغالب على أشخاص امتازوا فى ناحية أو نواح , ثم استطاعوا أن يجمعوا حولهم الأتباع والأنصار , بقدرتهم على العرض والتأثير والجذب والتكوين , ويظل هؤلاء الجنود مسحورين بعبقرية قائدهم أو بريق دعوته , أو سحر خطابته أو تأثير شخصه أو سلطان ذاته , دون أن يمتزجوا بالمبادىء أو الحقائق أو الأهداف أو الآراء , فاذا انتهى ذلك القائد – وهو فرد – انتهت دعوته التى جمع حوله باسمها الآلاف , أو أصابها تصدع وانهيار ... تحرروا يا شباب , ولا تمكنوا غيركم من استعبادكم وقد خلقكم ربكم أحرارا , تجردوا من عبادة الأشخاص ونصب الأصنام وتقديس القادة , وفكروا وقدروا وانظروا واعتبروا , وانقدوا وقارنوا , وزنوا الأمور بميزان الحق والصدق والمبدأ والمثال , لا بميزان الهوى والغرض والمال " . وأذكر أننى متبت للامام حسن البنا خطابا فى هذا المعنى , وصارحته بأننى أخشى أن يطغى اعجاب الإخوان بعبقرية الداعية الفذ على ايمانهم بصدق الدعوة الغالية , ورجوته أن يعالج ذلك بحكمته , فكتب الى يوافقنى فى الفكرة , ويعد بلفت الأبصار الى ذلك كلما سنحت الفرصة , وكانت عبارته تفيض بتواضع النفس وكرم الخلق , رضى الله عنه . يا أبناء الامام , لقد سقط الداعية من أجل الإسلام , لأن الفراد تفنى وتبقى المبادىء على الدوام , فليكن كل منكم صورة مصغرة منه . ثم سيروا الى الأمام ..


الجمعة 6 مايو سنة 1949 م

عيد الجلوس

اليوم عيد من أعياد الدولة , اذ فى مثله جلس الفاروق على عرش آبائه , والدولة تحرص على أن تجعل من هذا اليوم فرصة لاعلان البهجة واشاعة المسرة واظهار المكرمات , ولذلك ما كادت الشمس تشرق حتى تهامس بعضهم بأن هذا اليوم سيكون مناسبة تنتظر فيها البشريات , ولا يبعد أبدا أن تكون هناك لفتة كريمة لانقاذ الموقف واصلاح الحال بوقف حملة الارهاب الحكومية , والافراج عن جموع المعتقلين . وقد أخذ البعض هنا يعدون اللحظات والساعات , مترقبين مجىء ما توقعوه وانتظروه ؟ فلما انتصف النهار وانتهينا من صلاة الجمعة , بعد أن سمعنا خطبة للأستاذ صالح عشماوي عن " الصبر والاحتمال " ولم يحدث شىء , عاد الآملون يقولون : فليكن , فاليوم عطلة , وغدا سيأتى البشير ... ولم يسكت اليائسون أو الساخرون على هذا التعبير , فكان ردهم عليه بأننا كلنا أو أكثرنا سنرحل الى الطور . ولا تسل عن الدعابات والفكاهات التى انتثرت من أفواه الضاحكين على هؤلاء المتحاورين ..

أول جندى فى فلسطين

تعرف الى اليوم رجل مفتول العضلات أسمر اللون حاد النظرات بسام الملامح مهيب اللحية .. انه الأستاذ الحاج يوسف طلعت , وهو كما عرفت من قدماء الإخوان الذين شهدوا ميلاد الدعوة , وله حديث عذب يستفيض فيه فلا يمله سامعه , وقد قيل لى انه أول مصرى دخل فلسطين مجاهدا , حينما بدأت كتائب الإخوان المجاهدة تزحف زحفها العجيب المبارك فوق ساحة الآرض المباركة , وقيل لى انه استطاع بفنه واقتداره أن يصنع مدفعا حربيا بيديه فى الميدان , فكانت أعجوبة أخرى استحوذت على تفكيرى . ولقد جاء ذكر الحاج يوسف طلعت ومعى المربى المفضال الأستاذ [[عبد العزيز كامل]] , فما كان منه الا أن قال : ان الحاج يوسف طلعت يعتبر أستاذا لى فى الدعوة ... يا لله , كم تحمل البسيطة من رجال ورجال ..

حفلة عيد ميلاد

فى ليلة أمس دعيت الى حفلة أقيمت فى المعسكر بمناسبة عيد ميلاد الزميل الفاضل والأخ الرياضى العالمى محمد المنباوي بكلية الهندسة , واستطعنا أن نشرب شايا , ونأكل أصنافا من الحلوى لم نرها من زمن بعيد , وقد عرفت أنها جاءت المنباوى من بيته الكريم , واستمعنا الى خطب التهانى والتبريك الممزوجة بمعان اسلامية واخوانية , وقد دعيت الى الكلام فأجبتهم قائلا :

سأصمت كارها , والصمت حينا
يعد من البراعة فى الجواب

بين الماضى والحاضر

هأنذا أسجد فى فناء المعتقل الصحراوى الرملى مما يسجد الباقون , وها نحن أولاء نجعل تلك البقعة كخلية من خلايا النحل تفيض بالدوى والرنين , من كثرة التلاوة والقراءة والذكر والعبادة والمناجاة , وما من شبر فى المعتقل الا وجلس فيه زميل بقراءة أو عبادة أو دعاء , فهل لنا أن نتذكر ماذا كانت هذه البقعة بالأمس ؟ .. لقد كانت معسكرا للجيش الأمريكى فى الحرب العالمية الثانية , ومن يدرى لعل هذه الحجرات التى نسكنها الآن كانت تمتلىء بالأمس بالخمر ولحم الخنزير وغيرهما من المنكرات , ولعل هذه البقعة شهدت لهوا وفجورا , ومجانة وخلاعة , ولعلها شهدت متطوعات حرب جئن من أجل " الترفيه " ... ولقد كان سكان البقعة بالأمس جنودا غرباء دخلاء , فيهم صفة المحتل مهما قيل فى وجودهم من تسويغ , فما أوسع الفرق بين الماضى والحاضر .. لقد تطهر المكان وتبدل أمره فامتلأ بأبناء الوطن وأشباله , وها هم أولاء يعجون لربهم بالتكبير والتهليل , يرددون ويؤدون الصلوات , ويرتلون القرآن ويعلنون الأذان , ويسهرون دارسين للاسلام , أو عابدين رب الأنام , ولعل الشبرالذى تلمسه جبهتى الآن وأنا ساجد لأعفرها بذل الخضوع لبارئها وحده , كانت تطؤه بالأمس قدما جندى عربيد مخمور , فسبحان مقلب القلوب ومغير الأمور .. وسبحان من تأذن لبقعة ملئت بالفساد والعربدة , أن تتحول فتتطهر بسجدات أهل الحق الغرباء بين غربان الباطل ,,

الحاجة أم الاختراع

لقد قالوا فى حكمهم ان الحاجة أم الاختراع , وأنت لا تستطيع أن تتبين صدق هذه الحكمة الا اذا احتجت , فهنا تخترع , وهنا يتفتق الذهن عن أشياء , وتبرع اليد فى صناعة أشياء . ويبدو لك صدق ذلك القول الحكيم .. لقد دفعت الحاجة الشديدة القاسية زملاءنا هنا الى اختراع أشياء كثيرة . انهم أقاموا حجرات من الصفيح وقطع الثياب , وصنعوا مكاتب ومقاعد ومناضد ومضارب للعب من قطع الخشب المتناثرة والصناديق البالية , ومهدوا فى الساحة ملعبا لكرة السلة , وتعبوا فى تمهيد الأرض تعبا مضنيا , وزرعوا قطعة من الأرض وهى رملية , وأنبتوا فيها قمحا وفولا وأذرة وبصلا , وصنعوا مذبات للذباب , وسخانات للماء , وأقاموا أبوابا للمراحيض والحمامات من " خيش " الزكايب ومن الصفيح المتناثر , وأخيرا صنعوا " نافورة ماء " أحاطوها ببعض التخطيطات الهندسية فى الركن الغربى البحرى من المعتقل , وبجوار هذه النافورة طاب لى المقام , فكنت أوثر الجلوس عندها بعيدا عن الصخب والجدال , أفترش الأرض وأستند الى الحائط وأمد قدمى , وأتطلع الى الماء وهو يطفر ثم يقاوم ثم يقهر فينزل , فأقارن بينه وبين نقاومة الانسان فى الحياة . وأحيانا أتطلع الى الأفق وأسبح فى عوالم من التفكير , وأحيانا يخلو المكان من حولى تماما , فأقرأوحدى بصوت مسموع , فأجد له لذة لم أتعودها من قبل , وأحيانا أدعو الله أن يبصرنا بأمورنا وأن يهدينا سواء السبيل , وأن يؤتينا منه رحمة , وأن يكشف ما نحن فيه من غمة , فأشعر بروحانية عجيبة , وأحس بعاطفة عذبة يعلمها من يدعو وهو يؤمن بأنه يلجأ الى القوة العليا مستهديا ومستنجدا , فيطمئن ويهدأ ولو لم تعجل له اجابة الدعاء :

وانى لأرجو الله حتى كأننى
أرى بجميل الظن ما الله صانع

وكأنه من جميل المصادفات , بل من نفحات اهه بين عباده أن جاءنى أخ كريم بعد فترة من التلاوة الحية فاسمعنى بردة البوصيرى من أولها الى آخرها , فأحيا لها فى نفسى ماضيا مذكورا بالخير , فقد حفظت فى بدء الصبا وشغلت نفسى بها حينا من زمانى , حتى لقد شرحتها فى دروس متتابعة بالمسجد الصغير فى البجلات وأكاد أجزم بأن البوصيرى رضوان الله عليه , قد أنشأ هذه القصيدة الفذة الفخمة وهو فى حال غير عادية , فى حال لها من الغمرة الروحية والمحبة المحمدية ةالنفحة الالهية نصيب كبير , ولن تستطيع أن تقول غير هذا اذا كنت أديبا وسمعت البوصيرى يقول على سبيل المثال , اذ يصور فتنة النفس وخدعتها لصاحبها :

وأخش الدسائس من جوع ومن شبع
فرب مخمصة شر من التخم
واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت
من المحارم والزم حمية الندم

أو يقول فى شخص الرسول :

أعيى الورى فهم معناه فليس يرى
للقرب والبعد منه غير منفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعد
صغيرة , وتكل الطرف من أمم

أو يقول عن روعة العد برسالته :

راعت قلوب العدا أنباء بعثته
كنبأة أجفلت غفلا من الغنم
ما زال يلقاهم فى كل معترك
حتى حكوا بالقنا لحما على وضم
ودوا الفرار فكادوا يغبطون به
أشلاء شالت مع العقبان والرخم
تمضى الليالى وما يدرون عدتها
مالم تكن من ليالى الأشهر الحرم

أو يقول مصورا طمع النفس فى غفران الغفور :

يا نفس لا تقنطى من زلة عظمت
ان الكبائر فى الغفران كاللمم
لعل رحمة ربى حين يقسمها
تأتى على حسب العصيان فى القسم

لهم الله

كان طلاب المعاهد الابتدائية والمدارس الثانوية وكليات الجامعة الموجودة بالمعتقل يجتهدون فى استذكار دروسهم واستعدادهم للامتحان , ظنا منهم وأملا فى أن يفرج عنهم قبل الامتحان , أو أن يؤدوا الامتحان وهم فى المعتقل على أسوأ الفروض , وكان هذا بطبيعة الحال حقا من حقوقهم , وكان هذا أقل ما تقضى به العدالة والقوانين , ولكن جبروت الارهاب أبى عليهم هذا الحق اليسير , فعلم هؤلاء أن أمرا قد صدر بحرمانهم من الامتحان , فطويت الكتب وخابت الآمال .


السبت 7 مايو 1949 م

خيبة أمل

الشعب المسالم الهادىء ينعم اليوم بعطلة عيد الجلوس الملكى , اذ كان الأمس عطلة عادية , ولا شك أن فى الخارج أعلاما منصوبة وحفلات مقامة فرح معلنة , ولكن الذى هنا غير ذلك .. هنا " ترحيلة " الى " الطور " . هنا اقلاق للجنوب واثارة للمشاعر وتهييج للنفوس وتحريك للغضب والاشمئزاز ... لقد بات الذين يحسنون الظن يمنون من حولهم بأن " العرائض " التى رفعت الى القصر منذ أيام آثارها الكريمة اليوم , وجاء اليوم فجاءت معه " الترحيلة " المقلقة المثيرة , وكأن العرائض التى كتبها المعتقلون بمناسبة عيد الجلوس لم تصل , أو وصلت ولم تحظ بالقبول الكريم . وأخذ الضباط والجنود يحشرون اللحوم البشرية فى العربات الضخمة المكشوفة حشرا دونه حشر الحيوانات , ولا تسل عن الرهبة المصطنعة والشدة البادية والألفاظ الخشنة , ووقفنا نحن الباقين خلف الأسوار نرقب الزملاء الراحلين وهم يتركوننا فى صمت بليغ , وفجأة انطلق صوت الحاج حامد المصري يهتف فى نبرات تهز الجبال : الملك لله الأحد . واذا بالواقفين الصامتين يرددون الهتاف فيزلزلون المكان ومن وقفوا فيه . وحاول الجنود بوسائلهم المعروفة اسكت الحاج حامد المصري فما ازداد الا " جذبة روحية " فى هتافه : الملك لله الأحد . وظل يهتف والراحلون والماكثون يرددون , حتى توارت سيارات الراحليت عن الأنظار .. لقد ترقرقت من خلف منظارى الأسود قطرات دمع لو سألتنى عن سرها لما استطعت الجواب . ولقد كان من بين الراحلين اليوم شاب رياضى عملاق بشوش ضحوك , هو الأخ مصطفى أحمد جاد الله , وهو صاحب الفضل فى انشاء " نافورة " المعتقل , وله تفنن عجيب فى الحديث والفكاهة , والتعريض بأشياء يرمز اليها , فتفهم دون تصريح , فتثير الاعجاب والمرح , وقد قيل ان أباه كان من المتهمين فى حادث السردار , وكان صديقا للنقراشى , ومع ذلك لم يسلم من الاعتقال , وبينما ارتفع أصدقاء أبيه وزمرتهم الى ما ارتفعوا اليه , ظل مصطفى نسيا منسيا .

أين نحن من الدنيا ؟

نحن هنا لكمال انقطاعنا عن الحياة والأحياء لا نعرف كيف تمر الأيام , وفى بعض الأحيان يختلف اثنان منا فى أى الأيام نحن , فقد تشابهت الأيام , وانعدمت بيننا الفواصل المميزة للزمن , ولولا أننى أتابع الكتابة فى هذه بقول الشاعر وهو يخاطب حبيبته مع اختلاف الحالين :

نسيت بك الماضى , ولولا بقية
من الرشد تهدينى لأنسيت حاضرى

حراسنا أسارى

كنت جالسا بجوار النافورة قريبا من أسلاك المعسكر الشائكة , فجاء الضابط المؤمن الكبير الصاغ محمود بك لبيب . وجعل يحدثنى عذبا ساحرا عن ذكرياته فى حرب طرابلس , وعن اقامته فى ألمانيا , وعن عودته الى مصر , وعن جهود الضباط الشبان فى الجيل الماضى لخدمة الإسلام والوطن , فرجوته أن ينتهز أول فرصة لتسجيل هذه الذكريات وطبعها , لتبقى أثرا خالدا يعلم شباب الوطن كيف ينهضون بجلائل الأعمال .

وكان على مقربة منا جندى يحرسنا بسلاحه البادى , فأخذ الجندى يشكو الينا ما يلقاه هو وإخوانه فى هذا المنفى من غربة وشدة وتعب , فأجبته مهونا عليه : لا تحزن يا صاحبى , كلنا فى الهم شرق , والحارس والمحروس هنا فى الأسر سواء . فى الحق أننى آسى وأحزن وأتألم لهؤلاء المعذبين مثلنا فى الأرض , انهم يظلون وقوفا مدة طويلة حول السلاك فى الشمس والحر القاسى بلا وقاء , وبالأمس تحملوا أيضا برد الشتاء العنيف فى العراء , وكأنما رؤوسنا قد اصطلحوا على أن هؤلاء الجنود آلات صماء , لا تحس ولا تشعر , بل عليها أن تؤمر بالعمل فتطيع , دون شكوى أو أنين . ألا لعنة الله الملائكة والناس أجمعين على من يسلب حرا حريته , وعلى من يرى رجلا سلبت منه حريته وهو قادر على اعادتها اليه ثم لا يفعل ..


الأحد 8 مايو 1949 م

تقلبات الصحراء

ما أشد تقلبات الصحراء من ناحية الطقس , وما أكثر مفاجآت الجو فيها ,اننا نعيش على طرف الصحراء , لا فى وسطها ولا فى أعماقها , ومع ذلك نلحظ تقلباتها وتغيراتها المتباينة : حر ثم برد , ركود ثم اعصار , هدوء ثم ثورة , صفاء ثم غاشية , وأحيانا نتلمس نفحة من نسيم فلا نجدها , وأحيانا أخرى تعصف أعاصير ثائرة , يصحبها التراب والعثير , والدوى الشديد الذى تقعقع معه النوافذ والأبواب بشكل رهيب , ولقد ظللت على سبيل المثال أسمع أمس – طيلة الليل – دوى الريح وصخب الأعاصير بصوتها المرعب وههزيمها المخيف , وفى صلاة الفجر أحسسنا البرد الطاغى فتدثرنا فى الصلاة بأغطيتنا , وظللنا بعد ذلك نحس وطأة البرد الباغية , مع أننا فى شهر مايو , ولكننا ما كدنا ننغمر فى ضوء النهار حتى بدأ الجو صيفا قاسيا عنيفا ... يحدث لنا هذا مع أننا كما ذكرت على طرف الصحراء , فكيف بجوفها وأعماقها وأحشائها اذن ؟ وكيف لأهليها أن يقيموا بها وأن يقهروا طاغوتها ؟ ... حقا ما أوسع ما وهبه الخالق العظيم للانسان من حيل وقدر

كرام يضامون

جلس الى اليوم طائفة من خيار المعتقلين فيهم الطالب المفجوع فى دراسته , والموظف المفجوع فى وظيفته , وصاحب العمل الواسع المفجوع فى عمله , أذكر من هؤلاء مثلا الطالب الأديب عبد الرحمن محمد البنان , وهوشاب رقيق وسيم , تراه فتحسبه ربيب قصور وترف , وتخبره فتجده عنوانا للشبيبة المؤمنة التقية , لقد كان تلميذا بالثالثة الثانوية فى مدرسة بالقاهرة , ولكنه استجاب لداعى الجهاد فى فلسطين الشهيدة , التى تطالب بدمها فى أعناق الطغاة الذين اضاعوها , ثم كان جزاء عبد الرحمن المجاهد المضحى أن يحال بينه وبين دراسته , وأن يحرم والده وهو عزيزهما من رؤيته . ألا لعنة الله على الآثمين . وهذا هو الستاذ محمود أحمد المسلمانى , انه شعلة جد ونشاط داخل المعتقل , انه " اسعاف " عملى فى كثير من الجهات , فهو ينفق نهاره وجانبا من ليله فى اصطناع وسائل وضرورات الحياة , بفن عجيب وصبر جميل ... بورك فى أمثالك يا محمود . ثم هذا صمام الأمان وبلسم الحنان فى المعتقل ,الحاج محمد حلمي المنياوي , ان هذا الرجل كنز من كنوز الخير والبر , وهو يفيض بما لا يغيض فى كل مكان يحل به , وله ماض كريم فى نصرة الفكرة الإسلامية والعدالة الانسانية والقيم الأخلاقية . ولقد لاقى فى سبيل فكرته ما لاقى , أصدر مجلته " الفكر الجديد " , وكانت سراجا يهدى الى طريق الحق والصدق , فضاقت بها صدور الجبارين , فحيل بينها وبين الظهور , وبدت له آراء صريحة فى الدعوة ووسائلها , فكسبت من أجلها , عداوة الأصدقاء وتحامل الزملاء القدماء , ثم جاهد جهادا طيبا فى عمله التجارى ومطبعته الكبرى , وليس هذا فحسب , بل هناك ناحية الخير المستورة فى حياة الحاج حلمى المنياوى , فهناك مشكلات مادية عسيرة حلت , واختفت اليد التى حلتها وراء التواضع أو التناسى , ولكن الآثار الظواهر دلت على أنها يد هذا الرجل الصالح , وكم من ضائقين بعيشهم خلف الأسوار اتسع لهم هذا العيش بعد ضيق بكرم هذا الرجل – وكم وكم . وتجلس الى الحاج حلمى المنياوى , وأنت تحسبه رجل أعمال وتجارة واقتصاد , فما تكاد تجاذبه الحديث فى موضوع علمى او اجتماعى , حتى يسايرك ويساجلك , ويطلعك على جوانب ثقافته واطلاعه , وصائب رأيه وثاقب فكره , تثير الاعجاب . ايه أيتها الأسوار , كم خلفك من مواهب , وكم تصدين عن الفيضان من ينابيع وأنهار , وكم كان جديرا بهذه المواهب أن تواصل خدمتها فى سبيل الله والوطن , بدل ان تسام هذا الهوان ..


الاثنين 9 مايو سنة 1949 م

الصوم فى الصيف

أثر عن السلف أنهم كانوا يحبون الصوم فى الصيف , ويرحبون به ويصبرون عليه , وقد أصبح بعضنا اليوم صائمين , وأصارح بأنى لم أكن منهم , فان الصداع والارتخاء والظمأ أسرع الأشياء نحوى الآن , وكان الله لأولئك الصائمين اليوم ... هذا هو السعير , وهذا هو اللفح من أول النهار , فالحرارة شديدة , والهواء راكد لا يتنفس , والجو ملبد بغيوم تزيد المكان حرارة ةقسوة , والجلوس حول النافورة لا يجدى , والذباب جيوش لا تكف عن الزحف فى كل مكان وفى كل وقت , ومع ذلك فالصائمون أهدؤنا نفوسا وأقوانا صبرا وأقلنا شكوى , وهذا من دقيق السرار فى الصوم , فهو يعطى المرء مناعة ورزانة , وخاصة اذا كان صوما بنية وعقيدة قوية , وأما الذين يتخذون الصوم سببا لكل ضيق وسوء تصرف , فما لهم من صومهم الا الجوع والعطش , ولو كانت فى صدورهم أضواء من الايمان والاعتقاد والاخلاص لرأوا فى الصوم قائدا , ان أفقدهم البدن وشحوب اللون , فقد وهبهم العزيمة ويقظة الروح . ومن عجيب صنع الأقدار اليوم أن الجو ظل فى غاية الحرارة الى العشاء , وفجأة هبت عاصفة بتراب وغبار ورمال ودوامات , والويل للمكشوفين أمثالنا من عواصف الصحراء ... واكفهر الجو وقعقعت الأبواب والنوافذ , وسقطت الصفائح وتناثرت قطع الحديد والطوب والأحجار ومرت دقائق , اى والله القدير دقائق فقط , ثم هدأ الجو وصفا , ورق الهواء واعتدل , فسبحان مغير الأحوال ومقلب الأمور .


الثلاثاء 10 مايو 1949 م

المرأة فى المعتقل

الانسان بشر له عواطفه وغرائزه وجواذبه الترابية , وهو قد يفكر فى المرأة وفى الصلات الجنسية من حين الى حين , زوجا كان أو عزبا , ولكن العجيب الغريب هنا أن تلك الناحية منسية تماما , فالمرأة ليس لها ذكر فى الأذهان , وعواطف الجسد لا تجد لها هنا فى البيئة الصائمة القائمة العابدة الممتحنة مجالا تظهر فيه , ولقد عبر أحد المتزوجين هنا عن ذلك المعنى اجمل تعبير حين قال : لكأن الله قد مسح على ظهورنا , فمحا عاطفة الجنس من أجسادنا , وأنسانا فراش زوجاتنا , وهذا من لطيف صنع الله بنا . وان المتقين هنا ليتجاذبون اطراف الأحاديث متسامرين او متذكرين , فيطرقون كل موضوع , ويظل موضوع المرأة بعيدا غير مطروق و وما من جماعة تضم الألوان والأشكال الا وتجد فيها ثغرة من تلك الناحية , ولكن هذه الجماعة صانتها عقيدتها ومحنتها فظلت نائية عن هذه الثغرات .

الاحتكار وسوء الاستغلال

ان الطعام الذى يقدم الينا ردىء وقليل , ولابد من استخدام النقود للحصول على مقادير كافية من الطعام والفاكهة , والذين يسيطرون على البيع هنا يحتكرون ويسيئون الاستغلال , وهم يعاملون هؤلاء المعتقلين كأنهم قد حكم عليهم بالسجن الى الأبد , فلن يعودوا الى الحياة مرة أخرى , واذن فلا مانع من استنزاف أموالهم أو دمائهم بسرعة وعجلة .. تباع أقة اللحم هنا بخمسة وثلاثين قرشا , وهى فى الخارج بخمسة وعشرين , واقة السكر بعشرين قرشا وهى بسبعة قروش , ورطل الطماطم يباع بسبعة قروش , وهو بقرش واحد , وابريق الماء بعشرة قروش وهو لا يساوى قرشين , وطابع البريد بقرشين وهو بعشرة مليمات , والبرتقالة الصغيرة القديمة بقرشين وهى لا تساوى ثلاثة مليمات , وهكذا . والمؤلم ان يحدث هذا جهارا نهارا, والرعاة يرون , والظنون تتفشى . ولا حول ولا قوة الا بالله القادر وحده على اصلاح النفوس . وناهيك برداءة الطعام وخبثه ... جلست اليوم للغداء وتناولت قطعة اللحم الضئيلة المخصصة لى , فاذا هى منتنة الرائحة , فأبيتها وتقززت منها , وحملها أحد الطلاب مع بقية الفاسد من الطعام الى حضرة " الكونستابل " فلم يلق الى الموضوع بالا , وقال : ان ذلك من حرارة الجو فحسب ... وهو كذلك يا حضرة " الكونستابل " الهمام .. وكما قيل : اذا لم يكن ما تريد , فأرد ما يكون ... وما لا يمكن أن يدرك يمكن أن يترك .

تطاول الأقزام

من لوازم الاعتقال أن يطرح المرء عند بابه ما تعارف الناس عليه من القيم الاجتماعية والفروق الفردية , لأن الكل سيكونونو اخوة لا فرق بين صغير وكبير , ولا بين أستاذ وطالب , وقد فعلنا ذلك , ولكن النفس الكريمة على الرغم من هذا لا تفقد اصالتها وحسن أدبها ومعاملتها أبدا , وحينما ينزل الكبير عن حقه يظل الصغير – اذا كان قويم الاخلاق – محتفظا بهذا الحق , مهما نسيه صاحبه أو تناساه .

لاحظت أن أحد الطلاب يعامل أستاذه الكبير فى سنه ومنزلته معاملة الأنداد , فيتبسط معه فى الحديث , ويغمطه حقه من الاحترام , ويرفع صوته متعمدا على صوته , ويناديه كأنه ينادى أخا له فى سنه أو أصغر منه , فساءنى ذلك , لأنه يدل على ضعف النفس , ومن الواجب على الصغار اذا اقاموا مع الكبار ان يحفظوا للكبار حرمتهم مهما تواضع الكبار , لأن من تواضع يستحق التكريم مرتين , مرة لقيمته الذاتية , ومرة لنبل تواضعه , ولكن اين من يفهم ونحن فى بيئة شرقية لا ينال المرء فيها الاحترام الا اذا أحاط نفسه بهالة من الوقار والتحفظ والتعالى والاعتزاز , فاذا تبسط أو تواضع أو اختلط , تطاولت الأقزام عليه لتجعله قزما فتتساوى الرءوس , وهيهات هيهات .


الأربعاء 11 مايو سنة 1949 م

فرصة للتثقيف

يوجد بيننا فى المعتقل الخ الكريم والداعية الموفق الأستاذ محمد البهي الخولي , وهو من الدعائم الولى التى قامت عليها دعوة الإخوان , وهو أيضا زميل المرشد العام عليه الرضوان , وهو من الأساتذة المدرسين بالأزهر الشريف , وله اسلوبه القوى الجميل , وعبارته الحلوة الآسرة , وكتابه " تذكرة الدعاة " له مكانة ملحوظة فى اوساط الإخوان . وقد سرنى أن اعلم اليوم أن الستاذ البهى قد أخذ فى تنظيم دروس دينية يفسر فيها جانبا من القرآن الكريم , وقد سمعت الأستاذ عبد الحكيم عابدين يثنى كثيرا على عقل الأستاذ البهى وحسن فهمه لأسرار الآيات ودقائق اشارتها , وقرر الأستاذ عابدين فى تأكيد أنه يستفيد كثيرا من دروس البهى , وانما كان سرورى بتلك الدروس العلمية التثقيفية , لأننى أرى بيئة المعتقل لا تصلح لتشقيق الأحاديث أو عرض الآمال أو ترديد الصيحات العابرة التى لا تجدى الآن ولا تفيد . بل يجب أن ننتهز هذه البيئة وتلك الفرصة لتثقيف العقول وتنوير القلوب , وعقد الصلات العلمية الوثيقة بين هؤلاء وبين القرآن وثقاقته وحقائقه , ولغرس مبادىء العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص والفكر الإسلامى المصفى فى نفوس أولئك الشباب . فلتبارك يد الله العلى الأعلى هذا المجهود العلمى , فبأمثاله تتكون الرجال ذوو العقول .


الخميس 12 مايو سنة 1949 م

التظاهر بالتدين

قلت لنفسى حينما أتى المساء : فلأنم الليلة مبكرا , فانى متعب وأنا لا أنام بالنهار , وحوالى التاسعة والنصف , استلقيت على السرير التواضع طالبا النوم , ولكن من أين يأتى , والحركة الصاخبة لا تنقطع , والأحاديث العالية لا تمتنع , والأقدام المعربدة بفرقعات القباقيب على اسفلت الحجرة لا تهدأ ؟ . اذن أمرى الى الله , وبقيت مسهدا أتقلب , وطلقات الجنود الليلية تسامرنى أو تزيد فى قلقى , وفجأة أمطرت السماء بغزارة , وجعل المطر يحدث نقراته المخيفة على سطح الغرفة المكون من الصفيح , حتى خيل الى أن المعسكر سيتحطم كما تحطم أخ مجاور له بالأمس من فعل الرياح العاصفة . ومر الليل ثقيلا بطيئا , وجاء شخص يوقظ النائمين لصلاة الفجر فى ضجيج وعجيج وتحكم , فحسبت الليل الطويل قد انجلى , وسألته : هل أذن الفجر ؟ فأجاب : عما قريب . وانتظرت ثم انتظرت فلم يؤذن للفجر , ويذهب ذلك الموقظ ويجىء , وفرقعات قبقابه فى مشيته المهتزة المتخايلة تضايقنى , ونور المصباح يؤلمنى , والصلاة لا تقام الا بعد الأذان بربع ساعة حسب النظام المتفق عليه . ما أحوج الدعوة الى الله , والتذكير بواجباته , الى الحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب الهادىء الرشيد . ان بعض الناس يكرهون الناس فى الدين , بينما يتظاهرون بالدعوة اليه , وما ذلك الا لأنهم لا يحسنون الارشاد . لقد كنت أجد لصلاة الفجر لذة ةنشوة , ولكنى فقدتهما اليوم بسبب الأرق ... وبفضل ذلك الموقظ " اللطيف " هداه الله . وجاء بعض اخوتى فى وسط النهار بسلة كبيرةفيها ما لذ وطاب , واقتربوا بها من الأسلاك وأنا أشاهدهم من بعيد , ولا أستطيع الاقتراب منهم أو الحديث معهم , و" تطوع " جندى أمين فتعهد بتوصيل السلة الى , فسلموها اليه آمنين , ولكن الجندى الثقة أخذها لنفسه وانصرف , ولم لا يفعل ولا حول لى ولا قوة , وأنا داخل الأسوار وهو طليق , ولعل نشأته مثل عودته تلك " الأمانة " . غفر الله لك أيها الجندى , وهدى قومك لاحسان تنشئتك وتربيتك .


الجمعة 13 مايو سنة 1949 م

خطابان عزيزان

عندما وطئت أرض المعتقل فتش الضابط أمتعتى تفتيشا دقيقا , ومزق ما كان فيها من أوراق وقصاصات , ولكن خطابين عزيزين كانا فى بعض جيوبى أفلتا من شدته الشاذة , وقد عثرت عليهما اليوم فى طوايا الثياب وأنا أقلبها اعدادا لغسلها , والأول منهما أرسله الى أخى الأستاذ أحمد حسين عقب خطبتى عن " مصرع الحسين " يوم 18 فبراير سنة 1949 م , والثانى هو ردى على هذا الخطاب . والخطابان عندى عزيزان غاليان فلأسجلهما هنا للذكرى والتاريخ :

" القاهرة فى 20 فبراير سنة 1949 م . أخى العزيز الأستاذ أحمد الشرباصي . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد فقد استمعت اليك يوم الجمعة , واعجابى بك يزداد طبقة فطبقة , ودرجة فدرجة , حتى وصل الى أعلى عليين . حماك الله . هل أهنئك كما اعتدت أن أهنئك على أسلوبك الأدبى الفصيح , وبيانك الرائع , أم أهنئك على قوة خطابتك وجنانك الثابت الذى وصلت فيه الى الذروة , أم أهنئك على قوة الخلق , على الوفاء والشجاعة والغضب للحق . أشهد أنك رجل ممتاز , ولقد رحت أفكر فى المستقبل الزاهر الذى ينتظرك , ولقد أثارت خطبتك فى نفسى بعض معانى وملاحظات كم أحب أن نتحادث فيها سويا, على أستفيد منك ردا على أسئلتى الحائرة , فعسى أن نتمكن من أن نتلاقى لنتحدث قريبا , ولولا الزحام الشديد فى مسجدك , والذى هو آية نجاحك نجاحا منقطع النظير , خاصة وأن ثلاثة أرباع المصلين خلفك هم من الشباب المتعلم المثقف , أقول لولا هذا الزحام الشديد لما عدلت بالصلاة خلفك صلاة فى أى جامع آخر , وخلف أى امام آخر ... على اية حال سأسعى جهدى أن أصلى عندك فى يوم الجمعة كثيرا , فمثلك يستفيد الانسان من الصلاة معه فى أكثر من ناحية . ولطالما قلت لك انى أعتبرك أخا عزيزا , وانه ليسرنى أن أكرر ذلك اليوم , وأن أشد على يديك , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " . المخلص : أحمد حسين .

وهذا هو الرد بتاريخ 26 فبراير سنة 1949 م .

أخى الكبير المجاهد الوطنى الوثاب الأستاذ أحمد حسين : سلام الله عليك ورحمته , وبعد فقد منعنى سفر مفاجىء خلال الأسبوع الماضى من التمتع بتسلم خطابك الكريم الى فى ميعاده الموقوت , فمعذرة اذا جاءك ردى الآن يسعى على استحياء . أنا على ثقة قديمة من جميل اعتقادك وحسن ظنك فى شخصى الضعيف ومجهودى الضئيل , ولذلك لا أعجب ولا استغرب اذا سمعت منك أو قرأت لك كلمة تشجيع أو تقدير , ولكنى اصارحك القول بأنه كان لخطابك الأخير الى منزلة لا تعد منزلة , لأنه جاء فى ابانه , وفى وقت أحتاج فيه الى مثله , لأنه برهان عملى على أن الدنيا لم تخل بعد من الأحرار والأوفياء . لقد كنت أتكلم المرة الأخيرة وأنا أحسب أنى أخالفك فى الرأى والاتجاه , وكنت أتوقع منك محاورة أو مساءلة , ولكن مصافحتك القوية , وبسمتك العذبة , وضمتك القوية لى , وقبلاتك الأخوية التى غمرت بها وجهى عقيب حديثى , كل هذا جعلنى فة نشوة , وثقة بأن الكنانة لم تخل من قوم يقدرون آراء غيرهم وان خالفوها , ويحترمون حرية العقيدة وان كانوا يعتقدون سواها , وأقسم لك بالذى يعلم السر والنجوى , ما كنت أتكلم عن غرض أو تحيز , بل لأن واجبى كداعية يحتم على أن أتكلم , وكأن صوتا نادانى من الأعماق : هلم الى كلمة الحق , فان رسالتك أن تنطق بكلمة الحق . هذا ولعلنا نلتقى قريبا فنشفى للقلوب حاجات وحاجات . وسلام الله عليك ورحمته . أخوك : أحمد الشرباصي

الرأى العام هو المفتاح

خطب الأستاذ صالح عشماوي خطبة الجمعة اليوم فى مسجد المعتقل المتواضع , وكانت الخطبة تدور حول الرجاء والأمل وتوقع الخير , ولا شك أن هذا يناسب ما نحن فيه , وقد استلفت فكرى قوله : " اننا سنصل الى الحكم بارادة الشعب " . فكرت طويلا فيما تحتاج الأمة اليه الآن لانقاذها واسعادها , انها تحتاج الى العمل الصامت السليم فى ميدان الشعب لتثقيفه وتهذيبه , ومزجه بالفكرة الإسلامية , وطبعه على مبادئها روحيا وعلميا , وتكوين رأى عام اسلامى قوى فى الأمة , ويومئذ يزول الخلاف والشقاق , وتتحقق الوحدة والاتفاق , وينهض بالأمر أهلوه بلا مشاق .

فضل الزوجة

كان بعض الكبار من المعتقلين الذين لهم مكانة أدبية ملحوظة يغسل ملابسه فى دورة المياه وهو مجهد لا يحسن ذلك , فقال له أحد زملائه : اتعب وجرب حتى تعرف فضل الزوجة .. فأجاب : هذا حق يا صاحبى , فعمل المنزل لا تجيده الا المرأة , وهو يتعب الرجل , وكذلك عمل الرجل فى الخارج يرهق المرأة اذا زاولته .. قلت : أليس ذلك ايحاء بأن تنصرف المرأة الى شؤون المنزل وينصرف الرجل الى ميدانه ؟ . ولكن أين من يسمع ونحن فى دنيا النساء ؟ .


السبت 14 مايو سنة 1949 م

صبح جميل ولكن

استغرقت الليلة الماضية فى النوم رغم المؤرقات , ونهضت لصلاة الفجر متفتح القلب نشط الجسم , وتهجدت قليلا فى اشراق , وصليت فى استغراق , ولم لا وقد سلمت الليلة من ضجيج الأخ كمال حتة وفرقعة قبقابه , وخبطاته فى الأبواب وهو يوقظ النائمين , ولأول مرة منذ جئت هنا ذقت فى الصباح طعم الشاى الجميل , اذ كان الشاى االذى شربته فى الأيام الماضية رديئا , أما اليوم فقد أشرف على صنع الشاى الحاج حلمى المنياوى , وهو رجل خبرة واتقان , ثم خرجت الى النافورة فى ركن المعتقل , لأستنشق نسيم الصباح , وكان النسيم عليلا جميلا منعشا , كأنه يحيى موات الأشياء بعد رقاد الليل , وتمنيت لو استمر اليوم على صفوه وجماله , ولكنى متى سلمت الأيام للناس كما يشتهون ؟ . لقد اخذت المنغصات تقبل متتابعة , هذه أفواج من الرجال والسيدات والآنسات والأطفال يمرون خارج الأسوار الى معتقل اليهود المدللين المنعمين , بأيدى المصريين المسلمين واسفاه , ولا عجب فاليوم يوم السبت , وهو عيدهم الأسبوعى , وأما المعتقلون المصريون المسلمون فليس لهم مثل هذا التكريم ... أو تعرف وراء ذلك لونا من الشذوذ والهوان ؟ .لكنك نسيت يا هذا , ان عندنا أفواجا أيضا , ولكنها أفواج زائرين , كالتى لليهود المحظوظين , الذين تراهم يتمتعون بما يتمتعون , مما نحن منه محرومون , ثم يشمتون ويضحكون منا , بل هى أفواج المعتقلين الجدد , الذين يقبلون علينا كل يوم بالعشرات , فيضيق بهم المعتقل رغم اتساعه . وهذه ثالثة الأثافى ... كان الأخ فؤاد المنياوي مريضا بحمى شديدة , وطلب الدكتور مرارا فلم يستجب له أحد, وظل يتقلب على فراش المرض بلا علاج , وعين الادارة فى المعتقل ترى أو تسمع , ولكنها لا تفعل شيئا , وتضايق فؤاد فابتلع دبوسين فى ثورة الحمى , وقيل ان بعض المعتقلين نقل النبأ الى المشرفين فكان الجواب : فليبتلع سيفا ان شاء فما ذلك بنافعه , وعاود غؤاد رجاء " الكونستابل " الموجود , فى أن يحضر له الطبيب , وكان مسيحيا يسمى " ابراهيم " فلم يفعل حضرة " الكونستابل " شيئا , فما كان من فؤاد الا أن هب من نومه وهو محموم واتجه الى " الكونستابل " واشترك معه فى عراك استمر قليلا , ثم فضه الإخوان , وعاد فؤاد الى فراشه بلا نتيجة . يا ملائكة الرحمة , يا من أقسمتم أن تكونوا أوفياء عند المحنة , مخلصين للمهنة , أين أنتم ؟ وأين أنت يا حكومة فى البلد ؟ ...


الأحد 15 مايو سنة 1949 م

قلب المؤمن

حقا ان قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء . ما اسرع ما يحزن المرء هنا , وما أسرع فرحته كذلك . تعرض له الذكرى والأحوال السيئة فيألم , ثم يعرض له الأمل فيهدأ , ثم تأتيه المواساة من الآخرين أو فى غمرة الاجتماع فينسى وينخرط مع الجماعة . ما أحكم الانسان لو انه حاول حين ضيقه أن يحتال للخروج منه والقضاء عليه , واذا جاءته الفرحة استقبلها وتمتع بها , ولم يفسدها بتذكر الأحزان وخشية التغير , ولكن الواقع أن فى الكون خلقا اذا لم تأتهم المخاوف , سعوا اليها وأتعبوا أنفسهم فى الحصول عليها , ولله فى خلقه شؤون .


الاثنين 16 مايو سنة 1949 م

وما ذنب هؤلاء ؟

ساءنى ان أرى اليوم بين " ضيوف " المعتقل الجدد كثيرا من فقراء العمال والصناع حفاة الأقدام , بثياب ممزقة , وتلوح عليهم الحاجة الملحة , فساءلت نفسى : وما ذنب هؤلاء حتى يساقوا هذا المساق , وما لهم فى الأمر كله ناقة ولا جمل , وليسوا فى العير ولا فى النفير , وقد تكون وراءهم اسر وعائلات فقدت الآن مورد رزقها باعتقال رجلها وعائلها , اذ كان يحصل هذا الرزق يوما بيوم , فليس له رصيد فى المصارف ولا عقار فى الوادى العريض كما هو الشأن عند جبابرة المالكين أو سماسرة الحاكمين . لم نملك لهؤلاء الا أن قاسمناهم طعامنا ومدخراتنا من تافه الأشياء وضرورى الحاجات .

وحشية التجويع

الجوع كافر , والجائع لا عقل له , والمجوع لغيره مجرم بلا جدال , وحسبى هنا أن أقتصر على ما يلى : مرت الساعة العاشرة صباحا , ولم يحضر الافطار للمعتقلين , ثم حضر , ومرت الساعة الخامسة ولم يحضر الغداء , ومرت الساعة العاشرة ولم يحضر العشاء , فماذا نصنع ؟ بل ماذا نملك ؟ فلننم والأمر لله. " ان ننم يوما فعين الله يقظى لن تناما "


الثلاثاء 17 مايو 1949 م

ما أعزها من " خيارة"

وافرحتاه . لقد حصلت اليوم على " خيارة " فعددتها غنيمة .. ولم لا ؟ .. لقد فسدت معدتى من أكل الجبن الردىء , والبيض الفاسد فى كل يوم , فى الصباح والمساء , ونحن فى الصيف , ولا فاكهة ولا خضروات , مع أن أجسامنا فى اشد الحاجة اليها , ولكن من السذاجة يا هذا أن تتحدث عما تحتاج , فأنت قد وقعت فى حبال قوم يمنعونك مما تحتاج اليه ولو تيسر لهم , ويضايقونك بما لا تريد , ولو تعبوا فى احضاره , واذا كانت الصلة بين الراعى والرعية هى صلة العداء والمخاصمة فقد حل البلاء ..

أدركنا يا رئيس الوزراء

أدركنا يا رئيس الوزراء , أدركنا يا دولة الحاكم العسكرى , أدركنا يا راعى الرعية , أدركنا يا حامل أمانة الأمة فانك عنها مسئول , أدركنا وأنقذنا من الذباب المتكاثر المتوحش الابد المستبد , الذى يكاد يمشى علينا , والذى يأكل منا , وينشر بيننا الأمراض والعلل , وأنقذنا من الذباب المزاحم لنا فى كل مكان , من الصديق الصدوق اللدود , بل العدو الألد , ولكن أين رئيس الوزراء ؟

مقوض الأمم

لقد شاع الترف فى مصر وخاصة فى صفوف الكبراء والعظماء , الذين يجب عليهم أكثر من غيرهم أن يضربوا القدوة الصالحة والمثل الأعلى فى الرجولة والاعتدال , ولقد شهدت جنبات الوادى مساخر ومهازل من هذا القبيل تندى لها جباه الأحرار , وتتقطع منه قلوب الذين يغارون , ومن يدرى لعل فى الأمة المكلومة المصابة فى أعز بنيها الآن من ينصب خلف الستار أسواقا للخمر والنساء , والقصف والعزف , بينما يحترق بنيران الاضطهاد , والتشريد والتعذيب , صفوة شباب الأمة وخيرة بنيها , ولقد كنت أطالع اليوم فى كتاب " الشاعر الطموح " للجارم , فوجدته يصف مجلسا من مجالس أحمد بن نصير وزير سيف الدولة على لسان المتنبى فيقول : " ورايت كثيرا من قواد الجيش وأدعياء الشعر والأدب فى هذه المدينة , رأيتهم وقد لعبت الخمر برءوسهم جميعا , فذهب عنهم العقل , وطار منهم الحياء , وكان السقاة يطوفون بالأكواب , فما مروا برجل الا أفرغ كؤوسهم فى بطنه , وشرب شرب الهيم , وكانت الجوارى الروميات , وهن فى أجمل زينتهن , يرسلن شباكهن لصيد القلوب واثارة النزوات , بين غمزة ساحرة , وبسمة فاتنة , وانثناء لعطف , واهتزاز لنهد , وقبلات ترسل بالأكف , واشارات تعبث بالعقول , وهمسات أثيمات , وذعر مصطنع , واستنكار مبتدع , ودلال ينسى الرجل عرضه , واغراء يوقظ الفتنة النائمة , وقرب فى تباعد , وتباعد فى قرب , وغضب فى طيه رضا , ورضا فى غضونه غضب , وقامت بين القوم راقصة تكاد تكون متجردة , فذهبت بالبقية من عقولهم , وأخذت ما تركه الخمر فيهم ... " قرأت هذا فقلت : ما أشبه الليلة بالبارحة . ان هذا الفجور هو الذى طوح بالدولة العباسية , وأضاع ملكها العريض , وجعل الإسلام يتقلص ظله عن أهله , حتى طمع فيهم أعداؤهم , وجعلوهم فى الكون كالحلم المبدد ..

ميراث قديم

نحن نعيش الآن فى عهد لئيم , كله فتنة وايقاع , وسعاية ورشاية , وكأنما بعث الحجاج من قبره , وضاعف بغيه وطغيانه , فهو يأخذ بالشبهة ويقتل بالظنة , ويسرف فى التطاول والطغيان , ويلوح لى أن النميمة ميراث قديم فى هذا الشعب , يتلقاه الأسافل صاغرا عن صاغر , وهأنذا أطالع فى كتاب " الشاعر الطموح " السالف الذكر نصيحة صالح بن رشدين الشاعر المصرى لأبى الطيب المتنبى , حينما نزل المتنبى مصر , فيقول له : " واحذر من تخاطب ومن تعاشر فى هذا البلد " مصر " . ان العيون هنا تنبث فى كل مكان , والجواسيس ينفذون اليه الهواء , احذر أبا الطيب , فان أصحاب الأخبار فى هذه الدولة هم المصرفون للأقدار , ولهم مناهج يعجز ابليس اللعين عن انتهاجها , يأتون اليك مرة فى صورة الناصح – ثم ضحك وقال : وأخشى أن تعدنى منهم – ومرة يشتكون اليك جور الحكام , وأخرى يمدحون أمامك من لا يستحق المدح , فاحذرهم يا أبا الطيب , وانصرف عنهم فى هوادة ولطف " لطفك اللهم , ان كل هذا يحدث فى مصر اليوم , ويحدث أضعافه وأضعافه , بين أمة دينها واحد , ووطنها واحد , وآلامها واحدة , وآمالها واحدة , ونحن نسمع كل آن عن فنون الفضيلة والخلق قد أتت عليها الوشاية والسعاية والتجسس من الأساس , ولا حول ولا قوة الا بالله , ولعنة القهار الجبار على أولئك الذين أفسدوا الضمائر بالمال وبالرهبة وبالرغبة , وبغير ذلك من وسائل الشيطان .


الأربعاء 18 مايو 1949 م

" فتوة " تهديه الدعوة

وصل الينا من الطور الحاج إبراهيم كروم .. يا له من اسم يزلزل القلوب ويثير المخاوف . لقد كان إبراهيم كروم أكبر " فتوة فى السبتية , وكان الجميع يرهبه ويخافه , وكان صاحب رقم قياسى فى المعارك والحوادث والقضايا , وطالما سدد قذائف وتلقى قذائف , وقضى فى مختلف السجون القاسية الشاقة مراحل ومراحل , ثم اهتدى العملاق وتاب , ورجع عن الشر وثاب , وألف المصحف والمسجد والعبادة , وكفر عن ماضيه بجميل أياديه فى حاضره ... لقد هدته الدعوة وانتزعه المرشد العام ببراعته واخلاصه من ميدان الشقاء , واكتسبه جنديا قويا لدعوة السماء . والحاج كروم لا يكتم ذلك ولا ينكره , بل يردده ويفخر به , ويحمد الله على أن هداد سواء السبيل , قبل أن يدركه الموت وهو على ما كان فيه . كم تصنع الهداية اذا حلت فى القلوب ؟ . انها تلين الحديد وتقرب البعيد وتصنع الأعاجيب ...

طفلة داخل السوار

شاهدت اليوم الأستاذ محمود الخضري وهو يتناول ابنته الصغيرة التى لم تتجاوز الثانية من عمرها , من يدى جندى أقبل يحملها , وجعل الأستاذ الخضرى يضم الطفلة ويغمرها بقبلاته فى حنان طاغ , وبعد دقائق أخذها الجندى منه ورجع بها الى المحطة القريبة من المعتقل , واستطاعت بفضل " اليد العليا " التى تفيض على " اليد السفلى " أن تجعل الجندى يجسر على حمل الطفلة الى والدها .. وفى سبيل المال يجوز المحال .. يا الهى , كم يشقى الآباء فى سبيل الأبناء .

يا هادى الطريق جرت

عاد الى هاكستب بعض الذين كانوا فى الطور , وولاة الأمور مولعون الآن بتعذيب المعتقلين واقلاقهم عن طريق الاكثار من نقلهم هنا وهناك بلا سبب مذكور , وقد سمعت من بعض هؤلاء العائدين أن أحد المعتقلين قد أخذ معه من هاكستب الى الطور وسادة من الوسائد القديمة البالية التى منت بها علينا ادارة المعتقل , وذلك ليستعملها هناك , حيث لا يوجد وسائد , فما كان من ولاة الأمور هناك الا أن انتزعوها منه , ووجهوا اليه تهمة سرقة مال من أموال الدولة , واختلاس شىء عسكرى , ووضعوا الوسادة فى حرز , وشرعوا فى محاكمة " السارق " , والسارق والمسروق داخل الأسر والاعتقال . لكأن فى الدولة من يغيظه أن يرى الناس أطهارا أبرارا فيعمل جهده ليرغم على الاتسام بسمات المجرمين , وهكذا يكون هادى الطريق أول من يجور , وأول من يدفع الطيور البريئة لتكون نسورا فاتكة ... فيا ولاة الأمر فينا , تداركوا الاناء قبل أن يفيض .

من مفاخر الإسلام

كنا جلوسا عند النافورة فى الأصيل , وكان تلميذ يطالع فى كتاب , فسمعنا منه القصة التالية : " شكت امرأة ضعيفة الى عمر بن الخطاب عامله على مصر عمرو بن العاص , لأنه أخذ منها قطعة أرض الى جوار مسجده , ليستطيع أن يقيم البناء معتدلا , فكتب اليه عمر : نحن أولى بالعدل من كسرى يا عمرو . وذلك أن كسرى لما هم ببناء ايوانه أراد عماله أن يغتصبوا قطعة أرض من أصحابها ليكون الايوان مربعا , فرفض كسرى وقال : لأن يقال ان ايوانى معوج . خير من أن يقال كسرى ظلم ... فهدم عمرو مسجده وأعاد بناءه مرة أخرى , بعد أن رد الى المرأة الضعيفة – وكانت قبطية – ارضها " وكان الصاغ محمود لبيب بين الجالسين فقال : ان هذه القصة ترجمت الى الألمانية , وهى مشهورة فى ألمانيا , والسبب فى ذلك أنه توجد ضاحية بجوار برلين تسمى " بو تسدام " وقد أراد الملك فردريك ملك بروسيا أن يقيم فى هذه الضاحية مقبرة لملوك ألمانيا , وكان فى المكان المختار لبناء المقبرة طاحونة هوائية لطحان فقير , فأراد فردريك ان يأخذ مكان الطاحونة ليدخله فى المقبرة فرفض صاحبها , فهدده فردريك بانتزاعها منه بالقوة , وأرسل اليه من يخبره بذلك , فقال الطحان للرسول : ان فردريك لا يستطيع ذلك , لأن برلين فيها قانون . فسر فردريك من شجاعة الطحان وكافأه , وأبقى الطاحونة ولا تزال باقية , رمزا واشارة الى احترام القانون فى ألمانيا . وقد ترجم المستشرقون قصة عمر مع عمرو , وقارنوها بقصة طاحونة بوتسدام , فظهر بذلك للأوربيين أن المسلمين عرفوا العدالة قبل أوربا بقرون وقرون ..


الخميس 19 مايو سنة 1949 م

أين حقوقنا ؟

منذ اربعة أيام لم يحضر لنا الشاى المقرر , ولا اللبن ولا الفاكهة , مع أن هذه حقوقنا باسم القانون وباسم نظام الدولة , فأين ذهبت هذه الأشياء , وبأى سلطان ضاعت ؟ . قد نكون قادرين على الاستغناء عنها , وكم نلاقى من محن يخف بجوارها هذا الاهمال , ولكن يجب أن نسأل : أين ذهبت هذه الحقوق ؟ ألا من رقيب ؟ واليوم تأخر الغداء جدا , جاء الخبز بعد الرابعة مساء , وكنا فى شدة الجوع , فأكلنا ما بين أيدينا , ثم جاء الأرز والبقل فى السادسة مساء , فرفضه الصحاب . لمن نشكو ؟ . ان المتعهد يهمل ويهمل ويهمل , ولا رقيب يدقق فى الملاحظة والحساب , فليت لولاة الأمور عينا .


الجمعة 20 مايو سنة 1949 م

ضحية تشابه الأسماء

بين المعتقلين الأستاذ محمود ضياء نصر الدين حمودة المدرس بمدرسة الخديوى اسماعيل الثانوية , والسبب فى اعتقاله أن اسم " ضياء " ورد على لسان أحد المتهمين فى احدى القضايا , واذن فليعتقل الحاكمون بأمرهم كل من كان اسمه ضياء , وعلى العدالة والتبصر العفاء . والغريب فى أمر الأستاذ محمود أنه حيى خجول أكثر من اللازم – مع أنه ملاكم – وصوته خافض , ومشيته رزينة , وعبارته مؤدبة خاشعة , وكنت أظن ذلك تكلفا , ولكنى أدركت أنه على ذلك من زمن بعيد . من يدرى , لعل شهوده لمصرع العدالة أكسبه ذلك الصمت الحزين .

خشية الله

قرأت اليوم للرافعى فى وحى القلم هذه العبارة : " أكبر أغراض الإسلام هو أن يجعل خشية الله تعالى قانون وجود الانسان على الأرض , فمن أى عطفيه التفت هذا الانسان وجد على يمنته ويسرته ملكين من ملائكة الله يكتبان أعماله بخيرها وشرها , فهو كالمستراب به فى سياسة النفس , لا يمشى خطوة الا بين جاسوسين يحصيان عليه حتى أسباب المنية , ويجمعان حتى نزوات الكبد , ويترجمان عنه حتى معانى النظر " . هذا معنى جميل وتصوير لطيف , فيه توجيه وارشاد , وما أحوجنا اليوم الى هذا الضمير , يقودنا قبل أن يقودنا السلطان , ولكن كيف السبيل , وكلما هبت ريح لدولة الروح والتقوى , عصفت بها الأعاصير الأثيمة , فأحالت دنياها الى عثير وغيوم ؟

بناة الحياة

كنت جالسا فى ندوة النافورة أفكر فى هؤلاء المعتقلين الذين أحوجتهم العزلة والحاجة وهضم الحقوق الأولية الى القيام بكل شىء , بالطهى والغسل والكنس والمسح والزرع , وصنع النافورات والسخانات والصنابير والمناضد والرفوف , والذين أحالوا صحراء المعسكر الى خلية حية نابضة , وفجأة أقبل علينا الأستاذ مصطفى البساطي ,وفى يده كتاب , وأخذ يقرأ فيه , فكان من عجيب الاتفاق أن يطالع ما يلى : " ولعلك سمعت قصة ذلك البحار الجرىء " روبنسن كروزو " الذى تحطمت سفينته قرب شواطىء أمريكا الجنوبية , فعلق بلوح من الخشب , وجعل يصارع الموت ويغالبه , حتى استطاع بعد جهد أن يصل الى شاطىء لحدى الجزائر التى لم تطأها قدم انسان قبله ... وأخذ يعمل فى جد ونشاط , حتى عن كثب منها جدول ماء عذب , فعول على البقاء بقربها , وأخذ يعمل فى حد ونشاط , حتى بنى كوخا جميلا , حوله سور من أغصان الشجار التى اقتطعها من غابات الجزيرة , ليحميه من هجمات الوحوش الضارية فى أثناء الليل , وصنع لنفسه مقعدا يجلس عليه , ونضدا يضع عليه الطعام , وصحافا مختلفة الأشكال , اتخذها من جذوع الأشجار , كما أعد لنفسه حشية ينام عليها , وصنع مغزلا ومنسجا عليه ثيابه , واقتطع من الحجارة طاحونة يطحن عليها الحبوب التى استنبتها فى تلك الجزيرة , وأخيرا أعد لنفسه زورقا كبيرا كيما يركبه ويعود به الى وطنه , بعد أن عاش فى تلك الجزيرة زمنا طويلا بمفرده , أعد فيه لنفسه كل ما احتاج اليه " واعترض بعض الحاضرين بأنه كان يجب على المؤلف أن يستشهد بمواقف عربية وشخصيات اسلامية بدل هذا الزاد الغربى , وهنا طفر الى الذهن مواقف الشدة فى غزوة " تبوك " , وفى غزوة " الطائف " , وفى غيرها من الغزوات , فأدركنا أن الشدائد هى التى تصنع الرجال , وأن الحاجة هى التى تبرز الدفائن من كنوز العقول . وبعد ذلك انتقل الحديث الى المضحكات من أسباب الاعتقال , فهذا قد اعتقلوه لأنهم " ضبطوا " معه مصحفا , وذلك اعتقلوه لأنهم وجدوا فى مكتبه " سجادة " وذلك اعتقلوه لأنه قد ظهرت له علامة صلاة فى جبهته , وذلك لأنه يحتفظ بمجموعة مجلات اسلامية, وذلك لأنه أطلق لحيته , وذلك لأنه يحمل سواكا ومسبحة , الى آخر ما هناك ..

عامل بلا رصيد

جلس معى اليوم عامل معتقل , وأخذ يبكى حالته , فقال انه ترك أسرته الكبيرة بلا عائل وبلا رزق , قلت له : ما هى صناعتك ؟ فأجاب : انى ميكانيكى . قلت : كم كان أجرك ؟ فقال : خمسة وسبعين قرشا فى اليوم . قلت : ألم توفر من ذلك شيئا ؟ قال : لا , بل كنت أنفق كل ما أكسبه . فأسفت لهذا الخلل فى التصرف , ثم سألته : كم كان أجرك أثناء الحرب ؟ فأجاب : كان مائة وخمسة وعشرين قرشا فى اليوم . قلت له : كم ظللت على هذه الحال ؟ . قال : خمس سنوات . قلت : ألم توفر شيئا فيها ؟ قال : لا . فازداد أسفى , وقلت فى نفسى : أفما كان يجب على الدولة أن تضع من النظم ما يوجب به على مثل هذا أن يدخر من رزقه أثناء عمله لينفعه حين البطالة ؟ ولكن أين من يفكر فى اصلاح الفرد أو الجماعة , والحياة قد صارت مسبعة , وهم كل من فيها أن يفوز بنصيب الأسد ويلوذ بالفرار ؟

مهزلة الاستحمام

اردت اليوم أن أستحم فكانت مهزلة مضحكة . حاولت ذلك قبل صلاة الجمعة فلم يتيسر لى , لتكاثر حوالى مائة وعشرين معتقلا فى جناحنا على أربعة حمامات مكشوفة بلا أبواب , فانتظرت حتى قضيت الصلاة , وبعد الساعة الواحدة أخذت ملابسى وذهبت فدخلت الحمام , بعد أن وضعت على فاتحته قطعة من الصفيح تسترنى حتى الصدر واستنجدت بماء الثجاج " الدش " فنزلت قطرات بطيئة بلت رأسى ثم انقطع الماء , واستنجدت بلا منجد, فلبست ثيابى مضطرا , وانتظرت الى الخامسة مساء , وعدت الى الحمام , ولكن الصنبور مصر على الشح بمائه , وكأنه جندى لواء الارهاب والتعذيب , ثم أخذ يجود بقطراته فى تمنع و اباء , وبعد ساعة ونصف خرجت بعد أن " مر " الماء على جسمى , وكأننى عثرت على كنز ثمين .


السبت 21 مايو 1949 م

هاتف فى السحر

استيقظت قبل الفجر وظللت مستلقيا فوق السرير , حتى أسمع النداء المبكر للاستعداد للصلاة , وفجأة سمعت صوتا نديا رقيقا عذبا يردد :

يا نائما مستغرقا فى المنام
قم واذكر الحى الذى لا ينام
مولاك يدعوك الى ذكره
وأنت مشغول بضيب المنام

ثم جعل الصوت ينادى فى روحانية وصفاء " الصلاة الصلاة , الصلاة خير من النوم " فاذا بى أردد فى راحة واستجابة " صدقت وبررت " ونهضت وأنا أتساءل : صوت من هذا ؟ ثم عرفت أنه صوت الحاج محمد حلمي المنياوي ... ليت بقية الموقظين يتبعون هذا الأسلوب الحكيم فى ايقاظ النائمين , وليت الأخ كمال حتة يلتقى بالحاج حلمى ليأخذ عنه هذا الدرس , لأن شبيبة كمال تدعوه الى الشدة فى الايقاظ , والأمزجة مختلفة , والراحة مفقودة , والنوم مضطرب , وليس الجميع فى نشاط كمال وصحته وقدرته على الاحتمال .

متى نخرج ؟

لا أكتم أن القوم هنا يتمنون الخروج , ويترقبون الافراج , ويفسحون الامال والامانى , ويستخرجون أوسع التفسيرات والاستنتاجات من أتفه الأشياء والأخبار والحوادث , وأكاد أجزم بأننا لن نخرج من هنا الا اذا يئسنا من الخروج , وقنطنا تماما مما فى أيدى الناس , ووثقنا كل الثقة بما فى يد الله , فهو على كل شىء قدير ...

سنوات سود

مرت بخاطرى ذكريات الحوادث خلال السنوات القليلة الأخيرة , فاذا هى سنوات عجاف , كلها تشقق وتفرق , وتقاطع وتدابر , وحرص على المنافع الشخصية والمصالح الفردية , وتضييع للحقوق الوطنية والآمال القومية والمبادىء الإسلامية , وكلب من المتزعمين على الحكم , وسوء استغلال للولاية , وتنكيل بالأبرار والأخيار , وأحداث مزلزلة عن اليمين والشمال , ومهازل بالعشرات أو بالمئات , وتذكرت على سبيل المثال الأحداث التالية : مهزلة المفاوضات ما بين قطع ووصل , ومأساة فلسطين , وضرب الشيخ أبى العيون فى الأزهر بأيدى الشرطة , ومصرع أحمد ماهر , وحركات النسف والاغتيال , وانتشار الفتن والاشاعات , وحل الإخوان المسلمين , ومصرع النقراشى , ومصرع حسن البنا , واختلاسات الوزارات , واضراب ضباط البوليس , واضراب الطلاب , والتفكير فى قانون " المشبوهين السياسين " , ومصرع سليم زكي والخازندار وأمين عثمان , والاعتداء على النحاس فى الشوارع وفى منزله , واصدار قانون احراز الأسلحة والفرقعات , واتهام الكثيرين بمحاولة قلب نظام الحكم أو التمرد على الملكية أو تغيير الدستور المصرى , والاتهامات الموجهة الى عزيز المصرى ورفاقه , والأوضاع المستحدثة فى السودان , ومآسى التعذيب والاضطهاد , والاعتداء البربرى على الأعراض والحرمات , والضحايا التى سقطت فى فلسطين من الجنود المتطوعين , ومآسى المعتقلات والسجون ...و ... و...ياالهى , ان الصداع برأسى , وأكاد أختنق , فلعنة الله على المجرمين ,,, ان التاريخ سيقول غدا كلمته عن هذه السنوات , وعن جلاديها وطواغيتها . ولن يضيع بين قانون الأرض وقانون السماء .

وفاء فى موطن مشهود

طفر الى ذهنى اليوم الموقف التاريخى الرائع : لما انتقل المتنبى من الشام الى مصر , وأصبح لظروف قاسية مرغما على مدح كافور الاخشيدى , العبد البليد الذى كان يهزأ به الناس , أو يسخرون منه حينما يلقبونه : " مولانا المتنبى " , كان المتنبى ينظم القصائد ذوات اللونين المتناقضين , وينشدها فى حضرة كافور , موهما اياه ومن حوله أنه يتغنى بمحامد كافور , وهو فى الواقع يهزأ به ويتندر عليه , ولكن " مولانا الأستاذ " الغبى لا يفهم , وذلك مثل قول المتنبى يخاطب كافورا :

وما طربى لما رأيتك بدعة
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب

وقوله :

ولله سر فى علاك , وانما
كلام العدا ضرب من الهذيان

وحدث أن كان لكافور العبد المتسلط عدو جبار فى دمشق اسمه شبيب العقيلى , وكان هذا العدو يتهدد ملك كافور , ولم يستطع العبد المالك أن ينازله منازلة الأقران للأقران , فبعث اليه تحت ظلام اللؤم وفى ستار الخسة برجل اسمه الحارث التميمى , ومعه زجاجة سم , ليدس لشبيب السم فى الطعام . واتفق كافور مع الحارث على أن يتظاهر الحارث بالانضمام الى جيش شبيب , ويظهر من الحماسة والاخلاص لشبيب ما يجعله أثيرا لديه حبيبا عنده , وقد توصل الحارس الى اتمام المكيدة , ولما بلغ نبأ موت شبيب الى كافور فرح واستبشر , وابتهج وسر , شأن الأوغاد والسفهاء , وأعلن البشرى فى البلاد , وأقام لذلك احتفالا كبيرا حضره كما يقول المؤرخون الوزراء والقواد والعلماء والأدباء والأعيان , وكلف المتنبى بأن يلقى فى هذا الاحتفال قصيدة يهنىء بها كافورا , ويعلن فيها شبيبا بكل سبة , فقد مات . ولكن المتنبى ذا الرجولة المتوثبة , والبطولة البادية , والعزيمة الظاهرة , أنف أن يتابع القوم فى لؤمهم , بل أعد قصيدة ظاهرها تهنئة لكافور , وباطنها تنديد بفعلته الشنعاء وعورته البلقاء , وبلغ المتنبى غاية الصدق , فى الوفاء والغضب للشجاعة , حين ثار ثورة المحموم , وغضب غضبة المكلوم , فقال :

برغم شبيب فارق السيف كفه
وكانا على العلات يصحبان

كأن رقاب الناس قالت لسيفه : رفيقك قيسى وأنت يمانى

فان يك انسانا مضى لسبيله
فان المنايا غاية الحيوان
وما كان الا النار فى كل موضع
تثير غبارا فى مكان دخان
===له الله ===

سمعنا ونحن فى الصلاة مريضا يصرخ ويتأوه , ويصيح بصوت مزلزل : " يا الله , يا الله , يا الله " فى نبرات تمزق القلوب , فأين الأيدى الرحيمة , أو الفرش الممهد , أو الدواء العاجل ؟ له الله. لقد ترقرق الدمع فى عينى الأستاذ محمود البراوي من هذا الحادث . ولا عجب فالأستاذ البراوى شفيق . ولقد اشتد الزحام فى المعتقل , حتى صار الزملاء ينامون على الأرض فى المصلى بلا حشايا , فأين القانون ؟ وأين الرقيب ؟


الأربعاء 25 مايو سنة 1949 م

متعالم

هذا رجل أمى جاهل بحقائق الدين , ولكنه يأبى الا يكون واعظا وموجها , ولم لا وقد وهبه الله صوتا يذكر بآية فى سورة لقمان , فهو يرفع عقيرته فى أنكر الأصوات , متظاهرا بالتذكير بالصلاة , ويتهجم على الأذان والاقامة , وهو لا يحسنهما , ويعلم غيره كيف يكون التسبيح والصلاة على الرسول , ويتجارأ على من يحسبهم مثله أميين . وفيهم علماء ومثقفون , ولكنهم فى ثيابهم المهلهلة داخل الاعتقال مجهولون .

تلقى القرآن

ألاحظ شغفا باديا من التلاميذ والطلاب الجامعيين بقراءة القرآن الكريم , وحفظ ما يمكنهم حفظه منه , ولكنهم يتعثرون فى القراءة ويلحنون , لصعوبة كتابة المصحف الخاصة , ولكثرة رموزها واصطلاحتها , ولعدم معرفتهم بالتجويد , وانه لمن الواجب لكى يصحح البادىء ترتيله للقرآن , أن يتلقاه ويتلقنه ممن يتقن قراءته وترتيله , وهذا أمر يجب أن يتنبه له المشتغلون بالفكرة الإسلامية , الداعون اليها فى أوساط أولئك الشباب .


الخميس 26 مايو سنة 1949 م

ألسنا مواطنين ؟

حدثت اليوم رنة أسف وهزة حزن فى المعتقل , لقد سقط أحد الزملاء وهو يؤدى فريضة المغرب اليوم اعياء , وقيل انه مصاب بنوبة قلبية حادة , ولم يجد الزملاء له الا كلمات المواساة .. أيراد لنا الموت هنا قبل الأوان ؟ . ألسنا مواطنين يا بنى الانسان ؟


الجمعة 27 مايو سنة 1949 م

بين أمس واليوم

خطب الأستاذ محمد فريد عبد الخالق خطبة الجمعة اليوم , وهو خطيب موهوب يتدفق , وكانت خطبته عن الصبر والاحتمال واليقين والايمان , وأخذ يقارن بين حالنا وحال السابقين من جماعة المسلمين , ويبين أن التاريخ يعيد نفسه ... ويخيل الى أن هناك فارقا بين الماضى والحاضر , فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يحارب كفارا مشركين , ولكن المعركة اليوم بين مؤمنين وفاسقين , ومهما اشتد أمر الفاسقين فهم لم يلحقوا بعد بأولئك المشركين .

لا تقرضوا لحم أخيكم

جلس جماعة يتحدثون عن الأستاذ أحمد حسن الباقورى , ويقولون انه كان عضوا فى مكتب الارشاد , وكان ظاهرا فى الجماعة , وكان يكتب ويخطب , ويفكر ويدبر , فلماذا لم يعتقل مع أن كثيرين من الأبرياء ليسوا من الإخوان قد اعتقلوا , وأسرع أحد الجالسين بالجواب فقال : لعل مصاهرته للشيخ دراز أنجته , أو لعل صداقته لإبراهيم عبد الهادي أفادته .. وخرجت من صمتى وقلت غاضبا : يا سادة , لا تقرضوا لحم أخيكم , ولا ترجموا بالغيب , فلعل بقاء الأستاذ الباقورى فى الخارج الآن خير لكم ولدعوتكم من وجوده بينكم ... وسكت القوم .

والدة من الريف

جاءت اليوم سيدة ضعيفة من الريف تسعى ... انها والدة الطالب الأزهرى الشيخ محمد أحمد العزب , وهو شاب يتوقد نشاطا وذكاء , وهو وحيد أمه , وله عدة أخوات , وقد مات والده من بعيد , فكأنه لأسرته العميد . جاءت الوالدة الريفية تسعى , وقد حملت سلة فيها ملابس وطعام لوحيدها , وجعل الحراس يصدونها عن الاقتراب من الأسلاك ويغلظون معاملتها , وابنها يراها من بعيد ولا يستطيع شيئا , وهى تلمحه فتتقطع شوقا اليه , وبعد لأى عادت لتقطع شاسع المسافة مرة أخرى , دون أن تلقى وحيدها .


السبت 28 مايو سنة 1949 م

الأحكام العرفية

معنا فى المعتقل اثنان ممن اعتقلوا بعد يوم 15 مايو الماضى , وهو اليوم الذى احتالت فيه الحكومة بكل وسيلة لمد الأحكام العرفية سنة أخرى , وزعمت أن من اعتقل خلال هذه السنة له حق المعارضة فى الاعتقال , وقد جاء اليوم من أنبأ الاثنين أن معارضتهما قد رفضت , وأن اعتقالهما مستمر , وأخذ منهما توقيعا على العلم بذلك .

حكومتنا الرشيدة واليهود

أفرجوا اليوم فى الأصيل عن ثمانية من اليهود فى الجناح المقابل لنا , وجعل الخارجون والباقون من اليهود يهتفون , وينشدون نشيدا لهم بالعبرية , ويبالغون فى اعلانه , وصدع آذاننا بسماعه , كأنهم يغيظوننا ويشمتون بنا , وجاءت عربات خاصة " ملاكى وأجرة " , وحملت الثمانية بين الهتاف والنشيد , بعد أن رفضوا الركوب فى عربة البوليس المكشوفة ..

الحكومة بطبيعة الحال غير ملومة اطلاقا , وغير مؤاخذة بتاتا فى الاسراع بالافراج عن اليهود , لأنها قد قبضت عليهم من أجل فلسطين , وفلسطين قد ذهبت يرحمها الله , وأصبحت اسرائيل " المزعومة " دولة محتومة معلومة , رغم أنفى وأنفك – لا تؤاخذنى – وأنف حكومتنا العظيمة , وأما غير اليهود من المعتقلين فلا يزالون مصدر خطر كبير جدا جدا على الأمن , حتى صبيان التلاميذ وكبار الشيوخ , واذن فيجب عليهم أن يخضعوا ويتحملوا , ويصبروا فترة أخرى . انها حقيقة غير معلومة , قد تكون سنة أو سنتين أو سنوات , ولكن ثقوا أن الحكومة الرشيدة المجيدة المسلمة التى ينص دستورها الموقر المحترم المطاع على أن دينها الرسمى هو الإسلام , ستطلق سراحكم يادعاة الإسلام , يوم تؤمن – ومتى تؤمن ؟ - بأنكم أصبحتم غير خطرين على " الأمن العام " . فانتظروا أيها المعتقلون , ولا تملوا أو تضجروا , فالله مع الصابرين , وحكومتنا لحاضرة من خيرة الراشدين , ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم .

فى ظلام الليل

ينتهز كبار الرجال هنا من الملحوظين فى المجتمع فرصة الليل لغسل أوانيهم وملابسهم , .............صغار الطلاب والتلاميذ والعمال . ويستفاد من هذا أن الغاء الفوارق الاجتماعية .........فى البيئة الشرقية يحتاج الى نظر .


الأحد 29 مايو سنة 1949 م

فروسية فى غير ميدان

يسوءنى أن أرى الحراس الذين يحيطوم بالمعسكر يطلقون رصاصهم فى وضح الأصيل ليصيدوا غرابا أو حدأة , وكثيرا ما أراهم يخطئون الهدف , فيضيع الرصاص ويضيع الصيد " الثمين " كذلك ... ألست ترى معى أنها فروسية مهازيل ؟

ما أشد الذكريات

نعم ما أشد الذكريات وما أوسعها حينما يتطلع المرء الآن الى من حوله من شباب وطلاب ... معنا معتقلون من معهد دمياط الدينى الذى قضيت فيه أربع سنوات من سنة 1931 الى 1934, ومنه أخذت الشهادة الابتدائية , ومعنا طلبة من معهد الزقازيق الذى قضيت فسه خمس سنوات , من سنة 1935 الى 1939, وأخذت منه الشهادة الثانوية , وعدت اليه مدرسا أول بالأزهر سنتى 1946 و 1947, ومعنا معتقلون من كلية اللغة العربية – حرسها الله معقلا للغة القرآن ونلت منها الشهادة العالية ثم شهادة العالمية مع اجازة التخصص ومعنا معتقلون من حلوان , وفى مدرسة حلوان الابتدائية الأميرية للبنين كنت أول مدرس أزهرى يدخلها بزيه , وفى مسجد المنيرة قضيت أخطب وأحاضر , ومعنا معتقلوم من المنصورة عروس الدقهلية , الا أن يكون معنا معتقلون من بلدتى البجلات , ولكنها اكتفت بواحد . يا الله , ما أكثر الذكريات التى تثيرها كل ناحية من هذه النواحى منفردة فكيف بها مجتمعة ...

أهؤلاء ارهابيون ؟

سمعت أن الأستاذ مصطفى أمين بك كتب هذا الأسبوع فى " جريدة أخبار اليوم " يقترح على الحكومة ارسال محاضرين الى المعتقل , ليعلموهم كيف يكون الاقناع بالحجة والدليل , لا بالقوة والارهاب ... وأتطلع حولى فأرى أناسا مثقفين مهذبين , مؤمنين بأن الإسلام لا يقر الاعتداء الا على المعتدين , فما الحاجة الى هذه المحاضرات اذن ؟ . وأتطلع حولى فأرى أناسا أولى بهم مناصب التدريس لا مقاعد التعلم , وكيف لا وفيه أمثال الأساتذة الفضلاء : طاهر الخشاب , وصالح عشماوي , وكمال خليفة , وعبد الحكيم عابدين , وجمال عمار , وعبد الحليم الوشاحي , وفريد عبد الخالق , وعمر التلمساني , ومحمود لبيب , وزكريا خورشيد , وعبد الحفيظ الصيفي , ومصطفى مؤمن , وأنور الجندي , ومحمود البراوي , وطاهر عبد المحسن , وعبد العزيز كامل , وغيرهم وغيرهم ... أهؤلاء بحاجة الى توجيه أو تعليم ؟


الاثنين 30 مايو سنة 1949 م

عقارب تنساب

أفرج ولاة الأمور فينا اليوم عن عشرة من اليهود المعتقلين فى العنبر المقابل لنا , وخرجوا بين ضجيج زملائهم وهتافهم , ونشيدهم العبرى يتردد فى أرض العروبة , وبطبيعة الحال هناك أمثال لهم وأمثال قد أفرج عنهم فى العنابر الأخرى , وفى معتقل الطور الأكبر ... فالى أين يذهب هؤلاء ؟ . أليسوا عقارب تنساب لتفسد وتهدم ؟ أخشى ما أخشاه أن يخرج هؤلاء ليمدوا بالمعونة والمال الشيوعية الطاغية , أو ليكونوا الطابور الخامس لليهود فى فلسطين , أو ليكونوا البذور الأولى لعدوان اسرائيل على مصر المسكينة . هدى الله ولاة الأمور فينا .


الثلاثاء 31 مايو سنة 1949 م

معتقلون بلا مكان

حضر اليوم الى المعتقل " زبائن " جدد , وليس فى المعتقل مكان لهم , ولا أسرة ولا فراش ولا طعام ... ولكن ماذا يفعل الأسير السليب أمام الكمى المقتدر ؟ . ليس الا الصبر والتسليم ... افترش هؤلاء حصير المصلى وناموا عليه , وأخذ القدماء يجمعون لهم بقايا الطعام .

الطعن فى الأزهر

عاد بعض القوم الى النيل من الأزهر والأزهريين , والى الطعن فى شيخ الأزهر , وفيهم الجاهل بعواقب ما يقول , وفيهم الطاهر النية المريد للاصلاح , فقلت لهم : ان هذا لا يليق , وليس من مصلحة أحد , وليس هذا أوان الطعن , والأزهر يجب أن يصان عن التحطيم والتهديم , وحبذا لو تركنا أخطاء الأزهريين لنقدة الأزهريين , ويجب أن نتذكر أننا لو جردنا الأزهر من كل حسناته لما فقد المعنى الإسلامى العام الذى يجعله حصنا دينيا يخيف المارقين .


الأربعاء أول يونيه سنة 1949 م

زيارة مردودة

استيقظت من النوم مبكرا , وهرعت الى النافورة أتطلع الى الطريق , وتوقعت زيارة لى ولغيرى من أهلينا , وثارت فينا لواعج الشوق الى رؤية أهلينا يأتون الينا من الدنيا , وبعد لأى علمنا أن حضرة الضابط قد أخذ فرقة من الجنود وذهب الى المحطة القريبة ومنع الزوار جميعهم من النزول , وأعادهم بالقوة فى القطار نفسه , بتصاريحهم وأطعمتهم وفواكههم وطيبات زيارتهم , وفيهم من غير شك أمهات وزوجات وأطفال وآباء .. وتساءلنا طيلة النهار : لماذا حدث هذا ؟ فلم نجد الجواب .

استمرار اعتقال

جاءت اليوم خطابات كثيرة لقدماء المعتقلين من اللجنة " القضائية " الخاصة ببحث شؤون المعتقلين , تعلنهم باستمرار اعتقالهم , وأخذ هؤلاء يقدمون معارضات والتماسات حسب النظام الجديد , وقد عرفت أن من بين الذين أعلنوا باستمراراعتقالهم الأساتذة : عبده قاسم , وعبد الرحمن الساعاتي , وطاهر الخشاب , وصلاح عبد الحافظ , وعبد الحكيم عابدين , وصالح عشماوي , وعبد الحليم الوشاحي , وغيرهم . الجنوب الآن فى قلق , فمن جاءه عرف نهايته , ووقوع البلاء خير من انتظاره , وأما الباقون فمعلقون بين الشك واليقين ... وقد بدأت أسمع الهمس القائل : لقد خيبت اللجنة القضائية آمال الكثيرين .


الخميس 2 يونيه سنة 1949 م

طرود مفتوحة

جاءتنا الطرود اليوم من أهلينا مفتوحة منهوبة , وقيل لنا ان العساكر فتشوها فى ادارة المعتقل بأمر من الضابط , وقد تسلمت الطرد الخاص بى فوجدته ممزق الأوصال أكثره شعاعا , ثبتت فضلة منه للمحن , وقد قلت فى نفسى : ان من حق ادارة المعتقل أن تفتش الطرود واحدا فواحدا , ولكن الأحسن أن يتفضل الضابط بتفتيش هذه الطرود أمام مرسليها فى قسم البوليس , ثم تربط وتختم أمامهم , ثم تسلم لأصحابها مختومة , اذ لا خوف منها فيها بعد ذلك , فان لم يمكن تنفيذ هذا , فيجب تفتيشها أمام الذين جاءت لهم , بعد أن تفض أمام أبصارهم , كيلا تكون هناك ظنة أو سرقة , أما الوضع فلا يطاق , وان كنا لا نقدر على تغييره أو انكاره .


الجمعة 3 يونيه سنة 1949 م

ترحيلة الى الطور

رحل اليوم منا الى الطور مائة وعشرون معتقلا عرفوا أسماءهم من الصباح الباكر , فأعدوا متاعهم المتواضع , وجاء الجنود بعرباتهم , فحشروا أولئك الكرام فوق ظهورها , و كأنهم أسماك تضغط فى علب السردين .

زيارة لا ترد

شاهدنا ضحى اليوم عشرات وعشرات من الزوار يقبلون من ناحية المحطة , ففرحنا وحسبناهم زوارنا , خصوصا وأن اليوم هو يوم الجمعة , ولكن منظرهم فى ثيابهم الزاهية وقاماتهم الغريبة جعل بعض الزملاء يؤكد أنهم يهود , جاءوا لليهود , ونفيت ذلك مستبعدا , ولكن بعد قليل تبين لنا أنهم فعلا يهود , فتأسفنا على موازين العدالة ومقاييس الانصاف , ورددنا :

أحرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس ؟

وتذكرنا آسفين وضاحكين – وشر البلية ما يضحك – زيارتنا نحن المصريين التى منعت أول من أمس

العدل أساس الملك

خطب الأستاذ الصالح الحاج صالح عشماوي خطبة الجمعة اليوم من فوق منبر المعتقل الحجرى المتواضع , وكان موضوع الخطبة " العدل أساس الملك " . وكان يتكلم بلهجة عامة لا تخصيص فيها , وهذا أسلوب حميد عند تقرير الأصول وغرس المبادىء


السبت 4 يونيه سنة 1949 م

وزيارة ثانية لا ترد

اليوم يوم السبت , وهو عيد بنى صهيون الأسبوعى , وقد رأينا بالأمس كيف جاءت جماعات من اليهود لزيارة اخوانه الصهيونيين , والأمس جد قريب , ومع هذا كله رأينا سربا طويلا من النساء , يتجاوز المائة عدا , وكلهن يهوديات جئن مائلات مميلات لزيارة اليهود , ويوم السبت كما قال أحد الرفاق هنا هو اليوم الذى نرى فيه جنس النساء ورائع الأزياء , ونذكر أن فى الدنيا من بنات حواء من تثير الأهواء , فصونك وحفظك يا بديع الأرض والسماء . ..

ذكريات تضحيات

لست أدرى لماذا مر على خاطرى اليوم موقف بلال الصابر المجاهد , وقد أرقده المتجبرون فى الأرض فوق الرمضاء , فى لهيب الصحراء , وألقوا فوقه الصخرة الثقيلة الصماء , وهو يردد : أحد . أحد . أحد ... وكذلك قصة سمية المؤمنة , وبغى ابى جهل الجبار عليها بصورة شنيعة , لا يقرها خلق ولا انسانية . لعل هذا قد جاء من التشابه بين الأمس واليوم مع قليل من الفوارق , والأشباه تنجذب الى الأشباه , وقد شق على احتمال لواعج الذكريات , ففزعت الى القراءة فى المصحف أخفف بها برجائى , وكان جو اليوم رقيقا لطيفا كفر عن لهيب الأيام الماضية والحلو يأتى على المر فيمحوه .

أين مجال الكلمة الصادقة ؟

يعيب بعض من معنا على رجال الأزهر الشريف أنهم لا يقولون كلمة الحق , ويحمل هؤلاء حملة شديدة على رجال الدين الرسميين , ويقارنون أحوالهم بأحوال الدعاة والوعاظ والزهاد الناصحين فى العصور الماضية . وأعتقد أن هؤلاء العابثين مخطئون قليلا أو كثيرا لأن هناك فروقا كثيرة بين أمس واليوم , فرجل الدين بالأمس كان يقول كلمة الحق الصريحة بعد أن نشأ نشأة اسلامية قويمة فى بيئة اسلامية سليمة , وكان يقولها لحاكم أو وال أو أمير يتقبلها منه , ويقدرها له ويشكره عليها , ويجزيه بها خيرا فى أكثر الأحيان , ولا يفكر فى ايذائه اذا لم يرض عن قوله , بل يكتم غيظه منه غالبا , وتجد فى " العقد الفريد " وأشباهه شواهد كثيرة على ما أقول . وكان رجل الدين أيضا يعتمد فى الصدع بكلمة الحق والنطق بصوت الصدق على شعب مسلم مؤمن غيور مدافع , له رأيه العام القوى المزلزل الذى يحفظ لرجال الدين حرمتهم ويفى لهم فى مواطن بلائهم , وفى موقف العز بن عبد السلام, يوم خرج الشعب كله وراءه مؤيدا له فى ثورته على الحاكم الظالم , برهان أى برهان .

أما اليوم فواأسفاه . رجل الدين لا ينشأ النشأة السليمة الواجبة , لأن اصطلى بالبيئة الملوثة , وهو لا يجد من رجال القيادة والحكم صدرا رحيبا يتقبل كلمة الحق , أو يتحملها ويصبر على شدتها , بل غيظ وبطش وتنكيل , واذا أصيب رجل الدين من جراء دعوته أو صراحته بسوء أو حيف , لم يجد من ينصره أو يغضب له , بل شماتة ونكاية وانقلاب , فليس له فى الغالب الا أن يركن الى المسالمة أو السير فى الركاب , أو يكتفى بأقل الزاد فى ميدان الجهاد من أجل ربه ودينه . ومن هنا نعلم أن الذين يحملون رجال الدين وحدهم كل التبعة والمسئولية فى اهمال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مسرفون فى الرأى , ومن الواجب اذا كنا منصفين أن لا نخلى رجال الدين من المسئولية أولا , لأنهم فعلا لا ينهضون بالواجب المنوط بهم أداؤه على الوجه الأمثل , ثم ننكر ثانيا على الأمة انحطاطها وتخاذلها عن نصرة الخيرين من رجالها ودعاتها , ثم ننكر على رجال الحكم والقيادة ثالثا أنهم لا يقبلون النصح , ولا يخضعون للحق , بل يغضبون ويبطشون , وأنهم استطاعوا بسلطتهم وجبروتهم , وذهبهم وفضتهم , ورفعهم وخفضهم , أن يفتنوا رجال الدين عن دينهم بدنياهم البراقة الخداعة , وأن يضعوا الأشواك والصعاب , وأن ينالوا منهم أبشع نيل اذا لم يتابعوا , أو على الأقل اذا لم يسكتوا . ولكن ماذا نقول وكل منا يلقى التبعة على سواه , ويتخلص من المسئولية ويتهم غيره ؟ . آه لو بدأ كل بنفسه , وآه لو أدى كل واجبه , فتكون فى الشعب المسلم رأى عام قوى جبار , يرهب الجبارون سطوته فى جميع الأحوال , ويخشون جانبه فى سائر الظروف والمناسبات , وثاب الرعاة والقادة الى صراط الحق والايمان , فاستمعوا القول واتبعوا أحسنه , ورأوا هدية تساق اليهم كما قال عمر : " رحم الله امرأ أهدى الينا عيوبنا " اذن لعاد للأمة ما كان لها من مجد وعظمة فى سالف الأيام . انها على الأقل وجهة نظر , يجب أن يكون لها عند الحكم فى ذلك الموضوع اعتبار .

مفارقات

أفرجوا ظهيرة اليوم عن خمسة من اليهود الصهيونيين فى المعسكرالمجاور لنا , وفى الوقت نفسه أعلنوا ثمانية من الإخوان المسلمين باسترارهم فى الاعتقال , لقد فكر بعض الإخوان فى أن يكتبوا الى ولاة الأمور قائلين : نرجوكم أن تمنوا علينا يا حكامنا المصريين بمساوتنا بالمحظوظين الصهيونيين .. ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم .


الأحد 5 يونيه سنة 1949 م

ثورة فى معسكر اليهود

تباطأ متعهد الطعام فى تنفيذ رغبات الصيونيين المحظوظين , فما كان منهم الا أن ثاروا داخل المعسكر , وجعلوا يهتفون فى شدة وغضب " " يسقط المتعهد الحرامى – عايزين ناكل " وكلما اقترب المتعهد المصرى المسلم من أسلاكهم شتموه وهتفوا : " الحانوتى أهوه , الحرامى أهوه " وظلوا فى ثورتهم زمنا طويلا بلا حسيب , آه لو حدث بعض هذا فى غير معسكر اليهود الصهيونيين , اذن لرأيت السياط والتأديب والتحقيق والتشريد ... يا هادى الطريق جرت . ان الهمسات تتردد بأن سهرات غير بيضاء تنعقد داخل حجرات الصهيونيين, ويكون فيها قصف وعزف . وزمر وخمر , ومخدر ومفتر , وأن رؤوسا غير يهودية " تبارك " هذه السهرات بشهودها الأثيم ورعايتها المجرمة , فهل هذا صحيح ؟ . وماذا يبقى وراء ذلك من دين أو وطنية أو شهامة ؟ . وماذا يفعل الأذناب والصغار اذن ؟ ان الهامسين يقسمون على ما يقولون , ومنهم من رأى أة سمع أو اشتم الروائح , فكيف السبيل الى الحساب أو العقاب ؟ تلك هى المشكلة , بل تلك هى المعضلة ... اللهم انى أشكو اليك ضعف الأمين وقوة الخائن , وكم فى القيود من أبرياء , وكم من مجرمين ظلوا طلقاء , بل ظهروا بمظهر السادة الشرفاء ... واذا أمسك السرحان بالعصا للقطيع , فقل سلام على الجميع .

رجال عرفتهم

تعرفت فى المعتقل الى بعض الرجال النابهين , أذكر منهم الأستاذ حسين كمال الدين نجل المغفور له الأجل الأستاذ أحمد بك ابراهيم والمدرس بكلية الهندسة , وهو من رجال الدعوة الصادقين الأوفياء , وقد سمعته يقرأ القرآن بترتيل واجادة , فقلت فى نفسى : ان هذا الشبل من ذاك الأسد . ولاحت لى من الأستاذ حسين شمائل أفهمتنى أن البيت الأصيل يطبع فرعه بطابعه النبيل ... وعرفت المدره الأديب البليغ الأستاذ محمد طاهر الخشاب المحامى العلم , وصاحب الثقافة القانونية الواسعة , ورجل دمياط الفذ , وانك لتحضر مجلس الأستاذ الخشاب فترى نور بسمته , وتلمس عذوبة حديثه , فيخيل اليك أنك تسقى من الخمر الحلال , وللأستاذ الخشاب طبيعة أدبية شاعرية عميقة الجذور . وعرفت الدكتور كمال خليفة بكلية الهندسة , وأول مصرى حاز " الدكتوراه " فى فن الخرسانة , وهو كالطيف فى رقته ولطافته , وله غرام أصيل بالألعاب الرياضية , وخاصة ما يتطلب الخفة ةالسرعة , وقد قيل فيه انه أحد ثلاثة يتكلمون الانجليزية فى مصر كما يتكلمها الانجليز أنفسهم ... وقد عرفت أن الاعتقال أضاع على الأستاذ الخشاب والدكتور خليفة دخلا ماديا كبيرا , مما سبب لهما بعض المتاعب , ولكنهما فى سبيل عقيدتهما يستهينان بكل عزيز , والله أعلى وأبقى وأكرم ...

فتى يستمر اعتقاله

جاء الطالب محمد حلمي عبد الغفار أحد طلبة معهد دمياط الابتدائى اعلان باستمرار اعتقاله , فتلقاه راضيا مبتسما , وكتب تظلما منه . ولست أدرى أى خطر يأتى عن طريق مثل هذا الطالب الأزهرى , الذى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره ؟


الاثنين 6 يونيه سنة 1949 م

غمرة النسيان

ألا يمر يوم لا تشعر فيه بمروره , ولا تدرى ما كان فيه ؟ ... كذلك كان اليوم . يا لنعمة النسيان والاستغراق ...


الثلاثاء 7 يونيه سنة 1949 م

حركة دائبة وركود مفاجىء

ما أشبه الانسان الآن بالآلة التى ظلت تعمل مواصلة العمل سنوات وسنوات , بلا انقطاع أو راحة , ثم وقفت فجأة , وظلت واقفة مدة طويلة لا تتحرك ولا تعمل شيئا , فأصيبت بالصدأ والكلال , وربما بالفساد والعطب ... يخيل الى المرء الآن أنه قد نسى التابة والخطابة والتدريس والتفكير , والتحليق فى آفاق الحياة والأحياء , ويخيل اليه أن نفسه ستحتاج الى ما يجلوها ويرهف حدها من جديد . لقد كان المرء بالأمس يهب من النوم مبكرا حوالى الخامسة صباحا فيطالع الصحف ويكتب الخطابات أو الردود على الوارد منها , ثم يسارع الى مدرسة المسجد فيقضى فيها ساعتين بين توجيه وتعليم , ثم يسارع فى عجلة الى المعهد فيؤدى دروسه , ثم يشغل الفسح بمطالعة البريد , أو بحث المشكلات الخاصة بالطلاب , ويعود الى المنزل حوالى الساعة الثانية بعد الظهر , فيتناول الطعام المهيأ فى دقائق وفى سرعة عجيبة , ولا ينام أثناء القيلولة , بل يبدأ فى العمل مباشرة ورشفات الشاى تحرق شفتيه , ولعل هذا هو السبب فى ألم المعدة وصداع الرأس , فيكتب مقالاته للمجلات الإسلامية والعربية المختلفة , لا ينتظر جزاء ولا شكورا , بل يجعلها خالصة لوجه ربه , ثم يهيىء دروس الغد , ثم يخرج الى محاضراته فى مختلف الأندية والجمعيات , ثم يعود الى منزله قرابة نصف الليل , فيطالع جانبا من المجلات أو الكتب , ثم ينام ساعات قليلة .. ايه , لقد كانت الحياة اذن حركة فى حركة , وعملا فى عمل , فكيف يقف الانسان هكذا دفعة واحدة , فلا عمل ولا حركة ؟ .. هذا ما يضايقنى ويؤلمنى , وهذا ما أخشى سوء أثره فى جسمى ونفسى وتفكيرى ...

" العمدة" طريح الفراش

معنا الرجل الشهم والأخ المفضال الأستاذ أنور محروس , وهو محبوب بين رفاقه , لرقة أخلاقه ودماثة طباعه , وهو من الإخوان المخلصين , ويتولى منصب " العمدة " فى احدى قرى الصعيد , وقد أرغم الأستاذ أنور بقوة الحاكم الغاشم على أن يزور دارا حكومية فى القاهرة . وهناك تبجح سفلة الزبانية فتطاولوا على الرجل النبيل بالأذى حتى عاد وفيه جراح هى برهان على كرامة صاحبها ولؤم صانعيها . ان الرجل المفضال الأستاذ أنور محروس معتكف فى سريره , والإخوان من حوله يستنزلون اللعنات على لئام الذئاب وصغار الكلاب .

مهازل تسببها المحنة

سمعت أن سيدة كانت على خلاف مع زوجها العامل , فلما أخذوه معتقلا فكرت فى الانفصال عنه بأسلوب شيطانى , فشرعت فى رفع قضية فى المحكمة الشرعية تطلب تطليقها من زوجها لأنه عضو فى الجماعة المنحلة , أو من العصابة الارهابية , ولأنه غاب عنها طويلا بلا نفقة , فيا للمهازل ... وكذلك سمعت أن نعتقلا بعث الى زوجته يطلب منها أن تبيع أثاث المنزل , وأن تسلم عقد الايجار لصاحب البيت , وأن ترحل الى أهلها , ويعرض عليها اذا كانت قد استطالت المدة أن يخرج لها ورقتها بالطلاق . من المسئول يا ترى عن هذه المهازل ؟ وأين المؤدبون للسفهاء ؟


الأربعاء 8 يونيه سنة 1949 م

خيبة أمل

كان الكثيرون بالأمس يتوقعون افراجات كبرى اليوم , لأن اللجنة القضائية كما يقولون انتهت من عملها , وبات القوم على هذا التقرير , وجاء اليوم فخاب الظن وفشل التقدير , فلم يفرج عن شخص ما , بل أخذ سبعة من المعتقلين الى المحافظة , ولسنا ندرى , أأخذوهم للتحقيق أم للتعذيب ؟ ... كل انسان اليوم فى بلبلة من أمره , لا يدرى ماذا سيصنع به بعد قليل .

فرحة تقطع الصلاة ...

كنا نصلى المغرب , وفى الركعة الأولى , وفجأة أقبل جندى ونادى اسم الأخ مصطفى محمود موسى أفندى , وهو من بلدتنا " البجلات " , وقد حضر الى المعتقل منذ أيام قليلة , وكان نداء الجندى يدل على بشرى افراج , فقطع مصطفى الصلاة , وهرول الى الجندى يستنبئه , ولما أتممنا الصلاة لم نجده فى المعتقل , لقد خرج بعد أن جاءه قرار الافراج , وشغلته الفرحة عن اتمام الصلاة , وعن الانتظار ليحمل منا الى الأهل بعض الأخبار . .. الحمد لله , فقد زالت محنته وخفت بلواه , اذ كان متهما فى قضية شيوعية خطيرة ثم تخلص منها بأعجوبة ... زها هو ذا يخلص من الاعتقال أيضا , فافرح له ولا تسل : كيف كان ذلك ؟ ..


الخميس 9 يونيه سنة 1949 م

نسمات رمضان

بعد أيام سيقبل رمضان , وقد أخذ البعض يسأل : أيجوز لنا الافطار ؟ ألسنا أسرى ؟ . ودار حول ذلك الموضوع جدال , فقال قائل ولعله كان حكيما : دعوا هذا الموضوع حتى يأتى رمضان . فربما تغيرت الظروف قبل حلول رمضان , وفوق تدبيرنا لله تدبير .

اقرأ معى

أرجوك بحق الله عليك أن تكرر معى قراءة هذه الأبيات التى شغلتنى كثيرا , وهى للشاعر العراقى ابراهيم الوائلى :

عسعس الليل موحشا , فترفق
يا دليل السرى بهذى المواكب
انما بيننا وبين الأمانى
عقبات , وفى الطريق مصاعب
سهر الناس قبلنا فأفادوا
وسهرنا فما بلغنا الرغائب
أيها الجيل بعد ليلك فجر
سيوافيك مثقلا بالعجائب
قيل لى  : كان فى القديم أناس
يعبدون الحجارة الصماء
هم يطوفون حولها كل صبح
ويولونها الوجوه مساء
قلت : لا فرق بيننا , نحن ان لم
نستبقهم فقد نكون سواء
عندنا مثلهم هياكل أضفينا
عليها النعوت والأسماء
اتركوا الحقل للطبيعة حرا
تبصروا من جماله ألوانا
وامنحوا الطير فى الوكور انطلاقا
تسمعوا كل ساعة ألحانا
ودعوا النهر كيفما شاء يجرى
فيروى الحقول والوديانا
فى زوايا الحقول أسراب طير
تتناعى بأنة وتشاك
وعلى الضفتين دنيا من الزهر
تشكت من وطأة الأشواك
أترى الطير تستريح لنجواها
وقد غص حقلها بالشباك
ام ترى الزهر يستطيع ابتساما
وهو فى محنة وطول عراك ؟
قف حيال القوى يخطر تيها
تعرف السر فى احتقار الضعيف
وتأمل نوافذ القصر تدرك
حالة الكوخ فى زوايا الريف
وانظر الفرد كيف يحيا سعيدا
تتبصر شقاء هذى الألوف
زمر همها النعيم , وأخرى
تتغنى بذكريات الضعيف

ارجوكأن تعود فتقرأ هذه الأبيات مرة بل مرات , وتدبرها طويلا , فستعرف لماذا سقتها هذه الأبيات لسانى وجنانى حينا من الزمان .

لست أسيرا

اننى لست أسيرا رغم الأسوار والأسلاك ورغم الحراسة والرقابة , ورغم العزلة والبعاد . اننى أستطيع أن أفتح نافذتى وأملأ صدرى من هواء الصحراء النقى الجاف عند الأصيل , فأشعر بالقوة والفتوة , ولئن حيل بين الأجسام وبين التنقل والانطلاق فما يستطيع الطاغون الباغون أبدا أن يأسروا الفكر أو يصدوه عن جريانه , ولا أن يمنعوا القلب من خفقانه , ولا أن يفسدوا على المؤمن نعيم ايمانه . ورحم الله المعتمد بن عباد يوم غدا بالعدوة أسيرا حسيرا , بعد أن أظهر من دفاعه وتراميه على الموت بنفسه مالا مزيد عليه , فأخذ يهتف فى محنته بشعر القوة والاباء , فيقول :

لما تماسكت الدموع
وتنهنه القلب الصديع
قالوا : الخضوع سياسة
فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضوع
على فمى السم النقيع
ان تستلب عنى الدنا
ملكى , وتسلمنى الجموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسلب القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطباع ,
أيسلب الشرف الرفيع ؟
قد رمت يوم نزالهم
ألا تحصنى الدروع
برزت ليس سوى القميص
عن الحشا شىء دفوع
وبذلت نفسى كى تسيل
اذا يسيل بها النجيع
اجلى تأخر , لم يكن
بهواى ذلى والخشوع
ما سرت قط الى القتال
وكان من أملى الرجوع
شيم الألى أنا منهمو
والأصل تتبعه الفروع

هذه والله نيران الحماسة تتوقد فتدفع بالرعديد الى مواطن الهول , فكيف بالرجل المجيد ؟

الجمعة 10 يونيه سنة 1949

نسيت مشية الحذاء

مضى الآن قرابة الشهرين لم أنتعل فيهما الحذاء , أنا الذى كان لا يمر يوم فى العام دون أن ألبسه ساعات , وتحسست حذائى الملقى تحت السرير المتواضع , فاذا هو مقدد مشقق من طول الهجر , ومن تأثير الجو ورطوبة الأرض , فلبسته وسرت به فى بهو المعسكر , لا لغرض الا لأستعيد طريقة المشى فيه , فخيل الى أننى نسيت المشى فى الحذاء , وكنت وأنا أخطو به متعثرا أشبه بالهمجى البدائى الذى يعيش حافيا من زمن بعيد , ثم ينتقل فجأة الى حياة راقية فى حى حديث بالقاهرة ... كيف اذن لو مكثت على حالى سنوات ؟ .

تحفز أيها الشرق

عدت فشغلت نفسى حينا بأبيات للشاعر الوائلى , وما حيلتى والذى تقع عليه عينى من شعره يتجاوب مع ما يضطرم فى نفسى ونفوس من حولى الآن من مشاعر الاباء والحمية , ويصور ما يعتلج فى أفئدتنا من مطامح , ويساوق ما نزجى الى قومنا من صرخات ... استمع اليه اذا يقول :

تحفز أيها الشرق
فان الحق للقوة
وقم نستقبل الفجر
فقد لاح من الكوة
أيستمتع بالنور
من استسلم للغفوة ؟
فليس الحزم أن نشقى
وفى العيش لنا حق
أليس الصمت للطغيان
قد جلجل واستشرى
وهذا الخصم لا يعرف
الا الناب والظفرا
فكم أرهقنا بطشا
أوسعنا غدرا وكم
فليس الحزم أن نشقى
وفى العيش لنا حق
أأسياد , وأتباع
وأحرار , وعبدان
وابراج , وأكواخ
وعباد , وأوثان
وألوان من العسف
بحيث الذل ألوان ؟
فليس الحزم أن نشقى
وفى العيش لنا حق


السبت 11 يونيه سنة 1949 م

منطق الذئاب

يقول الحاكمون بأمرهم . انهم يعتقلون من يعتقلون حفظا على الأمن , ومحاربة للارهاب , وقضاء على العصابات الخطرة ... فلنفترض أن ما يقولونه حق , ولننظر ... انه لا يعتقل الا الأفراد الظاهرون المعروفون فى المجتمع , الذين يشغلون وظائف عامة , أو يحتلون أماكن فى الحياة واضحة , كالمدرسين والمحامين والمهندسين والموظفين والطلاب , وهؤلاء بكمح وظائفهم وطبيعة أحوالهم ووضوح أمورهم وحركاتهم , يبعد أن يكونوا مشتركين فيما يتحدث عنه الحاكمون بأمرهم من للارهاب والاصطراب الخطر , لأن الارهابى – ان وجد – يلجأ دائما الى التستر والتخفى , والتعمية والتحايل , وهو فى الغالب يستخف بالنظام والاوضاع القائمة , أو لا يرضى عنها فيتمرد عليها ويخرج , وهذا فى الغالب يكون غير مربوط بالحياة العامة الاجتماعية بوظيفة او مركز محدد . ومعنى هذا أن طريقة الاعتقال بوضعها الحاضر لا تؤدى الى الهدف المقصود , وهى فى الوقت نفسه تبغى على الأبرياء المظلومين .

ولقد سمعت أن أحد الوزراء قال فى بعض المواقف الرسمية كلاما يشبه هذا الكلام , اذ صرح أن الدولة تعتقل كثيرين ممن لا غبار على استقامتهم , ولا مطعن فى أخلاقهم , ولا شائبة فى ثقافتهم , بينما يرتع آلاف من الخطرين الحقيقين فى أرجاء الوادى الخصيب مستخفين مستترين .. وسمعت أن النتيجة لهذا التصريح الذى يبدو أن صاحبه أراد به النصح والتحذير , أن اعتكف صاحبه فى منزله ..

يا صاحبى ان أسلوب المعاملة اليوم هو أسلوب الذئب يوم أراد أن يبطش بالحمل , وكان الذئب فى مرتفع الماء والحمل فى منحدره , فقال له : لقد عكرت على الماء أيها الحمل ... وبقية القصة معروفة .. وما نهاية هذا الاعتقال ؟ . ان الأيام تمر مسرعة دون أن نعرف النتيجة , وهؤلاء المعتقلون فى نظر الحكومة خطرون يجب أن يعتقلوا , فماذا بعد هذا ؟ . أيظلون هكذا الى الأبد والى أن يقضوا نحبهم خلف الأسوار والقيود بلا تحقيق أو بصيرة ؟ . وكيف نحول خطرهم الى استقامة وأمان ؟ . أنستعين بالوقت وحده ؟ . انه ليس بسلاح . أتنوى الدولة استصدار تشريعات صارمة متعسفة , وتتخذ بشأنهم فى الخارج تصرفات حازمة ؟ فما بالها لا تفعل ذلك حتى لا يطول الأمد على المظلومين , أو من يعتقدون أنهم مظلومون على الأقل ؟ . الحق أنى جد حائر , ومن يدرى , لعل غيرى أشد حيرة منى , فقد كانت الفتنة كبرى , اكتوى بلهيبها هؤلاء وأولئك , وهوى فيها هؤلاء وأولئك , وأصبح من العسير فيها التراجع على قوم عامدين , ومن العسير أيضا الخلاص منها على قوم عاجزين مجردين من كل وسيلة للخلاص , فلم تبق الا يد الله .

حيرة

القوم هنا فى حيرة من أمر اللجنة التى تنظر فى شئون المعتقلين برياسة رئيس محكمة مصر الوطنية , ويقولون ان قانون مد الأحكام العرفية ينص على أن اللجنة تنظر فى خلال ثلاثة أسابيع من صدور القانون فى أمر المعتقلين القدماء , فتمد اعتقال من تقتنع بخطرهم , وتفرج عمن يتبين أنه لا خطر من الافراج عنهم , ولكن قد مضى الآن ما يقرب من أربعة أسابيع , ولم تنته اللجنة من عملها , ولم يفرج عن أحد , ولم يعلن باستمرار الاعتقال الا القليل , وقد أعلن اليوم اثنان باستمرار الاعتقال هما الأستاذ جمال عمار المدرس بالمدارس الثانوية , والطالب الزغبى عثمان التلميذ بالمدارس الثانوية , فماذا هناك ؟ . اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان . الحمد لله .. فرجت .. هذا افراج جاء الآن عن الطالب محمد حليم السعيد , وهو معتقل من منتصف إبريل الماضى , ووالده قاض بالمحاكم الأهلية .. من يدرى , لعل أول الغيث قطر ثم ينهمر .

خطابان يصلان بعد شهرين ونصف

من لطيف ما يروى كمثال على اجتهاد الأداة الحكومية , وعلى اهتمام الدولة بشؤون المعتقلين المواطنين أن خطابين جاءا لأحد المعتقلين بعد شهرين ونصف من ارسالهما .. جاء الخطابان عن طريق ادارة الأمن العام , والألطف من هذا أن الخطابين ليس فيهما الا تحيات والد يسلم على ولده العزيز .

يا للهول

استبد الجوع أمس – كما سمعت – بالأخ الحاج محمود هداية , وهو رجل قد بسط الله له فى جسمه وقامته , فما كان الا أن أكل قطعة لحم نيئة . ان الجوع كفران , فمن أجاع انسانا وهو عامد متعمد بلا جريرة , فقد خرج على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

هل رأيت ؟ ..

هل رأيت ذبابا يهاجمك , فلا يكتفى بمداعبة أطرافك المكشوفة مداعبته الثقيلة , بل يتجارأ فيدخل بين ملابسك , ويسبح فوق بشرتك ؟ . ان كنت لم تر هذا فتعال الينا – وقاك الله – لترى هذا الصنف من الذباب المستبد ... يخيل الى أن الذباب قد أدرك أننا أصبحنا بمنزلة الهوان من الناس , فلم لا نهون عنده هو الآخر ؟ .


الأحد 12 يونيه سنة 1949 م

اقتراح عادل

اقترح اليوم الحاج محمد حلمي المنياوي أن ترسل الدولة الينا قضاة أو وكلاء نيابة للتحقيق معنا , حتى ندلى اليهم بحججنا ووجهة نظرنا , فانه لا يجوز أبدا أن نترك هكذا وفينا أبرياء , وفينا كثيرون أخذوا بالظنة أو الوقيعة .. انه اقتراح عادل , ولكن أين من يسمع ؟ ..

بين شوقى والبوصيرى

طالعت اليوم نهج البردة لشوقى , فتجددت فى نفسى روعتها وتأثيرها , ولا عجب فهى احدى أيادى شوقى العظيم , شاعر العربية الفرد .. وقد أخذت أقارن بين النهج وبردة البوصيرى , فلاح أن شوقى كان ينظم النهج بعقله وعلمه وشاعريته الولادة للمعانى والصور , وأما البوصيرى فقد نسج بردته بقلبه وروحه وعواطفه , فهو أشبه بمجذوب منغمس فى تيار المحبة المحمدية . والحق أن البوصيرى هنا سابق وشوقى لاحق , وطالما اتكأ الأخير على الأول فى صوره ومعانيه , وشوقى يعترف بهذا فيقول :

المادحون وأرباب الهوى تبع
لصاحب البردة الفيحاء ذى القدم
مديحه فيك حب خالص , وهوى
وصادق الحب يعلى صادق الكلم
الله يشهد أنى لا أعارضه
من ذا يعارض صوب العارض العرم ؟
وانما أنا بعض الغابطين , ومن
يغبط وليك لا يذمم ولا يلم
هذا مقام من الرحمن مقتبس
ترمى مهابته سحبان بالبكم
===هنا أفضل من الخارج ===

لو تدبر المرء قليلا لرأى أن داخل المعتقل خير من الخارج الآن , ففى الخارج شبهات وظنون , وزلازل ومخاوف , والمرء هناك لا يأمن الاتهام , ولا ينجو من الخوف , ولا يتمتع بالحياة العادية , ولا يستطيع أن يسير سيرا طبيعيا , ولا ينال حقوقه كاملة , لأننا فى زمن فتنة , فهو اما أن يتابع على طول الخط , واما أن يرائى , وينافق هذا وذاك من السادة والصعاليك . أما هنا فالمرء خالص من التبعات والمسئوليات , ينام محروسا بالجند , ويصبح ولا تبعة عليه , الا أن يهدأ وينقطع عن النشاط ... حقيقة انه محروم من حريته , وهى أثمن فى الوجود , ولكن أين الحرية الآن ؟ . اللهم اكشف عنا العذاب , اللهم اكشف عنا الظلمات .. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا .


الاثنين 13 يونيه سنة 1949 م

خواطر م ..

اللهم أنقذ الإسلام من بعض أبناء الإسلام , اللهم اشف أمة محمد من أمراضها المزمنة وعللها المستعصية وأوجاعها المؤلمة . ما أحوج الإسلام الى التبشير به بين أهله , وما أجهل بعض المسلمين بكثير من أمور الإسلام ومع ذلك يتظاهرون بالمعرفة لكل شىء . هناك كثيرون مصابون بداء التعليم والتقويم , وعلة التظاهر بالعلم والفقه , فما يكاد يقع خطأ شكلى أو هفوة هينة فى أمر عبادى أو مظهر دينى , أو عبارة مقولة أو منقولة , حتى ترى الأصوات المتعالمة المتفاخرة تسارع فى جلبة وضوضاء متفضلة أو متطفلة – لست أدرى – بالتصحيح والتصويب ومن عجب أن هذا يحدث من وارشين غير مختصين , بينما أهل الفضل والاختصاص غرباء بين هؤلاء الدخلاء . وداء آخر هو التظاهر بالعبادة والتلاوة والدعاء , ترى أناسا يسرفون فى هذا ولا تتفتح نفسك لهم , لسبب خفى أو شعور باطنى قد تطالب بتصويره فلا تستطيع , وترى آخرين قد يعتدلون فى ابداء هذه المظاهر , ومع ذلك تحس بشعور باطنى أيضا , لعله من عمل السماء . أنهم على حق وصدق , وأن أنوارا تفيض مع بسماتهم التى يحسبها الجاهلون مما لا يتفق مع الرزانة والوقار . والجدال الجدال الجدال . قاتل الله الجدال . قاتل الله الجدال أينما كان ... المسلمون يتجادلون حول التوافه من الأشياء , أو الأشياء التى تبعد كثيرا عن الحياة والأحياء , ولا يترتب على الاهتمام بها كبير فائدة دينية أو دنيوية . فاللهم اشف أمة محمد ...

الثلاثاء 14 يونيه سنة 1949 م

حول الشيوعية

معنا فى المعتقل أستاذ تهمته أنه شيوعى , وهو الأستاذ مصطفى هيكل الحاصل على درجة ماجستير فى العلوم السياسية من كلية التجارة , وابن عم هيكل باشا رئيس مجلس الشيوخ , وهو شاب يبدو أنه مثقف لسن ذكى , ولست أدرى كيف جاء الى هذا الجناح من المسكر , مع أنه يتحدث كثيرا عن الشيوعية , ويذكر أنه وضع رسالته فى الماجستير عن موضوع يتصل بالشيوعية , وقد حدث اليوم أن كان مصطفى يتناقش مع شاب آخر , فثار ثالث وهدد وأنذر , ثم طلب من المشرفين على المعتقل نقل مصطفى الى جناح الشيوعيين . الحق يقال : ان المعتقل ليس بمكان صالح للنقاش , لأن الموجودين أسرى , ولأن الأعصاب مرهفة مرهقة , ولأن الحرية غير مكفولة , ولأن الشجاعة فى ابتلاء , ولأن الأيام أيام فتنة , وكثيرا ما يبدأ النقاش حوارا فجدالا فخلافا فاحتداما فسبابا فعراكا فتوترا فى العلاقات . ومن عجب أن بعض المسلمين يخافون على الإسلام من الحوار حوله خوفا شديدا , ويتوهمون أنه لا يثبت على الزعازع , ويحسبونه بناء من الخارج , مع أنه البناء الأشم الذى لا ينال ولا يطال , وعقيدة الإسلام كما تعتز بأنصارها تقوى بمعارضة أعدائها :

ما حوربت قط الا عاد من حرب
أعدى الأعادى اليها ملقى السلم

وهناك فائدة يكسبها الإسلام من أعدائه بتطاولهم عليه , هى أنهم يثيرون نقطا مجهولة للمسلمين , فتهيىء لهم فرصة للبحث والتمحيص , فيطلعون على جوانب من دينهم كانت مستورة :

واذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لهل لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طبيب عرف العود

يوم أسود لا ينسى

حدث اليوم فى جناح المعتقل الرئيسى " عنبر الادارة " احتكاك بين بعض المعتقلين وبين الضباط والحراس , بسبب الاستفزاز ولتحكم فى الأسارى المنكوبين , وكان ذلك عند الظهيرة , وفجأة حدثت المعركة ... أخذ الجنود يطلقون الرصاص من بنادقهم فى كل مكان , وأخذنا نسمع ضربات العصى والخشب والكرابيج تنهال على أجسام المعتقلين , وأصوات المضروبين وهم يصرخون أو يئنون , وكلت أيدى الجنود الموجودين فى المعتقل من الضرب والاعتداء , فأرسلوا فى طلب النجدة من محافظة القاهرة لتتم حملة التأديب والتعذيب والارهاب , وأقبلت السيارات تحمل الزبانية وعليها الخوذات وفى أيديها العصى والبنادق , وأعيدت مأساة الضرب والتعذيب , ونحن جلوس فى جناحنا كالعصافير المجردة داهمتها العقبان الباغية , فطوقت أعشاشها بسلاسل البغى والتخريب , أو كالضحايا والقرابين تنتظر دورها الرهيب . وبعد قليل أقبل علينا ضابط وجنديان , واستدعيا الأستاذ عبد الحكيم عابدين الى جناح الادارة , فحسبنا أنهم يريدونه لتهدئة الحال وتسكين الخواطر , ولكنه ما كاد يصل حتى انهال عليه جمع من الزبانية يضربونه ضرب التجريح والتعذيب الشنيع فى كل مكان من جسمه , بعد أن ألقوه على الأرض بغيا وعدوانا . ولم يعد الأستاذ عبد الحكيم عابدين الى جناحنا الا فى منتصف الليل , مثخنا بالجراح , لا يستطيع المشى أو الكلام , وقضينا يوما وليلة شعرنا فيها بأننا بحالة من الهوان والضياع هنا يعجز القلم فيها عن التصوير .


الأربعاء 15 يونيه سنة 1949 م

ليلة ليلاء

لم أنم فى الليلة الماضية لحظة واحدة , وأظن أن الجميع مثلى ... فقد كانت مأساة الأمس فظيعة شنيعة , صرعت فيها الأخلاق والانسانية , وتمثل فيها اللؤم البشرى بأقبح صورة . وصلينا الفجر مضطربين قلقين , وعقب الصلاة وقف الأستاذ فريد عبد الخالق فحث على الحكمة والصبر وحسن الاحتمال .. ثم وقف بعده الأستاذ عبد الحكيم عابدين فحدث الموجودين عما فعلوه به من ضرب وجراح واهانة وافتراء , وعما فعلوه بفضيلة الأستاذ عبد المعز عبد الستار الواعظ العام أيضا , وعن الاصابات البليغة التى أصيب بها الإخوان فى جناح الادارة , ثم أقسم عابدين أنه رغم ضعفه وعدم احتماله للأذى لم يشعر بأى ألم للضرب , وأنه يحتسب هذا فى سبيل الله , ثم دعا الى الاحتمال وأخذ الأمور بالحكمة والرشاد . زقد خففت هذه الكلمة حدة الشعور عند الكثيرين .

طابور التمام

أراد المشرفون علينا السخرية بنا , فأقبل ضابط وأمرنا نقف صفا أمام البناء " ليتمم علينا " ولم يحدث هذا من قبل , وحعل " حضرة الضابط الشهم الهمام " ينهى ويأمر , فى تعال و تحكم , واستخفاف واهانة , وكان مراده التحرش وانتهاز الفرصة للاحتكاك , وتباطأ أحد المعتقلين عن الانتظام فى الطابور , فأخذ الضابط يسب ويشتم , وعز ذلك على الأستاذ الكبير الحاج محمد حلمى نور الدين , فصرخ فى الأخ المتباطىء ليسارع بالانتظام , ابقاء على كرامة الكبار من المعتقلين , ثم لم يملك الحاج حلمى نور الدين دموعه . وفى المساء جعلوا " طابور التمام " هذا فى المصلآ , ولم يتخلف عن الانتظام فيه الا أربعة مرضى , هم الأساتذة الإخوان  : عبد الحكيم عابدين , وفريد مصطفى , ومحمد أبو عيشة , واحسان تمام .

ان كان عندك يا زمان بقية
مما يضام بها الكرام فهاتها

اقتراح لتعميم المطالعة

القوم هنا فى فراغ , وعندهم تعطش للمطالعة , وهم يتقارضون ما نعهم من كتب قليلة ويتجاذبونها , وأحيانا يقتتلون عليها , وأنا أقترح حلا لهذا أن " يتفضل " عليهم ولاة الأمور بمجموعة من كتب دار الكتب على سبيل الاستعارة , ليطالعوها ثم ترد , ويستبدل بها غيرها وهكذا , كما كان ذلك متبعا فى معتقلات عهود الأحكام العرفية السابقة , ولكن من الذى ينقل هذا الاقتراح الى مسامع ولاة الأمور ؟ وأين منا اليوم ولاة الأمور ؟


الخميس 16 يونيه سنة 1949 م

تهجم على التفسير

بعض الناس يتهجمون على تفسير القرآن بشكل غريب خطير , ولا يتحرجون أن يدخلوا فى متشابهات الآيات على غير بصيرة أو دراسة , مع أن أبا بكر رضى الله عنه كان يقول : أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى ان قلت فى كتاب الله برأيى ؟ . ومن الواجب على من يريد الحديث فى تفسير القرآن أن يحتاط ما أمكن , وأن يتسلح قبل البدء بفقه اللغة العربية , ومعرفة السنة والأحكام , ودراسة السيرة وأسباب النزول , والوقوف على الناسخ والمنسوخ , والاطلاع على ما كتبه أوائل المفسرين , وبعد هذا يستطيع أن يتكلم ... وكم من أباطيل ألحقت بالإسلام , بسبب القول فى التفسير على غير هدى . فلا تنسوا أنه القرآن أيها الناس .

" بعد خراب مالطة "

معنا الطالب الأديب صلاح أحمد سند أفندى , وقد كان متقدما لامتحان التوجيهية فى هذا العام . وهذا الامتحان يبدأ يوم 4 يونيه , وعمل والده كل حياة حتى استخرج له بطاقة الدخول فى الامتحان , وأرسلها اليه فى المعتقل , ظنا منه أن ادارة المعتقل ستتبع " الأصول " فتسمح لولده بالامتحان وهو معتقل ... ولكن الادارة لها أصول أخرى غير أصول الناس , ولذلك احتفظت بالبطاقة حتى كان اليوم , وهو السادس عشر من شهر يونيه , وأرسلت جنديا فسلم البطاقة لصاحبها , وأخذ منه توقيعا بتسلمها , نعم سلموه البطاقة الخاصة بامتحان قد بدأ وانتهى , وهكذا جاءت النجدة , ولكن بعد خراب مالطة كما يقولون ... هذه هى الأوضاع .

تأديب عن طريق البطون

منع المسئولون عنا اليوم " الطرود " التى جاءتنا من أهلينا حاملة الطعام ونفحات الأحبة الأعزاء , وردوها على أعقابها منكسرة مقهورة ... أتدرى السبب فى ذلك ؟ انه مواصلة للتأديب الفرعونى الذى بدأت ناره يوم الثلاثاء الماضى . وما ذنب البطون هنا يا ولاة الأمر فينا ؟ .. يا هادى الطريق جرت ..

الجمعة 17 يونيه سنة 1949 م

يهود فى طريقهم الى فلسطين

تردد بيننا أن الحكومة الابراهيمية الحازمة تفرج عن اليهود المعتقلين فى مصر , ثم ترحلهم بنفسها الى فلسطين .. أرأيت هذا الاصلاح العبقرى , الذى لا مثيل له فى التارخ . أرأيت مثل هذا الجهاد الوطنى المصرى الفريد فى الوجود ؟ . الحرب بيننا وبين الصهيونيين مشتعلة الأوار , والعرب يريدون أن يقذفوا حثالات اليهود بفلسطين فى البحر الأبيض المتوسط , وحكومتنا الرشيدة السنية العلية تأبى الا أن تزيد فى عدد اليهود بفلسطين , كأنها تعوضهم عمن فقدوهم فى المعارك ليظل فيهم الاقتدار على القتال , فترحل الخطرين الموجودين فى مصر الى خطوط القتال فى الأرض المقدسة , ليحملوا السلاح غدا فى وجه الذين أطلقوا سراحهم ورحلوهم . أوراء ذلك عبقرية أيها الناس ؟ .


السبت 18 يونيه سنة 1949 م

بل الإمام الشهيد

سمعنا الأستاذ الحاج صالح عشماوي وهو يصلى بنا الفجر يدعو فى القنوت قائلا " اللهم ارحم مرشدنا " ولما انتهت الصلاة قال من لو شئت لسميته " يجب أن تكون الصيغة " اللهم ارحم مرشدنا الإمام الشهيد حسن البنا " وطالب القائل بأن يكون لقب " الإمام الشهيد " نعتا مألوفا متعارفا , يطلق فى سائر الأحوال على الشهيد الأعزل , الذى عاش اماما ومات شهيدا . وقد وعد المسئولون من الإخوان بتحقيق هذا الاقتراح فى قابل الأيام .


الأحد 19 يونيه سنه 1949 م

بين ممثل وداعية

سمعت اليوم بموت نجيب الريحانى الممثل المضحك , وأن جنازته كانت مهيبة , وأن الملايين التى أضحكها قد بكته , وأن الصحف والمجلات تكتب عنه الصفحات الكاملة والمقالات الفياضة وعبارات التأبين والرثاء الحارة , وتنشر له الصور والمواقف , وتروى عنه الذكريات والتواريخ , وعلمت أنه ترك ثروة تبلغ سبعين ألفا من الجنيهات , ومنزلا فخما مليئا بأسباب النعيم والرفاهية , وأنه عاش ضاحكا مسرورا , محظوظا مشهورا , يشرب ويلعب , ويحيا بين الحسان والممثلات , وبين موائد الشراب والقمار , ولست أدرى أهو مسيحى أم مسلم , أمصرى أم غير مصرى . وسبح بى شراع الذكريات , وتذكرت الإمام الشهيد , الذى عاش فقيرا مجاهدا , يشقى ويتعب , ويجاهد ويخطب , ويصلح ويقوم , دون أن يضع لنفسه لبنة على لبنة , أو يكنز فى مصرف ذهبا على فضة , ثم تقتله الفئة الباغية , وتفحش بالتطاول على جسده الطاهر وقد أقبل على ربه غير معيب , ويشيع الى قبره بلا رجال أو أتباع , يحمله نساء بيته وهن المخدرات المحجبات , ويحال بين الناس وبيت توديعه أو تشييعه , وهو أكرم من هذه الملايين التى بكت ذلك الممثل الضاحك . لا ضير ... ان كانت ألوف قد شيعت ذلك الممثل الهازل ببكائها , فان ألوفا من ملائكة الرحمن قد شيعت الإمام الشهيد بأضوائها وجلالها ,وما عند الله خير وأبقى .


الاثنين 20 يونيه سنة 1949 م

" وفى سبيل الله ما لقيت "

خرج الأستاذ عبد الحكيم عابدين من حجرته اليوم لأول مرة , بعد أن اعتكف فيها من يوم الثلاثاء الماضى , بسبب ما أصابه من تطاول السفهاء , وقد فرحت بخروجه اذ رأيته بارئا معافى , وزال عنه ما ألم به , وقد كتب له أجره عند ربه , ثم بقى عار الاجرام يسم خراطيم المعتدين , وما الله بغافل عما يعملون .


الثلاثاء 21 يونيه سنة 1949 م

خداع النفس

كثيرا ما أصحو قبيل الفجر متعبا منهوكا من أثر السهر وضجيج المعتقل وبلبلة الفكر . فاذا ما اتجهت الى دورة المياه فى نهاية الفناء , وتطلعت الى الأنوار الكهربية المحيطة بنا , بدا لى كأن المصابيح وانية ضعيفة باهتة , وكأنها هى الأخرى قد سهرت وتعبت , وهذا بطبيعة الحال من خداع النظر , فان الانسان يلقى ظلا من نفسه وأحواله على الشىء الذى أمامه , ثم يحكم عليه وهو ملفوف باطار ذلك الظل , ومن هنا تتسم أكثر الأحكام بنزعة الانسان الشخصية وحالته الخاصة .

فأين نذهب ؟

الحر هنا شديد بدرجة لا تطاق , والحجرات طول النهار وجانبا من الليل كالموقد المشتعل , لأن سقفها مكون من ألواح الصفيح " الصاج " وهو ملتقط للحرارة جيد , وموصل لها جيد , وقد كان تحت هذا الصفيح قبل الاعتقالات طبقة من الخشب سميكة عازلة , فنزعوها وباعوها . وبعدها صارت " العنابر " مواقد ملتهبة , متهيأة للتعذيب والانتقام . وأصبح لا يستطيع المرء أن يبقى فى الحجرات طويلا أثناء النهار , خصوصا مع كثرة الأنفاس وكثرة مواقد الطبخ , والجلوس فى خارج الحجرات متعب مرهق كذلك , لعدم الظل وللفح الهجير واشتداد حرارة الشمس .


الأربعاء 22 يونيه سنة 1949 م

متخلفون على الرغم منهم

جاءت للطلبة الذين أقيم معهم أنباء بأن زملاء لهم قد نجحوا فى الامتحانات وسبقوهم , وأن متخلفين عنهم قد أدركوهم , وأن كثيرين من هؤلاء كانوا ضعافا , وأقل من مستوى الطلبة المعتقلين , فاشتد ذلك عليهم , وضاقت بهم الأرض الفضاء , فأخذت أنصحهم وأهون عليهم , وان كنت معتقدا أن حيفا قد أصابهم , فأخرهم عن سواهم وهم راغمون .


الخميس 23 يونيه سنة 1949 م

" شركة أنباء جانو "

يقيم معنا الآن الأخ المفضال الآستاذ عبد الرحمن على جانو , وهو من خيرة الشباب : رقة أخلاق , ودماثة طباع , واتصال نشاط , وصدق جهاد , وهو أيضا لاعب " شطرنج " ممتاز , وصاحب نكتة حاضرة ولاذعة , وأصدق عنوان يطلق عليه الآن هو : " شركة أنباء جانو " ... فهو مولع بنشر الأخبار والأنباء والاشاعات على سبيل الدعابة والتنفيس ... هناك افراجات . هناك امدادات ... ستتغير الأوضاع الخارجية ... هناك " ترحيلة " الى الطور يوم كذا , وسيكون العدد فيها كذا ... وهكذا .. وكثيرا ما يقبل على الجماعات المتحلقة متخذا هيئة الجد , كاسرا من عينيه , زاويا شفتيه , متكلفا سمة التجهم والألم , ثم يقول : خبر سىء يا جماعة .. ثم يقص الخبر المصنوع فى شركة أنبائه , وبعد دقائق أو ساعات يقبل ضاحكا متفائلا ويقول : بشرى يا جماعة .. وهكذا . ويخيل الى أنه شديد الشوق الى الخارج , ولا عجب فله زوجة وستة أولاد فقط , وكأنه يريد أن يتناسهم هنا بهذا الأسلوب المازح , ولكن أنى له ذلك ؟ .

لا تحسبوا أن رقصى بينكم طرب
فالطير يرقص مذبوحا من الألم

يا حليم جدا

سئلت اليوم : كيف أنت ؟ فأجبت : " بمب " غير قابل للانفجار .. فقيل لى : ولم هذا القيد ؟ فأجبت : او كنت قابلا للانفجار لوضعت فى حرز , وأضافونى الى قضية الأوكار . فقيل لى : وكيف الحال ؟ فأجبت " معدن , أكل ومرعى , وقلة صنعة " . فقيل لى : ألا من دعوة ؟ فقلت هاتفا : يا حليم جدا , متى تغضب ؟ . انى لأستحى أن أسألك شيئا لنفسى , ولكن لهؤلاء .

افراج " بالجملة "

فى الأصيل جاء الأستاذ مصطفى هيكل , ونحن جلوس جوار النافورة , وجعل يتحدث عن الشيوعية والماركسية والتفسير المادى للتاريخ فى صراحة وقوة , وجعل الإخوان يناقشونه ويغلظون له الردود , ويشددون عليه فى الحساب , وهو يصاولهم ويجادلهم بكل أسلوب , وأنا ضائق كل الضيق بأى نقاش فى مثل هذا المكان , ولكنى لا أستطيع التحكم فيمن حولى ... وفجأة ... جاء لمصطفى نبأ " افراج " على غير انتظار , مع أنه لم يقض فى المعتقل الا أيام ... ولم يقتصر الافراج عليه , بل شمل أخويه فى المعسكر المجاور , كما شمل رابعا قيل انه قريب لمصطفى , وكان منظرا لافتا أن ترى الربعة يمتطون السيارة , بلا حراس أو أغلال الى حياة الحرية والانطلاق ... وخيم الصمت على الجميع قليلا , ثم بدأت التعليقات الآسفة , فقال قائل : لا تنسوا أن سعادة هيكل باشا رئيس الشيوخ وابن عم مصطفى هناك ..


الجمعة 24 يونيه سنة 1949 م

كيف الخلاص ؟

جعل بعض الموجودين يتسائل : كيف الخلاص مما نحن فيه ؟ . ألا يمكن أن تمتد يد خير لتكون وساطة للتوفيق والاصلاح , ولازالة عواقب الفترة الماضية المزلزلة , حتى تنعم الأمة بوحدتها وسلامتها واطمئنانها ؟ . وذكر المتسائل أسماء منها : عبد الرحمن عزام , وصالح حرب , ومنصور فهمي , ومحمد زكي علي , ومحمد صلاح الدين . ولكن ثانيا رد عليه بأن الزلزلة قد شملت القائم والقاعد , ولم يبق مجال الآن لمثل هذا التوفيق فقد وقعت الفريسة , وأحاطت بها الشباك , وفغر الأسد فاه على سعته , فانسدت أذناه عن صوت النصيح . وتضايق شاب من الحاضرين , وجرت على لسانه كلمات تدل على السأم الشاذ , وعاد يصرخ : فكيف الخلاص , ومن المنقذ اذن ؟ . فذكرنى ذلك ما رووه من أن رجلا سأل الامام جعفرا الصادق عن " الله " فقال له : ألم تركب البحر ؟ . قال : بلى . قال : فهل هاجت بكم الريح عاصفة ؟ . قال : نعم . قال : وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة ؟ . قال : نعم . قال : فهل خطر ببالك وانقدح فى نفسك أن هناك من ينقذك ان شاء ؟ قال : نعم . قال : فذلك هو الله .


السبت 25 يونيه سنة 1949 م

تعلات

ما أبرع الانسان فى ايجاد ما يعلل به نفسه .. ان عوامل الضيق بما نحن فيه , مع العجز عن تغييره , مع انطماس معالم الغد المبهم , مع قيام الحواجز الصفيقة بيننا وبين الحقوق الفردية والعامة , جعلت المرء يردد من حين لحين أمثال هذه الكلمات :

مالا يمكن أن يدرك يمكن أن يترك .. اذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون .. اذا لم تستطع شيئا فدعه الى ما تستطيع . على المرء أن يبذل جهده وليس عليه اتمام المطالب ...


الأحد 26 يونيه سنة 1949 م

استخفاف بالناس

اليوم آخر يوم من أيام الافطار , وغدا سيبدأ رمضان , وسنحمل عبء الصوم فى يونيه , وفى المعتقل , وفى الصحراء ... ولقد أنبأنا القوم أمس أن الجميع سيرحل الى الطور المبارك , لماذا ؟ لسنا ندرى , فأخذنا نحزم أمتعتنا , ونهىء أنفسنا للرحلة القادمة , وعقدنا النية على أن نتناول طعام السحور فوق ظهر الباخرة , فى عرض البحر الأحمر , ولكننا مع الأسف أصبحنا بعد ليل دائب فى الاعداد والتجهيز , ففوجئنا بتأجيل الرحيل , لماذا ؟ لسنا ندرى أيضا .. كانت صدمة أشعرتنا أن القوم يتخذوننا فى أيديهم كالألعوبة , وقام بعضنا ففك المتاع المربوط , ومنا من أبقى متاعه مربوطا استعدادا للرحيل .


الاثنين 27 يونيه سنة 1949 م

ما هذا أيها الناس ؟

بدأت الترحيلة اليوم , وهو فاتحة رمضان الكريم , فرحل الى الطور 253 معتقلا , وبقى أفراد قلائل , منهم طلبة التعليم الثانوى والمعاهد الابتدائية , ورحل فيمن رحل الشيخ جبر عبده خريبة الطالب بمعهد دمياط الدينى , وكان الفراق أليما رغم فرح الراحلين بهذه الرحلة , وصدرت الأوامر بعدم الهتاف , والا فالأذى والتنكيل . كما أمر رئيس المعتقل " القومندان " بفصل الراحلين عن الباقين , وادخال الآخرين فى الحجرات , فلم يبق للمتفارقين الا التلويح بالأيدى فى صمت وسكون . ولكن ضابطا جاء ومن خلفه الجنود فمنع هذه الاشارات . وفى الأصيل أفرج عن بعض اليهود , وأخذ اليهود يرددون النشيد الصيونى بالعبرية , فى صوت شامت ظاهر , ولا من حسيب أو مانع . وقبيل غروب الشمس بدقائق وصل المعتقل ثلاثة جدد من الإخوان وهم صائمون , فهل تدرى لاختيار هذا الموعد حكمة ؟ . وفى منتصف الليل أرجعوا ثلاثة عشر معتقلا ممن رحلوا الى الطور فى الصباح , أرجعوهم من السويس فى حالة تعب واعياء . لماذا لست أدرى ؟ .


الثلاثاء 28 يونيه سنة 1949 م

بين الصباح والمساء

فى الباح جاءت الى اليهود سيارة ضخمة , تحمل ما لذ وطاب من الطعام والشراب والفاكهة , وعرفنا أن هذه السيارة جاءت الى اليهود من " الحاخامية اليهودية " , بينما يردون " الطرود القادمة الينا من بيوتنا وفى المساء , قبيل الغروب بدقائق , ساقوا الى المعتقل جماعة أخرى من الإخوان , فشاركوا القدماء فى افطارهم , وبعد الغروب بدقائق أحضروا جماعة أخرى , وفيها الطالب الأديب علي عبد الحليم محمود وهو من طلبتنا النجباء فى معهد القاهرة , فجمعنا لهؤلاء ما تيسر من الزاد ليفطروا به .


الأربعاء 29 يونيه سنة 1949 م

" ترحيلة أخرى "

يظهر أن ولاة الأمور حريصون على أن يجعلوا شهر رمضان كله شهر رحلات وتعذيب للمعتقلين , فهذه ترحيلة أخرى , أخذوا فيها الى الطور سائر طلبة القسمين الابتدائى والثانوى فى الأزهر الشريف الشريف , وفيهم الطلاب الأدباء محمد أحمد العزب , ومحمد حلمي عبد الغفار , وعبد السلام العيسوي , وهم من طلبة معهد دمياط الدينى , والذين كانوا يقيمون معى , ويتكفلون بشؤون الحياة هنا من طبخ وتنظيف وترتيب , وأخذ عزب الفتى يبكى بكاء مرا لهذا الفراق , وكان نهارا عبوسا مسئما , حاولت أن أشغله بالقراءة فى كتاب " آثرت الحرية " لفكتور كرافتشنكو , وهو الكتاب الذى يصف مآسى الشيوعية , وقد هالنى أن أجد كثيرا من وسائل التعذيب والاضطهاد التى ارتكبت هناك فى روسيا يرتكب مثلها الآن فى مصر . فليت شعرى , أتأثر الجبارون هنا بما فى الكتاب فاتخذوه اماما ...


الخميس 30 يونيه سنة 1949 م

مفرج عنه يعود

كانت اللجنةالقضائية قد أفرجت منذ أيام عن الطالب محمد حليم السعيد , وخرج فعلا من المعتقل الى قسم البوليس فى القاهرة , ولكن البوليس السياسى الحاكم بأمره الآن , والذى لا معقب لحكمه , ولا راد لارادته , أبى ذلك الافراج , وأعاد الطالب الى عالم القيود والسدود .

أين الخلاء ؟

ما هذا الفراغ ؟ وما ذلك الصمت الرهيب فى المعتقل ؟ . لقد كان المعتقل بالأمس كخلية النحل العامرة , فأصبح اليوم كالمقبرة المهجورة , وذلك لكثرة الذين رحلوا عنه , وقلة الباقين فيه بالنسبة الى الماضى , فقد رحل فى أول يوم من رمضان 253 معتقلا , وفى اليوم الثالث رحل 259 , فكان الفراق لوعة ووحشة . لقد رحل كثيرون ممن كانوا يفيدوننا فى مسائل الحياة الضرورية , رحل الأستاذ فريد مصطفى الممرض الماهر , والأستاذ حسين كمال الدين المهندس ومخطط الحدائق , والحاج أنور محروس ضابط الاتصال بمتعهد الطعام , والأستاذ عبد الفتاح الباسطى المشرف على شؤونالتموين , والحاج حسن حسن الأحمر المشرف على وزن الأطعمة والبقول , والأستاذ سعد الدين الوليلى المشرف على النظافة والتطهير , والأساتذة صالح عشماوي وعبد العزيز كامل وفريد عبد الخالق خطباء الجمع , والطالب محمد حلمي عبد الغفار المختص بزراعة الذرة والجرجير , والأستاذ عبد الرحمن على جانو لاعب الشطرنج الماهر , وصاحب شركة أنباء جانو , والأخ حلمى أفندى منصور الخياط البارع , والحاج إبراهيم كروم " جعلص " المعتقل وفتوته, ومقلق الزملاء قبل كل صلاة , وخاصة قبل الفجر بصوته المزلزل الجهير , والحاج محمد حلمي المنياوي منبع المواساة والعطف , والأستاذ محمود المسلماني المختص بأعمال النجارة والحدادة , والأديب محمد أحمد العزب لاعب الكرة البارع , والمتفنن فى لعب كرة المنضدة , والدكتور محمد خميس صاحب الاستشارات الطبية , والشيخ سيد شهاب الدين مثير المجادلات الدينية على الدوام حتى يسميه بعضهم " مفتى المعتقل الأكبر " , والصاغ محمود بك لبيب صاحب الذكريات الشائقة فى الداخل والخارج , وفى السلم والحرب , والطالب الأزهرى الشيخ أحمد عبد المطلب صاحب الصوت الرخيم والنظرات الفلسفية .

زميلان جديدان

وصل اليوم الى المعتقل زميلان كريمان هما فضيلة الأستاذ عبد المنعم أحمد النمر المدرس بمعهد القاهرة , وفضيلة الشيخ عبد الرحمن الصوالحي امام وخطيب مسجد فى الإسكندرية , وقد كانا متهمين فى قضية سيارة الجيب بسبب التلفيق والافتراء , ثم نجاهما التحقيق , وقد كان لنجاتهما ووصولهما الى المعتقل هزة وفرحة , وعرضوا عليهما خطبة الجمعة فرفضا .

خاطر الموت

مضى قرابة شهرين لم تطهر فيهما الحجرات بأى مطهر , وقرابة شهر لم نر فيه وجه الطبيب فى المعتقل , ونحن فى الصيف , وهناك زحام وقاذورات , فانها لكارثة أى كارثة لو حدث مرض معد بيننا .. وماذا يكون الحال لو مات أحدنا داخل المعتقل ؟ .. أيدفن هنا أم فى الخارج أم يظل معتقلا رغم موته ؟ . . لقد خطر لبعضنا هذا الخاطر , وقال قائل : انه لعجيب أن تمر هذه الشهور كلها , مع هذا الزحام الشديد , دون أن تقع حادثة موت واحدة , فأجاب مجيب : انها عناية الله وحده هى التى تحفظنا فى هذا المكان .

حنين الى غائب

خطر على ذاكرتى اليوم الأخ المفضال الأستاذ سعيد رمضان .. أين استقر به المطاف يا ترى ؟ . لقد حلت جماعة الإخوان وهو خارج مصر , فأفلت من الاعتقال , ولكنه تعرض لمتاعب التنقل والرحلة ما بين فلسطين , وشرق الأردن , والعراق , والباكستان , فاللهم كن له , وافتح به , وأعده النا سالما غانما . فى الأستاذ سعيد رمضان سمات من ملامح الإمام الشهيد , فيه أقباس من تعبده , وهدوئه , وحسن لقائه , وتدفق بيانه , وقوة احتماله , وأعتقد أن الغد يضمر للأستاذ سعيد دورا كبيريقوم به , فواصل جهادك يا سعيد , ودوام المسير , التحصيل , والاعداد , والاستعداد , فالأول يقول : ان العظائم كفؤها العظماء .


الجمعة أول يوليه سنة 1949 م

مساوىء عهد الارهاب

تحلقت طائفة من الزملاء , وأخذت تعدد المساوىء التى ارتكبتها دولة الارهاب فى هذا العهد الأسود , فكان مما ذكروه هذه النكبات : " انفراد الحاكم بالسلطان المطلق والتصرف الحر مع وجود الهوى والخطأ- ارهاق الملايين فى سبيل نعمة عشرة أو عشرات , وحشد السجون والمعتقلات ومراكز الشرطة بالأبرياء , أو الذين لم تثبت ضدهم تهمة , واستخدام الجلد والضرب والتعذيب للتشفى والانتقام أو لانتزاع الاعترافات الحقة أو الباطلة – تعطيل آلاف العقول الذكية والأيدى الماهرة عن العمل مالانتاج – معاملة المعتقلين كالمسجونين أو المنبوذين – العمل على نشر الأمراض فى صفوف المعتقلين باهمال الناحية الصحية تماما – نشر المبادىء الخطيرة بين الأحداث الأبرياء بخلطهم مع الكبار المجرمين الخطرين , أو المشتبه فيهم – خلط طبقات من المعتقلين متفاوتة الثقافة والمبادىء والنزعات والأخلاق , وفى ذلك ما فيه من الخطر البين – خداع الشعب بالأباطيل والمفتريات , واختراع الأساطير عن مخازن الأسلحة وضخامتها واذاعتها بالسيطرة المطلقة على الأنباء – اهانة رجال الدين بصورة لم يسبق لها مثيل – هتك حرمات البيوت والمنازل والمكاتب والأسرار العائلية – ذكر أسماء العورات وخاصة ما يتعلق منها بالآباء والأمهات – التهديد بهتك الأعراض أو الاقدام على ذلك فعلا – القاء الرعب فى قلوب الملايين حتى صار الفرد اذا أصبح لا ينتظر المساء , واذا أمسى لا ينتظر الصباح – قتل كثيرين غدرا واغتيالا بلا محاكمة أو حجة – حرمان مئات من الشباب من مواصلة تعليمهم – تعريض المقدسات الدينية للتطاول والسفه – الأخذ بالظنون والاتهامات الكاذبة وأباطيل الشبهات بلا مراجعة أو تحقيق – اشاعة الجاسوسية الأثيمة فى صفوف الطلقاء والسجناء والمحبوسين والمعتقلين , بأساليب الجواسيس القذرة لاستدراج السذج حينما يندفعون فى الكلام متابعة أو مجاملة أو تنفيسا عن عواطف يغالبون كتمانها , أو استجابة للايحاء , مع أن الانسان فى الأديان والقوانين العادلة لا يؤاخذ بما حدث به نفسه , أوناجى به خاصته بلا تفكير فى اثم أو اجرام – ايجاد الحزازات والشماتات والأحقاد بين أفراد الأمة وطبقاتها – تقلب أفراد قلائل من الحاكمين فى الترف والنعيم على حساب الأمة , بينما الشباب وصفوة الرجال يسامون العسف والهوان .


السبت 2 يوليه سنة 1949 م

صنفان من المعتقلات

جلس الأستاذان الفاضلان الشيخ عبد المنعم أحمد النمر والشيخ عبد الرحمن محمد الصوالحى يحدثان الإخوان عن المعتقلات التى كانت فى مصر أثناء الحرب العالمية الأخيرة اذ دخلاها أيضا فى سنة 1942 م , فقالا ان المعتقلات كانت فى غاية النظافة والنظام , وكانت معاملة الرؤساء عاقلة حكيمة , وكانت أدوات الطعام جميلة ثمينة كالتى نراها فى البيوت الراقية , وكان المرضى يترددون على المستشفى , وكانت الرقابة يومية , وأحيانا كان المعتقلون يترددون على منازلهم ثم يعودون , وكانت فى المعتقل مجلات وجرائد وأدوية نادرة . فقال قائل : لقد كانت تلك معتقلات , أما اليوم فالقوم يريدون لنا الابادة عن طريق الاعتقال .


الأحد 3 يوليه سنة 1949 م

شيخ جديد

وصل المعتقل اليوم شيخ جديد , هو الأستاذ محمد أمين رستم المدرس بالقسم العام بالأزهر , وصاحب محل للساعات والراديو , وتهمته كلها هى أنه يشتغل فى آلات الراديو ,وفى محله بعضها , واذن فهذه الألات ليست الا محطات اذاعة لاسلكية , اذن فيجب أن يصادر فى حريته , وأن يلقى فى غياهب الأسر . وقد ظل الشيخ رستم مقيما على أرض " قسم السيدة زينب " ثلاثة وخمسين يوما , يرى أنماطا من المعتقلين الشرفاء , كما يرى أنماطا من المجرمين الأخساء .


الاثنين 4 يوليه سنة 1949 م

حيرة المعتقل

المذنب يعرف له جريمة يستحق عليها العقاب , والمتهم صاحب القضية ينتظر يوم الفصل أمام القضاء , والسجين لمدة يعرف يوم النجاة والانطلاق من الأغلال , والمقطوع الأسباب فى جزيره نائيه يعلم أنه مستقر فى مكانه يستخدم وسائله المستطاعة للحياة أو النجاة والبلوغ الى الشاطىء , والمريض ذو العلة المتطبب يعرف من خطوات العلاج ودبيب العافية وعلامات الشفاء متى سيصل الى كمال البرء وتمام الصحة ولو بالظن والتخمين , ولكن المعتقل فى ظلمات العسف لا يدرى من أمره شيئا , ولا يحسن لنفسه صنعا , فهو أشبه بسمكة فى أعماق المحيط , لا يدرى أتصطدم بصخرة أم تموت أم تؤكل أم تبلغ الشاطىء , وهو لا يدرى لنفسه تهمة ةلا ذنبا , ولا يعرف له يوم قضاء محدود , ولا يواجه خصوما معروفين , ولا يدرى متى يكون الافراج عنه , وهو عرضة للتقلبات الداخلية والخارجية , ضحية على الدوام , أشبه بكبش الفداء فى ضجة لا يعرف فيها الظالم من المظلوم , وهو مع هذا كله يرتقب اطلاق سراحه فى كل وقت لايمانه ببراءته ... فلنتصور كم لذعة نفسية تمر به كلما مضى عليه يوم دون أن تلوح له فى الأفق بارقة أمل أو رجاء .


الثلاثاء 5 يوليه سنة 1949 م

أمثال مناسبة

وقع فى يدى اليوم كتاب " الأمثال العامية " لتيمور باشا , وهو كتاب جميل مفيد , ومما قرأته فيه الأمثال التالية : " آخر خدمة الغز علقة " والغز هم الترك الذين كانوا يحكمون مصر , ويسومونها سوء العذاب , بع أن أخلصت لهم وخدمتهم . " آدى السما وآدى الأرض " يضرب للمنقطع الأسباب العاجز عن التصرف . " آمنوا للبداوى ولا تآمنوا للدبلاوى " أى آمنوا للذئب الذى يسكن البادية , ولا تؤمنوا للانسان الذى يلبس " الدبلة " أى الخاتم فى اصبعه , وهذا يذكرنا بقول الأول :

عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذ عوى
وصوت انسان فكدت أطير

=== " اذا اشتد الكرب هان " === وهو واضح المعنى , ومثله قول ابراهيم الصولى :

ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعا , وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقلتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج

=== " ارقص للقرد فى دولته " === والمراد ما يوافق صاحب الدولة ما دمت مضطرا اليه . قيل : والمثل قديم , يروى أن شخصا دخل على وزير يهنئه بالوزارة , فصفق ورقص لاظهار سروره , فأمر الوزير بطرده , وقال : انما أراد الاشارة الى هذه المثل . وقد نظمه شاعر فقال :


صحبت الأنام فألفيتهم
وكل يميل الى شهوته
وكل يريد رضا نفسه
ويجلب نارا الى برمته
فلله در فتى عارف
يدارى الزمان على فطنته
يجازى الصديق باحسانه
ويبقى العدو الى قدرته
ويلبس للدهر أثوابه
ويرقص للقرد فى دولته

وقال الأهوازى :

قل لمن لام : لا تلمنى
كل امرىء عالم بشانه
لا ذنب فيما فعلت . انى
رقصت للقرد فى زمانه
من كرم النفس أن تراها
تحتمل الذل فى أوانه

وقال آخر :

اذا رأيت امرءا وضيعا
قد رفع الدهر من مكانه
فكن سميعا له مطيعا
معظما من عظيم شانه

فقد سمعنا كسرى قد قال يوما لترجمانه :

اذا زمان الأسود ولى
فارقص مع القرود فى زمانه

لقد أسمعت لو ناديت حيا

اشتكى فضيلة الشيخ عبد الرحمن محمد الصوالحى من انقطاع المياه أغلب الأيام ساعات طويلة , وطالب الموجودين من الكبار بأن يتصلوا بادارة المعتقل لتلافى هذا الوضع , فتكلم الأستاذ الكبير محمد طاهر الخشاب فى صلاة العشاء , وأوصى الموجودين بأن يرضوا بالواقع , وأن يعتمدوا على أنفسهم , وذكر لنا أنه قد مرض , فكتب الى ادارة المعتقل أربعة عشر خطابا , يطالب فيها بحضور الطبيب ليكشف عليه , حتى يقرر له العلاج اللازم , فلم يسمع له أحد ...

رفقة جديدة

بعد أن سافر الثلاثة الذين كنت اقيم معهم : عوب الذكى الحساس , والعيسوى العاقل البشوش , وحلمى المتفنن الضحوك , انضم الى رفقتى اثنان من الإخوان هما الأخ المفضال عبد الله محمد حسن الطالب بكلية التجارة , وصاحب اللهجة " الشرقاوية " اللطيفة , والتعليقات اللاذعة على الأحداث , والطالب النجيب عثمان عبد الحميد صالح الطالب باحدى مدارس المنصورة الثانوية . ولقد لقيت فيهما خير العوض عمن سافروا الى الطور .


الأربعاء 6 يوليه سنة 1949 م

ذخيرة عند الله

كان الأستاذ الكبير محمد طاهر الخشاب يرقب زيارة من أهله بفارغ الصبر , فجاءته اليوم السيدة الجليلة حرمه , وذهب للقائها فى جناح الادارة حسب المتبع , فوجدها ومعها فلذات قلبه وقد نقصوا بنتا , وقد أخفوا عنه موتها فلن يبلغوه الخبر فى حينه , وللأستاذ الخشاب قلب والد وشعور أب , فعاد الينا من الزيارة مستعبرا , يحمل من الهم ما الله به عليم .

اعتكاف بالريف

أخبرنا أحد المعتقلين الجدد اليوم أن الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة قد اصدر بيانا يعترض فيه على الأوضاع الحاضرة , وعلى أسلوب الحكومة الارهابى . وذكر أنه لا يستطيع أن يعمل شيئا الا أن يترك القاهرة ويعتكف فى الريف , حتى تزول هذه الأوضاع , وتنكشف تلك الغمة , ومعنى هذا فى رأيى أن الأستاذ أحمد قد قرر اعتقال نفسه بنفسه , الى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا , وماذا يملك غير هذا ؟ .

الخميس 7 يوليه سنة 1949 م

أحد ضحايا التعذيب

انه ليحز فى نفسى ويفتت كبدى منظر الأستاذ محمد أحمد سليمان المدرس الشاب الجريح القدمين , الذى أرى على وجهه صفرة الاعياء والمرض , وأرى طرفى ساقيه وقد لفا بالأربطة البيضاء , يسيل منها الدم والدواء الهزيل , واذا مشى توكأ وتمايل ألما وضعفا ذات اليمين وذات الشمال , وأنا لا أطيق احداد البصر الى جروحه , ومن عجائب الأقدار أن سريره فى ممر الداخلين والخارجين , ولقد رايت كثيرين ممن جرحت أقدامهم أو خدشت , ولكنها كانت أخف من جراح هذا الشاب ,,, انه يا سيدى ضحية من ضحايا التعذيب الكافر .


الجمعة 8 يوليه سنة 1949 م

لحظة رهيبة

انقطع التيار الكهربائى قبيل الفجر , فانطفأت الأنوار داخل المعتقل وخارجه , وهنا أخذ جميع الحراس يطلقون الرصاص من بنادقهم ومدافعهم اليدوية الخفيفة فى سرعة وتتابع , وكأنهم حسبوها مؤامرة للهرب والشغب , فكف الجنود عن اطلاق الرصاص , وجعل الجميع يضحكون ساخرين . وفى الظهر خطب الأستاذ عمر التلمساني خطبة الجمعة عن قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله لعلكم تفلحون " . وكانت خطبة وجيزة مركزة , وتلك عادته , وبعد الغداء اشتركت مع الأستاذ زكريا خورشيد المحامى , وهو رجل هادىء متزن قويم الأخلاق نبيل الطبع , فى قراءة كتاب " آثرت الحرية " فجعل يقرأ وأنا أسمع , واتفقنا على اتمام الكتاب بهذه الطريقة . وبعد قليل أقبل الأستاذ محمد أمين رستم, فاشترك حينا فى السماع , وأخذ الإخوان ينادونه باسم " ماركونى " لخبرته فى اللاسلكى , فجعل يداعبهم ويذكر لهم جانبا من الطرف والنوادر .


السبت 9 يوليه سنة 1949 م

اللهم اشف أمة محمد

سألنى اليوم سائل : لماذا تكثر من قولك : " اللهم اشف امة محمد يا رب العالمين " ؟ فأجبته : لما أرى فيها من عيوب لا يرضاها لها نبيها صلى الله عليه وسلن , ومن أمثلة ذلك أننا كنا قرابة مائة وخمسين نصلى الظهر منذ أيام , وما كاد الامام يسلم ونسلم خلفه حتى وقف أحد المصلين , وقال بصوت خطابى مرتفع : أيها الإخوان : يقول الله تبارك وتعالى فى كتابه الكريم : " انا عرضنا الأمانة عاى السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها محملها الانسان انه كان ظلوما جهولا " ... وسكت هنية فحسبناه سيبدأ فى تفسير الآية , ويلقى عليها نظرات تحليلية , ولكنه أدهشنا حين أخذ يقول ان " فوطة " له قد ضاعت , فعلى من وجد " هذه الأمانة " أن يردها الى صاحبها ... وهنا تناثرت الضحكات .

ما أثقل حساب المسئولين

كلما نظرت الى الزرع الذى استطعنا أن ننبته فى فناء المعتقل , بوسائلنا المحدودة المتواضعة , ورأيت الذرة والبطيخ والطماطم والفجل والجرجير واللفت وغيره , عجبت كيف تحولت هذه القطعة الصغيرة من الصحراء الى أرض خصبة , وتساءلت : لماذا لا تعمل الدولة على تحويل الصحراء الواسعة الفسيحة الى مزارع خصيبة ... حقيقة ما أكثر الكنوز الدفينة الضائعة فى أرض مصر . وما اثقل حساب الذين يلون أمرها , ثم يضيعون أماناتها .

أمنية حارس

سمعت جنديا ممن يتولون حراستنا خلف الأسلاك يغبطنا على حياتنا , ويقول انه قد بقى له فى الخدمة سبعة أشهر , ويقسم انه يتمنى قضاءها فى المعتقل , ولو تحقق له ذلك لقضى الأشهر السبعة نائما على جنب واحد ...

الحد 10 يوليه سنة 1949 م

اقرار بالاكراه

تتابعت الأنباء بأن المساكين الذين يؤخذون تباعا , ويضربون فى المحافظة أو فى جهات اخرى , توجه لكل منهم مثل هذه الأسئلة : اين مكان الأسلحة والذخائر ؟ . اين مكان فلان الهارب ؟ . ما مبلغ النقود التى كنت تدفعها للجماعة " المنحلة " ؟ . اين مقر أخيك أو ابن عمك أو خالك أو زميلك الهارب النختفى ؟ ... ويروى أن التعذيب اذا اشتد لجأ المضروب الى اعترافات خيالية لينقذ نفسه , ثم يتبينون فيها عنصر الخيال فيعاودوهن الضرب , وكثيرا ما يطول الضرب ويتكرر , ثم تظهر يراءة المضروب ... أين تقع هذه المهازل من عدالة الأرض , أو من عدالة السماء ؟ .

===ليت الأزهر أذنا تسمع ===

أخبرنى الأستاذ محمد طاهر الخشاب أنه أرسل – وهو يعلج بمستشفى قصر العينى – الى الستاذ عمر عمر نقيب المحامين خطابا يعترض فيه على ترحيل المحامين الى الطور , ويطالب النقابة بالعمل على حفظ كرامة المحامين , ويظهر أن سعى الأستاذ عمر عمر لدى المسئولين هو الذى منع ترحيل المحامين الى الطور أخيرا ... وأقول : ليت الأزهر أذنا تسمع , فيعمل على حفظ كرامة العلماء , ويرد من الطور من ذهب اليه من رجاله , أمثال فضيلة الشيخ محمد الغزالي وفضيلة الأستاذ الشيخ عبد المعز عبد الستار ...

سياسة التجويع

لم يصل طعام الى أربعين معتقلا موجودين فى العنبر المسمى " ملحق واحد " ولسنا ندرى السبب فى ذلك التجويع , وقد اقتطع الإخوان من طعامنا أجزاء , وأرسلوها الى هؤلاء الإخوان ليفطروا بها .


الاثنين 11 يوليه سنة 1949 م

الخوف من زيارة المعتقلين

جاءت اليوم " زيارات " لبعض الموجودين , والملاحظ أن أغلب الزوار – ان لم يكونوا كلهم – من النساء والأطفال , ولا يحضر رجال الانادرا , بشرط الهرم والشيخوخة , ولا يحضر شبان الا بأعجوبة , وكأنهم يخافون ويرتعبون حتى من الزيارة , لأنها ستكون بابا الى الاعتقال .


الثلاثاء 12 يوليه سنة 1949 م

حسبنا الله ونعم الوكيل

دعى بعض المعتقلين بالأمس للتحقيق معهم فى تهمة أنهم كانوا يعطفون على أسر قدماء المعتقلين , ويمدون اليها يد المساعدة , واليوم أخذ الكثيرون يتناقلون أن المحقق الذى حقق مع هؤلاء المتهمين قد تأثر من موضوع تهمتهم , وغلبته عاطفة الانسانية , وتندت عيناه , وأخذ يردد : " حسبنا الله ونعم الوكيل " . ولكن الذى يهمنى أن أقرره هنا هو أن الانسان قد يندفع بشعوره وعاطفته الانسانية الى مساعدة الأسرة المنكوبة , بل الى مساعدة المجرم نفسه – ان وجد – بعد سقوطه فى جريمته , لا على معنى أنه يوافقه أو يشايعه , ولكن على معنى جبر النقص الانسانى ىوالخلل البشرى ... والمخطىء الواقع فى الاثم قد يستثير فى نفوس " الانسانيين " عواطف الرحمة والاشفاق , وان لم يثر فيهم الرضا والاحترام ... ولك أيضا أن تتساءل : وما ذنب الأسر المسكينة , حتى تعد معاونتها أثناء غياب عائلها جريمة تستحق العقاب ؟ . لا تنسى يا سيدى ... نحن فى مصر .

مسرحيات الافتراء

ما أكمثر المسرحيات المختلفة التى صاغتها الصحف المتتابعة , والمجلات المأجورة , ونشرات الجبناء , حول الإخوان وحول المعتقلين ... هؤلاء مثلا طلاب نشرت عنهم الصحف بالعناوين العريضة والتفاصيل المسهبة أنهم قتلة سليم زكى , وتمكن هذا المعنى فى العقول , ثم لم يثبت التحقيق عليهم شيئا , وتبين أن الأمر بلاغ كاذب , وقيدت القضية ضد مجهول . وهذا شاب مسكين , تنشر الصحف عنه بشكل مثير مؤثر أنه ارهابى هارب ,كان يحاول الفرار الى الخارج , وأنه أعد لذلك كذا وكذا , ويتأثر الجمهور بذلك , ثم يسفر التحقيق عن لا شىء , ويأتى الشاب الى المعتقل . وناهيك بالمسرحيات المفتراة عن البيعات والمؤامرات , وأوكار الأسلحة , ومخازن الذخائر , ومعدات الثورة .. الخ ... أفما كان الأجدر أن تصمت الأقلام الثرثارة والصحف المندفعة حتى ينجلى الحق ؟ .


الأربعاء 13 يوليه سنة 1949 م

تفنن فى الايذاء

أحضر ولاة الأمور اليوم الى جناحنا قرابة ثلاثين من المتشردين وأرباب السوابق , وخلطوهم بنا لتجتمع أرقى الثقافات مع أشد الطبقات " تواضعا " فى الثقافة وفى الأخلاق . وكأنما قد غاظ القوم أن يكون فى الحمى قوم لهم دين وخلق , فسلطوا عليهم هؤلاء المجرمين , ليفسدوا عليهم أمرهم , ولكن هيهات .

فرجت

وأخيرا جاءتنى " زيارة " ... جاءنى شقيقى الأستاذ سعيد ففرحت به , وطويت عنه كثيرا من مضايقات الاعتقال , فحسبه ما يلقاه فى الخارج من أهوال .


الخميس 14 يوليه سنة 1949 م

بين الطبيب والمريض

يوجد فى أرض المصلى عامل مريض منهوك القوى , لا يستطيع النهوض الا مستندا , وقد طلبوا له الطبيب مرارا , واليوم جاء الطبيب الى جناح الادارة الذى يبعد عنا بمسافة واسعة , فطلب المريض أن يتفضل الطبيب بالحضور ليكشف عليه , فأبى حضرة الطبيب الشهم , وقال أحضروه هنا ... فاستند على كتفا جنديين , وتحامل على نفسه , وسار حتى وصل اليه . أفما كان من الواجب أن ينتقل الطبيب الصحيح ذو السيارة الى المريض الخائر القوى ؟ . ان سوء الاغفال علم بعضنا سوء الاهمال , وان تتابع الانكار علم بعضنا كيف يكون الاستهتار .


الجمعة 15 يوليه سنة 1949 م

ماذا فعل الطبيب ؟

لن أنسى ما حييت منظر ذلك العامل المربض ... لقد استلقى على حصير المصلى فى صلاة الفجر , واستطاع زملاؤه النهوض للصلاة , وعجز هو عن ذلك , فظل يئن ويتوجع .. لقد رآه الطبيب بالأمس , فماذا صنع له ؟ .. أعاده حيث كان , ليطلب الشفاء عن طريق الصبر والرجاء .


السبت 16 يوليه سنة 1949 م

للابقاء على الحاكم

يأتى الى المعتقل الآن عشرات من الشباب والرجال , فاذا سئلوا : من أين ؟ . أجابوا : من حلوان أومن واحيها ... وقد علل بعض الإخوان ذلك بأن الحاكم العسكرى يسكن فى المعادى , وهو يخشى الاعتداء على حياته , ولذلك لا يريد أن يبقى على اى شاب مسلم فى هذه المنطقة دون ان يسوقه الى ظلمات الاعتقال .


الأحد 17 يوليه سنة 1949

زلزلة نفوس

ان تتابع المحنة مع اتصالها ودوامها , واعتقاد البراءة ينال من ثبات العقيدة فى الغر الضعيف فيتزلزل ايمانه .. هذا رجل يضيق بوضعه المؤلم فيقول مكهتاجا : " يا رب , والله ان لم تؤيدنا بفضلك وكرمك ونصرك ونحن براء فلن تكون ربا " .. وهذا آخر يقول " " ياحاكم يا عادل " فى نغمة المستيئس الضائق الصدر الذى كأنه يقول : " أين حكمك واين عدلك " ؟ . رشادكم رشادكم يا هؤلاء , فلا بد للكتاب أن يبلغ أجله , وفوق تدبيرنا لله تدبير .

أنياب التسمم

ان الأوانى النحاسية التى استحضرها المعتقلون بشتى الوسائل الشاقة قد صدئت من كثرة الاستعمال بلا تبييض , واسودت بشكل مفزع , وأصبح الأرز يخرج منها أسمر أخضر , فكيف السبيل الى تبييضها ؟ أو ما هى الحيلة فى تغييرها ؟ .

الاثنين 18 يوليه سنة 1949 م

ليتهم عوملوا كاليهود

وصلت ثلاث عربات من الطور اليوم محملة بجماعات من المعتقلين , والأولى والثانية منهما كلهما يهود , والثالثة من الإخوان , ووقفت العربات فى ساحة المعتقل , والشمس تلهب الرءوس والوجوه , وبدأ ولاة الامور المسلمون المصريون العرب فى انزال اليهود أولا , واحدا بعد واحد , بين تهليل وهتاف , وانشاد يتردد من اليهود القادمين واليهود المقيمين , بينما صدرت الأوامر تتمتع الشمس المحرقة بأجسامهم مدة طويلة , وبعد ساعة كاملة أخذ ولاة الأمور , فى تفريغ العربة الثالثة , فجعل الهامسون يهمسون :

ليت هؤلاء الإخوان المسلمين لقوا من حاكميهم ما يلقاه هؤلاء اليهود :

لا رعى الله نيلك يا مصر
ولا جادك الحيا حيث جادا
أنت أنبت ذلك النبت يا مصر
فأضحى عليك شوكا قتادا


الثلاثاء 19 يوليه سنة 1949 م

قصص من الطور

ان الإخوان القادمين من الطور يقصون علينا قصصا لا يكاد المرء يصدقها , لولا أننا فى مصر , ولولا أن الذين يقصونها لم نجرب عليهم كذبا . ان رئيس الحراس فى الطور يصف الإخوان المسلمين بأنهم " قطاع طرق " , وأن الحكومة الحاضرة تعاقبهم بأخف العقوبات وهى النفى , لأن الله يقول : " انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم " . وبلغ من جرأته أن كتب الآية فى لافتة كبيرة أمام أنظار الإخوان . وهل أتاك أن هذا الرئيس كان يحاول ايقاع الشقاق بين صفوف الإخوان , بأن يدنى منه بعضهم , ويصى بعضا آخر, وبأن يستكتب البعض خطابات وبرقيات الى المسئولين فيها معنى الاعتذار أو طلب الاتفاق ؟ ... وهل أتاك أن الجنود كانوا يلهبون بسياطهم كل من يخرج على أمر الحاكم الأعلى فى الطور , حتى ولو كان ذلك الخروج متعلقا بحق الفرد الذاتى أو حريته الشخصية ؟ .وهل أتاك أنه كان يرغم الملتحين على حلق لحاهم , والا منعهم من التمتع بالمفروض لهم من حقوق ؟ .. وهل أتاك أن بعض المعتقلين قد جلدوا لأنهم أذنوا للصلاة ؟ ... وهل أتاك أن كرام الإخوان كانوا يرغمون على أن يصطفوا صفوفا فى سكون واستسلام , لتلقى الأوامر والتعليم من فم الجبار ؟ ... ما أحوج قصص الطور الى تسجيلها فى السطور , قبل أن تنساها الصدور ...

الربعاء 20 يوليه سنة 1949 م

" شبح المحافظة "

ان ذكر المحافظة الآن يلقى فى النفوس الرعب والفزع , فان المحافظة ليست الآن دار أمن وسلام , بل أصبحت مسرحا لمآسى التعذيب والتنكيل , وقد دعى الاستاذ الحاج صالح عشماوي من الطور ليذهب الى المحافظة , وقد مر علينا مكفهر الوجه , ولا عجب فى ذلك , فانه رقيق البدن لا يحتمل تعذيبا , والقوم الآن لا يحفظون حرمة الانسان .. زكذلك خرج من عندنا الأخ سعد مرسى , وقيل له انه قد أفرج عنه , ولكن شبح المحافظة لم يفارقه , ولذلك لم يستطع أن يقنع نفسه بأن الافراج له فرحة وسرور .

أين كانوا؟

سمعنا أن فؤاد سراج الدين باشا والأستاذ أحمد حسين بدآيتكلمان عن المعتقلين فى الصحف , ويقولان انه لا يجوز أبدا حشر شبيبة الوطن المثقفة هكذا خلف الأسوار , ولا يجوز بقاء الأحكام العرفية , ولا يجوز الاسراف فى مكافأة رجال البوليس , مع الغموض والابهام الذى يحيط بالحوادث ... سمعنا ذلك فقال قائلنا : نشهد أن لا اله الا الله , وأخيرا تكلموا عنا وعرفوا ما نحن فيه ...


الخميس 21 يوليه سنة 1949 م

رهبة تسود

سمعت أن وساطة نبيلو حاولت أن تعيد الى حريتى وانطلاقى , وأن بعض ولاة الأمور اشترطوا تقديم " ضمان " يوقعه طائفة من الرجال المعروفين فى المجتمع , وقد خشى كثير من الأصدقاء والأحباء أن يوقعوا على هذا الضمان , لا شكا منهم فى براءتى , ولكن خوفا ورهبة , وفزعا وتباعدا عن الريبة المزلزلة , وقد وقع عليه الرجال الفضلاء : أحمد بك الشايب , والشيخ محمود خليفة , والدكتور عدلى أباظة , والشيخ أبو العيون , جزاهم الله عن مكارم الآخلاق خيرا وبرا , وعلى الرغم من تقديم هذه الشهادة التى ضمنونى فيها ضمانا مطلقا لم أخرج .


الجمعة 22 يوليه سنة 1949 م

جزاء سنمار

جاء من الطور منذ أيام الطالب الأديب الشيخ فتحى الصادق , وقد كان من طلبتى فى معهد الزقازيق , والمؤلم فى قصة هذاالطالب أن عاطفته الإسلامية الملتهبة دفعته الى التطوع فى حرب فلسطين , وترك دراسته بالمعهد الى الميدان , مجاهدا فى سبيل العروبة والإسلام , وقضى فى فلسطين خمسة شهور , تعرض خلالها للموت مرات ومرات , ثم عاد الى مصر فى سبتمبر سنة 1948 م , وكانت امتحانات الأزهر قد انتهت , فقدم هو وأربعة من زملائه حالهم كحاله رجاء الى ادارة الأزهر الشريف المعمور , لتعقد لهم امتحانا خاصا مراعاة لظروفهم وتقديرا لجهودهم , فرفضت الادارة ذلك رفضا غير كريم , وهكذا يكون جزاء المجاهدين . ولم تقف المأساة عند هذا , بل اعتقله الطغيان بعد قليل , وفى المعتقل قضى أكثر من عام , فضاعت من حياته الدراسية سنة ثانية , لماذا ؟ ... لأنه باع نفسه لله والوطن , وما حديث سنمار بمجهول ...

الناس مقامات

لاحظ بعضهم أن الأخ المفضال عبد القادر حلمى يدعى الى قسم الادارة فى المعتقل لزيارات كثيرة , وبعد بحث منهم عرفوا السبب كما قالوا , وهو أن صهره الأستاذ حسن العشماوى هو ابن العشماوى باشا , وهو يأتيه من حين لحين بالسيارة لزيارته , والاطمئنان عليه , وليحمل اليه ما يحتاج ... " يا بخته " .

أهذا منطق ؟

نقل الينا أن دولة الحاكم العسكرى المطلق إبراهيم عبد الهادي باشا ذكر لمحدثيه أنه يعلم أن هناك بين المعتقلين والمسجونين كثيرا من البراء والمظلومين , ولكنه لا يجد وقتا متسعا للتحقيق والبحث , حتى يفرق بين البرىء والمذتب , فهو مشغول مشغول . ففى شريعة من يصح هذا المنطق ؟ .


السبت 23 يوليه سنة 1949 م

ضيف كريم

استقبل المعتقل اليوم ضيفا كريما طالما استقبلته المعتقلات والسجون فى سبيل عقيدته ووطنيته , هو المجاهد العربى الكبير أبو الحسن الأستاذ محمد على الطاهر , صاحب جريدة الشورى , ورئيس لجنة الدفاع عن فلسطين , وصاحب المقالات المأثورة فى الشؤون العربية الهامة , وقد تلاقينا فتعارفت الأشباح بعد تعارف الأرواح , وقد آلمنى أن الستاذ أبا الحسن مريض شديد المرض , بعد أن عامله الطغاة أسوأ معاملة , وقضى لحظات قاسية فى قسم البوليس , ولذلك اضطر الى الافطار ونحن فى رمضان , ليستطيع تعاطى عدة أصناف من الدواء ... ولا شك أن حياة الكفاح والنضال التى عاش فيها أبو الحسن المجاهد قد نالت من جسمهوصحته , وهكذا يحترق المجاهدون كالشموع الساطعة , تقضى على نفسها لتنير لسواها الطريق . وقد فرح الإخوان بالأستاذ الطاهر فرحا كبيرا , وأقبلوا عليه محيين ومواسين , وأظهر الأستاذ رغبته فى الاقامة بركن هادىء من أركان المعتقل , أو فى حجرة صغيرة من حجراته , فقدمت اليه سريرى بالحجرة الصغيرة التى تشتمل على سريرين فقط , فبالغ أبو الحسن فى شكرى على هذا العمل اليسير , ولما استقر فى مكانه سألت : ما بالهم قد اعتقلوك وأنت لست عضوا فى جمعية الإخوان المسلمين ؟ . فأجاب : السبب فى اعتقالى هو بضع مقالات نشرتها فى مجلة النداء , ونقدت فيها الجامعة العربية وبعض رجالها ... قلت : وما علاقة هذا النقد بالأحداث الجارية ؟ . فضحك وقال : ولماذا اعتقلوك أنت الآخر ؟ ... وهممت أن أجيب , ولكنه أضاف : يظهر أنهم اعتقلوك لأنك فلان فحسب ... وجلس الأستاذ أبو الحسن يحدث الرفاق بأسلوبه القوى المؤثر عما لاقاه خلال الأيام الماضية من بغى الطغاة وسفه السفهاء ...

يا لطيف

فى المعتقل شاب متوسط العمر , يلوح عليه أنه عامل , وقد خرج له " دمل " فى وجهه فربطه , ثم ظهر له "خراج" مؤلم فى رجله . وجعل الشاب يتألم ويصيح كلما اشتد به الوجع , ولا من منقذ أو معالج , وقد وضع زملاؤه على " الخراج " شيئا وربطوه , ولكنه جعل يصرخ وهو ملقى فى مكانه , ولما أراد قضاء الحاجة لم يجد وسيلة الا ان يحمله أحد الرفاق الأقوياء الى دورة المياه وهو يواصل الأنين ... أليس هذا منظرا مثيرا كان يجب تجنبه , لو كانت هناك عناية بنا من المسئولين عنا ؟ . ولكن أين نحن اليوم من تحديد المسئوليات ؟ ...

الأحد 24 يوليه سنة 1949 م

توبة أرجو أن تدوم

نجحت فى قطع أحد العمال عن التدخين , فقد لقينى منذ أيام فى الفجر وهو يدخن فعاتبته , ونصحته بالاقلاع عن التدخين فى أسلوب هادىء لين , وبينت له الأضرار الصحية والمادية والأدبية فى التدخين , فوعدنى بالاقلاع عنه , ولكنى فى اليوم التالى رأيته عند العشاء مصادفة فى اناء الثكنة , وهو يهم بفتح علبة لفائف جديدة , فعاتبته فى رفق واضح , فاعتذر بأنه اشترى العلبة , وبعد تدخينها سيقلع , ولولا وجودها معه لأقلع من الآن , فسألته عن ثمنها فقال : خمسة وثلاثون مليما , فسارعت باخراج خمسين مليما من جيبى , وقلت له : هاك ثمن العلبة وأعطنيها لأمزقها ... فتردد , ولكنى الححت عليه فى معاتبة ومراجعة , وأخيرا أخذت العلبة وأعطيته النقود , وأراد أن يرد الى باقى الثمن فرفضت , وكانت هذه الحادثة كافية فى اقلاعه عن التدخين طيلة اليام التى قضاها معنا , وأرجو أن يصدق فى وعده الى النهاية .

أذاك خير أم شر ؟

استطعنا الآن من حياة المعتقل ان نقهر سلطان الليل , كان فى حياتنا قبل هذا مستقرا ومقاما , وسباتا ومناما , وأمنا وسلاما , وراحة واطمئنانا ... ولكننا الآن لا نضمن هذا ولو أردناه , فالانسان عرضة للسهر الطويل والأرق المستمر , وعرضة لليقظة فى اى لحظة من لحظات الليل , وهو يسهر فى صلاة القيام " التراويح " , وينهض للسحور , ويهب لصلاة الفجر , وكثيرا ما يهب للتهجد أو التلاوة ..


الاثنين 25 يوليه سنة1949م

هل استطيع الاعتراض ؟

تركت سريرى فى الحجرة الصغيرة المستقلة لصديقنا الكريم الأستاذ الطاهر ,ونمت عل أحد السرة الثلاثين , فى " العنبر " الكبير الملاصق لحجرة حضرة " الكونستابل " , فلم أذق النوم لحظة , لأن حضرته مولع كل الولوع بتدخين " الجوزة " وفيها ما فيها , وهو لا يدخنها الا مع رفاق يختارهم من الجنود , ولا تحلوا له الجلسة الا اذا رفع أحد العساكر عقيرته بالغناء المنكر , ومن حوله الجماعة تصفق ابتهاجا واندماجا فى " ساعة الحظ " زكانت ضجة الصخب تلاحقنا , فلم نعرف الرقاد , ولم نستطع أن نعترض بطبيعة الحال , ومن ذا الذى يعارض من اذا قال فعل ؟ ...

يأبى الله ذلك ورسوله

جاءنى أحد الإخوان يسألنى وقد ضاق بظلم الظالمين وبغى الباغين , فقال : هل تحل قراءة سورة يس مائة وست مرات بنية اهلاك " فلان " الطاغية ؟ . فأجبته : ما لمثل هذا نزل القرآن , ويأبى الله ذلك ورسوله , وثق أن نصر الله قريب , وأنه سيأتى حينما يخيل الينا أننا قد يئسنا منه , فاقتنع الأخ بكلامى وانصرف .

امام المسلمين يتحدث

جلس اليوم الشيخ سيد شهاب الدين التاجر ومفتى المعتقل . يقول انه قد قابل شقيقه صباح اليوم فى زيارة , فأخبره شقيقه بأنه ذهب منذ حين الى شيخ الأزهر الشيخ الشناوي , يرجوه أنم يتوسط للافراج عن أخيه , لعدم وجود اتهام ضده , فلما علم الشيخ الأكبر أن الشيخ سيد من الإخوان قال لشقيقه غاضبا : لا لا ... ان هؤلاء الإخوان المسلمين مجرمون , يستحقون أكثر مما هم فيه , فتألم الرجل وقال له : اذا كنت أنت يا مولانا تقول هذا عن دعاة الإسلام , فماذا يقول غيرك اذن ؟ ... يا مولانا لهم الله . وخرج حانقا . وأخذ القوم فى نقد شيخ الأزهر , وحاولت أن أخفف الحدة فما وجدت سميعا .

سبحان من له الدوام

كنا فى صلاة القيام , وقاربنا الانتهاء منها , واذا البشرى تقبل كأنها مسك الختام لشهر الصيام ... لقد سقطت وزارة الارهاب ... لقد بطل السحر والساحر , لقد انقلب الحاكم العسكرى المطلق فى مثل لمح البصر شخصا ضعيفا عاجزا , لا حول له ولا قوة , ولا جبروت ولا سلطان , لقد خرج إبراهيم عبد الهادي باشا من الحكم , وجاء حسين سري باشا ليؤلف وزارة قومية , وليس من طبعى أن أشمت بمقهور . سبحان من له الدوام ... من كان يظن أن هذا سيحدث , وبمثل هذه السرعة , وبمثل هذه المفاجأة ؟ ... اذن فقد فتحت أبواب الفرج , وأقبلت تباشير التيسير . وعلى الرغم من عذوبة البشرى وجلالها , لم نسرف فى اظهار الفرح بها . فلسنا ندرى ما سيأتى به الغد المحجوب من أمور ..

الثلاثاء 26 يوليه سنة 1949 م

رذاذ يسبق الغيث

أصبحنا والحمد لله هانئين مؤملين , ووصلتنا أخبار من الخارج فى سهولة , فعلمنا أن سرى باشا قد فاتح مكرم عبيد باشا فى موضوع اشتراكه فى الوزارة الجديدة , فاشترط مكرم باشا لهذا الاشتراك ان تلغى الأحكام العرفية فورا , الا من كانت له تهمة معينة , فاعتذر له سرى باشا بأنه لا يستطيع التقيد بشىء معين الآن . يا للعجب أيسبق بها مكرم دون سواه , وقد كان واجبا على رؤوس طالما تطاولت وتبجحت بعريض الدعاوى أن تظهر هنا , فلاذت بالصمت البليغ أو الجبن الواضح ؟ ... انه رذاذ مهما كان مصدره , ونرجو أن يتلوه الغيث عما قريب .

فضائح بين الجنود

جلس حضرة " الكونستابل " اليوم فى فناء المعتقل , على كرسى وثير , ومد رجليه لعسكرى من الجنود يشتغل حلاقا , وكلفه بأن يقص له أظافر قدميه , فأخذ الجندى يفعل ذلك ذليلا صاغرا , وجعل القوم يمرون بحضرة الكونستابل الهمام وفيهم علماء وأطباء ومحامون ومهندسون ومدرسون , فلا يستحى ولا يخجل .. من أين تعلم حضرته هذه الخطة ؟ .. وكيف يحتفظ هذا العسكرى برجولته مع تلك الذلة ؟ .. وكيف يحتفظ الجنود برجولتهم وشهامتهم اذا سخرهم رؤساؤهم تسخير العبيد فى الغسل والكنس وخلع الملابس ووضعها , وغير ذلك مما لا يجوز ولا يليق ؟ . ومتى يا سادة تتطهر هذه الصفوف الغالية العزيزة من هذه الفضائح المخزية ؟ ..


الأربعاء 27 يوليه سنة 1949 م

هذا هو العيد

انتهى رمضان بخير سهلا هينا لينا , رغم الأسر والشدة , وختمته هذه البشرى الطيبة , فخرجت من الحكم دولة الارهاب , واليوم اقبل العيد , وهذا هو أول شوال سنة 1369 . وأنا رجل لم أفرح بالعيد منذ أكثر من خمس سنوات , لا العيد الأصغر ولا عيد الأضحية , فقد كنت أقضى العيد خلال السنوات الأخيرة فى القاهرة وحيدا منفردا , بعيدا عن الوالدين والأهل وأخدان الصبا وملاعب الشباب فى البجلات العامرة , وكنت أضيق بيوم العيد , فأقضيه داخل حجرتى قارئا أو كاتبا فى اغلب الأحيان , ولكننا اليوم شعرنا بالعيد , وفرحنا به , وسررنا لقدومه .. صلينا الفجر بامامة الشيخ إبراهيم جلاب , ثم بدأنا التكبير فى حذر , ثم خطب الأستاذ حسن دوح للعيد , وثار وهو يتكلم فبح صوته , ثم تناولنا الشاى وجانبا من الحلوى , وكان شقيقى الاستاذ سعيد قد بعث الى بجانب كبير منها , مع دجاجتين كانتا موضوعا للدعابى زمنا طويلا , ثم بدأ الحاج إبراهيم كروم الأخ المسلم " وشيخ مشايخ فتوات حى السبتية سابقا " فى دعاباته , فعرض علينا " زفة جعلص " ثم أرانا فنونا من لعبة " التحطيب " , ثم بدأ يشرح كيف تدافع عن نفسك , وكيف تهاجم الفتوات , وكيف تتقى الضرب بالمقاعد والمناضد , وكيف تحدث المعارك " والخناقات " . ثم جعل يطالب " بالطير الأبابيل " للطغاة المجرمين , وهتف بحياة الملك فردد الحاضرون الهتاف , وجعل يهتف : " نصر من الله وفتح قريب " .. وهكذا انقضى أغلب اليوم ونحن فى بهجة وسرور .. وفى الأصيل عكف الأستاذ محمد علي الطاهر على تدوين مذكراته فشغل بها . من مبلغ عنا أهلنا أننا هنا سعداء , وأننا راضون حتى يرضوا .. اللهم أنت ولى السمع والاجابة .

الخميس 28 يوليه سنة 1949 م

القصر للجميع

اخذ بعض الموجودين يتهامسون بأن الطغاة كانوا يتعللون فى تصرفاتهم بالقصر , وهذا تعلل غير معقول وغير مستساغ , لأن القصر للجميع , وهو فوق الحزبيات والخلافات , ويعتقد الكثيرون أن من فى القصر لو وقفوا بأنفسهم على حقاءق المآسى التى ارتكبت وترتكب لما رضوا عنها , ولكن يظهر أن الحاكمين بأمرهم يتعللون بهذا , حتى يلجموا الألسنة , ويردعوا المعارضة , وينطلقوا كما شاءوا .

فأين الرفق ؟

عاد الحاج إبراهيم كروم من الطور , ورجع الى طريقته العنيفة العنيدة فى ايقلظ النائمين للصلاة , وتحريضهم على العبادة بما يشبه التسخير , وهذا يتسبب عنه عناد البعض فلا يستجيبون , وهكذا اذا لم تقدم كلمة الحق فى ثوب من الهدوء والحكمة والاحسان انقلبت باطلا . لقد تذكرنا طريقة الحاج حلمي المنياوي اللطيفة الرقيقة فى الايقاظ , ولكن أين الآن ؟ ... لقد استأثر به الطور المبارك . ولقد ذكروا أنه كان هنا منذ شهور الأستاذ شوقي سلامة حامد وهو موظف بكلية العلوم , وكان جميل الخلقة ةالخلق , حلو الصوت جذاب النبرات , وكان بارعا فى ايقاظ النائمين للصلاة , بالشعر الرقيق تارة , وبندائه من أعماق قلبه " يا رب " تارة أخرى , ولكنه كما ذكروا ذهب الى الطور مع أبيه . أخذوا الأب أولا ليقدم ابنه , فتعهد بتقديمه ونفذ , وبعد شهرين أخذوا الأب مرة أخرى ...


الجمعة 29 يوليه سنة 1949 م

بين الأمس واليوم

لقد تحسنت حالة الغداء , وحسبك أن تعلم أننا طعمنا اليوم دجاجا قدمته الينا ادارة المعتقل لأول مرة , وزادوا فى الاكرام فقدموا الينا فاكهة العنب , يالله , لقد أصبحنا اذن من أبناء آدم , وصارت لنا حقوق وكرامة , ولم لا وقد خرج ركب الارهاب من الحكم , وجاءت يد الاصلاح والانقاذ ؟ . ان حسين سري يحكم الآن , وهو رجل محايد .

خطبة للزعيم الوفدى

وصلتنا بعض الصحف , وطالعنا فيها أن النحاس باشا أذاع صباح العيد الماضى رسالة فى الصحف , وقد بعث فيها تحياته وتهانيه الى كثير من الطبقات , ثم قال : " وتحياتنا الى اخواننا وأبنائنا الذين زج بهم فى السجون والمعتقلات , وأسأل الله أن يبارك جهودهم , ويؤلف على البر قلوبهم " ... حسنا , وما وراء تلك التحية أيها الزعيم الكبير ؟ . انك تعتبر هؤلاء المسجونين والمعتقلين مجاهدين , وتدعو ربك أن يبارك جهودهم , ويؤلف قلوبهم , فأسألك بحق الله عليك أن تذكرهم يوم تلقى اليك المقاليد .

الجدال ... الجدال ...

هيأ الجو مناسبات كثيرة للجدال والحوار , وأخذ الذين طال عليهم الصمت أو الكبت ينفسون عن مشاعرهم وخواطرهم , وقد أدى هذا كثيرا الى خلاف واعتساف فى الحوار , وقد جعلت الآن أردد : اللهم جنبنا سفه الكلام , وشطحات الفهام , وعثرات الأقلام , وزلات القدام .

المنصف لا يخشى العدوان

سارع صاحب الدولة حسين سري باشا رئيس مجلس الوزراء فألغى بعد تولية الحكم بأيام قلائل تلك الحراسة الشديدة الثقيلة المرهبة المرعبة التى كانت مقامة على دور الوزارات ودار الرياسة , ومنع هذا العدد الكبير من الحراس أن يتقدمه أو يسير وراءه , واحتفظ لنفسه بحارس " ياور " واحد , وبقيت الحراسة على دار إبراهيم عبد الهادي باشا كما هى . اذن فقد كان الباشا يدافع عن نفسه , ويكلف الدولة ما يكلفها لحراسة ذاته , مع أنه هو الذى أوجد باعتسافه الارهاب , حتى أطلق الناس على حكومته اسم " حكومة الارهاب " .


السبت 30 يوليه سنة 1949 م

هل عندكم بقية ؟

هل بقى صنف من الأمة لم يدخل المعتقلات ؟ . الفلاحون والزراع والصناع والعمال والتجار , والجنود والضباط والتلاميذ فى المدارس الابتدائية والثانوية وطلبة الجامعة , وطلبة المعاهد الدينية الابتدائية والثانوية , والكليات الأزهرية , والموظفون والمدرسون والمحاميون والأطباء , والصحفيون والأئمة والوعاظ والعلماء , والشيوخ والشباب , والمبصرون والمكفوفون , وألأصحاء والمرضى , والفقراء والأغنياء , والأبناء والآباء والاخوة الشقاء وغير الأشقاء . فهل عندكم بقية يا هؤلاء ؟ . ان الله أعلى وأكبر .


الأحد 31 يوليه سنة 1949 م

ما بين عشية وضحاها

تغيرت معاملة الحاكمين لنا ما بين عشية وضحاها , وأصبحنا فى نظرهم من بنى آدم , فصرنا نسمع الألفاظ المحتشمة المؤدبة , ووصلتنا الفاكهة طيبة – منا اليوم مثلا عنب وتين – وسارت الخطابات , ووصلت الصحف والمجلات , وأصبحنا نسمع التحيات من الضباط والجنود , ولقد شعر الستاذ عبد الحكيم عابدين بألم , ووصل الخبر الى ادارة المعتقل , فأقبلت بسرعة البرق عربة فيها ثلاثة أطباء , نزل منها اثنان وزارا الأستاذ عابدين الذى اهتموا له اليوم , هو نفسه الذى تطاولوا على ضربه يوم 13 يونيه الماضى ؟ . يا للبشرية الضعيف فى أخلاقها .

الاثنين أول أغسطس سنة 1949 م

شهامة فى شهادة

أخبرنى اليوم الأخ المفضال الأستاذ محمد لبيب البوهي المهندس بمصلحة السكة الحديدية أن الأستاذ إسكندر حلمي الجمل المفتش العام لهندسة السكة الحديدية , كتب عقيب اعتقال الأستاذ لبيب خطابا الى الحاكم العسكرى , وآخر الى القلم السياسى , يقول فيهما ان الأستاذ لبيب البوهى من أكفأ المهندسين فى المصلحة , ومن المعروفين بحسن الأخلاق , ومن المحبوبين دائما بين زملائه ورؤسائه ,وان المصلحة على استعداد لتقديم الضمانات الكافية لاطلاق سراحه , حتى يقوم بواجبه فيها . هذه بلا شك شهادة تدل عل شهامة , لأنها جاءت فى وقت تنكر فيه الصديق , وتبدى العدو .


الثلاثاء 2 أغسطس سنة 1949 م

صاحبة الجلالة

لم تستعصم أغلب الصحف اليومية أمام حملة المفتريات والأكاذيب والاعاءات التى نظمها الكذبة الطغاة ضد دعاة الحق , با لعل هذه الصحف كانت نعم العون لبلبلة الأفكار وتشتيت الأذهان , بما تنشره من قصص خيالية , صاغها البغاة حول الذخائر والأسلحة والمؤامرات , وقد كان واجب الصحف أن تدقق وتحقق , وان تتريث وتستعصم , حتى لا تتهم بريئا , أو تعلن فرية , ولكن ماذا تقول وأمامها ذهب المعز وسيفه ؟ .

افراجات

أفرج اليوم عن 295 معتقلا من الطور وهاكستب , وفيهم قوم كانوا بالأمس موصوفين بالخطورة المتناهية , والاشتراك فى الشغب , وتوزيع المنشورات , وغير ذلك من الاتهامات الباطلة , وقد خرج من ثكنتنا منهم سبعة , وقد ودعهم الرفاق بالتهليل والتكبير والأناشيد , وقد اقترح البعض أن يذهب المفرج عنهم الى القصر الملكى لكتابة أسمائهم فى سجل التشريفات , وأن يرسلوا برقيات شكر لرئيس الوزراء .


الأربعاء 3 أغسطس سنة 1949 م

زوار كثيرون

جاء اليوم للمعتقلين زوار كثيرون لم أعهدهم من قبل , وكانوا فى حرية من أمرهم , وبهجة من شعورهم , واستقبلهم المعتقلون بهتافهم : الله أكبر ولله الحمد ... وودعوهم بنشيد : " ربنا اياك ندعو ربنا " فرحة أخرى كان القوم قد استدعوا الستاذ صالح عشماوي مع اثنين من الإخوان للتحقيق معهم فى المحافظة , وقد بلغنا اليوم عن طريق ادارة المعتقل أن الأستاذ صالح وزميليه قد أفرج عنهم , ولم يثبت عليهم شىء من المفتريات المذاعة .


الخميس 4 أغسطس سنة 1949 م

يوم جميل

الجو اليوم بديع رائع , كانه يوم من أيام الربيع , وقد سعدنا به بعد خمسة أيام كان الحر فيها متكالبا غالبا , وقد جلست فى الصيل أتطلع مسرورا الى هؤلاء الإخوان الكرام , الذين تعودوا أن يوزعوا على حراس المعتقل جانبا من طعام المعتقلين , يقتطعونه منا يوميا , ليقدموه الى أولئك المساكين , الذين جعلهم الطغاة حراسا , فكانوا شركاء فى الهم للمحروسين المسجونين ..

مظاهر تبدل الحال

ألاحظ أن حضرة " الكونستابل " بدأ يصلى معنا فى جماعتنا , وكذلك بعض الجنود , ماذا حدث أيها الناس ؟ .. آه .. لقد تذكرت .. لقد تغيرت الحال ... ولقد جاءت فرقة التطهير اليوم الى المعتقل , فرشت جميع أرجائه بالسائل المطهر . ومنذ شهرين لمن نر هذه العناية . ماذا حدث أيها الناس ؟ .. آه .. لقد تذكرت . لقد تغير الحال .. لقد اصبحنا من الناس .


الجمعة 5 أغسطس سنة 1949 م

المحنة والمنحة

خطبنا اليوم الستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني المحامى , وكانت خطبته عن العلاقات بين " المحنة والمنحة " , وكانت خطبة جميلة حلوة , ويظهر أن الستاذ التلمسانى يطوى وراء ثقافته القانونية ثقافة اسلامية مستقيمة , ولا عجب فهو أحد الأركان الشامخة التى صاغتها الدعوة .

ذهب عهد الارهاب

نقلوا الينا أن الوزراء الآن أخذوا يتنقلون كما يشاءون ,ويجتمعون بلا خوف ولا وجل , وأن الصحفيين أخذوا يدخلون رياسة الوزراء بلا تفتيش , وبلا مرور على مدافع رشاشة أو مسدسات سريعة الطلقات , أو غير ذلك من المظاهر التى أحاطت بعهد الارهاب المنحل , لا كتب الله له رجعة الى الوجود يوما من الأيام .

السبت 6 أغسطس سنة 1949 م

أين المشرف .. ؟

تماست اليوم بعض السلاك الكهربائية فى المعتقل , فاشتعلت النار , ووقفنا جزعين حيارى , نعالج الموقف بوسائلنا البدائية السريعة . حتى وقفنا الاشتعال ... أفما كان يجب أن يكون هنا مشرف لهذه الأسلاك المختلة ؟ .

خطاب من السودان

أوصل الى شقيقى الأستاذ سعيد خطابا جاءنى من أخى الكريم الأستاذ كامل السيد شاهين , مبعوث الأزهر الشريف فى السودان , وفى هذا الخطاب يقول " فهنيئا لك ما قاسيت ولاقيت . وما كنت لأزعج ولا أبتئس اذ أخذت مظلوما , واعتقلت عدوانا . وأظنك – وهذا يقينى – كنت من راحة الضمير فى نعمة شاملة , ومن الشعور بالبراءة فى سعادة خالصة , وأومن ايمانا لا شوب فيه للشك , أنك ستجزى من فضل الله بأفضل الجزاء , والله مع الصابرين , وسلاما لك أسيرا , وسلاما لك حرا , والى اللقاء القريب " . اذن فلا يزال فى الدنيا من يقول مثل هذا ... اذن فنحن بخير ...


الأحد 7 أغسطس سنة 1949 م

فى مصر ولا يعرفون الإسلام

أخبرنا الطالب الأديب الزغبى عثمان , وهو بمدرسة الأقباط الثانوية بالمحلة الكبرى , أنه كان فى الطور , وأنه التقى بأعرابى هناك من سكان تلك البقعة , فوجده جاهلا بدينه كل الجهل , ولقد قال للأعرابى : من ربك ؟ فأجابه : " ربنا موسى والولية كاترينا " فسأله : ومن نبيكم ؟ فلم يجب . ثم قال : " حسن البنا , جاء هنا منذ سنتين وأعطى كل واحد منا أربعين قرشا زجلبابا " .. ولعل الأعرابى يقصد الزيارة التى قام بها الإمام الشهيد لتلك المنطقة فى مناسبة الانتخابات . وقد سمعت من كثيرين أن سكان هذه المنطقة جاهلون بأمور الإسلام جهلا تاما , وأنهم يعيشون على الفطرة بلا علم أو فهم , فأين أين الأزهر ؟ ..

الحراس نائمون

شاهدت أكثر الحراس عند الظهيرة نائمين , من طول الاجهاد وشدة الحر ... لقد أصبحوا مطمئنين آمنين , فأين الذى يفكر فى الهرب ؟ . . لقد أعجب الأخ الفاصل الأستاذ أحمد محمود يوسف نجل سعادة محمود يوسف باشا بهذا المنظر , وكانت بيده آلته التصويرية , فالتقط بها صورة لأولئك الحراس ... النائمين .

تفنن فى الاتهام

هناك قضايا كثيرة حجزوا بسببها كثيرا من المعتقلين , وهذه القضايا تدور حول اتهامات تفنن ملفقوها فى صنعها , فهذه مثلا قضية تسمى : " قضية حيازة جهاز استقبال غير مصرح باستعماله " ... يا للهو ... انها لقضية خطيرة , فلابد أن جهاز الاستقبال هذا هو " محطة اذاعة لاسلكية سرية " , وكانت ستستخدم فى قلب النظام واشعال الثورة ... يا حفيظ ... ولك هل تعلم أن جهاز الاستقبال هذا هو عبارة عن " راديو " ليست معه رخصة , لأنها فقدت , أو مع شخص معتقل غائب , أو لأن الجهاز جديد ؟ ... يقال ان وجوه الكذبة ستسود يوما , ولست ادرى كيف يكون سواد وجوه أولئك الملفقين ...

بشائر الثمار

قطعنا اليوم من مزرعة المعتقل المتواضعة أول ثمرة من ثمار الطماطم التى زرعناها , وقد فاز بأكلها هنيئا مريئا الستاذ الكبير محمد طاهر الخشاب المحامى , كما قطعنا أول وآخر بطيخة أيضا , ووزعت أجزاؤها على كثيرين , فنال كل واحد قطعةصغيرة من البطيخ , لعلها كانت أشهى قطعة أكلها فى حياته , فقد لاحظت ذلك من الفرحة التى شملت الجميع واستمرت زمنا .

ماركونى فى المعتقل

نظم الأخ المفضال الأستاذ زكريا خورشيد المحامى أبياتا فى مداعبة صديقه الشيخ محمد أمين رستم الذى أطلقوا عليه اسم " ماركونى المعتقل " لخبرته فى اللاسلكى ,وقد أفرج عن الأستاذ رستم منذ أيام , وأخذ الإخوان فى ترديد تلك البيات المداعبة ضاحكين , وهى :

حيوا النشاط الرستمى
يسمو سمو الأنجم
من غسل أطباق ومل
صفيحة لم يسأم
أنى تناديه يلبى
طائعا , لا يحجم
أنعم به من " مرمطون "
فى اللاسلكى عالم
يعفيك من اصلاح ساعات
وراديو , فاعلم

ولقد كان الشيخ رستم يسمع هذه الأبيات من مداعبيه , فيشاركهم ببشاشته وروحه الطيبة فى الضحك والدعابة ...


الاثنين 8 أغسطس 1949 م

يرددون شيئا آخر

جاءت الى المعتقلين زيارات كثيرة نوعا , ولكن الزيارات فقدت بهجتها ومسرتها فان المظلومين الأبرياء الذين طال عليهم الأمد , وأحسنوا الظن بالعهد الجديد , أخذوا الآن يتطلعون الى شىء آخر أهم من تلك الزيارات , أخذوا يتطلعون الى حقهم الطبيعى , المسلوب منهم , الممنوع عنهم , المرجى لهم , وهو الافراج .


الثلاثاء 9 أغسطس سنة 1949 م

ليس ذا وقت الجدال

حدث فى صلاة الفجر اليوم ان انتهى حضرة الأستاذ الفاضل المجاهد الكبير محمد علي الطاهر صاحب جريدة الشورى المعروفة من تدخين لفافة , ثم هم بالدخول فى الصلاة , واذا بأحد الموجودين يصيح به فى أسلوب عنيف : كيف تدخل الصلاة بدون مضمضة من الدخان ؟ . ان صلاتك ستكون باطلة قطعا ... وسمع المحاورة فضيلة الشيخ عبد المنعم أحمد النمر , فأراد أن يسد باب الجدل , فقال للناصح الصائح : ان المضمضة ليست فرضا . فعارض الثائر , فقال له الشيخ النمر : ان النصيحة يجب أن تكون بأسلوبها وفى مواطنها ... ومع ذلك ظل المعترض يجادل .. عتب الأستاذ الطاهر كثيرا , وتأثر كثيرا ... ليت صاحبنا هذا تذكر هدى الرسول فى مثل ذلك .. وما حادثة بول الأعرابى فى مسجد الرسول ببعيدة , مع الفارق بين الحالتين ..


الخميس 11 أغسطس سنة 1949 م

أبو الحسن ثائر

أصبح الاستاذ الطاهر فى ثورة الأمس , وجعل يهتف " كيف يتقرر الافراج عنى منذ يومين ثم أبقى ؟ . ان اعتقال الباشا إبراهيم عبد الهادي لى نبوة لن تغتفر , وزلة لن تنسى , وسيعرف منى كيف أحاسبه عليها , وستظل العداوة بينى وبينه بسبب هذه الزلة النكراء الى الموت . يا لقسوة أبى الحسن اذا ثار . الحمد لله , لقد أقبل بشير الافراج عن أبى الحسن , جاء للتنفيذ لا للاخبار , وجعل أبو الحسن يودع رفاقه , وهو يقسم أن يدمغ عهد الارهاب البائد بكتاب يشرق ويغرب , كتاب ضخم تزيد صفحاته عن المئات , يجعل عنوانه " معتقل ها كستيب " . وهمس هامس : يظهر أن هذا الوعيد المتقد سيهدأ بعد قليل , وما هى الا ثورة غاضب . فقلت : لو كان المهدد غير أبى الحسن لتوقعت ذلك , ولكنى أعلم من تصميمه وخلقه أنه سينفذ ما قال .

لا يزالان مريضين

أخذ أخذ الأستاذ أحمد مؤمن يبكى , ويستنجد بى كلما مررت عليه , ويقول : أين عربة الهلال الأحمر يا فلان ؟ . أم أنكم تكذبون على ؟ . وجلست فكتبت له طلبا آخر الى ادارة المعتقل , ولا ندرى المصير . ولا يزال الأستاذ على محمد ابراهيم طريح الفراش يئن ويتوجع . يا لطيف . أين نحن من الدنيا ؟ .

مرتبات المعتقلين

نشرت الصحف أخيرا أن المسئولين قد قرروا صرف مرتبات الموظفين المعتقلين , بعد أن ذهب النساء بأنفسهن الى ولاة الأمور , وطلبن منهن صرف هذه المرتبات المحجوزة منذ أمد بهيد , وهذا تصرف حسن بلا شك . ولكن الذى يجب أن نبحث فيه هو : لماذا توقفت الحكومة السالفة صرف هذه المرتبات ؟ . وكيف استباحت لنفسها أن تحرمأسر هؤلاء الموظفين من مصدر رزقهم وسبب حياتهم وعماد معيشتهم ؟ لقد اعتقلوا الرأس لتهمة أو شبهة أو مكيدة , فما ذنب هؤلاء النساء , وما ذنب هؤلاء البناء , وما ذنب هؤلاء البنات ؟ . وفى أى دين أو قانون يجوز تجويع البرياء وتعريض البيوت والخدور لذل الحاجة والسؤال , فاذا تطوع غيور بالمساعدة لهذه الأسر أخذوه متهما , وأنالوه من العذاب ما يشاءون ؟ ولقد كان جبابرة الحكومة الارهابية المنحلة يقولون : من أين تأكل أسر المعتقلين وقد حجزنا موتباتهم , وأسرنا رجالهم , وسددنا أبواب الرزق فى وجوههم ؟ . كانوا يقولون هذا , فعلام يدل هذا القول ؟ . ولقد كانوا يكلفون أذنابهم وجواسيسهمزذئابهم بالبحث عن مصادر رزق هذه العائلات حتى يسدوها . فاين هؤلاء الباغون من الدين والأخلاق والقانون ؟ ...

افراج بالأغلال

وصل اليوم من الطور الإخوان الكريمان الأستاذ صالح قدور , والدكتور محمد طلبه زايد , وفى أيديهما الأغلال . وتسأل : لماذا قدمنا ؟ فيقال لك : قد أفرج عنهما . فتسأل : وما بال الاغلال فى أيديهما , وقد أفرج عنهما ؟ . فتخرس الألسنة ولا تجيب .

الخميس 11 أغسطس سنة 1949 م

أبو الحسن ثائر

أصبح الاستاذ الطاهر فى ثورة الأمس , وجعل يهتف " كيف يتقرر الافراج عنى منذ يومين ثم أبقى ؟ . ان اعتقال الباشا إبراهيم عبد الهادي لى نبوة لن تغتفر , وزلة لن تنسى , وسيعرف منى كيف أحاسبه عليها , وستظل العداوة بينى وبينه بسبب هذه الزلة النكراء الى الموت . يا لقسوة أبى الحسن اذا ثار . الحمد لله , لقد أقبل بشير الافراج عن أبى الحسن , جاء للتنفيذ لا للاخبار , وجعل أبو الحسن يودع رفاقه , وهو يقسم أن يدمغ عهد الارهاب البائد بكتاب يشرق ويغرب , كتاب ضخم تزيد صفحاته عن المئات , يجعل عنوانه " معتقل ها كستيب " . وهمس هامس : يظهر أن هذا الوعيد المتقد سيهدأ بعد قليل , وما هى الا ثورة غاضب . فقلت : لو كان المهدد غير أبى الحسن لتوقعت ذلك , ولكنى أعلم من تصميمه وخلقه أنه سينفذ ما قال .

لا يزالان مريضين

أخذ أخذ الأستاذ أحمد مؤمن يبكى , ويستنجد بى كلما مررت عليه , ويقول : أين عربة الهلال الأحمر يا فلان ؟ . أم أنكم تكذبون على ؟ . وجلست فكتبت له طلبا آخر الى ادارة المعتقل , ولا ندرى المصير . ولا يزال الأستاذ على محمد ابراهيم طريح الفراش يئن ويتوجع . يا لطيف . أين نحن من الدنيا ؟ .

مرتبات المعتقلين

نشرت الصحف أخيرا أن المسئولين قد قرروا صرف مرتبات الموظفين المعتقلين , بعد أن ذهب النساء بأنفسهن الى ولاة الأمور , وطلبن منهن صرف هذه المرتبات المحجوزة منذ أمد بهيد , وهذا تصرف حسن بلا شك . ولكن الذى يجب أن نبحث فيه هو : لماذا توقفت الحكومة السالفة صرف هذه المرتبات ؟ . وكيف استباحت لنفسها أن تحرمأسر هؤلاء الموظفين من مصدر رزقهم وسبب حياتهم وعماد معيشتهم ؟ لقد اعتقلوا الرأس لتهمة أو شبهة أو مكيدة , فما ذنب هؤلاء النساء , وما ذنب هؤلاء البناء , وما ذنب هؤلاء البنات ؟ . وفى أى دين أو قانون يجوز تجويع البرياء وتعريض البيوت والخدور لذل الحاجة والسؤال , فاذا تطوع غيور بالمساعدة لهذه الأسر أخذوه متهما , وأنالوه من العذاب ما يشاءون ؟ ولقد كان جبابرة الحكومة الارهابية المنحلة يقولون : من أين تأكل أسر المعتقلين وقد حجزنا موتباتهم , وأسرنا رجالهم , وسددنا أبواب الرزق فى وجوههم ؟ . كانوا يقولون هذا , فعلام يدل هذا القول ؟ . ولقد كانوا يكلفون أذنابهم وجواسيسهمزذئابهم بالبحث عن مصادر رزق هذه العائلات حتى يسدوها . فاين هؤلاء الباغون من الدين والأخلاق والقانون ؟ ...

افراج بالأغلال

وصل اليوم من الطور الإخوان الكريمان الأستاذ صالح قدور , والدكتور محمد طلبه زايد , وفى أيديهما الأغلال . وتسأل : لماذا قدمنا ؟ فيقال لك : قد أفرج عنهما . فتسأل : وما بال الاغلال فى أيديهما , وقد أفرج عنهما ؟ . فتخرس الألسنة ولا تجيب .

الجمعة 12 أغسطس سنة 1949 م

انتهى عهد المصروفات السرية

نشرت بعض الصحف أن عبد الرحمن عمار , الذى تولى حل الإخوان المسلمين , طلب من حسين سري رئيس الوزراء , اعتماد ثلاثين ألف جنيه للمصروفات السرية , لكى يقاوموا بها الارهاب . فرفض رئيس الوزراء , وكان فى رفضه شجاعا حكيما , ومصلحا قويما . ان عبد الرحمن عمار اليوم ثلاثين ألفا , وقد رفض طلبه , فهل لنا أن نصرف مبلغ المصروفات السرية التى اعتمدت فى حكومة الارهاب المنحلة , وفى أى الجهات أنفقت ؟ . لالا , ليس لنا أن نعرف , فانها مصروفات سرية , وكفى .

موسم الحج

كانت حكومة الارهاب الغاربة تريد تعطيل موسم الحج , لتخصص الطور الأكبر للمعتقلين على الدوام , وكانت تريد تحريم الحج على من كان عضوا فى الإخوان المسلمين , أو من له صلة بهم اذا اضطرت الى السماح بموسم حج صورى , والحمد لله كثيرا لقد زالت حكومة الارهاب , وزالت معها ارادتها , وبدأت تباشير الحج تظهر , حتى انهم يفكرون فى نقل المعتقلين من الطور الى مكان آخر , حتى يخلو الطور للحجيج , وتقدرون فتضحك الأقدار ...

حفلة تعارف

أقيم فى الأصيل حفلة تعارف قدمت فيها أكواب الليمون , وذكر كل شخص اسمه ومحل عمله , وخطب الأساتذة : عمر التلمساني , ومحمد طاهر الخشاب , وعبد الحكيم عابدين , وصالح عشماوي , ومحمد المنباوي , وكانت أكثر الخطب تدور حول الواجب بعد الافراج , وحول محاربة الوهم الذى سيطر على الناس من عهد حكومة الارهاب . بعد الافراج , وحول محاربة الوهم الذى سيطر على الناس من عهد حكومة الارهاب . وكان بجوارى فى الحفل الطالب الأديب عبد الفتاح محمد صقر بمدرسة بنبا قادن الثانوية , وهو شاب هادىء صالح متعبد . باسم على الدوام , مغرم بالقراءة , صاحب ثقافة اسلامية يغبط عليها بين زملائه الشباب , وقد انضم فى الطعام الى مجموعتنا منذ يومين . وبعد انتهاء الحفل نبهنى عبد الفتاح الى أن الفيران المتوحشة الغليظة المتبجحة قد كثرت فى أنحاء المعتقل كثرة مزعجة مفزعة , حتى باتت تهددنا بمرض الطاعون الرهيب ...


السبت 13 أغسطس سنة 1949 م

تدجيل

أعلن منذ خمسة أيام عن الافراج عن مائتى معتقل , وللآن لم نر لهذاالافراج أثرا اذ لم ينفذ ... أيكون " الطقم " لم يتغير الا من الظاهر ؟ ... أتكون النية لا تزال مبيتة للتنكيل بهؤلاء الأبرياء ؟ ... ومن هو يا ترى الذى يستفيد من هذا التنكيل ؟ ... ومن هو يا ترى الذى يدعو اليه أو يعمل عليه ؟ ... لقد فترت حماسة الحديث عن المعتقلين , وبعد أن كانت الصحف تعد بأن المعتقلين سيخرجون فى خلال أسبوع – الا أصحاب القضايا – عادت فغشاها صمت رهيب , وأخذت الآمال تتحطم , وأخذت الثقة فى وعود الحاكمين تتزعزع . فأين اذن يكون الحق وأهلوه فى هذا الوجود ؟

هذا افراج

أفرج أصيل اليوم عن الأخ المفضال الاستاذ السيد أبو شلوع المحامى , وهو من الشباب المؤمنين المتحمسين , وكان لا ينتظر الافراج عنه الآن بحال من الأحوال , وقد أخذت التعليقات تكثر حول الافراج عنه , وورد فى هذه التعليقات ذكر المسعى الأدبى والمادى ... وكذلك بلغنا أنه أفرج من جناح الادارة عن الأخ الطبيب الشاب الدكتور حسان حتحوت , وهو من خيرة الشباب دينا وخلقا وعملا , وقد قيل انه كان السبب المباشر فى اعتقالى , لأنه ضبطوا عنده خطابا منى اليه أثناء جهاده فى فلسطين , وفى هذا الخطاب أقول : " انى أبارك لك جهادك , وأسأل الله أن يعز به الإسلام " ...

آلة تصوير داخل السوار

استطاع الأخ الكريم الستاذ أحمد محمود يوسف – وهو نجل سعادة محمود يوسف باشا – أن يستحضر داخل السوار آلة التصوير , التقط بها صورا كثيرة للأساتذة الأماثل صالح عشماوي وعبد الحكيم عابدين وعبد المنعم أحمد النمر ومحمد طاهر الخشاب ومحمد على الطاهر ومحمد حلمي نور الدين وصلاح عبد الحافظ ومحمد المنباوي ومحمود لبيب وزكريا خورشيد وكمال خليفة وعبد الحليم الوشاحي و[[سعد شوقى ومحمد زايد بلال وعمر التلمساني ومحمود البراوي وغيرهم كثير , فى أوضاع ومناسبات مختلفة ,والواقع أنه لم تعجبنى الصور التى أخذت , لأنها منظمة محسنة , لا تصور حقيقة المعتقل , وقد كنت أريد – لو أمكن وجاز – أن تؤخذ صور توضح هذه الحقيقة , وتلك أمثلة منها : عالم من علماء الأزهر كالشيخ النمر وهو يكنس – الدكتور كمال خليفة يحمل صفيحة الزبالة – الأستاذ طاهر الخشاب يغسل الأطباق – الأستاذ عمر التلمساني يطهر الحمامات – الأستاذ عبد الحكيم عابدين يغسل الملابس فى الحوض – عالم من علماء الأزهر المعتقلين يأكل على الأرض – الأستاذ صلاح عبد الحافظ ينظف المراحيض – عشرات ينامون على أرض المصلى بلا فراش أو غطاء – مريض مكسور القدم يحمل على أذرع اخوانه لدورة المياه – أكوام القمامات والأقذار وفوقها وحولها جيوش الذباب والبعوض والهوام والحشرات ... الخ . وقد قيل ان خبر هذه الصور قد وصل الى ادارة المعتقل , وانها فكرت فى انتزاعها مع الآلة من صاحبها , ولكنها تراجعت , اذ لو أشيع ذلك لقيل للادارة : وأين كنت حين دخلت الآلة المعتقل ؟ كما أن حامل الآلة هو ابن محمود يوسف باشا ... واستقرت ادارة المعتقل على أن تسكت , وتجعل لها أذنا من طين وأذنا من عجين , فلو سئلت تقول : تر كناها لأنه ابن محمود باشا ...

الأحد 14 أغسطس سنة 1949 م

عودة الى شيخ الأزهر

أقيمت فى المساء حفلة سمر كانت مرتجلة , ولذلك لم تحز الاعجاب , وقد حدث أن وقف أحد المعتقلين فنال من شيخ الأزهر , فغضب فضيلة الشيخ عبد المنعم النمر ووقف محتجا ومعترضا , وأعلن انسحابه فرجاه بعضهم فى البقاء ومنعهمن الانسحاب , وحاول الستاذ محمد لبيب البوهي أن يصلح الموقف , فألقى كلمة مهدءة خففت ما هناك .

الاثنين 15 أغسطس سنة 1949 م

السبب فى عدم الافراج

نشرت جريدتا الأهرام والمصري أن نقيب المحامين قابل رئيس اللجنة الوزارية للافراج عن المعتقلين , وطلب منه الافراج عن المحامين المعتقلين , فوعده بأن يفغل ذلك قريبا ... ومن لغير المحامين يتكلم عنهم ؟ .

وقد قيل ان خلافا بين السعديين والآخرين هو الذى أوقف الافراج عن المائتين الذين أعلنوا الافراج عنهم , لأن السعديين لا يريدون ألسنة تخرج لتتحدث عن فضائحهم الماضية ... ليت شعرى , فما الذى ألجأهم الى هذه الفضائح ؟ . وكيف يقبل هذا العذر ؟ . لقد أخذ الأخ المفضال الأستاذ عبد الله محمد حسن الكريم الخلق الرقيق المعاشرة اللاذع النكتة يعلق على هذا بأسلوبه التهكمى الفريد ...


الثلاثاء 16 أغسطس سنة 1949 م

الايثار سفينة الانقاذ

ألقى الأخ الكبير الأستاذ عبد الحكيم عابدين مساء اليوم محاضرة فى الهواء الطلق موضوعها : " الايثار سفينة الانقاذ " وكانت المحاضرة جميلة وجليلة , ولكنها طالت , والمستمعون متعبون , ولذلك خفقت رءوس بعضهم أثناء هذه المحاضرة , وقد زانها الأستاذ بشواهد كثيرة تدل على سعة اطلاعه . وبعد انتهاء المحاضرة تحلق جماعة من السامعين , وأخذوا يتحدثون عن الخلاف الناشب بين الستاذ مصطفى مؤمن وبين الإخوان فى الطور المبارك , وفى الستاذ مصطفى مواهب كثيرة , فهو ذكى نشيط , يجيد الخطابة والكتابة , وقد وجد فى صفوف الإخوان الكبرى مجالا لنشاطه وطموحه , وان من المؤلم للنفس أن يحدث هذا الخلاف الآن , فما أحوج الجميع الى التكتل والتواصى بالحق والصبر .


الأربعاء 17 أغسطس سنة 1949 م

زيارة ثانية

جاءنى اليوم أخى الستاذ سعيد زائرا ومعه ابنة أخى الصغيرة , وهى فى العاشرة من عمرها تقريبا , فليت شعرى , ما شعورها الآن وهى ترى عمها يحال بينه وبين الحياة الحرة معها بلا جريرة تدريها ؟ ... وما شعور أبناء الذين ابتعد عنهم آبائهم الآن فى ظلمات المعتقلات بلا ذنوب ؟ .. . ايه يا طاغوت حكومة الارهاب المنحلة , يا متهجما على القرآن , يا متطاولا على الرحمن , يا هاتكا للحرمات , ومثيرا للروعات , ومستخفا بالحجاب , ومصرحا بالعورات , لقد ضل ضلالك , ولكنك ستلقى جزاءك من الله رب العالمين .

الخميس 18 أغسطس سنة 1949 م

خيبة أمل

قارب أن يمضى شهر على تأليف الوزارة القومية ووعدها بأن يفرج عن جميع المعتقلين , الا من لهم قضايا , على أن يكون ذلك خلال أسبوع , وقد مضت أسابيع ولم يفرج عن ربع المعتقلين , فكان هذا الشهر أسوأ شهر مر على المعتقلين , لخيبة الأمل وضياع الرجاء .. ان الصداقة الملتوية المدخولة ليست أحسن حالا من الصداقة الصريحة المستبدة , وان تسيطر الفكرة بأن المفرج عنهم قد أفرج عنهم بوساطة مادية أو أدبية تغيظ وتؤلم , وخاصة عند الذين يعتقدون أنهم أبرياء ...

===اصلاح مبتور === 

بلغنا أن ولاة الأمور قد صرحوا بدخول الطلبة والتلاميذ فى الدور الثانى للامتحانات , ومن يظل معتقلا يدخل الامتحان بالحراسة ... ما معنى هذا ؟ .. ان بعض الامتحانات سيبدأ بعد غد , وبعضها بعد أسبوع أو اسبوعين , والطلاب قد فوجئوا أخيرا بهذا القرار , وليس معهم كتب , والمعتقل لا يصلح للمذاكرة اطلاقا , والعلوم تحتاج فى استذكارها الى أسابيع كثيرة , خصوصا وأن هؤلاء الطلاب معتقلون من أول العام الدراسى , فلم يحضروا شرحا للدروس . اذن هذا حل صورى خداع , والواجب تأجيل الامتحان عدة أسابيع , أو عقد دور ثالث للمعتقلين , ان كانوا يريدون اصلاحا .

فن الدعوة

ألقى الأخ الكريم الأستاذ حسن دوح الذى يفيض حماسة وفتوة محاضرة جعل موضوعها : " فن الدعوة " . وكان صاحب فن فى محاضرته , فاسترعى الألباب , وقد حافظ على الموعد فانتهى وفى القوم رغبة الى الاستماع . ويذكرنى الأستاذ دوح بالأخ الكريم كمال محمد النبراوي الذى التقيت به لأول مرة مع الأستاذ عبد العزيز الزهيري عقيب اعتقالى فى قسم السيدة زينب , فقد لمست من كمال أخلاقا كالزهر الناضر , لها مشابه فى الأستاذ دوح , ولا أزال أذكر تحذير الأستاذ الزهيرى لى من الجواسيس الذين تمتلىء بهم ساحة القسم , فقد كان تحذيره أول انذار .

الجمعة 19 أغسطس سنة 1949 م

متفرقات

1- أخذ بعض العائدين من الطور ينالون من الأخ الكريم الأستاذ مؤمن , ويصفونه بالتبدل العاطفى والعزلة الطارئة , ولا يمكن للانسان أن يحكم الا بين طرفى خصومة , فأين الطرف الآخر الآن ؟ .

2- أخذ يخرج من جناحنا كل يوم شخص مفرج عنه , ومعنى هذا أن الافراج سيكون " بالقطاعى " .. لماذا ؟ . سل حكومة الانقاذ التى خيبت الآمال بعض الشىء .

3- سمعت ثناء مستطابا على مجهود الأخ الداعية المفضال الشيخ محمد الغزالي الواعظ , فهو بين الإخوان الآن فى الطور يقوم بمجهود مشكور يحمد عليه , يعظ ويخطب ويدرس ويفتى, وينظم أسليب التعاون العملية بين اخوانه , ولقد جذبته المحنة الى أتون المعركة بعد جفوة كانت بينه وبين الإخوان بالأمس , مع أن له فيها ماضيا كريما , وهو من العلماء الشباب الذين يفخر بهم الزهر , وكتابه " الإسلام والمناهج الاشتراكية " و " الإسلام والأوضاع الاقتصادية " يدلان على علم وفهم , وبصر بأسرار الدين وشئون المجتمع . لقد فرحت بهذا الثناء كأنه الضابط الشاعر الأستاذ عبد الباسط عبد الرحمن البنا , شقيق الإمام الشهيد , والذى حيل بينه وبين حراسة الامام فى أخريات أيامه , يثبت عزائم الإخوان الآن فى الطور بقصائده , " ومواويله " القوية الحمراء , وقصصه الشعرية الملتهبة , ومن الواجب أن يسجل هذه الذخائر حتى لا تبيد .

4- لا يوجد بيننا الآن من يتحمس لهتافات الإخوان مثل الأستاذ أحمد محمود يوسف ابن محمود يوسف باشا فهو الذى يعلو صوته فى كل المناسبات بالهتاف : الله أكبر ولله الحمد , , الله غايتنا ... الخ . وهو يحرض سامعيه على الترديد فى قوة واجماع .

5- بيننا أخ ظريف خفيف الروح والظل , هو الأديب محمدعلى محمد على الطالب بكلية الآداب بجامعة فؤاد , فهو يسلينا بظرفه وملحه وأضاحيكه ,ومن المؤلم أن بعضهم ينتهز دعابته ليتطاول عليه , وهذه عادة الشرق الذميمة .

6- ما أعذب الصمت حين لا يحسن الكلام .. انه عبادة , انه سبح فى الملكوت , انه تجاف عن سفاهات الأغبياء , انه تناء عن وضاعة المدخولين , انه تباعد عن مكائد المخادعين المرائين , اللهم يسر لى أسباب الصمت حين يحلو , واجعله ميدان عبادة , ومجال فكرة , وباب تأمل واعتبار .


السبت 20 أغسطس سنة 1949 م

يا لطيف

تنبعث الآن من الجسوم روائح العرق الكريهة ,وذلك فى الصلوات وفى المحاضرات , وسبب ذلك أن الماء الساخن فى الاستحمام غير متيسر , وجو الصحراء القائظ يسبب العرق باستمرار , والمرء لا يحسن تنظيف جسمه هنا , والثياب نفسها قذرة , لأن المعتقلين هم الذين يغسلونها ,وغسيلهم بطبيعة الحال غير جيد .


الأحد 21 أغسطس سنة 1949 م

النسبة بين الفريقين

خرج اليوم الى حياة الحرية أربعة وعشرون من اليهود , ومعهم ثلاثة من الإخوان فقط .. ما أبطأ حركة الافراج فى هذه الأيام ... لقد مر قرابة شهر وكل فرد يرقب شمس كل يوم , ويحصى ساعاته متوقعا الافراج عنه فى كل لحظة .

قضية مقتل النقراشي

بدأت قضية مقتل النقراشي, واشترك فى الدفاع عن المتهمين فيها كثير من المحامين , بعد أن كان بعضهم بالأمس يتخوف ويمتنع من ذلك , ولم لا وقد تغيرت الأحوال وذهب عهد الارهاب ؟ . ولكن ماذا يكون مصير الدفاع فى هذه القضية لو ظل عهد الارهاب الى الآن ؟ . ان فضيلة الستاذ الشيخ سيد سابق من المتهمين فى هذه القضية , وهو أزهرى له علمه الوافر وفضله البين , وبراعته فى الناحية الشرعية ملموسة , وكتابه " فقه السنة " له سبق بين الإخوان , وأخلاقه عذبة جميلة , فأنقذه اللهم من براثن الفتنة والكيد .

الاثنين 22 أغسطس سنة 1949 م

ونحن نبتسم

قرىء على سلطان الشام نور الدين زنكى حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فى التبسم , ثم طلبوا منه أن يبتسم اقتداء بالرسول , فقال السلطان : " انى لأستحى أن يرانى الله مبتسما والمسلمون يحاصرهم الفرنج فى دمياط " . وقد ضاعت فلسطين , ومع ذلك نحن نبتسم , وبل ونحن نحشد المجاهدين المحتسبين فى المعتقلات والسجون .

الثلاثاء 23 أغسطس سنة 1949 م

جولة فى موانىء البحر الأحمر

ألقى الخ المفضال الأستاذ محمد عبد الكريم يوسف المهندس فى المساء محاضرة جميلة جدا موضوعها " جولة فى موانىء البحر الأحمر " . وكانت معلوماتها جديدة وطرقة القائها محببة ... حدثنا الأخ الكريم عن السويس ورأس غارب وحمسة والغردقة وسفاجة والقصير ورأس بناس ... وعن الشركات الأجنبية التى تستغل خيرات هذه الموانىء , وما حولها من حقول المعدن النفيسة كالفوسفات والبترول والمنجنيز والرخام , وأخذ يقرع أسماعنا ببيانات مخيفة هائلة عن احتكار الشركات الأجنبية , كشل واستاندرد وغيرها , لخيرات مصر وكنوزها , فأبان لنا أن المنجنيز يتكلف استخراج الطن منه خمسة وثلاثين قرشا , ثم يباع بخمسة وثلاثين جنيها , وحدثنا عن قوة احتمال المصريين المنكوبين , وعن هممهم المضيعة , وعن بحوثهم التى يفنون فيها أعصابهم ثم يستلها الأجانب , ويستخرجون بها الذهب النضار من الأرض بالأطنان ... وحدثنا عن جهود العمال المصريين , وسوء المعاملة التى يلاقونها , وطالب بتمصير هذه الشركات , ورجا أن يقوم الجيل الجديد بهذا التمصير ... أعجبت بالمحاضرة والمحاضر , فهنأته وطبعت على جبينه قبلة جعلتها تعبيرا عن شكرانى .


الأربعاء 24 أغسطس سنة 1949 م

الذنب ذنبهم

سمعتهم اليوم يتحدثون عن كثرة تسرب الخطابات من المعتقل الى الخارج والى الصحف والمجلات , وأن ادارة المعتقل مغيظة من هذا . ولكن هذا التسرب فيما أظن نتيجة لعم تنظيم المسئولين طريقة المراسلات بوساطة الادارة , وطول المدة التى يستغرقها وصول الخطاب , فقد يستغرق شهرا أو شهرين , والتحكم البادى فى تغيير أسلوب الخطاب , فالذنب ذنبكم يا هؤلاء , عقاب توصيل الجريدة

جلد اليوم جنديان من حرس المعتقل عشر جلدات , وحكم عليهما فوق ذلك بالسجن ستة وخمسين يوما , وذلك بعد أنم مكثا فى الحبس أربعة عشر يوما لا تحسب من مدة السجن المحكوم بها , وكان ذلك العقاب لمحاولتهما توصيل جريدة الى أحد المعتقلين . وكان الجلد مشهودا من الحراس ومنا , وكان منظرا مؤلما ...


الخميس 25 أغسطس سنة 1949 م

لقد نسيت المشى

لقد نسيت المشى , ونسيت الحركة من طول الاقامة داخل الأسوار , ولذلك عمدت عند الغروب الى السير بجوار الأسلاك والطواف بها مرات , والآسلاك بجوارى , والحراس من خلفها , ومن ورائهم الثكنات , ومن وراء الثكنات حياة الحرية والانطلاق ... تذكرت وأنا فة هذه الرياضة الضيقة المجال صورة الأسد الحبيس فى قفصه بحديقة الحيوان , وهو دائم الطواف فى أرجاء قفصه من الداخل , كأنه يرقب ساعة الخلاص , فهو يضيق بهذا السجن الثقيل مهما كان فيه من اكرام وتدليل ... فكيف به لو لقى ما يلقى هؤلاء المعتقلون من تشفى القادرين وتسلط الباغين؟ ...


الجمعة 26 أغسطس سنة 1949 م

اضراب عن الطعام

ضاقت الحيل بالطلاب المعتقلين فاندفعوا الى فكرة الاضراب عن الطعام , واعتصموا بحجراتهم فوق أسرتهم , وصمموا على هذا الاضراب حتى يفرج عنهم , ليتمكنوا من الاستعداد للدور الثانى , بعد أن حرموا من الدور الأول , وقد ساءت حالة ثلاثة منهم بالليل حتى استلقوا بلا حراك , والآهات تتردد خافتة فى حلوقهم , وقد تجمع لنصحهم الأساتذة صالح عشماوي وعبد المنعم النمر وعبد الحكيم عابدين وأنا , وألححنا عليهم بالعدول عن الاضراب لسوء فكرته فلم يجيبوا , ثم اخذنا نستنجد بادارة المعتقل لارسال طبيب , أو للاتصال بالمسئولين , وقد سبق للطلاب قبل للاضراب أن أرسلوا رجاءات ومذكرات وانذارات ولكنها لم تسمع ... ألا يزورهم حضرة " القومندان " الأستاذ عبد الحفيظ الفار ؟ . لقد قيل انه مشغول كعادته بزيارة اليهود والتردد على جناحهم وقضاء الوقت الطويل عندهم .. حتى ثار شخص وصاح : أيزور اليهود ونحن لا يقول لنا : السلام عليكم ؟ ... وكيف يمضى هذا الوقت الطويل دون أن " يشرفنا حضرة القومندان " بزيارة واحدة , ثم يقبل فى جنده ورهبته ساعة الترحيل فيقف بباب الجناح ليزيد موقف الترحيل فزعا ورهبة ؟ ... لقد كان حضرة " القومندان " الهمام يستطيع أن يزورنا ليلة الترحيل ليهدئنا بكلمة , أو يطيب خاطرنا بعبارة ولكنه لم يفعل ... وكان يستطيع أن يزورنا يوم العيد ولكنه لم يفعل ... وكان يستطيع أن يزورنا يوم ذهبت حكومة الارهاب المنحلة , ولكنه لم يفعل , وكان يستطيع أن يزورنا حين أضرب الطلاب عن الطعام ... ولكنه لم يفعل , وأخيرا جاء الضابط وأخبرنا أنه أعلم المسئولين بالحالة , فقال له الأستاذ أحمد محمود يوسف مهتاجا : " لو أن كلبا فى جناح اليهود أضرب عن الطعام لاهتممتم بأمره , ولأحضرتم له الطبيب , ولكنى أنا أضرب عن الطعام , ويغمى على أمس بالليل , وأستنجد بكم فلا تسألون الا تظاهرا , وهؤلاء أيضا مضربون مثلى ساءت حالته , فما هى النتيجة " ؟ ... فأظهر الضابط عجزه عن علاج الحال لأنه فعل كل ما يستطيع .


السبت 27 أغسطس سنة 1949 م

اقلاع عن الاضراب

جاء اليوم طبيبان وكشفا على المضربين عن الطعام , واستطاعا بوسائل مختلفة أن يسقياهم بعض الماء , ثم بعد محاولات واقناعات كثيرة وتوكيدات شتى أقلع عن الاضراب بعض الطلاب ممن ساءت حالتهم كثيرا , فوعدوا بالأكل , وظل الباقون مصرين على الاضراب حتى يفرج عنهم , ويمكنوا من الامتحان , ويعقد لهم دور ثالث .

الفيران ... الفيران ....

الفيران الغليظة الحجم الرهيبة المنظر تملأ أرجاء المعتقل , وتسامر النائمين وتحرمهم من الهدوء والراحة , وتعبث بأمتعتهم وأطعمتهم , وهى فيران متبجحة كبعض الناس لا تفزع لرؤية الانسان , بل تتطلع اليها فتحد النظر فى تهتم بك .. اننا نخشى الأمراض التى تأتى عن طريقها ... نخاف منها الطاعون ... فأين وزارة الصحة ؟ وأين الرقابة فى البلد ؟ ...


الأحد 28 أغسطس سنة 1949 م

حفلة سمر

أقيمت فى المساء حفلة سمر كانت جميلة زمسلية , وأعد لها مسرح فيه أضواء ومناظر وعرضت فيها فصول تمثيلية ذات مغزى , وقد تفنن فى اعدادها واخراجها الإخوان الفضلاء الأدباء : محمد علي محمد علي ومحيي الدين الجوهري وكمال حته وعز الدين بكري وسعد محمد شوقي وهاشم أحمد البقلي ومحمد كرم , وقد أعجب الحاضرون كثيرا بما اشتملت عليه الحفلة من فصول ومناظر , ونسينا متاعبنا لحظات ..


الاثنين 29 أغسطس سنة 1949 م

حرية الرأى

شغلت نفسى فى الأيام الأخيرة بمطالعة أجزاء من كتاب " الفتح الربانى بترتيب مسند الامام أحمد بن حنبل الشيبانى " وهو من عمل العالم الجليل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا والد الإمام الشهيد , وهو مجهود ضخم يسر للمطالع فيه الاهتداء الى ما يريد من أحاديث المسند , وعليه تعليق لطيف , وتخريج للأحاديث وشرح مختصر لها . وقد طالعت فيه أن عمار بن ياسر ذكر لعمر بن الخطاب وهو خليفة حديثا فى التيمم لم سمعه ولم يوافقه عليه , فقال له عمر : اتق الله يا عمار . فقال عمار : يا أمير المؤمنين , ان شئت لم أذكره ما عشت أو حييت . فقال عمر : كلا والله , ولكن نوليك من ذلك ما توليت " أى لا نمنعك عن تبليغ ما سمعت " ... فهل رأيت حرية الرأى البادية فى هذا المقام ؟ وأين مثل هذا اليوم ونحن نعيش فى عالم رياء ونفاق وتضليل ...

غيبة الأزواج

فى المعتقلين كثير من المتزوجين الذين خلفوا وراءهم زوجاتهم من زمن بعيد , وقد أثيرت مسألة غيبة الزوج عن زوجته , وأثر ذلك فى العلاقات الزوجية , وما حكم الإسلام فى ذلك , فذكرت للمتباحثين ما رواه مالك بن الحويرث قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم , ونحن شبيبة متقاربون , فاقمنا معه عشرين ليلة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا , فظن أننا قد اشتقنا أهلنا , فسألنا عمن تركنا فى أهلنا فأخبرناه , فقال : ارجعوا الى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم اذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم , ثم ليؤمكم أكبركم . وذكرت موقف عمر بن الخطاب حينما سمع امرأة مسلمة فى خدرها تردد :

تطاول الليل تسرى كواكبه
وأرقنى ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شىء غيره
لزلزل من هذا السرير جوانبه

فسأل عمر عن زوجها فعلم أنه خرج فى غزوة طالت غيبته فيها , فأمر بعد ذلك الا تطال غيبة الأزواج فى الغزوات . قال الحاضرين : هذا هو هدى الإسلام والسلف , فكيف بالذين غابوا شهورا قاربت العام فى الاعتقال وهم أبرياء مظلمون مسجونون ؟ . اللهم اخلفنا فى أهلنا فـأنت نعم الصاحب فى الحل والسفر .


الثلاثاء 30 أغسطس سنة 1949 م

لين فى الدعاء

أخذ الزميل الفاضل محمد محمود عبد العزيز جاد يوقظنا فى الفجر بصوت جميل رقيق ينادى : " يا عباد الله , اجيبوا داعى الله . يا عباد الله , قوموا الى الصلاة " والعجيب أن الجميع أصبحوا يسارعون من نومهم الى الصلاة فى تفتح ونشاط , بعد أن استراحوا من الأصوات المنكرة والحركات العنيفة والتحكم الأمى السقيم .

امتحان تحت ظلال الارهاب

سمعنا أنهم يعقدون امتحان الطلبة المعتقلين فى دار المحافظة , وفى حجرة أحد ضباط القسم السياسى . ياللهول , كيف يكون هذا والامتحان نفسه محنة , فكيف تضاف اليه محنة أكبر منه وهى شبح المحافظة الرهيبة ذات الذكريات السود ؟ . المحافظة التى ضرب فيها الأبرياء وعذب فيها الضعفاء , وسيقت اليها أفواج المعتقلين بذلة واهانة فى ظلمات الليل وفى الصباح وفى المساء ؟ . وكيف يضبط الطالب أعصابه , وكيف يتذكر معلوماته , وكيف يمسك بالقلم , وكيف يجيب على سؤال وهو يدخل دارا تزلزل أعصابه بذكرياتها , وتفقده رشده برهبتها , وتخيفه بطغيان بعض رجالها ؟ ... تقول : كيف ؟ وكيف ونحن فى مصر , وفى مصر كل شىء يجوز ؟ . صمتا والا لقيت الجزاء .

الدوح حرام على بلابله

خرج اليوم 16 يهوديا من الجناح المقابل لنا , وكانت عندهم مقاعد ومناضد , وستائر وسخانات وأوان وأدوات , وكثير منها من مال الدولة المسكينة الحزينة , ولكن حضرات اليهود العظام المحترمين المبجلين أبوا أن يتركوها خلفهم لنا أو لغيرنا أو للدولة التى تمتعوا بخيرها وشربوا من درها ,بل أشعلوا فيها النار. وجعلنا نحن نتطلع ونتألم ولا نملك من أمرنا شيئا . ولم نجد من ينكر على هؤلاء .

القائمة السوداء

يمكن ايجاز الفضائح التى ارتكبتها دولة الارهاب الزائلة فيما يلى :

1- اعتقال الشخص البرىء الآمن لمجرد أنه من جماعة الإخوان المسلمين , مع أنها كانت بالأمس مشروعة , والانتساب اليها مفخرة .

2- اعتقال الشخص لمجرد شكوى كيدية , أو دسيسة حقيرة , أو تقرير مفترى دون تحقيق , ولذلك كثرت الشكاوى والمفتريات .

3- اساءة المعاملة بالسب والشتم والضرب , والاعتداء على الحرمات عند الاعتقال , مما يعتبر تعديا لسلطة الحاكمين , وهضما لكرامة المحكومين .

4- " لطع " المعتقلين أياما أو أسابيع أو شهورا على ارض " قسم البوليس " فى اذلال واهانة , دون " ترحيل " الى المعتقل , مع أن " القسم " ليس مكان الاعتقال .

5- عدم الاقتصار فى الاعتقال على الشخص المتهم , بل يتعداه الى الأخ والأب والابن والعم والخال والخادم والصديق والجار ... الخ .

6- ترحيل النعتقلين فى عربات مكشوفة متعبة , معرضة للهواء والبرد والشمس , وفى المعتقلين كثير من الشخصيات الكريمة السامية العالية الت تستوجب التبجيل .

7- عدم تمكين المعتقل عند اعتقاله أو ترحيله من أخذ متاعه اللازم له , كالثياب والأدوات الضرورية .

8- قطع الصلة بين المعتقل وأهله , فلا مراسلات منتظمة , ولا زيارات سهلة .

9- وساخة المعتقلات والاسراف فى ذلك , حتى امتلأت بالذباب والبعوض , والقمل والبق , لتراكم القمامة وعدم الاشراف على النظافة .

10- لم توزع على المعتقلين المحصورين أوان ولا أطباق ولا ملاعق , ولا مناضد ولا مقاعد , ولا بطاطين فى الغالب , ولا صابون ... الخ .

11- اهمال الناحية الطبية , والتهاون فى أمر المرضى , فالكبيب لا يعنى , والدواء لا يستحضر , والممرض يسىء الاستغلال .

12- المفاجأة بالترحيل من مكان الى مكان , دون انذار سابق , مع استعمال العنف فى ذلك الترحيل .

13- تمزيق " الطرود " الخاصة الآتية للمعتقلين من ذويهم , مما جعلها نهبا مقسما للأيدى المتطاولة. .

14-الخلط بين أصناف المعتقلين , مع التفاوت الشديد بينهم فى الأخلاق والطباع والثقافات .

15- الضرب والتعذيب , وترديد أسماء العورات , والتهديد بهتك الأعراض , والاقدام على ذلك .

16- التطاول بالسخرية والاهانة على المقدسات الدينية كالمصحف والصلاة وغير ذلك .

17- اعتقال صغار التلاميذ من المدارس الابتدائية والثانوية , ممن لا يزالون فى دور التنشئة .

18- اهانة العلماء وهم ورثة الأنبياء , والتطاول عليهم بالضرب , وما ضرب الشيخ عبد اللطيف الشعشاعى والشيخ عبد الستار ببعيد .

19- اقحام اسم القصر فى المحنة ,وللادعاء أمام الناس بأن القصر هو الذى يأمر بهدا , مع أن القصر له حرمته وابتعاده .

20– فصل كثير من المعتقلين من وظائفهم , مع أن الاعتقال ليس عقوبة على جريمة , ووقف مرتبات الكثيرين , واعتقال المساعدين لأسر المعتقلين .

21- عدم تقديم قتلة الإمام الشهيد حسن البنا الى القصاص ,وترك الشعب يموج فى ظلمات .

22- الاستبداد الكلى فى السيطرة على الصحف , وتكييف الأخبار " لطبخ " الأنباء .

23- التطاول على حرمات المساجد , وتوجيه الخطب وجهة ارهابية , وحرمان الأئمة من حرية القول , ومنع مكبرات الصوت فى الجمع , وتعطيل الدروس الدينية الا ما استجاب منها لم لتوجيه الاستبداد .

24- تهيئة المجال لشيوع الرشوة بين المخبرين وكبار الوسطاء , فقد كان بعض المعتقلين يحاولون بذل أى مبلغ للخلاص .

25- زعزعة العقيدة الدينية فى نفوس الكثيرين , فقد كانوا يفرون من الصلاة ومن المناظر الدينية خشية وتقية , بل ضل بعض الغافلين الجاهلين فقالوا : لو كان هؤلاء عباد الله لما تركهم يتعذبون ؟ .

26- سوء استغلال الأزهر ورجال الدين وموظفى الفتيا , واخضاعهم لما يريده الحاكم المطلق , فالفتوى المطلوبة لحكومة الارهاب تصدر حالا اذا أرادت , واذا لم ترد فالسكوت المريب , حتى ولة قتل حسن البنا . . وهذا جعل الأمة تتطاول على الأزهر , وتنال من سمعته , وتصف أهله بالمتابعة والانحراف .

27- تطاول بعض الذين سيطروا على المعتقلين فى المعتقلات , فقد كان من هؤلاء من يتطاول فينادى كل معتقل بقوله " يا ولد " ومن يصفهم بأنهم قطاع طرق , ويقرأ عليهم قوله تعالى " انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم " . زمن كان يقول للجنود محرضا لهم على المعتقلين العزل " كربجوهم " أى اضربوهم بالكرابيج , ومن كان يهدد المعتقلين قائلا : لا أمل لكم فى النجاة , فالحكومة قوية , وهى ضدكم , والانجليز فى البلد وهم يريدون لبقضاء عليكم ... الخ . هذه طائفة من محتويات القائمة السوداء لعهد الارهاب , وبقاياها هنا وهناك عند من شهدوها أو عرفوها ... أفلا يحق لنا مع هذه " المساخر " أن نردد قول القائل :

يا زمانا ألبس الأحرار
ذلا ومهانة
لست عندى بزمان
انما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيرا
والعلا فيك مهانة ؟
أجنون ما نراه
منك يبدو , أم مجانه ؟

قصة الذهب الأسود

عادالأستاذ محمد عبد الكريم يوسف المهندس فألقى اليوم محاضرة موضوعها : " قصة الذهب الأسود " تحدث فيها عن كيفية استخراج " البترول " والنواع التى تتخذ منه كالأتير والغاز والبنزين والشحم وزيت الآلات وغير ذلك , وأطلع أبصارنا على الكنوز الهائلة الموجودة فى أرض مصر , والتى تحتكرها الشركات الأجنبية ونحن لاهون غافلون , وشرح المحاضر الخبير لنا أن كل قطرة من البترول تساوى قطرة من الدم , وأن شبه جزيرة سينا المصرية تعوم على بحر من البترول يجب أن نكتشفه , وأن نستغله بأيد مصرية ولمصر .. وأبان لنا أن الحرب لا تكتسب الا بالبترول , وطالب الجيل الجديد بأن يعمل على استخلاص هذه الكنوز من أيدى الأجانب . الحق أنها محاضرة تدل على جلال الموضوع وتوفيق المحاضر . .


الأربعاء 31 أغسطس سنة 1949 م

تحية من الخارج

علمت من القادمين للزيارة أن الأستاذ الكبير محمد زكى عبد القادر كتب عنى كلمة طيبة فى " جريدة الأهرام " تحت عنوانه الدائم " نحو النور " وطالب فى كلمته بسرعة الافراج عنى , ولا شك أن هذه تحية كريمة تأتى من الخارج , فلصاحبها الشكر الموفور على حسن عنايته . وكذلك تحدث الأستاذ زكى فى كلمته عن الأستاذ سعد زغلول مكاوى الموظف بكلية العلوم بالعباسية , وهو عائل أسرته الوحيد , ومع ذلك اعتقلوه .

من قصص التعذيب

جلست اليوم لأول مرة مع فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ أحمد على المنشاوي , وقد انتقل الى جناحنا حديثا من الجناح المسمى " ملحق 2 " وهو معتقل من يوم 18 مايو الماضى , وهو قاض شرعى من سوهاج, أحيل الى المعاش منذ سنوات وتراه فترى شيخا طاعنا فى السن , ضعيف البنية كليل البصر . واذا مشى فكأنما هو يترنح من ضعف صحته وتقدمه فى العمر , فقد قارب السبعين ... ومع ذلك ذكر أنهم اعتقلوه فى ظلمات الليل البهيم , وفتشوا منزله , ونقلوه فى الليلة نفسها الى القاهرة , ثم تسلمه القسم السياسى الرهيب , ونسبوا اليه تهمة ملفقة , هى أنه ممول للارهابيين , وأنه يجمع نقودا لأسر أعضاء الجماعة " المنحلة " , فنفى لهم ذلك فى ضعف الشيخوخة واخلاص البرىء , وقال لهم ان سنه ومكانته وبصره بالقانون وماضى حياته فى سلك القضاء الشرعى , كل ذلك لا يسمح له بأن يعمل شيئا مخالفا لقانون شديد وأحكام عسكرية مخيفة , وان ايمانه لا يسمح له بأن يكذب , وأخذ يقسم لهم على ذلك , ولكنهم لم يصدقوه , فحولوه الى أحد الضباط , فكانت أول عبارة استقبل بها الشيخ الجليل أن قال له : " تعال يا ... " وذكر لفظة نابية يخجل تسطيرها فكيف بقولها , ثم أخذ الضابط المؤدب يطالبه بالأعتراف بأنه جمع نقودا وأمد الارهابيين , فجعل الشيخ الضعيف الطاعن فى السن يقول له : وكيف أعترف بما لم يقع , وكيف أكذب وأنا عالم دينى ؟ ... فبدأوا معه فى الضرب والتعذيب ... ضربوه على يديه ضربا مبرحا كأنه طفل متمرد , ثم ضربوه على كتفيه وفخذيه كما يفعل بالمجرم الحقير , وهو يتأوه تارة , ويتشهد تارة ثانية , ويشهد السماء تارة أخرى , ثم كلت الأيدى الضاربة فوقفت , وعادوا الى استخلاص الاعتراف المطلوب , فقال لهم : " أكون بريئا من دين الإسلام ان كنت قد فعلت ما تقولون " ولكن هذا لم يكفهم فألقوه على الأرض وجلدوه بالكرابيج على باطن قدميه , وهو يستغيث بلا مغيث .. ولما يئسوا منه حولوه الى النيابة لتحقق معه , فأثبت التحقيق براءته بسرعة , وقررت النيابة الافراج عنه , ولكن القسم السياسى أبى الافراج عنه , فتسلمه من النيابة , وألقاه على أرض قسم السيدة زينب سبعة وأربعين يوما بلا تحقيق أو سؤال , ثم رحلوه بعد السبعة والأربعين يوما الى " هاكتسب"حيث يوجد الآن ..


الخميس أول سبتمبر سنة 1949 م

خلا المكان من اليهود

يا عجبا , لقد خلا الجناح المقابل لجناحنا من اليهود الذين كانوا يصيحون " شالوم ... شالوم " أو لست أدرى ... واحتله أزهريون وجامعيون , يرتفع بينهم صوت الأذان خمس مرات فى كل يوم , ومن بينهم " العزب " الطالب العزيز على , ومع هذا حاول أحدنا وهو الأستاذ حسن دوح الضابط الجامعى الذى كان يجاهد فى فلسطين , أن يتحدث من خلف الأسوار مع صديق له فى الجناح المقابل , فمنعه الحراس من ذلك , وجاء أحد اتلضباط فأسمعنا مألوف ألفاظه , وأرغمنا على عدم البقاء فى فناء المعتقل , واستدعى الأخ الى حضرة " القومندان " وعاد بعد أن تلقى نصائحه أو أوامره , وبعد هذا الموقف بنصف ساعة عبث جندى من الحراس " فى ملحق رقم 2 " ببندقيته فانطلق الرصاص منها وأصاب الجندى يده .


الجمعة 2 سبتمبر سنة 1949 م

عاطفة من الأعماق

لمحنى من الجناح المقابل الطالب الأديب محمد أحمد العزب الذى أحبنى كوالد له وأعزنى كأستاذ – وأنا أقوم بعمل يسير تتطلبه الحياة , فعز عليه ذلك , وأرسل الى مع صبى المتعهد خطابا رقيقا , صب فيه ذوب قلبه المتفتح , وود لو استطاع الانتقال الى جناحنا ليتكفل بقضاء كل ما أحتاج اليه , كما كان قبل ترحيله الى الطور , ولا يلجئنى الى أى عمل , فكتبت اليه أقول : " الشوق غلاب لا يصوره خطاب ولا يحصيه كتاب , ولست أملك فى شرح حنينى اليك ولهفتى عليك طريقا الى الافاضة والاسهاب , وأحسبك تعلم بنور البنوة الطاهرة ما تكنه روح الأبوة العطوف من منازع الحب والشوق . ولقد كانت ملماتك البريئة الى بلسما على جراح الفرقة والغربة واللوعة بيد ملائكية , ان صغرت فى حجمها فقد جلت وعظمت فى فضلها وكرمها , ولقد لقيت خلفكم من حاول توقيرى وتكريمى , ولكن هذا كله لم يلفتنى عن ولدى الحبيب وتلميذى النجيب , ولم ينسنى تلك القطعة العزيزة على التى اقتطعوها منى , وقذفوا بها هناك بعيدا , فكنت أناجيها , وأحدو ذكراها فى الصباح والمساء , بخالص الدعاء وعميق الرجاء . وكم أجمل الظن بالله الرحمن الرحيم , أن يجمعنى بك قريبا فى بحبوحة الحرية , وساحة الحياة الكريمة العالية , وأود لك أيها العزيز ألا تطيل التفكير فى أمرى , فقد هيأ الله لى راحة وسلوى , ومكنت لى عزلتى من جولان فكرى حيث أريد فى آفاق الملكوت الربانى الوسيع , فأقبل على الحياة بساما مبتهجا , واخلق من المحن منحا , ومن النقم نعما , واهزأ بالصعاب لأنها ستمر , وستبقى أنت سعيدا , مكرما , بفضل الله ورحمته , وتذكر دائما , أن لا يمكن أن يدرك يمكن أن يترك , والله ولى الصابرين , وان من وراء الليل مهما طال صباحا تزينه شمس ساطعة ونهار جميل " .

نبأ بالافراج عنى

فى المساء جاءت أنباء بالافراج عن كثيرين من الإخوان , فهنأناهم ورجونا لهم وللباقين التوفيق , ثم جلسنا للطعام فى حلقة كان فيها الأساتذة عبد المنعم رشوان ومحمد لبيب البوهي وعبد الله محمد حسن وعبد الفتاح صقر . وأخذ الأستاذ رشوان يترجم لنا عن ضيقه , ويتساءل : متى يأتيه الافراج , كما جاء لهؤلاء ؟ ... ثم التفت الى وقال : ألا تدعو لى يا أستاذ ؟ ... أرجوك أن تدعو لى الآن وأنت تأكل بأن يجعل الله الافراج عنى , فتوقفت عن الأكل وقلت له : أقسم بالله يا استاذ عبد المنعم اننى أتمنى على الله أن تكون أنت أولنا افراجا , فأنا ألمس تضايقك , وأعرف أنم لك أعمالا كثيرة معطلة , وهأنذا أدعو كما تشاء , اللهم عجل بالافراج عن الأستاذ عبد المنعم رشوان , واجعله أولنا خروجا الى حياة الحرية . ولكن , تقدرون فتضحك الأقدار , وفوق تدبيرنا لله تدبير , فما كدنا والله ترفع أيدينا من الطعام حتى جاء حارس من ادارة المعتقل , ونادى على أناس آخرين قد أفرج عنهم , وكان اسمى فى طليعتهم , ولم يكن اسم الأستاذ عبد المنعم فى أولهم ولا فى وسطهم ولا فى آخرهم .. معذرة يا أستاذ رشوان , فلا راد لما أراد الله , ولن يطول عليك الأمد , فلا تضجر .

كتاب ايقاظ الهمم

من عجيب ما حدث أنه كان معنا فى المعتقل نسخة من كتاب " ايقاظ الهمم فى شرح الحكم " وهو الكتاب القيم الذى شرح فيه العلامة ابن عجيبة حكم الصوفى المشهور ابن عطاء السكندرى , وقد كاد المعتقلون يؤمنون بأن لهذا الكتاب نفحات , وأن من قرأه دنا من الافراج ... لقد قرأه حضرة الأستاذ إبراهيم طلعت من قبل فأفرج عنه منذ حين , وأخذته فعكفت على قراءته , فجاءنى عقيب اتمامه نبأ الافراج , ثم أخذه منى حضرة الأستاذ عمر التلمساني فجاءه نبأ بعدى بلحظات , ثم تسلمه الأستاذ لبيب البوهى من الأستاذ التلمسانى , والإخوان يودون لو سبقوه , ويغبطون الأستاذ البوهى على الافراج القريب . وكان الأخ الأستاذ أنور الجندي هو الذى لفت الأبصار الى هذا المعنى الصوفى الجميل , ولا زلت أذكر للأستاذ أنور الجندي لحظات أشهى من أحلام الربيع قضيتها معه فى رحاب مزرعة المعتقل , نردد أشعار شوقى , ونتذاكر صفحات الماضى , ونستعرض أحداث الحاضر , ونرسم للمستقبل , وطالما طالعنى من الأستاذ أنور الجندي الذهن المتفتح الدال على الثقافة الواسعة والموهبة المكينة , ولا عجب فهو جندى قديم من جنود الدعوة , وله مؤلفات قيمة تدل على براعته وضلاعته , أتذكر منه الآن الكتب " الإسلام يزحف " , " مناورات السياسة " , " حسن البنا " , " تاريخ الأحزاب السياسية " , " بين لاظوغلى وقصر الدوبارة " , " كفاح الذبيحين " , " قضايا الأقطار الإسلامية " , " اخرجوا من بلادنا " , " النيل لا يتجزأ " , وغيرها , والأستاذ أنور الجندي أخ فيه لطف الصديق , وعذوبة المسامر الأنيق , وسلاسة الأديب الرشيق , حياك الله يا أنور , وأعز بك دعوة الحق ودولة الخلق النبيل ...


السبت 3 سبتمبر سنة 1949 م

بين ضيق الأسر وسعة الحرية

أصبحت اليوم مضطربا , ولسانى يردد صيحة المتنبى :

خلقت ألوفا لو رجعت الى الصبا
لفارقت شيبى موجع القلب باكيا

لا أدرى كيف أفارق المعتقل , وكيف أترك بقعته التى أكاد أعرف كل ذرة فيها , وأختلط بكل جزء منها ؟ وكيف اترك اخوانا لى عاشرتهم , وشهدت معهم أياما أسود من وجه الرقيع بن الرقيع ؟ . وكيف أترك اخوانا شربت معهم كئوسا لا تنسى , وقاسيت معهم شدائد الليالى , ومحن العيش وبلاء الاختبار الشديد , وفيهم من هو أقدم منى , ومن هو أضعف منى على الاحتمال , وفيهم طرلاب وتلاميذ , وفيهم اخوة كبار , نعمت بحبهم , وشربت من صفو ودادهم ؟ ... نعم ان للحرية فرحة واسعة , ولكنها الآن فرحة مشوبة بأكدار .. ونودى علينا أن تعالوا واخرجوا من الأسلاك , وكانت لحظة الوداع المؤقت , وحاولت أن أضبط شعورى وأغالب دمعى , وأخذ الزملاء يقبلون على واحدا بعد الآخر , ضامين معانقين مقبلين , وأخذ الدمع يترقرق فى عينى , وأخذت أخفيه تارة , وأمحوه بأصابعى مستخفيا تارة أخرى , وجاء الأخ الكبير الأستاذ محمد طاهر الخشاب ليودعنى , فغلبنى وغلبه التأثر , وترقرق الدمع فى عينه هو الآخر , فأسرعت بتركه . وأخرجت منديلا أمسح به الدمع الهاطل , وتخطيت الأسلاك مع الأساتذة الفضلاء : الشيخ أحمد المنشاوي وعمر التلمساني وصالح أبو رقيق , وقد أفرج عنهم أيضا , وجعل الباقون يؤذنون ويهتفون , ويودعون ويحيون , وأنا خافض الرأس لا أطيق أن أرفع بصرى اليهم , لئلا يروا دمعى , واصطف فى الجناح المقابل طائفة من الزملاء , يحيوننا على بعد أمتار , وفيهم طلاب من معهدى القاهرة ودمياط , فقلت فى نفسى : أفما كان هؤلاء الناسئون الصغار السن أولى من أمثالنا بتعجيل الافراج ؟ ... لقد وجدت من يدافع عنى , ويطالب باطلاق سراحى , لصلتى بالصحافة والجماعات , فمن الذى يدافع عن هؤلاء ؟ ... صه , " ان الله يدافع عن الذين آمنوا , ان الله لا يحب كل خوان كفور " ... وقد علمت أنهم أفرجوا معنا أيضا عن الاخوة الأفاضل علي الكومي وعبد الرحيم خليل الشوربجي وعبد المنعم البكري وسعد الدين الرئيسي والشاذلي أحمد الشاذلي وعبد الله أحمد بازرعه ورزق مرعي ابراهيم وصلاح عبد الصبور يوسف وأبو الفتوح عبد الحميد وعبد الرحيم الشرقاوي وحسن مصطفى قنديل ومحمد الدالي فريد علام ومحمد محمد توفيق وشهرته توفيق أحمد محمد ...

تظرف " القومندان "

ذهبنا الى ادارة المعتقل , ولم تفتش أمتعتنا كما كان متبعا , لماذا ؟ . لقد تغير الجو وذهبت حكومة الارهاب " المنحلة " .. زجلسنا مع حضرة " القومندان " , فحاول أن يتظرف ويتلطف فى التعبير , وجعل يقول " انه مقيد ومضطر ومأمور , وينفذ التعليمات ... الخ . وكان مما قال : والله لو سئلت عن المعتقلين لما قلت ان فيهم " ربع واحد خطر " . وقال : لست أدرى وألله لماذا يفرجون عن اليهود ويتركون المصريين ؟ . فلنتذكر جيدا أن المتحدث الآن هو حضرة " القومندان " , لا صاحب المذكرات " الغلبان " . وصافحنا الرجل المتظرف مباركا زمهنئا , اى والله هنأنا وبارك لنا وودعنا . فأين نحن من الأمس أيها الناس ؟ .

الى القاهرة

ركبنا نحن الأربعة سيارة خاصة استأجرناها فتوجهت بنا الى " المحافظة " وهناك أمرونا قبل اطلاق سراحنا بالتوقيع على اقرار " بعدم الاشتغال بالسياسة وعدم الاجتماع بالمشبوهين السياسيين ,وعم العمل لحساب الجماعة المنحلة " ... فهل تستطيع أن تفهمنى معنى هذا الاقرار , ومدى اتفاقه مع حقوق المرء الشخصية ومع النظم الدستورية ؟ ... وبعد التوقيع ركبنا السيارة من المحافظة الى قصر عابدين , وهناك قيدنا أسماءنا فى سجل التشريفات , بعد أن ذكرنا عبارة تفيد أننا من ضحايا الارهاب السياسى البائد .

الى مسجد المنيرة

وتفرقت وجهاتنا بعد ذلك , فاتجه الزملاء الثلاثة الى حيث أرادوا , وركبت سيارة الى " مسجد المنيرة " على أيامه أطيب التحيات , وكان أول عمل فعلته هو أن صليت ركعتين طويلتين عميقتين تحية للمسجد , وسجدت لله شكرا عل فضله ونعمته . ثم دخلت مدرسة المسجد الملاصقة له , فلقينى التلاميذ الصغار لقاء الأبناء لأبيهم الطويل الغيبة , وقابلنى المدرسون بشةق وفرح , وبينهم شقيقى الأستاذ السعيد الشرباصى الذى تعب من أجلى ,وتعرض فى سبيلى للمخاطر أثناء اعتقالى , كما لاقيت الرجل الطيب الوفى الأستاذ محمد نجيب محمد سكرتير الوقف , وهو من يحفظ غيبة الصديق , فلقينى بشوق عميق ... ووجدت سبورة فى فناء المدرسة كنت أكتب عليها الحكمة اليومية وعليها هذه الحكمة " لا ترم فى البئر التى تشرب منها حجرا " وكنت قد كتبت هذه الحكمة عليها قبيل اعتقالى , ورأى الباقون فى المدرسة الاحتفاظ بها طيلة غيبتى , وفعلا ظلت الحكمة ونجت , فلم يمحها هواء ولا طفل ولا سىء آخر , وكانت هذه الحكمة سببا فى تفكير طويل منى حينئذ , فطالما أحسنت الى أناس فرمونى بأحجارهم . ألالعنة الله على الخائنين .

الى المنزل

وبعد قليل عدت مع شقيقى الى المنزل , وهناك طالعتنى الصدمة الأليمة التى تمنيت معها لو بقيت فى الاعتقال شهورا ولا ألقاها ... ان الحقيبة الكبرى التى أحتفظ فيها بأوراقى وقصاصاتى , والتى سلمت من عيون المفتشين قد أحرقت فى زلزلة الفزع والرعب ... وذهبت الحقيبة , وفيها مئات من المقالات والخطب , والقصاصات والخطابات , والصور والهدايا , والكتب الخطية والقصائد المهداة , و ... و ... ذهبت الحقيبة الضخمة التى ظلت أدخر فيها ما أعتز به من أوراقى وخطبى ومقالاتى وقصاصاتى خلال ثمانى سنوات . فوا أسفاه , ولعنة الله على من كان السبب ... وأخذ الأستاذ سعيد يواسينى , وأنا أستعظم الخسارة , وبعد قليل هجمت جموع المهنئين , فانتزعونى من بحران أسفى الى حين .

واجب الزملاء

وفى الأصيل خرجت لأؤدى واجبات تعهدت بأدائها لمن خلفى من الزملاء , فجعلت أتنقل وأتصل , وكتبت للصحف والمجلات أرجو فيها المسئولين بالاسراع فى الافراج عن الباقين , ومن بينها كلمةنشرتها الآهرام , بعنوان " عائد من المعتقل " , وفى طليعتها تمثلت بقول المعرى :

ولو أنى حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت على ولا بأرضى
سحائب ليس تنتظم البلادا

كتبت كلمة أرجو فيها التعجيل بالافراج عن زملائى العلماء ومنهم حضرات أصحاب الفضيلة , الأساتذة المشايخ : محمد الغزالي وعبد المعز عبد الستار وعبد المنعم النمر وعبد الرحمن البرل وعبد اللطيف الشعشاعي ومحمد الأباصيري وعبد الرحمن الصوالحي وغيرهم . وكتبت كلمة أخرى أرجو فيها التعجيل بالافراج عن الزملاء الصحفيين المعتقلين , وأذكر منهم الأساتذة الفضلاء محمد أحمد البنا وصالح عشماوي وأحمد أنس الحجاجي وسعد الذين الوليلي وعبد الحليم الوشاحي ومحمود صادق وزكريا خورشيد وأمين اسماعيل ومحمد لبيب البوهي ومحمود عساف وزيد شريف وعلوي عساف ومصطفى مؤمن وعبد العزيز الزهيري وصابر عبده ابراهيم . وبعض هؤلاء أعضاء فى نقابة الصحفيين , فيجب أن يكون لها موقف حاسم فى الموضوع .

وكتبت كلمة أطالب فيها بالافراج عن الطلاب الذين تنتظرهم دروسهم وامتحاناتهم , وأذكر من هؤلاء الطلاب الأدباء : حسن دوح والسيد البدري واسماعيل عاصم وأحمد محمد جنينة ومحمد المنباوي ومحمد يونس الشربيني ومحمد عبد الله هلال ومحمد أحمد أبو طالب وعبد الله محمد حسن وعثمان عبد الحميد صالح وأحمد محمود يوسف وأحمد كمال حسين وفؤاد الهجرسي وسعد شوقي ومحمد زايد بلال , وغيرهم وغيرهم . يجب ألا أنسى هؤلاء , ويجب أن أداوم الكتابة الى الأستاذ المبير محمد زكي عبد القادر , ليواصل صيحاته القوية النارية التى يناصر فيها المعتقلين , ويطالب بتعجيل الافراج عنهم , تحت عنوانه الدائم " نحو النور " . ويجب أن أعجل بنفحات من طيبات الحياة الى هؤلاء الرفاق خلف الأسوار ... وقد كان .

تحية وذكرى

غمرنى الصدقاء والأحباب عقيب الافراج بفيض من برقياتهم ورسائلهم وقصائدهم وكلماتهم , وكان أسبق هؤلاء الأساتذة الفضلاء : محمد شاهين حمزة وبركات محمد بركات والمرحوم الوفى محمد نجيب محمد وبدر الدين نجيب وابراهيم رضوان والسيد الدالي ومحمد الصاوي إبراهيم ومحمد عبد العال رضوان وأحمد احمد العدوي ومحمد علي الطاهر والسعيد عبد الصمد خليل ومحمد عبد المنعم خفاجي وعبد الرحيم رشوان ومحمد أحمد الهجرسي وعبد المنعم اسماعيل ناجي وعمر إسماعيل منصور ومحمد محمد السفطي وشانوده فانوس . ومعذرة الى من غابت عنى الآن أسماؤهم فهم كثير , ولن أنسى قصيدة الشاعر الموهوب الأستاذ قاسم مظهر , وعنوانها " لمن الجبين الحر ؟ " وقد نشرها فى ديوانه اللطيف : " حفيف الغابة " وهى قصيدة طويلة تحتشد بالعواطف الصافية . وهذه طائفة من تحايا الشعر التى فاضت بها عواطف الإخوان الأماثل , وأنا أثبتها هنا لتكون ذكرى باقية , وشكرا لأصحابها الفضلاء : " الى فضيلة الأستاذ الجليل أحمد الشرباصي "

أخى الأجل , ولى فى مدحه غرر
ان الرجال غدا فيما أرى سير
وكل ما مر بالانسان من محن
فهى الفخار اذا ما شاء يفتخر
بلغت بالعلم أوجا ليس يبلغه
جهابذالعلم , قلوا فيه أو كثروا
أراك نهرا جرى عذبا
تروى الألى وردوا أومن هم صدروا
بيانك السحر , الا أنه حكم
من الحقائق يعلو حولها السمر
فان تجافاك يوما ظالم جنف
فالحق قد كان خصما الألى غدروا

ايه أخى " الشرباصى " ليس من عجب فى أن تدان , وفى أن يظلم البشر

بل العجيب الذى يحكيه من سبقوا
أن يملك الراى من ضلوا ومن فجروا
غفوا اذا زل مكما ذقته قلمى
برغم أن جنا زلاته الخطر
أوخذت ظلما , وهذى رحمة سبقت
من أن تؤاخذ عدلا أيها القمر
تهانئى , وتحياتى , يرددها
قلب وفى عن التقصير يعتذر

محمود جبر – شاعر الشبان المسلمين

تحية طالب لأستاذه

وافيت افقك بعد طول غياب
ياجامع الندوات , والآداب
يامن تجود بفيض نورك عند ما
تبدو المجامع فى ضياء خابى
اليوم ترمقك العيون بدمعة
هى ماء معرفة ونار تصابى
واليوم تلتئم الجروح بمهجة
قد أعملت فيها يد الأوصاب
واليوم تنتشر راحتاك صحيفة
طويت غداة نأيت طى كتاب
ولى الظلام , فحى وجها مشرقا
آلت اليه قداسة المحراب
وتزاحمت مهج الشباب ببابه
كالنبع جمع فرقة الاعراب
متواف نحو المنابرينتشى
من حوضك الأسنى أجل رضاب
يا قادما تهفو القلوب لنبله
من كل محروس الجناب مهاب
لبيك لو قبل المعند فدية
أو لم يزعه ضميره المتغابى ؟
انى لأدخر الثناء لعالم
لاقى الصعاب بعزمه الوثاب
متدرعا بالصبر , لا متراجعا
فى الحق , أو مستهدفا لعتاب
ان الذى كتب النجاة لأحمد
مما تدبر حفنة الأذناب
قد خط فى صدر الزمان ضراعتى
وهيام وجدانى , وسجل ما بى
لله أنت وقد سخرت بكيدهم
وأزحت عما كان شر نقاب
وأريتهم غضب الحليم بهمة
رسمت سطور المجد فى اسهاب
خمست أهل العزم فى ابلائهم
حينا , ونطقك صار فصل خطاب
كم هامة طاح الظلوم بعزها
وعواصف أقصت أولى الألباب
ويح الظلوم سعى لكل نقيصة
متسربلا للجيل شر اهاب
متقمصا غدر الوحوش لدولة
لم تلق فى كفيه غير سراب ٍ
هذا هو " الحجاج " فة نزواته
لم يأت ما فعلوه بغير حساب
سجن وارهاق , وتشتيت وارهاب
,وتشريد , وضرب رقاب

سجن " ابن حنبل " قبل يومك سيدى لما بدا متمسكا بصواب

جلدوه دون هوادة , وتفكهوا
بعذابه , فالبطش فى اعجاب
وكذا الرسول المستعين بربه
لاقى صعابا فوق كل صعاب
هى حكمة الرحمن بين عباده
فتلقها بالعزم والترحاب
واذكر لدى نمر المعاهد غضبة
كادت تثير جحافل الطلاب
واصبر على نوب الزمان بحكمة
واهنأ , فللطاغين شر مآب

سعد الدين عمر محمد سعد

تهنئة

" بمناسبة الافراج عن فصيلة الأستاذ الكبير , والخطيب المفوه , صناجة العرب الأستاذ أحمد الشرباصي " :

هتفت على الفنن الرطيب أصيلا
ورقاء تبعث فى الرياض هديلا
مالت لها الأغصان من ألحانها
سكرى , وما عاطيتهن شمولا
وجرى الغدير مصفقا بمياهه
وسرى النسيم مقطرا وعليلا
هذى الطبيعة يوم عودك ترتدى
ثوب الزبرجد زاهيا وجميلا
لم تشهد الدنيا لروعة سحره
وروائه فى السالفين مثيلا
عقم الزمان فلن يجود بمثله
سيظل فوق زمانه اكليلا
" شرباصى " يا فخر الشباب ومن زكا
فرعا , وعز منابتا وأصولا
شرباصى نازعت السحاب مكانة
وسلكت فى ساح الجهاد سبيلا
وفدوا اليك فذو رباط قرابة
وترى هنالك شاعرا وخليلا
والكل نشوان الفؤاد , مرتل
آى السرور بعودكم ترتيلا
سارت لعودكم فى البلاد نسائم
تشفى سقيما شاكيا وعليلا
وتهز أعطاف الفؤاد بنشرها
فتخال دقات الفؤاد طبولا
حرستك عين الله من عين الذى
يرنو لمجدك حاسدا وعذولا

أبو شوشة النحال

مقتطفات من قصائد للشاعر الأزهرى محمد أحمد الخولي

1- الى استاذى الديب صاحب الفضيلة أحمد الشرباصي

كرمت أصولا فى العباد ومنبتا
كما كرمت أخلاقكم والشمائل
فما أنت الا كوكب يهتدى به
اذا ضل فى ليل الغواية جاهل
وما أنت الا منهل العلم والنهى
وقد نضبت من مثل ذاك المناهل
بنيت صروح المجد فى كل بقعة
فوارع , فيها من ذكاك مخايل
وأطلعت فى عليا " المنيرة " كوكبا
فاشرق وجه الكون وازدان عاطل
حلفت برب البيت انك كعبة
يؤمك ناس كالحجيج أماثل
وان ندى كفيك فاض , فلم أجد
سوى شاكر قد عمه منك نائل

2- الى أستاذى الجليل أحمد الشرباصي

أحس بحب سال فى مسرى دمى
وأشعر أنى ملك هذا المعلم
أسائل قلبى : ما دعاك لحبه ؟
فيسطع ايمان . وحسن تكرم
ولاء بقلبى لن يزول , فهل لنا
بقلبط شىء كى يتم تنعمى ؟
أحبك حبى للحياة , وان مت
فحبك لا يفنى فناء ابن آدم

3- " فرحة الافراج عن أستاذى الشرباصى "

بدر أنار الكون بع غيابه
كم طال بى شوق ليوم ايابه
لما أطل على الوجود تلألات
أضواؤه جريا الى أحبابه
غمرتهم فمشوا اليه يزفهم
شوق لحج فنائه ورحابه
عادت بعودته الهناءة , فالتقى
بشر العباد بنور وجه جنابه
يا كعبة القصاد حسبك أنكم
فقتم سواكم بالفعال النابه
وعلوتم بالمكرمات منازلا
تسمو بمن فرع الفخار سما به
يمناه لا تبقى , فان هى قترت
يحكى الربيع بفيضه وسحابه
أجرى النعيم على حماه تكرما
وأتى وشخص المجد ملء ثيابه

ومن قصيدة للشاعر عبد الغفار عفيفى الدلاش :

جاء الكريم كانه لمسائنا
فجر لليل مظلم بمعاصى
النور يهدى , والظلام مضلل
والحق يكرهه الجهول العاصى
يا فجرنا ما أنت الاسيدا
فى الحق صنو السادة الخلاص
فيك المهابة والجلال , واننا
لك نخفض الأطراف قبل نواصى
القلب فيك متيم لنضالكم
وكفاحكم للحق والاخلاص
أهلا بمطلعك السعيد عزيزنا
أهلا فضيلة " أحمد الشرباصي "

ومن قصيدة للشاعر الزهرى عبد العزيز عبده أبو عبد الله :

يا واعظا هز القلوب بهديه
فأحال مظلمها ضياء ألمعا
نبهت غافية المشاعر فاهتدت
للحق دنيا , واستطابت مشرعا
ورنت لصوت العبقرى يحثها
للمجد والدين القويم ممتعا
جرس تسجله النفوس مطابق
للحال يدعوها لكيلا تهجعا
ذكرى ابتعادك للقلوب محيلة
جناتها صحراء , تذهلنا معا

مهداة الى الواعظ السير

قال حكيم : ذهبت الى سوق الصاغة , ورأيت الصائغ يضع الذهب فى البوتقة , ويحرقه بالنار , ويضربه بالمطرقة , ليصوغ منه قلادة . فقلت : ان نفسى تشبه هذا الذهب , والبوتقة الحياة , والنار التجارب ,والمطرقة الأعداء ,والصائغ الدهر , وكل نفس لا تحرق فى بوتقة الحياة بنار التجارب ’, ولا يضربها الأعداء , لا يمكنها أن تصير ذهبا صافيا يصاغ منه قلادة فى عنق تاريخ الانسان .

أحمد عوض

كلية الصحافة المصرية